إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم يتديّن به قبل أن يوحي إليه
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن عروة بن رويم
قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أول ما نهاني ربي عن عبادة
الأصنام وعن شرب الخمر وعن ملاجأة الرجال [ (1) ] .
قال الإمام أبو عبد اللَّه أحمد بن محمد بن حنبل رحمه اللَّه: من قال أن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان على دين قومه فهو قول سوء، أليس
كان لا يأكل مما ذبح على النصب؟.
وقد خرج البيهقي من حديث يونس بن شبيب عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد اللَّه
بن أبي بكر عثمان بن أبي سليمان عن نافع عن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال:
لقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على دين قومه وهو يقف على
بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من اللَّه عزّ وجل له.
قال البيهقي: قوله على دين قومه معناه: على ما كان قد بقي فيهم من إرث
إبراهيم وإسماعيل في حجهم ومناكحهم وبيوعهم دون الشرك، فإنه لم يشرك
باللَّه قط. وفيما ذكر من بغضه اللات والعزى دليل على ذلك [ (2) ] .
وقال أبو نعيم: وما أضيف إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الذبح على
النّصب خلاف ما كانت قريش تذبحه، لأن قريشا تذبحه عند الآلهة تقربا وتدينا
وهو شرك وكفر، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد عصمه اللَّه من هذا،
ويجوز أن يكون هذا الفعل في موضع ذبائحهم، فيكون القربان للَّه، كما لو
صلّى إنسان من المسلمين في كنيسة صلاة الإسلام جاز، وهو في الظاهر مستقبح،
ويحتمل أن يكون يحضر مذابحهم مداريا لأعمامه وعماته كما رواه ابن عباس رضي
اللَّه عنه في قصة عيد بوانة على ما تقدم ذكرنا مع طمأنينة قلبه للإيمان
وبغضه لأنصابهم وأعيادهم كما روينا، مع أن بعض الناس من أهل العلم كان
يقول: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على دين قومه في أكل ذبائحهم
__________
[ (1) ] تلجّأ من القوم: انفرد عنهم وخرج عن زمرتهم وعدل إلى غيرهم. وفي
حديث كعب: «من دخل ديوان المسلمين ثم تلجّأ منهم فقد خرج من قبة الإسلام»
(المعجم الوسيط) ج 2 ص 815.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 37.
(2/357)
وغيره، محتجا بقوله تعالى: وَوَجَدَكَ
ضَالًّا فَهَدى [ (1) ] ، والأحرى والأشبه برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم أن يضاف ذلك على ما قدمنا لأن قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى
تأولوه على غير وجه، فقيل: مغمورا في بحور ضلال، كقوله: ضل الماء في اللبن
فلا يتميز منه، فكذلك كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مختلطا بقومه غير
متميز منهم، فحمل الضلال على هذا الوجه. وقيل: وجدك ضالا عن الكتاب
والشرائع كما قال تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
[ (2) ] وكيف تحمل على غير ما اخترناه وتأولناه، وقد نهي عن التعري حين نقل
الحجارة إلى بناء الكعبة مع قومه؟ أفلا تراه ينهى عن الشرك والتدين بدين
قومه لو أراده عليه السلام.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متدينا
قبل بعثه، فهل كان متعبدا بشريعة من قبله؟ فيه روايتان، إحداهما أنه كان
متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهتهم ولا بنقلهم
ولا من كتبهم المبدلة، واختارها أبو الحسن التميمي، وهو قول أصحاب أبي
حنيفة رحمه اللَّه.
والرواية الثانية أنه لم يكن متعبدا بشيء من الشرائع إلا ما أوحي إليه في
شريعته، وهو قول المعتزلة والأشعرية. ولأصحاب الشافعيّ رحمه اللَّه وجهان
كالروايتين، قال: واختلف القائلون بأنه متعبد بشرع من قبله بأية شريعة كان
يتعبد؟ فقال بعضهم بشريعة إبراهيم عليه السلام خاصة، وإليه ذهب أصحاب
الشافعيّ. وذهب قوم منهم إلى أنه كان متعبدا بشريعة موسى عليه السلام إلا
ما نسخ في شرعنا. قال:
وظاهر كلام أحمد رحمه اللَّه: أنه كان متعبدا بكل ما صح أنه شريعة لنبي
قبله ما لم يثبت نسخه، يدل عليه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [ (3) ] .
