وقال ابن سيده [ (1) ] في كتاب المخصص:
النبي هو من نبّأت، أي أخبأت، لأنه إنباء عن اللَّه، وأنبئ، ومن زعم أن
أصله غير الهمز فقد أخطأ، لأن سيبويه قال:
وليس أحد من العرب إلا وهو يقول: تنبأ مسيلمة، فلو كان من النبوة- كما
ذهب إليه غير سيبويه لقالوا: تنبأ مسيلمة، وبعضهم يقول تنبّأ مسيلمة،
كما أن سنة لما كانت من الهاء عند قوم ومن الواو عند آخريين، قالوا:
سنهات وسنوات، وكذلك عضة، قالوا مرة عضاة ومرة عضوات، فكذلك النبي: لو
كان من النبوة ومن النبأ لهمز مرة وترك همزة أخرى.
قال: وزعم سيبويه [ (2) ] أن بعض أهل الحجاز يهمزون النبي، وهي لغة
رديئة،
__________
[ (1) ] هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بابن سيدة
المرسيّ، كان إماما في اللغة والعربية، حافظا لهما، وقد جمع في ذلك
جموعا، من ذلك كتاب [المحكم] في اللغة، وهو كتاب كبير جامع، مشتمل على
أنواع اللغة، وله كتاب [المخصص] في اللغة أيضا وهو كبير، وكتاب
[الأنيق] في شرح الحماسة في ست مجلدات، وغير ذلك من المصنفات النافعة،
وكان ضريرا، وأبوه ضريرا، وكان أبوه أيضا قيّما بعلم اللغة، وعليه
اشتغل ولده في أول أمره، ثم على أبي العلاء صاعد البغدادي، وقرأ أيضا
على أيضا على أبي عمر الطّلمنكيّ، قال الطلمنكي: ذهبت إلى مرسية،
فتشبّث بي أهلها يسمعون عليّ [غريب المصنف لأبي عبيد] ، فقلت لهم:
انظروا لي من يقرأ لكم وأمسك أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن
سيدة، فقرأه عليّ من أوله إلى آخره، فتعجبت من حفظه، وكان له في الشعر
حفظه وتصرف.
توفي بحضرة [دانية] عشية يوم الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الآخر، سنة
ثمان وخمسين وأربعمائة، وعمره ستون سنة أو نحوها. رأيت على ظهر مجلد من
المحكم بحفظ بعض فضلاء الأندلس أن ابن سيدة المذكور كان يوم الجمعة قبل
يوم الأحد المذكور صحيحا سويا إلى وقت صلاة المغرب، فدخل المتوضّأ
فأخرج منه وقد سقط لسانه، وانقطع كلامه، فبقي على تلك الحال إلى العصر
من يوم الأحد ثم توفي، رحمه اللَّه. وقيل: سنة ثمان وأربعين وأربعمائة،
والأول أصح واشتهر. و [سيدة] : بكسر السين المهملة، وسكون الياء
المثناة من تحتها، وفتح الدال المهملة، وبعدها ياء ساكنة. و [المرسيّ]
:
بضم الميم وسكون الراء، هذه النسبة إلى مرسية، وهي مدينة في شرق
الأندلس، و [الطّلمنكيّ] : بفتح الطاء المهملة واللام والميم وسكون
النون وبعدها كاف، هذه النسبة إلى طلمنكة، وهي مدينة في غرب الأندلس،
إلى الغرب من وادي الحجارة، وقال الحميري: بينها وبين وادي الحجارة
عشرون ميلا.
(وفيات الأعيان) : 3/ 330- 331، ترجمة رقم (449) ، (مرآة الجنان) : 1/
83، (سير أعلام النبلاء) : 18/ 144- 146، ترجمة رقم (78) ، (معجم مصنفي
الكتب العربية) :
336، (كشف الظنون) : 1/ 691، 2/ 1616- 1617، (لسان الميزان) :
4/ 205- 206، (البداية والنهاية) : 12/ 116- 117.
[ (2) ] إمام النحو، حجة العرب، أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قنبر،
الفارسيّ، ثم البصريّ، وقد طلب الفقه والحديث مدة، ثم أقبل على
العربية، فبرع وساد أهل العصر، وألّف فيها كتابه الكبير الّذي لا يدرك
شأوه فيه. استملى على حمّاد بن سلمة، وأخذ النحو عن عيسى بن عمر، ويونس
بن حبيب، والخليل، وأبي الخطاب الأخفش الكبير.
(2/371)
ولم يستردئ ذهابا منه إلى أن أصله غير
الهمز، وإنما استردأها من حيث كثرة استعمال الجمهور من العرب لها من
غير لها من غير همز.
قال أبو عبيد [ (1) ] : قال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب،
يهمزون
__________
[ () ] وقد جمع يحى البرمكي ببغداد بينه وبين الكسائي للمناظرة. بحضور
سعيد الأخفش، والفرّاء، وجرت مسألة الزنبور، وهي كذب: أظنّ الزّنبور
أشدّ لسعا من النحلة فإذا هو إياها، فقال سيبويه: ليس المثل كذا، بل:
فإذا هو هي: وتشاجرا طويلا، وتعصبوا للكسائي دونه، ثم وصله يحيى بعشرة
آلاف، فسار إلى بلاد فارس، وكان قد قصد الأمير طلحة بن طاهر الخزاعي.
ومعنى [سيب] : تفاح، و [ويه] :
رائحة، [رائحة التفاح] .
