إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

غزوة الغابة
وكانت غزوة الغابة. ويقال: غزاة ذي قرة [ويقال: قرد بضمتين] ، وهو ماء على بريد من المدينة، في ربيع الأول. وقال ابن عبد البر [ (1) ] : كانت بعد لحيان بليال. وقال البخاري: كانت قبل خيبر بثلاثة أيام [ (2) ] ، وفي مسلم نحوه [ (3) ] ، وفيه نظر لإجماع أهل السّير على خلافه [ (4) ] .

سببها
وسببها: أن لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكانت عشرين لقحة [ (5) ] : منها ما أصاب في ذات الرقاع: ومنها ما قدم به محمد بن مسلمة من نجد- وكانت ترعى البيضاء فقربوها إلى الغابة، وكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلة عند المغرب. فاستأذن أبو ذر جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل بن صعير بن حرام بن غفار الغفاريّ، رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخروج إلى لقاحه،
فقال: إني أخاف عليك من هذه الضاحية أن تغير [ (6) ] عليك، ونحن لا نأمن عيينة بن حصن وذويه. وهو في طرف من أطرافهم، فلما ألح عليه أبو ذر رضي اللَّه عنه قال: لكأنّي بك قد قتل ابنك وأخذت امرأتك، وجئت تتوكأ على عصاك.

ليلة السرح
فلما كانت ليلة السرح، جعلت سبحة فرس المقداد بن عمرو لا تقرّ ضربا
__________
[ (1) ] في (خ) «أبو عبيد البر» .
[ (2) ] (صحيح البخاري) ج 3 ص 48، فتح الباري ج 7 ص 460.
[ (3) ] (شرح صحيح مسلم للنووي) ج 12 ص 173 وما بعدها.
[ (4) ] يقول (ابن جرير الطبري) : «وأما الرواية عن سلمة بن الأكوع بهذه الغزوة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد مقدمة المدينة، منصرفا من مكة عام الحديبيّة، فإن كان ذلك صحيحا، فينبغي أن يكون ما روى عن سلمة بن الأكوع إما في ذي الحجة من سنة ست من الهجرة، وإما في أول سنة سبع، وذلك أن انصراف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة إلى المدينة عام الحديبيّة كان في ذي الحجة من سنة ست من الهجرة، وبين الوقت الّذي وقّته ابن إسحاق لغزوة ذي قرد والوقت الّذي روى عن سلمة بن الأكوع قريب من ستة أشهر» (تاريخ الطبري) ج 2 ص 596.
[ (5) ] اللقحة: الناقة الحلوب الغزيرة اللبن (المعجم الوسيط) ج 2 ص 834.
[ (6) ] في (خ) «نغيره» والتصويب في (الواقدي) ج 2 ص 538.

(1/259)


بيديها وصهيلا، فيقول أبو معبد: واللَّه إن لها لشأنا! فينظر آريّها [ (1) ] فإذا هو مملوء علفا. فيقول: عطشى! فيعرض الماء عليها فلا تريده، فلما طلع الفجر أسرجها ولبس سلاحه وخرج، حتى صلى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصبح فلم ير شيئا. ودخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيته، ورجع المقداد إلى بيته، وفرسه لا تقرّ، فوضع سرجه وسلاحه واضطجع. فأتاه آت فقال: إن الخيل قد صبّح بها [ (2) ] !.

غارة ابن عيينة على السرح
وكانت لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد روّحت وعطّنت وحلبت عتمتها [ (3) ] ، وأحدق عبد الرحمن بن عيينة بن حصن في أربعين فارسا من بني عبد اللَّه بن غطفان، [وذكر ابن الكلبي أن الّذي أغار على سرح المدينة عبد اللَّه بن عيينة بن حصن] .
وهم نيام. فأشرف لهم ابن أبي ذرّ فقتلوه وساقوا اللقاح. فجاء أبو ذر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره فتبسّم.

