إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع عمرة الحديبيّة
ثم كانت عمرة الحديبيّة [على مقربة مكة] [ (3) ] . وذلك أن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في النوم أنه دخل البيت وحلق رأسه، وأخذ مفتاح
البيت، وعرّف مع المعرّفين [ (4) ] ، فاستنفر أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا
وتهيأوا للخروج.
إسلام بسر بن سفيان وشراؤه الهدي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقدم عليه بسر بن سفيان بن عمرو بن عويمر الخزاعيّ في ليال من شوال مسلما،
فقال له: يا بسر! لا تبرح حتى تخرج معنا، فإنا إن شاء اللَّه معتمرون.
فأقام وابتاع بدنا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكان يبعث بها إلى
ذي الجدر حتى حضر خروجه، فأمر بها فجلبت إلى المدينة، وسلمها إلى ناجية بن
جندب بن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن واثلة بن سهم [ (5) ] بن مازن بن
سلامان بن أسلم بن أفصى الأسلمي ليقدمها إلى ذي الحليفة.
سلاح المسلمين وهديهم
وخرج المسلمون لا يشكون في الفتح- للرؤيا المذكورة-، وليس معهم
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير منقوطة في (خ) ولعلها «تحان» تفاعل من الحنين،
وتحانّ القوم: اشتقاق بعضهم إلى بعض (المعجم الوسيط) ج 1 ص 203.
[ (2) ] الوطب: «سقاء اللبن» وهو جلد الجذع فما فوقه (المرجع السابق) ج 2 ص
1041.
[ (3) ] ما بين القوسين في (خ) كان بعد قوله «وطب اللبن» ، وهذا حق مكانه.
والحديبيّة في الحل وبعضها في الحرم، وعند مالك بن أنس أنها جميعها في
الحرم. (معجم البلدان) ج 2 ص 229، 230.
[ (4) ] عرّف: وقف بعرفة في الحج.
[ (5) ] في (خ) «وائلة بن تيم» وما أثبتناه من (ط) .
(1/274)
سلاح إلا السيوف في القرب. وساق قوم الهدي
[ (1) ] : منهم أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن
عبيد اللَّه، وسعد بن عبادة، رضوان اللَّه عليهم.
كلام عمر في أمر السلاح
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: أتخشى يا رسول اللَّه علينا من أبي
سفيان ابن حرب وأصحابه ولم تأخذ للحرب عدتها؟ فقال: ما أدري، ولست أحب أحمل
السلاح معتمرا.
وقال سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه: لو حملنا يا رسول اللَّه السلاح معنا،
فإن رأينا من القوم ريبا كنا معدين لهم! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لست
أحمل السلاح، إنما خرجت معتمرا.
يوم الخروج
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وخرج من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي
القعدة. هذا هو الصحيح، وإليه ذهب الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن
إسحاق، والواقدي [ (2) ] ، واختلف فيه على عروة بن الزبير، فعنه: خرج رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبيّة في رمضان، وكانت الحديبيّة في
شوال [ (3) ] . وعنه أنها كانت في ذي القعدة من سنة ست.
بدء الجهاز للعمرة
قال الواقدي: فاغتسل في بيته، ولبس ثوبين من نسج صحار [ (4) ] ، وركب
راحلته القصواء من عند بابه، وخرج المسلمون. فصلى الظهر بذي الحليفة، ثم
دعا بالبدن فجلّلت [ (5) ] ، ثم أشعر [ (6) ] منها عدة- وهي موجهات إلى
القبلة- في
__________
[ (1) ] الهدى: ما يهدى إلى الحرم من النعم. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 978.
[ (2) ] في (المغازي) ج 2 ص 573.
[ (3) ] قال ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 285، 287: «وقال هشام بن
عروة، عن أبيه: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبيّة في
رمضان، وكانت في شوال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان» .
[ (4) ] صحار: قرية باليمن ينسب الثوب إليها (النهاية) ج 2 ص 12.
[ (5) ] من الجلل: وهو البسط أو الأكسية التي تلبسها فتصان به (ترتيب
القاموس) ج 1 ص 518.
[ (6) ] أشعر البدنة: أعلمها، وهو أن يشق جلدها، أو يطعنها حتى يظهر الدم
(ترتيب القاموس) ج 2 ص 720.
(1/275)
الشق الأيمن.
إشعار الهدي وتقليده
ثم أمر ناجية بن جندب بإشعار ما بقي، وقلد [ (1) ] نعلا نعلا، وهي سبعون
بدنة: منها جمل أبي جهل الّذي غنمه يوم بدر. وأشعر المسلمون بدنهم، وقلدوا
النعال في رقابها. وبعث بسر بن سفيان عينا له، وقدم عباد بن بشر طليعة في
عشرين فرسا، ويقال: أميرهم سعد بن زيد الأشهلي.
إحرام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذي الحليفة
ثم صلى ركعتين وركب من باب المسجد بذي الحليفة [ (2) ] ، فلما انبعثت به
راحلته مستقبلة القبلة أحرم فلبى: «لبيك اللَّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك
لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» .
وأحرم عامة الناس بإحرامه.
عدد المسلمين
وسلك طريق البيداء [ (3) ] ، وخرج معه من المسلمين ألف وستمائة، ويقال:
ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا، ويقال: ألف
وثلاثمائة [ (4) ] .
عدد النساء
وأربع نسوة: أم سلمة أم المؤمنين، وأم عمارة، وأم منيع- أسماء بنت عمرو ابن
عدي [بن سنان بن نابي] [ (5) ] بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصارية،
وأم عامر الأشهلية، وقال بعضهم: كانوا سبعمائة. قال ابن حزم:
__________
[ (1) ] قلّدتها قلادة: جعلتها في عنقها، ومنه تقليد البدنة شيئا بعلم به
أنها هدى. (ترتيب القاموس) ج 3 ص 674.
[ (2) ] في (خ) «بالحديبية» .
[ (3) ] البيداء: اسم لأرض ملساء بين مكة والمدينة وهي إلى مكة أقرب. (معجم
البلدان) ج 1 ص 523.
[ (4) ] راجع: (فتح الباري) ج 7 ص 443 الحديث رقم 4153، 4154، 4155. و
(الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي ص 6094 و (تفسير الطبري) ج 26 ص 87 و (زاد
المعاد) ج 3 ص 287.
[ (5) ] في (خ) مكان ما بين القوسين «بين أبي بن عمرو، وهو خطأ، وما
أثبتناه من (ط) .
(1/276)
وهذا وهم شديد البتة، قال: والصحيح بلا شك
ما بين ألف وثلاثمائة إلى ألف وخمسمائة.
مقالة بني بكر ومزينة وجهينة
ومر فيما بين مكة والمدينة بالأعراب بني بكر ومزينة وجهينة فاستنفرهم،
فتشاغلوا بأبنائهم وأموالهم، وقالوا فيما بينهم: أيريد محمد أن يغزو بنا [
(1) ] إلى قوم معدّ في الكراع والسلاح؟ وإنما محمد وأصحابه أكلة جزور [ (2)
] ! لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا أبدا! قوم لا سلاح معهم ولا عدد!.
هدية بني نهد
ثم قدم ناجية بن جندب مع الهدي في فتيان من أسلم، ومعهم هدي للمسلمين.
ولقي بالروحاء طائفة من بني نهد، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبعثوا إليه
بلبن من نعمهم فقال: لا أقبل هدية من مشرك.
رد هدية المشركين
وردّه، فابتاعه المسلمون منهم. وابتاعوا ثلاثة أضب [ (3) ] فأكل منها قوم
أجلّة.
وسأل المحرمون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها فقال: كلوا، فكلّ
صيد البر لكم حلال في الإحرام تأكلونه إلا ما صدتم أو صيد لكم.
الصيد في الحرم
ورأى أبو قتادة بالأبواء حمارا وحشيا- وكان محلا [ (4) ] فحمل عليه فقتله،
فأكل منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وجاءه يومئذ الصّعب بن جثامة بن قيس الليثيّ بحمار وحشيّ أهداه له فردّه،
وقال: إنا لم نرده إلا أنا حرم.
__________
[ (1) ] في (خ) «أريد محمدا يغزوننا» ، وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص
574.
[ (2) ] كناية عن قلة العدد، فإن أكلة الجزور عادة لا يتجاوزون العشرة.
[ (3) ] أضب: جمع ضب، وهو حيوان من جنس الزواحف تأكل الأعراب لحمه (المعجم
الوسيط) ج 1 ص 532.
[ (4) ] محلّ: غير محرم.
