إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

 [المجلد الثالث]
[بقية فصل في أمارات نبوته]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

ذكر مجيء الملك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برسالات ربه تعالى
خرج البخاري ومسلم من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبرته كذا، أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي [ (1) ] الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- قال: والتحنث: هو التعبد- الليالي ذوات العدد، وقال مسلم: أولات العدد- قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك
ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقْرَأْ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:
اقْرَأْ، فقلت: ما أنا بقارئ، فقال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ
__________
[ (1) ] (من الوحي) : يحتمل أن تكون «من» تبعيضية، أي من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه محمد بن جعفر القيرواني أبو عبد اللَّه التميمي القزاز، صاحب [الجامع في اللغة] .
والرؤيا الصالحة، وقع في رواية معمر ويونس عند المصنف في التفسير: «الصادقة» ، وهي التي فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيدا، وتوطئة لليقظة، ثم مهّد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر.
قوله: «في النوم» ، لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا.
قوله: «مثل فلق الصبح» ، ينصب «مثل» على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي جاءت مجيئا مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح: ضياؤه. وخص بالتشبيه لظهوره الواضح، الّذي لا شك فيه.
قوله: «حبّب» ، لم يسمّ فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند اللَّه، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام، و «الخلاء» بالمد، الخلوة، والسّر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه إليه، وحراء: جبل معروف بمكة، والغار نقب في الجبل، وجمعه غيران.
قوله: «فيتحنث» ، هي بمعنى يتحنف، أي يتبع دين الحنفية، وهي دين إبراهيم،

(3/3)


__________
[ () ] و «الفاء» تبدل «ثاء» في كثير من كلامهم، وقد وقع في رواية ابن هشام في (السيرة) : «يتحنف» بالفاء. أو التّحنّث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم، ويتحرج، ونحوهما.
قوله: «هو التعبد» ، هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري، كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله، نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراك.
قوله: «الليالي ذوات العدد» ، يتعلق بقوله: يتحنث، وإبهام العدد لاختلافه، كذا قيل، وهو بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كان في رمضان، رواه ابن إسحاق. والليالي منصوبة على الظرف، وذوات منصوبة أيضا، وعلامة النصب فيه كسر التاء.
قوله: «لمثلها» أي الليالي، والتزود استصحاب الزاد.
قوله: «حتى جاءه الحق» ، وفي التفسير: حتى فجئه الحق- بكسر الجيم وهي الرواية التي أثبتها المقريزي- أي بغته، وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولا قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام، وسمي حقا لأنه وحي من اللَّه تعالى، وقد وقع في رواية أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أول شأنه يرى في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: «يا محمد» ، فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: «يا محمد، جبريل جبريل» ، فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئا، ثم خرج عنهم، فناداه فهرب، ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة ضعيف.
وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: «لم أره- يعني جبريل- على صورته التي خلق عليها إلا مرتين» ،
وبيّن أحمد في حديث ابن مسعود، أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية عند المعراج.
وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: «لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد» ، وهذا يقوى رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليها لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند اللَّه تعالى.
ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي، فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في حراء وأقرأه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم انصرف، فبقي متردّدا، فأتاه من أمامه في صورته، فرأى أمرا عظيما.
قوله: «فجاءه» ، هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعقب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسّر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل.
قوله: «ما أنا بقارئ» ثلاثا، «ما» نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء، وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة، فلما قال ذلك ثلاثا قيل له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي لا تقرءوه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك

(3/4)


الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [ (1) ] ، فرجع بها [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة رضي اللَّه عنها فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع- وقال مسلم: حتى ذهب عنه ما يجد من الروع- ثم قال لخديجة: أي خديجة! ما لي قد خشيت على نفسي؟
وأخبرها الخبر فقالت له خديجة: ...
__________
[ () ] وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلّم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية. ذكره السهيليّ.
وقال غيره: إن هذا التركيب- وهو قوله: ما أنا بقارئ- يفيد الاختصاص.
وردّه الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقدير: لست بقارئ البتّة. فإن قيل: لم كرر ذلك ثلاثا؟ أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أولا:
«ما أنا بقارئ»
على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفي المحض، وثالثا: على الاستفهام. ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ؟ وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق: ماذا أقرأ؟ وفي مرسل الزهري في (دلائل البيهقي) : كيف أقرأ؟ وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية. واللَّه أعلم.
قوله: «فغطني» ،
بغين معجمة وطاء مهملة. وفي رواية الطبري: «فغتني» بتاء مثناة من فوق، كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط: حبس النفس، ومنه: غطه في الماء، أو أراد غمني، ومنه الخنق، ولأبي داود الطيالسي في مسندة بسند حسن: فأخذ بحلقي.
قوله: «حتى بلغ مني الجهد» ،
روى بالفتح والنصب، أي بلغ مني غاية وسعي. وروى بالضم والرفع، أي بلغ مني الجهد مبلغه،
وقوله: «أرسلني»
أي أطلقني، ولم يذكر الجهد هنا في المرة الثالثة، وهو ثابت عند البخاري في (التفسير) .
[ (1) ] الآيات من أول سورة العلق.
[ (2) ] قوله: «فرجع بها» ، أي بالآيات أو بالقصة.
قوله: «فزملوه» ، أي لفوه، والرّوع بالفتح: الفزع.
قوله: «لقد خشيت على نفسي» ، دلّ هذه مع قوله: «يرجف فؤاده» على انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثم قال: «زملوني» . والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا:
[1] الجنون وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحا به في عدة طرق، وأبطله أبو بكر ابن العربيّ، وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصوله العلم الضّروريّ له، أن الّذي جاءه ملك، وأنه من عند اللَّه تعالى.
[2] الهاجس، وهو باطل أيضا، لأنه لا يستقر، وحصلت بينهما المراجعة.
[3] الموت من شدة الرعب.
[4] المرض، وقد جزم به ابن أبي جمرة.
[5] دوام المرض.
[6] العجز عن حمل أعباء النبوة.
[7] العجز عن النظر إلى الملك من الرعب.

(3/5)


