إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع مولده صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة في دار عرفت بدار ابن يوسف، من شعب
بني هاشم، يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، وقيل لليلتين خلتا
منه، وقيل ولد في ثالثة، وقيل في عاشرة، وقيل في ثامنة، وقيل ولد يوم
الاثنين لاثنتي عشرة مضت من رمضان حين طلع الفجر، وقد شذّ بذلك الزبير بن
بكار، إلا أنه موافق لقوله: إن أمه صلّى اللَّه عليه وسلّم حملت به أيام
التشريق، فيكون حملها مدة تسعة أشهر على
__________
[ () ] ابن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر، وهو تاريح بن ناحور بن أسرع بن
أرغوي بن والغ بن شالخ بن أركشد بن سام بن نوح بن لمك بن المتوشلح بن
أخنوخ، وهو إدريس النبي، ابن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث، وهو
هبة اللَّه بن آدم المصطفى عليه السلام وعلى جميع الأنبياء. فهذا نسب النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد اختلف في أسماء الرجال من فوق عدنان، فزاد
بعضهم، ونقص، وقدّموا، وأخّروا، واللَّه أعلم بالصحيح» .
(التعريف في الأنساب والتنويه لذوي الأحساب) ص 36.
[ (1) ] ابن لؤيّ بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا. وهي
يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا (ابن هشام ج 1 ص 292) .
[ (2) ] ويزعمون فيما يتحدث الناس واللَّه أعلم أن آمنة بنت وهب أم رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت تحدث أنها أتيت حين حملت برسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع
على الأرض فقولي:
أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج
منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام. (ابن هشام ج 1 ص 293) .
ومن طريق محمد بن عمر عن علي بن زيد عن عبد اللَّه بن وهب بن زمعة عن أبيه
عن عمته قالت:
كنا نسمع أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما حملت به أمه آمنة بنت
وهب كانت تقول: ما شعرت بأني حملت به ولا وجدت له ثقلا كما يجد النساء إلا
أني أنكرت رفع حيضتي. وربما كانت تقول: وأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان
فقال: هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري! فقال: إنك قد حملت بسيد هذه
الأمة ونبيّها. (عيون الأثر ج 1 ص 25) .
[ (3) ] «وذلك يوم الاثنين» (ابن سعد ج 1 ص 98) ، (صفة الصفوة ج 1 ص 23) ،
(عيون الأثر ج 1 ص 25) .
(1/6)
العادة الغالبة. وذلك عام الفيل، وقيل بعد
قدوم الفيل مكة بخمسين يوما، وقيل بشهر، وقيل بأربعين يوما، وقيل قدوم
الفيل للنصف من المحرم قبل مولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشهرين
إلا أياما، وقيل ولد بعد الفيل بثمانية وخمسين يوما، وقيل بعده بعشر سنين،
وقيل بعده بثلاثين عاما، وقيل قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل قبله بأربعين
عاما، وقيل ولد يوم الفيل، وقيل ولد سنة ثلاث وعشرين للفيل، وقيل في صفر،
وقيل يوم عاشوراء، وقيل في ربيع الآخر [ (1) ] .
والراجح أنه ولد عام الفيل في الثانية والأربعين من ملك كسرى أنوشروان ابن
قباذ بن نيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الخشن بن بهرام بن سابور
ابن سابور ذي الأكتاف.
وكان على الحيرة يوم ولد صلّى اللَّه عليه وسلّم عمرو بن المنذر بن امرئ
القيس وهو عمرو ابن هند، وذلك قبل ولاية النعمان بن المنذر المعروف بأبي
قابوس على الحيرة بنحو من سبع عشرة، وهي سنة إحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة
الإسكندر بن فيلبس المجدوني على دارا، وهي سنة ألف وثلاثمائة وستة عشرة
لابتداء ملك نصر، ووافق يوم مولده العشرين من نيسان، وولد بالغفر [ (2) ]
من المنازل وهو مولد الأنبياء، ويقال كان طالعة برج الأسد والقمر فيه.
صفة مولده صلّى اللَّه عليه وسلّم
وتركوا عليه جفنة كبيرة فانفلقت عنه فلقتين، فكان ذلك من مبادئ أمارات
النبوة في نفسه الكريمة، ويقال ولد مختونا، مسرورا [ (3) ] مقبوضة أصابع
يده،
__________
[ (1) ] اتفقوا على أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولد يوم الاثنين
في شهر ربيع الأول عام الفيل. واختلفوا فيما مضى من ذلك الشهر لولادته على
أربعة أقوال: أحدها: أنه ولد لليلتين خلتا منه، والثاني: لثمان خلون منه،
والثالث: لعشر خلون منه، والرابع: لاثنتي عشرة خلت منه. (صفة الصفوة ج 1 ص
24) .
[ (2) ] الغفر: منزل للقمر ثلاثة أنجم صغار في برج السنبلة، وهي المنزل
الخامس عشر من منازل القمر (المعجم الوسيط ج 2 ص 656) . قال تعالى:
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.
(آية 39/ يس) .
[ (3) ] وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ولد مختونا مسرورا،
وروي في ذلك حديث لا يصح، ذكره أبو الفرج بن الجوزي في «الموضوعات» وليس
فيه حديث ثابت، وليس هذا من خواصه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن كثيرا من
الناس يولد مختونا. القول الثاني: أنه ختن صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم شقّ
قلبه الملائكة عند ظئرة حليمة.
القول الثالث: أن جدّه عبد المطلب ختنه يوم سابعه وصنع له مأدبة وسماه
محمدا. (زاد المعاد ج 1 ص 80) .
(1/7)
مشيرا بالسبابة كالمسبح بها، فأعجب ذلك جده
عبد المطلب وقال: «ليكون لابني هذا شأن» . وقيل: إن جده ختنه يوم سابعه،
وقيل: ختنه جبريل عليه السلام، وختم حين وضع الخاتم.
مدة حمله صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكانت مدة الحمل به تسعة أشهر، وقيل: عشرة، وقيل: ثمانية، وقيل:
سبعة، وقيل: ستة. وعقّ [ (1) ] عنه بكبش يوم سابعه، وسماه محمدا [ (2) ] .
__________
[ () ] ومعنى مختونا: أي مقطوع الختان، ومسرورا أي مقطوع السّرّة من بطن
أمه (البداية والنهاية ج 2 ص 324) .
[ (1) ] عقّ عن ولده: ذبح ذبيحة يوم سبوعه (المعجم الوسيط ج 2 ص 616) .
[ (2) ] فأخذه عبد المطلب فأدخله الكعبة وقام عندها يدعو اللَّه ويشكر ما
أعطاه، وروي أنه قال يومئذ:
الحمد للَّه الّذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه باللَّه ذي الأركان
حتى أراه بالغ البنيان ... أعيذه من شر ذي شنئان
من حاسد مضطرب العيان
(ابن سعد ج 1 ص 103) ، (صفة الصفوة ج 1 ص 26) وفي رواية أخرى:
الحمد للَّه الّذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه باللَّه ذي الأركان
حين يكون بلغة الفتيان ... حتى أراه بالغ البنيان
أعيذه من كل ذي شنئان ... من حاسد مضطرب العنان
ذي همة ليس له عينان ... حتى أراه دافع السان
أنت الّذي سميت في القرآن ... في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوب على البيان
(البداية والنهاية ج 2 ص 324) ، (الروض الأنف ج 1 ص 184) ، (ابن هشام ج 1 ص
296) .
وفي هامش البداية والنهاية «حتى أرى منه رفيع الشان» والأردان: جمع ردن:
والرّدن: مقدم كم القميص أو أسفله. وطيب الأردان: كناية عن العفّة
والنّقاء. والشنآن: البغضاء (هامش ص 26 من ج 1 صفة الصفوة) ، (لسان العرب ج
1 ص 102) مادة: شنأ.
قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (آية 2/ المائدة) ، وقال تعالى:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا (آية 8/
المائدة) .
(1/8)
موت أبيه
ومات عبد اللَّه بن عبد المطلب- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حمل
في بطن أمه- بالمدينة، وقيل: بالأبواء بين مكة والمدينة، والأول هو
المشهور، وقيل: مات بعد ولادته بثمانية وعشرين يوما، وقيل: بسبعة أشهر،
وقيل: بسنة، وقيل: بسنتين، وقيل: بشهرين، والأول أثبت.
رضاعه وإخوته في رضاعه
أرضعته أمه صلّى اللَّه عليه وسلّم سبعة أيام [ (1) ] ، ثم أرضعته «ثويبة»
[ (2) ] مولاة «أبي لهب»
__________
[ (1) ] في (خ) أيام أمه، والصواب ما أثبتناه.
[ (2) ] قال عروة: «وثويبة مولاة لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها، فأرضعت
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما مات أبو لهب، أريه بعض أهله بشرّ حيبة،
قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت هذه بعتاقتي
ثويبة» . ذكرها ابن مندة في الصحابة، وقال: اختلف في إسلامها، وقال أبو
نعيم: لا نعلم أحدا ذكر إسلامها غيره، والّذي في السير أن النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم كان يكرمها، وكانت تدخل عليه بعد ما تزوج خديجة، رضي
اللَّه عنها، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة، إلى أن كان بعد فتح خيبر،
ماتت، ومات ابنها مسروح. قوله: «وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم» ظاهره أن عتقه لها كان قبل إرضاعها، والّذي في السير
يخالفه، وهو أن أبا لهب أعتقها قبل الهجرة، وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل.
وحكى السهيليّ أيضا أن عتقها كان قبل الإرضاع. قوله: «أريه» بضم الهمزة
وكسر الراء وفتح التحتانية، على البناء للمجهول. قوله: «بعض أهله» بالرفع
على أنه النائب عن الفاعل. وذكر السهيليّ أن العباس قال: لما مات أبو لهب،
رأيته في منامي بعد حول في شرّ حال فقال: ما لقيت بعدكم راحة، إلا أن
العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، قال: وذلك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولد يوم الاثنين، وكانت بشّرت أبا لهب بمولده فأعتقها. قوله: «بشرّ حيبة»
بكسر المهملة، وسكون التحتانية، بعدها موحّدة، أي سوء حال. وقال ابن فارس:
أصلها الحوبة وهي المسكنة والحاجة، فالياء في حيبة، منقلبة عن واو لانكسار
ما قبلها. ووقع في «شرح السنة للبغوي» بفتح الحاء، ووقع عند «المستملي»
بفتح الخاء المعجمة، أي في حالة خائبة من كل خير، وقال «ابن الجوزي» : هو
تصحيف. وقال «القرطبي» : يروى بالمعجمة، ووجدته في نسخة معتمدة بكسر
المهملة، وهو المعروف. وحكي في المشارق عن رواية «المستملي» بالجيم، ولا
أظنه إلا تصحيفا، وهو تصحيف كما قال. قوله: «ماذا لقيت؟» أي بعد الموت،
قوله: «لم ألق بعدكم غير أني» ، كذا في الأصول بحذف المفعول، وفي رواية
الإسماعيلي: «لم ألق بعدكم رخاء» ، وعند عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري:
«لم ألق بعدكم راحة» ، قال ابن بطال: سقط المفعول من رواية البخاري، ولا
يستقيم الكلام إلا به. قوله: «غير أني سقيت في هذه» كذا في الأصول بالحذف
أيضا، ووقع في رواية عبد الرزاق المذكورة، وأشار إلى النقرة التي تحت
إبهامه، وفي رواية الإسماعيلي المذكورة، وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام
والتي تليها من الأصابع. وللبيهقي في الدلائل من طريق كذا مثله بلفظ «يعني
النقرة» ، وهي ذلك إشارة
(1/9)
بلبن ابنها «مسروح» أياما قلائل [ (1) ]
وكانت أرضعت قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عمه «حمزة بن عبد
المطلب» [ (2) ] ، وأرضعت بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «أبا
سلمة بن عبد
__________
[ () ] إلى حقارة ما سقي من ماء. قوله: «بعتاقتي» بفتح العين، وفي رواية
عبد الرزاق «بعتقي» وهو أوجه، والوجه الأولى أن يقول: «بإعتاقي» لأن المراد
التخليص من الرق.
وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، ولكنه
مخالف لظاهر القرآن، قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (آية 23/ الفرقان) ، وأجيب:
أولا: بأن الخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدّثه به، وعلى تقدير أن
يكون موصولا، فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجة فيه، ولعلّ الّذي رآها لم
يك إذ ذاك أسلم، فلا يحتج به. وثانيا:
على تقدير القبول، فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم
مخصوصا من ذلك، بدليل قصة أبي طالب كما تقدم، أنه خفف عنه، فنقل من الغمرات
إلى الضّحضاح.
وقال البيهقي: ما ورد من بطلان الخبر للكفار، فمعناه أنهم لا يكون لهم
التخلص من النار، ولا دخول الجنة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الّذي
يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم، سوى الكفر بما عملوه من الخيرات.
وأما القاضي عياض فقال: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم،
ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض.
قلت: وهذا لا يرد الاحتمال الّذي ذكره البيهقي، فإن جميع ما ورد من ذلك
فيما يتعلق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر، فما المانع تخفيفه؟.
وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا، وبمن ورد النص فيه. وقال ابن المنير
في الحاشية: هنا قضيتان: إحداهما محال، وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره،
لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.
والثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال، تفضلا من اللَّه تعالى، وهذا لا
يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز
أن يتفضل اللَّه عليه بما شاء، كما تفضل على أبي طالب، والمتبع في ذلك
التوقيف نفيا وإثباتا. قلت: وتتمّة هذا أن يقع التفضل المذكور إكراما لمن
وقع من الكافر من البرّ له ونحو ذلك. واللَّه أعلم. (فتح الباري ج 9 ص 173،
174- كتاب النكاح- باب: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، ويحرم من الرضاع ما يحرم
من النسب) .
[ (1) ] في (خ) «دلائل» وكتب تحتها بخط آخر «قلائل» .
[ (2) ] هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، الإمام
البطل الضرغام، أسد اللَّه أبو عمارة، وأبو يعلي القرشي الهاشمي، المكّي،
ثم المدنيّ، البدريّ، الشهيد، عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخوه
من الرضاعة.
قال ابن إسحاق: لما أسلم حمزة علمت قريش أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم قد عزّ وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
(ابن هشام) 2/ 129، (ابن الأثير) في أسد الغابة 2/ 52، (الهيثمي) 9/ 267
ونسبه للطبرانيّ وقال: مرسل ورواته ثقات، وأخرجه (الحاكم) 3/ 193.
قال أبو إسحاق: عن حارثة بن مضرّب، عن علي قال: قال لي رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم: ناد حمزة،
(1/10)
الأسد» [ (1) ] ، ثم بعد رضاعه من «ثويبة»
أرضعته «أم كبشة» [ (2) ] ، حليمة بنت أبي ذؤيب عبد اللَّه بن الحارث بن
شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصية ابن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن
السعدية» بلبن زوجها الحارث [ (3) ] بن عبد العزى السعدي، وأرضعت معه صلّى
اللَّه عليه وسلّم ابن عمه «أبا سفيان [ (4) ] بن الحارث بن عبد
__________
[ () ] فقلت: من هو صاحب الجمل الأحمر؟ فقال حمزة: هو عتبة بن ربيعة، فبارز
يومئذ حمزة عتبة فقتله.
(ابن سعد) 3/ 8 الطبقة الأولى على السابقة في الإسلام ممن شهد بدرا، وأخرجه
(الحاكم) مطوّلا 3/ 194 وصححه، وهو كما قال. ولكن الذهبي قال: لم يخرجا
لحارثة، وقد وهّاه ابن المديني، وقد أخطأ رحمه اللَّه في نقله توهية حارثة
بن مضرب عن ابن المديني، فإنه لم يثبت عنه، وحارثة وثّقه أحمد، وابن معين،
وابن حبان، وروى حديثة أصحاب السّنن، والبخاري في الأدب المفرد.
[ (1) ] هو أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم
بن يقظة بن مرة بن كعب، السيد الكبير، أخو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم من الرضاعة، وابن عمته برّة بنت عبد المطلب، وأحد السابقين الأولين،
هاجر إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، ومات بعدها بأشهر، وله
أولاد صحابة، كعمر وزينب، ولما انقضت عدة زوجته أم سلمة، تزوج بها النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم، وروت عن زوجها أبي سلمة القول عند المصيبة وكانت
تقول: من خير من أبي سلمة، وما ظنّت أن اللَّه يخلفها في مصابها به بنظيره،
فلما فتح عليها بسيد البشر، اغتبطت أيما اغتباط. مات كهلا في سنة ثلاث من
الهجرة، رضي اللَّه عنه.
(مسند أحمد) 4/ 27، (ابن سعد) 3/ 239، (الجرح والتعديل) 5/ 107، (حلية
الأولياء) 2/ 3، (تهذيب الأسماء واللغات) 2/ 240 رقم 360، (تهذيب التهذيب)
5/ 251 رقم 487، (الإصابة) 4/ 152 رقم 4786.
[ (2) ] هي حليمة بنت عبد اللَّه بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن
ناصرة بن قصية بن سعد بن بكر ابن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس
عيلان بن مضر، (تهذيب الأسماء واللغات) 2/ 239 رقم 729.
[ (3) ] هو الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن فصيّة بن
سعد بن بكر، يكنى أبا ذؤيب.
(المرجع السابق) .
[ (4) ] هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، أخو نوفل
وربيعة، تلقى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الطريق قبل أن يدخل مكة
مسلما، فانزعج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأعرض عنه، لأنه بدت منه أمور
في أذية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فتذلل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه
وسلّم حتى رقّ له، ثم حسن إسلامه، ولزم هو والعباس رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم يوم حنين إذ فرّ الناس، وأخذ بلجام البغلة، وثبت معه.
وكان أخا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة، أرضعتهما حليمة، سمّاه
هشام بن الكلبي، والزبير: «مغيرة» ، وقالت طائفة: اسمه كنيته، وإنما
المغيرة أخوهم.
وقيل: كان الذين يشبّهون بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، جعفر، والحسن بن
علي، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث [و
قد روى عنه ولده عبد الملك، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يا بني
هاشم إياكم والصدقة، لا تعملوا عليها فإنّها لا تصلح لكم، وإنما هي أوساخ
الناس» (أبو نعيم عن عبد اللَّه بن المغيرة الهاشمي، عن أبيه، وأكثر من عرف
من الصحابة) . (كنز العمال) 16534] ،
وعبد اللَّه بن المغيرة من أهل مصر، يروي عن الثوري، روى عنه المقدام بن
داود الرعينيّ، يغرب وينفرد. قال ابن حبان في:
(1/11)
المطلب» أياما بلبن ابنها عبد اللَّه، ثم
فطمته صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد سنتين.
وكان حمزة بن عبد المطلب مسترضعا في بني سعد بن بكر فأرضعت أمه رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما وهو عند أمه حليمة، وكان حمزة رضيع النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم من وجهين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية، وكانت ابنتها
الشيماء تحضنه معها.
وكان أخوه من الرضاعة عبد اللَّه بن الحارث، وهو الّذي شرب مع رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنيسة بنت الحارث، والشيماء وهي حذافة [ (1) ]
بنت الحارث [ (2) ] .
مدة رضاعه
فأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم عند حليمة في بني سعد بن بكر بن هوازن بن
منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان نحوا من أربع سنين [ (3) ] .
شق صدره
وشق فؤاده المقدس هناك ومليء حكمة وإيمانا بعد أن أخرج حظّ الشيطان منه،
__________
[ () ] (الثقات ج 8 ص 344) ، وقال العقيلي: يحدث بما لا أصل له، وقال ابن
يونس: منكر الحديث (لسان الميزان ج 3 ص 448) .
وكان أبو سفيان من الشعراء، وفيه يقول حسان بن ثابت رضي اللَّه عنه:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة، فقد برح الخفاء
هجوت محمّدا فأجبت عنه ... وعند اللَّه في ذاك الجزاء
والبيتان من قصيدة طويلة لحسان بن ثابت، قالها يوم فتح مكة، مطلعها:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء
وتبلغ هذه القصيدة ثلاثين بيتا، والجواء وذات الأصابع موضعان بالشام،
وعذراء على بريد من دمشق، قتل بها حجر بن عدي وأصحابه، والمغلغلة: الرسالة
المكتوبة.
(ديوان حسان بن ثابت) ص 71، (ابن هشام) ج 5 ص 85، (ابن سعد) ج 4 ص 49،
(الاستيعاب) ج 4 ص 1673 رقم 3002، (الإصابة) ج 7 ص 179 رقم 10022.
[ (1) ] في ابن هشام «خذامة بكسر الخاء المنقوطة» ج 1 ص 298.
[ (2) ] (زاد المعاد) 1/ 83.
[ (3) ] ذكر ابن الجوزي أن حليمة أعادته إلى أمه بعد سنتين وشهرين (صفة
الصفوة ج 1 ص 63) وقال ابن قتيبة: (لبث فيهم خمس سنين) (المعارف ص 132)
(انظر تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص 13) .
(1/12)
وروى البخاري [ (1) ] في الصحيح: شق صدره
صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة المعراج، وقد استشكله أبو محمد بن حزم [ (2) ]
. ويقال: إن جبريل عليه السلام ختنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما طهر قلبه
الشريف. ثم ردته حليمة بعد شق فؤاده إلى أمة آمنة وهو ابن خمس سنين وشهر،
وقيل: ابن أربع سنين، وقيل: سنتين وشهر.
خروج آمنة وموتها
ثم خرجت به آمنة إلى المدينة تزور أخواله بها فماتت بالأبواء [ (3) ] وهي
راجعة إلى مكة، وله صلّى اللَّه عليه وسلّم ست سنين وثلاثة أشهر وعشرة
أيام، وقيل: وعمره أربع سنين، وقيل: ثمانية أعوام، والأول أثبت [ (4) ] .
كفالة جده
فكفله بعد آمنة جده عبد المطلب بن هاشم وكان يرى من نشوئه ما يسره فيدنيه،
حتى كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يدخل عليه إذا خلا وإذا نام وجلس على
فراشه، فإذا أراد بنو عبد المطلب منعه قال عبد المطلب: دعوا ابني، فإنه
يؤنس ملكا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] حديث شق الصدر: (البخاري) ج 2 ص 327 في باب الإسراء- (مسلم) ج 2 ص
216 في باب الإسراء- (سنن الدارميّ) ج 1 ص 8- (مسند أحمد) ج 3 ص 121، ص
149، ص 288- (المستدرك للحاكم) ج 2 ص 616 وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك.
[ (2) ] هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن سفيان بن
يزيد الفارسيّ، مولى زيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، القرشيّ،
الأندلسيّ، الإمام العلامة، المحقق، المدقق، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن
حزم، ولد بعد صلاة الصبح في آخر يوم من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانية
وثلاثمائة (383 هـ) بقرطبة بالأندلس، وتوفي بقريته، وهي من غرب الأندلس،
على خليج البحر الأعظم، في شهر جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وأربعمائة (457
هـ) (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم/ المقدمة.