(1/277)
هدية إيماء بن رحضة
وأهدي له إيماء بن رحضة بن خربة الغفاريّ مائة شاة وبعيرين يحملان لبنا:
بعث بهما مع ابنه خفاف بن إيماء ففرق ذلك وقال: بارك اللَّه فيكم. وأهدي له
من ودان لياء [وهو حب أبيض كالحمص] وعتر [ (1) ] وضغابيس [ (2) ] ، فجعل
يأكل الضغابيس والعتر وأعجبه،
وأدخل منه على أمّ سلمة.
خبر كعب الّذي آذاه القمل وهو محرم
ورأى بالأبواء كعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث البلوي ورأسه
يتهافت قملا وهو محرم، فقال: هل تؤذيك هوامّك يا كعب؟ قال: نعم يا رسول
اللَّه! قال: فاحلق رأسك. وفيه نزلت: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ
بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ [ (3) ] ، فأمره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يذبح شاة،
أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستين مسكينا: لكل مسكين مدّين، أي ذلك فعل
أجزأه.
ويقال: إن كعب بن عجرة أهدي بقرة قلدها وأشعرها.
ما عطب من الهدي
وعطب [ (4) ] من ناجية بن جندب بعير من الهدي، فجاء بالأبواء إلى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخبره، فقال: أنحرها [ (5) ] ، وأصبغ
قلائدها في دمها، ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك منها، وخلّ بين الناس
وبينها.
نزول الجحفة
ولما نزل الجحفة لم يجد بها ماء، فبعث رجلا في الروايا إلى الخرّار، فرجع
__________
[ (1) ] العتر: نبت أو شجر صغار فإذا طال وقطع خرج منه شبه اللبن (النهاية)
ج 3 ص 177 و (ترتيب القاموس) ج 3 ص 146.
[ (2) ] الضغابيس: صغار القثّاء، جمع ضغبوس (المرجع السابق) ص 78.
[ (3) ] آية 196/ البقرة، وفي (خ) «وفيه نزلت، ففدية ... » .
[ (4) ] عطب البعير والفرس: انكسر (ترتيب القاموس) ج 3 ص 250.
[ (5) ] الضمير هنا عائد على البدنة وهي البعير.
(1/278)
بها وقال: يا رسول اللَّه! ما أستطيع أن
أمضي رعبا! فبعث رجلا آخر بالروايا، فرجع وذكر كما ذكر الأول: فبعث آخر
وخرج السقاء معه، فاستقوا وأتوا بالماء.
ثم أمر بشجرة يقم [ (1) ] ما تحتها.
خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وخطب الناس فقال: إني كائن لكم فرطا [ (2) ] ، وقد تركت فيكم ما إن أخذتم
به لم [ (3) ] تضلوا: كتاب اللَّه وسنة نبيه.
بلاغ خبر المسلمين إلى أهل مكة وخروجهم إليهم
وبلغ أهل مكة خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فراعهم ذلك،
وتشاوروا. ثم قدّموا عكرمة بن أبي جهل- ويقال: خالد بن الوليد- على مائتي
فارس إلى كراع الغميم، واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش، وأجلبت ثقيف معهم:
ووضعوا العيون على الجبال، وهم عشرة رجال يوحي بعضهم إلى بعض بالصوت: فعل
محمد كذا كذا، حتى ينتهي ذلك إلى قريش ببلدح [ (4) ] . وخرجوا إلى بلدح
وضربوا بها القباب والأبنية، ومعهم النساء والصبيان، فعسكروا هناك، وقد
أجمعوا على منع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من دخول مكة ومحاربته.
إجماع قريش على منع المسلمين من دخول مكة،
ومشورة المسلمين
ورجع بسر بن سفيان من مكة وقد علم خبر القوم، فلقي رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم من وراء عسفان وأخبره الخبر.
واستشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] الناس: هل يمضي لوجهته
ويقاتل من صدّه عن البيت أو يخالف الذين استنفروا إلى أهليهم فيصيبهم؟
__________
[ (1) ]
وفي حديث فاطمة «أنها قمّمت البيت حتى اغبرّت»
أي كنسته، والقمامة: الكناسة. (النهاية) ج 4 ص 110.
[ (2) ] فرط: سبق، وأكثر ما يستعمل في السبق إلى الماء (المعجم الوسيط) ج 2
ص 673.
[ (3) ] في (خ) «لن» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 577.
[ (4) ] بلدح: واد قبل مكة من جهة المغرب (معجم البلدان) ج 1 ص 480.
[ (5) ] زيادة للبيان.
(1/279)
فأشار أبو بكر رضي اللَّه عنه أن يمضوا
لوجوههم، ويقاتلوا من صدهم. وقال المقداد بن عمرو: يا رسول اللَّه لا نقول
لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون»
ولكن: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما [ (1) ] مقاتلون» . واللَّه يا رسول
اللَّه! لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل.
وقال أسيد بن الحضير: يا رسول اللَّه! نرى أن نصمد لما خرجنا له، فمن صدنا
قاتلناه. فقال: إنا لم نخرج لقتال أحد، إنما خرجنا عمارا.
بديل بن ورقاء وخبر قريش
ولقيه بديل بن ورقاء بن عبد العزى بن ربيعة بن جرى بن عامر بن مازن ابن عدي
بن عمرو بن ربيعة [وهو الحي] [ (2) ] الخزاعي- في نفر من خزاعة، منهم
الحليس بن علقمة الحارثي، من بني الحارث بن عبد مناة، فقال: يا محمد! لقد
اغتررت بقتال قومك حلائب [ (3) ] العرب، واللَّه ما أرى معك أحدا له وجه،
مع أني أراكم قوما لا سلاح معكم! فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: عضضت ببظر
اللات! فقال بديل: أما واللَّه لولا يد لك عندي لأجبتك، فو اللَّه ما أتهم
أنا ولا قومي ألا أكون أحب أن يظهر محمد. إني رأيت قريشا مقاتلتك عن
ذراريها وأموالها، قد خرجوا إلى بلدح فاضطربوا [ (4) ] الأبنية، معهم العوذ
المطافيل [ (5) ] ، وترافدوا على الطعام [ (6) ] يطعمون الخزير [ (7) ] من
جاءهم، يتقوون به على حربك، فر رأيك [ (8) ] . وكانت قريش قد ترافدوا
وجمعوا أموالا يطعمون بها من ضوى إليهم من الأحابيش. وكان يطعم في أربعة
أمكنة: في دار الندوة لجماعتهم، وكان صفوان ابن أمية، وسهيل بن عمرو،
وعكرمة بن أبي جهل، وحويطب بن عبد العزى، كل منهم يطعم في داره.
__________
[ (1) ] في (خ) «معكم» .
[ (2) ] في (خ) «عمروا بن ربيعة» .
[ (3) ] استحلب القوم: اجتمعوا للنّصرة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 191.
[ (4) ] اضطرب البناء: أقامه.
[ (5) ] العوذ: جمع عائذ، وهي الناقة حديثة عهد بالنتاج (المعجم الوسيط) ج
2 ص 635، المطافيل: جمع مطفل وهي ذات الطفل من الإنسان والحيوان (المرجع
السابق) ص 560.
[ (6) ] ترافدوا: تعاونوا (المرجع السابق) ج 1 ص 359.
[ (7) ] الخزير: لحم يقطع قطعا صغارا ثم يطبخ بماء كثير وملح، فإذا اكتمل
نضجه ذرّ عليه الدقيق وعصد به، ثم أدم بإدام ماء (المرجع السابق) ص 231.
[ (8) ] ر: فعل الأمر من «رأى» .
(1/280)
دنو خالد بن الوليد
في المشركين للقاء المسلمين
ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى المسلمين، فصفّ خيله فيما بينهم
وبين القبلة، فقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عباد بن بشر في
خيله، فقام بإزائه وصف أصحابه. وحانت صلاة الظهر، فأذن بلال وأقام، فصلى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه مستقبل القبلة وهم خلفه، يركع
بهم ويسجد. ثم قاموا، فكانوا على ما كانوا عليه من التعبئة. فقال خالد بن
الوليد: قد كانوا على غرة، لو كنّا حملنا عليهم أصبنا منهم! ولكن تأتي
الساعة صلاة هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم!.
صلاة الخوف
فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية: وَإِذا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا
مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً
[ (1) ]
فحانت العصر، فأذن بلال وأقام، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
مواجها للقبلة والعدو أمامه فكبر وكبّر الصفان جميعا، ثم ركع فركع الصفان
جميعا، ثم سجد فسجد الصف الّذي يليه، وقام الآخرون يحرسونه. فلما قضى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم السجود بالصف الأول، قام وقاموا معه، وسجد
الصف المؤخر السجدتين، ثم استأخر الصفّ الّذي يلونه، وتقدم الصف المؤخر
فكانوا يلون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقاموا جميعا. ثم ركع
صلّى اللَّه عليه وسلّم فركع الصفان جميعا ثم سجد وسجد الصف الّذي يلونه،
وقام الصف المؤخر يحرسونه مقبلين على العدو. فلما رفع رأسه من السجدتين،
سجد الصف المؤخر السجدتين اللتين بقيتا عليهم، واستوى صلّى اللَّه عليه
وسلّم جالسا فتشهد ثم سلّم.