وقيل: كان فيه مع فرط ذكائه حبسة في عبارته، وانطلاق في قلمه. قال
إبراهيم الحربيّ: سمي سيبويه، لأن وجنتيه كانتا كالتفاحتين، بديع
الحسن. قال أبو زيد الأنصاري: كان سيبويه يأتي مجلس، وله ذؤابتان، فإذا
قال: حدثني من أثق به فإنما يعنيني. وقال العيشي: كنا نجلس مع سيبويه
في المسجد، وكان شابا جميلا نظيفا، قد تعلق من كل علم بسبب، وضرب بسهم
في كل أدب، مع حداثة سنة.
عاش سيبويه اثنتين وثلاثين سنة، ومات بشيراز سنة ثمانين ومائة.
(تاريخ بغداد) : 12/ 195- 199، ترجمة رقم (6658) ، (وفيات الأعيان) :
3/ 463- 465، ترجمة رقم (504) ، (مرآة الجنان) : 1/ 445، (البداية
والنهاية) :
10/ 189- 190، (مفتاح السعادة ومصباح السيادة) : 1/ 128- 130، (شذرات
الذهب) : 1/ 252.
[ (1) ] هو الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون، أبو عبيد، القاسم بن
سلّام بن عبد اللَّه، ولد سنة سبع وخمسين ومائة، وسمع إسماعيل بن جعفر،
وشريك بن عبد اللَّه، وهشيما، وخلقا كثيرا، إلى أن ينزل إلى رفيقه هشام
بن عمار، ونحوه، وقرأ القرآن على أبي الحسن الكسائي، وطائفة. وأخذ
اللغة عن أبي عبيدة، وأبي زيد، وجماعة. وصنّف التصانيف المؤنقة، التي
سارت بها الركبان، وهو من أئمة الاجتهاد، له كتاب [الأموال] في مجلد
كبير، وكتاب [الغريب] ، وكتاب [فضائل القرآن] ، وكتاب [الطهور] ، وكتاب
[الناسخ والمنسوخ] ، وكتاب [المواعظ] ، وكتاب [الغريب المصنف في علم
اللسان] ، وغير ذلك، وله بضعة وعشرون كتابا.
حدّث عنه نصر بن داود، وعباس الدوري، وآخرون. كما قال عبد اللَّه بن
جعفر بن درستويه النحويّ: وكان ذا فضل ودين وستر، ومذهب حسن، ثقة
ديّنا، ورعا، كبير الشأن. وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد
فاضلا في دينه وفي علمه، ربانيا، مفنّنا في أصناف علوم الإسلام من
القرآن، والفقه، والعربية والأخبار، حسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم
أحدا طعن في شيء من أمر دينه.
عن ابن معين قال: أبو عبيد ثقة، وقال أبو داود: أبو عبيد ثقة مأمون،
وقال الدارقطنيّ: إمام جبل. قال البخاري وغيره: مات سنة أربع وعشرين
ومائتين بمكة، قال الخطيب: وبلغني أنه بلغ سبعا وستين سنة.
(طبقات ابن سعد) : 7/ 355، (التاريخ الكبير) : 7/ 172، ترجمة رقم (778)
، (التاريخ الصغير) : 2/ 350، (المعارف) : 549، (الجرح والتعديل) : 7/
111، ترجمة رقم
(2/372)
النبي والبرية [ (1) ] ، وذلك قليل في
الكلام.
وقال [يعني ابن سيده] في كتاب المحكم في مادة ن ب أ: والنبي المخبر عن
اللَّه عز وجل مكية، قال سيبويه: الهمز فيه لغة رديئة، يعني لقلة
استعمالها، لا لأن القياس يمنع من ذلك، ألا ترى إلى
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد قيل له: يا نبئ اللَّه
فقال: «لست بنبيء اللَّه ولكني نبيّ اللَّه» ،
وذلك أنه عليه السلام أنكر الهمز في اسمه، فرده على قائله لأنه لم يرد
بما سماه، فأشفق أن يمسك على ذاك وفيه شيء يتعلق بالشرع، فيكون
بالإمساك عنه مبيح محظور أو حاظر مباح، والجمع أنبياء ونبآء، وتنبأ
الرجل: ادعى النبوة.
وقال في مادة ن ب و: والنبي العلم من أعلام الأرض التي يهتدى بها، قال
بعضهم: ومنه اشتقاق النبي لأنه أرفع خلق اللَّه، وذلك لأنه يهتدى به.
وقال أبو نعيم: فالنبوة هي سفارة العبد بين اللَّه وبين ذوي الألباب من
خليقته، ولهذا يوصف أبدا بالرسالة والبعثة.
وقيل: إن النبوة إزاحة علل ذوي الألباب فيما تقصر عقولهم عنه من مصالح
الدارين، ولهذا يوصف دائما بالحجة والهداية ليزيح عللهم على سبيل
الهداية و [السقيف] [ (2) ] .
ومعنى النبي وذو النبأ والخبر أن يكون مخبرا عن اللَّه بما خصه به من
الوحي-
__________
[ () ] (637) ، (تاريخ بغداد) : 2/ 403- 416، ترجمة رقم (6868) ،)
(صفوة الصفوة) :
4/ 117، ترجمة رقم (693) ، (الكامل في التاريخ) : 6/ 509، (تهذيب
الأسماء واللغات) :
2/ 257، (وفيات الأعيان) : 4/ 60- 63، ترجمة رقم (534) ، (تهذيب
التهذيب) :
8/ 283- 285، ترجمة رقم (574) ، (ميزان الاعتدال) : 3/ 371، ترجمة رقم
(6807) ، (مرآة الجنان) : 2/ 83- 86، (البداية والنهاية) : 10/ 319-
320، (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) : 2/ 411- 412، (مفتاح السعادة
ومصباح السيادة) : 2/ 306، (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 343، ترجمة رقم
(5778) ، (طبقات الحفاظ) :
2/ 182- 183، ترجمة رقم (403) ، (الأموال) : 5- 9 (المقدمة) ، (الرسالة
المستطرفة) : 35، (غريب الحديث) : (المقدمة) ، (سير أعلام النبلاء) :
10/ 490- 509، ترجمة رقم (164) .