وقال النووي: والمختار أنه لا يجزم في ذلك بشيء، إذ ليس فيه دلالة عقل، ولا
يثبت فيه نص ولا إجماع.
وقال محمد بن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل، من ذلك: حج
البيت، والختان، وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا، وأن للزوج الرجعة في الواحدة
والاثنين، ودية النفس مائة من الإبل، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات
المحارم
__________
[ (1) ] الضحى: 7.
[ (2) ] الشورى: 52.
[ (3) ] الأنعام: 90.
(2/358)
بالقرابة والصهر، فكان رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم على ما كانوا عليه من الإيمان باللَّه والعمل بشرائعهم
في الختان والغسل والحج. قال: وقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني به شرائع الإيمان، ولم يرد به الإيمان
الّذي هو الإقرار [بوحدانية] [ (1) ] اللَّه تعالى، لأن آباءه الذين ماتوا
في الشرك كانوا يؤمنون باللَّه ويحجون له مع شركهم.
وذكر الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازيّ: في المسألة بحثان: الأول:
أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرائع من قبله؟ أثبته قوم ونفاه آخرون،
وتوقف فيه ثالث، احتج المنكرون بأمرين، الأول: لو كان مقيدا بشرع أحد لوجب
عليه الرجوع إلى علماء تلك الشريعة والاستفتاء منهم، والأخذ بقولهم، ولو
كان كذلك لاشتهروا ولنقل بالتواتر قياسا على سائر أحواله، فحيث لم ينقل
علمنا أنه ما كان متعبدا بشرعهم. الثاني: لو كان على ملة قوم لافتخر به
هؤلاء القوم ونسبوه إلى أنفسهم ولاشتهر ذلك. فإن قيل: ولو لم يكن متعبدا
بشرع أحد، فبقاؤه لا على شرع أحد البتة لا يكون شيئا مخالفا للعادة فلا
تتوفر الدواعي على نقله، أما كونه شرع، إما كان على خلاف عادة قومه وجب أن
ينقل، احتجوا بأمرين: الأول: أن دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها،
الثاني أنه كان يركب البهيمة ويأكل اللحم ويطوف بالبيت. والجواب عن الأول:
أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه سلمناه، لكن لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه
بطريق، فوجب العلم أو الظن الغالب، وهذا من زمن الفترة، وعن الثاني أن
نقول: أما ركوب البهائم فحسن في العقل إذا كان طريقا إلى حفظها ونفعها
بالعلف وغيره، وأما أكل اللحم الذكي فحسن أيضا لأنه ليس فيه مضيرة على
حيوان، وأما طوافه بالبيت فبتقدير ثبوته لا يجب، أو فعله من غير شرع أن
يكون حراما.
البحث الثاني: في حالة بعد النبوة، قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء:
لم يكن متعبدا بشرع أحد. وقال قوم من الفقهاء: بل كان متعبدا بذلك إلا
باستثناء الدليل الراجح ثم اختلفوا، قال قوم: كان متعبدا بشرع إبراهيم عليه
السلام، وقيل بشرع موسى عليه السلام، وقيل بشرع عيسى عليه السلام.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(2/359)
واعلم أن من قال: كان متعبدا بشرع من قبله،
إما أن يريد أن اللَّه تعالى كان يوحي إليه بمثل الأحكام التي أمر بها من
قبله، أو يريد به أن اللَّه تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم، فإن
قالوا بالأول، فإما أن يقولوا به في كل شرعه أو في بعضه، والأول معلوم
البطلان بالضرورة، لأن شرعنا يخالف شرع من قبلنا في كثير من الأمور.
والثاني مسلم [به] [ (1) ] ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه متعبد بشرع
غيره لأن ذلك يوهم التبعية، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ما كان تبعا
لغيره بل كان أصلا في شرعه.
