المستشرقون والسيرة النبوية تطوّر الموقف (الغربيّ) من السيرة
(1/17)
1
بدأ الموقف (الغربيّ) من رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يتشكّل في إطار
دينيّ صرف، مترع بالتعصّب والتشنّج والانفعال، مليء بالحقد والغضب
والكراهية، تحيطه جهالة عمياء متعمّدة حينا وغير متعمّدة أحيانا جعلت بين
القوم وبين شخصية رسولنا عليه الصلاة والسلام سدّا يصعب اختراقه، والنتيجة
ليست أبحاثا تاريخية علمية أو موضوعية بحال.. إنما ذلك السيل المنهمر من
الشتائم والسباب مارسها رجال دين من قلب الكنيسة النصرانية باتجاهاتها
كافة.. ومارسها رجال علمانيّون لا علاقة لهم بالكنيسة من قريب أو بعيد، وقد
استمر هذا التيار حتى العصر الراهن.
ماذا كانوا يقولون عن رسولنا عليه الصلاة والسلام، وعن رسالته؟
يصعب على المرء أن يسرد ما قالوه حتى على سبيل الاستشهاد ...
ولكن ما دام أن ناقل الكفر ليس بكافر، فلا بأس من الإشارة- بإيجاز- إلى بعض
الشواهد، نتلقّاها عن أناس حديثي عهد بهذا العصر، بل إن بعضهم لا يزال حيا.
يقول المونيسنيور كولي في كتابه (البحث عن الدين الحق) : برز في الشرق عدو
جديد؛ هو الإسلام الذي أسس على القوة وقام على أشد أنواع التعصّب، ولقد وضع
محمد السيف في أيدي الذين تبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح
لأتباعه بالفجور والسلب. ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم
بالملذات في الجنة. وبعد قليل أصبحت آسية الصغرى وإفريقية وإسبانية فريسة
له. حتى إيطالية هددها الخطر، وتناول الاجتياح نصف فرنسية لقد أصيبت
المدنية؛ ولكن انظر!! ها هي النصرانية تضع بسيف شارل مارتل سدّا في وجه سير
الإسلام المنتصر عند بواتييه (752 م) ، ثم تعمل الحروب الصليبية في مدى
قرنين تقريبا
(1/19)
(1099- 1254 م) في سبيل الدين، فتدجّج
أوربة بالسلاح وتنجي النصرانية، وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب،
وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة «1» .
ويقول المسيو كيمون في كتابه (ميثولوجيا الإسلام) : «إن الديانة المحمّدية
جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا. بل هو مرض مروع وشلل عام
وجنون ذهني يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك
الدماء ويدمن معاقرة الخمور (!!) ويجمح في القبائح. وما قبر محمد في مكة
(!) إلّا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان
بمظاهر الصرع (الهستريا) ، والذهول العقلي، وتكرار لفظة (الله الله) إلى ما
لا نهاية، وتعود عادات تنقلب إلى طباع أصيلة؛ ككراهية لحم الخنزير والنبيذ
والموسيقى، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة، والفجور في الملذّات» «2» .
ويقول جويليان في كتابه (تاريخ فرنسة) : «إن محمدا، مؤسس دين المسلمين، قد
أمر أتباعه أن يخضعوا العالم، وأن يبدّلوا جميع الأديان بدينه هو، ما أعظم
الفرق بين هؤلاء الوثنيين والنصارى! إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة
وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح أراحوا النفوس ببرهم
وإحسانهم. ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن لكنا
مسلمين كالجزائريين والمراكشيين» «3» .
__________
(1) عن النصوص السابقة ولمزيد من التفاصيل انظر: د. محمد البهي: الفكر
الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 507- 521، ليوبولد فايس (محمد
أسد) : الإسلام على مفترق الطرق، ص 60 فما بعد، عمر فروخ ومصطفى الخالدي:
التبشير والاستعمار في البلاد العربية، توفيق الحكيم: تحت شمس الفكر ص 18
فما بعد، مجلة البلاغ الكويتية، عدد 58 ص 12. مجلة البعث الإسلامي الهندية،
عدد 9 السنة الثامنة.
(2) ينظر الهامش السابق.
(3) الهامش السابق.
(1/20)
وجاء في كتاب (تقدّم التبشير العالمي) الذي
ألفه الدكتور غلوور ونشره في نيويورك سنة (1960 م) ، في نهاية الباب
الرابع: «إن سيف محمد والقرآن أشد عدو وأكبر معاند للحضارة والحريّة والحق،
ومن بين العوامل الهدّامة التي اطلع عليها العالم إلى الآن» «1» ، وقال:
«القرآن خليط عجيب من الحقائق والخرافات، ومن الشرائع والأساطير، كما هو
مزيج غريب للأغلاط التاريخيّة والأوهام الفاسدة، وفوق ذلك هو غامض جدا لا
يمكن أن يفهمه أحد إلّا بتفكير خاص له.. والذي يعتقده المسلم أن المعبود هو
الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فالله ملك جبّار متسلّط، ليست له
علاقة مع خلقه ورعاياه، برغم أن الإسلام يذكر الرابطة الموجودة بينهما» «2»
.
ثم ينتقد غلوور شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: «كان محمد حاكما
مطلقا، وكان يعتقد أن من حق الملك على الشعب أن يتبع هواه ويعمل ما يشاء،
وكان مجبولا على هذه الفكرة، فقد كان عازما على أن يقطع عنق كل من لا
يوافقه في هواه. أما جيشه العربي فكان يتعطّش للتهديد والتغلّب، وقد أرشدهم
رسولهم أن يقتلوا كل من يرفض اتباعهم ويبعد عن طريقهم» «3» .
ويعتقد سفاري الذي ترجم القرآن سنة (1752 م) «أن محمدا قد لجأ إلى السلطة
الإلهية لكي يدفع الناس إلى قبول هذه العقيدة، ومن هنا طالب بالإيمان به
كرسول لله، وقد كان هذا اعتقادا مزيّفا أملته الحاجة العقليّة ... » «4» .
__________
(1) الهامش السابق.
(2) عن النصوص السابقة، ولمزيد من التفاصيل انظر: د. محمد البهي: الفكر
الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص 507- 521، ليبولد فايس (محمد
أسد) : الإسلام على مفترق الطرق ص 60 فما بعد، عمر فروخ ومصطفى الخالدي:
التبشير والاستعمار في البلاد العربية، توفيق الحكيم تحت شمس الفكر ص 18
فما بعد، مجلّة البلاغ الكويتية، عدد 58 ص 12، مجلة البعث الإسلامي
الهندية، عدد 9 السنة الثامنة.
(3) انظر الهامش السابق.
(4) انظر الهامش رقم 2.
(1/21)
وهذا يكفي. لقد جاءت هذه الأقوال إفرازا
طبيعيا للصراع المحتدم بين الإسلام والصليبيّة. وقد كان للنتائج التي
تمخّضت عنها الحروب الصليبيّة طعم مر في حلوق الغربيّين ما ذاقوه أبدا.. إن
ليوبولد فايس «محمد أسد» يتحدث عن التجربة التي استحالت معضلة في مناهجهم
يصعب تجاوزها فيقول: «فيما يتعلق بالإسلام، فإن الاحتقار التقليديّ أخذ
يتسلّل في شكل تحزّب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هذا الخليج الذي
حفره التاريخ بين أوربة والعالم الإسلامي (منذ الحروب الصليبيّة) غير معقود
فوقه بجسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزآ أساسيا من التفكير الأوربي. والواقع
أن المستشرقين الأوّلين في الأعصر الحديثة كانوا مبشّرين نصارى يعملون في
البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوّهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام
وتاريخه مدبّرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيّين من الوثنيّين.
غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من
نفوذ التبشير.. ولم يبق لعلوم الاستشراق هذه عذر من حميّة دينيّة جاهليّة
تسيء توجيهها. أمّا تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة، وخاصة
طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية، بكل ما لها من
ذيول، في عقول الأوربيّين «1» .
ليست الحروب الصليبيّة وحدها، لكنه الإسلام نفسه. إن الخطر الحقيقيّ، كما
يقول لورنس براون في كتاب أصدره عام (1944 م) : «كامن في نظامه، وفي قدرته
على التوسع والإخضاع، وفي حيويّته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار
الأوربي» «2» .
ونقرأ في مجلة العالم الإسلامي (عدد حزيران سنة 1930 م) : «إن شيئا من
الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربيّ. ولهذا الخوف أسباب؛
__________
(1) انظر الهامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
(2) انظر الهامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
(1/22)
منها: أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم
يضعف عدديا، بل كان دائما في ازدياد واتساع. ثم إن الإسلام ليس دينا فحسب،
بل إن من أركانه الجهاد، ولم يتفق قط أن شعبا دخل في الإسلام ثم عاد
نصرانيا» «1» .
والمستشرق الألماني بيكر يقولها بصراحة: «إن هناك عداء من النصرانيّة
للإسلام بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى أقام سدا منيعا في
وجه انتشار النصرانيّة، ثم امتد في البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها» «2»
.
2
وفي موازاة هذا التيّار الكهنوتي المتعصّب الذي يفتقد أيّ قدر من الرغبة في
التعرّف على حقيقة الإسلام وشخصيّة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي أعقاب
عصر الإصلاح الدينيّ، وفيما بعد خلال عصر التنوّر وانفصال الدين عن الدولة،
وحتى القرن العشرين، توالت على المسرح أجيال من المعنيّين بالدراسات
الإسلامية عامة، وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم خاصّة، وقد عرف هؤلاء
بالمستشرقين؛ كان بعضهم ينتمي إلى الكنيسة ويرتدي ملابس الكهنوت، ولكن كان
أغلبهم مدنيا ولا تربطه بالكنيسة رابطة وظيفية.. وكان يتوقع أن تخف حملاتهم
على رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن تتغيّر نظرتهم في تعاملهم مع شخصيته
وتاريخه وتعاليمه..
نعم، لقد حدث شيء من هذا، ولكنه ما تعدى التشذيب والتهذيب، وتجاوز كلمات
الفحش والسباب، أما المنهج فقد ظلّ هو المنهج: جهلا بتركيب السيرة، وتعصّبا
في التعامل معها، وتحليلات واستنتاجات ما أنزل الله
__________
(1) انظر الهامش رقم (2) في الصفحة 21.
(2) انظر الهامش رقم (2) في الصفحة 21.
(1/23)
بها من سلطان، يؤكدها الواحد منهم المرّة
تلو المرّة، ويجتمع القوم عليها حتى لتكاد تغدو عندهم يقينا من اليقين على
الرغم من أنها بنيت أساسا على الوهم الذي تستحيل معه رؤية الحقائق، بحجمها
الطبيعي، وعلى الرغم من أنها انبثقت عن زاوية رؤية ضيّقة مترعة بالتعصّب،
ونظر إليها عبر منظار قد دخّن عليه سلفا، وعلى الرغم من أنها في أحسن
الأحوال، قد بنيت على شواهد تاريخية ولكنها ليست- بحال- الشواهد المتواترة
ذات الثقل، وإنما هي الشاذ الغريب الذي يتشبثون به لكونه يشبع في نفوسهم
وعقولهم حاجة.
وعموما فإننا نستطيع أن نضع أيدينا على عدد من الأخطاء والثغرات المنهجيّة
لهذه البحوث الاستشراقيّة، ونشير هنا، على وجه التحديد، إلى ثلاث من هذه
الثغرات:
أولا: المبالغة في الشكّ، والافتراض، والنفي الكيفيّ، واعتماد الضعيف
الشاذّ:
يكاد يكون هذا الملمح الأساسيّ في مناهج المستشرقين قاسما مشتركا أعظم
بينهم جميعا.. إنهم يمضون مع شكوكهم إلى المدى، ويطرحون افتراضات لا رصيد
لها من الواقع التاريخيّ، بل إنهم ينفون العديد من الروايات، لهذا السبب أو
ذاك؛ بينما نجدهم يتشبّثون- في المقابل- بكل ما هو ضعيف شاذ.. «لقد غالوا
في كتاباتهم في السيرة النبويّة، وأجهدوا أنفسهم في إثارة الشكوك (في
وقائعها) ، وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو
تمكّنوا لأثاروا الشك حتى في وجوده، ولكنهم مهما قالوا في نسبة التاريخ
الصحيح في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن سيرته هي أوضح وأطول سيرة
نعرفها بين سير جميع الرسل والأنبياء» «1» .
ويشير درمنغهم إلى هذه المسألة فيقول: «من المؤسف حقا أن غالى بعض هؤلاء
المتخصّصين- من أمثال: موير ومرغوليوث ونولدكه وشبرنجر
__________
(1) د. جواد علي: (تاريخ العرب في الإسلام) : جزء 1 ص 9- 11.
(1/24)
ودوزي وكيتاني ومارسين وغريم وغولد زيهر
وغود فروا وغيرهم- في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص،
ولا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة ولن تقوم سيرة
على النفي، وليس من مقاصد كتابي أن يقوم على سلسلة من المجادلات
المتناقضة.. ومن دواعي الأسف أن كان الأب لامانس- الذي هو من أفضل
المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّبا، وإنه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة
وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالم اليسوعي أنّ الحديث
إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن؛ فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ
إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلا من أن يؤكّد أحدهما
الآخر» «1» .
إنّ هذا يقودنا إلى موقف بعض المستشرقين من القرآن الكريم كمصدر أساسيّ من
مصادر السيرة، وذلك أن اعتماد القرآن الكريم في هذا المجال يمكن أن يعدّ
سلاحا ذا حدّين، ويتمثّل الحدّ السلبيّ بنفي الكثير من أحداث السيرة ما
دامت لم ترد في القرآن الكريم، وكأن القرآن كتاب تاريخي خاص بتفاصيل حياة
محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا مكّنهم من عملية انتقاء مغرضة ذات طابع هدمي
معاكس، وهي التشكيك، أو نفي كل رواية لم ترد مؤيداتها في القرآن، ولا سيّما
إذا كان في هذه الرواية تمجيد للنبي صلى الله عليه وسلم، أو كان في نفيها
تأكيد لإحدى وجهات النظر الاستشراقية، فمثلا نجد شبرنكر يرى أن اسم النبي
صلى الله عليه وسلم ورد في أربع سور من القرآن؛ هي: آل عمران والأحزاب
ومحمد والفتح، وكلها سور مدنيّة، ومن ثم فإن لفظة (محمد) لم تكن اسم علم
للرسول قبل الهجرة، وإنما اتخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتصاله بالنصارى
«2» .