خبر سلمة بن الأكوع
وكان سلمة بن عمرو [بن] [ (4) ] الأكوع-[واسمه سنان] [ (4) ] بن عبد اللَّه ابن قشير بن خزيمة بن مالك بن سلامان بن أسلم بن أفصى الأسلمي قد غدا إلى الغابة للقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [بفرس لطلحة بن عبد اللَّه] [ (5) ] لأن يبلّغه [ (6) ] لبنها، فلقي غلام عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه- وكان في إبله فأخطئوا مكانها، فأخبره أن لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أغار عليها ابن عيينة في أربعين فارسا. وأنهم رأوا إمدادا بعد ذلك أمدّ به ابن عيينة، فرجع سلمة إلى المدينة وصرخ على ثنية الوداع بأعلى صوته! يا صباحاه! ثلاثا، ويقال نادى: الفزع الفزع! ثلاثا.
__________
[ (1) ] الآرىّ: محبس الدابة ومربطها ومعلفها (المعجم الوسيط) ج 1 ص 14.
[ (2) ] صبّح بها: أغير عليها صباحا (المعجم الوسيط) ج 1 ص 505.
[ (3) ] روّحت: ردت إلى مكان مبيتها وعطنت: سعيت ورجعت إلى مأواها، والعتمة: ثلث الليل الأول، وهو ووقت حليبها، فسمّي اللبن باسم وقت حلبة.
[ (4) ] زيادة لا بد منها.
[ (5) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 82.
[ (6) ] هذه الكلمة في (ط) «لبلبنه» وما أثبتناه من (خ) وهي في (الواقدي) ج 2 ص 539 على لسان سلمة ابن الأكوع: «لأن أبلّغه لبنها» ، ومع ذلك يقول محقق (ط) : «ولم أجد الكلمة في خبر من أخبار سلمة بن الأكوع» وللحق: فإن رسم هذه الكلمة في (خ) «يبلعنه» .

(1/260)


ووقف على فرسه حتى طلع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديد مقنّعا، فوقف واقفا.

قيل: ركب فرسا عريا لأبي طلحة يقال له مندوب، فلما انصرف قال: إن وجدناه لبحرا
] [ (1) ] .

نداء الفزع ليلة السرح
[ونودي يا خيل اللَّه اركبي! وكان أول ما نودي بها] [ (2) ] ، فكان [ (3) ] أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو وعليه السلاح شاهرا سيفه. فعقد له لواء على رمحه وقال:
امض حتى تلحقك الخيول، إنا على أثرك. فخرج حتى أدرك أخريات العدو، فظفر له بفرس. وأدرك مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة بن بدر الفزاريّ فتطاعنا برمحيهما، ثم فرّ مسعدة. فنصب مقداد اللواء، ولحقه أبو قتادة- معلما بعمامة صفراء على فرس له- فتسايرا ساعة، فاستحث أبو قتادة فرسه حتى غاب، وقد أدرك مسعدة فقتله.
وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو، يسبق الخيل، حتى لحق العدو فرماهم بالنبل والخيل تكر عليه وهو يقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرّضّع
[حتى انتهى إلى ذي قرد وقد استنفذ منهم جميع اللقاح وثلاثين بردة، قال سلمة:.

وصول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ذي قرد
فلحقنا] [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والخيول عشاء، وكانوا ثمانية أفراس، وكان
__________
[ (1) ] ما بين القوسين زيادة في (خ) ولعلها خطأ من الناسخ وحذفها أولى، لأن خبر أبي طلحة ليس في هذه الغزوة.
[ (2) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 80 و (زاد المعاد) ج 3 ص 278.
[ (3) ] في (خ) «وكان» والصواب ما أثبتناه من: (تاريخ الطبري) ج 2 ص 601، (زاد المعاد) ج 2 ص 278، (المغازي) ج 2 ص 539.
[ (4) ] ما بين القوسين زيادة من: (زاد المعاد) ج 3 ص 278، وسياقه مضطرب في (خ) فبعد قوله: «اليوم يوم الرضع» ما يأتي: «حتى لحقهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والخيول عشاء، وكانوا ثمانية أفراس، وكان المقداد أمير الفرسان حتى لحقهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي قرد» راجع (ابن سعد) ج 2 ص 81. و (الواقدي) ج 2 ص 541.

(1/261)


المقداد أمير الفرسان [وقيل: بن أميرهم سعد بن زيد الأشهلي] [ (1) ] .
فقال سلمة:
يا رسول اللَّه! إن القوم عطاش، وليس لهم ماء دون أحساء كذا وكذا، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بين أيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم! فقال:
ملكت فأسجح [ (2) ] ! ثم قال: [إنهم الآن] [ (3) ] ليقرون [ (4) ] في غطفان.
وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم، و [على] [ (5) ] الإبل، والقوم يعتقبون البعير والحمار، حتى انتهوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح- منها جمل أبي جهل- وأفلت القوم بعشر [ (6) ] .