__________
[ (1) ] الآية 102/ النساء، وفي (خ) « ... فلتقم الآية» .
(1/281)
الخلاف في أول صلاة
الخوف
وكان ابن عباس رضي اللَّه عنه يقول: هذه أول صلاة صلاها رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم في الخوف. وقال سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، عن
أبي عياش الزرقيّ: أنه كان- يعني ابن عباس- مع النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم يومئذ، فذكر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى هكذا. وذكر أبو
عيّاش أنها أول ما صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة الخوف-
يعني ابن عباس: وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن
جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم أول صلاة الخوف في غزوة ذات الرّقاع، ثم صلاها بعد بعسفان، بينهما
أربع سنين.
قال الواقدي [ (1) ] : وهذا أثبت عندنا.
مسير المسلمين إلى ثنية ذات الحنظل وحيرة
الدليل
فلما أمسى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: تيامنوا في هذا العصل [
(2) ] ، فإن عيون قريش بمرّ الظهران أو بضجنان، فأيكم يعرف ثنية ذات
الحنظل؟ فقال بريدة بن الحصيب: أنا يا رسول اللَّه! فقال: اسلك أمامنا.
فأخذ بريدة في العصل، قبل جبال سراوع قبل المغرب، فسار قليلا [ (3) ] وحار.
فنزل حمزة بن عمرو الأسلمي فسار بهم قليلا، ثم لم يدر أين يتوجه. فسار بهم
عمرو بن [عبد] [ (4) ] نهم الأسلمي حتى بلغها.
خبر الثنية وأن من جازها غفر له
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده، ما مثل هذه
الثنية إلا مثل الباب الّذي قال اللَّه لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [ (5) ] ثم قال:
لا يجوز هذه الثنية أحد إلا غفر له.
فجعل الناس يسرعون.
__________
[ (1) ] (المغازي) ج 2 ص 583.
[ (2) ] في (خ) «تنامنوا» والعصل: الاعوجاج في صلابة، والمراد هنا الرمل
الملتوى. (الترتيب القاموس) ج 3 ص 240، (النهاية) ج 3 ص 248.
[ (3) ] في (خ) «ليلا» والتصويب من (الواقدي) ج 2 ص 583.
[ (4) ] زيادة من (المرجع السابق) ص 584، ونهم: اسم صنم.
[ (5) ] آية 58/ البقرة، والحطة: طلب المغفرة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 182.
(1/282)
طعام المسلمين
فلما نزل من الثنية قال: من كان معه ثقل [أي دقيق] فليصطنع [ (1) ] . فقال
أبو سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه: وأيّنا معه ثقل؟ إنما كان عامة زادنا
التمر. فقالوا:
يا رسول اللَّه! إنا نخاف من قريش أن ترانا! فقال: إنهم لن يروكم، إن
اللَّه سيعينكم [ (2) ] عليهم.
فأوقدوا النيران، واصطنع من أراد أن يصطنع: فلقد أوقدوا خمسمائة نار.
الغفران، وخبر الرجل المحروم من غفران اللَّه
فلما أصبحوا صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصبح ثم قال: والّذي
نفسي بيده، لقد غفر اللَّه للركب أجمعين، إلا رويكبا واحدا على جمل أحمر
التفت عليه رحال [ (3) ] القوم: ليس منهم.
فطلب في العسكر فإذا به ناحية، وهو من بني ضمرة من أهل سيف البحر [ (4) ] ،
قد أوى إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال له سعيد- وقد قيل له ما قال
فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم-: ويحك! اذهب إلى رسول اللَّه
يستغفر لك! فقال: بعيري أهمّ إليّ من أن يستغفر. وكان قد أضلّ بعيره. فقال
سعيد:
تحول عني، لا حياك اللَّه! فانطلق يطلب بعيره، فبينا هو في جبال سراوع [
(5) ] إذ زلقت نعله فتردى فمات وأكلته السباع.
أهل اليمن
وقال يومئذ: أتاكم أهل اليمن كأنهم قطع الحساب، هم خير من على الأرض.
الدنو من الحديبيّة، وخبر راحلة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وسار حتى [ (6) ] دنا من الحديبيّة- وهي طرف الحرم، على تسعة أميال من
__________
[ (1) ] من الصنيع، وهو الطعام في سبيل اللَّه.
[ (2) ] (الواقدي) ج 2 ص 585.
[ (3) ] في (خ) رجال.
[ (4) ] سيف البحر: ساحله.
[ (5) ] علم مرتجل لاسم موضع (معجم البلدان) ج 3 ص 204
[ (6) ] في (خ) ، (الواقدي) و «سار فلما» وفي (ط) و (ابن سعد) «وسار حتى» .
(1/283)
مكة، فوقعت يد راحلته صلّى اللَّه عليه
وسلّم على ثنية تهبط على غائط [ (1) ] ، فبركت، فقال المسلمون: حل حل
[يزجرونها]- فأبت أن تنبعث، فقالوا: خلأت القصواء [ (2) ] !
فقال: إنها ما خلأت، ولا هو لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل، أما واللَّه
لا يسألوني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة اللَّه إلا أعطيتهم إياها.
ثم زجروها فقامت، فولى راجعا حتى نزل بالناس على ثمد من ثماد [ (3) ]
الحديبيّة [ظنون] قليل الماء.
خبر جيشان الماء من الثمد
واشتكى الناس قلة الماء، فانتزع سهما من كنانته فأمر به فغرز في الثمد،
فجاشت لهم بالرواء حتى صدروا عنه بعطن، وإنهم ليغترفون بآنيتهم جلوسا على
شفير البئر. وكان الّذي نزل بالسهم ناجية بن جندب، وقيل: ناجية بن الأعجم،
وقيل: خالد بن عبادة [ (4) ] الغفاريّ، وقيل: البراء بن عازب.
مقالة المنافقين في دليل النبوة
وكان على الماء نفر من المنافقين، الجدّ بن قيس، وأوس [بن خوليّ] [ (5) ] ،
وعبد اللَّه بن أبي، فقال أوس بن خولي: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن
تبصر ما أنت عليه! أبعد هذا شيء؟ فقال: إني قد رأيت مثل هذا. فقال أوس:
قبحك اللَّه وقبح رأيك! فأقبل ابن أبي [ (6) ] يريد رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، فقال: أي أبا الحباب! أين رأيت مثل ما رأيت اليوم؟
فقال: ما رأيت مثله قط! قال: فلم قلت ما قلت؟ فقال عبد اللَّه بن أبي:
أستغفر اللَّه. فقال ابنه: يا رسول اللَّه! استغفر له! فاستغفر له.
__________
[ (1) ] الغائط: من الغوط، وهو المطمئن الواسع من الأرض (ترتيب القاموس) ج
3 ص 428.
[ (2) ] خلأت الناقة خلئا: حرنت: (المعجم الوسيط) ج 1 ص 248.
[ (3) ] الثّمد: مكان اجتماع الماء، ثمد الماء: قلّ (المرجع السابق) ص 100.
[ (4) ] في (خ) «عبادة» .
[ (5) ] ظاهر العبارة يوهم أن أوس بن خولي من المنافقين، وهو ليس منهم، وما
بين القوسين زيادة للبيان.
[ (6) ] في (خ) «فأقبل أبي» .
(1/284)
المطر والصلاة في
الرحال
ومطر المسلمون بالحديبية مرارا وكثرت المياه، ومطروا مطرا ما ابتلت منه
أسفل النعال، فنودي: إن الصلاة في الرّحال. وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم الصبح في الحديبيّة في إثر سماء [ (1) ] كانت من الليل،
فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا اللَّه
ورسوله أعلم.
الأنواء
قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا برحمة اللَّه
وبرزق اللَّه وبفضل اللَّه فهو مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا
بنجم كذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي [ (2) ] . وكان ابن أبي قال: هذا نوء
الخريف، مطرنا بالشّعرى.
الهدايا
وأهدى عمرو بن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان بالحديبية إلى رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم غنما وجزورا، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة
جزرا، وكان صديقا له.
فجاء سعد بالغنم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأخبره أن عمرا
أهداها له فقال: وعمرو قد أهدى إلينا ما ترى فبارك اللَّه في عمرو! ثم أمر
بالجزر [ (3) ] تنحر وتقسم في أصحابه، وفرق الغنم فيهم من أخراها. فدخل على
أم سلمة بعضها، وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم للذي جاء بالهدية بكسوة.