__________
(1) حياة محمد، المقدمة، ص 8- 11.
(2) انظر: جواد علي، تاريخ العرب: 1/ 78 وهوامشها.
(1/25)
وقد يتوجب أن نسأل شبرنكر هنا: إذا كان
النبي صلى الله عليه وسلم قد التقط اسم (محمد) من خلال قراآته لنبوآت
الإنجيل، فأين ذهب- إذن- (محمد) الحقيقي الذي بشر به العهدان القديم
والجديد؟!
هنالك مثل آخر: إن إسرائيل ولفنسون يشير، بصدد مهاجمة يهود بني النضير، إلى
أنّ مؤرخي العرب يذكرون سببا آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهودية،
ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، (لكن المستشرقين يقول
ولفنسون- ينكرون صحة هذه الرواية، ويستدلون على كذبها بعدم وجود ذكر لها في
سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير) «1» .
إننا في مجال التشكيك والنفي الاعتباطي لا بدّ أن نذكر العبارة التي قالها
(مونتغمري وات) - موضوع هذه الدراسة- بهذا الصدد: «إذا أردنا أن نصحّح
الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد محمد، فيجب علينا في كل حالة من الأحوال
التي لا يقوم الدليل القاطع على ضدها، أن نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب
ألاننسى أيضا أن الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وأنه في
مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه «2» .
ونحن نستطيع أن نضع أيدينا على عشرات بل مئات من الشواهد على النفي الكيفي
الذي مارسه المستشرقون، وبخاصة أجيالهم السابقة، إزاء وقائع السيرة؛
فبروكلمان- على سبيل المثال- لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على
المدينة، ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أشد
ساعات محنته، لكنه يقول: «ثم هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم
غامضا على كل حال» «3» ، ويتغاضى إسرائيل ولفنسون عن دور نعيم بن مسعود في
معركة الخندق كسبب في انعدام الثقة بين المشركين
__________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ص 135- 137.
(2) محمد في مكة، ص 94.
(3) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 53- 54.
(1/26)
واليهود «1» ، ولعله يريد أن يوحي بذلك أن
اليهود لا يمكن أن يخدعوا!
ليس الشكّ والنفي الاعتباطيّ وحدهما، ولكنه الاعتماد على الروايات الضعيفة
الشاذّة التي قد لا تصمد أمام النقد: «لقد أخذ المستشرقون- كما يقول
الدكتور جواد علي- بالخبر الضعيف في بعض الأحيان وحكموا بموجبه، واستعانوا
بالشاذ والغريب وقدموه على المعروف المشهور. استعانوا بالشاذ ولو كان
متأخّرا، أو كان من النوع الذي استغربه النقدة وأشاروا إلى نشوزه، تعمدوا
ذلك لأن هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشكّ» «2» .
ثانيا: إسقاط الرؤية الوضعية، العلمانيّة، والتأثيرات البيئيّة المعاصرة
على الوقائع التاريخيّة:
إنه من المتعذّر بل من المستحيل، كما يؤكّد آتيين دينييه «أن يتجرد
المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة. وأنهم- لذلك- قد بلغ
تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يخشى على صورتها الحقيقية من شدّة
التحريف فيها، وبرغم ما يزعمون من اتّباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين
البحث العلمي الجاد؛ فإننا نجد- من خلال كتاباتهم- محمدا يتحدّث بلهجة
ألمانيّة إذا كان المؤلف ألمانيا، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا..
وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب! وإذا بحثنا في هذه السيرة عن
الصورة الصحيحة فإننا لا نكاد نجد لها من أثر.
إن المستشرقين يقدمون لنا صورا خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنها
أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (وولتر سكوت)
و (إسكندر ديماس) ، وذلك أن هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس
عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المستشرقون
__________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب، ص 145- 146.
(2) تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 8- 11.
(1/27)
فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقيّة
لأشخاص السيرة؛ فصوّروهم حسب منطقهم الغربي، وخيالهم العصري..» ، وما يلبث
دينييه أن يضرب مثلا معاكسا فيقول: «ما رأي الأوربيين في عالم من أقصى
الصين يتناول المتناقضات التي تكثر عند مؤرّخي الفرنسيين ويمحّصها بمنطقه
الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشليو) كما نعرفها ليعيد إلينا
(ريشيليو) آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين وسماته وطبعه؟ إن مستشرقي العصر
الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله
عليه وسلم. ويخيّل إلينا أننا نسمع محمدا يتحدّث في مؤلّفاتهم إما باللهجة
الألمانيّة أو الإنكليزيّة أو الفرنسية ولا نتمثّله قط، بهذه العقليّة
والطباع التي ألصقت به، يحدّث عربا باللغة العربية» ، وينتهي المستشرق
الفرنسي- الذي أعلن إسلامه- إلى القول: «إن صورة نبيّنا الجليلة التي
خلّفها المنقول الإسلامي تبدو أجلّ وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة
الضئيلة التي صيغت في ظلال المكاتب بجهد جهيد» «1» .
ويشير الدكتور جواد علي إلى أن كيتاني، وهو من كبار المستشرقين الأوائل
الذين كتبوا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعتمد منهجا معكوسا في
البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين
يعملون وفق منهج خاطئ من أساسه، إذ إنهم يبيّتون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى
وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعد ما دون ذلك، فلقد
كان كيتاني (ذا رأي وفكرة) وضع رأيه وفكرته في السيرة قبل الشروع في
تدوينها فإذا شرع بها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها،
وتمسّك بها كلّها ولا سيّما ما يلائم رأيه، ولم يبال في الخبر الضعيف بل
قوّاه وسنده وعدّه حجّة، وبنى حكمه عليه، ومن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل
الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنه عفا عنها وغضّ نظره عن أقوال
أولئك العلماء فيها؛ لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة
__________
(1) محمد رسول الله، المقدمة، ص 27- 28، 43- 44.
(1/28)
كانت، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها
وتدوينها إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب
البحث الحديث» ؟ «1» .
وترد في ختام كتاب آتيين دينييه (الشرق كما يراه الغرب) بعض الآراء حول هذا
المنهج حيث يقول: «لقد أصاب الدكتور سنوك هيرغرنجه بقوله:
(إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضيّ عليها بالعقم إذا
سخّرت لآية نظرية أو رأي سابق) . هذه حقيقة يجمل بمستشرقي العصر جميعا أن
يضعوها نصب أعينهم؛ فإنها تشفيهم من داء الأحكام السابقة التي تكلّفهم من
الجهود ما يجاوز حد الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة.
فقد يحتاجون في تأييد رأي من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر
الهيّن، ثم إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا وهذا أمر لا ريب مستحيل. إن
العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل الجوهرية كالزمن
والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامح والميول..
إلى آخره، ولا سيّما إدراك تلك القوى الباطنة التي لا تقع تحت مقاييس
المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات» «2» .