[ (3) ] الأبواء: بالفتح ثم السكون وواو وألف ممدودة، قرية من أعمال الفرع
من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. (معجم
البلدان ج 1 ص 101، 102) .
الأبواء: في الشمال عن الجحفة على ثمان فراسخ (تقويم البلدان ص 81) .
[ (4) ] ماتت أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وله ست سنين وقيل:
أربع (تهذيب الأسماء واللغات ج 1 ص 24) وذكر ابن هشام: أنها توفيت وله صلّى
اللَّه عليه وسلّم ست سنين (ابن هشام ج 1 ص 305) وقيل: توفيت أمه وهو ابن
أربع سنين (تلقيح فهوم أهل الأثر ص 13) .
[ (5) ] نص ابن سعد: «دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا» (ابن سعد ج 1 ص 118) وفي
ابن هشام: «دعوا ابني، فو اللَّه إن له لشأنا» (ابن هشام ج 1 ص 306) و (ابن
كثير ج 2 ص 282) (البداية
(1/13)
رمده
ورمد عليه السلام في سنة سبع من مولده فخرج به عبد المطلب إلى راهب فعالجه
وأعطاه ما يعالج به وبشّر بنبوته [ (1) ] .
حضانة أم أيمن وموت جده وكفالة عمه
وحضنته بعد أمه أم أيمن بركة الحبشية مولاة أبيه، حتى مات عبد المطلب وله
صلّى اللَّه عليه وسلّم من العمر ثماني سنين، وقد أوصى به إلى ابنه أبي
طالب [ (2) ] لأنه كان أخا عبد اللَّه لأمه، فكفله عمه أبو طالب بن عبد
المطلب وحاطه أتم حياطة.
حليته وخلقه في صغره
وكان بنو أبي طالب يصبحون غمصا رمصا [ (3) ] ويصبح صلّى اللَّه عليه وسلّم
صقيلا دهينا [ (4) ] ، وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان تصبيحهم أول البكرة
فيجلسون وينهبون، ويكف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده لا ينهب
معهم، فلما رأى ذلك أبو طالب عزل له طعامه على حدة.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يصبح في أكثر أيامه فيأتي زمزم فيشرب منه
شربة، فربما عرض عليه الغداء فيقول: لا أريده، أنا شبعان.
مخرجه الأول إلى الشام
وخرج به إلى الشام في تجارة وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن اثنتي عشرة سنة
وشهرين وعشرة
__________
[ () ] والنهاية) «دعوا ابني إنه يؤسس ملكا» .
[ (1) ] ذكر صاحب (تاريخ الخميس) ج 1 ص 239 في وقائع السنة السابعة من
مولده صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ومن وقائع هذه السنة ما روي أنه أصاب رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن عنه، فقيل لعبد
المطلب:
إن في ناحية عكاظ راهبا يعالج الأعين فركب إليه فناداه وديره مغلق فكان لا
يجيبه، فتزلزل به ديره حتى خاف أن يسقط عليه فخرج مبادرا، وقال: يا عبد
المطلب، إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج إليك لخرّ ديري، وارجع به
واحفظوه لا يغتاله بعض أهل الكتاب ثم عالج» .
[ (2) ] في (خ) «المطلب» والصحيح ما أثبتناه. فأبو طالب أخو عبد اللَّه
لأبيه وأمه، راجع: (المعارف لابن قتيبة) ص 118.
[ (3) ] الغمص: ما سال من العين من رمص (المعجم الوسيط ج 2 ص 662) .
الرّمص: وسخ أبيض جامد يجتمع في موق العين (المرجع السابق ج 1 ص 327) .
[ (4) ] في ابن سعد «رمصا شعثا» ، «دهينا كحيلا» (ج 1 ص 120) .
(1/14)
أيام، وقيل ابن تسع سنين فبلغ به بصرى [
(1) ] ، وذلك فيما يقال لعشر خلون من ربيع الأول سنة ثلاث عشر للفيل. فرأى
أبو طالب ومن معه من آيات نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم ما زاده في الوصاة
به والحرص عليه: من تظليل الغمام له، وميل الشجرة بظلها عليه.
خبر بحيرا الراهب
وبشر به بحيرا الراهب (واسمه سرجس من عبد القيس) ، وأمر أبا طالب أن يرجع
به لئلا تراه اليهود فيرمونه بسوء، فكانت هذه أول بشرى بنبوته، وهو لصغره
غير واع إليها ولا متأهب لها، وقيل: خرج مع عمه وله تسع سنين، والأول أثبت
[ (2) ] .
أول أمره مع خديجة في التجارة
وكان حكيم بن حزام [ (3) ] قد رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بسوق
حباشة، واشترى منه بزّا من بز [ (4) ] تهامة [ (5) ] وقدم مكة. فذلك حين
أرسلت خديجة إلى رسول اللَّه
__________
[ (1) ] بصرى: بالشام من أعمال دمشق. (معجم البلدان ج 1 ص 522) .
وذكر ابن الجوزي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل تيماء، وهي واحة في شمالي
جزيرة العرب (صفة الصفوة ج 1 ص 33) .
[ (2) ] أورد هذا الخبر بتمامه: ابن الجوزي في (صفوة الصفوة ج 1 ص 33- 35)
- ابن هشام (السيرة النبويّة ج 1 ص 319- 322) - الطبري (التاريخ ج 2 ص 277-
279) - ابن كثير (البداية والنهاية ج 2 ص 345- 349) - ابن سيد الناس (عيون
الأثر ج 1 ص 40- 43) .
[ (3) ] حكيم بن حزام بن خويلد، وهو ابن أخي خديجة، أسلم يوم الفتح وحسن
إسلامه، وغزا حنينا والطائف، وكان من أشراف قريش، وعقلائها، ونبلائها، وكان
الزبير ابن عمه، قال البخاري في «التاريخ» : عاش ستين سنة في الجاهلية
وستين في الإسلام. قال الذهبي: لم يعش في الإسلام إلا بضعا وأربعين سنة،
باع دار الندوة من معاوية بمائة ألف، فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش،
فقال: ذهبت المكارم يا ابن أخي إلا التقوى، إني اشتريت بها دارا في الجنة،
أشهدكم أني قد جعلتها للَّه. مات سنة أربع وخمسين، بلغ عدد مسندة (40)
حديثا، له في الصحيحين أربعة أحاديث متفق عليها. (مسند أحمد ج 4 ص 401-
403) ، (المعارف: 311) ، (الجرح والتعديل:
3/ 202) ، (المستدرك: 3/ 482- 485) ، (تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 166) ،
(تهذيب التهذيب: 2/ 447) ، (شذرات الذهب: 1/ 60) .
[ (4) ] البزّ: نوع من الثياب والسلاح. (المعجم الوسيط ج 1 ص 54) .
[ (5) ] تهامة بالكسر، قال أبو المنذر: تهامة تساير البحر، منها مكة، قال:
والحجاز ما حجز بين تهامة
(1/15)
صلّى اللَّه عليه وسلّم تدعوه أن يخرج في
تجارة إلى سوق حباشة [ (1) ] . وبعثت معه غلامها ميسرة، فخرجا فابتاعا بزا
من بز الجند [ (2) ] وغيره مما فيها من التجارة، ورجعا إلى مكة فربحا ربحا
حسنا، ويقال إن أبا طالب كلم خديجة حتى وكلت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم بتجارتها.
مشاركته السائب في التجارة
وكان يشارك السائب بن أبي السائب صيفي بن عابد [ (3) ] بن عبد اللَّه بن
عمر بن مخزوم، فلما كان يوم الفتح جاءه فقال عليه السلام: (مرحبا بأخي
وشريكي، كان لا يداري ولا يماري)
ومعنى يداري: يشاحن ويخاصم صاحبه.
رعيه الغنم
وكان بعد ذلك يرعى غنما لأهل مكة على قراريط، قيل: كل شاة بقيراط، وقيل:
قراريط موضع، ولم يرد بذلك القراريط من الفضة [ (4) ] .
مشهده حرب الفجار [ (5) ]
وشهد حرب الفجار الأيام سائرها إلا يوم نخلة، وكان يناول عمه- الزبير
__________
[ () ] والعروض.
قال الأصمعي: وإنما سمي الحجاز حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد. (معجم
البلدان ج 2 ص 74) .
[ (1) ] حباشة: بالضم والشين المعجمة، سوق من أسواق العرب في الجاهلية،
ذكره في حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: لما استوى رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم وبلغ أشدّه وليس له مال كثير استأجرته خديجة إلى
سوق حباشة.
[ (2) ] الجند: بالتحريك، قال أبو سنان اليماني: « ... وأعمال اليمن في
الإسلام مقسومة على ثلاثة ولاة:
فوال على الجند ومخاليفها، وهو أعظمها، ووال على صنعاء ومخاليفها، وهو
أوسطها، ووال على حضرموت ومخاليفها، وهو أدناها» . (معجم البلدان ج 2 ص
196) .
[ (3) ] هكذا في (خ) ، وفي ابن هشام:
قال ابن إسحاق: «السائب بن أبي السائب بن عابد بن عبد اللَّه بن عمر بن
مخزوم» (ابن هشام ج 3 ص 268) .
[ (4) ]
روى البخاري في كتاب (الإجارة) : باب رعي الغنم على قراريط: «عن النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم قال: ما بعث اللَّه نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه:
وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» .
(صحيح البخاري ج 1 ص 32) وذكره ابن ماجة بلفظ آخر، (صحيح سنن ابن ماجة
للألباني ج 2 ص 727 باب الصناعات حديث رقم 2149) .
[ (5) ] الفجار بكسر الفاء، «وإنما سمّي يوم الفجار بما استحل فيه هذان
الحيان- كنانة وعسقلان- من
(1/16)
بن عبد المطلب- النبل، وكان عمره صلّى
اللَّه عليه وسلّم يومئذ عشرين سنة [ (1) ] ، وقيل: أربع عشرة سنة أو خمس
عشرة سنة [ (2) ] .
مخرجه الثاني إلى الشام في تجارة خديجة
ثم أجر نفسه من خديجة- بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب [ابن
مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر] [ (3) ]- سفرتين بقلوصين [ (4) ] .
وخرج ثانيا إلى الشام في تجارة ومعه غلامها ميسرة- لأربع عشرة ليلة بقيت من
ذي الحجة سنة خمس وعشرين من الفيل- وقد بلغ خمسا وعشرين سنة- حتى أتى بصرى
فرآه نسطور الراهب وبشر بنبوته ميسرة. ورأى ميسرة من شأنه صلّى اللَّه عليه
وسلّم ما بهره فأخبر سيدته خديجة بما شاهد وبكلام الراهب [ (5) ] ، فرغبت
خديجة رضي اللَّه عنها إليه أن يتزوجها لما رجت في ذلك من الخير.
زواجه بخديجة
فتزوج بخديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما في عقب صفر [و] سنّه ست
وعشرين، (وقيل: كانت [ (6) ] سنّه إحدى وعشرين سنة وقيل: ثلاثين، وقال ابن
جريج: وله سبع وثلاثون سنة، وقال البرقي: سبع وعشرون سنة قد راهق الثلاثين،
ولها من العمر أربعون سنة وعمره خمس وعشرون سنة، وقيل:
ثلاث وعشرون، والأول أثبت [ (7) ] ) على اثنتي عشرة أوقية ونش [ (8) ] ،
وقيل:
__________
[ () ] المحارم بينهم» . (البداية والنهاية ج 2 ص 353) ويقول السهيليّ:
«والفجار بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة، وذلك أنه كان قتالا
في الشهر الحرام، ففجروا فيه جميعا، فسمي: الفجار (الروض الأنف ج 1 ص 209)
، (أيام العرب في الجاهلية: ص 322- 337) .
[ (1) ] ابن كثير في (البداية والنهاية ج 2 ص 353) .
[ (2) ] ابن هشام في (السيرة ج 1 ص 324) .
[ (3) ] تكملة النسب من ابن هشام.
[ (4) ] القلوص «من الإبل» الفتية المجتمعة الخلق، وذلك حين تركب إلى
التاسعة من عمرها، ثم هي ناقة» (المعجم الوسيط ج 2 ص 755) .
[ (5) ] الخبر بتمامه في (ابن سعد) ج 1 ص 156.
[ (6) ] في (خ) «كان» ، والصحيح ما أثبتناه لأن السن مؤنثة.
[ (7) ] في ابن هشام «خمسا وعشرين سنة» (ج 2 ص 5) ونحوه في (عيون الأثر ج 1
ص 47) .
[ (8) ] الأوقية جزء من اثني عشر جزءا من الرطل المصري (المعجم الوسيط ج 1
ص 33) الأوقية أربعون
(1/17)
عشرون بكرة [ (1) ] . وكان الّذي سفر
بينهما نفيسة بنت منية أخت يعلي بن منية، وقيل: بل سفر بينهما ميسرة، وقيل:
بل مولاة مولّدة. وكان الّذي زوّج خديجة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم عمها عمرو بن أسد بن عبد العزى وقال: محمد بن عبد اللَّه بن عبد
المطلب يخطب خديجة ابنة خويلد! هذا الفحل لا يقدح أنفه [ (2) ] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد عن عمار بن أبي عمار، عن ابن
عباس، فيما يحسب حماد: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر خديجة
وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت طعاما وشرابا ودعت أباها ونفرا من قريش
فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت خديجة: إن محمد بن عبد اللَّه يخطبني
فزوّجني إياه، فزوجها، فخلّقته [ (3) ] وألبسته، وكذلك كانوا يفعلون
بالآباء، فلما سري عنه سكره نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة فقال: ما شأني؟ ما
هذا؟! قالت: زوجتني محمد بن عبد اللَّه، فقال: أنا أزوج يتيم أبي طالب! لا
لعمري، فقالت خديجة:
ألا تستحي! تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران.
فلم تزل به حتى رضي. وقد ردّ هذا القول بأن أباها توفي قبل الفجار [ (4) ]
.
شهوده حلف الفضول [ (5) ]
وشهد صلّى اللَّه عليه وسلّم حلف الفضول مع عمومته في دار عبد اللَّه بن
جدعان بن عمرو
__________
[ () ] درهما، والنش نصف أوقية، أو عشرون درهما (لسان العرب ج 6 ص 353) .
[ (1) ] البكر: الفتى من الإبل، والأنثى بكرة، وفي المثل: «جاءوا على بكرة
أبيهم» أي جميعا (المعجم الوسيط ج 1 ص 67) ، (جمهرة الأمثال ج 1 ص 316) .
[ (2) ] في الروض الأنف «هو الفحل الّذي لا يقدع أنفه» ج 1 ص 212. وهذا
المثل يضرب للشريف لا يردّ عن مصاهرة ومواصلة. والقدح: الكف (مجمع الأمثال
للميداني ج 2 ص 395) المثل رقم 4552.
[ (3) ] خلّقه: ملّسه وسوّاه. وأتم خلقه وطيبه بالخلوق. (المعجم الوسيط ج 1
ص 252) .
[ (4) ] «المحفوظ عند أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار، وأن
عمها عمرو بن أسد زوّجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (ابن سعد ج 1
ص 133) وذكر نحوه ابن كثير في (البداية والنهاية ج 2 ص 361) والسهيليّ في
(الروض الأنف ج 1 ص 213) ، والطبري في (التاريخ ج 2 ص 282) .
[ (5) ] كان حلف الفضول بعد الفجار، وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان،
وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة، وذكر ابن قتيبة:
«والفضول جمع فضل وهي أسماء الذين تحالفوا وهم الفضيل بن شراعة، والفضل بن
وداعة، والفضل بن قضاعة، وكانوا قد تعاهدوا باللَّه ليكونن
(1/18)
ابن كعب [ (1) ] بن تميم بن مرة.
تحكيمه في أمر الحجر الأسود
وكان اللَّه تعالى قد صانه وحماه من صغره، وطهّره وبرّأه من دنس الجاهلية
ومن كل عيب، ومنحه كل خلق جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما
شاهدوا من طهارته وصدق حديثه وأمانته، بحيث أنه لما بنيت الكعبة بعد هدم
قريش لها في سنة خمس وثلاثين، وقيل: سنة خمس وعشرين من عمره صلّى اللَّه
عليه وسلّم وذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة وبعد الفجار بخمس عشرة سنة-
ووصلوا إلى موضع الحجر الأسود، اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه، [فأرادت [
(2) ]] كل قبيلة رفعه إلى موضعه، واستعدوا للقتال وتحالفوا على الموت،
ومكثوا على ذلك أربع ليال.
فأشار عليهم أبو أمية [ (3) ] حذيفة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن
مخزوم- وهو أسنّ قريش يومئذ- أن يجعلوا بينهم حكما أول من يدخل من باب
المسجد،
فكان أول من دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رأوه قالوا: هذا
الأمين قد رضينا به، وأخبروه الخبر، فقال: [هلموا [ (4) ]] لي ثوبا، فأتي
بثوب- يقال إنه كساء أبيض من متاع الشام كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم-
فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب
ثم أرفعوه جميعا، ففعلوا حتى بلغوا به موضعه فوضعه صلّى اللَّه عليه وسلّم
بيده ثم بني عليه.
ويقال: كان الثوب الّذي وضع فيه الحجر للوليد بن المغيرة.
أول ما بدئ به من النبوة
ولما أراد اللَّه رحمة العباد، وكرامته صلّى اللَّه عليه وسلّم بإرساله إلى
العالمين، كان أوّلا يرى
__________
[ () ] يدا واحدة مع المظلوم على الظالم» (ابن هشام ج 1 ص 264، 265 بتصرف)
.
[ (1) ] ابن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤيّ (تمام النسب من ابن هشام ج 1
ص 264) .
[ (2) ] في (خ) فأراد.
[ (3) ] في ابن هشام «أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه ... » ج 2 ص
19.
[ (4) ] كذا في (خ) وصحتها (هلمّ) ، وهي كلمة دعاء، أي تعال، وهي من أسماء
الأفعال، تلزم لفظا واحدا في كل حالاتها عند الحجازيين: [للواحد والاثنين
والجماعة والذكر والأنثى] (المعجم الوسيط ج 2 ص 992، 993) والنصّ في (ابن
هشام ج 2 ص 19) : «هلمّ إليّ» والآية 150 الأنعام:
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ، 18 الأحزاب: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ
هَلُمَّ إِلَيْنا، وانظر أيضا (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
للفيروزآبادي) ج 5 ص 341.
(1/19)
ويعاين من آثار فضل اللَّه أشياء: فشق في
صغره بطنه واستخرج ما في قلبه من الغل والدنس، فكان يعاين الأمر معاينة ثم
كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه.
فكان يلتفت يمينا ويسارا فلا يرى أحدا [ (1) ] .
وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمة قومها بذلك. ثم كان لا يرى
رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح [ (2) ] . فكان أول شيء رآه من النبوة في
المنام بطنه طهّر وغسل ثم أعيد كما كان.
تحنثه بحراء وبدء الوحي
وحبّب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما كان يفعل ذلك متعبدو [ (3) ]
ذلك الزمان، فيقيم فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها
يتحنث [ (4) ] بحراء ومعه خديجة، فيقال: إنه أول ما رأى جبريل عليه السلام
بأجياد [ (5) ] فصرخ به: يا محمد يا محمد.
بعثته
ثم فجأة [ (6) ] الحق وهو بغار حراء [ (7) ] يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من
رمضان
__________
[ (1) ] أخرج الترمذي نحوه في صحيح سنن الترمذي للألباني ج 3 ص 192 حديث
رقم 3885 وقال في آخره: «صحيح» .
[ (2) ] المرجع السابق حديث رقم 3893، وقال في آخره: «حسن صحيح» .
[ (3) ] في (خ) «متعبدوا» بألف بعد الواو، والمعروف عند أهل اللغة أن جمع
المذكر السالم تحذف منه ألف واو الجماعة إذا أضيف.
[ (4) ] تحنّث: تعبد، وفعل ما يخرج به الحنث، والحنث: الذنب (المعجم الوسيط
ج 1 ص 201) (وهذه اللفظة في (خ) : يتجنب» ) .
[ (5) ] قال أبو القاسم الخوارزمي: أجياد موضع بمكة يلي الصفا، وهو أحد
جبال مكة غربيّ المسجد الحرام.
وقال الأصمعي: هو الموضع الّذي كانت به الخيل التي سخرها اللَّه لإسماعيل
عليه السلام (معجم البلدان ج 1 ص 130) .
[ (6) ] قوله: «فجأه الحق وهو بغار حراء» أي جاءه بغتة على غير موعد كما
قال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ آية 86/ القصص، (البداية والنهاية ج 3 ص 6) ، وفي
(ط) «فجئه» والتصويب من (المعجم الوسيط) : «فجأه الأمر فجأ، وفجأة، وفجاءة:
بغته (ج 2 ص 674) .
[ (7) ] وحراء: يقصر ويمد، ويمنع ويصرف، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال
منها عن يسار المار إلى منى، له قلة مشرقة على الكعبة منحنية، والغار في
تلك الحنية. (معجم البلدان ج 2 ص 269) .
(1/20)
وقيل: لأربع وعشرين ليلة مضت منه، وله من
العمر أربعون سنة. وهذا مروي عن عبد اللَّه بن عباس [ (1) ] ، ...
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن عباس، حبر الأمّة وفقيه العصر، وإمام التفسير،
ابن عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: العباس ابن عبد المطلب شيبة بن
هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤيّ بن
غالب بن فهر القرشيّ الهاشميّ المكيّ الأمير رضي اللَّه عنه.
مولده بشعب بني هاشم، قبل عام الهجرة بثلاث سنين. صحب النبيّ صلّى اللَّه
عليه وسلّم نحوا من ثلاثين شهرا، وحدّث عنه بجملة صالحة، وعن عمر، وعليّ،
ومعاذ، ووالده، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سفيان صخر بن حرب، وأبي ذر، وأبيّ
بن كعب، وزيد بن ثابت، وخلق.
وقرأ على أبيّ، وزيد. قرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة. روى عنه ابنه
عليّ، وابن أخيه عبد اللَّه بن معبد، ومواليه، عكرمة، ومقسم، وكريب، وأنس
بن مالك، وطاووس، وخلق سواهم.
وكان وسيما جميلا، مديد القامة، مهيبا، كامل العقل، ذكيّ النفس، من رجال
الكمال.
انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه
صحّ عنه أنه قال:
كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمي من النساء.
عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسي، ودعا
لي بالحكمة. قال الزبير بن بكّار:
توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولابن عباس ثلاث عشرة سنة. قال
أبو سعيد بن يونس: غزا ابن عباس إفريقية مع ابن أبي سرح، وروى من أهل مصر
خمسة عشر نفسا.
قال ابن عباس: «ضمني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى صدره وقال: اللَّهمّ
علّمه الحكمة» ،
والحكمة: الإصابة في غير النبوة، وفي لفظ: «علّمه الكتاب» ، وهو يؤيد من
فسّر الحكمة هنا بالقرآن.
واختلف في المراد بالحكمة هنا، فقيل: الإصابة في القول، وقيل: الفهم عن
اللَّه، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق بين الإلهام والوسواس،
وقيل: سرعة الجواب بالصواب، وقيل غير ذلك. وكان ابن عباس من أعلم الناس
بتفسير القرآن.