[ (1) ] النبيء، البريئة، وهي قراءة ورش، (رواية ورش عن الإمام نافع
المدني) : للشيخ محمود الحصري.
[ (2) ] كذا في (خ) ولم أجد لها معنى فيما بين يدي من المعاجم اللغوية.
(2/373)
وقيل إنها مشتقة من النّبوة التي هي المكان
المرتفع عن الأرض، وهو أن يخص بضرب من الرفعة، فجعل سفيرا بين اللَّه
وبين خلقه، يعنى بذلك وصفه بالشرف والرفعة.
ومن جعل النبوة من الأنباء التي هي الأخبار، لم يفرق بين النبوة
والرسالة، ومعنى الرسول: فهو المرسل، معول على لفظ مفعل، وإرساله أمره
إياه بإبلاغ الرسالة والوحي.
قال كاتبه: والنبي أصله بالعبرانية نبي- بضم النون وكسر الباء الموحدة
ثم ياء آخر الحروف لا همز عليها- فلما عرّبت قيل: نبي بفتح النون، وهذا
يؤيد أن ترك الهمز أشهر وأعرف، وفوق كل ذي علم عليم.
تنبيه وإرشاد إلى معنى النبوة- واللَّه أعلم- وكيفية تلقي الأنبياء
الوحي: اعلم أن اللَّه سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه،
وفطرهم على معرفته، وجعلهم وسائل بينه وبين عباده، يعرفونهم مصالحهم
ويحرصون على هدايتهم، ويأخذون بحجزاتهم عن النار، ويدلونهم على طرق
النجاة، وكان مما يلقيه اللَّه تعالى إليهم من المعارف، ويظهره على
ألسنتهم من الخوارق، وقوع الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى
معرفتها إلا من اللَّه بوساطتهم، ولا يعلمونها إلا بتعليم اللَّه
إياهم،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني اللَّه» .
واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصته وضرورته الصدق، كما يتبين لك عند بيان
حقيقة النبوة، وعلامة هذا الصنف من البشر أن يوجد لهم في حال الوحي
غيبة عن الحاضرين، مع غطيط كأنها غشي أو إغماء وليست منها في شيء، إنما
هي بالحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحانيّ بإدراكهم المناسب لهم،
الخارج عن مدارك البشر كلية. ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما سماع
دوي من الكلام فيتفهمه، أو يتمثل له في صورة شخص يخاطبه بما جاء به من
عند اللَّه، ثم ينجلي عنه تلك الحال، وقد وعى ما ألقي عليه.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد سئل [ (1) ] عن الوحي:
__________
[ (1) ] السائل هو: الحارث بن هشام المخزومي، أخو أبي جهل شقيقه، أسلم
يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام.
(2/374)
«أحيانا [ (1) ] يأتيني مثل صلصلة الجرس
وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت
__________
[ (1) ] [أحيانا] : جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به
هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله
«يأتيني» مؤخر عنه. ولابن حجر من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال: كل
ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما، وروى ابن سعد من طريق أبي
سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول:
«كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي
الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني. ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى
يخالط قلبي، فذاك الّذي لا ينفلت مني» وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صحّ
فهو محمول على ما كان قبل نزول تعالى تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ [القيامة: 16] ، فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة، ولم
ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية، وفي صورة
أعرابي، وغير ذلك، وكلها في الصحيح.
وأورد على ما اقتضاه الحديث- وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات
أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام،
والرؤيا الصالحة، والتكلم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل
الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي
بين السماء والأرض وقد سدّ الأفق. والجواب: منع الحصر في الحالتين
المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد
السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن
عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو
أتاه به، فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بيّن بها صفة الوحي، لا صفة
حامله.
وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدويّ
بالنسبة إلى الحاضرين- كما في حديث عمر- يسمع عنده كدوي النحل،
والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فشبهه عمر بدوي
النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبّهه هو صلّى اللَّه عليه وسلّم بصلصلة
الجرس بالنسبة إلى مقامه.
وأما النفث في الروع: فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه
الملك في مثل صلصلة الجرس، نفث حينئذ في روعه. وأما الإلهام فلم يقع
السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الّذي يأتي بحامل، وكذا
التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة: فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد
به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره. والرؤيا الصادقة وإن كانت
جزءا من النبوة، فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى
نبيا وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال قد وقع عما في اليقظة، أو يكون
حال المنام لا يخفي على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور
ذلك له صلّى اللَّه عليه وسلّم في المنام أيضا على الوجهين المذكورين
لا غير. وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا-
فذكرها- وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر. وحديث
«إن روح القدس نفث في روعي» ، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه
الحاكم من طريق ابن مسعود.
قوله: [مثل صلصلة الجرس] ، في رواية مسلم: «في مثل صلصلة الجرس،
والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة: في الأصل صوت وقوع
الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك
لا يدرك في أول وهلة، والجرس: الجلجل الّذي يعلق في رءوس الدواب،
واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحسّ.