خبر بديل بن ورقاء مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولما اطمأن بالحديبية، جاءه بديل بن ورقاء وركب من خزاعة- وهم عيبة [ (4) ]
نصح رسول اللَّه بتهامة، منهم المسلم ومنهم الموادع، لا يخفون عليه بتهامة
__________
[ (1) ] السماء: من أسماء المطر.
[ (2) ] في (خ)
«أصبح من عبادي مؤمنا وكافرا»
وما أثبتناه هو رواية (البخاري) ج 3 ص 42 وفي (المغازي) باب غزوة
الحديبيّة، وأحمد في (المسند) ج 4 ص 117 و (أبو داود) ج 4 ص 227 حديث رقم
3906، (النسائي) ج 3 ص 164، باب كراهية الاستمطار بالكوكب.
[ (3) ] في (خ) «الجزور» .
[ (4) ] المعنى: أن بيننا صدورا سليمة في المحافظة على العهد الّذي عقدناه
بيننا.
(1/285)
شيئا- فسلموا، ثم قال بديل: جئناك من عند
قومك كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ، وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم،
معهم العوذ المطافيل-[النساء [ (1) ] والصبيان]- يقسمون باللَّه لا يخلون
بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم [ (2) ] .
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا
البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه. وقريش قوم قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن
شاءوا ماددتهم مدة يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس- والناس أكثر
منهم-، فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو
يقاتلوا وقد جمّوا [ (3) ] . واللَّه لأجهدن على أمري هذا إلى أن تنفرد
سالفتي [ (4) ] أو ينفذ اللَّه أمره!
فعاد بديل وركبه إلى قريش، وقد تواصوا ألا يسألوا بديلا عما جاء فيه.
فلما رأى أنهم لا يستخبرونه قال: إنا جئنا من عند محمد. أتحبون أن نخبركم؟
فقال عكرمة بن أبي جهل، والحكم بن أبي العاص: لا، واللَّه ما لنا حاجة بأن
تخبرونا عنه، ولكن أخبره عنا: أنه لا يدخلها علينا عامه هذا حتى لا يبقى
منا رجل.
سماع المشركين مقالة بديل
فأشار عليهم عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد ابن عوف
بن ثقيف [واسمه قسي] [ (5) ] بن منبه بن بكر بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن
عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان- أن يسمعوا كلام بديل، فإن أعجبهم
قبلوه، وإلا تركوه، فقال صفوان بن أمية، والحارث بن هشام: أخبرنا بالذي
رأيتم والّذي سمعتم. فأخبروه بمقالة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال
عروة بن مسعود:
فإن بديلا قد جاءكم بخطة رشد، لا يردها أحد إلا أخذ شرا منها، فاقبلوها
منه، وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها، وأكون لكم عينا.
بعثة قريش عروة بن مسعود إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فبعثوه. فقال: يا محمد! إني تركت قومك على أعداد [ (6) ] مياه الحديبيّة قد
__________
[ (1) ] في (خ) «والنساء» .
[ (2) ] الياؤهم: دهماؤهم وجماعتهم.
[ (3) ] جمّوا: استراحوا.
[ (4) ] السالفة: ناحية مقدم العنق «كناية عن الموت» (ترتيب القاموس) ج 2 ص
598.
[ (5) ] في (خ) «قيس» .
[ (6) ] الأعداد: جمع عدّ وهو: الماء الجاري الّذي له مادة لا تنقطع كماء
العين (ترتيب القاموس) ج 3 ص 169.
(1/286)
استنفروا لك، وهم يقسمون باللَّه لا يخلون
بينك وبين البيت حتى تجتاحهم، وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين: إما أن
تجتاح قومك- فلم نسمع برجل اجتاح أصله قبلك- أو بين أن يخذلك من نرى معك،
فإنّي لا أرى معك إلا أوباشا [ (1) ] من الناس لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم،
فغضب أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه وقال: امصص ببظر اللات! أنحن نخذله؟
فقال: أما واللَّه لولا يد لك عندي لأجبتك! وطفق عروة يمس لحية رسول اللَّه
وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك قائم
على رأسه بالسيف، فقرع يد عروة [وهو عمه] وقال: اكفف يدك عن مس لحية رسول
اللَّه قبل ألا تصل إليك، فلما فرغ عروة من كلامه، ورد عليه رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم كما قال لبديل بن ورقاء، عاد إلى قريش فقال: يا
قوم، قد وفدت على كسرى وهرقل والنجاشي، وإني واللَّه ما رأيت ملكا قط أطوع
فيمن هو بين ظهرانيه من محمد في أصحابه، واللَّه ما يشدون [ (2) ] إليه
النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى امرئ فيفعل، وما
يتنخّم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ من
وضوء إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيء. وقد حزرت القوم، واعلموا أنكم
إن أردتم السيف بذلوه لكم، وقد رأيت قوما لا يبالون ما يصنع بهم إذا منعوا
صاحبهم، واللَّه لقد رأيت نسيّات [ (3) ] معه، إن كنّ ليسلمنه أبدا على
حال، فروا رأيكم. وقد عرض عليكم خطة، فمادوه [ (4) ] يا قوم. أقبلوا ما عرض
فإنّي لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه. رجل أتى هذا البيت معظّما له
مع الهدي ينحره وينصرف! فقالوا: لا تكلم بهذا يا أبا يعفور! لو غيرك تكلم
بهذا! ولكن نرده في عامنا هذا ويرجع إلى قابل.
بعثة مكرز بن حفص إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ثم جاء مكرز بن حفص بن الأخيف بن علقمة بن عبد الحارث بن الحارث ابن منقذ
بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤيّ بن غالب بن فهر- فلما طلع
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا رجل غادر (وفي رواية: هذا
رجل فاجر)
وجاء،
__________
[ (1) ] الأوباش والأوشاب بمعنى، وهم الأخلاط من الناس وغيرهم.
[ (2) ] أي يحدون إليه النظر.
[ (3) ] تصغير نسوة، للتقليل والتعظيم.
[ (4) ] أي اجعلوا بينكم وبينه مدة هدنة.
(1/287)
فكلمه بنحو مما كلم به أصحابه، وعاد بذلك
إلى قريش.
بعثة الحليس سيد الأحابيش
فبعثوا الحليس بن علقمة بن عمرو بن الأوقح بن عامر بن عوف بن الحارث ابن
عبد مناة بن كنانة الحارثي الكناني سيد الأحابيش ورأسهم،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا من قوم يعظّمون الهدي، (وفي رواية
يتألهون) [ (1) ] ، ابعثوا الهدي في وجهه، فبعثوه،
فلما رأى الهدي يسيل في الوادي-: عليه القلائد، قد أكل أوباره (من طول
الحبس عن محله [ (2) ] ) ، يرجّع الحنين، واستقبله القوم في وجهه يلبون،
وقد أقاموا نصف شهر فتفلوا وشعثوا [ (3) ]- رجع، ولم يصل إلى النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم إعظاما لما رأى. وقال لقريش: إني قد رأيت ما لا يحل صده!
رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره معكوفا [ (4) ] عن محله، والرجال قد
تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت! أما واللَّه ما على هذا حالفناكم ولا
عاقدناكم: على أن تصدوا عن بيت اللَّه من جاء له معظما لحرمته مؤديا لحقه،
والهدي معكوفا أن يبلغ محله! والّذي نفسي بيده، لتخلن بينه وبين ما جاء به،
أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! قالوا: كل ما رأيت مكيدة من محمد
وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به. وفي رواية الزبير بن
(بكار) [ (5) ] أنه لما رجع قال: يا قوم! الهدي! البدن! القلائد! الدماء!
فقالت قريش: ما نعجب منك، ولكن نعجب منا إذ أرسلناك، إنما أنت أعرابي جلف.
بعثة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خراش بن أمية إلى قريش
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى قريش خراش بن أمية بن الفضل
الكعبي الخزاعي- على جمل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقال له
الثعلب- ليبلغ أشرافهم أنه إنما جاء معتمرا.
فعقر الجمل عكرمة بن أبي جهل، وأرادوا قتله، فمنعه من هناك من قومه، فرجع.
فأراد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبعث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه
فخاف على نفسه وأشار بعثمان رضي اللَّه عنه.
__________
[ (1) ] يتعبدون.
[ (2) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 96.
[ (3) ] التفل: ترك التطيب، والشعث، تلبد الشعر من الطول.
[ (4) ] معكوفا: محبوسا.
[ (5) ] ما بين القوسين بياض في (خ) .
(1/288)
بعثة عثمان بن عفان
فبعثه ليخبرهم:
إنا لم نأت [ (1) ] لقتال أحد، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت معظمين لحرمته،
ومعنا الهدي ننحره وننصرف.