ذكر القتلى
وكانت راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العقاب يحملها سعد، وكان قد أدرك محرز، نضلة بن عبد اللَّه بن مرّة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة- القوم بهيفا [ (7) ] ، فطاعنهم ساعة [ (8) ] بالرمح فقتله مسعدة بن حكمة. وأقبل عباد بن بشر
__________
[ (1) ] في (خ) «مسعدة بن زيد» والصواب ما أثبتناه من (ابن سعد) ج 2 ص 81. و (الواقدي) ج 2 ص 541، يقول (ابن سعد) والثابت عندنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمّر على هذه السرية سعد بن زيد الأشهلي، ولكن الناس نسبوها إلى المقداد لقول حسان بن ثابت:
سرّ أولاد اللقيطة أننا ... سلم غداة فوارس المقداد
راجع (ديوان حسان) ص 326.
[ (2) ] الإسجاح: حسن العفو، أي ملكت الأمر على فأحسن العفو عني، وأصله السهولة والرّفق، وهو مثل يضرب لذلك: (مجمع الأمثال للميداني) ج 1 ص 460، ج 2 ص 248 مثل رقم 1629.
[ (3) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 84 (وزاد المعاد) ج 3 ص 279.
[ (4) ] من القرى، وهو ما يقدم للضيف.
[ (5) ] زيادة من (ط) ورواية (الواقدي) ج 2 ص 542، (وزاد المعاد) ج 3 ص 279 بدون هذه الزيادة.
[ (6) ] يقول (ابن القيم) في (زاد المعاد) ج 3 ص 279: «قلت: وهذا غلط بين، والّذي في الصحيحين:
أنهم استنفذوا اللقاح كلها» ولفظ مسلم في صحيحه ج 12 ص 179 (بشرح النووي) «حتى ما خلق اللَّه من بعير من ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا خلّفته وراء ظهري، وخلّوا بيني وبينه» .
[ (7) ] في (خ) و (المغازي) «بهيقا» وهو خطأ قد صححه محقق (المغازي) وصوابه: «بهبفا» وهيفا:
موضع على ميل من بئر المطلب (وفاء ألوفا) ج 2 ص 387، وقد ذكر محقق (ط) في (المستدرك) أن هذا الموضع لم يذكره أحد من أصحاب كتب البلدان.
[ (8) ] في (خ) «ساعد» هكذا مشكولة وهو خطأ، وما أثبتناه من (المغازي) ج 2 ص 548.

(1/262)


على أوبار بن عمرو بن أوبار [ (1) ] وقاتله، فقتله عباد، وقيل: بل قتله عكاشة بن محصن.

دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي قتادة
ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي قتادة لما أدركه فقال: اللَّهمّ بارك له في شعره، وبشره. وقال: أفلح وجهك! فقال: ووجهك يا رسول اللَّه! ثم قال: قتلت مسعدة؟ قال: نعم! قال: ما هذا بوجهك؟ قال: سهم رميت به يا رسول اللَّه! قال: فادن مني! فدنا منه فبصق عليه فما ضرب عليه قطّ ولا قاح [ (2) ]
فمات أبو قتادة، وهو ابن سبعين سنة، وكأنه ابن خمس عشرة [ (3) ] سنة،
وأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ فرس مسعدة وسلاحه وقال: بارك اللَّه لك فيه.

أصحاب الخيل
واستعمل صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ على الخيل سعد بن زيد الأشهليّ وقدّمه أمامه، فلحق القوم وناوشهم ساعة: هو والمقداد بن عمرو، ومعاذ بن ماعص، وأبو قتادة، وسلمة بن الأكوع، فحمل سعد على حبيب بن عيينة بن حصن فقتله وأخذ فرسه، وقيل: قتل حبيب بن عيينة المقداد. وكان شعار المسلمين يومئذ: أمت أمت.

صلاة الخوف
وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ صلاة الخوف: فقام إلى القبلة وصفّ طائفة خلفه، وطائفة مواجهة العدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وسجدتين ثم انصرفوا. وقاموا مقام أصحابهم، وأقبل الآخرون فصلى بهم ركعة وسجدتين وسلّم، فكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعة.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (خ) «آنار» وفي المغازي ج 1 ص 543 «أونار» .
[ (2) ] كذا في (خ) وفي (المغازي) ج 2 ص 545 والقيح: المدة لا يخالطها دم، قاح الجرح يقيح (ترتيب القاموس) ج 3 ص 721 وفي (ط) «فاح» بالفاء، وقد ذكر محقق (ط) أن هذا صوابها.
[ (3) ] في (خ) «خمسة عشر سنة» .

(1/263)


تاريخ الغزوة
وكانت غزاة ابن عيينة ليلة الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ست.
فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأربعاء، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأقام بذي قرد يوما وليلة. وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها، وكانوا خمسمائة، ويقال: كانوا سبعمائة.

حراسة المدينة وإمداد سعد بن عبادة المسلمين
وأقام سعد بن عبادة- في ثلاثمائة من قومه- يحرسون المدينة خمس ليال حتى رجع صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الاثنين. وأمدّ المسلمين سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه بأحمال تمر، وبعشر جزائر بذي قرد: وبعث بذلك مع ابنه قيس بن سعد،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا قيس! بعثك أبوك فارسا، وقرى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو! اللَّهمّ ارحم سعدا وآل سعد! ثم قال: نعم المرء سعد بن عبادة! فقالت الأنصار:
يا رسول اللَّه، هو بيننا وسيدنا وابن سيدنا. كانوا يطعمون في المحل [ (1) ] ، ويحملون الكل [ (2) ] ، ويقرون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة [ (3) ] . فقال:
خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين.