وروى أبو زرعة الدمشقيّ في تاريخه، عن ابن عمر قال: «هو أعلم الناس بما
أنزل اللَّه على محمد» .
وقال مجاهد: ما رأيت أحدا قطّ مثل ابن عبّاس، لقد مات يوم مات وإنه لحبر
هذه الأمة. ومسندة ألف وستمائة وستون حديثا، وله من ذلك في الصحيحين خمسة
وسبعون. وتفرّد البخاري له بمائة وعشرين حديثا، وتفرّد مسلم بتسعة أحاديث.
توفّي ابن عباس سنة ثمان أو سبع وستين، وعاش إحدى وسبعين سنة.
* سير أعلام النبلاء: 3/ 331- 359، التاريخ الكبير: 5/ 3، التاريخ الصغير:
1/ 26، الجرح والتعديل: 5/ 116، المستدرك: 3/ 533، حلية الأولياء: 1/ 314،
جمهرة أنساب العرب: 19، 20، تاريخ بغداد: 1/ 173، جامع الأصول: 9/ 63،
تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 274، وفيات الأعيان: 3/ 62- 64، خلاصة تذهيب
الكمال: 2/ 69، تاريخ الصحابة: 148، 149، أسماء الصحابة الرواة: 40، فتح
الباري: ج 7 ص 125، 126 باب ذكر ابن عباس رضي اللَّه عنهما، حديث رقم 3756.
(1/21)
وجبير بن مطعم [ (1) ] ، وقباث بن أشيم [
(2) ] ، ...
__________
[ (1) ] هو جبر بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصيّ. شيخ قريش في
زمانه، أبو محمد، ويقال: أبو عديّ القرشيّ النوفليّ، ابن عم النبيّ صلّى
اللَّه عليه وسلّم.
من الطلقاء الذين حسن إسلامهم. وقد قدم المدينة في فداء الأسارى من قومه،
وكان موصوفا بالحلم ونبل الرأي كأبيه.
وكان أبوه هو الّذي قام في نقض صحيفة القطيعة، وكان يحنو على أهل الشّعب،
ويصلهم في السر، ولذلك
يقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم
كلمني في هؤلاء النّتنى لتركتهم له» .
وهو الّذي أجار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين رجع من الطائف حتى طاف
بعمرة، ثم كان جبير شريفا مطاعا، وله رواية أحاديث. ووفد على معاوية في
أيامه.
توفي جبير بن مطعم سنة ثمان وخمسين على خلاف في ذلك.
* سير أعلام النبلاء: 3/ 95- 99، التاريخ الكبير: 2/ 223، المعارف: 485،
الجرح والتعديل: 2/ 512، جمهرة أنساب العرب: 116، تهذيب الأسماء واللغات:
1/ 146، مرآة الجنان:
1/ 127، خلاصة تذهيب الكمال: 1/ 161، شذرات الذهب: 1/ 64، صحيح البخاري،
كتاب الخمس، باب ما منّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأسارى من غير
أن يخمس، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن
أبيه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم
ابن عديّ حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» حديث رقم 3139 (فتح
الباري ج 6 ص 298، 299) . وهو في (مسند الحميدي) رقم 558، وفي (صحيح سنن
أبي داود) للألباني رقم 2338 ج 2 ص 12.
[ (2) ] هو قباث بن أشيم بن عامر بن الملوح بن يعمر وهو الشدّاخ بن عوف بن
عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، شهد بدرا مع المشركين، وكان له
فيها ذكر، ثم أسلم بعد ذلك، وشهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعض
المشاهد، وكان على مجنّبة أبي عبيدة بن الجراح يوم اليرموك، ونزل الشام بعد
ذلك.
روى عنه عامر بن زياد الليثي، وأبو الحويرث، فرواية عامر عنه مرفوعة في فضل
صلاة الجماعة، أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقيّ قال: حدثنا محمد بن
شعيب قال: أخبرني أبو خالد الرّحبيّ، يعني ثور بن يزيد، عن ابن سيف الكلاعي
عن عبد الرحمن بن زياد عن قباث بن أشيم الليثي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم قال: «صلاة رجلين يؤمّ أحدهما صاحبه أزكى عند اللَّه من صلاة
ثمانية تترى، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عند اللَّه من صلاة مائة تترى،
قال ابن شعيب: فقلت لأبي خالد: ما تترى؟
قال: متفرقين.
وأما أبو الحويرث فإنه قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم
الكناني ثم الليثي:
يا قباث أنت أكبر أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال: رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكبر مني وأنا أسنّ منه، ولد رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا
أعقله، وتنبأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رأس أربعين من الفيل»
.
قال البخاري وابن أبي حاتم: قباث بن أشيم له صحبة. وأخرج أبو نعيم في
(الدلائل) قصة إسلامه بعد الخندق مطولة، وفيها علم من أعلام النبوة.
وحديث: «صلاة رجلين..» : أخرجه البخاري في التاريخ الكبير. وحديث أبي
الحويرث، فأورده
(1/22)
وعطاء [ (1) ] ، وسعيد بن المسيب [ (2) ] ،
...
__________
[ () ] البيهقي في (الدلائل) ، والترمذي في باب ما جاء في ميلاد النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم، وقال عنه الألباني في ضعيف سنن الترمذي: «ضعيف الإسناد»
، هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق.
* ضعيف سنن الترمذي: 484، سنن الترمذي: 5/ 550، جامع الأصول: 11/ 216، 217،
الدلائل للبيهقي: 1/ 79، 2/ 131، الدلائل لأبي نعيم: 1/ 143، طبقات ابن
سعد: 7/ 411، تاريخ الصحابة: 216، الاستيعاب: 3/ 1303، المؤتلف والمختلف:
4/ 1922، التاريخ الكبير: 7/ 192، الجرح والتعديل: 7/ 143، الإصابة: 5/
407، 408.
[ (1) ] هو عطاء بن يسار الهلاليّ أبو محمد المدنيّ القاصّ، مولى ميمونة
زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو أخو سليمان، وعبد الملك، وعبد
اللَّه بن يسار.
روى عن معاذ بن جبل، وفي سماعه منه نظر، وعن أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبادة
بن الصامت، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن الحكم السلمي، وأبي أيوب، وأبي قتادة،
وأبي واقد الليثي، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنيّ، وعبد اللَّه بن عمرو،
وعبد اللَّه بن عباس، وأبي رافع مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وعائشة، وعامر بن سعد بن أبي وقاص وهو من أقرانه، وجماعة.
روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، ومحمد بن عمر بن عطاء،
ومحمد بن عمرو بن حلحلة، وهلال بن علي، وزيد بن أسلم، وشريك بن أبي نمر،
ومحمد بن أبي حرملة، وعمرو ابن دينار، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، ويزيد بن
عبد اللَّه بن قسيط، وحبيب بن أبي ثابت، وصفوان بن سليم، وعبد اللَّه بن
محمد بن عقيل، وآخرون.
قال البخاريّ وابن سعد: سمع من ابن مسعود. وقال أبو حاتم: لم يسمع منه.
وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير
الحديث. روى الواقدي: أنه مات سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقال غيره: سنه (94)
، وقال ابن سعد: وهو أشبه، وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة (103) ، وهو
ابن (84) سنة، جزم بذلك ابن يونس في تاريخ مصر، وذكره ابن حبّان في
(الثقات) وقال: قدم الشام، فكان أهل الشام يكنونه بأبي عبد اللَّه، وقدم
مصر، فكان أهلها يكنونه بأبي يسار، وكان صاحب قصص، وعبادة، وفضل، كان مولده
سنة (19) ، ومات سنة (103) ، وكان موته بالإسكندرية.
* العقد الفريد: 7/ 353، المعارف: 459، طبقات الحفاظ: 41، 42، الثقات: 5/
199، سير أعلام النبلاء: 4/ 448، 449، الجرح والتعديل: 6/ 338، التاريخ
الكبير: 6/ 461، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 335، تهذيب التهذيب: 7/ 194،
خلاصة تهذيب الكمال: 2/ 232، شذرات الذهب: 1/ 125، مرآة الجنان: 1/ 214.
[ (2) ] هو سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن
مخزوم بن يقظة، الإمام العلم، أبو محمد القرشيّ المخزوميّ، عالم أهل
المدينة، وسيّد التابعين في زمانه.
ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي اللَّه عنه، وقيل: لأربع مضين منها
بالمدينة.
رأى عمر، وسمع عثمان، وعليا، وزيد بن ثابت، وأبا موسى، وسعدا، وعائشة، وأبا
هريرة، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة، وأم سلمة، وخلقا سواهم. وقيل: إنه سمع
من عمر.
وروى عن أبيّ بن كعب مرسلا، وسعد بن عبادة كذلك، وأبي ذرّ وأبي الدرداء
كذلك، وبلال كذلك.
(1/23)
__________
[ () ] وروايته عن عليّ، وسعد وعثمان، وأبي موسى، وعائشة، وأم شريك، وابن
عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وحكيم بن حزام، وعبد اللَّه بن عمرو، وأبيه
المسيّب، وأبي سعيد، في «الصحيحين» .
وروايته عن حسان بن ثابت، وصفوان بن أمية، ومعمر بن عبد اللَّه، ومعاوية،
وأم سلمة، في «صحيح مسلم» .
وروايته عن جبير بن مطعم، وجابر، وغيرهما في «صحيح البخاري» .
وروايته عن عمر، في «السنن الأربعة» .
وروى أيضا عن زيد بن ثابت، وسراقة بن مالك، وصهيب، والضحاك بن سفيان، وعبد
الرحمن ابن عثمان التّيميّ، وروايته عن عتّاب بن أسيد في «السنن الأربعة» ،
وهو مرسل.
وأرسل عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعن أبي بكر الصديق، وكان زوج بنت
أبي هريرة، وأعلم الناس بحديثه.
قال الحافظ الذهبيّ: وكان ممّن برّز في العلم والعمل، وقع لنا جملة من عالي
حديثه.
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق القرافي، أنبأنا الفتح بن عبد اللَّه
الكاتب، أنبأنا محمد بن عمر الشافعيّ، ومحمد بن أحمد الطرائفي، ومحمد بن
علي بن الداية، قالوا: أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد ابن المسلمة، أنبأنا
عبيد اللَّه بن عبد الرحمن الزّهريّ سنة ثمانين وثلاث مائة، أنبأنا جعفر بن
محمد الفريابيّ، حدثنا إبراهيم بن الحجّاج السّامي، حدثنا حماد بن سلمة، عن
داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن
صام وإن صلى، وزعم أنّه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن
خان» .
هذا صحيح عال، فيه دليل على أن هذه الخصال من كبار الذنوب، أخرجه مسلم في
الإيمان، باب خصال المنافق من كبار الذنوب.
أخرجه مسلم برقم (59) ، (110) في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق،
وهذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكلا، من حيث إن هذه الخصال توجد
في المسلم المصدق الّذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا
بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في
النار، فإن إخوة يوسف صلّى اللَّه عليه وسلّم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد
لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه بحمد اللَّه
تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون،
وهو الصحيح المختار، أن معناه: أن هذه الخصال نفاق، وصاحبها شبيه المنافقين
في هذه الخصال، ومتخلّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا
المعنى موجود في هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدّثه، ووعده، وائتمنه
من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك
الأسفل من النار.
وعن عبد العزيز بن المختار، عن عليّ بن زيد، حدثني سعيد بن المسيّب بن حزن،
أن جدّه حزنا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: «ما اسمك؟ قال: حزن،
قال: بل أنت سهل» قال: يا رسول اللَّه، اسم سمّاني به أبواي وعرفت به في
الناس، فسكت عنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال سعيد: فما زلنا تعرف
الحزونة فينا أهل البيت.
والحزن: ما غلظ من الأرض، وهو ضد السهل، واستعمل في الخلق، يقال: فلان
حزون، أي
(1/24)
__________
[ () ] في خلقه غلظة وقساوة.
هذا حديث مرسل، ومراسيل سعيد محتجّ بها، لكن عليّ بن زيد ليس بالحجة، وأما
الحديث فمروي بإسناد صحيح، متصل، ولفظه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال له: «ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل» ، فقال: لا أغيّر اسما سمّانيه
أبي.
قال سعيد: فما زالت تلك الحزونة فينا بعد.
أخرجه البخاري في الأدب، باب اسم الحزن، قال ابن بطال: فيه أن الأمر بتحسين
الأسماء، وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب. وقال ابن التين: معنى
قول ابن المسيب: «فما زالت فينا الحزونة» ، يريد امتناع التسهيل فيما
يريدونه. وقال الداوديّ: يريد الصعوبة في أخلاقهم، فقد ذكر أهل النسب أن في
ولده سوء خلق معروف فيهم لا يكاد ينعدم منهم، إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى
الغضب في اللَّه.
قال أحمد بن حنبل، وغير واحد: مرسلات سعيد بن المسيّب صحاح.
وقال قتادة، ومكحول، والزهري، وآخرون، واللفظ لقتادة: ما رأيت أعلم من سعيد
بن المسيّب.
وقال عليّ بن المديني: لا أعلم في التابعين أحدا أوسع علما من ابن المسيّب،
هو عندي أجلّ التابعين.
عبد الرحمن بن حرملة: سمعت ابن المسيّب يقول حججت أربعين حجّة.
قال يحيى بن سعيد الأنصاري: كان سعيد يكثر أن يقول في مجلسه: اللَّهمّ سلّم
سلّم.
معن: سمعت مالكا يقول: قال سعيد بن المسيّب: إن كنت لأسير الأيام والليالي
في طلب الحديث الواحد.
أبو إسحاق الشيبانيّ: عن بكير بن الأخنس، عن سعيد بن المسيّب، قال: سمعت
عمر على المنبر وهو يقول: لا أجد أحدا جامع فلم يغتسل، أنزل أو لم ينزل،
إلا عاقبته. رجاله ثقات.
وفيه حجّة لم يقول إن سعيدا رأى عمر وسمع منه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في
(تهذيب التهذيب) حديثا وقع له بإسناد صحيح لا مطعن فيه، فيه تصريح سعيد
بسماعه من عمر.
قال الواقدي: حدثنا عبد اللَّه بن جعفر، وغيره من أصحابنا، قالوا: استعمل
ابن الزّبير جابر ابن الأسود بن عوف الزّهريّ على المدينة، فدعا الناس إلى
البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيّب: لا، حتى يجتمع الناس، فضربه
ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه ويقول: ما لنا
ولسعيد، دعه.
وكان جابر بن الزبير قد تزوج الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، فلما ضرب
سعيد بن المسيب صاح به سعيد والسياط تأخذه: واللَّه ما ربّعت على كتاب
اللَّه، وإنّك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلا ليال
فاصنع ما بدا لك، فسوف يأتيك ما تكره. فما مكث إلا يسيرا حتى قتل ابن
الزّبير.
عن أبي عيسى الخراساني: عن ابن المسيّب، قال: لا تملئوا أعينكم من أعوان
الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم.
أنبأنا أبو نعيم، حدثنا القطيعيّ، حدثنا عبد اللَّه بن أحمد، حدثنا الحسن
بن عبد العزيز، قال: كتب إلى ضمرة بن ربيعة عن إبراهيم بن عبد اللَّه
الكناني، أن سعيد بن المسيّب زوّج ابنته بدرهمين.
قال الواقديّ: كان سعيد بن المسيّب من أعبر الناس للرؤيا، أخذ ذلك عن أسماء
بنت أبي بكر الصديق، وأخذته أسماء عن أبيها، ثم ساق الواقديّ عدة منامات،
منها:
حدثنا عبد اللَّه بن جعفر، عن عبيد اللَّه بن عبد الرحمن بن السائب، قال
رجل لابن المسيّب: إنه رأى
(1/25)
وأنس بن مالك [ (1) ] ، وهو صحيح عند أهل
السير والعلم بالأثر.
__________
[ () ] كأنه يخوض النار، قال: لا تموت حتى تركب البحر، وتموت قتيلا. فركب
البحر، وأشفى على التهلكة، وقتل يوم قديد. (وقديد موضع بين مكة والمدينة،
فيه كانت الوقعة سنة (130) بين أهل المدينة وبين أبي حمزه الخارجي، فقتل
منهم مقتلة عظيمة) .
العطّاف: عن ابن حرملة، قال: قال سعيد: لا تقولوا مصيحف، ولا مسيجد، ما كان
للَّه فهو عظيم حسن جميل.
الواقديّ: أنبأنا طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيّب، عن أبيه: قال سعيد بن
المسيّب: قلة العيال أحد اليسارين. وفي لفظ آخر: أحد اليسارين.
مالك: عن يحيى بن سعيد قال: سئل سعيد بن المسيّب عن آية، فقال سعيد: لا
أقول في القرآن شيئا. قال الذهبي: ولهذا قلّ ما نقل عنه في التفسير.
معاوية بن صالح: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب قال: أوصيت أهلي
بثلاث: أن لا يتبعني راجز ولا نار، وأن يعجلوا بي، فإن يكن لي عند اللَّه
خير فهو خير مما عندكم.
أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن قيس الزيّات، عن زرعة بن عبد الرحمن،
قال: قال سعيد بن المسيب: يا زرعة إني أشهدك على ابني محمد لا يؤذننّ بي
أحدا، حسبي أربعة يحملونني إلى ربي.
مات سعيد بن المسيّب بالمدينة وهو بن خمس وسبعين سنة سنة أربع وتسعين وكان
يقال لهذه السنة:
سنة الفقهاء، لكثرة من مات منهم فيها.
* طبقات ابن سعد: 5/ 119- 143، التاريخ الكبير: 3/ 510- 511، المعارف: 437،
الجرح والتعديل: 4/ 59- 61، حلية الأولياء: 2/ 161- 175، تهذيب الأسماء
واللغات:
219- 221، وفيات الأعيان: 2/ 375- 378، تهذيب التهذيب: 4/ 74- 77، طبقات
الحفاظ: 25، خلاصة تذهيب الكمال: 1/ 390- 391، سير أعلام النبلاء:
4/ 217- 246، شذرات الذهب: 1/ 102، صفة الصفوة: 2/ 57- 58، البداية
والنهاية: 9/ 117- 119، مرآة الجنان: 1/ 185- 187، معجم البلدان: 4/ 355،
تاريخ الطبري: 7/ 393، لسان العرب: 13/ 117 (مادة حزن) ، مسلم بشرح النووي:
2/ 406- 408 كتاب الإيمان باب خصال المنافق، فتح الباري 10/ 702 باب (107)
اسم الحزن حديث رقم (9610) .
[ (1) ] هو أنس بن مالك بن النّضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر
بن غنم بن عدي بن النجار، الإمام، المفتي، المقرئ، المحدّث، راوية الإسلام،
أبو حمزة الأنصاريّ، الخزرجيّ، النّجاريّ، المدنيّ، خادم رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، وقرابته من النساء، وتلميذه، وتبعه، وآخر أصحابه موتا.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم علما جمّا، وعن أبي بكر، وعمر،
وعثمان، ومعاذ، وأسيد بن الحضير، وأبي طلحة، وأمه أم سليم بن ملحان، وخالته
أم حرام، وزوجها عبادة بن الصامت، وأبي ذرّ، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة،
وفاطمة النبويّة، وعدة.
وروى عنه خلق عظيم، منهم: الحسن، وابن سيرين، والشّعبيّ، وخلق كثير، وبقي
أصحابه الثقات إلى ما بعد الخمسين ومائة.
وكان أنس يقول: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وأنا ابن
عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين، وكنّ
(1/26)
__________
[ () ] أمّهاتي يحثثنني على خدمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصحب
أنس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتمّ الصحبة، ولازمة أكمل الملازمة
منذ هاجر، وإلى أن مات، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة.
لم يعدّه أصحاب المغازي في البدريين لكونه حضرها صبيا، ما قاتل، بلى بقي في
رحال الجيش، فهذا وجه الجمع.
قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه بصلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم من ابن أم سليم، يعني أنسا. وقال أنس ابن سيرين: كان أنس بن مالك
أحسن الناس صلاة في الحضر والسّفر.
مسندة ألفان ومائتان وستة وثمانون، اتّفق له البخاري ومسلم على مائة
وثمانين حديثا، وانفرد البخاري بثمانين حديثا. ومسلم بتسعين، وروى له
الأربعة، وجملة مرويّاته (2286) حديثا.
قال أنس رضي اللَّه عنه: خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر
سنين، فما ضربني، ولا سبّني، ولا عبس في وجهي، رواه الترمذي بأطول من هذا.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ أكثر ماله وولده،
قال أنس: واللَّه إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي يتعادون على نحو من
مائة اليوم، قال بعضهم: بلغ مائة وثلاث سنين.
ذكر صلاح الدين الصّفديّ في (الوافي) ، أن عليّ بن زيد بن جدعان قال: كنت
في دار الإمارة والحجّاج يعرض الناس أيام ابن الأشعث، فدخل أنس بن مالك،
فلمّا دنا من الحجّاج قال الحجّاج:
يا خبثه! جوّال في الفتن، مرّة مع عليّ بن أبي طالب، ومرة مع ابن الزّبير،
ومرة مع ابن الأشعث، واللَّه لأستأصلنّك كما تستأصل الصمغة، ولأجرّدنّك كما
يجرّد الضّبّ! فقال له أنس: من يعني الأمير، أصلحه اللَّه؟ قال: إيّاك
أعني، أصمّ اللَّه سمعك! فاسترجع أنس وشغل عنه، فخرج أنس وتبعته وقلت: ما
منعك أن تجيبه؟ فقال: واللَّه لولا أني ذكرت كثرة ولدي، وخشيته عليهم،
لأسمعته في مقامي هذا ما لا يستحسن لأحد من بعدي.
وكتب إلى عبد الملك: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لعبد الملك أمير المؤمنين
من أنس بن مالك خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصاحبه. أما بعد،
فإن الحجاج قال لي هجرا من القول وأسمعني نكرا، ولم أكن لما قال أهلا، إنه
قال لي كذا وكذا، وإني أقسمت. بخدمتي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
عشر سنين كوامل: لولا صبية صغار ما باليت أيّة قتلة قتلت، وو الله، لو أن
اليهود والنصارى أدركوا رجلا خدم نبيهم لأكرموه! فخذ لي على يده، وأعني
عليه، والسلام.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب استشاط غضبا، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإنك
عبد من ثقيف، طمحت بك الأمور، فعلوت فيها وطغيت، حتى عدوت قدرك، وتجاوزت
طورك، يا ابن المستفرمة بعجم الزّبيب، لأغمزنك غمز الليث، ولأخبطنّك خبطة،
ولأركضنك ركضة تودّ معها لو أنك رجعت في مخرجك من وجار أمك.