فأبوا على عثمان أن يدخل عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورحب به
أبان بن سعيد بن العاص وأجاره، وحمله من بلدح [ (2) ] إلى مكة وهو يقول:
أقبل وأدبر ولا تخف أحدا، بنو سعيد أعزّة الحرم! فبلغ عثمان من بمكة ما جاء
فيه، فقالوا جميعا: لا يدخل محمد علينا أبدا.
حراسة المسلمين وأسر بعض المشركين
وكان يتناوب حراسة المسلمين بالحديبية ثلاثة: أوس بن خولي، وعباد بن بشر،
ومحمد بن مسلمة. فبعثت قريش مكرز بن حفص على خمسين رجلا ليصيبوا من
المسلمين غرة، فظفر بهم محمد بن مسلمة، وجاء بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم فبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- بعد إقامة عثمان بمكة
ثلاثا- أنه قتل، وقتل معه عشرة رجال مسلمون قد دخلوا مكة بإذن رسول اللَّه
ليروا أهليهم. وبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم ورموا بالنبل
والحجارة، فرماهم المسلمون، وأسروا منهم اثني عشر فارسا. وقتل من المسلمين
زنيم، وقد اطلع الثنية من الحديبيّة، فرماه المشركون فقتلوه.
بدء الصلح
فبعثت قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك ابن حسل بن
عامر بن لؤيّ بن غالب بن فهر [ (3) ] ، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص
(ليصالحوه) [ (4) ] .
تحرك المسلمين إلى منازل بني مازن بعد خبر مقتل
عثمان، والبيعة
وأمّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منازل بني مازن بن النجار، وقد
نزلت في ناحية من
__________
[ (1) ] في (خ) «إناه لم يأن» .
[ (2) ] بلدح: واد قبل مكة من جهة المغرب (معجم البلدان) ج 1 ص 480.
[ (3) ] في (خ) «فهم» .
[ (4) ] زيادة من (ط) ، ورواية (للواقدي) ج 2 ص 602 بدون هذه الزيادة.
(1/289)
الحديبيّة جميعا، فجلس في رحالهم.
وقد بلغه قتل عثمان رضي اللَّه عنه، ثم قال:
إن اللَّه أمرني بالبيعة.
فأقبل الناس يبايعونه حتى تداكوا، فما بقي لهم متاع إلا وطئوه، ثم لبسوا
السلاح، وهو معهم قليل. وقامت أم عمارة إلى عمود كانت تستظل به فأخذته
بيدها وشدّت سكينا في وسطها. وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
يبايع الناس، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه آخذ بيده، فبايعهم على ألا
يفروا، وقيل بايعهم على الموت. ويقال: أول من بايع سنان بن أبي سنان وهب بن
محصن فقال:
يا رسول اللَّه، أبايعك على ما في نفسك. فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم يبايع الناس على بيعة سنان، فبايعوه (إلا) [ (1) ] الجد بن قيس اختبأ
تحت بطن بعير.
بعثة سهيل بن عمرو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلح
والأسرى
فلما جاء سهيل بن عمرو،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سهّل أمرهم! فقال سهيل:
يا محمد! إن هذا الّذي كان من حبس أصحابك، وما كان من قتال من قاتلك- لم
يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به- وكان من
سفهائنا. فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت آخر مرة.
قال: إني غير مرسلهم حتى ترسلوا [ (2) ] أصحابي.
قال: أنصفتنا. فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشّتيم بن عبد مناف التيمي
فبعثوا بمن كان عندهم، وهم:
عثمان وعشرة من المهاجرين، وأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
أصحابهم الذين أسروا.
البيعة تحت الشجرة وخوف المشركين
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يبايع الناس تحت شجرة خضراء، وقد نادى عمر رضي
اللَّه عنه:
إن روح القدس نزل على الرسول وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم اللَّه
فبايعوا.
فلما رأى سهيل بن عمرو ومن معه، ورأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة
وتشميرهم إلى الحرب، اشتد رعبهم وخوفهم، وأسرعوا إلى القضية [ (3) ] . ولما
جاء عثمان رضي اللَّه عنه بايع تحت الشجرة. وقد كان قبل ذلك- حين بايع
الناس-
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن عثمان ذهب في حاجة اللَّه
وحاجة رسوله، فأنا أبايع له، فضرب بيمينه شماله.
__________
[ (1) ] زيادة لا بد منها للسياق.
[ (2) ] في (خ) «ترسل» .
[ (3) ] القضية: حكم الصلح.
(1/290)
بعثة قريش إلى عبد اللَّه بن أبيّ
وبعثت قريش إلى عبد اللَّه بن أبي بن سلول: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت
فافعل، فقال له ابنه: يا أبت! أذكرك اللَّه أن تفضحنا في كل موطن! تطوف ولم
يطف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم! فأبى حينئذ وقال: لا أطوف حتى
يطوف رسول اللَّه. فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلامه، فسرّ
به.
رجوع سهيل إلى قريش وعودتهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ورجع سهيل وحويطب ومكرز فأخبروا قريشا بما رأوا من سرعة المسلمين إلى
التنعيم [ (1) ] فأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، ويعود من قابل فيقيم ثلاثا، فلما أجمعوا على ذلك أعادوا
سهيلا وصاحبيه ليقروا هذا. فلما رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال:
أراد القوم الصلح. وكلم رسول اللَّه، فأطالا الكلام وتراجعا، وارتفعت
الأصوات، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ جالسا متربعا، وعباد بن بشر،
وسلمة ابن أسلم بن حريش مقنّعان بالحديد قائمان على رأسه. فلما رفع سهيل
صوته قالا:
اخفض صوتك عند رسول اللَّه! وسهيل بارك على ركبتيه [ (2) ] ، رافع صوته،
والمسلمون عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جلوس.
خبر الصلح وغضب عمر بن الخطاب
فلما اصطلحوا ولم يبق إلا الكتاب،
وثب عمر رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه! ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بلى! فقال: فعلام [ (3) ] نعطي الدنية في
ديننا؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا عبد اللَّه ورسوله
ولن أخالف أمره، ولن يضيعني.
فذهب عمر إلى أبي بكر رضي اللَّه عنهما فقال: يا أبا بكر! ألسنا بالمسلمين؟
قال: بلى! قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: الزم غرزه [ (4) ] ! فإنّي
أشهد أنه رسول اللَّه، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر اللَّه، ولن
يضيعه اللَّه.
ولقي عمر رضي اللَّه عنه من القضية أمرا كبيرا، وجعل يردّد على رسول
__________
[ (1) ] التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف (معجم البلدان) ج 2
ص 49.
[ (2) ] في (خ) «ركبته» .
[ (3) ] في (خ) «فعلى ما» .
[ (4) ] كناية عن لزوم الاتباع وعدم المخالفة.
(1/291)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الكلام، وهو
يقول: أنا رسوله ولن يضيعني!
ويردد ذلك أبو عبيدة ابن الجراح رضي اللَّه عنه: ألا تسمع يا ابن الخطاب
رسول اللَّه يقول ما يقول! تعوذ باللَّه من الشيطان واتهم رأيك!. فجعل
يتعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم حينا.
كراهية المسلمين الصلح
وكان المسلمون يكرهون الصلح، لأنهم خرجوا ولا يشكون في الفتح لرؤيا رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه حلق رأسه، وأنه دخل البيت فأخذ مفتاح
الكعبة وعرّف مع المعرفين، فلما رأوا الصلح داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى
كادوا يهلكون. فجعل اللَّه عاقبة القضية خيرا- فأسلم في الهدنة أكثر ممن
كان أسلم- من يوم دعا رسول اللَّه إلى يوم الحديبيّة-، وما كان في الإسلام
فتح أعظم من الحديبيّة، فإن الحرب كانت قد حجزت بين الناس. فلما كانت
الهدنة وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، ودخل في تلك الهدنة
صناديد قريش الذين كانوا يقومون بالشرك، وما يحدث عمرو بن العاص وخالد بن
الوليد وأشباههما، وفشا الإسلام في جميع نواحي العرب. وكانت الهدنة إلى أن
نقضوا العهد اثنين وعشرين شهرا.
خبر أبي جندل بن سهيل بن عمرو
وبينما الناس قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب، أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو
بن عبد شمس بن عبد ودّ بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ بن غالب القرشي
العامري- وقد أفلت يرسف في القيد متوشح السيف خلال أسفل مكة، فخرج من
أسفلها حتى أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يكاتب أباه سهيلا،
وكان سهيل قد أوثقه في الحديد وسجنه، فخرج من سجن سهيل، واجتنب الطريق وركب
الجبال حتى هبط بالحديبية. ففرح المسلمون به وتلقوه حين هبط من الجبل
فسلموا عليه وآووه، فرفع سهيل رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه فضرب
وجهه بغصن شوك وأخذ بتلبينه [ (1) ] . فصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر
المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شرا إلى
ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. فقال حويطب بن عبد العزى لمكرز بن
حفص: ما رأيت قوما قط أشد حبا لمن دخل معهم من أصحاب محمد لمحمد وبعضهم
لبعض! أما إني
__________
[ (1) ] في (خ) «بلبته» .