الرجوع إلى المدينة وخبر امرأة أبي ذر
ورجع صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة ليلة الاثنين وقد غاب عنها خمس ليال.
فأقبلت امرأة أبي ذر على ناقته القصواء. - وكانت في السرح- فدخلت عليه فأخبرته من أخبار الناس، ثم قالت: يا رسول اللَّه! إني نذرت إن نجاني اللَّه عليها أن أنحرها فآكل من كبدها وسنامها! فتبسم وقال: بئس ما جزيتها! أن حملك اللَّه عليها ونجاك [بها] [ (4) ] ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية اللَّه ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة اللَّه.
__________
[ (1) ] المحل: محل المكان: أجدب (المعجم الوسيط) ج 2 ص 756.
[ (2) ] الكلّ: الفقير المعدم.
[ (3) ] من الحمالة: وهي الدية والغرامة.
[ (4) ] زيادة من ابن هشام ج 3 ص 179، وفي (خ) (والمغازي) بدونها.

(1/264)


خبر الهدية
وقيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه لقحتك السمراء على بابك، فخرج مستبشرا، فإذا رأسها بيد ابن أخي عيينة بن حصن، فلما نظر عرفها، فقال: أيم بك [ (1) ] ؟
فقال: يا رسول اللَّه! أهديت إليك هذه اللقحة، فتبسم وقبضها منه، وأمر له بثلاثة أواقي فضة، فتسخط، فصلى عليه السلام الظهر وصعد المنبر فحمد اللَّه، ثم قال: إن الرجل أهدى لي الناقة من إبلي، أعرفها كما أعرف بعض أهلي ثم أثيبه عليها، فيظل يتسخط عليّ! ولقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قريشي أو أنصاري.
وفي رواية [ (2) ] : أو ثقفي أو دوسي.

بعض تاريخ الغزوة
ووقع في صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع في هذه القصة قال: فرجعنا إلى المدينة فلم نلبث إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر. وذهب قوم إلى غزوة المريسيع كانت في شعبان، بعد غزوة الغابة هذه [ (3) ] .

يا خيل اللَّه اركبي
وفي غزوة الغابة نودي عند ما جاء الفزع: يا خيل اللَّه اركبي: ولم يكن يقال قبلها.

سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر
ثم كانت سرية عكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة بن كبير بن غنم ابن دودان بن أسد بن خزيمة- الأسدي- إلى الغمر: وهو ماء لبني أسد على ليلتين من قيد [ (4) ] في ربيع الأول سنة ست. فخرج في أربعين رجلا يغذ السير، فنذر به القوم فهربوا، وانتهى إلى علياء بلادهم فلم يلق أحدا. وبث سراياه فظفروا
__________
[ (1) ] يريد: أي شيء بك؟
[ (2) ] عن أبي هريرة، ذكرها (الواقدي) ج 2 ص 549.
[ (3) ] يقول (ابن القيم) في (زاد المعاد) ج 3 ص 279: «وهذه الغزوة كانت بعد الحديبيّة، وقد وهم فيها جماعة من أهل المغازي والسّير، فذكروا أنها قبل الحديبيّة» .
[ (4) ] قيد: بليدة في نصف طريق مكة من الكوفة (معجم البلدان) ج 4 ص 282.

(1/265)


بنعم فاستاقوا مائتي بعير وعادوا.

سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة
ثم كانت سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة- موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرين ميلا- يريد بني ثعلبة وبني عوال من ثعلبة [ (1) ] : وهم مائة رجل، في ربيع الأول، فسار في عشرة حتى وردوا ليلا وناموا، فأحاط بهم المائة رجل من بني ثعلبة ففزعوا، وراموهم ساعة بالنبل، ثم حملت الأعراب بالرماح عليهم فقتلوهم، وسقط محمد بن مسلمة جريحا، فحمل بعد ذلك إلى المدينة.

سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة
ثم كانت سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر سنة ست. خرج في ليلة السبت ومعه أربعون رجلا، فغاب ليلتين، وكانت بلاد بني ثعلبة وأنمار قد أجدبت، فتتبع بنو محارب وثعلبة وأنمار سحابة وقعت بالمراض إلى تغلمين، [والمراض على ستة وثلاثين ميلا من المدينة] ، وأجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة ببطن هيفاء [ (2) ] : [موضع على سبعة أميال من المدينة] . فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا عبيدة رضي اللَّه عنه بمن معه بعد ما صلوا صلاة المغرب: فمشوا ليلهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح [ (3) ] ، فأغاروا على القوم فأعجزوهم هربا، وأخذوا رجلا، واستاقوا نعما، ووجدوا رثة من متاع، وعادوا، فخمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغنيمة، وقسم باقيها. وأسلم الرجل وترك لحاله.

سرية زيد بن حارثة إلى العيص
وكانت سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه عنه إلى العيص: على أربع ليال من المدينة، في جمادى الأولى منها، ومعه سبعون ومائة راكب، ليأخذوا عيرا لقريش قد أخذت طريق العراق. ودليلها فرات بن حيان العجليّ. فظفر بها زيد، وأسر أبا العاص بن الربيع، والمغيرة بن معاوية بن أبي العاص، ووجد فضة كثيرة لصفوان
__________
[ (1) ] في (خ) «تغلب»
[ (2) ] في (خ) «هيفا»
[ (3) ] عماية الصبح: بقية الظلمة في آخر الليل.

(1/266)


ابن أمية. وقدم المدينة، فأجازت زينب [بنت رسول اللَّه] [ (1) ] عليها السلام زوجها أبا العاص.

إسلام أبي العاص زوج زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت: ورد عليه كل ما أخذ من المال.
فعاد إلى مكة وأدى إلى كل ذي حقّ حقه، وأسلم. ثم قدم المدينة مهاجرا، فرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه زينب بذلك النكاح.

إفلات المغيرة بن معاوية من أسر عائشة رضي اللَّه عنها
وأفلت المغيرة بن معاوية فتوجه إلى مكة، فأخذه خوات بن جبير أسيرا- وكان في سبعة نفر مع سعد بن أبي وقاص- فدخلوا به المدينة بعد العصر،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعائشة رضي اللَّه عنها: احتفظي عليك بهذا الأسير، وخرج.
فلهت عائشة مع امرأة بالحديث، فخرج وما شعرت به.

خبر دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عائشة رضي اللَّه عنها
فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يره وسألها، فقالت: غفلت عنه، وكان هاهنا آنفا! فقال: قطع اللَّه يدك. وخرج فصاح بالناس، فخرجوا في طلبه حتى أخذوه وأتوا به. فدخل صلّى اللَّه عليه وسلّم على عائشة وهي تقلّب يدها فقال: مالك؟ قالت: انظر كيف تقطع يدي! قد دعوت عليّ بدعوتك! فاستقبل صلّى اللَّه عليه وسلّم القبلة ورفع يديه ثم قال:
اللَّهمّ إنما أنا بشر أغضب وآسف كما يغضب البشر، فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعلها له رحمة [ (2) ] .

سرية زيد بن حارثة إلى الطرف
وكانت سرية زيد بن حارثة إلى الطّرف- ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، بناحية نخل من طريق العراق- في جمادى الآخرة منها، ومعه خمسة عشر
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح.
[ (2) ] راجع ج 2 من هذا الكتاب باب «وأما اشتراطه على ربه أن يجعل سبه لم سب من أمته أجرا» .

(1/267)


رجلا يريد بني ثعلبة، فأصاب لهم نعما وشاء. وقدم من غير قتال بعشرين بعيرا، ثم غاب أربع ليال.

سرية زيد بن حارثة إلى حسمي وسببها
وكانت سرية زيد أيضا إلى حسمي وراء وادي القرى، في جمادى الآخرة هذا. وسببها أن دحية الكلبي أقبل من عند قيصر ملك الروم بجائزة وكسوة، فلقيه بحسمي الهنيد بن عارض وابنه عارض بن الهنيد في جمع من جذام، فأخذوا ما معه.
ودخل المدينة بسمل [ (1) ] ثوب، [ويقال: بل نفر إليه النعمان بن أبي جعال في نفر من بني الضّبيب فخلص له متاعه بعد حرب] . فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيدا على خمسمائة رجل ومعه دحية، فكان يسير ليلا ويكمن نهارا، حتى هجم مع الصبح على الهنيد وابنه فقتلهما، واستاق ألف بعير وخمسة آلاف شاة، ومائة ما بين امرأة وصبيّ. فأدركه بنو الضّبيب- وقد كانوا أسلموا وقرءوا من القرآن- وحدّثوه أن يرد عليهم ما أخذ. ثم قدم زيد بن رفاعة الجذامي في نفر من قومه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، فذكر له ما صنع زيد بن حارثة، ورضوا بأخذ ما أصاب لهم من الأهل والمال، وأغضوا عمّن قتل. فبعث معهم علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ومعه سيفه أمارة- ليردّ عليهم زيد ما أخذ منهم- فردّ جميع ذلك بعد ما فرّقه فيمن معه، وقد وطئوا النساء.