كلا [ (1) ] ، فأبشر، فو اللَّه لا يخزيك اللَّه ...
[8] عدم الصبر على أذى قومه.
[9] أن يقتلوه.
[10] مفارقة الوطن.
[11] تكذيبهم إياه.
[12] تعييرهم إياه.
وأولى هذه الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب، الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو معترض. واللَّه الموفق: (فتح الباري) : 1/ 28- 32، كتاب بدء الوحي، حديث رقم (3) .
__________
[ (1) ] «كلا» ، معناها في العربية على ثلاثة أوجه: حرف ردع وزجر، وبمعنى حقا، وبمعنى إي:
فالأول كما في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، إشارة إلى قول القائل: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الآية 100/ المؤمنون] ، أي انته عن هذه المقالة، فلا سبيل إلى الرجوع.
والثاني: نحو كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [الآية 6/ العلق] ، أي حقا، لم يتقدم على ذلك ما يزجر عنه، كذا قال قوم، وقد اعترض على ذلك بأن حقا تفتح «أنّ» بعدها، وكذلك أما تأتي بمعناها، فكذا ينبغي في «كلا» ، والأولى أن تفسّر «كلا» في الآية بمعنى ألا التي يستفتح بها الكلام، وتلك تكسر ما بعدها «إنّ» ، نحو: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، [الآية 63/ يونس] ، والثالث: قبل القسم، نحو كَلَّا وَالْقَمَرِ [الآية 32/ المدثر] ، معناه إي والقمر، كذا قال النضر بن شميل، وتبعه جماعة منهم ابن مالك، ولها معنى رابع، تكون بمعنى ألا. (شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب) : 15.
وقال العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي: وهي «أي كلا» عند سيبويه والخليل والمبرّد والزّجّاج وأكثر نحاة البصرة، حرف معناه الرّدع والزجر، لا معنى له سواه، حتى إنهم يجيزون الوقف عليها أبدا والابتداء بما بعدها، حتى قال بعضهم: إذا سمعت «كلا» في سورة، فاحكم بأنها مكية، لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة، لأن أكثر العتوّ كان بها. وفيه نظر، لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتوّ بها لا عن غلبته.
ثم إنه لا يظهر معنى الزجر في «كلا» المسبوقة بنحو فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الآية 8/ الانفطار] ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الآية 6/ المطففين] ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [الآية 30/ القيامة] .
وقول من قال: فيه ردع عن ترك الإيمان بالتصوير، في أيّ صورة شاء اللَّه، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن، فيه تعسّف ظاهر. ثم إن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة العلق، ثم نزل: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [الآية 6/ العلق] ، فجاءت في افتتاح الكلام، والوارد منها في التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا، كلها في النصف الأخير.
ورأى الكسائي وجماعة أن معنى الردع ليس مستمرا فيها، فزادوا معنى ثانيا يصح عليه أن يوقف دونها، ويبتدأ بها، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال: فقيل: بمعنى حقا، وقيل بمعنى ألا الاستفتاحية، وقيل: حرف جواب بمنزلة إي ونعم، وحملوا عليه: كَلَّا

(3/6)


أبدا [ (1) ] ، فو اللَّه إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة- أخى أبيها- وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن عم-
__________
[ () ] وَالْقَمَرِ [الآية 32/ المدثر] ، فقالوا: معناه إي والقمر، وهذا المعنى لا يتأتي في آيتي المؤمنين والشعراء: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الآية 100/ المؤمنون] ، كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي [الآية 62/ الشعراء] .
وقول من قال: بمعنى حقا، لا يتأتّى في نحو: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الآيتان 7، 15 المطففين] ، لأنّ «إنّ» تكسر بعد ألا الاستفتاحية، ولا تكسر بعد حقا، ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم.
وإذا صلح الموضع للردع ولغيره، جاز الوقف عليها، والابتداء بها، على اختلاف التقديرين.
والأرجح حملها على الردع، لأنه الغالب عليها، وذلك نحو: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ [الآيتان 78، 79 مريم] ، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [الآيتان 81، 82/ مريم] .
وقد يتعين للردع أو الاستفهام نحو: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الآية 100/ المؤمنون] ، لأنها لو كانت بمعنى حقا لما كسرت همزة إنّ، ولو كانت بمعنى نعم لكانت للوعد بالرجوع، لأنها بعد الطلب، كما يقال: أكرم فلانا، فتقول: نعم. ونحو:
قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الآيتان 61، 62/ الشعراء] ، وذلك لكسر إنّ، ولأن نعم بعد الخبر للتصديق.
وقد يمتنع كونها للزجر والردع، نحو: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ كَلَّا وَالْقَمَرِ [الآيتان 31، 32/ المدثر] ، إذ ليس قبلها ما يصح ردّه.
وقرئ: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [الآية 82/ مريم] بالتنوين، إما على أنه مصدر كلّ إذا أعيا، أي كلّوا في دعواهم وانقطعوا، أو من الكلّ وهو الثّقل، أي حملوا كلا. وجوّز الزمخشريّ كونه حرف الردع نوّن كما في سَلاسِلَ [الآية 4/ الإنسان] ، وردّ عليه بأن سَلاسِلَ اسم أصله التنوين فردّ إلى أصله، ويصحح تأويل الزمخشريّ قراءة من قرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الآية 4/ الفجر] إذا الفعل ليس أصله التنوين.
وقال ثعلب: كلّا مركب من كاف التشبيه ولا النافية، وإنما شددت لأمها لتقوية المعنى، ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين، وعند غيره بسيطة كما ذكرنا، واللَّه تعالى أعلم. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 4/ 381- 383.
[ (1) ] قوله: «فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا» لغير أبي ذر بضم أوله، والخاء المعجمة، والزاي المكسورة، ثم الياء الساكنة، من الخزي، ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي،

(3/7)


__________
[ () ] وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو بمن لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفه به و «الكلّ» بفتح الكاف هو من لا يستقل بأمره، كما قال تعالى: وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ [الآية 76/ النحل] .
و «تكسب المعدوم» : في رواية الكشمهيني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب:
المعدم بلا واو، أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب. قال الحافظ ابن حجر: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الّذي لا تصرّف له، والكسب هو الاستفادة، فكأنها قالت:
إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه. وقال قاسم ابن ثابت في (الدلائل) : قوله يكسب معناه ما يعدمه غيره ويعجز عنه يصيبه ويكسبه. قال أعرابي يمدح إنسانا: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم.
ولغير الكشمهيني «وتكسب» بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح- قال الحافظ ابن حجر: قد وجّهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت مالا وأكسبته بمعنى. وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب ما لا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل البعثة محظوظا في التجارة، وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات.
وقولها: «وتعين على نوائب الحق» ، كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم. وفي رواية (البخاري في التفسير) ، من طريق يونس عن الزهري من الزيادة: «وتصدق الحديث» ، وهي من أشرف الخصال. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة: «وتؤدي الأمانة» .
وفي هذه القصة من الفوائد:
* استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه.
* وأن من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه.
قوله: «فانطلقت به» ، أي مضت معه، فالباء للمصاحبة، وورقة بفتح الراء، وقوله: «ابن عم خديجة» ، هو بنصب «ابن» ، ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة، أو صفة، أو بيان، ولا يجوز جره، فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا يجوز كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين.
قوله: «تنصّر» ، أي صار نصرانيا، وكان قد خرج هو وزيد بن نفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصّر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.
قوله: «فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية» ، وفي رواية يونس ومعمر:
ويكتب من الإنجيل بالعربية، ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربيّ، والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني، كما كان يكتب الكتاب العربيّ، لتمكنه من الكتابين واللسانين. ووقع لبعض الشراح هنا ضبط فلا يعرّج عليه.

(3/8)


__________
[ () ] وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه، لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا كتيسر حفظ القرآن الّذي خصّت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها: «أناجيلها صدورها» . قولها: «يا ابن عم» ، هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم «يا عم» وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعد، ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربيّ، لأنه من كلام الراويّ في وصف ورقة، واختلف المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه، وقالت في حق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اسمع من ابن أخيك، لأن والده عبد اللَّه بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الّذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته.
أو قالته على سبيل التوقير لسنه.
وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرّف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسئول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: «اسمع من ابن أخيك» أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذلك أبلغ في التعظيم.
قوله: «ماذا ترى» ؟ فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرّح به في (دلائل النبوة) لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد اللَّه بن شداد في هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها فأخبرته بالذي رأى.
قوله: «هذا الناموس الّذي نزل اللَّه على موسى» . وللكشميهني: «أنزل اللَّه» ، وفي كتاب التفسير «أنزل» على البناء للمفعول، وأشار بقوله: «هذا» إلى الملك الّذي ذكره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في خبره، ونزله منزلة القريب لقرب ذكره. والناموس: صاحب السر كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء.
وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سرّ الخير، والجاسوس صاحب سر الشّر، والأول الصحيح الّذي عليه الجمهور، وقد سوّى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب. والمراد بالناموس هنا جبريل عليه السلام. وقوله: «على موسى» ولم يقل على عيسى مع كونه نصرانيا، لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى. وكذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. أو لأن موسى عليه السّلام بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى. كذلك وقعت النقمة على يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفرعون هذه الأمة، وهو أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر. أو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته.
وأما ما تحمل له السهيليّ، من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى، ودعواهم أنه أحد الأقانيم [الثلاثة] فهو محال لا يعرّج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل، ولم يأخذ عمن بدّل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد اللَّه بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى، والأصح ما تقدم، وعبد اللَّه بن معاذ ضعيف.
نعم في (دلائل النبوة لأبي نعيم) بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه ناموس عيسى الّذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم، فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة ناموس عيسى، وتارة ناموس