وأما الاحتمال الثاني وهو حقيقة المسألة فيدل على بطلانه وجوه:
الأول: لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب أن يرجع إلى أحكام الحوادث إلى شرعه،
وأن لا يتوقف إلى نزول الوحي، لكن لم يفعل ذلك لوجهين: الأول: أنه لو فعل
لاشتهر،
والثاني أن عمر رضي اللَّه عنه طالع ورقة في التوراة فغضب صلّى اللَّه عليه
وسلّم وقال: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي،
ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد، فإن قيل: الملازمة
ممنوعة لاحتمال أن يقال: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم علم في تلك الصورة أنه
غير متعبد فيها بشرع من قبله، ولا جرم توقف فيها على نزول الوحي عليه، أو
لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم علم خلو شرعهم على حكم تلك الواقعة فانتظر
الوحي، أو لأن أحكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالتواتر فلا يحتاج في
معرفتها إلى الرجوع إليهم في كتبهم، وإن كانت منقولة بالآحاد لم يجز
قبولها، لأن أولئك الرواة كانوا كفارا، ورواية الكفار غير مقبولة سلمنا
الملازمة، لكن قد ثبت رجوعه إلى التوراة في الرجم لما احتكم إليه اليهود،
والجواب قوله: إنما لم يرجع إليها في شيء من الوقائع إليهم، وجب أنت يكون
ذلك لأنه علم أنه غير متعبد في شيء منها بشرع من قبله، قوله: إنما لم يرجع
إليها لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع، قلنا: العلم بخلو كتبهم عنها لا
يحصل إلا بالمطلب الشديد والبحث الكثير، فكان يجب أن يقع منه ذلك الطلب
والبحث. قوله: «ذلك الحكم إما أن يكون متواترا أو آحادا» قلنا:
يجوز أن يكون متن الدليل متواترا إلا أنه لا بد من العلم بدلالته على
المطلوب من نظر كثير أو بحث دقيق، وكان يجب اشتغال النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم بالنظر في كتبهم، والبحث عن كيفية دلالتها على الأحكام. قوله: «رجع
في الرجم إلى التوراة» قلنا: لم يكن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(2/360)
رجوعه إليها رجوع مثبت الشرع بها، والدليل
عليه أمور، أحدها: أنه لم يرجع إليها في غير الرجم، وثانيها: أن التوراة
محرفة عنده، فكيف يعتمد عليها؟ وثالثها: أن من أخبره بوجوب الرجم في
التوراة لم يكن ممن يقع العلم بخبره، فثبت أن رجوعه إليها كان ليقرر عليهم
أن ذلك الحكم أنه ثابت في شرعه فهو أيضا ثابت في شرعهم، وأنهم أنكروه كذبا
وعنادا.
الحجة الثانية أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لو كان متعبدا بشرع من قبله لوجب
على علماء الأمصار أن يرجعوا في الوقائع إلى شرع من قبله ضرورة أن التأسي
به واجب، وحيث [أنهم] [ (1) ] لم يفعلوا ذلك علمنا بطلان ذلك.
الحجة الثالثة: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم صوّب معاذا على حكمه باجتهاده
إذا عدم حكم الحادثة من الكتاب والسنة، ولو كان متعبدا بحكم التوراة كما
تعبد بحكم الكتاب لم يكن له العمل باجتهاد نفسه حتى ينظر في التوراة
والإنجيل، فإن قلت: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يصوب معاذا
في العمل باجتهاده إلا إذا عدمه من الكتاب- والتوراة كتاب- ولأنه إنما لم
يذكر التوراة لأن في القرآن آيات تدل على الرجوع إليها، كما أنه لم يذكر
الإجماع لهذا السبب، قلنا: الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أنه لا يفهم
من إطلاق الكتاب إلا القرآن، فلا يحمل على غيره إلا بدليل. الثاني: أنه لم
يعهد من معاذ قط تعليم التوراة والإنجيل بتمييز المحرف منهما عن غيره كما
عهد منه تعلم القرآن، وبه ظهر الجواب عن الثاني.