أما تذكر حال آبائك ومكاسبهم بالطائف، وحفرهم الأبار بأيديهم، ونقلهم
الحجارة على ظهورهم؟
أم نسيت أجدادك في اللؤم والدناءة وخساسة الأصل، وقد بلغ أمير المؤمنين ما
كان منك إلى أبي حمزة أنس بن مالك خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
القريب، وصاحبه في المشهد والمغيب، جرأة منك على اللَّه ورسوله، وأمير
المؤمنين والمسلمين، وإقداما على أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، فعليك لعنة اللَّه من عبد أخفش العينين، أصكّ الرجلين، ممسوح
الجاعرتين، لقد هممت أن أبعث إليك من يسحبك ظهرا لبطن حتى يأتي بك أبا
(1/27)
__________
[ () ] حمزة، فيحكم فيك بما يراه.
ولو علم أمير المؤمنين أنك اجترمت إليه جرما، أو انتهكت له عرضا غير ما كتب
إليه، لفعل ذلك بك. فإذا قرأت كتابي هذا، فكن له أطوع من نعله، واعرف حقّه،
وأكرمه وأهله، ولا تقصرنّ في شيء من حوائجه، فو اللَّه لو أن اليهود رأت
رجلا خدم العزير، أو النّصارى رأت رجلا خدم المسيح، لوقّروه وعظّموه، فتبا
لك، لقد اجترأت ونسيت العهد، وإياك أن يبلغني عنك خلاف ذلك، فأبعث إليك من
يضربك بطنا لظهر، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصّلا إليه
ليكتب إليّ برضاه عنك! ولِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
وكتب عبد الملك إلى أنس: لأبي حمزة أنس بن مالك، خادم رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، من عبد الملك، سلام عليك، أما بعد، فإنّي قرأت كتابك
وفهمت ما ذكرت في أمر الحجاج، وإني واللَّه ما سلطته عليك ولا على أمثالك.
وقد كتبت إليه ما يبلغك، فإن عاد لمثلها فعرّفني حتى أحلّ به عقوبتي،
وأذلّه بسطوتي، والسلام عليك.
ثم أرسل إلى إسماعيل بن عبد اللَّه بن أبي المهاجر، ودفع إليه الكتابين،
وقال: اذهب إلى أنس والحجاج، وابدأ بأنس، وقل له: أمير المؤمنين يسلم عليك
ويقول لك: قد كتبت إلى عبد بني ثقيف كتابا إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك،
واستعرض حوائجه، فركب إسماعيل البريد، فلما دفع الكتاب إلى الحجاج، جعل
يقرأه ويتمعّر وجهه، ويرشح عرقا، ويقول: يغفر اللَّه لأمير المؤمنين! ثم
قال: نمضي إلى أنس، فقال له: على رسلك، ثم مضي إلى أنس وقال له: يا أبا
حمزة، قد فعل أمير المؤمنين معك ما فعل، وهو يقرأ عليك السلام، ويستعرض
حوائجك.
فبكى أنس وقال: جزاه اللَّه خيرا، كان أعرف بحقي، وأبرّ بي من الحجاج. قال:
وقد عزم الحجاج على المجيء إليك، فإن رأيت أن تتفضل عليه فأنت أولى
بالتفضل.
فقام أنس ودخل إلى الحجاج إليه واعتنقه وأجلسه على سريره، وقال: يا أبا
حمزة، عجلت عليّ بالملامة، وأغضبت أمير المؤمنين، وأخذ يعتذر إليه ويقول:
قد علمت شعب أهل العراق، وما كان من ابنك مع ابن الجارود، ومن خروجك مع ابن
الأشعث، فأردت أن يعلموا أني أسرع اليهم بالعقوبة إذ قلت لمثلك ما قلت.
فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ مني الجهد، زعمت أننا الأشرار، واللَّه سمّانا
الأنصار، وزعمت أننا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّأنا الدار والإيمان،
واللَّه يحكم بيننا وبينك، وما وكلتك إلى أمير المؤمنين إلا حيث لم يكن لي
به قوة، ولا آوي إلى ركن شديد.
ودعا لعبد الملك وقال: إن رأيت خيرا حمدت، وإن رأيت شرّا صبرت، وباللَّه
استعنت.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، فأصلح اللَّه أمير المؤمنين وأبقاه،
ولا أعدمناه، وصلني الكتاب يذكر فيه شتمي وتعييري بما كان قبل نزول النعمة
بي من أمير المؤمنين، ويذكر استطالتي على أنس، جرأة مني على أمير المؤمنين،
وغرّة مني بمعرفة سطواته ونقماته، وأمير المؤمنين أعزّه اللَّه في قرابته
من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحقّ من أقالني عثرتي، وعفا عن
جريمتي، ولم يعجّل عقوبتي، ورأيه العالي في تفريج كربتي، وتسكين روعتي،
أقاله اللَّه العثرات: قد رأى إسماعيل بن أبي المهاجر خضوعي لأنس، وإعظامي
إيّاه.... واعتذر إليه اعتذارا كثيرا.
(1/28)
وقيل: بعث وله من العمر ثلاث وأربعون سنة،
وقيل: أربعون ويوم [ (1) ] ، وقيل: وعشرة أيام وقيل: وشهرين [ (2) ] ، وقال
ابن شهاب: بعث على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، فكان بين مبعثه وبين
الفيل سبعون سنة.
قال إبراهيم بن المنذر: هذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا، وذلك أن
__________
[ () ] ولما قدم الحجاج العراق أرسل إلى أنس فقال: يا أبا حمزة، إنك قد
صحبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورأيت من عمله وسيرته ومنهاجه،
فهذا خاتمي، فليكن في يدك، فأرى برأيك، ولا أعمل شيئا إلا بأمرك.
فقال له أنس: أنا شيخ كبير، قد ضعفت ورققت، وليس في اليوم ذاك. فقال: قد
علمت، لفلان وفلان، فأبالي أنا؟ فانظر إن كان في بنيك ممّن تثق بدينه
وأمانته وعقله! قال ما في بنيّ من أثق لك به! وكثر الكلام بينهما.
وقال الحجاج يوما من جملة كلام: لقد عبت فما تركت شيئا، ولولا خدمتك لرسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكتاب أمير المؤمنين لكان لي ولك شأن من
الشأن، فقال أنس: هيهات! إني لما خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
علمني كلمات لا يضرّني معهنّ عتوّ جبّار، فقال له الحجاج: يا عمّاه لو
علمتنيهنّ! فقال أنس: لست لذلك بأهل، فدسّ إليه الحجاج ابنه محمدا، ومعه
مائتي ألف درهم، ومات الحجاج قبل أن يظفر بالكلمات.
وقال أنس: دفنت من صلبي مائة ولد، وإنّ نخلي ليثمر في السنة مرتين، وعشت
حتى استحييت من أهلي وأنا أرجو الرابعة- المغفرة- لأن
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: اللَّهمّ أكثر ماله، وولده، وأطل عمره،
واغفر له ذنبه، وبارك له فيما أعطيته.
وقال ابن سعد: كان يصلي حتى تتفطّر رجلاه دما، وكان مجاب الدعوة، يدعو
فينزل الغيث، وكان إذا أراد أن يختم القرآن جمع أهله وعياله وولده، فيختم
بحضرتهم.
بلغ مائة وثلاث سنين، وتوفّي على الصحيح سنة ثلاث وتسعين للهجرة.
* مرآة الجنان: 1/ 182، البداية والنهاية: ص 131 من الفهارس (فهرس الوفيات)
، تهذيب التهذيب: 1/ 329- 331، الإصابة: 1/ 126- 129، خلاصة تذهيب الكمال:
1/ 105، شذرات الذهب: 1/ 100- 101، الثقات: 3/ 4، أسماء الصحابة الرواة:
39، تلقيح الفهوم: 363، تاريخ الصحابة: 28- 29، صفة الصفوة: 1/ 361- 362،
الإعلام بوفيات الأعلام: 51، الوافي بالوفيات: 9/ 411- 416، سير أعلام
النبلاء:
3/ 395- 406، طبقات ابن سعد: 7/ 17- 26، التاريخ الكبير: 2/ 27، التاريخ
الصغير:
1/ 209، المعارف: 308، الجرح والتعديل: 2/ 286، المستدرك: 3/ 573،
الاستيعاب:
1/ 109- 111، جامع الأصول: 9/ 88، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 127.
[ (1) ] في (خ) «ويوما» والرفع أصح للعطف على نائب الفاعل.
[ (2) ] في ابن هشام: نقلا عن ابن إسحاق «أربعين سنة» ج 1 ص 216 وفي
(البداية والنهاية) «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نزلت عليه
النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه
الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل،
فنزل القرآن على لسانه، (ج 3 ص 4) .
(1/29)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولد
عام الفيل لا يختلفون في ذلك، ونبّئ على رأس أربعين من الفيل، وذلك على رأس
مائة وخمسين سنة من عام حجة الغدر [ (1) ] ولستّ عشرة سنة من ملك أبرويز،
ويقال: بل لعشرين سنة مضت من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وعلى
الحيرة إياس بن قبيصة الطائي عاملا للفرس على العرب ومعه النخيرجان [ (2) ]
الفارسيّ على رأس سنتين وأربعة أشهر من ملكهما، وعلى اليمن يومئذ باذان [
(3) ] أبو مهران.
أول ما نزّل من القرآن
فعلم صلّى اللَّه عليه وسلّم من حينئذ أن اللَّه بعثه نبيا، وذلك أن جبريل
عليه السلام أتاه بغار حراء فقال له: اقرأ، قال: لست بقارئ، فغته [ (4) ]
حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله، فقال: اقرأ، قال: لست بقارئ، فعل ذلك به ثلاث
مرات ثم قال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ*
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ
الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [ (5) ] فرجع بها صلّى اللَّه عليه وسلّم
ترجف بوادره، فأخبر بذلك خديجة رضي اللَّه عنها وقال: قد خشيت على عقلي،
فثبتته وقالت:
أبشر! كلا واللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث،
وتحمل الكل [ (6) ] وتعين على نوائب الدهر- في أوصاف أخر جميلة عددتها من
أخلاقه- تصديقا منها له وإعانة على الحق، فهي أول صدّيق له صلّى اللَّه
عليه وسلّم.
وقيل: أول ما أنزل عليه من القرآن: البسملة وفاتحة الكتاب [ (7) ] وقيل: هي
مدنية. وقيل: لما فجأه الحق وأتاه جبريل قال له: يا محمد، أنت يا رسول
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ولم يرد لها ذكر في المراجع المعتمدة.
[ (2) ] في (خ) «الحرجان» .
[ (3) ] في (خ) «ساذام» وهو خطأ والصواب «باذان، أو باذام» (ط) ص 13 «هامش»
.
[ (4) ] في المعجم الوسيط
«فأخذني جبريل فغتني حتى بلغ مني الجهد» :
أي ضغطني ضغطا شديدا (ج 2 ص 644) .
[ (5) ] الآيات من (1- 5) من سورة العلق وهي
أول ما نزل من القرآن على الإطلاق.
[ (6) ] الكلّ: تقول: «وكلّ فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه»
(التفسير الكبير للفخر الرازيّ ج 20 ص 86) .
[ (7) ] ذكر الطبري في تفسيره « ... عن عطاء بن يسار، قال: أول سورة نزلت
من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ج 30 ص 252.
(1/30)
اللَّه [ (1) ] .
وقيل: أول ما أتى جبريل النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة السبت وليلة
الأحد، ثم ظهر له برسالة اللَّه يوم الاثنين لسبع عشر خلت من رمضان، فعلمه
الوضوء والصلاة، وعلمه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
فترة الوحي
والتحقيق أن جبريل عليه السلام لما جاءه بغار حراء وأقرأه اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ورجع إلى خديجة، مكث ما شاء اللَّه أن يمكث لا يرى
شيئا وفتر عنه [ (2) ] الوحي، فاغتم لذلك وذهب مرارا ليتردى من رءوس الجبال
شوقا منه إلى ما عاين أول مرة من حلاوة مشاهدة وحي اللَّه إليه. فقيل: إن
فترة الوحي كانت قريبا من سنتين، وقيل: كانت سنتين ونصفا، وفي تفسير عبد
اللَّه بن عباس كانت أربعين يوما، وفي كتاب معاني القرآن للزجاج كانت خمسة
عشر يوما، وفي تفسير مقاتل ثلاثة أيام، ورجّحه بعضهم وقال: ولعل هذا هو
الأشبه بحاله عند ربه [ (3) ] .
تتابع الوحي وبدء الدعوة
ثم تبدي له الملك بين السماء والأرض على كرسيّ، وثبته وبشره أنه رسول
اللَّه حقا، فلما رآه فرق منه،
وذهب إلى خديجة رضي اللَّه عنها فقال: «زمّلوني ...
دثّروني ... » ،
فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ*
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [ (4) ] فكانت الحالة الأولى
بغار حراء حالة نبوة وإيحاء، ثم أمره اللَّه تعالى في هذه الآية أن ينذر
قومه ويدعوهم إلى اللَّه عزّ وجلّ. فشمّر صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ساق
الاجتهاد، وقام في طاعة اللَّه أتم قيام، يدعو إلى اللَّه تعالى الصغير
والكبير،
__________
[ (1) ] هكذا في (خ) ولعلها «أنت رسول اللَّه» .
[ (2) ] في (خ) «عن عنه» والصحيح ما أثبتناه.
[ (3) ] في (تنوير المقياس من تفسير ابن عباس) ص 513: «حبس اللَّه عنه
الوحي خمس عشرة ليلة لتركه الاستثناء، فقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه» وفي
(البداية والنهاية) ج 3 ص 17 «وقد قال بعضهم:
كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصفا» .
وفي تفسير الطبري ج 3 ص 232: «لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياما
فعير بذلك، فقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه. فأنزل اللَّه: ما وَدَّعَكَ
رَبُّكَ وَما قَلى (3/ الضحى)
[ (4) ] 1- 4/ المدثر.
(1/31)
والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود
والأحمر، فكان فيما قاله عروة بن الزبير، ومحمد بن شهاب، ومحمد بن إسحاق:
من حين أتت النبوّة وأنزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [ (1) ] إلى أن
كلّفه اللَّه الدعوة، وأمره بإظهارها فيما أنزل عليه من قوله: فَاصْدَعْ
بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [ (2) ] وقوله: وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (3) ] ، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ [ (4) ]- ثلاث سنين، لا يظهر الدعوة إلا للمختصين به، منهم
خديجة وعلى وزيد وأبو بكر رضي اللَّه عنهم، فدعا ثلاث سنين مستخفيا، وقيل:
دعا مستخفيا أربع سنين ثم أعلن الدعاء وصدع بالأمر.
إسلام خديجة
ويقال: إن اللَّه ابتعثه نبيا في يوم الاثنين لثمان مضين من ربيع الأول سنة
إحدى وأربعين من عام الفيل، وقد مضى من مولده صلّى اللَّه عليه وسلّم
أربعون سنة ويوم.
ويقال: علّمه جبريل عليه السلام الوضوء والصلاة في يوم الثلاثاء وأقرأه
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (1) ] فأتى خديجة رضي اللَّه
عنها فأخبرها بما أكرمه اللَّه، وعلمها الوضوء والصلاة فصلت معه، فكانت أول
خلق صلى معه.
إسلام أبي بكر
ثم استجاب له عباد اللَّه من كل قبيلة، فكان حائز قصب السبق: «أبو بكر عبد
اللَّه بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن
كعب [ (5) ] بن غالب القرشي التيمي رضي اللَّه عنه» فآزره في دين اللَّه
وصدقه فيما جاء به، ودعا معه إلى اللَّه على بصيرة، فاستجاب لأبي بكر رضي
اللَّه عنه جماعة منهم:.
__________
[ (1) ] 1- 5/ العلق.
[ (2) ] 94/ الحجر.
[ (3) ] 214/ الشعراء.
[ (4) ] 89/ الحجر.
[ (5) ] ابن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة
(المعارف) ص 167.
(1/32)
أوائل المسلمين
«عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي [ (1)
] القرشي الأموي» ، و «طلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد
بن تيم بن مرة [ (2) ] القرشي التيمي» و «سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب [
(3) ] بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، و «الزبير بن العوام بن
خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي [ (4) ] الأسدي» ، و «عبد الرحمن ابن
عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث [ (5) ] بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري» :
فجاءهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى استجابوا له بالإسلام
وصلّوا، فصار المسلمون ثمانية نفر، أول من أسلم وصلى للَّه تعالى.
إسلام علي وزيد الحبّ
وأما «علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي» ، فلم يشرك
باللَّه قط، وذلك أن اللَّه تعالى أراد به الخير فجعله في كفالة ابن عمه
سيد المرسلين محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (6) ] ، فعند ما أتى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوحي، وأخبر خديجة رضي اللَّه عنها وصدقت،
كانت هي وعلي بن أبي طالب، و «زيد بن حارثة بن شراحيل ابن عبد العزى بن
امرئ القيس [ (7) ] بن عامر بن عبد ودّ بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد
اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة الكلبي» حب رسول
__________
[ (1) ] ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب (السهيليّ) ج 1 ص
288.
[ (2) ] ابن مرة بن كعب بن لؤيّ (السهيليّ) ج 1 ص 289.
[ (3) ] في بعض كتب السيرة: ابن «وهب» بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة
بن كعب بن لؤيّ.
الزيادة من (السهيليّ) ج 1 ص 288.
[ (4) ] ابن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر
بن كنانة (المعارف) ص 219.
[ (5) ] هكذا في (خ) وفي (المعارف) ابن عوف بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة
بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
ص 235.
[ (6) ] في (خ) بعد قوله و «سلم» كلمة «الوحي» وهي زيادة من الناسخ اقتضى
السياق حذفها.
[ (7) ] ابن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ودّ بن عوف بن
كنانة بن بكر بن عوف ابن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة
الكلبي (الإصابة) ج 1 ص 45 في ترجمة أسامة بن زيد.
إمتاع الأسماع ج 1- م 2
(1/33)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- يصلون معه.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى،
وكانت صلاة لا تنكرها [ (1) ] قريش. وكان إذا صلى في سائر اليوم بعد ذلك
قعد علي أو زيد رضي اللَّه عنهما يرصدانه.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب
فرادى ومثنى، وكانوا يصلون الضحى والعصر، ثم نزلت الصلوات الخمس، وكانت
الصلاة ركعتين ركعتين قبل الهجرة.
فلم يحتج عليّ رضي اللَّه عنه أن يدعى، ولا كان مشركا حتى يوحّد فيقال
أسلم، بل كان- عند ما أوحى اللَّه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم-
عمره ثماني سنين، وقيل: سبع سنين، وقيل: إحدى عشر سنة. وكان مع رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم في منزله بين أهله كأحد أولاده يتبعه في جميع
أحواله. وكان أبو بكر رضي اللَّه عنه أول من أسلم ممن له أهليّة الذبّ عن
رسول اللَّه والحماية والمناصرة.
هذا هو التحقيق في المسألة لمن أنصف وترك الهوى من الفريقين، وقد قال عمر
مولى غفرة [ (2) ] : سئل محمد بن كعب [القرظي] [ (3) ] عن أول من أسلم، على
بن أبي طالب أو أبو بكر؟ فقال: سبحان اللَّه! عليّ أولهما إسلاما، وإنما
اشتبه على الناس لأن عليا أول ما أسلم كان يخفي إسلامه من أبي طالب، وأسلم
أبو بكر فأظهر إسلامه، فكان أبو بكر أول من أظهر إسلامه، وكان علي أولهما
إسلاما، فاشتبه على الناس- وكذلك أسلمت خديجة وزيد بن حارثة [ (4) ] .
إسلام ورقة بن نوفل
ثم أسلم القسّ ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وصدّق بما وجد من
الوحي، وتمنى أن لو كان جذعا [ (5) ] ، وذلك أول ما نزل الوحي.
__________
[ (1) ] في (خ) لا ينكرها.
[ (2) ] في (تهذيب التهذيب) : عمر بن عبد اللَّه المدني مولى غفرة ج 7 ص
471 ترجمة رقم 783، وفي (خ) «عفرة» .
[ (3) ] محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي، زيادة من (تهذيب التهذيب) ج 9
ص 420 ترجمة رقم 689.
[ (4) ] راجع (الروض الأنف) ج 1 ص 284، 285 باب أول من أسلم، ونشأة علي بن
أبي طالب.
[ (5) ] الجذع من الرجال: الشاب الحدث. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 113.
(1/34)
إسلام الأرقم
ودخل من شرح اللَّه صدره للإسلام على بصيرة فأسلم الأرقم بن أبي الأرقم عبد
مناف [ (1) ] بن أسد بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم سابع سبعة [ (2) ] ،
وقيل: بعد عشرة [ (3) ] وفي داره كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مستخفيا
من قريش، وكانت على الصفا، فأسلم فيها جماعة كثيرة.
إيذاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكانت قريش لما بلغهم ما أكرم اللَّه به رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من
النبوة راعهم ذلك وكبر عليهم، ولم ينكروا عليه شيئا من أمره حتى عاب آلهتهم
وسفّه أحلامهم، وذمّ آباءهم وأخبر أنهم في النار، فأبغضوه عند ذلك وعادوه،
وتعرضوا لمن آمن به.
فأخذهم سفهاء أهل مكة بالأذى والعقوبة، وصان اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه
وسلّم بعمه أبي طالب، لأنه كان شريفا في قومه مطاعا فيهم، نبيلا بينهم، لا
يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما
يعلمون من محبته له، وكان من حكمة اللَّه تعالى بقاء أبي طالب على دين قومه
لما في ذلك من المصلحة.
إيذاء المسلمين
هذا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو إلى اللَّه ليلا ونهارا
وسرا وجهارا، لا يصده عن ذلك صادّ، ولا يرده عنه رادّ، ولا يأخذه في اللَّه
لومة لائم. واشتد أذى المشركين على من آمن، وفتنوا جماعة منهم، حتى إنهم
كانوا يضربونهم ويلقونهم في الحرّ، ويضعون الصخرة العظيمة على صدر أحدهم في
الحر، وكان أحدهم إذا أطلق لا يستطيع أن يجلس لشدة الألم. ويقولون لأحدهم
وهو يعذب في اللَّه: اللات إلهك من دون اللَّه؟ فيقول مكرها: نعم!، وحتى إن
الجعل ليمرّ فيقولون: وهذا إلهك من دون اللَّه؟ فيقول: نعم!.
ومرّ الخبيث أبو جهل: «عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن
__________
[ (1) ] في (خ) عبد مناة، والتصويب من (الإصابة) ج 1 ص 43.
[ (2) ] ذكره الحاكم في (المستدرك) ج 3 ص 52.
[ (3) ] (الإصابة) ج 1 ص 40 ترجمة رقم 73.
(1/35)
مخزوم بن يقظة بن مرة» بسميّة «أم عمار بن
ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين العبسيّ» وهي تعذب في
اللَّه هي وزوجها ياسر بن عامر، وابنها عمار بن ياسر فطعنها بحربة في فرجها
فقتلها [ (1) ] .