(1/292)
أقول لك: لا نأخذ من محمد نصفا [ (1) ]
أبدا بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوة [ (2) ] ! فقال مكرز: وأنا أرى ذلك.
رد أبي جندل إلى أسر المشركين
وقال سهيل بن عمرو: هذا أول ما قاضيتك عليه، ردّه!
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا لم نقض الكتاب بعد!
فقال سهيل: واللَّه لا أكاتبك على شيء حتى ترده إليّ. فرده عليه، وكلمه أن
يتركه، فأبى سهيل وضرب وجهه بغصن من شوك،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هبه لي أو أجره من العذاب! فقال:
واللَّه لا أفعل.
فقال مكرز وحويطب: يا محمد، نحن نجيره لك. فأدخلاه فسطاطا فأجاراه، فكف عنه
أبوه. ثم
رفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صوته فقال: يا أبا جندل: اصبر
واحتسب، فإن اللَّه جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين
القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك عهدا، وإنا لا نغدر.
عودة عمر إلى مقالته
وعاد عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال: يا رسول اللَّه! ألست برسول اللَّه؟ قال: بلى! قال: ألسنا على الحق؟
قال: بلى! قال:
أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى! قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال:
إني رسول اللَّه، ولن أعصيه ولن يضيعني.
فانطلق إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه فقال له مثل ذلك، فأجابه بنحو ما أجاب
به رسول اللَّه، ثم قال: ودع عنك ما ترى يا عمر. فوثب إلى أبي جندل يمشي
إلى جنبه، وسهيل يدفعه، وعمر يقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون،
وإنما دم أحدهم دم كلب! وإنما هو رجل، ومعه [ (3) ] السيف يحرضه على قتل
أبيه. وجعل يقول: يا أبا جندل! إن الرجل يقتل أباه في اللَّه! واللَّه لو
أدركنا آباءنا لقتلناهم في اللَّه، فرجل برجل. فقال له أبو جندل: مالك لا
تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول اللَّه عن قتله وقتل غيره.
قال أبو جندل: ما أنت أحق بطاعة رسول اللَّه مني.
__________
[ (1) ] النّصف: الإنصاف.
[ (2) ] العنوة: القهر والإذلال.
[ (3) ] في (خ) «ومعك» والتصويب من ابن هشام.
(1/293)
مقالة المسلمين لرسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم في الصلح
وقال عمر ورجال معه: يا رسول اللَّه! ألم تكن حدثتنا أنك تدخل المسجد
الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة، وتعرّف مع المعرّفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت
ولا نحن! فقال: قلت لكم في سفركم هذا؟ قال عمر: لا. فقال صلّى اللَّه عليه
وسلّم: أما إنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلّق رأسي ورءوسكم ببطن
مكة، وأعرّف مع المعرفين، ثم أقبل على عمر رضي اللَّه عنه وقال: أنسيتم يوم
أحد، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم
الأحزاب، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب
الحناجر؟ أنسيتم يوم كذا؟ أنسيتم يوم كذا؟ والمسلمون يقولون: صدق اللَّه
ورسوله، يا نبي اللَّه! ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم باللَّه وبأمره
منا.
فلما دخل صلّى اللَّه عليه وسلّم عام القضية [ (1) ] وحلق رأسه قال: هذا
الّذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح، أخذ المفتاح وقال: ادعوا إليّ عمر بن
الخطاب! فقال: هذا الّذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع وقف بعرفة فقال:
أي عمر! هذا الّذي قلت لكم. قال: أي رسول اللَّه! ما كان فتح في الإسلام
أعظم من صلح الحديبيّة.
فتح الحديبيّة وخبر أبي بكر
وكان أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه يقول: ما كان فتح أعظم في الإسلام من
فتح الحديبيّة، ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد
يعجلون، واللَّه لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لقد نظرت
إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند النحر يقرّب إلى رسول اللَّه
بدنة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينحرها بيده! ودعا الحلاق فحلق
رأسه، فأنظر إلى سهيل يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه! وأذكر إباءه أن
يقرّ يوم الحديبيّة بأن يكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم! وإباءه أن يكتب أن
محمدا رسول اللَّه! فحمدت اللَّه الّذي هداه للإسلام. فصلوات اللَّه
وبركاته على نبيّ الرحمة الّذي هدانا به، وأنقذنا به من الهلكة.
__________
[ (1) ] في عمرة القضية: وسيأتي ذكرها بعد غزوة وادي القرى.
(1/294)
كتاب الصلح
فلما حضرت الدواة والصحيفة- بعد طول الكلام والمراجعة- دعا رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك
علي، أو عثمان بن عفان، فأمر عليا فكتب،
فقال: اكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب ما
نكتب، باسمك اللَّهمّ. فضاق المسلمون من ذلك، وقالوا: هو الرحمن، واللَّه
ما نكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذا لا أقاضيه على شيء. فقال رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم: اكتب، باسمك اللَّهمّ. هذا ما اصطلح عليه محمد
رسول اللَّه. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول اللَّه ما خالفتك واتبعتك،
أفترغب عن اسمك واسم أبيك، محمد بن عبد اللَّه؟ فضجّ المسلمون منها ضجّة هي
أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجال يقولون: لا نكتب إلا محمد
رسول اللَّه! وأخذ أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي اللَّه عنهما بيد الكاتب
فأمسكاها وقالا: لا تكتب إلا محمد رسول اللَّه، وإلا فالسيف بيننا، علام
نعطي هذه الدّنية في ديننا؟ فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
يخفّضهم ويومئ إليهم بيده: اسكتوا.
وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقول لمكرز: ما رأيت قوما أحوط لدينهم من
هؤلاء! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا محمد بن عبد اللَّه،
فاكتب. فكتب.
نص كتاب الصلح
«باسمك اللَّهمّ، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللَّه وسهيل بن عمرو،
اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على
أنه لا إسلال ولا إغلال [ (1) ] ، وأنّ بيننا عيبة مكفوفة. وأنه من أحب أن
يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل،
وأنه من أتى محمدا منهم بغير إذن وليه رده محمد إليه. وأنه من أتى قريشا من
أصحاب محمد لم يردوه، وأن محمدا يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا من
قابل في أصحابه فيقيم بها ثلاثا، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر:
السيوف في القرب» .
__________
[ (1) ] الإسلال والإغلال: السرقة والخيانة. والعيبة: سبق شرحها ص 285
تعليق رقم (4) .
(1/295)
شهود الكتاب
شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن
أبي وقاص، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة، وحويطب
بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص بن عبد الأخيف، وكتب عليّ صدر الكتاب.
نسخة كتاب الصلح ودخول خزاعة في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وبني بكر في عهد قريش
فقال سهيل: يكون عندي:
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل عندي!
ثم كتب له نسخة، وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الكتاب الأول،
وأخذ سهيل نسخته. ووثب من هناك من خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد
وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا. ووثبت بنو بكر فقالوا: ندخل مع قريش
في عهدها وعقدها، ونحن على من وراءنا من قومنا. فقال حويطب لسهيل: بادأنا
أخوالك بالعداوة، وقد كانوا يستترون منا، قد دخلوا في عقد محمد وعهده! وقال
سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمتنا [ (1) ] قد دخلوا مع محمد،
قوم اختاروا لأنفسهم أمرا فما نصنع بهم؟ قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم
حلفاءنا بني بكر! قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بكر، فإنّهم أهل شؤم،
فتقعوا بخزاعة، فيغضب محمد لحلفائه، فينتقض العهد بيننا وبينه.
مدة الهدنة
وقال عبد اللَّه بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن عبد اللَّه بن دينار [ (2) ]
، عن ابن عمر قال: كانت الهدنة بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبين أهل
مكة بالحديبية أربع سنين، خرّجه الحاكم وصححه، وفي كتاب عمر [ (3) ] بن
شيبة في أخبار مكة: كانت
__________
[ (1) ] في (الواقدي) «ولحمنا» ج 2 ص 612.
[ (2) ] في (خ) «ابن دنبه» وما أثبتناه من (ط) .
[ (3) ] في (خ) «ابن أبي شيبة» وصوابه: عمر بن شيبة، يزيد بن عبيدة بن
رابطة النميري، أبو زيد البصري، ثم البغدادي، الأديب، الأخباري، الشهير
بابن شيبة، ولد سنة 173 هـ وتوفي بسر من رأى سنة 262 هـ (هدية العارفين ج 5
ص 78) .