الحجة الرابعة: لو كانت تلك الكتب حجة علينا لكان حفظها من فروض الكفايات
كما في القرآن والأخبار، ولرجعوا إليها في مواقع اختلافهم حين أشكل عليهم:
كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة، وبيع أم الولد وحد الشرب، والربا في
غير النسيئة، ودية الجنين، والردّ بالعيب بعد الوطء، والتقاء الختانين وغير
ذلك من الأحكام. ولما لم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم،
واختلافهم مراجعة التوراة، سيما وقد أسلم من أحبارهم من تقوم الحجة بقولهم،
كعبد اللَّه بن سلام وكعب [الأحبار] ووهب، وغيرهم. ولا يجوز القياس إلا بعد
اليأس من الكتاب، وكيف يحصل اليأس قبل العلم؟ احتجوا بأمور أحدها: قوله
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(2/361)
تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ
فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [ (1) ] وثانيها: قوله
تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [ (2) ] أمره أن يقتدي بهداهم، وثالثها:
قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ (3) ] ، ورابعها: قوله تعالى:
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [ (4) ] ، وخامسها: قوله
تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [ (5) ] .
والجواب عن الأول يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ: لا يمكن إجراؤه على ظاهره،
لأن جميع النبيين لم يحكموا بجميع ما في التوراة، ذلك معلوم بالضرورة، فوجب
إما تخصيص الحكم وهو أن كل النبيين حكموا ببعضه وذلك لا يضرنا، فإن نبينا
صلّى اللَّه عليه وسلّم حكم بما فيه من معرفة اللَّه تعالى وملائكته وكتبه
ورسله، أو تخصيص النبيين وهو أن بعض النبيين حكموا بكل ما فيه وذلك لا
يضرنا.
وعن الثاني أنه تعالى أمر بأن [ (6) ] يهتدي بهدي مضاف إلى كلهم، وهداهم
الّذي اتفقوا عليه هو الأصول دون ما وقع عليه النسخ.
وعن الثالث: أنه يقتضي تشبيه الوحي بالوحي، لا تشبيه الوحي بالموحى به.
وعن الرابع: أن المسألة محمولة على الأصول دون الفروع، ويدل عليه أمور،
أحدها: أنه يقال: ملة الشافعيّ وأبي حنيفة واحدة وإن كان مذهبهما في كثير
الشرعيات مختلفا، وثانيهما: قوله تعالى بعد هذه الآية: وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ [ (7) ] . وثالثها: أن شريعة إبراهيم عليه السلام قد
اندرست.
وعن الخامس: أن الآية تقتضي أنه وصى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالذي
وصى به نوحا من أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وأمرهما بإقامة الدين لا
يدل على اتفاق دينهما، كما أن أمر الاثنين بأن يقوما بحقوق اللَّه تعالى
يدل على أن الحق على أحدهما مثل الحق على الآخر، وعلى أن الآية تدل على أنه
تعبّد محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بما وصى به نوحا عليه السلام، واللَّه
أعلم.
وقال الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: وأما شريعة
__________
[ (1) ] المائدة: 44.
[ (2) ] الأنعام: 90.
[ (3) ] النساء: 163.
[ (4) ] النحل: 123.
[ (5) ] الشورى: 13.
[ (6) ] في (خ) «بأن أن» .
[ (7) ] البقرة: 135.
(2/362)
إبراهيم عليه السلام فشريعتنا، ولسنا نقول:
أن اللَّه تعالى بعث محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الناس كافة بالشريعة
التي بعث اللَّه تعالى بها إبراهيم إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره، وإنما
لزمتنا لأن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث بها إلينا لا لأن إبراهيم بعث
بها، قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [ (1) ] وقال تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قال: تبلجت المسألة والحمد للَّه.
قال: ونسخ اللَّه تعالى عنا بعض شريعة إبراهيم عليه السلام كما نسخ عنا ما
كان يلزمنا من شريعة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمن ذلك ذبح الأولاد نسخ
بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ [ (2) ] ، وبقوله تعالى:
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [ (3) ] ، وبقوله
تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ [ (4) ] . ونسخ
الاستغفار للمشركين بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [ (5) ] .