(2/375)
__________
[ () ] وقال الكرماني: الجرس: ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس
يعلق منكوسا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت
الصلصلة. فإن قيل: المحمود لا يشبّه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق
ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم
لصحة النهي عنه، والتّنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا
تصحبهم الملائكة، كما أخرجه مسلم، وأبو داود، وغيرهما، فكيف يشبه ما
فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟.
والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه والمشبه به في الصفات
كلها، بل ولا في أخصّ وصف له. بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود
هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه، تقريبا لأفهامهم. والحاصل
أن الصوت له جهتان: جهة قوة وطنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن
حيث الطرب وقع التنفير عنه، وعلل بكونه مزمار الشيطان. قيل: والصلصلة
المذكورة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى
يفهمه بعد. وقيل: بل هو صوت خفيف أجنحة الملك. والحكمة في تقدمه أن
يقرع سمعه الوحي، فلا يبقى فيه مكان لغيره.
ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا؟ متدارك؟ وقع التشبيه دون غيره من
الآلات.
قوله: [وهو أشدّ عليّ] ، يفهم منه أن لوحي كلّه شديد، ولكن هذه الصفة
أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أن كل من الفهم من
كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين
القائل وسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية
وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو
النوع الثاني، والأول أشدّ بلا شك.
قوله: [فيفصم] بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقلع ويتجلى ما
يغشاني، ويروي بضم أوله، وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء
للمجهول، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى:
لَا انْفِصامَ لَها [البقرة: 256] ، وقيل: الفصم بالفاء القطع بلا
إبانة، وبالقاف القطع بإبانة، فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه
ليعود، والجامع بينهما بقاء العلة.
قوله: [وقد وعيت عنه ما قال] ، أي القول الّذي جاء به، وفيه إسناد
الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى- حكاية عمن قال
من الكفار-: إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 25] لأنهم
كانوا ينكرون الوحي، وينكرون مجيء الملك به.
قوله: [يتمثل لي الملك] ، التمثل مشتق من المثل، أي يتصور، واللام في
الملك للعهد وهو جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد، وفيه
دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر. قال المتكلمون:
الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة
أنها جواهر روحانية.
و [رجلا] ، منصوب بالمصدرية، أي يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو
بالحال، والتقدير هيئة الرجل. قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن
اللَّه أفنى الزائد من خلقه، أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد. وجزم
ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون
انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيا، لأن موت الجسد
بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها اللَّه تعالى في بعض
خلقه. ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.
قال الحافظ
(2/376)
ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا
فيكلمني فأعي ما يقول»
ويدركه أثناء ذلك
__________
[ () ] في (الفتح) : وقال شيخنا شيخ الإسلام: ما ذكره إمام الحرمين لا
ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا
أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال
ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا، فإنه بالنّفش يحصل له صورة
كبيرة، وذاته لم تتغير، وهذا على سبيل التقريب، والحق أن تمثل الملك
رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة
تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل
يخفى على الرائي فقط. واللَّه أعلم.
قوله: [فيكلمني] ، كذا للأكثر، ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي
عن مالك «فيعلمني» بالعين بدل الكاف، والظاهر أنه تصحيف، فقد وقع في
الموطأ رواية القعنبي بالكاف، وكذا للدارقطنيّ في حديث مالك من طريق
القعنبي وغيره.
قوله: [فأعي ما يقول] ، زاد أبو عوانه في صحيحه: «وهو أهونه عليّ» .
وقد وقع التغاير في الحالتين، حيث قال في الأول: «وقد وعيت» بلفظ
الماضي، وهنا: «فأعي» بلفظ الاستقبال، لأن الوعي حصل في الأول قبل
الفصم، وفي الثاني حصل المكالمة، أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات
الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلّية كان حافظا لما قيل له، فعبر عنه
بالماضي، فإنه على حالته المعهودة.
قوله: [قالت عائشة] ، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف. وقد أخرجه
الدار الدّارقطنيّ في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب، عن مالك مفصولا
عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام، ونكتة
هذا الاقتطاع هنا، اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة
الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول.
قوله: [ليتفصّد] بالفاء وتشديد المهملة، مأخوذ من الفصد، وهو قطع العرق
لإسالة الدم، شبّه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق. وفي
قولها: «اليوم الشديد البرد» دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند
نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد،
فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية.
قوله: [عرقا] ، بالنصب على التمييز، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا
الإسناد عند البيهقي في الدلائل: «وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته
فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه» . حكى العسكري في (التصحيف) عن بعض
شيوخه أنه قرأ: «ليتقدّد» بالقاف، ثم قال العسكري: إن ثبت فهو من
قولهم: تقصّد الشيء إذا تكسر وانقطع، ولا يخفى بعده.
وفي حديث الباب من الفوائد: أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا
يقدح في اليقين، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن
المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي
التفصيل. واللَّه أعلم (فتح الباري) : 1/ 23- 28، كتاب بدء الوحي باب
(3) حديث رقم (2) ، (ابن سعد في طبقاته) : 1/ 198، (تحفة الأحوذي) :
10/ 78- 79، أبواب المناقب، باب (34) كيف كان ينزل الوحي على النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3877) ، (دلائل النبوة لأبي نعيم) :
223 باب وأما كيفية إلقاء الوحي إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
حديث رقم (171) .
(2/377)
من الشدة [ (1) ] والغط ما لا يعبر عنه،
ففي الحديث: كان مما يعالج من التنزيل شدة [ (1) ] ، وقالت عائشة رضي
اللَّه عنها: «فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد [البرد] [
(2) ] فيفصم عنه وإن جبينه ليفصد عرقا» وقال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [ (3) ] ولأجل هذه الحالة في تنزيل الوحي
كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون: له رئي أو تابع من الجن،
وإنما لبس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الحال وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ [ (4) ] .