وفضلا عن هذا نجد أن الطابع العلمانيّ الوضعيّ، والرؤية المحدودة للمناهج
الغربيّة في تعاملها مع تأريخنا، أوقع عددا من المستشرقين في خطأ آخر؛
مفاده: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطو خطوة واحدة وهو يعلم
مسبقا ما الذي يليها، أي أن نشاطه كانت توحي به الظروف الراهنة ومتطلباتها
ولوازمها، وأبرز مثل في هذا المجال ما ذكره فلهاوزن وعدد من رفاقه حول
إقليميّة الحركة الإسلامية في عصرها المكّيّ، وأنها لم تنتقل إلى المرحلة
العالمية- في العصر المدني- إلّا بعد أن أتاحت لها الظروف ذلك، ولم يكن
الرسول صلى الله عليه وسلم ليفكر بذلك من قبل.
__________
(1) تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 95.
(2) محمد رسول الله، المقدمة، ص 43- 44.
(1/29)
وما قالوه حول اعتماد الرسول صلى الله عليه
وسلم أسلوب (اللاعنف) في العصر المكّي، وتحوّله إلى القوة بعد أن شكّل دولة
في المدينة وتجمّع حوله المقاتلون: «لقد كان في وسع محمد (يقول فلهاوزن) -
من طريق عقيدة تتجاوز دائرة معتنقيها الدائرة التي ترسمها رابطة الدم- أن
يحطّم رابطة الدم هذه؛ لأنها لم تكن بريئة من العصبيّة وضيقها، ولا كانت
ذات صيغة خارجيّة عارضة. هذا هو الذي جعلها لا تتّسع لقبول عنصر غريب عنها،
ولكن محمدا لم يرد ذلك، ومن الجائز أيضا أنه لم يكن يستطيع أن يتصوّر إمكان
رابطة دينيّة في حدود غير حدود رابطة الدم» «1» .
ويرفض سير توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) هذه الرؤية الخاطئة
فيقول: «من الغريب أن ينكر بعض المؤرّخين أن الإسلام قد قصد به مؤسّسه في
بادئ الأمر أن يكون دينا عالميا برغم هذه الآيات البينات.. «2»
ومن بينهم السير وليم موير إذ يقول: إن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما
بعد. وإن هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم
يفكّر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنه فكّر فيها فقد كانت الفكرة غامضة؛ فإن
عالمه الذي كان يفكر فيه، إنما كان بلاد العرب، كما أن هذا الدين الجديد لم
يهيّأ إلّا لها. وأن محمدا لم يوجه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب
دون غيرهم، وهكذا نرى أن نواة عالمية الإسلام قد غرست، ولكنها إذا كانت قد
اختمرت ونمت بعد ذلك فإنما يرجع ذلك إلى الظروف والأحوال أكثر منها إلى
الخطط والمناهج» «3» .
ويجيب أرنولد: «لم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب، بل
__________
(1) الدولة العربية وسقوطها، ص 4.
(2) يستشهد أرنولد بالآيات التالية: سورة 36 آية 69- 70، سورة 21 آية 107،
سورة 25 آية 1، سورة 24 آية 7، سورة 61 آية 9.. إلى آخره.
the caliphate ,pp. 43 -44 (3)
وكايتاني آخر من يؤيد هذا الرأي.annali dell islam
,v. 323 -423 عن أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، هامش
2 ص 49- 50.
(1/30)
للعالم أجمع نصيب فيها، ولم يكن هناك غير
إله واحد، كذلك لا يكون هناك غير دين واحد يدعى إليه الناس كافّة» «1» .
ولم يقف أرنولد وحده بمواجهة هذا الخطأ الواضح؛ إنما هناك كولدزيهر ونولدكه
وسخاو الذي يؤكد: «إن الرسالة الإلهية ليست مقصورة على العرب، بل إن إرادة
الله تشمل جميع المخلوقات، ومعنى ذلك خضوع الإنسانية كلّها خضوعا مطلقا.
وقد كان لمحمد بوصفه رسولا من الله حق المطالبة بهذه الطاعة، وقد كان عليه
أن يطالب بها، وهذا ما ظهر في أوّل الأمر جزآ لا ينفصل من جملة ما أراد
تحقيقه من مبادئ» «2» .
ويرفض آرنولد الخطأ الآخر الذي يرى: «أن محمدا قد تحوّل إلى القوة بمجرّد
أن واتته الظروف، وهو رأي قد صرّح به نقلا عن فلهاوزن بعض الباحثين، ولا
سيّما ميور لدى حديثه عن غزوة بني قريظة» «3» .
إلّا أن آرنولد لم ينج من الوقوع في الخطأ نفسه عندما يقول: «كانت رغبة
محمد ترمي إلى تأسيس دين جديد، وقد نجح في هذا السبيل ولكنه في الوقت نفسه
أقام نظاما سياسيا له صفة جديدة متميزة تميزا تاما، وكانت رغبته بادئ الأمر
مقصورة على توجيه بني وطنه إلى الاعتقاد بوحدانية الله» «4» .
إن فهم السيرة لا يمكن أن يتمّ إلّا وفق نظرة شموليّة تدرس حركة الإسلام
كخطوات في برنامج شامل مرسوم في علم الله، ومحدد في قرآنه، وأن الرسول صلى
الله عليه وسلم لم يكن سوى منفّذ لهذا البرنامج بأسلوب يعتمد على قدراته
وأخلاقيّته وذكائه وإمكاناته الفذّة في التخطيط والتنفيذ. وبالرغم من أنّ
القرآن الكريم نزل منجّما، وراحت آياته تنزل على مكث لكي تلامس
__________
(1) المرجع السابق، ص 48.
(2) المرجع السابق نفسه، هامش 1 ص 48.
(3) المرجع السابق نفسه، هامش 1 ص 54.
(4) المرجع السابق نفسه، هامش 2 ص 52.
(1/31)
الأحداث وتعلّق عليها (بعد وقوعها) ، إلا
أنه بمجموعه كمبدأ «أيديولوجيّة» لا يخرج عن نطاق كونه برنامجا إلهيا شاملا
ترتبط ممارساته الجزئية بكليّات شاملة محددة سلفا في علم الله.. ومن ثم فإن
(الظروف الراهنة) ليست هي الحتمية المؤقتة التي تحدد مسار الإسلام وخطا
رسوله صلى الله عليه وسلم. إنما هناك (الهدف) الذي يفرض أحيانا (وقفة) ضد
الأعراف والظروف (وتمرّدا) عليها، و (انقلابا) شاملا على مواضعاتها.
وهذا ما يبدو واضحا منذ أول لحظة في الشعار الحاسم الذي طرحه الرسول صلى
الله عليه وسلم بوجه الجاهلية (لا إله إلا الله) ، فأيّ ظرف راهن موقوت،
أوحى بهذا الشعار الانقلابي الشامل الذي جاء يدمر على الوجود الجاهلي جلّ
قيمه وأهدافه ومعالمه ومفاهيمه وعاداته وتقاليده؟.
إن توماس أرنولد يشير إلى ذلك بوضوح عندما يقول: «لا يعزب عن البال كيف ظهر
جليا أن الإسلام حركة حديثة العهد في بلاد العرب الوثنيّة، وكيف كانت
تتعارض المثل العليا في هذين المجتمعين تعارضا تاما. ذلك أن دخول الإسلام
في المجتمع العربي لم يدلّ على مجرّد القضاء على قليل من عادات بربرية
وحشية فحسب، وإنما كان انقلابا كاملا لمثل الحياة التي كانت من قبل..
والواقع أن المبادئ الأساسية في دعوة محمد كانت تتعارض مع ما كان ينظر إليه
العرب نظرة ملؤها التقدير والإجلال، حتى ذلك الحين، كما أنها كانت تعلم
حديثي العهد بالإسلام بأن يعدّو من الفضائل صفات كانوا قبل إسلامهم ينظرون
إليها نظرة الاحتقار» «1» .