الذين أعتقهم أبو بكر من الموالي المعذبين
وكان أبو بكر رضي اللَّه عنه إذا مر بأحد الموالي وهو يعذب في اللَّه
اشتراه من مواليه وأعتقه للَّه، فمن هؤلاء: بلال وأمه حمامة [ (2) ] ،
وعامر بن فهيرة، وأم عبس، ويقال: أم عبيس فتاة بني تيم بن مرة، (وهي أم
عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف) ، وزنيرة (زنّيرة
بكسر الزاي وتشديد النون مع كسرها على وزن فعّيلة، وقيل: بفتح الزاي وسكون
النون ثم باء موحدة مفتوحة) ، وسمية بنت خبّاط [ (3) ] (بباء موحدة، قاله
ابن ماكولا) ، والنهدية وابنتها، وجارية لبني عدي كان عمر بن الخطاب رضي
اللَّه عنه يعذبها على الإسلام قبل أن يسلم.
حتى قال له أبوه أبو قحافة: يا بني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أعتقت قوما
جلدا يمنعونك! فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: إني أريد ما أريد [ (4) ]
فقال: نزلت فيه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ
يَتَزَكَّى [ (5) ] إلى آخر السورة.
همّ قريش بقتله عند البيت
هذا وقد اشتد مكر قريش برسول اللَّه وهموا بقتله، فعرضوا على قومه ديته حتى
يقتلوه، فحماه اللَّه برهطه من ذلك، فهموا أن يقتلوه في الزحمة [ (6) ]
بقول
__________
[ (1) ] ذكر ابن الجوزي أنها «أول شهيدة في الإسلام» (صفة الصفوة) ج 2 ص
60.
[ (2) ] في (خ) «حامة» والصحيح ما أثبتناه من (ابن هشام بشرح السهيليّ) ج 2
ص 67.
[ (3) ] في (خ) «خباءة» وهو خطأ.
[ (4) ] في ابن هشام «أريد ما أريد للَّه عز وجل» ج 2 ص 161.
[ (5) ] الآيتان 17- 18 من سورة الليل.
[ (6) ] كان يوم الزحمة قبل الهجرة بقليل، يقول ابن سيد الناس في كتاب
(عيون الأثر) ج 1 ص 177 باب ذكر يوم الزحمة نقلا عن ابن إسحاق «ولما رأت
قريش أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد كانت له شيعة وأصحاب من
غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد
نزلوا دارا وأصابوا منعة فحزروا خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصي بن
كلاب ... » .
(1/36)
قبائل قريش كلها، وأحاطوا به وهو يطوف
بالبيت ويصلى، حتى كادت أيديهم أن تخبط به أو تلتقي عليه، فصاح أبو بكر:
أتقتلون رجلا أن يقول ربى اللَّه وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟
فقال: دعهم يا أبا بكر، فو الّذي نفسي بيده، إني بعثت إليهم بالذبح،
فتفرجوا عنه. فكانت فتنة شديدة وزلزال شديد، فمن المسلمين من عصمه اللَّه
ومنهم من افتتن.
أول من جهر بالقرآن ومن رجع عن الإسلام
ويقال: أول من جهر بالقرآن عبد اللَّه بن مسعود فضرب. ورجع عن الإسلام خمسة
وهم: أبو قيس بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والعاص بن منبه
بن الحجاج، والحارث بن زمعة بن الأسود، والوليد بن الوليد بن المغيرة.
الهجرة الأولى إلى الحبشة
فلما اشتد البلاء أذن اللَّه لهم في الهجرة إلى الحبشة، فكان أول من خرج من
مكة فارا بدينه إلى الحبشة: عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتبعه الناس.
فخرج أحد عشر رجلا وأربع نسوة متسللين حتى انتهوا إلى الشعيبة [ (1) ] ،
منهم الراكب والماشي، فوفّق لهم ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما
إلى أرض الحبشة بنصف دينار. وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث
ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا، وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه: عن قبيصة
بن ذؤيب أن أبا سلمة ابن عمة رسول اللَّه أول من هاجر بظعينته [ (2) ] إلى
أرض الحبشة.
وقيل: أول من هاجر إلى أرض الحبشة أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ
بن نصر بن مالك، وذلك في رجب سنة خمس من المبعث، وهي السنة الثانية من
إظهار الدعوة، فأقاموا شعبان وشهر رمضان وبلغهم أن قريشا أسلمت، فعاد منهم
قوم وتخلف منهم قوم. فلما قدم الذين قدموا إلى مكة بلغهم
__________
[ (1) ] الشعيبة: مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز وهو كان مرفأ مكة ومرسى
سفنها قبل جدة.
(معجم البلدان ج 3 ص 351) .
[ (2) ] الظعينة: الراحلة يرتحل عليها. والهودج. والزوجة (المعجم الوسيط ج
2 ص 576) .
(1/37)
أن إسلام أهل مكة كان باطلا، فدخلوا مكة في
شوال سنة خمس من النبوة، وما منهم من أحد إلا بجوار أو مستخفيا.
وأقام المسلمون بمكة وهم في بلاء، فخرج جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه عنه
وجماعات- بلغ عددهم بمن خرج أولا اثنين وثلاثين- فآواهم أصحمة النجاشي ملك
الحبشة وأكرمهم.
بعثة قريش لإرجاع المسلمين من الحبشة
فلما علمت قريش بذلك بعثت في أثرهم عبد اللَّه بن أبي ربيعة عمرو بن
المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، وعمرو بن العاص، بهدايا وتحف إلى
النجاشي ليردهم عليهم فأبى ذلك، فشفعوا إليه بقواده فلم يجبهم إلى ما طلبوا
فوشوا إليه أن هؤلاء يقولون في عيسى عليه السلام قولا عظيما: يقولون إنه
عبد.
فأحضر المسلمين إلى مجلسه وزعيمهم جعفر فقال: ما تقولون في عيسى؟
فتلا عليه جعفر سورة كهيعص [ (1) ] فلما فرغ أخذ النجاشيّ عودا من الأرض
وقال: ما زاد هذا على ما في الإنجيل ولا هذا العود، ثم قال: اذهبوا فأنتم
شيوم [ (2) ] بأرضي من سبّكم غرّم، وقال لعمرو وعبد اللَّه: لو أعطيتموني
دبرا من ذهب (يعني جبلا من ذهب) ما سلمتهم إليكما. ثم أمر فردت عليهما
هداياهما ورجعا بشرّ خيبة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أول سورة مريم عليها السلام.
[ (2) ] شيوم: كلمة حبشية معناها آمنون.
[ (3) ] وقد أورد الحافظ أبو نعيم الأصبهاني هذا الخبر مفصلا في (دلائل
النبوة) ج 1 ص 243 حديث رقم (193) ، حيث قال:
حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا محمد بن عمر بن خالد الحراني قال: حدثنا
أبي قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن
عروة بن الزّبير في خروج جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة، قال:
فبعثت قريش في آثارهم عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص
السّهميّ، وأمروهما أن يسرعا السّير حتى يسبقاهم إلى النجاشيّ، ففعلا،
فقدما على النجاشيّ فدخلا عليه، فقالا له: إن هذا الرجل الّذي بين أظهرنا،
وأفسد فينا، تناولك ليفسد عليك دينك، وملكك وأهل سلطانك، ونحن لك ناصحون،
وأنت لنا عيبة صدق، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك فبعثنا
قومنا إليك لننذرك فساد ملكك، وهؤلاء نفر من أصحاب الرجل الّذي خرج فينا،
ونخبرك بما نعرف من خلافهم
(1/38)
__________
[ () ] الحق، أنهم لا يشهدون أن عيسى بن مريم إلها، ولا يسجدون لك إذا
دخلوا عليك، فادفعهم إلينا فلنكفيكهم.
فلما قدم جعفر وأصحابه، وهم على ذلك من الحديث، وعمرو وعمارة عند
النّجاشيّ، وجعفر وأصحابه على ذلك الحال، قال: فلما رأوا أن الرجلين قد
سبقا ودخلا، صاح جعفر على الباب يستأذن حزب اللَّه، فسمعها النجاشيّ، فأذن
لهم، فلما دخلوا وعمرو وعمارة عند النجاشيّ، قال: أيّكم صاح عند الباب؟
فقال جعفر: أنا هو، فأمره فعاد لها.
فلما دخلوا وسلّموا تسليم أهل الإيمان، ولم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص
وعمارة بن الوليد: ألم نبين لك خبر القوم، فلما سمع النجاشيّ ذلك أقبل
عليهم، فقال: أخبروني أيها الرّهط ما جاء بكم؟
وما شأنكم؟ ولم أتيتموني ولستم بتجار ولا سؤّال؟ وما نبيكم الّذي خرج؟
وأخبروني ما لكم؟ لم لا تحيّوني كما يحييني من أتاني من أهل بلدكم؟
وأخبروني ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فقام جعفر بن أبي طالب- وكان خطيب القوم- فقال: إنما كلامي ثلاث كلمات، إن
صدقت فصدقني، وإن كذبت فكذّبني، فأمر أحدا من هذين الرجلين فليتكلم ولينصت
الآخر، قال عمرو: أنا أتكلم، قال النجاشيّ: أنت يا جعفر فتكلم قبله.
فقال جعفر: إنما كلامي ثلاث كلمات، سل هذا الرجل أعبيد نحن أبقنا من
أربابنا؟ فقال النجاشيّ:
أعبيد هم يا عمرو؟ قال عمرو: بل أحرار كرام، قال جعفر: سل هذا الرجل هل
أهرقنا دما بغير حقّه؟
فادفعنا إلى أهل الدم. فقال: هل أهرقوا دما بغير حقه؟ فقال: ولا قطرة واحدة
من دم. ثم قال جعفر:
سل هذا الرجل أخذنا أموال الناس بالباطل؟ فعندنا قضاء؟ فقال النجاشيّ: يا
عمرو، إن كان على هؤلاء قنطار من ذهب فهو عليّ. فقال عمرو: ولا قيراط، فقال
النجاشي: ما تطالبونهم به؟ قال عمرو: فكنا نحن وهم على دين واحد، وأمر
واحد، فتركوه ولزمناه.
فقال النجاشيّ: ما هذا الّذي كنتم عليه فتركتموه وتبعتم غيره؟
فقال جعفر: أما الّذي كنا عليه فدين الشيطان، وأمر الشيطان، نكفر باللَّه
ونعبد الحجارة، وأما الّذي نحن عليه فدين اللَّه عزّ وجلّ، نخبرك أن اللَّه
بعث إلينا رسولا كما بعث إلى الذين من قبلنا، فأتانا بالصدق والبر، ونهانا
عن عبادة الأوثان، فصدّقناه وآمنا به واتبعناه، فلما فعلنا ذلك عادانا
قومنا، وأرادوا قتل النبي الصادق، وردّنا في عبادة الأوثان، ففررنا إليك
بديننا ودمائنا، ولو أقرّنا قومنا لاستقررنا، فذلك خبرنا.
وأما شأن التحية: فقد حيّيناك بتحية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
والّذي يحييّ به بعضنا بعضا،
أخبرنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن تحية أهل الجنة السلام
فحييناك بالسلام، وأما السجود، فمعاذ اللَّه أن نسجد إلا للَّه، وأن نعدلك
به.
وأما في شأن عيسى ابن مريم: فإن اللَّه عزّ وجلّ أنزل في كتابه على نبينا،
أنه رسول قد خلت من قبله الرسل، ولدته الصديقة العذراء البتول الحصان، وهو
روح اللَّه وكلمته ألقاها إلى مريم، وهذا شأن عيسى ابن مريم.
فلما سمع النجاشيّ قول جعفر أخذ بيده عودا، ثم قال لمن حوله: صدق هؤلاء
النفر، وصدق نبيّهم، واللَّه ما يزيد عيسى ابن مريم على ما يقول هذا الرجل
ولا وزن هذا العود، فقال لهم النجاشيّ: امكثوا فإنكم
(1/39)
وقد ذكر محمد بن إسحاق فيمن هاجر إلى
الحبشة أبا موسى الأشعري، وأنكر ذلك الواقدي وغيره. وهذا ظاهر لا يخفى على
من دون ابن إسحاق، فإن أبا موسى إنما هاجر من اليمن إلى الحبشة إلى عند
جعفر، كما ثبت في الصحيح وغيره. وقد قيل إن قريشا بعثت عمرو بن العاص وعبد
اللَّه بن أبي ربيعة بعد وقعة بدر، فلما
__________
[ () ] سيوم- والسيوم: الآمنون- قد منعكم اللَّه، وأمر لهم بما يصلحهم.
فقال النجاشيّ: أيّكم أدرس للكتاب الّذي أنزل على نبيكم؟ قالوا، جعفر، فقرأ
عليهم سورة مريم (عليها السلام) ، فلما سمعها عرف أنه الحق، وقال النجاشيّ:
زدنا من هذا الكلام الطيب، ثم قرأ عليه سورة أخرى، فلما سمعها عرف الحق،
وقال: صدقتم وصدق نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنتم واللَّه صدّيقون،
امكثوا على اسم اللَّه وبركته، آمنين ممنوعين، وألقى عليهم المحبّة من
النجاشيّ.
فلما رأى ذلك عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص سقط في أيديهما، وألقى اللَّه
بين عمرو وعمارة العداوة في مسيرهما قبل أن يقدما على النجاشيّ ليدركا
حاجتهما التي خرجا لها من طلب المسلمين، فلما أخطأهما ذلك، رجعا بشرّ ما
كانا عليه من العداوة وسوء ذات البين، فمكر عمرو بعمارة، فقال: يا عمارة،
إنك رجل جميل وسيم، فأت امرأة النجاشيّ فتحدّث عندها إذا خرج زوجها، تصيبها
فتعيننا على النجاشيّ، فإنك ترى ما وقعنا فيه من أمرنا، لعلنا نهلك هؤلاء
الرهط.
فلما رأى ذلك عمارة انطلق حتى أتى امرأة النجاشيّ، فجلس إليها يحدثها،
وخالف عمرو بن العاص إلى النجاشيّ فقال: إني لم أكن أخونك في شيء علمته إذ
أطلعت عليه، وإن صاحبي الّذي رأيت لا يتمالك عن الزنا إذا هو قدر عليه،
وإنه قد خالف إلى امرأتك، فأرسل النجاشيّ إلى امرأته، فإذا هو عندها، فلما
رأى ذلك أمر به فنفخ في إحليله سحر، ثم ألقى في جزيرة البحر فعاد وحشيا مع
الوحش، يرد ويصدر معها زمانا، حتى ذكر لعشيرته، فركب أخوه، فانطلق معه بنفر
من قومه، فرصدوه حتى إذا ورد أوثقوه فوضعوه في سفينة ليخرجوا به، فلما
فعلوا به ذلك مات، وأقبل عمرو إلى مكة قد أهلك اللَّه صاحبه، ومنع حاجته.
هذا الحديث مرسل، وفيه ابن لهيعة وهو صدوق، ولكنه خلط بعد احتراق كتبه،
ولكن أورده الهيثمي في (مجمع الزوائد) 6/ 27 بسياقة أخرى فيها تقديم وتأخير
وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرّح بالسماع،
وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 1/ 115، و (السيرة) 2/ 179- 180.
وفي هذا الحديث من الفقه: الخروج عن الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها،
إذا كان الخروج فرارا بالدين، وإن لم يكن إسلام، فإن الأحباش كانوا نصارى
يعبدون المسيح ولا يقولون: هو عبد اللَّه، وقد تبين ذلك في الحديث.
وسمّوا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى اللَّه عليهم بالسبق،
فقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وجاء في التفسير: أنهم الذين صلوا
القبلتين، وهاجروا الهجرتين.
وقد قيل أيضا: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، فانظرا كيف أثنى اللَّه عليهم
بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت اللَّه الحرام إلى دار كفر لما كان فعلهم
ذلك احتياطا على دينهم، ورجاء أن يخلي بينهم وبين عبادة ربهم، يذكرونه
آمنين مطمئنين.
(1/40)
سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ببعث قريش عمرا وابن أبي [ (1) ] ربيعة، بعث عمرو بن أمية الضمريّ وكتب معه
إلى النجاشي، فقرأ كتابه ثم دعا جعفر بن أبي طالب، فقرأ عليهم سورة مريم،
فآمنوا.
هذا قول سعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير. وقال أبو الأسود عن عروة:
إن بعثتهم عمرو بن العاص كانت عند خروج المهاجرين إلى الحبشة، وكان بين
خروج المهاجرين إلى الحبشة وبين وقعة بدر خمس سنين وأشهر. وقيل: كانت
بعثتهم عمرو بن العاص مرتين، مرة مع عمارة بن الوليد [ (2) ] ومرة مع عبد
اللَّه بن أبي ربيعة بن المغيرة، قاله أبو نعيم الحافظ.
أعداء رسول اللَّه من قريش
هذا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقيم بمكة يدعو إلى اللَّه،
وكفار قريش تظهر حسده وتبدي صفحتها في عداوته وأذاه، وتخاصم وتجادل وتردّ
من أراد الإسلام عنه.
وكان أشد قريش عداوة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جيرانه، وهم: أبو
جهل بن هشام بن المغيرة، وعمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، والأسود بن
عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو ابن خال رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم، والحارث بن قيس ابن عدي بن سعد بن سهم السهمي، والوليد بن
المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وأميّة وأبىّ ابنا خلف بن وهب بن
حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص ابن كعب بن لؤيّ، وأبو قيس بن الفاكه بن
المغيرة، والعاص بن وائل بن هاشم [ (3) ] ابن سعيد بن سهم السّهمي والد
عمرو بن العاص، والنّضر بن الحارث بن علقمة ابن كلدة بن عبد مناف بن عبد
الدار، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة ابن سعيد [ (4) ] بن سهم
بن عمرو بن هصيص، وزهير بن أبي أمية حذيفة بن المغيرة، وهو ابن عمة [ (5) ]
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والعاص بن سعيد العاص بن أمية، وعدّى
بن
__________
[ (1) ] في (خ) «ابن ربيعة» .
[ (2) ] في (ط) «بين الوليد» وهو خطأ.
[ (3) ] في (خ) «هشام» وهي رواية ابن إسحاق، وأوردها ابن حجر في (الإصابة)
«هاشم» في ترجمة عمرو بن العاص رقم 5877.
[ (4) ] في (خ) «وسعد» .
[ (5) ] عاتكة بنت عبد المطلب.
(1/41)
الحمراء الخزاعيّ، وأبو البختري العاص بن
هشام بن (الحارث) [ (1) ] بن أسد بن عبد العزى، وعقبة بن أبي معيط أبان بن
أبي عمرو بن أمية، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى، وابن الأصداء [
(2) ] الهذلي، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن
عبد مناف، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف، (وطعيمة بن عديّ) [ (3)
] أخو مطعم بن عديّ، والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف [ (4) ] ،
والحارث بن مالك (وقيل: عمرو، وهو ابن الطّلاطلة، وهي أمه) [ (5) ] ابن
عمرو بن الحارث (وهو غبشان) بن عبد عمر بن بوىّ بن ملكان [ (6) ] ، وركانة
بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب [ (7) ] ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي.
وكان الذين تنتهي إليهم عداوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أبو
جهل، وأبو لهب، وعقبة بن أبي (معيط) [ (8) ] . وكان أبو سفيان بن الحارث بن
عبد المطلب [ (9) ] ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة،
ذوي عداوة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، لكنهم لم يكونوا يفعلون كما فعل
هؤلاء، فلما أسلم حمزة بن عبد المطلب، عرفت قريش أن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم قد عزّ، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون
منه.
__________
[ (1) ] ما بين القوسين زيادة من ابن هشام ج 2 ص 5 «أبو البختري بن هاشم بن
الحارث بن أسد» .
وفي ابن سعد ج 1 ص 210 «أبو البختري بن هاشم» وفي (خ) «أبو البختري العاص
بن هشام» .
[ (2) ] هكذا في ابن سعد ج 3 ص 9 «ابن الأصداء الهذلي» وفي المرجع السابق ج
1 ص 201 «ابن الأصدى الهذلي» . وهو الّذي نطحته الأروى.
[ (3) ] زيادة من (ط) وهو من أصحاب يوم الزحمة.
[ (4) ] في (خ) العبارة من قوله «أخو عدي ... إلى عبد مناف» تكرار من
الناسخ.
[ (5) ] في (خ) : «وقيل عمرو بن الطلاطلة بن عمرو» والصواب ما أثبتناه.
[ (6) ] وفي ابن سعد ج 6 ص 228 «اسمه الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن
مضر» .
[ (7) ] في (خ) «ابن عبد المطلب» .
[ (8) ] سقط في (خ) وصوابه من ابن سعد ج 1 ص 165، 201، 202، 211، 228، ج 2
ص 13، 23 وغير ذلك.
[ (9) ] ابن عم النبي وأخوه من الرضاعة، وفي طبقات ابن سعد ج 1 ص 271 (أبو
سفيان بن حرب) .
وذكر ابن سيد الناس في «عيون الأثر» ج 1 ص 110 «وكان المجاهرون بالظلم
لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولكل من آمن به من بني هاشم: عمه أبا
لهب وابن عمه أبا سفيان بن الحارث، ومن بني عبد شمس:
عتبة وشيبة ابنا ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأبا سفيان بن حرب وابنه حنظلة
... » .
(1/42)
إسلام عمر بن الخطاب
وأسلم عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رباح بن عبد اللَّه بن قرط
ابن رزاح بن عديّ بن كعب القرشي العدوي رضي اللَّه عنه، ويقال: إنه أسلم
بعد تسعة وأربعين رجلا وثلاث وعشرين امرأة، وقيل: أسلم بعد أربعين رجلا
وإحدى عشرة امرأة، وقيل: أسلم بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى وعشرين امرأة،
وقيل: أسلم بعد ثلاثة وثلاثين رجلا، وكان إسلامه بعد هجرة الحبشة، وكان
المسلمون لا يقدرون يصلون عند الكعبة.
عزّ الإسلام بعمر وحمزة
فلما أسلم عمر رضي اللَّه عنه قاتل قريشا حتى صلى عندها، وصلى معه
المسلمون، وقد قووا بإسلامه وإسلام حمزة رضي اللَّه عنهما، وجهروا بالقرآن
ولم يكونوا قبل ذلك يقدرون أن يجهروا به، ففشا الإسلام وكثر المسلمون.
أمر الصحيفة
وبلغ أهل مكة فعل النجاشي بالقادمين عليه وإكرامهم، فساء ذلك قريشا
وائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون فيه ألا يناكحوا بني هاشم وبني
المطلب ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم محمدا صلّى
اللَّه عليه وسلّم.
وكتبوا بذلك صحيفة وختموا عليها ثلاثة خواتيم، وعلقوها في سقف الكعبة.
وقيل: بل كانت عند أمّ الجلاس مخرّبة [ (1) ] الحنظلية خالة أبي جهل، ذكره
ابن سعد [ (2) ] ، وعند ابن عقبة: كانت عند هشام بن عبد العزى. فيقال:
كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هشام عبد مناف، ويقال: النّضر بن الحارث،
ويقال: بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ، فدعا عليه
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فشلت يده.
__________
[ (1) ] في (خ) «محرمة» وهو خطأ والتصويب من (ابن سعد) .
[ (2) ] (الطبقات الكبرى) ج 1 ص 209.