ومن علاماتهم أيضا أنهم يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاة ومجانبة
المذمومات والرجس أجمع، وهذا هو معنى العصمة، وكأنه مفطور على التنزه
عن المذمومات والمنافرة لها، وكأنها منافية لجبلته [ (5) ] ، واعتبر
بسقوط إزار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [حين] انكشف كيف خرّ
مغشيا عليه [ (6) ] ، وبقصده وليمة العرس كيف غشيه النوم ليله كله ولم
يحضر شيئا من شأنهم [ (7) ] ، بل نزّهه اللَّه عن ذلك بجبلته [ (1) ]
حتى أنه عليه السلام ليتنزه عن المطعومات المستكرهة، فلم يقرب البصل
ولا الثوم، فلما قيل له في ذلك
قال: إني أناجي من لا تناجي [ (8) ] ،
وانظر
لما أخبر.....
__________
[ (1) ] قال بعضهم: وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما
سمع، وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد، وهذا
فيه نظر، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على
المشقة من زيادة الزلفى والدرجات. (فتح الباري) : 1/ 27.
[ (2) ] تكملة من (البخاري) .
[ (3) ] المزمل: 5.
[ (4) ] الرعد: 33.، الزمر: 23.، الزمر: 36.، غافر: 33.
[ (5) ] جبل اللَّه الخلق يجبلهم ويجبلهم: خلقهم. وجبله على الشيء:
طبعه. وجبل الإنسان على هذا الأمر أي طبع عليه، وجبلة الشيء: طبيعته
وأصله وما بني عليه. قال تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا
كَثِيراً، خلقا كثيرا، وقوله تعالى: وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ،
الخلقة الأولين. آية 62/ يس، آية 184/ الشعراء، على الترتيب. (لسان
العرب) : 11/ 98- 99.
[ (6) ] سبق ذكره وتخريجه، حيث أورده أبو نعيم في (دلائل النبوة) ،
باب: «ومما عظّم به صلّى اللَّه عليه وسلّم وحرس منه أن لا يتعرى كفعل
قومه وأهله، وإذا حفظ من التعري، فما فوقه أولى أن يعصم منه وينهى عنه»
.
[ (7) ] سبق ذكره وتخريجه، حيث أورده أبو نعيم في (دلائل النبوة) ،
باب: «ذكر ما خصه اللَّه عزّ وجلّ به من العصمة، وحماه من التدين بدين
الجاهلية، وحراسته إياه عن مكائد الجن والإنس، واحتيالهم عليه صلّى
اللَّه عليه وسلّم» .
[ (8) ]
أخرجه البخاري في كتاب (الأذان) ، باب: ما جاء في الثوم النّيّء
والبصل، والكرّاث، حديث رقم (855) ، قوله: «كل فإنّي أناجي من لا
تناجي» ،
أي الملائكة:
(فتح الباري) :
(2/378)
[رسول] [ (1) ] اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم خديجة رضي اللَّه عنها بحال الوحي أول ما فجئه وأرادت اختباره
فقالت له: اجعلني بينك وبين ثوبك، فلما فعل ذلك ذهب عنه!! فقالت:
إنه ملك وليس بشيطان [ (2) ] ، ومعناه أنه لا يقرب النساء، وكذلك سألته
عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها، فقال: البياض والخضرة، فقالت إنه
الملك،
بمعنى أن الخضرة والبياض من ألوان الخير والملائكة، والسواد من ألوان
الشرّ والشياطين وأمثال ذلك.
ومن علاماتهم أيضا دعواهم الخلق إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة
والعفاف، وقد استدلت خديجة رضي اللَّه [عنها] [ (1) ] على صدقه صلّى
اللَّه عليه وسلّم بذلك، وكذلك أبو بكر رضي اللَّه عنه، فلم يحتاجا-
رضي اللَّه عنهما- في أمره عليه السلام إلى دليل خارج عن حاله وخلقه،
وكذا هرقل لما جاءه كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعوه إلى
الإسلام سأل عن حاله، وكان فيما قال: فبم يأمركم؟ فقال أبو سفيان:
بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، فأجابه عن ذلك، فقال: إن يكن ما يقول
حقا إنه نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين [ (3) ] ، والعفاف الّذي أشار
إليه هرقل هو العصمة، فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين
والعبادة دليلا على صحة النبوة، ولم يحتج إلى معجزة، فدل على أنّ ذلك
من علامات النبوة.
ومن علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوى حسب في قومهم، كما
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما بعث اللَّه نبيا في منعه [ (4) ] من
قومه» ، وفي رواية للحاكم: في ثروة من قومه.
__________
[ () ] 2/ 435، وابن حبان في صحيحه، كتاب (الصلاة) ، باب: المساجد، فصل
ذكر الزجر عن إتيان المساجد لأكل الثوم والبصل والكراث إلى أن تذهب
رائحتها، حديث رقم (1644) ، عن جابر بن عبد اللَّه، عن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أكل من هذه البقلة: الثوم والبصل
والكراث، فلا يغشنا في مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه
الإنس» ، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) : 4/ 250.
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] سيأتي تخريجه إن شاء اللَّه تعالى في فصل «ذكر مجيء الملك إلى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برسالات ربه تعالى» .
[ (3) ] سيأتي تخريجه إن شاء اللَّه تعالى عند شرح مكاتيب النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم إلى الملوك.