قال: وقد قال قوم: ماذا كانت شريعة النبي قبل أن ينبّأ؟ والجواب: أن يقال:
في نفس سؤالكم جوابكم، وهو قولكم: قبل أن ينبّأ، وإذا لم يكن نبيا فلم يكن
مكلفا شيئا من الشرائع التي لم يؤمر بها، ومن قبل أن يكون مأمورا بما لم
يؤمر به، فصح يقينا أنه لم يكن ألزم شيئا من الشريعة حاشا التوحيد اللازم
لقومه من عهد إبراهيم لولده ونسله حتى غيّره عمرو بن يحيي، وحاشا ما صانه
اللَّه من الزنا وكشف العورة والكذب والظلم وسائر الفواحش التي سبق في علم
اللَّه تعالى [أنه] [ (6) ] سيحرمها عليه وعلى الناس.
ذكر ما ورد في أنه عقّ عن نفسه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال الجلال: أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا دواد حدثهم قال: سمعت أحمد
يحدث بحديث الهيثم بن جميل عن عبد اللَّه بن المثنى عن ثمامة عن أنس أن
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عق عن نفسه.
__________
[ (1) ] النحل: 123.
[ (2) ] الأنعام: 151.، الإسراء: 31.
[ (3) ] التكوير: 9. وفي (خ) «وإذا المودة» .
[ (4) ] الأنعام: 140.
[ (5) ] التوبة: 113. وفي (خ) «ما كان للنّبيّين» .
[ (6) ] في (خ) «والتي» ولعل ما أثبتناه أجود للسياق.
(2/363)
قال أحمد [بن] عبد اللَّه بن قتادة عن أنس
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عق عن نفسه، منكر، وضعّف عبد اللَّه بن
محرز قال الجلال: أخبرنا محمد بن عوف الحمصي، أخبرنا الهيثم بن جميل، حدثنا
عبد اللَّه بن المثنى عن رجل من آل أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
عقّ عن نفسه بعد ما جاءته النبوة [ (1) ] .
وفي مصنف عبد الرزاق: أخبرنا عبد اللَّه بن محرز عن قتادة أن النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم عقّ عن نفسه بعد النبوة. قال عبد الرزاق: انما تركوا ابن
محرز لهذا الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ذكره ابن القيم في (زاد المعاد) 2/ 332 وأخبر أنّ عبد اللَّه بن
المثنى كثير الغلط فالسند ضعيف.
[ (2) ] ذكره الحافظ في الفتح ج 9 ص 595 ونسبه للبزار وقال البزار: تفرد به
عبد اللَّه بن محرز وهو ضعيف ووصفه الحافظ في (التقريب بقوله: متروك وأخرجه
أبو الشيخ من وجهين آخرين: أحدهما من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة
وإسماعيل ضعيف أيضا، وقد قال عبد الرزاق: إنهم تركوا حديث عبد اللَّه بن
محرز من أجل هذا الحديث، فلعل إسماعيل تركه منه. ثانيهما من رواية أبي بكر
المستملي عن الهيثم بن جميل وداود بن المحبر قالا حدثنا عبد اللَّه بن
المثنى عن ثمامة عن أنس، وداود ضعيف لكن الهيثم ثقة وعبد اللَّه من رجال
البخاري فالحديث قوي الإسناد وقد أخرجه محمد بن عبد الملك بن أمين عن
إبراهيم بن إسحاق السراج عن عمرو الناقد وأخرجه الطبراني في «الأوسط» عن
أحمد بن مسعود كلاهما عن الهيثم بن جميل وحده به، فلولا ما في عبد اللَّه
بن المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحا، لكن قد قال ابن معين:
ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بقوي، وقال أبو داود: لا أخرج حديثه، وقال
الساجي: فيه ضعف لم يكن من أهل الحديث وروى مناكير وقد قال العقيلي: لا
يتابع على أكثر حديثه، قال ابن حبان في «الثقات» : ربما أخطأ، ووثقه
العجليّ والترمذي وغيرهما، فهذا من الشيوخ الذين إذا انفرد أحدهم بالحديث
لم يكن حجه أ. هـ.
(2/364)
|