إن القرآن الكريم كان قضية فوقية جاءت آياته لتقود الإنسان في كل زمان
ومكان إلى عصر جديد، ولم يكن ينفعل انفعالا مؤقتا بالوضع السائد سلبا
وإيجابا، كما يتصوّر معظم المستشرقين مسيحيّين وماديّين (كما سنرى) ،
__________
(1) المرجع السابق نفسه، ص 21- 62؛ وانظر بالتفصيل: جولد زيهر في مؤلفه
muhammedanishe stidien ,v.l ,1:
(1/32)
وإنما كان ينظر نظرة شمولية بعيدة كل البعد
عن رد الفعل المباشر، وهذا هو الذي يفسر لنا الكثير من الأخطاء التي
مارستها مناهج البحث الاستشراقية في كافة أجنحتها.
ونحن لا نطلب من الغربيّين هنا أن يؤمنوا أن القرآن الكريم منزل من السماء
وأنّ محمدا رسول الله.. وإنما نطلب أن يكونوا أكثر تجرّدا وموضوعية فينظروا
إلى سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كوحدة عضوية متكاملة.
وإلى القرآن الكريم كبرنامج عقيديّ مترابط تعلو مكوناته على الظروف
الموقوته زمانا ومكانا، بالرغم من ملامساتها اليومية المباشرة للوقائع
الزمانية والمكانية، ولكنها الملامسة التي تنبثق عنها قيم ودلالات ذات طابع
شمولي ما كان للمستشرقين أن يغافلوا عن أبعادها.
ثالثا: ردّ معطيات السيرة إلى أصول نصرانية أو يهودية:
إن هذا التصور (المسبق) يكاد يأخذ برقاب المستشرقين، ويضع بصماته العميقة
على مناهجهم في التعامل مع وقائع السيرة وظاهرة النبوة.. ويحاول الدكتور
جواد علي أن يبين الأسباب: «إن معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال
الدين، أو من المتخرجين من كليات اللاهوت، وهم عندما يتطرّقون إلى
الموضوعات الحساسة من الإسلام يحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصرانيّ،
وطائفة المستشرقين من اليهود، وخاصة بعد تأسيس (إسرائيل) وتحكّم الصهيونية
في غالبيتهم، يجهدون أنفسهم بردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصل يهودي، وكلتا
الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء» «1» .
ويلقي (طيباوي) مزيدا من الضوء على هذه العقدة المنهجية في العقل
الاستشراقي وعلى دوافعها المذهبية، فيقول: «إن النظرة الأولى للإسلام
__________
(1) تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 9- 11.
(1/33)
تكشف مواضع شبه بين الإسلام والمسيحية،
ولكن النظرة الفاحصة عن قرب تبرز خلافات أساسية وهذه الحقيقة كانت غالبا ما
تثير المبشرين في الماضي، وما زالت تستميل قليلا في المجال الأكاديمي إلى
التحايل على تصيّد مثل هذه الشوارد كأصول للإسلام.
وينزع المبشّر والباحث الأكاديمي إلى أن يتناسى وهو ينال من قدر محمد بطريق
مباشر أو غير مباشر، كيف يقدس المسلمون الأتقياء المسيح.
وفي كتاب قريب من سلسلة بنغوين عمل مستشرق وهو قسيس أنجليكاني على عقد عدة
مقارنات ليظهر أن الإسلام كان صورة غير محكمة أو مشوهة للمسيحية.. وهناك
دارس آخر للإسلام هو أيضا من رجال الكهنوت (ويقصد به ولفرد كانتول سميث)
يستحق الذكر هنا بوجه خاص بسبب تقديمه لمزيد من الجدل السطحي (spectulation)
الذي يعرض للتشابه بين المسيحية والإسلام، وهو يكتب: «إن من أسباب تباعد
الإسلام والمسيحيين بعضهم عن بعض أن كلا الفريقين قد أساء فهم عقيدة الآخر
بمحاولته أن يضعها خلال طراز الاعتقاد الذي يؤمن به» «1» . وشأن كثير من
التعميمات لا يبدو مثل هذا النص منصفا كما يحاول أن يكون، فإن المسيحيين
وحدهم هم الذين ظلوا طوال القرون يحاولون فهم الإسلام- أو إساءة فهمه- من
خلال اصطلاحات المسيحية، أما النظرة الأساسية للمسلم فقد ظلّت على حالها،
لم تتغيّر على الدوام لأنها جزء من الوحي الإلهي في القرآن.
ولم يحاول مسلم مؤمن أن يدخل المسيحية في إطار آخر، والمسيحي لا يواجه في
كتبه المقدسة قيودا صريحة تحجزه عن تقبل وجهة نظر المسلم في الإسلام، ومع
ذلك فهو يرفض- لا رأي المسلم في المسيحية فحسب- بل رأيه في الإسلام أيضا،
وهو يسعى جاهدا لتغيير الرأيين..
__________
(1) المستشرقون الناطقون بالإنكليزية، مجلة the
muslim world عدد تموز سنة 1963 م، ترجمة د. محمد
فتحي عثمان، عن د. محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث، ص 593- 601.
(1/34)
وهذا مبشر قديم يحاضر في الشريعة الإسلامية
بجامعة لندن، لا يبدي احتراما يذكر لذكاء القارئ، ويعلن في مقدمة مقال له:
أنه يقدّم معلومات صحيحة لمعالجة الدراسة موضوعيا حتى يكون منصفا مدقّقا
ولكن بعد هذا كله يكتب: (إنه لا يمكن أن يكون هناك شك على أي صورة أن محمدا
قد تمثل أفكارا من التلمود وبعض المصادر المحرّفة، أما بالنسبة للمسيحية
فإن هناك احتمالا طاغيا بأن محمدا قد استمدّ إيحاءه منها) .. ومن أجل تبيّن
مدى موضوعية المبشّر المذكور يجب أن نقرأ هذه الكلمات التي وردت في ختام
مقاله: (إن للعالم أن يرى ماذا سوف يحدث حين يعرض إنجيل المسيح الحي
بالصورة الملائمة لملايين المسلمين) !! «1» .
وامتدادا لهذه الأزمة (المذهبية) التي تؤثر سلبا على نقاء المنهج
الاستشراقي، يلمس المرء في معطيات المستشرقين تعاطفا مع العناصر والقوى
المضادة للإسلام، ولنبيّه عليه الصلاة والسلام، ولا ريب أن ما يتمخّض عن
هذا من (كراهية تضع جدرانا بين القوم وبين الفهم الصحيح لوقائع السيرة،
وتصيب مناهج العمل بمزيد من التشنج.. وفرق كبير بين الحكم الذي يصدره قاض
يقف موقفا محايدا بين طرفي القضية، والحكم الذي يصدره قاض يتعاطف مع أحد
الطرفين ويكره الآخر أو يدينه ابتداء!!) .
الشواهد كثيرة، ويكفي أن يقرأ المرء كتابات مرغوليوث أو فلهاوزن أو
بروكلمان ليرى بأم عينه اتساع هذا التيار في المعطيات الاستشراقية..