[ (4) ] منع: منعه يمنعه- بفتح نونهما- ضد أعطاه، كمنعه فهو مانع
ومنّاع ومنوع: جمع الأول منعه محرّكة، وهو في عزّ ومنعة- محرّكة
ويسكّن- أي معه من يمنعه من عشيرته. (ترتيب القاموس) :
4/ 287.
(2/379)
وكذا قال هرقل في مساءلته أبا سفيان: كيف
هو فيكم؟ فقال أبو سفيان:
هو فينا ذو حسب، قال هرقل: والرسل تبعث في أحساب قومها، ومعناه أن تكون
له عصبية وشوكة تمنعه من أذى الكفار حتى يبلغ رسالات ربه، ويتم مراد
اللَّه من إكمال دينه وملته.
ومن علاماته أيضا وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم، وهي أفعال تعجز البشر
عن مثلها، فسميت لذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد، وإنما تقع في
غير محل قدرتهم، وللناس في كيفية وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء
خلاف ليس هذا موضع إيراده.
وأما حقيقة النبوة: فاعلم أنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات
كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واتصال
الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه،
ولا تنتهي غاياته، وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجسماني، وأولا: عالم
العناصر المشاهد كيف تدرج صاعدا من الأرض إلى الماء، ثم إلى الهواء، ثم
إلى النار متصلا بعضها ببعض، وكل واحد منها مستعد أن يستحيل إلى ما
يليه صاعدا أو هابطا، ويستحيل بعض الأوقات، والصاعد منها ألطف مما قبله
إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهي ألطف من الكل، وعلى طبقات اتصل
بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، وما يهتدي بها
بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها، وما بعد ذلك من وجود الذات التي
لها هذه الآثار فيها. ثم انظر إلى عالم التكوين، كيف ابتدأ من المعادن
ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج [إلى] [ (1) ] آخر أفق
المعادن، متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق
النبات مثل النخل والكرم، متصل بأول أفق الحيوان كالحلزون والصدف، ولم
يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر
أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق من الّذي بعده،
واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدرج التكوين إلى الإنسان
صاحب الفكر، والرؤية ترتفع إليه
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(2/380)
من عالم [القدرة] [ (1) ] الّذي استجمع فيه
الكيس والإدراك، ولم ينته إلى الرؤية والفكر بالفعل، وكان ذلك في أول
أفق من الإنسان بعده، وهذا غاية شهودنا.
ثم أنا نجد في العوالم على اختلافها آثارا متنوعة، ففي عالم الحس آثار
من حركة الأفلاك والعناصر، وفي عالم التكوين آثار من حركات النمو
والإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثرا مباينا للأجسام، فهو روحاني متصل
بالمكونات، لوجود اتصال هذه العوالم في وجودها، وذلك هو النفس المدركة
والمحركة، ولا بد فوقها من موجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة،
ويتصل بها أيضا وتكون [ذواته] [ (2) ] إدراكا صرفا، وتعقلا محضا، وهو
عالم الملائكة، فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية
إلى الملائكية، لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات، وفي
لمحة من اللمحات، وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل- كما نذكره
بعد [ذلك] [ (3) ] إن شاء اللَّه- ويكون لها اتصال بالأفق الّذي بعدها،
شأن الموجودات المترتبة كما قدمناه، فلها في الاتصال جهة العلو والسفل،
فهي متصلة بالبدن من أسفل منها، ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستعد
بها للحصول على التعقل بالفعل، ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق
الملائكية، ومكتسبة منه المدارك العلية والغيبية، فإن علم الحوادث
موجود في ذواتهم من غير زمان، وهذا على ما قدّمناه من الترتيب المحكم
في الوجود باتصال ذواته وقواه بعضها ببعض.
ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة من العيان، وآثارها ظاهرة في البدن،
وكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومتفرقة آلات للنفس ولقواها، أما الفاعلة:
فالبطش باليد، والمشي بالرجل، والكلام باللسان، والحركة الكلية بالبدن
متدافعا، وأما المدركة وإن كانت قوى الإدراك مترتبة ومرتقبة إلى القوة
العليا منها وهي المعركة التي يعبرون عنها بالناطقة، فقوى الحس الظاهر
بآلاته من البصر والسمع وسائرها ترتقي إلى الباطن، وأوله الحسن
المشترك، وهو قوة تدرك المحسوسات، مبصرة، ومسمعة، وملموسة، وغيرها في
حالة واحدة، وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر، لأن
__________
[ (1) ] في (خ) : «القردة» .
[ (2) ] في (خ) : «ذواية» .
[ (3) ] زيادة للسياق.
(2/381)
المحسوسات لا يزدحم عليها في الوقت الواحد،
ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال، وهو قوة تمثل الشيء المحسوس في
النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط، وآلة هاتين القوتين في
تصرفهما: البطن الأول من الدماغ مقدمه للأولى ومؤخره للثانية، ثم يرتقي
الخيال إلى الوهمية والحافظة، فالوهمية لإدراك المعاني المتعلقة
بالشخصيات، كعداوة زيد، وصداقة عمرو، ورحمة الأب، وافتراس الذئب،
والحافظة لإيداع المدركات كلها متخلية، وهي لها كالخزانة تحفظها إلى
وقت الحاجة إليها، وآلة هاتين القوتين في تصرفهما: البطن المؤخر من
الدماغ أوله للأولى ومؤخره للأخرى ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر وآلته
البطن الأوسط من الدماغ، وهو القوة التي تقع بها حركة الرؤية والتوجه
نحو التعقل، فتحرك النفس بها دائما بما ركب فيها من النزوع إلى ذلك
لتخلص من درك القوة والاستعداد الّذي للبشرية، وتخرج إلى الفعل في
خلقها متشبهة بالملإ الأعلى الروحانيّ، وتعتبر في أول مراتب الروحانيات
في إداركها بغير الآلات الجسمانية، فهي متحركة دائما ومتوجهة نحو ذلك،
وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها إلى الملائكية من الأفق
الأعلى من غير اكتساب بما جعل اللَّه تعالى فيها من الجبلة والفطرة
الأولى في ذلك.