(3/9)


__________
[ () ] موسى عليهما السلام، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: «يا ليتني فيها جذع» ، كذا في رواية الأصيلي، وعند الباقين: «يا ليتني فيها جذعا» ، بالنصب على أنه خبر كان المقدرة. قاله الخطابي، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [الآية 171/ النساء] ، وقال ابن بري: التقدير يا ليتني جعلت فيها جذعا، وقيل: النصب على الحال إذا جعلت «فيها» خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله السهيليّ. وضمير «فيها» يعود على أيام الدعوة، والجذع- بفتح الجيم، والذال المعجمة- هو الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا، ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سرّ وصفه بكونه كان كبيرا أعمى.
قوله: «إذ يخرجك» ، قال ابن مالك: فيه استعمال «إذ» في المستقبل كإذا، وهو صحيح وغفل عنه كثير من النحاة، وهو كقوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الآية 39/ مريم] ، هكذا رواه ابن مالك، وأقره عليه غير واحد، وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضيّ لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في (التعبير) : «حين يخرجك قومك» . وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، وهو مستحيل عادة، ويظهر لي- والكلام للحافظ ابن حجر- أن التمني ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبر به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.
قوله: «أو مخرجيّ هم» ؟ - بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها-، فهم: مبتدأ مؤخر، ومخرجيّ: خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها.
قوله: «إلا عودي» ، وفي رواية يونس في (التفسير) : «إلا أوذي» ، فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم، فتنشأ العداوة من ثمّ، وفيه دليل أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.
قوله: «إن يدركني قومك» ، إن: شرطية والّذي بعدها مجزوم، زاد في رواية يونس في (التفسير) : «حيّا» ، ولابن إسحاق: «إن أدركت ذلك اليوم» يعني الإخراج.
قوله: «مؤزّرا» - بهمزة- أي قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة، أنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الأزر، وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته.
قال الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
قوله: «ثم لم ينشب» - بفتح الشين المعجمة- أي لم يلبث، وأصل النشوب التعلق،

(3/10)


وقال مسلم: أي عم- اسمع من ابن أخيك، فقال [له] ورقة يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبر ما رأى،
فقال له ورقة ابن نوفل: هذا الناموس الّذي أنزل على موسى [بن عمران] ، يا ليتني فيها جذعا، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك- وقال البخاري: يا ليتني أكون حيا [إذ] ... - فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو مخرجيّ هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي
- وقال مسلم: إلا أوذي- وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي [فترة حتى حزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] .
قال محمد بن شهاب [ (1) ] : وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن
__________
[ () ] أي لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات. وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر: فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: «وفتر الوحي» ليست للترتيب، فلعلّ الراويّ لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى عمله، لا إلى ما هو الواقع، وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى البخاري في كتاب (التعبير) من طريق معمر ما يدل على ذلك.
[فائدة] : وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكي البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين، وهي ما بين نزول اقْرَأْ ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط، (فتح الباري) : 1/ 33- 36، كتاب بدء الوحي حديث رقم (3) .
[ (1) ] قوله: «قال ابن شهاب: «وأخبرني أبو سلمة» ، إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا. وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن ابن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلق، وإن كانت صورته التعليق، ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنّها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: ابن شهاب- أي بالسند المذكور- وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا.
ودلّ قوله: «عن فترة الوحي» وقوله: «الملك الّذي جاءني بحراء» على تأخر نزول سورة المدثر عن اقْرَأْ، ولما دخلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في (التفسير) عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أول ما نزل، ورواية الزهري هذه صحيحة ترفع الإشكال، وسياق بسط القول في ذلك في كتاب التفسير من (صحيح البخاري) في تفسير سورة اقْرَأْ، فليراجع هناك. (المرجع السابق) .

(3/11)


عبد اللَّه الأنصاري [رضي اللَّه عنه] ، قال فسلم: وكان من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وهو- يحدث عن فترة الوحي: قال في حديثه: بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، [فرعبت] [ (1) ] منه فرجعت، - وقال مسلم: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فخشيت منه فرقا فرجعت- فقلت: زملوني [زملوني] ، فدثّروه- وقال مسلم: فدثروني- فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ (2) ]- وهي الأوثان- قال: ثم تتابع الوحي [ (3) ]- وقال البخاري: قال أبو سلمة: وهي الأوثان التي كانت الجاهلية يعبدون، قال: ثم تتابع الوحي، ولم يذكر مسلم: ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ذكره البخاري في كتاب التفسير وفي كتاب الإيمان [ (4) ] وذكره مسلم من حديث معمر عن الزهري [ (5) ] ولفظه: أول ما بدئ به
__________
[ (1) ]
قوله: «فرعبت منه
- بضم الراء وكسر العين، وللأصيلي بفتح الراء وضم العين- أي فزعت، دلّ على بقية بقيت معه من الفزع الأول، ثم زالت بالتدريج.
قوله: «فقلت: «زملوني زملوني» - وفي رواية الأصيلي وكريمة «زملوني» مرة واحدة، وفي رواية يونس في (التفسير) : «فقلت: دثروني» فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ، أي حذّر من العذاب من لم يؤمن بك. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظم، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي من النجاسة، وقيل: الثياب النفس، وتطهيرها اجتناب النقائص، والرجز هنا الأوثان، والرّجز في اللغة العذاب، وسمي الأوثان رجزا لأنها سببه.
[ (2) ] أول سورة المدثر.
[ (3) ] قوله: «تتابع» ، تأكيد معنوي، وتتابع تكاثر. وقد وقع في رواية الكشمهيني وأبي الوقت: «تواتر» ، والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل. (المرجع السابق) : حديث رقم (4) .
[ (4) ] هذا الحديث ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق، باب (7) حديث رقم (3238) ، وفي كتاب التفسير، باب (1، 2) حديث رقم (4922) ، (4923) ، باب (3) ، حديث رقم (4924) باب (4) حديث رقم (4925) ، باب (5) ، حديث رقم (4926) ، (4954) ، وفي كتاب الأدب، باب (118) ، حديث رقم (6214) . بسياقات مختلفة وتقديم وتأخير.
[ (5) ] حديث معمر عن الزهري: رقم (253) من كتاب الإيمان، باب (73) بدء الوحي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، من (صحيح مسلم بشرح النووي) 2/ 559.