مثلا: نقرأ لدى بروكلمان هذا النص: «.. لم يطل العهد بمحمد حتى شجر النزاع
بينه وبين أحبار اليهود. فالواقع أنه على الرغم مما تمّ لهم من علم هزيل في
تلك البقعة النائية كانوا يفوقون النبي الأمي في المعلومات الوضعية وفي حدة
الإدراك» «2» . ونقرأ: «كان على محمد أن يعوض خسارة
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 47.
(1/35)
أحد التي أصابت مجده العسكري، من طريق آخر
ففكر في القضاء على اليهود؛ فهاجم بني النضير لسبب واه» «1» .
ويضرب فلهاوزن على الوتر نفسه فيقول: «لم يبق الإسلام على تسامحه بعد بدر،
بل شرع في الأخذ بسياسة إرهاب في داخل المدينة. وكان إثارة مشكلة المنافقين
علامة على ذلك التحوّل.. أما اليهود فقد حاول أن يظهرهم بمظهر المعتدين
الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات أو قضى عليها في
الواحات المحيطة بالمدينة؛ حيث كانوا جماعات متماسكة كالقبائل العربية، وقد
التمس لذلك أسبابا واهية..» «2» .
ويظهر مرغوليوث عطفه- هو الآخر- على اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محض ظلم
نزل باليهود، لا مسوغ له على الإطلاق: «عاش محمد هذه السنين الست ما بعد
هجرته على التلصّص والسلب والنهب، ولكنّ نهب أهل مكة قد يسوّغه طرده من
بلده ومسقط رأسه وضياع أملاكه، وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في
المدينة، فقد كان هناك- على أي حال- سبب ما، حقيقيا كان أم مصطنعا يدعو إلى
انتقامه منهم، إلّا أن خيبر التي تبعد عن المدينة كل هذا البعد، لم يرتكب
أهلها في حقه أو حق أتباعه خطأ يعتبر تعديا منهم جميعا، لأن قتل أحدهم رسول
محمد لا يصح أن يكون ذريعة للانتقام، وهذا يبين لنا ذلك التطور العظيم الذي
طرأ على سياسة محمد. ففي أيامه الأولى في المدينة أعلن معاملة اليهود
كمعاملة المسلمين، لكن الآن (بعد السنة السادسة للهجرة) أصبح يخالف تماما
موقفه ذلك، فقد أصبح مجرد القول بأنّ جماعة ما غير مسلمة يعد كافيا لشنّ
الغارة عليها. وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي أثّرت على نفس محمد والتي
دفعته إلى شنّ غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس الإسكندر من
__________
(1) المرجع السابق نفسه، ص 52.
(2) الدولة العربية وسقوطها، ص 15- 16.
(1/36)
قبل ونابليون من بعد.. إن استيلاء محمد على
خيبر يبين لنا إلى أي حد قد أصبح الإسلام خطرا على العالم» «1» .
بل إنهم ليتعاطفون مع العرب الوثنيين ضد الإسلام، بالرغم من أن الوثنية
تمثّل موقفا رجعيا هو في بدء التحليل ومنتهاه: ضد التحضّر.. ويجد المرء
نفسه مضطرا لعقد مقارنة بينهم وبين أسلافهم (زعماء يهود خيبر) الذين وقفوا
أمام أبي سفيان وأصحابه من زعماء قريش يقسمون بالله أنّ دين الوثنية خير من
دين محمد، وأنهم أولى بالحق منه «2» ، والهدف في الحالتين واضح لا ريب.
يقول بروكلمان: «لقد حالت الظروف بين الرسول وبين الشروع في شنّ حملة
نظامية مباشرة على المشركين. فقد كانت فكرة الشرف العربية القديمة تمسك
المهاجرين عن محاربة إخوانهم في قريش، في حين كان المدنيون غير شديدي الميل
إلى تعكير صفو السلم مع جيرانهم الأقوياء.. حتى إذا كان شهر رجب الحرام
وجّه جماعة من الغزاة بأوامر سرية فوقفت إلى مباغتة قافلة بالعروض، كانت
حاميتها العسكرية تتقدمها مطمئنة إلى حرمة الشهر، فأصابت غنائم عظيمة عادت
بها إلى المدينة. ولكن هذا النقض للقانون الخلقي القبلي لم يلبث أن أصاب
عاصفة من الاستنكار في المدينة.
فما كان من محمد إلّا أن أنكر صنيع أتباعه الذي تم وفقا لرغباته بلا خلاف،
وعزاه إلى سوء فهم لأوامره» «3» .
ويتمنّى نولدكه: «لو أن القبائل العربية استطاعت أن تعقد بينها وبين محمد
محالفات عربية دقيقة للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينية، والذود عن
استقلالهم، إذن لأصبح جهاد محمد ضدهم غير مجد. إلّا أن عجز
__________
mahammed and the rise of islam.pp. 63 -202. (1)
(2) ابن هشام: تهذيب، ص 211- 212، الواقدي: المغازي، ص 441- 443.
(3) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 44.
(1/37)
العربي عن أن يجمع شتات القبائل المتفرّقة
قد سمح له أن يخضع لدينه القبيلة تلو الآخرى، وأن ينتصر عليهم بكلّ وسيلة،
فتارة بالقوّة والقهر، وتارة بالمحالفات الودّية والوسائل السلمية» «1» .
وعلى الرغم من أن العديد من أبناء هذه الطبقة من المستشرقين كشفوا بتعمقهم
ونفاذهم وإحاطتهم- النقاب عن بعض الجوانب المضطربة الغامضة في تاريخنا
الإسلاميّ عامة بما فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم بأخطائهم
المنهجيّة التي عرضنا لبعض أنماطها، طرحوا الكثير من النتائج والآراء
الخاطئة على مستوى الموضوع. وهذا أمر طبيعي، فالخطأ لا ينتج إلا الخطأ،
والبعد عن الموضوعيّة لا يقود إلا إلى نتائج لا تحمل من روح العلم والجدية
إلا قليلا.
ولن يتحمّل بحث موجز كهذا عرض وتحليل ومناقشة هذه الآراء والنتائج؛ فلهذا
كلّه مجال آخر، وليس من نافلة القول الإشارة إلى أن هذه الآراء تمثل حصادا
ضخما يمكن أن يجنيه كل دارس بتأنّ وروية لما كتبه هؤلاء المستشرقون عن حياة
النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حصاد يحمل في ثناياه كما رأينا عناصر تناقضه
واضطرابه وخروجه على البحث العلمي المنهجي الدقيق.
ولكن القوم، إذا توخّينا الحكم الدقيق، ليسوا كلهم سواء؛ فقد شذّ عنهم بعض
المستشرقين- ولكل قاعدة شواذ- وبالرغم من قلة هؤلاء بالنسبة للتيار الأوسع
والأثقل، فإن صوتهم لم يضع، وقد مارسوا كشفا نقديا طيبا للكثير من أعمال
رفاقهم في البحث، وألقوا الضوء على الثغرات والمطبّات التي وقعوا فيها..
وقد عرضنا لبعض مواقف هؤلاء: دينيه، وات، درمنغهم، أرنولد.. على الرغم من
أن هؤلاء أنفسهم ما كانت رؤيتهم تصل أبدا درجة النقاء العلمي المطلوب، فهذا
الأمر يكاد يكون مستحيلا!!
__________
(1) تاريخ العرب للمؤرخين: 8/ 11.