(1/43)
انحياز بني هاشم
وبني المطلب إلى شعب أبي طالب
وانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم ليلة هلال المحرم سنة سبع من
النبوة- إلا أبا لهب وولده. فإنّهم ظاهروا قريشا على بني هاشم- فصاروا في
شعب أبي طالب محصورين مضيقا عليهم أشد التضييق نحوا من ثلاث سنين، وقد
قطعوا عنهم الميرة [ (1) ] والمادة فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم
حتى بلغهم الجهد، وكان حكيم بن حزام [ (2) ] بن خويلد بن أسد بن عبد العزى
بن قصي تأتيه العير تحمل الحنطة من الشام فيقبلها [ (3) ] الشّعب ثم يضرب
أعجازها فتدخل عليهم فيأخذون ما عليها من الحنطة.
الهجرة الثانية إلى الحبشة
ثم هاجر المسلمون ثانيا إلى أرض الحبشة وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا- إن كان
عمار بن ياسر فيهم-[ (4) ] وثماني عشرة امرأة.
نقض الصحيفة
ثم سعى في نقض الصحيفة أقوام من قريش. وكان أحسنهم في ذلك بلاء هشام ابن
عمرو (بن ربيعة) [ (5) ] بن الحارث بن حبيّب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن
عامر بن لؤيّ، مشى في ذلك إلى زهير بن أبي أمية، وإلى مطعم بن عدي بن نوفل
بن عبد مناف، وإلى أبي البحتري بن هشام، وإلى زمعة بن الأسود بن المطلب ابن
أسد، وكان سهل بن بيضاء [ (6) ] الفهري هو الّذي مشى إليهم حتى اجتمعوا
__________
[ (1) ] الميرة: ما يجلب من الطعام.
[ (2) ] ابن أخي خديجة رضي اللَّه عنها.
[ (3) ] أي يجعل وجوهها قبالة الشعب لتسلكه.
[ (4) ] ذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب) : «أنه هاجر إلى أرض الحبشة وصلى
القبلتين وهو من المهاجرين الأولين» ج 8 ص 226.
[ (5) ] في (الإصابة) «ابن ربيعة بن الحارث بن حنيّف» ج 10 ص 250 وفي (خ) ،
(ط) (ابن حبيّب) .
[ (6) ] ذكره ابن حجر في (الإصابة) برقم 3513 ج 4 ص 269 وابن عبد البر في
الاستيعاب برقم 1080 ج 4 ص 270.
(1/44)
عليه، واتّعدوا [ (1) ] خطم الحجون [ (2) ]
بأعلى مكة، وتعاهدوا هناك على القيام في نقض الصحيفة، وما زالوا حتى شقوها،
فإذا الأرضة قد أكلتها إلا ما كان من «باسمك اللَّهمّ» . وكان رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أخبر عمه أبا طالب بأن اللَّه قد أرسل على
الصحيفة الأرضة فأكلت جميع ما فيها إلا ذكر اللَّه تعالى.
وعن موسى بن عقبة عن الزّهري أن النبي قال لعمه: إن الأرضة لم تترك اسما
للَّه إلا لحسته، وبقي فيها ما كان من (جور) [ (3) ] أو ظلم أو قطيعة رحم.
فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه من الشعب كان له من
العمر تسع وأربعون سنة، وكان خروجهم في السنة العاشرة، وقيل: مكثوا في
الشعب سنتين، ويقال: إن رجوع من كان مهاجرا بالحبشة إلى مكة كان بعد الخروج
من الشعب.
موت خديجة وأبي طالب (عام الحزن)
ومات عقيب ذلك أبو طالب وخديجة، فمات أبو طالب أوّل ذي القعدة، وقيل: في
نصف شوال، ولرسول اللَّه من العمر تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر
يوما، وماتت خديجة رضي اللَّه عنها قبله بخمسة وثلاثين يوما، وقيل:
كان بينهما خمسة وخمسون يوما، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: كان موتهما بعد
الخروج من الشّعب بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوما،
فعظمت المصيبة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بموتهما وسمّاه «عام
الحزن» وقال: ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب،
لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه- حاميا له ولا ذابا عنه- (غير أبي طالب) [
(4) ] .
خروجه إلى الطائف
فخرج ومعه زيد بن حارثة إلى الطائف في شوال سنة عشر من النبوة يلتمس من
ثقيف النصر لأنهم كانوا أخواله، فكلّم سادتهم، وهم: عبد ياليل ومسعود
__________
[ (1) ] في (خ) (وأبعدوا) ، (اتعدوا) : تواعدوا.
[ (2) ] الحجون: جبل بأعلى مكة عنده أهلها، وقال السكري: مكان من البيت على
ميل ونصف. (معجم البلدان) ج 2 ص 225.
[ (3) ] مكان هذه الكلمة بياض بالأصل (خ) وما أثبتناه يتمم المعنى.
[ (4) ] زيادة يتم بها المعنى.
(1/45)
وحبيب بنو عمر بن عمير، ودعاهم إلى نصره
والقيام معه على من خالفه. فردّوا عليه ردا قبيحا، وأغروا به سفاءهم،
فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى إن رجلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
لتدميان، وزيد يقيه بنفسه حتى لقد شجّ في رأسه شجاجا، فرجع عنهم يريد مكة،
حتى إذا كان بنخلة [ (1) ] قام يصلي من جوف الليل.
إسلام النفر من جنّ نصيبين
فمر به من جن نصيبين اليمن سبعة نفر فاستمعوا إليه (وهو يقرأ القرآن ثم
ولّوا- بعد فراغه من صلاته) [ (2) ]- إلى قومهم منذرين، قد آمنوا فأجابوا.
إقامته بنخلة
وأقام بخلة أياما،
فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم مكة وهم أخرجوك؟ فقال: يا زيد، إن
اللَّه جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن اللَّه ناصر دينه ومظهر نبيه.
ويقال: كان إيمان الجن برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وله من العمر
خمسون سنة وثلاثة أشهر، وذكر ابن إسحاق أن إسلام الجن قبل الهجرة بثلاث
سنين.
عودته إلى مكة في جوار المطعم بن عديّ
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما عاد من الطائف وانتهى
إلى حراء بعث رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه
فأجاره.
إسلام الطفيل الدوسيّ ذي النور
ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة فأقام بها وجعل يدعو إلى
اللَّه، فأسلم (الطفيل) [ (3) ] بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم
[ (4) ] بن فهم الدوسيّ، ودعا له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن
يجعل اللَّه له آية، فجعل اللَّه له في وجهه
__________
[ (1) ] واد بمكة (معجم البلدان ج 5 ص 277) .
[ (2) ] في (خ) «فاستمعوا إليه بعد فراغه من صلواتهم إلى قومهم» والصواب ما
أثبتناه، راجع (تفسير الطبري) ج 26 ص 30 (عند تفسير سورة الأحقاف الآية 29)
.
[ (3) ] بياض بالأصل (خ) .
[ (4) ] في (خ) «سالم» والتصويب من (الاستيعاب) رقم 1274 ج 5 ص 220.
(1/46)
نورا، فقال: يا رسول اللَّه، أخشى أن
يقولوا هذا مثلة، فدعا له فصار النور في سوطه، فهو المعروف بذي النور.
إسلام بيوت من دوس
ودعا الطفيل قومه دوسا إلى اللَّه، فأسلم بعضهم، وأقام في بلاده حتى قدم
على) [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد فتح خيبر في نحو
ثمانين بيتا.
الإسراء والمعراج وفرض الصلوات
(ثم أسري) [ (2) ] برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بجسده- على الصحيح
من قول صحابة- من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا البراق صحبة جبريل
عليه سلام، فنزل ثم (أمّ) [ (3) ] بالأنبياء عليهم السلام ببيت المقدس فصلى
بهم. ثم عرج تلك الليلة من هناك إلى السموات السبع ورأى بها الأنبياء على
منازلهم، ثم عرج إلى سدرة المنتهى ورأى جبريل عليه السلام على الصورة التي
خلقه اللَّه بها، وفرضت) [ (4) ] عليه الصلوات الخمس تلك الليلة.
وكان الإسراء في قول محمد بن شهاب الزّهري قبل الهجرة بثلاث سنين، قيل:
بسنة واحدة، وقيل: وله من العمر إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر، قيل: كان
الإسراء بين بيعتي الأنصار في العقبة، وقيل: كان بعد المبعث بخمسة عشر
شهرا، وقال الحربي: كان ليلة سبعة وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة.
وعورض من قال: إنه كان قبل الهجرة بسنة، بأن خديجة صلت معه بلا خلاف، وماتت
قبل الهجرة بثلاث سنين، والصلاة إنما فرضت ليلة الإسراء، وأجيب بأن صلاة
خديجة كانت غير المكتوبة، بدليل حديث مسلم [ (5) ] أنه صلى ببيت المقدس
ركعتين قبل أن يعرج إلى السماء، فتبين أن الصلاة كانت مشروعة
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها التصويب. انظر ابن هشام ج 2 ص 24.
[ (2) ] بياض في (خ) والتكملة من (ط) .
[ (3) ] بياض في (خ) ، وما أثبتناه من (ط) ، وانظر (ابن هشام) ج 2 ص 33
«رواية الحسن لحديث الإسراء» .
[ (4) ] بياض في (خ) وانظر (ابن هشام) ج 2 ص 39 و (مسلم بشرح النووي) ج 2 ص
238.
[ (5) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) ج 2 ص 209 باب الإسراء وفرض الصلوات.
(1/47)
في الجملة، كما كان قيام الليل واجبا قبل
الإسراء بلا خلاف، وفي رواية عن الزهري: كان بعد المبعث.
ومما يقوي قول الحربي أنه عين الليلة من الشهر من السنة، فإذا تعارض خبران
أحدهما فصّل القصة والآخر أجملها، ترجحت رواية من فصّل بأنه أوعى لها.
وقال ابن إسحاق: أسري برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد فشا الإسلام
بمكة والقبائل، ويقال كان ليلة السبت لسبع عشر خلت من رمضان، قبل الهجرة
بثمانية عشر شهرا، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم نائم في بيته ظهرا. وقيل:
كان ليلة سبع عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة من شعب أبي طالب، وكانت سنّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم حين الإسراء اثنتين وخمسين سنة [ (1) ] .
وقيل- وقد حكي عن حذيفة وعائشة ومعاوية رضي اللَّه عنهم-: إن الإسراء كان
بروحه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: كان بجسده إلى بيت المقدس، ومن هناك
إلى السموات بروحه. وقيل: أسري به وهو نائم في الحجر، وقيل: كان في بيت أم
هانئ بنت أبي طالب، وفرضت الصلوات الخمس ركعتين ركعتين، وإنما كانت قبل
الإسراء صلاة بالعشي، ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين ركعتين.
فلم يرع برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس
من صبيحة ليلة الإسراء فصلى به الظهر، ولهذا سميت الأولى، ثم صلى بقية
الخمس في أوقاتها فصارت بعد الإسراء خمسا ركعتين ركعتين حتى أتمت أربعا بعد
الهجرة إلى المدينة بشهر. وقد اختلف أهل العلم: هل رأى محمد صلّى اللَّه
عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء أم لا؟ فلما أصبح صلّى اللَّه عليه وسلّم في
قومه بمكة أخبرهم بما أراه اللَّه عز وجل من آياته، فاشتد تكذيبهم له
وأذاهم إياه واستضراؤهم عليه، وارتدّ جماعة ممن كان أسلم وسألوه أمارة،
فأخبرهم بقدوم عير يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت
الشمس أن تغرب، فدعا اللَّه فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف، قال ابن إسحاق:
ولم تحبس الشمس إلا له ذلك اليوم وليوشع بن نون.
__________
[ (1) ] ذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة) ج 1 ص 108: «فلما أتت له إحدى
وخمسون سنة وتسعة أشهر أسري به» .
(1/48)
عرض نفسه على
القبائل
(ثم عرض) [ (1) ] نفسه على القبائل أيام الموسم ودعاهم إلى الإسلام، وهم:
بنو عامر، وغسّان، وبنو فزارة، وبنو مرّة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو
عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو
عذرة، وقيس بن الخطيم [ (2) ] ، وأبو الحيسر أنس بن أبي رافع [ (3) ] . وقد
اقتص الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة، ويقال:
إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدأ بكندة فدعاهم إلى الإسلام، ثم أتى كلبا، ثم
بني حنيفة، ثم بني عامر، وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى
أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟
هذا، وعمه أبو لهب وراءه يقول للناس: لا تسمعوا منه فإنه كذّاب! وكان أحياء
العرب يتحامونه لما يسمعون من قريش فيه: إنه كاذب، إنه ساحر، إنه كاهن، إنه
شاعر!! أكاذيب يقترفونه بها حسدا من عند أنفسهم وبغيا، فيصغي إليهم من لا
تمييز له من أحياء العرب. وأما الألباء فإنّهم إذا سمعوا كلامه صلّى اللَّه
عليه وسلّم وتفهّموه شهدوا بأن ما يقوله حقّ وصدق، وأن قومه يفترون عليه
الكذب، فيسلمون.
أول أمر الأنصار
وكان مما صنع اللَّه للأنصار- وهم الأوس والخزرج- أنهم كانوا يسمعون من
حلفائهم بني قريظة والنّضير- يهود المدينة- أن نبيا مبعوث في هذا الزمان،
ويتوعّدون الأوس والخزرج به إذا حاربوا فيقولون: إنا سنقتلكم معه قتل عاد
وإرم.
وكانت الأنصار- وهم الأوس والخزرج- تحج البيت فيمن يحجه من العرب، فلما
رأوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو الناس إلى اللَّه رأوا
أمارات الصدق عليه لائحة، فقالوا: واللَّه هذا الّذي توعّدكم يهود به فلا
تسبقنكم إليه.
__________
[ (1) ] بياض في (خ) ، والتكملة من ابن هشام ج 2 ص 50.
[ (2) ] في (خ) : الحطيم، والتصويب من ابن سعد ج 8 ص 150.
[ (3) ] في ابن هشام ج 2 ص 54: «أبو الحيسر أنس بن رافع» .
(1/49)
سويد بن الصامت
وكان سويد بن الصامت [ (1) ] بن خالد بن عطية بن حبيب بن عمرو بن عوف بن
مالك بن الأوس الأوسي، وهو ابن خالة عبد المطلب بن هاشم: أمه ليلى بنت عمرو
من بني عديّ بن النجار، وهي خالة عبد المطلب بن هاشم، قد قدم مكة فدعاه
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقرأ عليه القرآن، فلم يبعد منه ولم
يجب، ثم قدم إلى المدينة فقتل في بعض حروبهم يوم بعاث [ (2) ] .
إسلام إياس بن معاذ
ثم قدم أبو الحيسر أنس، وقيل: بشر بن رافع «مكة» في فتية من قومه بني عبد
الأشهل يطلبون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فأتاهم رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم ودعاهم إلى الإسلام، فقال منهم إياس بن معاذ- وكان شابا
حدثا-:
يا قوم واللَّه خير مما جئنا له، فضرب أبو الحيسر وجهه وانتهره فسكت. وقام
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وانصرف القوم إلى المدينة ولم يتمّ
لهم حلف، فمات إياس مسلما فيما يقال [ (3) ] .
أصحاب العقبة الأولى
ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقي عند العقبة من منى في الموسم
ستة نفر، كلهم من الخزرج، وهم يحلقون رءوسهم، فجلس إليهم فدعاهم إلى اللَّه
وقرأ عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: إنه النبي الّذي توعدكم [ (4) ] به
يهود فلا تسبقنّكم إليه، فاستجابوا للَّه ولرسوله وآمنوا وصدّقوا، وهم: أبو
أمامة أسعد بن زرارة بن
__________
[ (1) ] في ابن هشام ج 2 ص 52 «ابن صامت» . وفي الإصابة ج 5 ص 41 «ابن
الصامت» وهو لم يعدّ من الصحابة لأنه لم يلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
مؤمنا.
[ (2) ] في (خ) «بغاث» وهو تصحيف، ويوم بعاث: بين الأوس والخزرج في
الجاهلية (ابن سعد) ج 1 ص 219، (أيام العرب في الجاهلية) : ص 73- 84.
[ (3) ] في (الاستيعاب) ج 1 ص 235: «فأخبرني من حضر عند موته أنهم لم
يزالوا يسمعونه يهلل للَّه ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون
أنه مات مسلما، و (ابن هشام) ج 2 ص 54.
[ (4) ] في (خ) «يوعدكم» وما أثبتناه من (ابن هشام) ج 2 ص 55.
(1/50)
عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن
النجار، وعوف بن الحارث بن رفاعة ابن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم (ويقال
له: عوف بن عفراء) ، ورافع ابن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق،
وقطبة بن عامر بن حديدة (ويقال: قطبة بن عمرو بن حديدة) بن عمرو بن سواد بن
غنم بن كعب بن سلمة بن الخزرج، وعقبة بن عامر بن نابي [ (1) ] بن حرام،
وجابر بن عبد اللَّه رياب [ (2) ] بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عديّ بن
غنم بن كعب بن سلمة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا مبادرة إلى الخير.
إسلام الأنصار
ثم رجعوا إلى قومهم بالمدينة فذكروا لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، ودعوهم إلى الإسلام، ففشا فيهم، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا
وفيها ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
أمر العقبة الثانية
فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر- منهم تسعة من
الخزرج، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان،
وقطبة بن عامر، ومعاذ بن الحارث بن رفاعة (أخو عوف بن عفراء) ، وذكوان بن
عبد القيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وعبادة بن الصامت ابن قيس بن
أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج،
ويزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة (ويقال:
يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة من بني فران (بن بلي) [
(3) ] ابن عمرو بن الحاف بن قضاعة وكنيته أبو عبد الرحمن- وثلاثة من الأوس،
وهم:
أبو الهيثم مالك بن التيهان بن مالك بن عبيد بن عمرو بن عبد الأعلم (وكان
يقال
__________
[ (1) ] في (خ) : «ابن ثابي» والتصويب من (ط) وفي ابن هشام: «عقبة بن عامر
بن نابي بن زيد بن حرام» ج 2 ص 57.
[ (2) ] في (خ) «رباب» وفي (ط) «رئاب» وما أثبتناه من (الاستيعاب) ج 2 ص
108.
[ (3) ] في (خ) ما بين القوسين «من بني» وفي (ط) «بن بليّ» وما أثبتناه من
(الاستيعاب) ج 11 ص 64.
(1/51)
لأبي الهيثم: ذو السيفين من أجل أنه كان
يتقلد بسيفين في الحرب) ، وعويم بن ساعدة بن عائش بن قيس بن النعمان بن زيد
بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف ابن عمرو بن عوف، والبراء بن معرور [ (1) ]
بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد ابن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة- فأسلموا.
بيعة العقبة الثانية
وقد كان معه صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ أبو بكر وعلي رضي اللَّه عنهما،
فبايعوه عند العقبة على الإسلام كبيعة النساء [ (2) ] ، وذلك قبل أن يؤمر
بالقتال فبعث معهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مصعب بن عمير بن
هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدريّ [ (3) ] ، ويقال:
وعبد اللَّه بن أم مكتوم، ليعلّما من أسلم القرآن ويدعوا [ (4) ] إلى
اللَّه.
إسلام بني عبد الأشهل
فنزلا بالمدينة على أبي أمامة أسعد بن زرارة فخرج بهما إلى دار بني ظفر،
واجتمع عليهما رجال ممن أسلم، فأتاهم أسيد بن حضير الكتائب بن سماك بن عتيك
بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن
عمرو بن مالك بن الأوس، وسعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ابن زيد بن
عبد الأشهل، وهما سيّدا بني عبد الأشهل. فدعاهما مصعب إلى الإسلام فهداهما
اللَّه وأسلما، ودعيا قومهما إلى اللَّه، فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل
ولا امرأة إلا وقد أسلموا- إلا الأصيرم عمرو بن ثابت بن وقش- فإنه تأخر
إسلامه إلى يوم أحد.
أول المهاجرين بالمدينة
ويقال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، ثم أتى بعده عمرو
__________
[ (1) ] في (خ) «بن معر» وما أثبتناه من (ابن هشام) ج 2 ص 61.
[ (2) ] بيعة النساء في الآية 12 من سورة الممتحنة.
[ (3) ] في (خ) «العبديّ» وفي (الإصابة) ج 9 ص 208 ترجمة رقم 7996 «ابن قصي
بن كلاب العبدري» نسبة إلى عبد الدار.
[ (4) ] في (خ) «ليعلمان، ويدعوان» وهو خطأ من الناسخ، وما أثبتناه حق
اللغة.
(1/52)
ابن أم مكتوم [ (1) ] . ولم يزل مصعب بن
عمير يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها عدّة
مسلمون- إلا بني أمية بن زيد (وخطمة) ووائل وواقف، فإنّهم تأخر إسلامهم.
أول من جمّع بالمسلمين
وكان مصعب يؤمّ بمن أسلم، وجمع بهم يوما وهم أربعون نفسا في هزم حرة نقيع
الخضمات [ (2) ] ، وبهذا جزم أبو محمد بن حزم.
وعند ابن إسحاق: أن أول من جمع بهم أسعد بن زرارة، ثم عاد إلى مكة وأخبر
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمن أسلم، فسرّه ذلك.
بيعة العقبة الأخيرة
ثم كانت بيعة العقبة ثانيا وقد وافى الموسم خلق من الأنصار ما بين مشرك
ومسلم، وزعيمهم البراء بن معرور. فتسلل منهم جماعة مستخفين لا يشعر بهم
أحد، واجتمعوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذي الحجة وواعدوه
أوسط أيام التشريق بالعقبة وهم ثلاثة وسبعون [ (3) ] رجلا وامرأتان هما: أم
عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو [ (4) ] وأسماء بنت عمر بن عدي بن نابي.
وجاءهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه عمه العباس، وهو على دين
قومه، وأبو بكر وعليّ رضي اللَّه عنهما، فأوقف العباس عليا على فم الشّعب
عينا له، وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا له، وتكلم العباس أولا
يتوثق لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [فقال: يا معشر الخزرج، إن
محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو
في عز ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز
__________
[ (1) ] عبد اللَّه بن أم مكتوم، وعمرو بن أم مكتوم: اسمان لشخص واحد، يقول
ابن حجر في «الإصابة» ج 7 ص 83 «وقال ابن سعد: أهل المدينة يقولون: اسمه
عبد اللَّه، وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو، واتفقوا على نسبه» .
[ (2) ] في (خ) «بقيع الخضمات» ، والتصويب من (ابن هشام) ج 2 ص 58.
[ (3) ] «وقال ابن إسحاق: إنما شهدها سبعون رجلا وامرأتان» (تلقيح فهوم أهل
الأثر) ص 423.
[ (4) ] في المرجع السابق «أم أبان نسيبة بنت كعب» وفي (خ) «نسيبة بنت عمرو
بن كعب» ، وفي (ابن هشام) ج 2 ص 63 «أم عمارة» .