(3/12)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي.. وساق الحديث بمثل حديث يونس، غير أنه قال:
فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، وقال: قالت خديجة أيا ابن العم! اسمع من ابن أخيك، وذكره أيضا من حديث عقيل عن ابن شهاب، سمعت عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده، فاقتص الحديث بمثل حديث يونس ومعمر، ولم يذكر أول حديثهما من قوله: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة، وتابع يونس على قوله: فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، وذكر قول خديجة: أي ابن عم! اسمع من ابن أخيك.
وذكر من حديث عقيل عن ابن شهاب [ (1) ] قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أي جابر بن عبد اللَّه أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي.. ثم ذكر بمثل حديث يونس، غير أنه قال: فخشيت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض. قال: وقال أبو سلمة: الرجز الأوثان، قال: حمي الوحي بعد ذلك وتتابع.
وذكره من حديث معمر عن الزهري بهذا الإسناد نحو حديث يونس، قال:
فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى [ (2) ] وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ- قبل أن تفرض الصلاة- وهي الأوثان، قال فخشيت منه كما قال عقيل [ (3) ] .
وذكر البخاري في كتاب التعبير حديث عقيل ولفظه [ (4) ] : أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم بنحو حديث يونس وقال فيه: حتى أتت به ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وقال: فقالت له خديجة: أي ابن عم..
الحديث إلى قوله نصرا مؤزرا، وقال بعده: ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أو في بذروة جبل لكي يلقى [منه] بنفسه تبدي له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول
__________
[ (1) ] حديث عقيل عن ابن شهاب: رقم (254) ، (المرجع السابق) .
[ (2) ] أول سورة المدثر.
[ (3) ] حديث رقم (255) ، (المرجع السابق.
[ (4) ] حديث عقيل عن ابن شهاب، ذكره البخاري في أول كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة، حديث رقم (6982) من (فتح الباري) : 12/ 436.

(3/13)


اللَّه حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أو في بذروة جبل تبدي له جبريل فقال له مثل ذلك [ (1) ] .
ترجم عليه أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة.
وذكر في أول حديث عقيل ولفظه: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الرؤيا الصالحة في النوم وقال فيه: يرجف فؤاده، وقال: وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللَّه أن يكتب، وقال: فقالت له خديجة:
يا ابن عم، وقال: هو الناموس الّذي نزل على موسى، وقال: ليتني أكون حيا إذا يخرجك قومك، وقال: رجل قط بما جئت به إلا عودي، قال في التعبير وقال بعد قوله نصرا مؤزرا: ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي [ (2) ] .
قال ابن شهاب: وأخبرني سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينا أمشي إلا سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل اللَّه عز وجل:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] زاد بعد قوله: «مثل ذلك» : [قال ابن عباس: فالق الإصباح: ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل.
قوله: «فإذا طالت عليه فترة الوحي» ، قد يتمسك به من يصحح مرسل الشعبي في أن مدة الفترة كانت سنتين ونصفا، كما نقله الحافظ ابن حجر في أول بدء الوحي، ولكن يعارضه ما أخرجه ابن سعد من حديث ابن عباس بنحو هذا البلاغ الّذي ذكره الزهري.
وقوله: مكث أياما بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة، وإلى حراء أخرى يريد أن يلقى بنفسه، فبينا هو كذلك عامدا لبعض تلك الجبال، إذ سمع صوتا فوقف فزعا، ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسيّ بين السماء والأرض، متربعا يقول: يا محمد أنت رسول اللَّه حقا وأنا جبريل، فانصرف وقد أقرّ اللَّه عينه، وانبسط جأشه، ثم تتابع الوحي» ، فيستفاد من هذه الرواية تسمية بعض الجبال التي أبهمت في رواية الزهري، وتقليل مدة الفترة. واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) : 12/ 446.
[ (2) ] حديث عقيل عن ابن شهاب، ذكره البخاري في أول كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة، حديث رقم (6982) من (فتح الباري) : 12/ 436.
[ (3) ] أول سورة المدثر.

(3/14)


فحمي الوحي وتتابع. تابعه عبد اللَّه بن يونس وأبو صالح، وتابعه هلال بن ردّاد عن الزهري. وقال يونس ومعمر: بوادره.
وذكر في التفسير من حديث معمر عن الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي [ (1) ] فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي إذا سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي إليه، فإذا الملك الّذي جاءني بحراء على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعبا، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ، إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قبل أن تفرض الصلاة، وهي الأوثان،
وذكر فيه أيضا حديث عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال:
أخبرني جابر بن عبد اللَّه أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث عن فترة الوحي، [قال] : فبينا أنا أمشي سمعت تصويتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الّذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ،
قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان، ثم حمي الوحي وتتابع.
وخرج الحافظ أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة [ (2) ] ، حدثنا
__________
[ (1) ]
«قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه: بينا أمشي» ،
هذا يشعر بأنه كان في أصل الرواية أشياء غير المذكور، وهذا أيضا من مرسل الصحابي، لأن جابرا لم يدركه زمان القصة فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو من صحابي آخر حضرها، واللَّه تعالى أعلم.
قوله: «سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري»
يؤخذ منه جواز رفع البصر إلى السماء عند وجود حادث من قبلها، وقد ترجم له البخاري في (الأدب) . ويستثنى من ذلك رفع البصر إلى السماء في الصلاة، لثبوت النهي عنه كما تقدم في (الصلاة) من حديث أنس، وروي ابن السني بإسناد ضعيف عن ابن مسعود قال: أمرنا أن لا نتبع أبصارنا الكواكب إذا انقضت.
ووقع في رواية يحي بن أبي كثير: «فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي» .
وفي رواية مسلم بعد قوله: «شيئا» ، «ثم نوديت» ، فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي» . (فتح الباري) : 8/ 935، حديث رقم (4953) .
[ (2) ] حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة، في (دلائل النبوة لأبي نعيم) رقم (174) بغير هذه السياقة.

(3/15)


منجاب بن الحارث، حدثنا علي بن مسهر عن الشيبانيّ عن عبد اللَّه بن شداد قال: نزل جبريل عليه السّلام على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فغمه ثم قال له: اقرأ، قال ما أقرأ؟ فغمه ثم قال له: اقرأ، قال: ما أقرأ، فغمه ثم قال له: اقرأ، قال: ما أقرأ، قال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى ما لَمْ يَعْلَمْ،
فأتى خديجة رضي اللَّه عنها فأخبرها بالذي رأى، فأتت ورقة ابن نوفل ابن عمها فأخبرته بالذي رأى فقال:
هل رأى زوجك صاحبه في خضر؟ فقالت: نعم، فقال: إن زوجك نبي وسيصيبه في أمته بلاء.
وخرج من حديث منجاب قال: حدثنا على بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما أنزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة: لقد خشيت أن أكون كاهنا أو مجنونا، قالت: لا واللَّه لا يفعل اللَّه ذلك بك، إنك لتصدق الحديث، وتصل الرحم، وتؤدي الأمانة، واللَّه لا يفعل ذلك بك، فأتت ابن عمها ورقة ابن نوفل وكانت تضيفه إليه، فأخبرته بالذي رأى، فقال: لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه الناموس الأكبر، ناموس عيسى الّذي لا تعلّمه بنو إسرائيل أبناءهم، ولئن نطق وأنا حيّ لأبلين اللَّه فيه بلاء حسنا، قال أبو نعيم: هكذا رواه علي بن مسهر وأصحاب هشام مرسلا، ورواه يعقوب بن محمد الزهري عن عبد اللَّه بن محمد ابن يحيى بن عروة عن هشام متصلا،
وفيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال ورقة لما ذكرت له خديجة أنه ذكر لها جبريل: سبّوح سبّوح، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان، جبريل أمين اللَّه بينه وبين رسله، اذهبي به إلى المكان الّذي رأى فيه ما رأى، فإذا أتاه فتحسّرى فإن يكن من عند اللَّه لا يراه، ففعلت، قالت: فلما تحسّرت تغيّب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة فقال: إنه ليأتيه الناموس الأكبر الّذي لا يعلّمه بنو إسرائيل أبناءهم إلا بالثمن، ثم أقام ورقة ينتظر إظهار الدعوة، فقال في ذلك:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا [ (1) ] ... لهم طالما بعث النشيجا [ (2) ]
__________
[ (1) ] اللجلجة والتلجلج: التردد في الكلام. (ترتيب القاموس) : 4/ 124.
[ (2) ] نشج الباكي ينشج نشيجا: غصّ في حلقه من غير انتحاب (المرجع السابق) 370.

