إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع غزوة ذات الرقاع
ثم كانت غزوة ذات الرقاع: وسمّيت بذلك لأنها كانت عند جبل فيه بقع حمر وبيض
وسود كأنها رقاع، وقيل: سميت بذلك لأنها رقعوا راياتهم، ويقال أيضا: ذات
الرقاع شجرة بذلك الموقع يقال لها ذات الرقاع. وأصح الأقوال ما رواه
البخاري من طريق أبي موسى قال: خرجنا مع النبي [ (3) ] صلّى اللَّه عليه
وسلّم في غزاة [ (4) ]- ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه- فنقبت أقدامنا،
ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا [ (5) ] نلفّ على أرجلنا الخرق، فسميت
غزوة ذات الرقاع لما كنا
__________
[ (1) ] كذا في (خ) وفي (الواقدي) ج 1 ص 393، «الحارث أبو زينب» . وهو
الصواب.
[ (2) ] ذكر المؤلف سرية عبد اللَّه بن عتيك لقتل أبي رافع سلّام بن أبي
الحقيق، وجعلها في ذي الحجة على رأس ستة وأربعين شهرا- أي في السنة الرابعة
من الهجرة- وهذا التاريخ من رواية موسى بن عقبة. ومقتل سلّام بن أبي الحقيق
كان بعد غزوة الأحزاب، وغزوة الأحزاب عند موسى بن عقبة، وعند ابن حزم كانت
سنة أربع، فهذا تاريخ صحيح عند ابن عقبة يجعل الغزوة والسرية في سنة أربع
على الترتيب، ولكن المقريزي أخذ تاريخ السرية من موسى بن عقبة وصححه
وأعتمده فجعله في سنة أربع، ثم جعل غزوة الأحزاب في سنة خمس، ولا أدري لم
فصل هذا الفصل بينهما وصحح واحدة- وهي السرية- من تاريخ موسى بن عقبة، وردّ
الغزاة إلى سنة خمس من رواية غيره؟.
[ (3) ] في (خ) «مع رسول اللَّه» ، وما أثبتناه من رواية البخاري ج 3 ص 35.
[ (4) ] في (خ) «غزوة» .
[ (5) ] في (خ) «فكنا» .
(1/196)
نعصب من الخرق على أرجلنا [ (1) ] .
ما فيها من دلائل النبوة
وفي هذه الغزاة ظهر من أعلام النبوة: ظهور بركة الرسول صلّى اللَّه عليه
وسلّم في أكل أصحابه من ثلاث بيضات حتى شبعوا ولم تنقص، وسبق جمل جابر بعد
تخلفه، وبرء الصبي مما كان به، وقصة الأشاءتين [ (2) ] ، وقصة غورث [بن
الحارث] [ (3) ] وقصة الجمل لما برك يشكو.
الخروج إلى الغزوة
وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة السبت لعشر خلون من المحرم
على رأس سبعة وأربعين شهرا، وقدم صرار [ (4) ] يوم الأحد لخمس بقين منه،
وغاب خمس عشرة ليلة. وسببها أن [قادما- قدم يجلب له] [ (5) ] من نجد إلى
المدينة- أخبر أن بني أنمار بن بغيض، وبني سعد بن ثعلبة بن ذبيان بن بغيض،
قد جمعوا لحرب المسلمين، فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم في أربعمائة، وقيل:
في سبعمائة، وقيل: ثمانمائة، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي اللَّه
عنه، وبثّ السرايا في طريقه فلم يروا أحدا، ثم قدم محالّهم وقد ذهبوا إلى
رءوس الجبال وأطلّوا على المسلمين، فخاف الفريقان بعضهم من بعض.
صلاة الخوف
وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة الخوف، فكان أوّل ما صلاها
يومئذ، وقد خاف أن يغيروا عليه وهم في الصلاة، فاستقبل القبلة وطائفة خلفه
وطائفة مواجهة للعدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وسجدتين ثم ثبت قائما
فصلوا خلفه ركعتين وسجدتين ثم سلموا، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة
وسجدتين،
__________
[ (1) ] وتتمه رواية البخاري: «وحدث أبو موسى بهذا، ثم كره ذاك، قال: ما
كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه.
[ (2) ] في (خ) «الأشاتين» وأشاء النخل: صفاره، أو عامته، أشاءة (ترتيب
القاموس) ج 1 ص 151.
[ (3) ] زيادة للبيان.
[ (4) ] صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق المدينة (معجم
البلدان) ج 3 ص 398.