سرية عبد الرحمن بن عوف إلى كلب بدومة الجندل يدعوهم إلى الإسلام
وكانت سرية عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه إلى كلب بدومة الجندل في شعبان منها [ (2) ] ، ليدعوا كلبا إلى الإسلام، ومعه سبعمائة رجل. فأقعده بين يديه، ونقض عمامته بيده الكريمة، صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم عمّمه بعمامة سوداء وأرخى بين كتيفيه منها، ثم
قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف! ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أغد باسم اللَّه وفي سبيل اللَّه. فقاتل من كفر باللَّه. لا تغلّ ولا تغدر ولا تقتل وليدا.
__________
[ (1) ] ثوب سمل: بال خلق.
[ (2) ] من سنة ست.

(1/268)


الخمس المهلكات
ثم بسط يده فقال: يا أيها الناس! اتقوا خمسا قبل أن تحلّ بكم: ما نقض [ (1) ] مكيال قوم إلا أخذهم اللَّه بالسنين [ (2) ] ونقص من الثمرات لعلّهم يرجعون، وما نكث قوم عهدهم إلا سلّط اللَّه عليهم عدوهم، وما منع قوم الزكاة إلا أمسك اللَّه عنهم قطر السماء: ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط اللَّه عليهم الطاعون، وما حكم قوم بغير آي القرآن إلا ألبسهم شيعا [ (3) ] وأذاق بعضهم بأس بعض.

إسلام الأصبغ ملك كلب، وزواج عبد الرحمن ابن عوف تماضر ابنته
فسار عبد الرحمن بن عوف حتى قدم دومة الجندل، ودعا أهلها ثلاثة أيام إلى الإسلام وهم يأبون إلا محاربته. ثم أسلم الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حصن ابن ضمضم الكلبي: وكان نصرانيا وهو رأس القوم،
فكتب عبد الرحمن بن عوف بذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع رافع بن مكيث، وأنه أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه أن تزوج تماضر ابنة الأصبغ،
فتزوجها، فهي أول كلبية تزوجها قرشيّ، فولدت له أبا سلمة، [العقية] [ (4) ] . [وهي أخت النعمان بن المنذر لأمّه] .
وأقبل بعد ما فرض الجزية على من أقام على دينه.

سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر
ثم كانت سرية علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه إلى بني سعد بن بكر [ (5) ]
__________
[ (1) ] كذا في (خ) و (ط) وفي (الواقدي) ج 2 ص 561 «ما يقضى» .
[ (2) ] السنين جمع سنة، وهي القحط والجدب.
[ (3) ] أي مختلفين المتباعدين، إشارة إلى قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ من الآية 65/ الأنعام.
[ (4) ] هكذا رسم هذه الكلمة في (خ) والسياق مستقيم بدونها وحذفها أولى.
[ (5) ] في (خ) «بني عبد اللَّه سعد بن بكر» والّذي أثبتناه من: (الواقدي) ج 2 ص 562، و (ابن سعد) ج 2 ص 89.

(1/269)


وكانوا بفدك [ (1) ] في شعبان منها، ومعه مائة رجل. وقد أجمعوا [يعني بني سعد ابن بكر] [ (2) ] على أن يمدوا يهود خيبر. فسار ليلا وكمن نهارا، حتى [إذا] [ (2) ] انتهى إلى ماء بين خيبر وفدك يقال له: الهمج، وجد عينا لبني سعد قد بعثوه إلى خيبر- لتجعل لهم يهود من ثمرها كما جعلوا لغيرهم، حتى يقدموا عليهم- فدلهم على القوم بعد ما أمّنوه. فسار عليّ حتى أغار على نعمهم وضمّها، وفرّت رعاتها فأنذرت القوم. وقد تجمّعوا مائتي رجل، وعليهم وبر بن عليم [ (3) ] ، فتفرقوا. وانتهى عليّ بمن معه فلم ير منهم أحدا، وساق النّعم: وهي خمسمائة بعير وألفا شاة، فعزل الخمس وصفىّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقوحا تدعى (الحفذة) [ (4) ] ، ثم قسم ما بقي، وقدم المدينة.

سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة [ (5) ] ، وسببها
ثم كانت سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر الفزارية، بناحية وادي القرى: على سبع ليال من المدينة، في رمضان سنة ست، وسببها أن زيدا خرج في تجارة إلى الشام، [ومعه بضائع لأصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (6) ] ، فخرج عليه- دوين وادي القرى- ناس من بني بدر من فزارة فضربوه، ومن معه حتى ظنوا أنهم قتلوه، وأخذوا ما كان معه، ثم تحامل حتى قدم المدينة. فبعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سرية إلى بني فزارة، فكان يكمن نهاره ويسير ليله، ونذرت بهم بنو بدر فاستعدّوا، فلما كان زيد ومن معه على مسيرة ليلة أخطأ بهم دليلهم الطريق، حتى صبحوا القوم فأحاطوا بهم، فقتل سلمة بن الأكوع رجلا منهم، وأخذ [سلمة بن] [ (7) ] سلامة بن وقش، [ويقال: بل سلمة بن الأكوع، واسم
__________
[ (1) ] فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة. (معجم البلدان) ج 4 ص 238.
[ (2) ] زيادة للبيان والإيضاح.
[ (3) ] في (خ) «وبرب عليم» والتصويب من: (ابن سعد) ج 2 ص 90 و (الواقدي) ج 2 ص 562.
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (ابن سعد) ج 2 ص 90 وفي (الواقدي) ج 2 ص 563: «الجفدة» مضبوطة.
[ (5) ] قال (الميداني) في (مجمع الأمثال) ج 2 ص 323: قال الأصمعي: هي امرأة فزارية، وكانت تحت مالك بن حذيفة بن بدر وكان يعلّق في بيتها خمسون سيفا لخمسين فارسا كلهم محرم» ذكره تعليقا على المثل رقم 164 وهو: «أمنع من أمّ قرفة» وفي (جمهرة الأمثال) (لأبي هلال العسكري) : رقم 1244 «أعزّ من أم قرفة» ج 2 ص 66.
[ (6) ] زيادة للبيان والإيضاح من (ابن سعد) ج 2 ص 90.
[ (7) ] زيادة لا بد منها.

(1/270)


الأكوع سنان] ، جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر وأمّها أمّ قرفة: فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وغنموا. ثم قدموا المدينة، فقرع زيد بن حارثة الباب، فقام إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجرّ ثوبه عريانا حتى اعتنقه وقبّله، وساءله، فأخبره بما ظفّره اللَّه.
وقتل في هذه السرية عبد اللَّه بن مسعدة، وقيس بن النعمان بن مسعدة بن حكمة بن مالك [بن حذيفة] [ (1) ] بن بدر، أحد بني قرفة. وأم قرفة قتلها قيس ابن المحسر [اليعمري] [ (2) ] قتلا عنيفا: ربط بين رجليها حبلا، ثم ربطها بين بعيرين [ثم زجرهما فذهبا فقطعاها] [ (3) ] وهي عجوز كبيرة. فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برأسها فدير به في المدينة ليعلم قتلها، ويصدق
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قوله لقريش: «أرأيتم إن قتلت أمّ قرفة؟ فيقولون: أيكون ذلك؟»
وكان زوجها مالك بن حذيفة ابن بدر. وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سلمة بن الأكوع ابنة أم قرفة، فوهبها لحزن ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي مشركة وهو مشرك، فولدت له عبد الرحمن بن حزن، وكانت جميلة.

سرية عبد اللَّه بن رواحة إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر
ثم كانت سرية أميرها عبد اللَّه بن رواحة إلى أسير بن زارم [ (4) ] بخيبر، وكان من يهود، في شوال سنة ست. وكان قد بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل ذلك في رمضان في ثلاثة نفر ينظر إلى خيبر وما تكلم به يهود، فوعى ذلك وعاد بعد إقامة ثلاثة أيام، فقدم لليال بقين منه، فأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما ندبه إليه.

خبر أسير بن زارم
وكان أسير قد تأمّر على يهود بعد أبي رافع، فقام فيهم يريد حرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسار في غطفان فجمعها ليسير إلى المدينة، فقدم بخبره خارجة بن حثيل
__________
[ (1) ] زيادة من النسب.
[ (2) ] في (ابن هشام) ج 4 ص 195: «قيس بن المسحر اليعمري» وفي (الواقدي) ج 2 ص 565 «قيس بن المحسّر» .
[ (3) ] زيادة لتمام المعنى من المرجع السابق ومن (الطبراني) ج 2 ص 642، 643.
[ (4) ] وفي بعض كتب السيرة «رازم» وفي (ابن هشام) «اليسير بن رازم» ج 4 ص 196.

(1/271)


الأشجعي [ (1) ] . فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، واستعمل عليهم عبد اللَّه بن رواحة رضي اللَّه عنه. فقدموا خيبر، وبعثوا إلى أسير فأمّنهم حتى يأتوه [ (2) ] ، فيما جاءوا فيه، فأتوه وقالوا له: إن رسول اللَّه قد بعثنا إليك أن تخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك، وخرج في ثلاثين من يهود، ثم ندم في أثناء الطريق حتى عرف ذلك منه.