واعلم أن النفوس البشرية في ذلك على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن
الوصول إلى الإدراك الروحانيّ، فيقنع بالحركة السفلى نحو المدارك
الحسية والخيالية، وتركيب المعاني من الحافظة والوهمية على قوانين
محصورة وترتيب خاص، يستفيدون به العلوم التصورية والتصديقية التي للفكر
في البدن، وكلّها خيالي منحصر نطاقه، إذ هو من جهة مبدئية ينتهى إلى
الأوليات ولا يتجاوزها، وإن فسدت فسد ما بعدها، وهذا هو [أغلب] [ (1) ]
نطاق الإدراك البشري الجسماني، وإليه ينتهي مدارك العلماء،؟ وفيه؟ ترسخ
أقدامهم.
وصنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو التعقل الروحانيّ والإدراك الّذي
لا يفتقر إلى آلات البدن بما جعل فيه من الاستعداد لذلك، فيتّسع نطاق
إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري، ويسرح في فضاء
المشاهدات
__________
[ (1) ] في (خ) : «الأغلب» .
(2/382)
الباطنة، وهي وجدان كلها، لا نطاق لها من
مبدئها ولا من منتهاها، وهذه مدارك الأولياء، أهل العلوم اللدنية
والمعارف الربانية، وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة.
وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة: جسمانيها وروحانيها إلى
الملائكية من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكا بالفعل،
ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم، وسماع الكلام النفساني والخطاب
الإلهي في تلك اللمحة، وهو لأهم الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، جعل
اللَّه لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة وهي حالة الوحي، فطرة
فطرهم اللَّه عليها، وجبلة صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه
ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من العصمة
والاستقامة التي يحادون بها تلك الوجهة، وركز في طبائعهم رغبة في
العبادة تكتنف بتلك الوجهة، وتشيع نحوها، فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق
بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروها عليها، لا
باكتساب ولا صناعة، فإذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك
الملأ الأعلى ما يتلقونه على جوابه على المدارك البشرية، متنزلا في
قواها لحكمة التبليغ للعباد، فتارة بسماع دويّ كأنه رمز من الكلام يأخذ
منه المعنى الّذي ألقى إليه، فلا ينقضي الدويّ إلا وقد وعاه وفهمه.
وتارة يتمثل له الملك الّذي يلقى إليه رجلا يكلمه ويلقى ما يقوله،
والتلقي من الملك والرجوع على المدارك البشرية وفهمه ما ألقي عليه كأنه
في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر، لأنه ليس في زمان بل كلها تقع
جميعا، فتظهر كأنها سريعة، ولذلك سميت وحيا، لأن الوحي في اللغة
الإسراع.
واعلم أن الأولى وهي حالة الدوي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما
حققوه، والثانية وهي حالة يتمثل الملك رجلا يخاطب [و] [ (1) ] هي رتبة
الأنبياء المرسلين، ولذلك كانت أكمل من الأولى، وهذا معنى الحديث الّذي
فسر فيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الوحي لما
سأله الحارث بن هشام وقال: كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلّى اللَّه عليه
وسلّم: أحيانا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(2/383)
يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ
فيفصم عني وقد وعيت ما قاله، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي
ما يقوله [ (1) ] ،
وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى
الفعل، فيعسر بعض العسر، ولذلك لما عاج [ (2) ] فيها على المدارك
البشرية اختصت بالسمع وصعب ما سواه، وعند ما يتكرر الوحي ويكثر التلقي
يسهل ذلك الاتصال، فعند ما يعرج على المدارك البشرية يأتي على جميعها،
وخصوصا الأوضح منها، وهو إدراك البصر، وفي العبارة عن الوعي في الأولى
بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة، وهي أن
الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فتمثلت الحالة الأولى بالدويّ
الّذي هو المتعارف [ (3) ] غير كلام وإخبار، أن الفهم والوعي يتبعه عقب
[ (4) ] انقضائه، فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي
بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع، ويمثل الملك في الحالة الثانية
برجل يخاطب ويتكلم، والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع
المقتضى للتجدد.
واعلم أن في حالتي الوحي كلها على الجملة صعوبة وشدة، قد أشار إليها
القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا
[ (5) ] وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: كان مما يعاني من التنزيل شدة،
وقالت: كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن
جبينه ليتفصد عرقا، ولذلك ما كان يحدث فيه تلك الحالة من الغيبة والغطط
ما هو معروف.
وشبيه ذلك أن الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملائكية،
وتلقي كلام النفس، فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها، وانسلاخها من
أفقها إلى ذلك الأفق الآخر، وهذا معنى الغط الّذي عبّر به في مبدإ
الوحي في قوله: فغطني حتى بلغ من الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ [ (6)
] .
__________
[ (1) ] سبق شرحه.
[ (2) ] طريق عاج: ممتلئ (ترتيب القاموس) ج 3 ص 158.
[ (3) ] في (خ) «المتعاف» .
[ (4) ] في (خ) «عب» .