(1/296)
سنتين.
خبر أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين بالنحر والحلق
والإحلال
فلما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الكتاب، وانطلق سهيل
وأصحابه، قال: قوموا فانحروا واحلقوا وحلوا. فلم يجبه أحد إلى ذلك. فرددها
ثلاث مرات، فلم يفعلوا.
فدخل على أم سلمة رضي اللَّه عنها وهو شديد الغضب، فاضطجع، فقالت: مالك يا
رسول اللَّه؟ مرارا، وهو لا يجيبها، ثم قال: عجبا يا أم سلمة، إني قلت
للناس انحروا واحلقوا وحلوا مرارا، فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك، وهم
يسمعون كلامي، وينظرون في وجهي. فقالت: يا رسول اللَّه، انطلق أنت إلى هديك
فانحره، فإنّهم سيقتدون بك، فاضطبع [ (1) ] بثوبه وخرج، فأخذ الحربة ويمم
هديه، وأهوى بالحربة إلى البدنة رافعا صوته: بسم اللَّه واللَّه أكبر.
ونحر.
نحر الهدي
فتواثب المسلمون إلى الهدي وازدحموا عليه ينحرونه، حتى كاد بعضهم يقع على
بعض، وأشرك صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن
سبعة، وكان الهدي سبعين بدنة، وقيل: مائة. وكان الهدي دون الجبال التي تطلع
على وادي الثنية، عرض له المشركون فردّوا وجوه البدن، فنحر رسول اللَّه
بدنه حيث حبسوه، [وهي الحديبيّة] . وشرد جمل أبي جهل من الهدي وهو يرعى-
وقد قلد وأشعر، وكان نجيبا مهريا- فمرّ من الحديبيّة حتى انتهى إلى دار أبي
جهل بمكة. وخرج في إثره عمرو بن غنمة [ (2) ] بن عدي بن نابي السلميّ
الأنصاري، فأبى سفهاء مكة أن يعطوه حتى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه إليه،
فدفعوا فيه مائة ناقة،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لولا أننا سميناه في الهدي
فعلنا. ونحره عن سبعة.
ونحر طلحة بن عبيد اللَّه وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان بدنات
ساقوها.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مضطربا [ (3) ] في الحل، وإنما
يصلى في الحرم. وحضره من يسأل من لحوم البدن معترا [ (4) ] ، فأعطاهم من
لحومها وجلودها. وأكل المسلمون من هديهم وأطعموا المساكين، وبعث صلّى
اللَّه عليه وسلّم من الهدي بعشرين بدنة لتنحر عند المروة
__________
[ (1) ] اضطبع بثوبه: أدخله من تحت إبطه الأيمن فغطى به الأيسر.
[ (2) ] في (خ) «غنمه» .
[ (3) ] نازلا في بناء بناه.
[ (4) ] فقيرا.
(1/297)
مع رجل من أسلم، فنحرها عند المروة وفرّق
لحمها.
دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للمحلقين والمقصرين
فلما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من نحر البدن، دخل قبة له من
أدم حمراء، فيها الحلاق فحلّق رأسه، ثم أخرج رأسه من قبته
وهو يقول: رحم اللَّه المحلقين! قيل:
يا رسول اللَّه والمقصرين! قال: رحم اللَّه المحلقين! ثلاثا، ثم قال:
والمقصرين.
ورمى بشعره على شجرة كانت بجنبه من سمرة خضراء، فجعل الناس يأخذون الشعر من
فوق الشجرة فيتحاصون فيه [ (1) ] . وأخذت أم عمارة طاقات من شعر، فكانت
تغسلها للمريض وتسقيه حتى يبرأ، وحلّق ناس وقصّر آخرون. وكان الّذي حلقه
صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] خراش بن أمية بن الفضل الكعبي، فلما حلقوا
بالحديبية ونحروا، بعث اللَّه تعالى ريحا عاصفة فاحتملت أشعارهم فألقتها في
الحرم.
خبر أم كلثوم بنت عقبة
وخرجت يومئذ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي عاتق [لم تتزوج] فقبل رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هجرتها ولم يردّها إلى المشركين [ (3) ] ،
وقدمت المدينة، فتزوجها زيد بن حارثة.
إقامة المسلمين بالحديبية، وما أصابهم من الجوع
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحديبية بضعة عشر يوما، ويقال: عشرين يوما،
ثم انصرف.
فلما نزل عسفان أرمل [ (4) ] المسلمون من الزاد، وشكوا أنهم قد بلغوا [ (5)
] من الجوع، وسألوا أن ينحروا من إبلهم، فأذن لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم
في ذلك، فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن
يك في الناس بقية ظهر يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم، ثم ادع لهم فيها
اللَّه. فأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنطاع فبسطت، ثم
__________
[ (1) ] يأخذ كل منهم حصته.
[ (2) ] زيادة للبيان.
[ (3) ] يقول ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 308 في الكلام عن الفوائد
الفقهية المستفادة من صلح الحديبيّة: «ومنها جواز صلح الكفار على ردّ من
جاء منهم إلى المسلمين وألا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير
النساء، وأما النساء فلا يجوز ردهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في
هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب» .
[ (4) ] أرمل المسافر: نفد زاده.
[ (5) ] بلغوا: أدركتهم المشقة.
(1/298)
نادى مناديه: من كان عنده بقية زاد فلينثره
على الأنطاع. فكان منهم من يأتي بالتمرة الواحدة وأكثرهم لا يأتي بشيء،
ويؤتى بالكف من الدقيق والكف من السّويق، وذلك كله قليل.
فلما اجتمعت أزوادهم وانقطعت موادهم مشى صلّى اللَّه عليه وسلّم إليها فدعا
فيها بالبركة، ثم قال: قربوا بأوعيتكم.
فجاءوا بأوعيتهم، فكان الرجل يأخذ ما شاء من الزاد حتى إنّ أحدهم ليأخذ ما
لا يجد له محملا.
المطر
ثم أذّن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا
ما شاءوا وهم صائفون، فنزل ونزلوا معه فشربوا من ماء السماء، وقام صلّى
اللَّه عليه وسلّم فخطبهم. فجاء ثلاثة نفر، فجلس اثنان وذهب واحد معرضا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا أخبركم خبر الثلاثة؟
قالوا: بلى، يا رسول اللَّه! قال: أما واحد فاستحيا فاستحيا اللَّه منه،
وأما الآخر فتاب فتاب اللَّه عليه، وأما الثالث فأعرض فأعرض اللَّه عنه.
سؤال عمر وسكوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن جوابه، ونزول سورة
الفتح
وبينا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، فسأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال: ثكلتك
أمك يا عمر! بدرت [ (1) ] رسول اللَّه ثلاثا، كل ذلك لا يجيبك! وحرك بعيره
حتى تقدم الناس، وخشي أن يكون نزل فيه قرآن، فأخذه ما قرب وما بعد:
لمراجعته بالحديبية وكراهته القضية. وبينا هو يسير مهموما متقدما على
الناس، إذ منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينادي: يا عمر بن
الخطاب! فوقع في نفسه ما اللَّه به أعلم، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم، فردّ عليه السلام وهو مسرور ثم
قال: أنزلت عليّ سورة هي أحب مما طلعت عليه الشمس. فإذا هو يقرأ: إِنَّا
فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [ (2) ] ،
فأنزل اللَّه في ذلك سورة الفتح، فركض الناس وهم يقولون:
أنزل على رسول اللَّه! حتى توافوا عنده وهو يقرؤها. ويقال: لما نزل جبريل
عليه
__________
[ (1) ] في (خ) «نذرت» وأيضا في (الواقدي) ج 2 ص 617، وفي (ط) بدرت: بمعنى
عجلت إليه.
[ (2) ] أول سورة الفتح.
(1/299)
السلام قال: نهنئك [ (1) ] يا رسول اللَّه!
فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون. وكان نزول سورة الفتح بكراع الغميم، ويقال
[ (2) ] : نزلت بضجنان. وعن قتادة عن أنس رضي اللَّه عنهم: إِنَّا فَتَحْنا
لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، قال: خيبر. وقال غيره:
الحديبيّة، منحره وحلقه. وقيل: نزلت سورة الفتح منصرفه من خيبر.
خبر فرار أبي بصير من أسر المشركين
ولما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة من الحديبيّة، في ذي
الحجة جاء أبو بصير عتبة بن أسيد [وقيل: عبيد بن أسيد] بن جارية بن أسيد بن
عبد اللَّه بن [أبي] [ (3) ] سلمة بن عبد اللَّه بن غيرة بن عوف بن قسي
[وهو ثقيف] حليف بني زهرة- مسلما، قد انفلت من قومه، وسار على قدميه سبعا [
(4) ] .