(3/16)


ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين [ (1) ] على رجائي [ (2) ] ... حديثك أن [ (3) ] أرى منه خروجا
بما خبرتنا [ (4) ] عن قول قسّ ... من الرهبان أكره [ (5) ] أن يعوجا
بأن محمدا سيسود فينا [ (6) ] ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور [ (7) ] ... يقيم به البرية أن تعوجا
__________
[ (1) ] ثنى «مكة» ، وهي واحدة، لأن لها بطاحا وظواهر، وقد ذكرنا من أهل البطاح، ومن أهل الظواهر، على أن للعرب مذهبا في أشعارها في تثنية البقعة الواحدة، وجمعها، وإنما يقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو الإشارة إلى أعلى البلدة وأسفلها، فيجعلونها اثنين على هذا المغزى وأحسن ما تكون هذه التثنية إذا كانت في ذكر جنة أو بستان، فتسميها جنتين في فصيح الكلام، إشعارا بأن لها وجهين، وأنك إذا دخلتها ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت من كلتا الناحيتين ما يملأ عينيك قوة، وصدرك مسرّة، وفي التنزيل: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [الآية 15/ سبأ] ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [الآية 16/ سبأ] ، وفيه: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [الآيتان 32، 33/ الكهف] ، ثم قال سبحانه: دَخَلَ جَنَّتَهُ، ثم قال: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ، ثم قال: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ [من الآيتين 35، 39، 41/ الكهف] ، فأفرد بعد ما ثني وهي هي، وقد حمل العلماء على هذا المعنى قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الآية 46/ الرحمن] ، والقول في هذه الآية يتسع. (الروض الأنف) : 1/ 218- 220.
[ (2) ] في (خ) : «على رجاء» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) : 2/ 10، (البداية والنهاية) : 3/ 15، قوله: «حديثك أن أرى منه خروجا» ، فالهاء في «منه» راجعة على الحديث، وحرف الجر متعلق بالخروج، وإن كره النحويون ذلك، لأن ما كان من صلة المصدر عندهم، فلا يتقدم عليه، لأن المصدر مقدر بأن والفعل، فما يعمل فيه هو من صلة «أن» فلا يتقدم، فمن أطلق القول في هذا الأصل، ولم يخصص مصدرا من مصدر، فقد أخطأ المفصل وتاه في تضلل، ففي التنزيل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [الآية: 2/ يونس] ، ومعناه: أكان عجبا للناس أن أوحينا، ولا بد للّام هاهنا أن تتعلق بعجب، لأنها ليست في موضع صفة، ولا موضع حال لعدم العامل فيها. (المرجع السابق) .
[ (3) ] في (خ) : «لو أرى» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) ، (البداية والنهاية) .
[ (4) ] في (خ) : «بما خبرتني» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) ، (البداية والنهاية) .
[ (5) ] في (خ) : «يكره» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) ، (البداية والنهاية) .
[ (6) ] في (خ) ، (البداية والنهاية) : «سيسود قوما، وما أثبتناه من (ابن هشام) .
[ (7) ] هذا البيت يوضح لنا معنى النور ومعنى الضياء، وأن الضياء هو المنتشر عن النور، وأن النور

(3/17)


فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا [ (1) ]
فيا ليتني [ (2) ] إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
ولوجا [ (3) ] في الّذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا [ (4) ]
أرجى بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
وإن يبقوا وأبق [ (5) ] تكن أمور ... يضجّ الكافرون بها ضجيجا [ (6) ]
وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خلوجا [ (7) ]
هو الأصل للضوء، ومنه مبدؤه، وعنه يصدر، وفي التنزيل: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الآية 17/ البقرة] ، وفيه: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [الآية 5/ يونس] ، لأن نور القمر لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس، ولا سيما طرفي الشهر،
وفي الصحيح: «الصلاة نور، والصبر ضياء» ،
وذلك أن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصبر عن المنكرات، والصبر على الطاعات هو: الضياء الصادر عن هذا النور الّذي هو القرآن والذكر، وفي أسماء الباري سبحانه اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 35/ النور] ، ولا يجوز أن يكون الضياء من أسمائه سبحانه. (الروض الأنف) .
__________
[ (1) ] فلج: ظفر، ويقال: فلج بحاجته، وبحجته: أحسن الإدلاء بها فغلب خصمه. (المعجم الوسيط) :
2/ 699.
[ (2) ] ليتي: بحذف نون الوقاية، وحذفها مع ليت رديء، وهو في لعلّ أحسن منه، لقرب مخرج اللام من النون، حتى لقد قالوا: لعل ولعن ولأن بمعنى واحد، وقد حكي يعقوب أن من العرب من يخفف بلعلّ، وهذا يؤكد حذف النون من لعلني، وأحسن ما يكون حذف هذه النون في إنّ، وأنّ، ولكن، وكأنّ، لاجتماع النونات، وحسنه في لعلّ أيضا كثرة حروف الكلمة، وفي التنزيل: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ [الآية 46/ يوسف] بغير نون، ومجيء هذه الياء وليتي بغير نون مع أن ليت ناصبة، يدلّك على أن الاسم المضمر في ضربني هو الياء، دون النون كما هو في ضربك، وضربه حرف واحد، وهو الكاف، ولو كان الاسم هو النون مع الياء، كما قالوا في المخفوض: مني وعني بنونين. نون:
من، ونون أخرى مع الياء، فإذا الياء وحدها هي الاسم في حال الخفض، وفي حال النصب، (ابن هشام) : 2/ 12 هامش.
[ (3) ] ولج الشيء في غيره ولوجا: دخل فيه (المعجم الوسيط) : 2/ 1055، وفي التنزيل: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الآية 6/ الحج] .
[ (4) ] عجّ عجّا وعجّة وعجيجا: رفع صوته وصاح. (المرجع السابق) : 2/ 1055، وفي الصحيح:
«الحج عجّ وثجّ» .
[ (5) ] في (خ) : «ونبق» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) ، (الروض الأنف) ، (البداية والنهاية) .
[ (6) ] ضج ضجيجا: الصياح عند المكروه، والمشقة، والجزع، (لسان العرب) : 2/ 312.
[ (7) ] في (خ) : «خلوجا» ، وهو الاضطراب. (المعجم الوسيط) : 1/ 248. وفي (ابن هشام) :
«حروجا» ، وهي الجسيمة (المرجع السابق) : 1/ 164.