(1/53)
إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم
مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من
قومه وبلده. قالت الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول اللَّه فخذ
لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلا] [
(1) ] القرآن ورغبهم في الإسلام، وشرط عليهم أن يمنعوه مما يمنعون منه
نساءهم. فأخذ البراء بن معرور بيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقال: والّذي بعثك لنمنعك مما نمنع منه أزرنا [ (2) ] ، فبايعنا يا رسول
اللَّه، فنحن واللَّه أهل الحرب. فاعترض الكلام أبو الهيثم بن تيهان فقال:
يا رسول اللَّه إننا بيننا وبنى الناس حبالا وإنا قاطعوها، فهل عسيت [ (3)
] إن أظهرك اللَّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسم صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: أنتم مني وأنا منكم، أسالم من سالمتم،
وأحارب من حاربتم، في كلام آخر.
وتكلم العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم
ابن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، فأحسن ما شاء في شد العقد لرسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: ابسط يدك. فبايعوه.
أول من بايع
وكان أوّلهم مبايعة أبو أمامة أسعد بن زرارة، وقيل: أو الهيثم بن التّيهان،
وقيل: البراء بن معرور، وقيل: إن العباس بن عبد المطلب هو الّذي كان يأخذ
عليهم البيعة. وكانت بيعتهم على أن يمنعوه صلّى اللَّه عليه وسلّم مما
يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم [ (4) ] .
أمر النقباء الاثني عشر
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم اثنى عشر نقيبا هم: أسعد بن زرارة، وسعد
بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الأغرّ [ (5)
] ، (وعبد اللَّه بن رواحة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن امرئ القيس
بن مالك بن ثعلبة
__________
[ (1) ] هذه التكملة ساقطة من (خ) وأكملناها من ابن هشام ج 2 ص 63.
[ (2) ] الأزر: جمع إزار وهو الثوب، كناية عن النساء كالفراش، وقد تكون
كناية عن الأنفس.
[ (3) ] يريدون بها الشك، ورجاء أن لا يكون ذلك.
[ (4) ] الأزر هنا: كناية عن الأنفس.
[ (5) ] في (خ) «الأعز» والتصويب من (ابن هشام) ج 2 ص 65.
(1/54)
ابن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج) [
(1) ] ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد اللَّه بن عمرو بن
حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة [ (2) ] (وهو والد
جابر بن عبد اللَّه وقد أسلم ليلتئذ) ، وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن
أبي سلمة (ويقال ابن أبي حزيمة) بن ثعلبة ابن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن
كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خنيس ابن حارثة بن لوازن بن عبد ودّ بن
زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن الخزرج، وعبادة بن الصامت،
فهؤلاء تسعة من الخزرج. ومن الأوس ثلاثة:
أسيد بن الحضير، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط [ (3) ]
ابن كعب بن حارثة بن غنم بن السّلم [ (4) ] بن امرئ القيس بن مالك بن
الأوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير [ (5) ] بن زيد بن أمية بن زيد بن
مالك بن عوف ابن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس (وهو أبو لبابة، وقيل اسمه
مبشر [ (6) ] بن عبد المنذر) ، ويقال: بل الثالث من الأوس: أبو الهيثم مالك
بن التّيهان [ (7) ] ، وكانت هذه البيعة على حرب الأحمر والأسود [ (8) ] ،
فلما تمت بيعتهم استأذنوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يميلوا
على أهل منى بأسيافهم، فقال: لم نؤمر بذلك. فرجعوا وعادوا إلى المدينة.
بدء الهجرة إلى المدينة
واشتد الأذى على من بمكة من المسلمين فأذن لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم في الهجرة
__________
[ (1) ] زيادة من المرجع السابق لتمام العدد وهو ساقط من (خ) .
[ (2) ] في (خ) «سليمة» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) «ابن الحارث» والتصويب من المرجع السابق.
[ (4) ] في (خ) «ابن أسلم» والتصويب من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) «زنيرا، وفي (ط) «زنبر» وفي المرجع السابق «زنير» وفي
(الإصابة) ج 3 ص 282 يقول ابن حجر في الترجمة رقم 1952: «رفاعة بن زنبر
بزاي ونون وموّحدة وزن جعفر. ذكره ابن ماكولا. وقال: له صحبة. واستدركه ابن
الأثير، وأنا أظن أنه رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر» .
ويقول في ج 3 ص 284 في الترجمة رقم 1958 «رفاعة بن عبد المنذر.. أحد ما قيل
في اسم لبابة» .
[ (6) ] في (خ) «بشر» ، وفي (ط) «مبشر» .
[ (7) ] يقول ابن سعد في (الطبقات) ج 1 ص 220: «ومن الأوس رجلان: أو الهيثم
بن التّيّهان من بليّ حليف في بني عبد الأشهل، ومن بني عمرو بن عوف عويم بن
ساعدة» .
[ (8) ] في المرجع السابق: «فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء» .
(1/55)
إلى المدينة، فبادروا إلى ذلك وتجهزوا إلى
المدينة في خفاء [ (1) ] وستر وتسللوا، (فيقال: إنه كان بين أولهم وآخرهم
أكثر من سنة) وجعلوا يترافدون [ (2) ] بالمال والظهر ويترافقون. وكان من
هاجر من قريش وحلفائهم (يستودع دوره وماله) [ (3) ] رجلا من قومه، فمنهم من
حفظ من أودعه، ومنهم من باع، فممن حفظ وديعته [ (4) ] هشام بن الحارث بن
حبيب، فمدحه حسان.
أوّل من هاجر بعد العقبة الأخيرة
وخرج أول الناس أبو سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن
عمر بن مخزوم [ (5) ] ، ومعه امرأته أم سلمة [ (6) ] هند بنت أبي أمية بن
المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، فاحتبست دونه ومنعت من اللحاق به،
ثم هاجرت بعد سنة، وقيل: بل هاجر أبو سلمة رضي اللَّه عنه قبل العقبة
الأخيرة. وقيل: أول من هاجر مصعب بن عمير [ (7) ] ثم هاجر عمار بن ياسر،
وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وبلال، ثم هاجر عمر بن الخطاب في عشرين
راكبا، ثم تلاحق المسلمون بالمدينة يخرجون من مكة أرسالا [ (8) ] حتى لم
يبق بمكة إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر الصديق وعلي بن
أبي طالب رضي اللَّه عنهما- أقاما بأمره لهما- وإلا من اعتقله المشركون
كرها.
ائتمار قريش به صلّى اللَّه عليه وسلّم وخروجه واستخلافه عليا
فحذرت قريش خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واشتوروا بدار الندوة،
وكانوا خمسة عشر رجلا، وقيل: كانوا مائة رجل، أيحسبوه في الحديد ويغلقوا
عليه بابا؟ أو يخرجوه من مكة؟ أو يقتلوه؟ ثم اتفقوا على قتله. ويسمى اليوم
الّذي اجتمعوا
__________
[ (1) ] في (خ) «خفي» .
[ (2) ] يترافدون: يتعاونون، والظّهر: ما يركب.
[ (3) ] ما بين القوسين زيادة يتم بها المعنى، وفي (خ) مكان هذه الزيادة
«درره» .
[ (4) ] في (خ) «وداعته» .
[ (5) ] «واسمه عبد اللَّه» (ابن هشام) ج 2 ص 80.
[ (6) ] ثم هي بعد ذلك أم المؤمنين زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (7) ] ذكره ابن الجوزي في (تلقيح فهوم أهل الأثر) ص 467.
[ (8) ] جمع رسل بفتحتين، أي يتبع بعضهم بعضا.
(1/56)
فيه يوم الزحمة [ (1) ] ، فأعلمه اللَّه
بذلك.
فلما كان العتمة اجتمعوا على باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه. فلما رآهم صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر عليا
بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أن ينام على فراشه ويتشح [ (2) ] ببرده
الحضرميّ الأخضر، وأن يؤدي ما عنده من الودائع والأمانات ونحو ذلك.
فقام عليّ مقامه عليه السلام وغطي ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه [ (3) ]
وفيه نزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللَّهِ [ (4) ] وخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخذ حفنة من تراب وجعله على
رءوسهم وهو يتلو الآيات من:
يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ (5) ] إلى قوله: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [
(5) ] . فطمس اللَّه تعالى أبصارهم فلم يروه، وانصرف. وهم ينظرون عليا
فيقولون: إن محمدا لنائم، حتى أصبحوا، فقام علي من الفراش [ (6) ] ،
فعرفوه. وأنزل اللَّه تعالى في ذلك:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ
أَوْ يُخْرِجُوكَ [ (7) ] ،
وسأل أولئك الرهط عليا رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم فقال: لا أدري،
أمرتموه بالخروج فخرج، فضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ثم (دخلوا
عليه) [ (8) ] فأدى أمانة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
هجرة الرسول وأبي بكر
ولما خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى أبا بكر فأعلمه أنه يريد الهجرة. وقد
جاء أنه أتى أبا بكر بالهاجرة [ (9) ] وأمره أن يخرج من عنده، وأعلمه أن
اللَّه قد أذن له في الخروج،
فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: الصحبة يا رسول اللَّه؟ قال: الصحبة.
فبكى من
__________
[ (1) ] راجع (عيون الأثر) ج 1 ص 177.
[ (2) ] كذا في (خ) والصواب: «يتسجى» أي يتغطى.
[ (3) ] في (خ) «بنفسه» ، وشرى نفسه أي باعها.
[ (4) ] الآية 207/ البقرة.
[ (5) ] الآيات من 1- 9/ يس.
[ (6) ] في (خ) عن الفرس.
[ (7) ] الآية 30/ الأنفال
[ (8) ] كذا في (خ) ولعلها «ثم خلوا عنه» .
[ (9) ] الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر (المعجم الوسيط) ج 2 ص 973.
(1/57)
الفرح. فاستأجر عبد اللَّه بن أريقط الليثي
من بني الدّئل من بني عبد بن عديّ، ليدلهما على الطريق. وخرجا من خوخة [
(1) ] في بيت أبي بكر، ومضيا إلى غار بجبل ثور، فلم يصعدا الغار حتى قطرت
قدما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دما، لم يتعود الحفية ولا الرعية
ولا الشقوة [ (2) ] ، وعادت قدما أبي بكر كأنهما صفوان.
وعمّى اللَّه على قريش خبرها فلم يدروا أين ذهبوا. وكان عامر بن فهيرة مولى
أبي بكر يريح [ (3) ] عليهما غنمه، وكانت أسماء ابنة أبي بكر رضي اللَّه
عنها تحمل لهما الزاد إلى الغار، وكان عبد اللَّه بن أبي بكر يتسمع لهما ما
يقال عنهما بمكة ثم يأتيهما بذلك.
وجاءت قريش في طلبهما إلى ثور وما حوله، ومرّوا على باب الغار وحاذت
أقدامهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبا بكر رضي اللَّه عنه، وقد
نسج العنكبوت وعششت حمامتان على باب الغار، وذلك تأويل قوله تعالى: إِلَّا
تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا
تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [ (4) ] .
وبكى أبو بكر رضي اللَّه عنه وقال: يا رسول اللَّه، لو أن أحدهم نظر إلى
موضع قدميه لرآنا. فقال له: يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللَّه ثالثهما؟.
وعمّى اللَّه على قريش، وقد قفا [ (5) ] كرز بن علقمة بن هلال بن جريبة [
(6) ] بن عبد نهم [ (7) ] بن حليل بن حبشيّة أثر النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم حتى انتهى إلى الغار، فرأى عليه نسج العنكبوت، فقال: ها هنا انقطع
الأثر، فلم يهتدوا إليهما، ورجعوا فنادوا بأعلى مكة وأسفلها: من قتل محمدا
وأبا بكر فله مائة من الإبل.
ويقال: جعلوا لمن جاء بأحدهما أو قتله ديته، فلما مضت ثلاث لرسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر وهما في الغار أتاهما دليلهما، وقد سكن
الطلب عنهما ومعهما بعيرهما، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
أحدهما من أبي بكر رضي اللَّه عنه بالثمن، وقد
__________
[ (1) ] باب صغير كالنافذة.
[ (2) ] الحفية: المشي بغير نعل، والرّعية: أرض فيها حجارة ناتئة (المعجم
الوسيط) ج 1 ص 356.
[ (3) ] يريح الإبل والغنم: يردها من العشي إلى مراحلها حيث تأوي ليلا.
[ (4) ] الآية 40/ التوبة.
[ (5) ] قفا الأثر: تتبعه.
[ (6) ] في (خ) «حرينة» .
[ (7) ] في (خ) «فهم» والتصويب من (ط) .
(1/58)
كان أبو بكر قد أعدّهما قبل ذلك، وأعد
جهازه وجهاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منتظرا متى يأذن اللَّه
لرسوله في الخروج، وعلف ناقتيه أربعة أشهر، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم الجدعاء.
وروي في حديث مرسل أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: مكثت مع صاحبي في
الغار بضعة عشر يوما، ما لنا طعام إلا البرير (يعني الأراك) ،
وخرجا من الغار سحر ليلة الاثنين لأربع خلون من ربيع الأول، وقيل: أول يوم
منه، وقيل: كانت هجرته في صفر، وسنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث وخمسون
سنة على الصحيح، وقيل: خمس وخمسون، وقيل: خمسون، ومعهما سفرة أتت بها أسماء
ابنة أبي بكر. وكان خروجه من الغار في الصبح، فصلى عليه السلام بأصحابه
جماعة، فكان صلّى اللَّه عليه وسلّم أول من (جمع بالمسلمين في صلاة الفجر)
[ (1) ] وساروا وقد أردف أبو بكر رضي اللَّه عنه عامر بن فهيرة، وسار عبد
اللَّه بن أريقط أمامهما على راحلته حتى قالوا يوم الثلاثاء بقديد، وذلك
بعد العقبة بشهرين وليال. وقال الحاكم [ (2) ] : بثلاثة أشهر أو قريبا
منها، وقال الليث: حدثني عقيل عن ابن شهاب [ (3) ] أنه قال: كان بين ليلة
العقبة وبين مهاجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أشهر أو قريب
منها. كانت بيعة الأنصار رسول اللَّه ليلة العقبة في ذي الحجة، وكان عمره
لما هاجر ثلاث وخمسون سنة.
خبر سراقة
ولما مروا بحيّ مدلج بصر بهم سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو ابن
تيم بن مدلج [ (4) ] ، فركب جواده ليأخذهم، حتى إذا قرب من رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] بياض في (خ) وما أثبتناه من (ط) .
[ (2) ] المستدرك للحاكم ج 2 ص 625.
[ (3) ] هو: ابن شهاب الزهري: عالم الحجاز والشام، مات سنة (123 هـ) (ط) ص
41.
[ (4) ] في الإصابة ج 4 ص 127: ابن مدلج، بن مرة، بن عبد مناة بن كنانة
الكناني المدلجي: أسلم يوم الفتح، ومات في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين وهو
القائل مخاطبا لأبي جهل:
أبا حكم واللَّه لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
وذكر السهيليّ في الروض الأنف ج 2 ص 233 وابن كثير في البداية والنهاية ج 3
ص 228 البيتين السابقين بالزيادة الآتية بعدهما:
(1/59)
وسمع قراءته ساخت يدا فرسه في الأرض إلى
بطنها، وكانت أرضا صلبه، وثار من تحتها مثل الدخان، فقال: ادع لي يا محمد
ليخلصني اللَّه، ولك علي أن أراد عنك الطلب فدعا له، فتخلص فعاد يتبعهم،
فدعا عليه الثانية، فساخت قوائم فرسه أشد من الأول. فقال: يا محمد، قد علمت
أن هذا من دعائك عليّ، فادع لي ولك عهد اللَّه أن أردّ عنك الطلب، فدعا له
فخلص،
وقرب من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا رسول اللَّه خذ سهما من
كنانتي فإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت. فقال: لا حاجة لي في إبلك.
فلما أراد أن يعود عنه قال: كيف بك يا سراقة إذا سوّرت بسواري كسرى! قال:
كسرى بن هرمز! قال: نعم.
وسأل سراقة أن يكتب له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا، فكتب له
أبو بكر رضي اللَّه عنه، ويقال: بل كتب له عامر بن فهيرة، في أديم [ (1) ]
ورجع يقول للناس: قد كفيتم ما هاهنا، ويرد عنهم الطلب.
إسلام بريدة وقومه
ولقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب
من قومه فيما بين مكة والمدينة وهم يريدون موقع سحابة [ (2) ] فأسلموا بعد
ما دعاهم إليه، واعتذروا بقلة اللبن معهم وقالوا: مواشينا شصص، أي جافّة [
(3) ] وجاءوه [ (4) ] بلبن فشربه وأبو بكر، ودعا لهم بالبركة.
__________
[ () ]
عليك فكف القوم عني فإنني ... أخال لنا يوما ستبدي معالمه
بأمر تود النصر فيه فإنّهم ... وإن جميع الناس طرا مسالمه
وفي رواية أخرى:
عليك بكف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طرا يسالمه
وقد قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كيف بك إذا لبست سواري
كسرى؟ قال: فلما أتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه: دعا سراقة فألبسه،
فقال سراقة: الحمد للَّه الّذي سلبهما كسرى بن هرمز (من الإصابة بتصرف) .
ونسبه في (خ) «ابن عمرو بن مالك بن تيم» والصواب ما أثبتناه من الإصابة.
[ (1) ] الأديم: الجلد المدبوغ يكتب فيه.
[ (2) ] في (خ) «لحاية» .
[ (3) ] في (خ) «حانة» .
[ (4) ] في (خ) «وجاءه أبو بكر بلبن» .
(1/60)
خبر أم معبد
ولقي أيضا أوس بن حجر الأسلمي، فحمله صلّى اللَّه عليه وسلّم على جمل وبعث
معه غلاما له يقال مسعود (بن هنيدة) [ (1) ] ليؤديه إلى المدينة. ومرّ رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخيمتي أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف [
(2) ] بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو
وهو أبو خزاعة، فقال [ (3) ] عندها. وأراها اللَّه تعالى من آيات نبوته في
الشاة- وحلبها لبنا كثيرا وهي حائل [ (4) ] في سنة مجدبة- ما بهر عقلها.
ويقال: إنها ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها، وسفّرتهم منها بما وسعته
سفرتهم [ (5) ] وبقي عندها أكثر لحمها.
وقالت أم معبد: لقد بقيت الشاة التي مسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم ضرعها إلى عام الرمادة- وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة- وكنا نحلبها
صبوحا [ (6) ] وغبوقا، وما في الأرض قليل ولا كثير [ (7) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن هشام) ج 2 ص 98.
[ (2) ] في (خ) «خفيف» ، وذكر ابن حجر في ترجمة أخيها «حبيش» رقم 1603 ج 2
ص 210 «ابن خالد بن سعد منقذ بن ربيعة» .
[ (3) ] من القيلولة، وهي النوم نصف النهار.
[ (4) ] في (خ) «حافل» وهو خطأ، والحائل التي لم تحمل سنتين فجفّ لبنها.
[ (5) ] السّفرة: طعام يصنع للمسافر وما يحمل فيه هذا الطعام (المعجم
الوسيط) ج 1 ص 433.
[ (6) ] الصّبوح: شراب الصباح (المعجم الوسيط) ج 1 ص 505.
والغبوق: ما يشرب بالعشي وما يحلب بالعشي (المرجع السابق) ج 2 ص 643.
[ (7) ] وذكر أبو نعيم في (دلائل النبوّة) ج 2 ص 337، حديث رقم 238:
حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا على بن عبد العزيز، وحدثنا أبي قال: حدثنا محمد
بن محمد بن عقبة الشيبانيّ، ومحمد بن موسى الحلواني، وحدثنا أبو حامد بن
جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق السراج قال:
حدثنا مكرم بن محرز الكعبي الخزاعي، قال: حدثني أبي محرز بن مهدي، عن هشام
عن أبيه هشام، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم:
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرج من مكة، خرج منها مهاجرا هو
وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر ابن فهيرة، ودليلهم الليثي عبد اللَّه بن
أريقط، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء
القبة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحما وتمرا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها
شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين،
فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما
هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم، قال: بها من لبن؟
قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أفتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي،
نعم، إن رأيت بها حلبا فاحلبها.
(1/61)
__________
[ () ] فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح ضرعها بيده، وسمى
اللَّه عزّ وجلّ، ودعا لها في شاتها، فتفاجّت عليه، ودرّت، واجترّت، فدعا
بإناء يريض الرّهط، فحلب فيها ثجا، حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت،
وسقي أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم أراضوا.
ثم حلب ثانيا بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، ثم ارتحلوا
عنها، فقال: ما لبثت إذ جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا،
مخّهنّ قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا؟ والشاة
عازب حائل، ولا حلوبة في البيت، قالت: لا واللَّه، إلا أنه مرّ بنا رجل
مبارك، من حاله كذا وكذا، فقال: صفيه لي يا أمّ معبد، قالت: رأيت رجلا ظاهر
الوضاءة، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه
دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطح، وفي لحيته كثافة، أزجّ
أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس
وأبهاهم من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نذر ولا هذر،
كأن منطقه خرزات نظم تحدّرن، ربعة، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر،
غصن بين غصنين، هو انظر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به،
إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا
معتد.
قال أبو معبد: هو واللَّه صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة،
ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. فأصبح صوت بمكة عاليا،
يسمعون ولا يدرون من صاحبه:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيال قصيّ ما زوى اللَّه عنهم ... به من فعال لا تجازي وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... عليه صريحا صرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يردد في مصدر ثم مورد
فلما سمع حسّان بن ثابت الأنصاري الهاتف، شبّ يجاوب الهاتف وهو يقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيّهم ... وقدّس من يسري إليه ويغتدي
ترحّل عن قوم فضلّت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدد
هداهم بعد الضلالة ربّهم ... فأرشدهم، ومن يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلّال قوم تسفّهوا ... عمايتهم، هاد به كل مهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلّت عليهم بأسعد
نبي يرى ما يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كلّ مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جدّه ... بصحبته، من يسعد اللَّه يسعد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
والأبيات باختلاف يسير في (ديوان حسان) ص 376- 377.
(1/62)
__________
[ () ] قال أبو أحمد بن بشر بن محمد: حدثنا عبد بن وهب قال: بلغني أن أم
معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورواه أبو
أمية محمد بن إبراهيم بن بشر بن محمد مثله:
شرح غريب هذا الحديث:
البرزة من النساء: الجلدة، تظهر للناس ويجلس إليها القوم.
مرملين مسنتين: المرمل: الّذي قد نفد زاده، والمسنتين: هم الذين أصابتهم
السّنة، وهي المجاعة.
قال أبو عبيد: إذا قال: يال فلان: فذلك في الاستغاثة بالفتح، ويال
المسلمين، وإذا أراد التعجب والنداء قال: يال فلان بالكسرة.
كسر الخيمة: هو مؤخرها، وفيه لغتان: كسر وكسر، وقال بعضهم: الكسر هو في
مقدمة الخيمة.
فتفاجّت عليه: فرّجت رجليها كما تفعل التي تحلب.
بريض الرهط: أي ينهنههم مما يجتريهم لكثرته إذا شربوه.
فحلب فيها ثجّا: يعني سيلا، وكذلك كل سيل، ومنه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد سئل عن الحج فقال: العجّ والثّجّ، فالعجّ:
رفع الصوت بالتلبية، والثجّ سيل دماء الهدي.