كتاب قريش في أمر أبي بصير
وكتب الأخنس بن شريق، وأزهر بن عوف الزهري إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم كتابا مع خنيس بن جابر من بني عامر، واستأجراه ببكرين لبون،
وحملاه على بعير، وخرج معه مولى يقال له: كوثر، وفي كتابهما ذكر الصلح، وأن
يرد عليهم أبا بصير. فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، فقرأ أبيّ بن كعب
الكتاب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا فيه: «قد عرفت ما
شارطناك عليه- وأشهدنا بيننا وبينك- من ردّ من قدم عليك من أصحابنا، فابعث
إلينا بصاحبنا» .
رد أبي بصير إلى المشركين
فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بصير أن يرجع معهم ودفعه
إليهما، فقال: يا رسول اللَّه! تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني!
فقال: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما علمت، ولا يصلح لنا في
ديننا الغدر. وإن اللَّه جعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا. فقال:
يا رسول اللَّه! تردني إلى المشركين، قال: انطلق يا أبا بصير، فإن اللَّه
سيجعل لك مخرجا.
ودفعه إلى العامري وصاحبه. فخرج
__________
[ (1) ] في (الواقدي) «يهنيك» .
[ (2) ] وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 618.
[ (3) ] زيادة من نسبه.
[ (4) ] في (الواقدي) «سعيا» .
(1/300)
معهما، وجعل المسلمون يسرّون إلى أبي بصير،
يا أبا بصير، أبشر! فإن اللَّه جاعل لك مخرجا، والرجل يكون خيرا من ألف
رجل، فافعل وافعل: يأمرونه بالذين معه فانتهيا به عند صلاة الظهر إلى ذي
الحليفة. فصلى أبو بصير في مسجدها ركعتين صلاة المسافر. ومعه زاد له من تمر
يحمله، ثم أكل منه ودعا العامريّ وصاحبه ليأكلا معه، فقدما سفرة فيها كسر
وأكلوا جميعا.
قتله العامري
وقد علق العامري سيفه في الجدار، وتحادثوا، فقال أبو بصير: يا أخا بني
عامر! ما اسمك؟ قال: خنيس. قال: ابن من؟ قال: ابن جابر. قال: يا أبا جابر،
أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم! قال: ناولينه انظر إليه إن شئت. فناوله، فأخذ
أبو بصير بقائم السيف- والعامري ممسك بالجفن- فعلاه به حتى برد.
وخرج كوثر هاربا يعدو نحو المدينة، وأبو بصير في أثره فأعجزه، حتى سبقه إلى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
ورسول اللَّه جالس في أصحابه بعد العصر، إذ طلع كوثر يعدو، فقال: هذا رجل
قد رأى ذعرا! وأقبل حتى وقف فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ويحك! مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، وأفلتّ منه ولم أكد!.
مرجع أبي بصير إلى المدينة
وأقبل أبو بصير فأناخ بعير العامري بباب المسجد، ودخل متوشحا سيفه، فقال:
يا رسول اللَّه! وفت ذمتك، وأدى اللَّه عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد
امتنعت بديني من أن أفتن، ويعبث بي أو أكذب بالحق.
فقال عليه السلام: ويل أمه محشّ حرب [ (1) ] لو كان معه رجال! وقدم سلب
العامري ورحله وسيفه ليخمسه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إني
إذا خمسته رأوا [ (2) ] أني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب
صاحبك. ثم قال: لكوثر: ترجع به إلى أصحابك؟ فقال: يا محمد! ما لي به قوة
ولا يدان! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بصير:
اذهب حيث شئت.
__________
[ (1) ] يقال حش الحرب إذا أسعرها وهيجها.
[ (2) ] أي قريش.
(1/301)
خروج أبي بصير إلى
العيص
فخرج حتى أتى العيص، فنزل منه ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى
الشأم، وعند ما خرج لم يكن معه إلا كف تمر فأكله ثلاثة أيام، وأصاب حيتانا
قد ألقاها البحر بالساحل فأكلها، وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة خبره.
فتسللوا إليه. وكان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه هو الّذي كتب إليهم بقول
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بصير: ويل أمه محش حرب لو كان معه
رجال، وأخبرهم أنه بالساحل. فاجتمع عند أبي بصير قريب من سبعين مسلما،
فكانوا بالعيص.
وضيقوا على قريش، فلا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر عليهم عير إلا
اقتطعوها، ومر بهم ركب يريدون الشأم، معهم ثمانون بعيرا، فأخذوا ذلك، وأصاب
كل رجل منهم قيمة ثلاثين دينارا، وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير، فكان
يصلى بهم ويقرئهم ويجمعهم، وهم له سامعون مطيعون، فغاظ قريشا صنيع أبي بصير
وشق عليهم، وكتبوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسألونه
بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير إليه ومن معه: فلا حاجة لنا بهم.
فكتب صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبي بصير أن يقدم بأصحابه معه،
فجاءه الكتاب وهو يموت، فجعل يقرأه، ومات وهو في يده فدفنوه. وأقبل أصحابه
إلى المدينة وهم سبعون فيهم الوليد بن الوليد بن المغيرة، فمات بعقب قدومه
فبكته أم سلمة رضي اللَّه عنها.
هجرة أم كلثوم بنت عقبة إلى المدينة
وكانت أم كلثوم بنت عقبة [ (1) ] بن أبي معيط قد أسلمت بمكة، فكانت تخرج
إلى بادية أهلها [لها بها أهل] ، فتقيم أياما بناحية التنعيم ثم ترجع. حتى
أجمعت على المسير مهاجرة، فخرجت كأنها تريد البادية على عادتها، فوجدت رجلا
من خزاعة فأعلمته بإسلامها، فأركبها بعيره حتى أقدمها المدينة بعد ثماني
ليال، فدخلت على أم سلمة رضي اللَّه عنها، وأعلمتها أنها جاءت مهاجرة،
وتخوفت أن يردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فلما دخل رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم على أم سلمة أعلمته، فرحب بأم كلثوم وسهّل، فذكرت
له هجرتها، وأنها تخاف أن يردها.
__________
[ (1) ] في (خ) «عتبة» .
(1/302)
ما نزل فيها من
القرآن
فأنزل اللَّه فيها آية الممتحنة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ،
وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ
اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ (1) ] .
طلب قريش رد أم كلثوم
فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرد من جاءه من الرجال، ولا يرد
من جاءه من النساء، وقدم أخواها من غد قدومها- الوليد وعمارة ابنا عقبة بن
أبي معيط-
فقالا:
يا محمد! ف [ (2) ] لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض ذلك.
فانصرفا إلى مكة فأخبرا قريشا، فلم يبعثوا أحدا، ورضوا بأن تحبس النساء.
فرار أميمة بنت بشر وهجرتها إلى المدينة
ويقال: إن أميمة بنت بشر الأنصارية، ثم من بني عمرو بن عوف، كانت تحت حسان
بن الدحداح [ (3) ] [أو ابن الدحداحة] وهو يومئذ مشرك، ففرت من زوجها بمكة
وأتت [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تريد الإسلام، فهم أن
يردها إلى زوجها، حتى أنزل اللَّه تعالى: فَامْتَحِنُوهُنَّ [ (5) ] . ثم
زوجها رسول اللَّه سهل بن حنيف، فولدت له عبد اللَّه بن سهل.
طلاق الكوافر
وأنزل اللَّه تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [ (5) ] فطلق
عمر بن الخطاب امرأتين هما: قريبة بنت أبي أمية، [بن المغيرة] [ (6) ] ،
فتزوجها معاوية بن أبي
__________
[ (1) ] الآية 1/ الممتحنة، وفي (خ) « ... فامتحنوهن، الآية» .
[ (2) ] ف: فعل الأمر من أوفى.
[ (3) ] في (خ) هكذا: «كانت ثابت بن الدحاح» والصواب «كانت تحت» حيث أن
ثابت بن الدحاح رضي اللَّه عنه قد استشهد بأحد (ابن سيد الناس) ج 2 ص 29.
[ (4) ] في (خ) «أنت» .
[ (5) ] من الآية 10/ الممتحنة.
[ (6) ] في (خ) «قريبة بنت أمية» وما بين القوسين زيادة من (ط) ، وفي
(الواقدي) «زينب بنت أمية» .
(1/303)
سفيان، والأخرى أم كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيّب بن ربيعة بن أصرم ابن
حبيش بن حرام بن حبيشة بن سلول بن كعب الخزاعية، فتزوجها أبو جهم ابن
حذيفة. وطلق عياض بن غنم الفهري أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب.
فتزوجها عبد اللَّه بن عثمان الثقفي فولدت له عبد الرحمن ابن أم الحكم،
وكلهم يومئذ مشرك. ولم يعلم أن امرأة من المسلمين لحقت بالمشركين. |