(1/38)
3
مع بداية القرن، ونجاح الثورة البلشفية في روسية، بدأ يطل موقف جديد إزاء
رسولنا عليه الصلاة والسلام، وتاريخنا الإسلامي بعامة، ينبثق عن التفسير
المادي للتاريخ، ويسعى إلى إخضاع حقائق السيرة لمقولاته الصارمة.. يفصلها
على مساحات منهجه المرسوم سلفا.. يقطع أوصالها لكي يرفض وينفي ويستبعد ما
لا ينسجم ومطالب هذا المنهج، ويأخذ ويستبقي ما ينسجم وهذه المقولات.. وتحسب
ما يأخذ مما يدع فلا يعدو أن يكون واحدا من عشرة في حساب الأرقام.
وإذ كانت وقائع السيرة تتأبّى على تحليلهم ومحاولاتهم القسرية، فإنهم
يزدادون شططا في التقطيع والتمزيق وفي التفسير والتأويل، حتى لقد وصل الأمر
بهم إلى أن يبلغوا حدّ المجّانيّة في التعليل والتحوير لتحقيق التطابق
المرتجى بين الوقائع والفلسفة. الأمر الذي جعل أحدهم ينقض رأي الآخر وينحرف
بتحليله في اتجاه نقيض تماما، على الرغم من أنهم تلامذة مدرسة واحدة، ورؤية
مشتركة للتاريخ، ولكن لا بأس؛ فما داموا من المؤمنين بفلسفة النقيض فليتصد
أحدهم للآخر، ولينقض بعضهم رأي الآخر، فلابدّ أنهم واصلون يوما قصدهم
المرتجى.
لننظر على سبيل المثال إلى بعض ما قالوه، وهو كثير بصدد سيرة رسولنا محمد
صلى الله عليه وسلم: «لقد رأى بعضهم أن المجتمع العربي (في مكة والمدينة)
شهد بداية تكوين مجتمع يمتلك الرقيق، بينما يرى (بيجو لفسكايا) أن القرآن
يشعر بتركّز مرحلة ملكيّة الرقيق ويذهب مع (بلاييف) إلى أن المرحلة
الإقطاعية هي من آثار اتصال العرب بالشعوب الآخرى. هذا ويرى آخرون أن
المجتمع الإقطاعي بدأ بالتكون فعلا، ويتبع هذا قلق في التفسير؛ فمنهم من
يرى أن الإسلام يلائم مصالح الطبقات المستغلّة الجديدة من ملاك
(1/39)
وأرستقراطية الإقطاع مثل (كليمو فيج) ،
ومنهم من يراه في مصلحة أرستقراطية الرقيق فقط. في حين أن البعض مثل
(بلاييف) يرى أن الإسلام المتمثل بالقرآن لا يلائم المصالح السياسية
والاجتماعية للطبقات الحاكمة، فلجأ أصحابه إلى الوضع في الحديث لتسويغ
الاستغلال الطبقي الجديد.
وفي حين أنّ بعضهم يقول: إن الأرستقراطية وحّدت القبائل العربية لتحقيق
أغراضها، يقول غيره: إن القبائل كانت تتوثب للوحدة، فجاء الإسلام موحدا
يعبر عن ذلك التوثّب.
ويضطرب الموقف من منشأ الإسلام ذاته، فبينما يدعي (كليموفيج) أنّ محمدا صلى
الله عليه وسلم واحد من عدة أنبياء ظهروا وبشّروا بالتوحيد، وأراد توحيد
القبائل.. يذهب (تولستوف) إلى نفي وجود النبي العربي صلى الله عليه وسلم.
ويعده شخصية أسطورية. وبينما يعترف البعض بظهور الإسلام يذهب (كليموفيج)
إلى أن جزآ كبيرا منه ظهر فيما بعد في مصلحة الإقطاعيين، ونسب أصله إلى
فعاليات معجزة لمحمد، وتجاوز (تولستوف) إلى أن الإسلام نشأ من أسطورة صنعت
في فترة الخلافة لمصلحة الطبقة الحاكمة، وهي أسطورة مستمدة من اعتقادات
سابقة تسمى الحنيفية» «1» .
ألا يقترب هذا أن يكون دينا جديدا، لا يقل عن النصرانية- يومها- حقدا على
الإسلام وكراهية لنبيه عليه الصلاة والسلام، وبعدا عن المنهجيّة في التعامل
مع الوقائع والأحداث؟ وأتباع المدرسة المادية أليسوا هم رهبانا جددا في
موقفهم من رسولنا عليه الصلاة والسلام وتاريخنا؛ غيّروا أزياءهم ولكنهم
ظلوا من داخل نفوسهم رهبانا ينتمون للكهنوت المادي الجديد الذي ما كان
تدخينه على الرؤية النقيّة إزاء سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام بأقلّ
كثافة من الدخان الذي أثاره رجال النصرانية الأوائل؟.
__________
(1) انظر بالتفصيل: عبد العزيز الدوري ورفاقه: تفسير التاريخ، ص 14- 16.
(1/40)
هذا أحد أبناء الكنيسة المادية: بندلي جوزي
«1» ، يقول محللا بعض مواقف رسولنا عليه الصلاة والسلام: «إن سياسة النبي
مع المكيين قد تغيّرت كثيرا في المدينة تحت تأثير عوامل جديدة أوجدتها
الظروف، وأدى إليها الاختيار وحب النبي لوطنه الأصلي وأهله وذويه، إلى غير
ذلك من الانفعالات النفسيّة والعوامل السياسيّة التي ظهرت بعد موقعتي بدر،
وأحد، وحصار المدينة، وكان من نتائجها أن النبي أخذ يلطّف من سياسته نحو
إخوانه المكّيين. كما أن أصحاب السلطة في مكة رأوا- بعد ما أصابهم في موقعة
بدر، وبعدما لحق بتجارتهم من الخسائر- أن يتساهلوا في أمور كثيرة مع النبي
على شروط تضمن بقاء الكعبة والحج وعكاظ على ما كانت عليه قبل الإسلام، وأن
يشملهم بالعفو ويشركهم في عمله الجديد الذي أخذوا يتوقّعون منه خيرا.
وربّما كان من شروط التفاهم «2» أن يبقى النبي في المدينة، وألّا يتعرض في
كلامه لأمورهم المادية.
فكانت الحديبية وسياسة (تأليف القلوب) ، أو بعبارة أخرى: سياسة التسامح
والتساهل المتبادل، فصار الناس (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً)
لا عن اعتقاد بصحة الدين الجديد الذي لم يكونوا يعرفون عنه إلا الشيء
القليل، بل عن رغبة في التقرب من أصحاب السلطة الجدد، وحفظا لمراكزهم
القديمة وثروتهم المجموعة في أجيال. يخيل لي- يقول جوزي أن من جملة الشروط
التي اتفق عليها الطرفان في الحديبية- أو في زمان أو مكان آخرين- أن يكف
النبي عن الطّعن في الملأ المكي، وألا
__________
(1) بندلي جوزي (1871- 1942 م) : نصراني من أهل القدس، تخصّص في قازان
باللغات السامية والدراسات الشرقية، وتولى التدريس في معهد الرهبان، ثم في
جامعة قازان، ثم في جامعة باو إلى أن توفّي. وقد عده المستشرقون الروس
مرجعا من مراجعهم: (عن كتاب نجيب العقيقي: المستشرقون: 3/ 931) .