أراضوا: أصل هذا في صبّ اللبن على اللبن، والمعنى: شرب لبن صبّ على لبن.
غادره عندها: تركه.
يسوق أعنزا تساوكن هزلا: التّساوك المشي الضعيف.
والشاة عازب: يعني قد عزبن عن البيت فخرجن إلى المرعى:
الحيّل: التي ليست بحوامل، جمع حائل.
ظاهر الوضاءة: يعني الجمال، والوضيء: الجميل.
والمتبلّج الوجه: الّذي فيه إضاءة ونور.
لم تعبه ثجلة: معناه عظم البطن، تقول: فليس هو كذلك.
لم تزر به صعلة: تريد صغر الرأس، يقال: رجل صعل.
وسيم قسيم: كلاهما هو الجمال.
في عينيه دعج: هو سواد الحدقة، يقال: رجل أدعج وامرأة دعجاء.
في أشفاره عطف: وكذلك كل مستطيل مسترسل.
في صوته صهل: وهو شبيه بالبحح، وليس بالشديد منه، ولكنه حسن، وبذلك توصف
الظباء.
في عنقه سطع: هو الطول، يقال منه: رجل أسطع وامرأة سطعاء، وهذا مما يمدح به
الناس.
والأزجّ: هو المقوس الحاجبين، وأما الأقرن: فهو الّذي التقى حاجباه بين
عينيه.
منطقه لا نزر ولا هذر: فالنزر: القليل، والهذر: الكثير، تقول قصد بين ذلك.
لا تقتحمه عين من قصر: تقول: لا تزدريه فتنبذه، ولكن تقبله وتهابه.
محفود محشود: فالمحفود: المخدوم، قال تعالى: بَنِينَ وَحَفَدَةً، ومحشود:
هو الّذي قد حشده أصحابه، وحفّوا حوله، وأطافوا به صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وهذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) 3/ 9، من طرق كلها عن حزام بن هشام
بسنده وقال:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ثم ذكر ما يستدل به على صحته وصدق
رواته.
(1/63)
مقدمه إلى المدينة
وكان المهاجرون قد استبطئوا قدوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبلغ
الأنصار مخرجه من مكة وقصده إياهم، وكانوا كل يوم يخرجون إلى الحرة
ينتظرونه فإذا اشتد الحر عليهم رجعوا، فلما كان يوم الاثنين- الثاني عشر من
ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من المبعث- وافى رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم المدينة حين اشتد الضّحاء [ (1) ] ، ونزل إلى جانب الحرة وقد
عاد المهاجرون والأنصار بعد ما انتظروه على عادتهم.
فكان بين المبعث إلى أول يوم من المحرم الّذي كانت الهجرة بعده اثنتا عشرة
سنة وتسعة أشهر وعشرون يوما، وذلك ثلاث وخمسون سنة تامة من أول عام الفيل.
وقيل: قدم صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول، وقيل:
خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الجمعة
لثنتى عشرة منه حين اشتد الضحاء، وقيل: دخل لهلال ربيع الأول، وقيل: يوم
الاثنين لليلتين خلتا منه، وقال ابن شهاب للنصف منه، وذلك سنة أربع وخمسين
من عام الفيل، وهو اليوم العشرون من أيلول سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة
للإسكندر الأكبر (وهو الرابع من تير ماه) [ (2) ] .
عمره يوم بعثته وهجرته
وقيل: أقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة بعد المبعث عشر سنين، منها خمس
سنين يخفي ما جاء به، وخمس سنين يعلن بالدعاء إلى اللَّه تعالى. وقيل: بعث
وله خمس وأربعون سنة فأقام بمكة عشرا وبالمدينة ثمانيا، وتوفي وهو ابن ثلاث
وستين، وهذا قول شاذ.
ولم يختلفوا أنه بعث على رأس أربعين سنة من عمره، وأنه أقام بالمدينة بعد
الهجرة عشر سنين، وإنما اختلفوا في إقامته بمكة بعد ما أوحي إليه، وأصح ذلك
ما رواه سعيد بن جبير، وعكرمة، وعمرو بن دينار، وأبو جمرة نصر بن عمران
الضبعي، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث
عشرة سنة [ (3) ] ، ووافق ذلك ما رواه على بن الحسين عن أبيه عن عليّ مثل
ذلك، فإن أصح ما قيل: أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
__________
[ (1) ] الضحاء: يرتفع النهار ويشتد وقد الشمس.
[ (2) ] كذا في (خ) ولم أجدها فيما عندي من مراجع.
[ (3) ] تاريخ الطبري ج 2 ص 387.
(1/64)
أول من رآه من أهل
المدينة
وكان أول من بصر برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل من يهود كان على
سطح أطم [ (1) ] له فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة [ (2) ] ، هذا جدكم
الّذي تنتظرون، فخرج الأنصار بالمهاجرين في سلاحهم، فلقوه وهو مع أبي بكر
في ظل نخلة، وحيّوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتحية النبوة
وقالوا: اركبا آمنين، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ]
وأبو بكر رضي اللَّه عنه وحفوا حولهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء نبيّ
اللَّه فاستشرفوا [ (4) ] نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظرون إليه،
وأقبل يسير حتى نزل على أبي القيس (كلثوم) بن الهدم بن امرئ القيس بن
الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك ابن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن
الأوس الأنصاري، وقيل: بل نزل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت.
فجاء المسلمون يسلمون عليه وأكثرهم لم يره بعد، فكان بعضهم يظنه أبا بكر.
حتى قام أبو بكر رضي اللَّه عنه حين اشتد الحر يظلل على رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم بثوب، فتحقق الناس حينئذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم.
إقامته بقباء
وأقام في بني عمرو بن عوف الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ثم خرج يوم
الجمعة، ويقال: بل أقام (بقباء) [ (5) ] في بني عمرو بن عوف ثلاثا وعشرين
ليلة، ويقال: بل أقام بقباء أربع عشرة ليلة، ويقال: خمسا، ويقال: أربعا،
ويقال:
ثلاثا فيما ذكر الدولابي.
إسلام عبد اللَّه بن سلام ومخيريق
وأسس حينئذ مسجد قباء، وأتاه عبد اللَّه بن سلام فأسلم (ثم أسلم) [ (6) ]
__________
[ (1) ] الأطم: الحصن أو البيت المرتفع.
[ (2) ] بنو قيلة: هم الأنصار، وقيلة: جدة لهم.
[ (3) ] في (خ) «فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتحية النبوة
وأبو بكر» وهو خطأ من الناسخ.
[ (4) ] الاستشراف: الخروج للقاء.
[ (5) ] بياض في (خ) .
[ (6) ] زيادة للسياق.
إمتاع الأسماع ج 1- م 3
(1/65)
مخيريق اليهودي [ (1) ] .
خبر ناقة رسول اللَّه
وركب بأمر اللَّه تعالى وسار على ناقته والناس معه عن يمينه وشماله قد
حشدوا ولبسوا السلاح، وذلك ارتفاع النهار من يوم الجمعة،
فجعل كلما مر بقوم من الأنصار قالوا: هلم يا رسول اللَّه إلى القوة
والمنفعة والثروة، فيقول لهم خيرا، ويقول: دعوها فإنّها مأمورة، وفي رواية:
إنها مأمورة خلوا سبيلها
فلما أتى مسجد بني سالم جمّع بمن كان معه من المسلمين، وهم إذ ذاك مائة،
وقيل: كانوا أربعين، وخطبهم، وهي أول جمعة أقامها صلّى اللَّه عليه وسلّم
في الإسلام.
أول خطبة للرسول بالمدينة
وكانت أول خطبة خطبها أنه قام فيهم فحمد اللَّه، وأثنى عليه بما هو أهله ثم
قال: أما بعد أيها الناس، فقدموا لأنفسكم، تعلمن واللَّه ليصعقنّ [ (2) ]
أحدكم ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولنّ له ربه- ليس له ترجمان ولا
حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك؟ فما قدمت
لنفسك؟ فلينظرنّ [ (3) ] يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا
يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقة من تمرة فليفعل،
ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
والسلام على رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته.
منزله على أبي أيوب الأنصاري
ثم ركب ناقته فلم تزل سائرة به، وقد أرخى زمامها، حتى جاءت دار بني
__________
[ (1) ] في (عيون الأثر) ج 1 ص 208: «قال ابن إسحاق: وكان حبرا عالما غنيا
كثير الأموال، وكان يعرف صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بصفته وما
يجد من علمه» .
وفي المرجع السابق: «وقال الواقدي: كان مخيريق أحد بني النضير، حبرا عالما
فآمن برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعل ماله له وهو سبعة حوائط» أي
بساتين.
[ (2) ] يعني يخر ميتا أو كالميت.
[ (3) ] في (خ) فلينظر. والتصويب من (ابن هشام) ج 2 ص 105.
(1/66)
النجار- موضع مسجده الآن- فبركت ثم نهضت
وسارت قليلا ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول.
وقيل: إن جبّار بن صخر من بني سلمة- وكان من صالحي المسلمين- جعل ينخسها
لتقوم منافسة لبني النجار أن ينزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
عندهم فلم تقم، فنزل صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها، وحمل أبو أيوب خالد بن
زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف [ (1) ] بن غنم بن مالك بن النجار
الأنصاري رحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى منزله، وجاء أسعد بن
زرارة فأخذ بزمام راحلة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكانت عنده.
أول ما أهدي إليه
وأول هدية أتته قصعة مثرودة خبزا وسمنا ولبنا جاءه بها زيد بن ثابت من عند
أمه، فأكل وأصحابه. ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة وفيها عراق [ (2) ] لحم.
فأقام في بيت أبي أيوب سبعة أشهر، وما كانت تخطئه جفنة سعد بن عبادة وجفنة
أسعد ابن زرارة كل ليلة، وجعل بنو النجار يتناوبون حمل الطعام إليه [ (3) ]
مقامه في منزل أبي أيوب، وبعثت إليه أم زيد بن ثابت بثردة مروّاة سمنا
ولبنا، ونزل أسامة بن زيد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في دار
أبي أيوب.
مسجده وحجره
واشترى صلّى اللَّه عليه وسلّم موضع مسجده وكان مربدا [ (4) ] لسهل وسهيل
ابني عمرو- وكانا يتيمين في حجر أسعد بن زرارة- بعشرة دنانير، وفي الصحيح
أن بني النجار بذلوه للَّه تعالى، فبناه مسجده المعروف الآن بالمدينة. وبنى
الحجر لأزواجه بجانب المسجد وجعلها تسعا: بعضها مبني بحجارة قد رصّت،
وسقفها من جريد مطين بطين، ولكل بيت حجرة، وكانت حجرته صلّى اللَّه عليه
وسلّم أكسية من شعر مربوطة في خشب من عرعر [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «عبد مناف» ، وما أثبتناه من (ط) .
[ (2) ] العراق: عظام عليها لحوم رقيقة طيبة.
[ (3) ] في (خ) عليه.
[ (4) ] كل مكان أو فناء تحبس فيه الإبل يسمى (مربدا) .
[ (5) ] العرعر: جنس أشجار وجنبات من الصنوبريات (المعجم الوسيط) ج 2 ص
595.
(1/67)
منزل أبي بكر
ونزل أبو بكر رضي اللَّه عنه بالسّنح على خبيب بن إساف (ويقال: يساف) ابن
عتبة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج (بن الأوس) [ (1)
] الأنصاري، وقيل: على خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن
مالك الأغرّ.
مقدم عليّ ومنزله
وقدم علي رضي اللَّه عنه من مكة للنصف من ربيع الأول ورسول اللَّه بقباء لم
يرم [ (2) ] بعد وقدم معه صهيب. وذلك بعد ما أدى عليّ عن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم الودائع التي كانت عنده، وبعد ما كان يسير الليل ويمكن
النهار حتى تفطرت [ (3) ] قدماه، فاعتنقه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم
يشتكهما بعد ذلك حتى قتل رضي اللَّه عنه.
ونزل على كلثوم بن الهدم، وقيل: على امرأة، والراجح أنه نزل مع النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم.
منزل عثمان
ونزل عثمان بن عفان برقية ابنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في منزل
سعد بن خيثمة، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتيهم هنالك.
بعثة زيد بن حارثة إلى مكة
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة،
ودفع إليهما بعيرين وخمسمائة درهم أخذها من أبي بكر يشتريان بها ما يحتاجان
إليه.
وبعث أبو بكر معهما عبد اللَّه بن أريقط الديليّ ببعيرين أو ثلاثة، وكتب
إلى عبد اللَّه بن أبي بكر أن يحمل أهله: أم رومان، وعائشة، وأسماء. فاشترى
زيد
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح لأنه من الأوس لا من الخزرج.
[ (2) ] من رام يريم: برح وفارق، وأكثر ما يستعمل منفيا.
[ (3) ] تشققت.
(1/68)
بالخمسمائة ثلاثة أبعرة بقديد [ (1) ] ،
وقدم مكة فإذا طلحة بن عبيد اللَّه يريد الهجرة، فقدما المدينة على رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بابنتيه: فاطمة، وأم كلثوم، وبزوجته سودة
بنت زمعة، وبأسامة بن زيد، وأمه أم أيمن رضي اللَّه عنهم.
وكانت رقية ابنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد (هاجر) [ (2) ] بها
عثمان رضي اللَّه عنها قبل ذلك. وحبس أبو العاصي زوجته زينب بنت رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وخرج مع زيد وأبي رافع عبد اللَّه بن أبي
بكر بعيال أبي بكر رضي اللَّه عنه.
موادعة يهود
ووادع [ (3) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بالمدينة من يهود،
وكتب بذلك كتابا، وأسلم حبرهم عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، وكفر عامتهم
وهم ثلاث فرق: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
وآخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار- وقد أتت
لهجرته ثمانية أشهر- فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثا
مقدّما على القرابة. وكان الذين آخى بينهم تسعين رجلا: خمسة وأربعين من
المهاجرين، وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: خمسين من هؤلاء وخمسين من
هؤلاء، ويقال: إنه لم يبق من المهاجرين أحد إلا آخى بينه وبين أنصاريّ.
وقال ابن الجوزي: «وقد أحصيت جملة من آخى النبي بينهم، فكانوا مائة وستة
وثمانين رجلا» ذكرهم في كتاب التلقيح [ (4) ] ، وكانت المؤاخاة بعد مقدمه
بخمسة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر.
نسخ توارث المؤاخاة وفرض الزكاة
ثم نسخ التوارث بالمؤاخاة بعد بدر. ونزل تمام الصلاة أربعا بعد شهر من مقدم
__________
[ (1) ] قديد: موضع قرب مكة (معجم البلدان) ج 4 ص 313.
[ (2) ] مطموسة في (خ) .
[ (3) ] في (خ) : «وأودع» .
[ (4) ] في (خ) : «النقيج» ، واسمه «تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ
والسير» ، أو «تلقيح فهوم أهل الآثار في مختصر التاريخ والأخبار» .
(1/69)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
المدينة، فتمت صلاة المقيم أربعا بعد ما كانت ركعتين، وأقرت صلاة المسافر
ركعتين، وفرضت الزكاة أيضا- رفقا بالمهاجرين رضي اللَّه عنهم- في هذا
التاريخ، كما ذكره أبو محمد بن حزم، وقال بعضهم: إنه أعياه فرض الزكاة متى
كان.
تحوله من بيت أبي أيوب إلى حجره
وتحول صلّى اللَّه عليه وسلّم من منزل أبي أيوب رضي اللَّه عنه إلى حجره
لما فرغت، بعد إقامته عنده سبعة أشهر، وخط لأصحابه في كل أرض ليس لأحد،
وفيما وهبت له الأنصار من خططها، وأقام قوم من المسلمين- لم يمكنهم البناء-
بقباء على من [ (1) ] نزلوا عنده.
زواجه عائشة
وبنى بعائشة رضي اللَّه عنها بعد مقدمه بتسعة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر،
وقيل: بثمانية عشر شهرا في يوم الأربعاء من شوال، وقيل: في ذي القعدة،
بالسنح في بيت أبي (بكر) [ (2) ] .
الأذان للصلوات وتمام الصلاة
وأري عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه (الأذان للصلوات) [ (2) ] ،
وقيل:
كان ذلك في السنة الثانية.
وبعد شهر من مقدمه المدينة زيد في صلاة الحضر لاثنتي عشرة خلت من ربيع، قال
الدولابي: يوم الثلاثاء، وقال السهيليّ: بعد الهجرة بعام أو نحوه.
فرض القتال
ولما استقر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة بين أظهر الأنصار
رضي اللَّه عنهم وتكفلوا بنصره ومنعه من الأسود والأحمر، رمتهم العرب قاطبة
عن قوس واحدة وتعرضوا لهم من كل جانب.
__________
[ (1) ] في (خ) «ما» .
[ (2) ] ساقطة من (خ) .
(1/70)
وكان اللَّه عز وجل قد أذن للمسلمين في
الجهاد بقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ (1) ] ، فلما صاروا إلى
المدينة، وكانت لهم شوكة وعضد، كتب اللَّه عليهم الجهاد بقوله سبحانه:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ
لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ (2) ] .
أول لواء عقد بعد فرض القتال
وكان أول لواء عقده رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- على رأس سبعة أشهر
من مقدمه إلى المدينة- لعمه حمزة بن عبد المطلب على ثلاثين راكبا، شطرين:
خمسة عشر من المهاجرين، وخمسة عشر من الأنصار، إلى ساحل البحر من ناحية
العيص [ (3) ] (وقيل: لم يبعث صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدا من الأنصار حتى
غزا بنفسه إلى بدر، وذلك أنه ظن أنهم لن ينصروه إلا في الدار، وهو الثّبت)
[ (4) ] .
سرية حمزة إلى سيف البحر
فبلغوا سيف البحر يعترضون عيرا لقريش قد جاءت من الشام تريد مكة، فيها أبو
جهل في ثلاثمائة راكب. فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى بينهم مجدي بن عمر
(الجهنيّ) [ (5) ] حتى انصرف الفريقان بغير قتال، وعاد حمزة رضي اللَّه عنه
بمن معه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبروه بما حجز بينهم
مجديّ، وأنهم رأوا منه نصفة [ (6) ] . (وقدم رهط مجدي على النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم فكساهم وذكر مجدي بن عمرو فقال: إنه- ما علمت- ميمون
النقيبة مبارك الأمر، أو قال: رشيد الأمر) .
وكان لواء حمزة أبيض، يحمله أبو مرثد كنّاز [ (7) ] بن حصين، ويقال ابن حصن
بن يربوع بن عمرو بن يربوع بن خرشة بن سعد بن طريف الغنوي.
__________
[ (1) ] الآية 39/ الحج.
[ (2) ] الآية 216/ البقرة، وفي (خ) ، إلى قوله تعالى: «خَيْرٌ لَكُمْ» .
[ (3) ] موضع في بلاد بني سليم به ماء ويقال له ذنبان العيص (معجم البلدان)
ج 4 ص 173.
[ (4) ] الثّبت: الصحيح.
[ (5) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (6) ] إنصافا.
[ (7) ] في (خ) (كعاد) وفي (ط) (كناز) وفي (تلقيح الفهوم) ص 48 «وحامله أبو
مرثد كدّاز بن الحصين الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب» .
(1/71)
سرية عبيدة بن
الحارث إلى بطن رابغ
ثم عقد لواء أبيض لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف [ (1) ] وبعثه،
وهو أسفل ثنية المرة [ (2) ] ، على رأس ثمانية أشهر في شوال، فحمل اللواء
مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف، فخرج في ستين راكبا من قريش
كلهم من المهاجرين، فلقى مكرز بن حفص، وقيل: عكرمة بن أبي جهل، وقيل: أبا
سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف على ماء يقال له أحياء
من بطن رابغ، وأبو سفيان في مائتين.
أول من رمى في الإسلام بسهم
وكان أول من رمى في الإسلام بسهم سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه [ (3) ] :
نثر كنانته وتقدم أمام أصحابه وقد ترسوا عنه فرمى بما في كنانته، وكان فيها
عشرون سهما، ما منها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابة، ولم يكن بينهم يومئذ
إلا هذا، لم يسلّوا سيفا. ثم انصرف كل منهما، وفر يومئذ من الكفار إلى
المسلمين: المقداد ابن الأسود الكندي، وعتبة بن غزوان. وقيل: إن لواء عبيدة
[ (4) ] هذا هو أول لواء عقده رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار
[ثم عقد] [ (5) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم لواء لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار
[ (6) ] حمله أبو معبد المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة
بن مطرود بن عمرو بن سعد البهراني [ (7) ] [وهو المقداد بن الأسود، نسبة
إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب
__________
[ (1) ] في (خ) «عبد مناف» مكررة مرتين وهو خطأ من الناسخ.
[ (2) ] «الثنية في الأصل كل عقبة في الجبل مسلوكة» وثنية المرة بأسفلها
ماء الحجاز (معجم البلدان) ج 2 ص 85.
[ (3) ] (تلقيح الفهوم) ص 465.
[ (4) ] في (خ) «أبي عبيدة» .
[ (5) ] بياض في (خ) .
[ (6) ] في (خ) «الخرا» ، وفي (معجم البلدان) ج 2 ص 350: «الخرّار: موضع
بالحجاز يقال: هو قرب الجحفة، وقيل: واد من أودية المدينة، وقيل: ماء
بالمدينة، وقيل: موضع بخيبر» .
[ (7) ] نسبة إلى البهراء من غير قياس (هامش ط) ص 53.
(1/72)
ابن عبد مناف لأنه كان تبناه] فخرج في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر في
عشرين أو أحد وعشرين رجلا من المهاجرين على أقدامهم، وقيل: بل كانوا
ثمانية، فكانوا يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبحوا صبح خمس الخرار [
(1) ] من الجحفة قريبا من خم، يريدون عير قريش ففاتتهم.
وقد جعل الواقدي هذه السرايا جميعها في السنة الأولى من الهجرة، وجعلها
محمد بن إسحاق في السنة الثانية، وجعل غزوة ودان بعد سرية سعد بن أبي وقاص.
غزوة رسول اللَّه: ودان- الأبواء
ثم غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ودان] [ (2) ] وهو جبل بين مكة
والمدينة، بينه وبين الأبواء ستة أميال، فخرج في صفر على رأس أحد عشر شهرا
يعترض عيرا لقريش، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه، فبلغ
الأبواء، فلم يلق كيدا، فوادع بني ضمرة [بن بكر] [ (3) ] بن عبد مناة بن
كنانة مع سيدهم مخشي [ (4) ] بن عمرو- على ألا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه
أحدا، وكتب بينه وبينهم [ (5) ] كتابا ورجع، فكانت غيبيته خمس عشرة ليلة.
ويقال لهذه أيضا: غزاة الأبواء، وهي أول غزاة غزاها رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم بنفسه. وكان لواء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في
هذه الغزاة أبيض يحمله حمزة رضي اللَّه عنه.
زواج علي فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وفي صفر هذا زوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن عمه علي بن أبي
طالب رضي اللَّه عنه بابنته فاطمة عليها السلام. |