(3/18)


وخرج أيضا من حديث الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا داود بن المحبر، حدثنا حماد عن أبي عمران الجوى عن يزيد بن بابنوس عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نذر أن يعتكف شهرا هو وخديجة رضي اللَّه عنها بحراء، فوافق ذلك شهر رمضان، فخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات ليلة فسمع: السلام عليك! قال:
فظننتها فجأة الجن، فجئت مسرعا حتى جئت إلى خديجة فسجتني ثوبا فقالت:
ما شأنك يا ابن عبد اللَّه؟ فأخبرها فقالت له: أبشر يا ابن عبد اللَّه، فإن السلام خير، قال: ثم خرجت مرة أخرى فإذا أنا بجبريل على الشمس، جناح له بالمشرق وجناح له بالمغرب، قال [ (1) ] : فهلت منه فجئت مسرعا فإذا هو بيني وبين الباب، فكلمني حتى أنست به، ثم وعدني موعدا فجئت له فأبطأ عليّ فرأيت أن أرجع، فإذا أنا به وميكائيل بين السماء والأرض قد سدّ الأفق، فهبط جبريل وبقي ميكائيل بين السماء والأرض، فأخذني جبريل فاستلقاني لحلاوة القفا [ (2) ] ، ثم شق عن قلبي فاستخرج ما شاء اللَّه أن يستخرج، ثم غسله، في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه ثم لأمه ثم أكفأني كما يكفأ الأديم، ثم ضم في ظهري حتى وجدت مسّ الخاتم في قلبي، ثم قال لي: اقرأ، ولم أكن [ (3) ] قرأت كتابا قط، فلم أدر ما أقرأ، ثم قال: اقرأ، فقلت ما أقرأ؟ قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (4) ] ، حتى انتهى إلى خمس آيات منها فما نسيت شيئا بعد، ثم وزنني برجل فوزنته، ثم وزنني بآخر فوزنته حتى وزنت بمائة فقال ميكائيل: تبعته أمته ورب الكعبة، فجعلت لا يلقاني حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه حتى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك يا رسول اللَّه [ (5) ] .
وفي رواية يونس بن حبيب عن داود: فقال ميكائيل: تبعته أمته، وقال:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل النبوة لأبي نعيم) : 1/ 69: «فهللت» كما في أصل الدلائل، وفي الخصائص «فهلت» ، وفي مسند أبي داود والطياليسي: «فهبت منه» .
[ (2) ] في (خ) : «فسبقني بحلاوة القفا» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «أك» ، «فلم أجد ما أقرأ» .
[ (4) ] أول سورة العلق.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) 1/ 215، 216، حديث رقم (163) .

(3/19)


كما يكفأ الإناء، وقال: أخذ بحلقي حتى أجهشت بالكباء ثم قال لي: اقرأ.. والباقي مثله سواء.
وخرج من حديث إسماعيل بن أبي حكيم عن عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن [الحارث] [ (1) ] بن هشام عن أم سلمة عن خديجة [ (2) ] رضي اللَّه عنها أنها قالت: قلت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا ابن عم، أتستطيع إذا جاءك هذا الّذي يأتيك أن تخبرني به؟ قال: نعم، قالت خديجة: فجاءه جبريل عليه السّلام ذات يوم وأنا عنده فقال: يا خديجة، هذا صاحبي الّذي يأتيني قد جاء، فقلت له:
قم فاجلس على فخذي [ (3) ] ، فجلس عليهما [ (4) ] فقلت: هل تراه؟ قال: نعم، فقلت: تحول فاجلس على فخذي اليسرى فجلس فقلت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت خديجة [فتحسرت] [ (5) ] فطرحت خماري فقلت: هل تراه؟ قال: لا، فقلت: هذا واللَّه ملك كريم، واللَّه ما هذا شيطان،
قالت خديجة فقلت لورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي: ذلك مما أخبرني محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال ورقة:
إن [ (6) ] يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيّانا فأحمد مرسل
[وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من اللَّه وحي بشرح الصدر منزّل] [ (7) ]
يفوز به من فاز فيها بتوبة ... ويشقى به العاني الغويّ المضلّل [ (8) ]
فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخرى بأجواز الجحيم تغلّل [ (9) ]
__________
[ (1) ] في (خ) : «الحرث» وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (2) ] كذا في (خ) وفي (المرجع السابق) : «خديجة بنت خويلد» .
[ (3) ] كذا في (خ) وفي (المرجع السابق) : «على فخذي» بالإفراد.
[ (4) ] كذا في (خ) وفي (المرجع السابق) : «عليهما» بالتثنية، والسياق يقتضي الإفراد.
[ (5) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (6) ] في (دلائل البيهقي) : 2/ 150، و (البداية والنهاية) : 3/ 16 «فإن يك» .
[ (7) ] هذا البيت ليس في (دلائل أبي نعيم) ، وأثبتناه من (دلائل البيهقي) و (البداية والنهاية) .
[ (8) ] (في المرجع السابق) : «ويشقى به العاني الغرير المضلل» .
[ (9) ] أجواز الجحيم: وسط جهنم، ومفردة «جوز» .

(3/20)


إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت ... مقامع في هاماتهم ثم تشعل [ (1) ]
فسبحان من تهوى الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السموات كلها ... وأحكامه [ (2) ] في خلقه لا تبدّل
وقال ورقة أيضا:
يا للرجال وصرف الدّهر والقدر ... وما [ (3) ] لشيء قضاه اللَّه من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... وما لنا [ (4) ] بخفي الغيب من خبر
فكان ما سألت عنه لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس عن أخر [ (5) ]
فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر [ (6) ] والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل إنك مبعوث إلى البشر
فقلت على الّذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجّي الخير وانتظري
وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمر ما يري في النوم والسهر
فقال خير أتانا منطقا عجبا ... يقفّ منه أعالي الجلد والشّعر
إني رأيت أمين اللَّه واجهني ... في صورة أكملت في أهيب الصّور
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم من حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدرى سيصدقني ... أن سوف يبعث يتلو منزل السّور [ (7) ]
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «مقامع في هاماتهم ثم مزعل» .
[ (2) ] في (البداية والنهاية) ، و (دلائل البيهقي) : «وأقضاؤه» .
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) ، و (دلائل البيهقي) : «وما لشيء» ، وفي (خ) : «ويا لشيء» .
[ (4) ] في (خ) ، (دلائل أبي نعيم) : «وما لنا» ، وفي (دلائل البيهقي) ، «وما لها» ، وفي (البداية والنهاية) :
حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
وهذه الأبيات متساوية من حديث عددها (12) بيتا في (دلائل أبي نعيم) و (دلائل البيهقي) ، و (خ) ، لكنها في (البداية والنهاية) : (11) بيتا فقط.
[ (5) ] في (دلائل أبي نعيم) : «أمرا رآه» .
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) : «من قديم الناس» .
[ (7) ] في (دلائل البيهقي) : «أن سوف تبعث» .