[ (5) ] في (خ) «قدما قادما مجلب» ، والجلب: ما يجلب ليباع.
(1/197)
والطائفة الأولى مقبلة على العدو، فلما صلى
بهم ركعة ثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم ركعة وسجدتين ثم سلّم. هكذا ذكر ابن
إسحاق والواقدي وغيرهما من أهل السّير، وهو مشكل.
تحقيق القول في صلاة الخوف متى كانت
فإنه قد جاء في رواية الشافعيّ وأحمد والنّسائيّ عن أبي سعيد: أن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حبسه المشركون يوم الخندق عن الظهر والعصر
والمغرب والعشاء فصلاهن جمعا، وذلك قبل نزول صلاة الخوف. قالوا: وإنما نزلت
صلاة الخوف بعسفان، كما رواه أبو عيّاش الزّرقيّ قال: كنا مع النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم بعسفان فصلى بنا الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد بن
الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة، ثم قالوا: إن لهم صلاة بعد هذه هي
أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم. فنزلت- يعني صلاة الخوف- بين الظهر والعصر،
فصلى بنا العصر ففرقنا فرقتين، وذكر الحديث.
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي [ (1) ] . وعن أبي هريرة رضي اللَّه
عنه قال:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نازلا بين ضجنان [ (2) ] وعسفان
محاصر المشركين، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أهم إليهم من أبنائهم
وأبكارهم، أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة. فجاء جبريل عليه السلام
فأمره أن يقسم أصحابه نصفين، وذكر الحديث. رواه النّسائيّ [ (1) ] والترمذي
[ (3) ] وقال: حسن صحيح. وقد علم بلا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق
فاقتضى هذا أن ذات الرقاع بعدها بل بعد خيبر. ويؤيد هذا أن أبا موسى
الأشعري وأبا هريرة رضي اللَّه عنهما شهداها:
أما أبو موسى الأشعري فإنه قدم بعد خيبر، وقد جاء في الصحيحين عنه: أنه شهد
غزوة ذات الرقاع، وأنهم كانوا يلفّون على أرجلهم الخرق لما نقبت، فسميت
بذلك، وأما أبو هريرة، فعن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة الخوف؟ قال: نعم، قال: متى؟ قال:
عام غزوة
__________
[ (1) ] (مسند الإمام أحمد) ج 4 ص 59، 60. (أبو داود) ج 2 ص 28 حديث رقم
1236.
(عون المعبود) ج 4 ص 104 حديث رقم 1224. (سنن النسائي) ج 3 ص 167.
[ (2) ] ضجنان: «جبيل على بريد من مكة ... ، وقال الواقدي: ضجنان ومكة خمسة
وعشرون ميلا» (معجم البلدان) ج 3 ص 453 وفي (خ) «صحنان» .
وعسفان: على مرحلتين من مكة على طريق المدينة (المرجع السابق) ج 4 ص 122.
[ (3) ] (سنن الترمذي) ج 2 ص 39 باب 393 حديث رقم 561.
(1/198)
نجد، وذكر صفة من صفات صلاة الخوف. أخرجه [
(1) ] الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. وإنما جاء أبو هريرة مسلما أيام
خيبر.
وكذلك قال عبد اللَّه بن عمر، قال: غزوت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم قبل نجد، فذكر صلاة الخوف. وإجازة [ (2) ] عبد اللَّه في القتال كانت
عام الخندق. وقد قال البخاري: إن ذات الرقاع بعد خيبر، واستشهد بقصة [ (3)
] أبي موسى وإسلام أبي هريرة.
وقال ابن إسحاق: إنها كانت في جمادى الأولى بعد غزوة بني النضير بشهرين،
وقد قال بعض من أرّخ: إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة، فواحدة كانت قبل
الخندق، وأخرى بعدها.
وقد قيل: إن قصة جمل جابر وبيعه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
كانت في غزوة ذات الرقاع. وفي ذلك نظر، لأنه جاء أن ذلك كان في غزوة تبوك.
وبعث صلّى اللَّه عليه وسلّم جعال بن سراقة بشيرا إلى المدينة بسلامته
وسلامة المسلمين.
خبر الربيئة: عباد بن بشر وعمار بن ياسر
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أصاب في محالهم نسوة منهن
جارية وضيئة كان زوجها يحبها، فلما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم راجعا إلى المدينة حلف زوجها ليطلبن محمدا، ولا يرجع إلى قومه حتى
يصيب محمدا، أو يهريق فيهم دما، أو يتخلص صاحبته.