(2) أي تفاهم هذا؟ وفي أي مكان وزمان تم؟ وأية رواية أوردته؟ وفي أي مصدر
على الإطلاق؟
(1/41)
يحرض صعاليك العاصمة الحجازية وأرقائها
عليه، وهذا على ما يظهر لي أحد أهم أسباب خلوّ السّور المدنية ولا سيّما
تلك التي نزلت في الدور الأخير، من العبارات القارصة والطعن في سكان مكة
«1» . وهناك سبب آخر لا يقل خطورة عن الذي ذكرناه الآن؛ وهو حالة النبي
الاجتماعية في المدينة تغيّرت- كما هو معلوم- تغيرا ظاهرا أدّى إلى تغيير
نفسيّته فكان من نتائج هذا التغيير ومن الأسباب التي ذكرنا بعضها وغيرها
مما لم نذكر (؟) أن بعض إصلاحات النبي الاجتماعية والدينية جاءت مبتورة
وفيها شيء مما يدعوه الأوربيون: التساهل» «2» .
ويمضي بندلي جوزي إلى القول: «بأن الدّور المكّي كان دور تمهيد واستعداد،
دور بث دعوة جديدة بين طبقات الأمة، ودور حرب ونزاع كلاميّ بين رجل ثابت في
مبادئه مخلص في عمله، وبين طبقة من الناس شعرت بالخطر على ثروتها وزعامتها
في البلاد فهبت تقاوم ذلك الرجل وتناوئه.. دور جهود وأحلام لو تحققت كلّها
لقلبت البلاد رأسا على عقب، ما أجمل هذا الدور وما أعظمه، وما أحلى تلك
الأحلام والمساعي التي بذلت في تحقيقها، وأما الدور الثاني فكان دور عمل
وتنظيم، ودور حروب وافتتاحات، ودور سياسة ومكاشفات أدت إلى تساهل من
الطرفين، ومعنى التساهل في مثل هذه الثورات الاجتماعية هو التنازل عن بعض
المطالب أو المبادئ أو التلطف في الطلب، والرجوع عن بعض الأفكار، أو وضعها
في قالب يرضاه الفريقان، وهذا ما كان من
__________
(1) هذا غاية ما يمكن أن يصل إليه مؤرّخ من خروج على مستلزمات البحث
العلمي، وعبث صريح بالوقائع التاريخية، وإلا ففي أي زمان ومكان وضعت هذه
الشروط؟ وأين هي من شروط صلح الحديبية التي توافرت بنصوصها الحرفية في كافة
المصادر والمراجع؟!.
(2) من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، ص 49- 50.
(1/42)
أمر النبي العربي ورئيس جمهورية مكة (أبي
سفيان) الخبير المحنّك الذي كان يتكلّم بلسان الملأ المكّي، هذا يعترف
بسيادة النبي الروحية والعالمية ويهجر الأوثان ويؤدّي الزكاة ويقيم الصلاة،
وذاك يتعهد أن تبقى مكة مركز البلاد العربية الديني، وأن يجعل لأعيان مكة
وقادة أفكارها حظّا في إدارة المملكة أو الجمهورية الروحية الجديدة، وأن
يتركهم وشأنهم يتاجرون ويعيشون كما يشاؤون، أما الفريق الثالث، أي:
الفقراء، وهو الطرف الذي استعرت الحرب لأجله وظهرت الدعوة لتحسين أحواله؛
فقد أرضوه في بادئ الأمر بشيء من الصدقات والزكاة، ثم نسوه أو تناسوه بعد
وفاة النبي وخلفائه الأولين، فرجع إلى حالته الأولى بل إلى ما هو أسوأ
منها» «1» .
ويقول في مكان آخر: «لا شك أن النبي العربي لم يقصد بأقواله وأفعاله في مكة
والمدينة إلى أن يستأصل أسباب الشر الاجتماعي، ويقتل جميع جرائمه، كما
يحاول أن يفعل اليوم جماعة الاشتراكيّين على اختلاف أسمائهم ونزعاتهم، بل
كانت غايته الكبرى أن يخفف من وطأة تلك الأمراض على بعض طبقات الناس ممن
خلقوا بعد قسمة الأرزاق أو وقعوا في الفقر والرقّ لأسباب لم يقو على
مقاومتها. وإلّا فلو أراد أن يقتل جراثيم الأمراض الاجتماعية كلها لكان لجأ
بعد أن أصبح صاحب الأمر والنهي في جزيرة العرب إلى وسائل غير تلك التي
ذكرناها» .
«وما مثل النبي من هذا الوجه إلّا مثل الأنبياء الذين سبقوه؛ أي: أنه فضل
استعمال الوسائل الأدبية- إلا فيما ندر من الظروف- على غيرها من الطرق التي
لجأ إليها في عصرنا بعض مصلحي وسياسيي أوربة كلينين
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 51- 52.
(1/43)
وموسوليني وغيرهما. وعليه يمكننا أن نقول:
إنّ محمدا أجاد في وصف الأمراض الاجتماعية العربية وتعدادها أكثر منه في
علاجها واستئصال جراثيمها» «1» .
وغير (بندلي جوزي) كثيرون.. وهم- للأسف- قد ازدادوا عددا مع الأيام، وكثّر
من سوادهم تلامذتهم المنتشرون ها هنا في الشرق بين ظهرانينا، على الرغم من
أنهم محسوبون ظاهرا- على ديننا وعقيدتنا- ولكنها (موضة) منهجية إذا صحّ
التعبير، وتؤول إلى انحسار كما انحسرت من قبلها مدارس ومناهج وآراء وأفكار
وفلسفات كانت قد سيطرت على المؤسسة والشارع في بلادنا تقليدا لهذا الفكر
الدخيل أو ذاك، وتمسكا بهذا المنهج الوافد أو ذاك، ولكنها لهجانتها وغربتها
عن الأرض التي تحركت فيها سرعان ما ذبلت وتيبّست وعصفت بها رياح الزمن ...
والذي يتبقى أبدا هو المنهج الأصيل.
وها نحن نشهد تكسّر الموجة الجديدة، وتحوّل دعاتها أنفسهم إلى مواقف أكثر
موضوعية واعتدالا بعد أن رأوا خطل ما كانوا فيه.
والذي يتبقّى، بعد هذا كلّه، بعد موجات الرهبان والمستشرقين والمادّيين..
بعد غبارهم الذي أثاروه ودخانهم الذي حجبوا به الرؤية الصافية.. الذي
يتبقّى هو وقائع السيرة نفسها كما تكونت يومها في الزمان والمكان.. ويتبقى
الشخصية الفذة لصانع هذه الوقائع وقائدها في الزمان والمكان.. رسول اختارته
عناية الله لقيادة البشرية صوب الغد المرتجى..
ومع الرسول عليه الصلاة والسلام جيل من الرواد حملوا شرف الانتماء،
واستجابوا للتحدّيات، وقدروا على أن يطووها بما يشبه الإعجاز، فليست
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 44- 45.
(1/44)
مناهج الرهبانية النصرانية والعلمانية
الاستشراقية والمادية التاريخية بقادرة على إدراك البعد الحقيقيّ لهذا
العصر الذي غيّر مجرى التاريخ.
كما أنهم ليسوا بقادرين على طمسه وتزييفه..
والذي يدرك هذا البعد ويستعيد جوهره النقي.. هم أبناء الإسلام وحدهم، وليس
غيرهم أبدا من يقدر على حمل الأمانة وأداء الدور.
(1/45)
|