(3/21)


وسوف أوليك [ (1) ] إن أعلنت دعوتهم ... مني [ (2) ] الجهاد بلا منّ ولا كدر [ (3) ]
وخرج من حديث فليح بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الإماميّ عن يزيد بن رومان، [والزهري] [ (4) ] عن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان جالسا مع خديجة [رضي اللَّه عنها] [ (5) ] يوما من الأيام إذ رأى شخصا بين السماء والأرض فقالت خديجة [ (6) ] : لا يزول، أدن مني، فدنا منها، فقالت له: أتراه؟ [قال: نعم] [ (7) ] قالت: أدخل [يدك] [ (8) ] تحت [الدرع] [ (9) ] ، ففعل ذلك، فقالت [ (10) ] : أتراه؟ قال: لا، قد أعرض عني، قالت: أبشر فإنه ملك كريم، لو كان شيطانا ما استحى. فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] في (البداية والنهاية) : «وسوف يليك» ، وفي (دلائل البيهقي) : «وسوف أنبيك» . وما أثبتناه من (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (البداية والنهاية) ، و (دلائل البيهقي) : «من الجهاد» ، وما أثبتناه من (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] قال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 3/ 17: «هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي في (الدلائل) ، وعندي في صحتها عن ورقة نظر، واللَّه أعلم» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) ، وصوابه: «يزيد بن رومان الأسدي أبو روح المدني» (تهذيب التهذيب) : 11/ 284، ترجمة رقم (526) روى عن ابن الزبير وأنس بن عبيد اللَّه وسالم ابني عبد اللَّه بن عمر وصالح بن خوات بن جبير، وعروة بن الزبير والزهري، وهو من أقرانه، وأرسل عن أبي هريرة.
وعنه هشام بن عروة وعبيد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر رضي اللَّه عنه، وأبو حازم سلمة بن دينار ومعاوية بن ثابت ومالك ويزيد بن عبد الملك النوفلي وجرير بن حازم وجماعة. قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.
قال ابن سعد عن الواقدي وغيره: مات سنة ثلاثين ومائة، وكان عالما كثير الحديث ثقة. قال الحافظ ابن حجر: وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال غيره: قرأ القرآن على عبد اللَّه بن عباس بن أبي ربيعة، وقرأ عليه نافع بن أبي نعيم. (المرجع السابق) .
[ (5) ] زيادة من (خ) .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : 1/ 218، 219، حديث رقم (165) : «بين السماء والأرض لا يزول فقالت خديجة» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) :
«فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم» .
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «رأسك» .
[ (9) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق) : «درعي» .
[ (10) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق) : «فقالت خديجة له» .

(3/22)


يوما من الأيام إذا رأى شخصا بين السماء والأرض بأجياد [ (1) ] إذ بدا له جبريل فسلم عليه، وبسط بساطا كريما مكللا بالياقوت والزبرجد، ثم بحث في الأرض فنبع الماء، فعلّم جبريل رسول اللَّه كيف يتوضأ، فتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم صلّى ركعتين نحو [الكعبة] [ (2) ] مستقبل الركن الأسود، وبشره بنبوته، ونزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
[ (3) ] ثم انصرف منقلبا فلم يمر على شجر ولا حجر [ (4) ] إلا وهو يسلم عليه يقول: سلام [ (5) ] عليك يا رسول اللَّه، فجاء إلى خديجة فقال: يا خديجة! أشعرت [أن] [ (6) ] الّذي كنت أراه قد بدا لي [وبسط لي] [ (7) ] بساطا كريما وبحث من [ (8) ] الأرض فنبع الماء فعلمني الوضوء، فتوضأت وصليت ركعتين، [فقالت] [ (9) ] : أرني كيف أراك؟ فأراها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [وتوضأت] [ (10) ] ثم صلت معه وقالت: أشهد أنك رسول اللَّه.
ولأبي نعيم من حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة: إني أسمع صوتا وأرى ضوءا، وإني أخشى أن يكون خبل، فقالت: لم يكن اللَّه ليفعل بك ذلك يا ابن عبد اللَّه،
ثم أتت ورقة ابن نوفل فذكرت ذلك له فقال: إن يك صادقا إن هذا ناموس مثل ناموس موسى، وإن يبعث وأنا حي فسأعزره وأنصره وأعينه [ (11) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «بجياد الأصغر» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «نحو القبلة» .
[ (3) ] أول سورة العلق.
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «حجر ولا شجر» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «السّلام عليك» .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «بأن» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «قد بدا لي بساطا كريما» .
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «بحث لي» .
[ (9) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «فقالت خديجة» .
[ (10) ] هذه الزيادة ليست في (المرجع السابق) .
[ (11) ] هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد فقال: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا أبو كامل وحسن ابن موسى، قالا: حدثنا حماد قال: أخبرنا عمار بن أبي عمار قال حسن عن عمار: قال حماد:
وأظنه عن ابن عباس ولم يشك فيه حسن، قال: قال ابن عباس، قال أبي: وحدثنا عفان،

(3/23)


وله من حديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عن وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد اللَّه بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حديث أخبرنا عبيد كيف كان بدء ما ابتدأ اللَّه به رسوله من النبوة حين جاءه جبريل؟ فقال عبيد: وأنا حاضر يحدث عبد اللَّه بن الزبير وهو من عنده من الناس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجاور [ (1) ] في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنثت به قريش- والتحنث: التبرر [ (2) ]- فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجاور ذلك الشهر في كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من ذلك الشهر كان أول ما ابتدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء اللَّه من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الّذي أراد اللَّه به ما أراد من كرامته من السنة التي بعث فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حراء كما كان يخرج لجواره معه أهله، حتى كانت الليلة التي أكرمه اللَّه فيها برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل من اللَّه تعالى [ (3) ] .
وقال إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاءني
__________
[ () ] حدثنا حماد عن عمار بن أبي عمار، مرسل ليس فيه ابن عباس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة، فذكر عثمان الحديث،
وقال أبو كامل وحسن في حديثهما: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة: «إني أرى ضوءا، وأسمع صوتا، وإني أخشى أن يكون بي جنن، قالت: لم يكن اللَّه ليفعل ذلك بك يا ابن عبد اللَّه، ثم أتت ورقة ابن نوفل، فذكرت ذلك له فقال: إن يك صادقا، فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى، فإن بعث وأنا حيّ فسأعززه، وأنصره وأومن به» . (مسند أحمد) : 1/ 512، 513، حديث رقم (2841) .
[ (1) ] الجوار بالكسر في معنى المجاورة، وهي الاعتكاف إلا من وجه واحد، وهو أن الاعتكاف لا يكون إلا داخل المسجد، والجوار قد يكون خارج المسجد، كذلك قال ابن عبد البر، ولذلك لم يسمّ جواره بحراء اعتكافا، لأن حراء ليس من المسجد، ولكنه من جبال الحرم، وهو الجبل الّذي نادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني، فإنّي أخاف أن تقتل على ظهري فأعذّب، فناداه حراء: إليّ يا رسول اللَّه. (الروض الأنف للسهيلي) .
[ (2) ] التبرر: تفعّل من البر، وتفعّل: يقتضي الدخول في الفعل، وهو الأكثر فيها مثل: تفقّه، وتعبّد، وتنسّك. قال ابن هشام: تقول العرب: التحنث والتحنف، يريدون الحنيفية فيبدلون الفاء من الثاء، قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: «فمّ» في موضع «ثمّ» . (المرجع السابق) .
[ (3) ] سيرة ابن هشام) : 2/ 69، 70.