[ (5) ] آية: 5/ المزمل.
[ (6) ] آية: 1/ العلق.
(2/384)
وقد يقضي الاعتبار فيه بالتدريج شيئا فشيئا
إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله، وكذلك كانت تنزل نجوم القرآن [
(1) ] ، وسوره وآياته حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة، وانظر إلى
ما قيل في نزول سورة براءة [ (2) ] في غزوة تبوك، وأنها أنزلت أو
أكثرها على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يسير على ناقته بعد
أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من القصار المفصل [ (3) ] في وقت،
وينزل عليه الباقي في حين آخر، وكذلك كان من آخر ما نزل عليه بالمدينة
آية الدين [ (4) ] ، وهي ما هي بالطول، بعد أن كانت الآيات تنزل بمكة
مثل آيات سورة الرحمن، والذاريات، والمدثر، والضحى، والعلق، وأمثالها،
واعتبر من ذلك علامة تميزها بين المكيّ والمدني من السور والآيات،
واللَّه المرشد إلى الصواب. هذا ما تحصل من أمر النبوة.
__________
[ (1) ] واعلم أن القرآن نزل ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا،
في مكان يقال له: بيت العزة، على هذا الترتيب الّذي نقرؤه، فإنه
توقيفي، ثم نزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ثلاث وعشرين سنة،
على حسب الوقائع لقوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا
جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [آية 33/ الفرقان] ، لكن لا
على هذا الترتيب، فإنه نزل عليه ثلاث وثمانون سورة بمكة، أي قبل
الهجرة، ثم بالمدينة أحد وثلاثين على التحقيق.
فأول ما نزل بمكة اقْرَأْ، وآخر ما نزل بها، قيل: العنكبوت، وقيل:
المؤمنون، وقيل:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. وأول سورة نزلت بالمدينة: البقرة، وآخر سورة
نزلت بها: المائدة. وهناك بعض سور اختلف بها، منها الفاتحة، ويمكن
تكرار نزولها.
وأما أول آية نزلت على الإطلاق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ، وآخر آية على الإطلاق وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ [الآية 281 البقرة] . (حاشية العلامة الصاوي على الجلالين)
: 1/ 4.
[ (2) ] براءة: من أسماء سورة التوبة، وهي السورة رقم [9] في المصحف،
وعدد آياتها [129] آية:
نزلت بعد سورة المائدة، وهي من القرآن المدني، إلا الآيتين الأخيرتين
فمكيتان.
[ (3) ] سور المفصل: من أول سورة الحجرات حتى آخر القرآن الكريم.
[ (4) ] هي الآية رقم 282/ البقرة وهي أطول آية في القرآن الكريم،
أولها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.
(2/385)
أنواع الوحي وأقسامه
وتبيان لأنواع الوحي وأقسامه: اعلم أن الوحي للأنبياء والمرسلين يكون
تارة في النوم وتارة في اليقظة، فالذي يكون في اليقظة إما بواسطة الملك
أو بغير واسطة، ومن الرسل من فضله اللَّه تعالى بأن كلمه اللَّه في
اليقظة من وراء حجاب دون وحي ولا بتوسط ملك، لكن بكلام مسموع بالآذان،
معلوم بالقلب، زائد على الوحي الّذي هو معلوم بالقلب فقط، أو مسموع من
الملك عن اللَّه تعالى، وهذا هو الّذي خصّ به موسى عليه السلام [ (1) ]
من الشجرة، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الإسراء [ (2) ] من
المستوى الّذي سمع فيه صريف [ (3) ] الأقلام، وقد كان لرسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم في الوحي حالات متعددة، فكان الوحي الّذي يلقاه
[ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منحصرة أقسامه في ثلاثة
عشرة وهي: نزول الملك في صورة دحية [ (5) ] ، ونزوله على الصورة التي
خلق عليها وله ستمائة جناح، ونفث [ (6) ] روح القدس في روعه، ورؤيته في
المنام، وسماعه مثل صلصلة الجرس، ونزول إسرافيل عليه، وتكليمه اللَّه
تعالى بلا واسطة من وراء حجاب في اليقظة، وتكليمه تعالى كذلك في
المنام، والعلم الّذي يلقيه سبحانه في صدره وعلى لسانه عند الاجتهاد في
الوقائع لأن الشيطان ليس له إلى باطن الأنبياء من سبيل، فخواطر
الأنبياء كلها إما ربانية أو ملكية أو نفسية، لا حظّ للشيطان في
قلوبهم، لأنهم مشرعون، فلذلك عصمت بواطنهم، والوحي المشبه بدويّ النحل،
ومجيء جبريل في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ومجيء ملك
الجبال، والخطاب مشافهة على قول من يثبت الرؤية، وسنقف على شرح ذلك
وتبيانه من الأحاديث المسندة بطرقها إن شاء اللَّه تعالى.
__________
[ (1) ] لعلها شجرة الأنبياء عليهم السلام.
[ (2) ] سيأتي الحديث عنها عند الكلام على الإسراء والمعراج إن شاء
اللَّه تعالى، وفي (خ) : «الإسرى» .
[ (3) ] صريف الأقلام: أي صوت جريانها بما تكتبه من أقضية اللَّه
ووحيه، وما يستنسخونه من اللوح المحفوظ، وفي حديث موسى، على نبينا وعلى
نبينا وعليه السلام: أنه كان يسمع صريف القلم حين كتب اللَّه تعالى له
التوراة. (لسان العرب) : 9/ 193.
[ (4) ] في (خ) : «يقاه» .
[ (5) ] هو دحية الكلبي.
[ (6) ] في (خ) : «نفس» .
(2/386)