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيرة في عشية ذات ريح فنزل
في شعب فقال: من رجل يكلأنا [ (4) ] الليلة؟
فقام عمار بن ياسر وعباد بن بشر فقالا: نحن يا رسول اللَّه نكلؤك: وجعلت
الريح لا تسكن، وجلسا على فم الشّعب. فقال أحدهما لصاحبه:
أي الليل [ (5) ] أحب إليك [أن أكفيكه، أوله أم آخره] [ (6) ] ؟ قال: [بل]
[ (7) ] اكفني
__________
[ (1) ] في (خ) «أرجه» .
[ (2) ] في (خ) «وإجارة» .
[ (3) ] في (خ) «بقضية» .
[ (4) ] يكلأنا: يرعانا، وفي التنزيل: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ (المعجم الوسيط) ج 2 ص 793.
[ (5) ] في (خ) «الليلة» .
[ (6) ] ما بين الأقواس لفظ مضطرب في (خ) والتصويب من (ابن هشام) ج 3 ص 122
ونحوه مع اختلاف يسير في (الواقدي) ج 1 ص 397.
[ (7) ] زيادة للسياق.
(1/199)
أوله. فنام عمار بن ياسر وقام عباد بن بشر
يصلي، وأقبل عدو اللَّه يطلب غرّة وقد سكنت الريح. فلما رأى سواده من قريب
قال: يعلم اللَّه إن هذا لربيئة القوم:
ففوّق له سهما فوضعه فيه، فانتزعه [فوضعه] [ (1) ] ، ثم رماه بآخر فوضعه
فيه، فانتزعه فوضعه، ثم رماه الثالث فوضعه فيه. فلما غلبه الدم ركع وسجد،
ثم قال لصاحبه: اجلس فقد أتيت: فجلس عمار، فلما رأى الأعرابي أن عمارا قد
قام علم أنهم قد نذروا به. فقال عمار: أي أخي؟ ما منعك أن توقظني في أول
سهم رمى به؟ قال: كنت في سورة أقرأها- وهي سورة الكهف- فكرهت أن أقطعها حتى
أفرغ منها. ولولا إني خشيت أن أضيع ثغرا أمرني به رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم ما انصرفت ولو أتى على نفسي. ويقال: بل هو عمارة بن حزم،
وأثبتهما عباد بن بشر.
خبر فرخ الطائر
وجاء رجل بفرخ طائر، فأقبل أبواه، أو أحدهما حتى طرح نفسه في يد الّذي أخذ
فرخه، فعجب الناس من ذلك،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم
فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه! واللَّه لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه.
خبر صاحب الثوب الخلق
ورأى صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا وعليه ثوب منخرق فقال: أما له غير هذا؟
قالوا: بلى يا رسول اللَّه، إن له ثوبين جديدين في العيبة [ (2) ] ، فقال
له: خذ ثوبيك. فأخذ ثوبيه فلبسهما ثم أدبر فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أليس هذا أحسن؟ ما له ضرب اللَّه عنقه! فسمع ذلك الرجل، فقال: في سبيل
اللَّه يا رسول اللَّه! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: في سبيل اللَّه.
فضربت عنقه بعد ذلك في سبيل اللَّه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] العيبة: وعاء من خوص ونحوه. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 639.
(1/200)
خبر البيضات
وجاءه علبة [ (1) ] بن زيد الحارثي بثلاث بيضات وجدها في مفحص [ (2) ]
نعام، فأمر جابر بن عبد اللَّه بعملها، فوثب فعملها وأتى بها في قصعة، فأكل
صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه منه بغير خبز، والبيض في القصعة كما هو،
وقد أكل منه عامتهم.
خبر غورث
وقيل: إن حديث غورث بن الحارث كان في هذه الغزاة [ (3) ] ، وقيل: كان في
غزوة ذات الرقاع التي بعد الخندق- لما أخرجا في الصحيحين [ (4) ] عن جابر
بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: أقبلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها
لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فجاء رجل من المشركين- وسيف
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معلّق بشجرة- فأخذ سيف نبي اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] فاخترطه [ (6) ] ،
فقال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتخافني؟ قال: لا. قال: فمن
يمنعك مني؟ قال: اللَّه يمنعني منك [ (7) ] ! قال: فتهدده أصحاب رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأغمد السيف وعلّقه.
قال: فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى
ركعتين. قال: فكانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أربع ركعات وللقوم
ركعتان. واللفظ لمسلم.
تحريم الخمر
قال البلاذريّ: وفي سنة أربع من الهجرة حرّمت الخمر. |