غدرة لليهودي
وهمّ بعبد اللَّه بن أنيس- وكان فيمن خرج مع ابن رواحة- ففطن عبد اللَّه بغدره وبادر ليقتله، فشجّه أسير ثم قتل. ومالوا على أصحابه فقتلوهم كلهم، إلا رجلا واحدا فرّ منهم، ولم يصب أحد من المسلمين. وقدموا المدينة- وقد خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتحسب أخبارهم- فحدثوه الحديث،
فقال: نجاكم اللَّه من القوم الظالمين- ونفث في شجة عبد اللَّه بن أنيس فلم تفح [ (3) ] بعد ذلك ولم تؤذه، وكان العظم قد نقّل. ومسح على وجهه ودعا له، وقطع له قطعة من عصاه فقال:
أمسك هذه علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متخصّرا. فجعلت معه في قبره تلي جلده، ويروى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان قد قال له:
يا عبد اللَّه! لا أرى أسير بن زارم! أي اقتله.

سرية كرز بن جابر
ثم كانت سرية كرز بن جابر بن حسل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك القرشيّ الفهريّ- لما أغير على لقاح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي الجدر- في شوال سنة ست- وهي على ستة أميال من المدينة، وذلك أن نفرا من عرينة ثمانية قدموا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [فأسلموا، واستوبئوا المدينة. وطحلوا، فأمر بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ]] إلى لقاحه- وكان سرح المسلمين بذي الجدر ناحية
__________
[ (1) ] في (الواقدي) «ابن حسيل» وفي (خ) ، (ط) «حثيل» . ويقول محقق (ط) عن «خارجة» «ولا رأيت أحدا.
[ (2) ] في (خ) «حتى يأتونه» .
[ (3) ] كذا في (ط) وفي (خ) ، (الواقدي) «تقح» بالقاف.
[ (4) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 93 واستوبئوا: استوخموا (ترتيب القاموس) ج 4 ص 554 وطحل الماء: فسد وأنتن (المرجع السابق) ج 3 ص 58.

(1/272)


قباء قريبا من عير ترعى هناك- فكانوا فيها حتى [ (1) ] صحوا وسمنوا- وكانوا استأذنوه أن يشربوا من ألبانها وأبوالها فأذن لهم- فغدوا على اللقاح فاستاقوها، فيدركهم يسار مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه نفر فقاتلهم، فأخذوه فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، وانطلقوا بالسرح. فأقبلت امرأة من بني عمرو بن عوف على حمار لها حتى تمرّ بيسار فتجده تحت شجرة، فلما رأته وما به رجعت إلى قومها فأخبرتهم، فخرجوا نحو يسار حتى جاءوا به إلى قباء ميتا.
فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في إثرهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهري، فخرجوا في طلبهم حتى أدركهم الليل فباتوا بالحرّة، وأصبحوا لا يدرون أين يسلكون، فإذا هم بامرأة تحمل كتف بعير فأخذوها، فقالوا: ما هذا معك؟
قالت: مررت بقوم قد نحروا بعيرا فأعطوني هذا. ودلتهم على موضعهم فأتوهم.
فأحاطوا بهم وأسروهم جميعهم.

عقاب الأسرى
وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة- وقد خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الغابة [ (2) ]- فأتوه بهم. فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمل [ (3) ] أعينهم، وصلبوا بالزّغابة.

النهي عن المثلة
فنزلت هذه الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [ (4) ] فلم تسمل بعد ذلك عين، ولا بعث صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك بعثا إلا نهاهم عن المثلة.
وروى جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده: لم يقطع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لسانا قط، ولم يسمل عينا ولم يزد على قطع اليد والرجل.
__________
[ (1) ] في (خ) «حتى إذا» ، وحذف «إذا» أولى للسياق.
[ (2) ] في (خ) «بالغابة» .
[ (3) ] سمل العين: فقأها (ترتيب القاموس) ج 2 ص 617.
[ (4) ] في (خ) «فسادا، الآية» ، والآية 33/ المائدة.

(1/273)


اللقاح
ولما ظفر المسلمون باللقاح خلّفوا عليها سلمة بن الأكوع ومعه أبو رهم الغفاريّ. وكانت خمسة عشرة لقحة غزارا. فلما أقبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الزّغابة إذا اللقاح على باب المسجد تحان [ (1) ] ، فلما نظر إليها تفقد منها لقحة يقال لها الحنّاء، وقد نحرها القوم، فردها إلى ذي الجدر فكانت هناك، وكان لبنها يروح به سلمة ابن الأكوع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كل ليلة وطب [ (2) ] لبن.