(3/24)


وأنا نائم [ (1) ] بنمط من ديباج فيه كتاب [ (2) ] ، فقال: اقرأ، قلت: ما أقرأ [ (3) ] قال:
فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أقرأ [ (3) ] ، فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أقرأ [ (3) ] ، قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا [لأفتدي] [ (4) ] منه أن يعود لي بمثل ما صنع فيّ، قال: اقْرَأْ بِاسْمِ [ (5) ] رَبِّكَ
__________
[ (1) ] ليس ذكر النوم في حديث عائشة ولا غيرها، بل في حديث عروة عن عائشة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل نزل بسورة اقْرَأْ كان في اليقظة، لأنها قالت في أول الحديث: «أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح: ثم حبّب اللَّه إليه الخلاء- إلى قولها- حتى جاءه الحق وهو بغار حراء، فجاءه جبريل» .
فذكرت في هذا الحديث أن الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقرآن، وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به، لأن أمر النبوة عظيم، وعبؤها ثقيل، والبشر ضعيف.
وقد ثبت بالطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكل به إسرافيل، فكان يتراءى له ثلاث سنين، ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وكل به جبريل، فجاءه بالقرآن والوحي، فعلى هذا كان نزول الوحي عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أحوال مختلفة، سيأتي شرحها مفصلا. (المرجع السابق) :
هامش ص 70.
[ (2) ] فيه دليل وإشارة إلى أن هذا الكتاب يفتح على أمّته ملك الأعاجم، ويسلبونهم الديباج والحرير الّذي كان زينهم وزينتهم، وبه أيضا ينال ملك الآخرة، ولباس الجنة، وهو الحرير والديباج. (المرجع السابق) هامش ص 71.
[ (3) ]
قوله: «ما أنا بقارئ»
- على إحدى الروايات- أني أمّي فلا أقرأ الكتب، قالها ثلاثا، فقيل له:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، أي: إنك لا تقرءوه بحولك، ولا بصفة نفسك، ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحا باسم ربك، مستعينا به، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم، ومغمز الشيطان بعد ما خلق فيك، كما خلقه في كل إنسان.
أما على رواية
«ما أقرأ» ،
يحتمل أن تكون «ما» استفهاما، يريد أي شيء أقرأ؟ ويحتمل أن تكون نفيا، ورواية البخاري ومسلم تدل على أنه أراد النفي، أي ما أحسن أن أقرأ، كما تقدم من قوله: «ما أنا بقارئ» . (المرجع السابق) .
[ (4) ] في رواية ابن إسحاق: «ما أقول ذلك إلا افتداء منه» .
[ (5) ] في قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ من الفقه: وجوب استفتاح القراءة ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، غير أنه أمر مبهم لم يبين له بأي اسم من أسماء ربه يفتتح، حتى جاء البيان بعد في قوله: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها [الآية 41/ هود] ، ثم قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الآية 30/ النمل] ، ثم كان بعد ذلك ينزل جبريل عليه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم مع كل سورة، على بعض الآراء. (المرجع السابق) .

(3/25)


الَّذِي خَلَقَ إلى قوله: ما لَمْ يَعْلَمْ، قال: فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا، [قال: ولم يكن من خلق اللَّه تعالى أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن انظر إليهما، قال: قلت:
إن الأبعد يعني لشاعر أو مجنون لا يتحدث بهذا قريش عني أبدا إلا عمدت إلى خالق من الجبل، ولأطرحت نفسي منه فلأقتلنها ولأستريحن] [ (1) ] ، قال: فخرجت [أريد ذلك] [ (1) ] حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من [السماء] [ (2) ] يقول: يا محمد! أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء انظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد! أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، قال: فوقفت انظر إليه [فشغلني ذلك عما أردت] [ (3) ] ما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي [ (4) ] في آفاق السماء ولا انظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة [في] [ (5) ] رسلها في طلبي، فبلغوا [ (6) ] مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكان ذلك ثم انصرف عني، [فانصرفت] [ (7) ] راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا [إليها] [ (8) ] فقالت: يا أبا القاسم! أين كنت: فو اللَّه لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا [إليّ] [ (9) ] ، قال: [قلت لها:
إن الأبعد لشاعر مجنون، قال: فقالت: أعيذك باللَّه يا أبا القاسم، ما كان اللَّه تعالى ليصنع ذلك بك مع صدق حديثك وحسن خلقك وعظم أمانتك وصلتك رحمك، وما ذاك يا ابن عم؟ لقد رأيت شيئا؟ قال: قلت [ (10) ] نعم] ، ثم
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (خ) ، وهو زيادة عن رواية ابن إسحاق.
[ (2) ] زيادة للسياق من ابن إسحاق، (الروض الأنف) : 1/ 269، (سيرة ابن هشام) : 2/ 72.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) .
[ (4) ] في ابن إسحاق: «وجهي عنه في آفاق السماء» .
[ (5) ] زيادة من (خ) والأولى حذفها.
[ (6) ] في (ابن إسحاق) : «فبلغوا أعلى مكة» .
[ (7) ] في (ابن إسحاق) : «وانصرفت» .
[ (8) ] زيادة للسياق من: (ابن إسحاق) .
[ (9) ] في (ابن إسحاق) : «فرجعوا لي» .
[ (10) ] ما بين الحاصرتين من (خ) ، وليس في (ابن إسحاق) .

(3/26)


حدثتها الّذي رأيت فقالت: أبشر يا ابن العم واثبت، فو الّذي نفس خديجة بيده أن تكون نبي هذه الأمة، قال: ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة ابن نوفل بن أسد [ (1) ] وهو ابن عمها
- وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة [وأهل] الإنجيل- فأخبرته بما أخبرها به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه رأى وسمع فقال ورقة [ (2) ] : قدوس قدوس، والّذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الّذي يأتي [به] [ (3) ] موسى، وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له [فليثبت] [ (4) ] ، فرجعت خديجة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وأخبرته] [ (5) ] بقول ورقة [ (6) ] [وسهّل عليه ذلك بعض ما كان فيه من الهم بما جاءه] [ (7) ] ، فلما قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جواره وانصرف صنع فيه كما يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة ابن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن أخي! أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره فقال له ورقة: والّذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الّذي جاء موسى، ولتكذبنّه ولتؤذينّه ولتخرجنّه ولتقاتلنّه [ (8) ] ولئن أنا أدركت [ (9) ] ذلك لأنصرن اللَّه نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه [منه] [ (10) ] فقبّل يافوخه، ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى منزله. [وقد زاده ذلك من قول
__________
[ (1) ] زيادة في نسبه من (ابن إسحاق) : «ابن عبد العزي بن قصي» .
[ (2) ] (ابن نوفل) .
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] زيادة من (ابن إسحاق) .
[ (5) ] في (ابن إسحاق) : «فأخبرته» .
[ (6) ] في (ابن إسحاق) : «ورقة ابن نوفل» .
[ (7) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) .
[ (8) ] الهاءات الأربعة لا ينطق بها إلا ساكنة، فإنّها هاءات سكت وليست بضمائر. وفي (خ) بغير هذه الهاءات.
[ (9) ] قوله: «ولئن أنا أدركت» ، وفي رواية «إن أدرك ذلك اليوم أنصرك نصرا مؤزرا، وقال في أخرى:
«إن يدركني يومك» ، وهو القياس، لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق هو الّذي يدركه من يأتي بعده، كما جاء
في الحديث: «أشقى الناس من تدركه الساعة وهو حي» ،
وابن إسحاق أيضا له وجه، لأن المعنى أنرى ذلك اليوم، فسمى رؤيته إدراكا، وفي التنزيل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الآية 103/ الأنعام] ، أي: لا تراه على أحد القولين. وقوله: «مؤزرا» من الأزر، وهو القوة والعون.
[ (10) ] زيادة من رواية (ابن إسحاق) .

(3/27)


ورقة ثباتا، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم] [ (1) ] .
قال أبو نعيم: وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد نحوه مختصرا،
وله من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، أراه اللَّه رؤيا في المنام فشق ذلك عليه، ورأى أنه بينما هو بمكة أتى إلى سقف بيته فنزع شبحة شبحة [ (2) ] حتى إذا نزل أدخل فيه سلم من فضة فيما يخيل إليه، ثم نزل إليه رجلان، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأردت أن أستغيث فحبساني مكاني ومنعت الكلام، فقعد أحدهما إليّ والآخر إلى جنبي وأنا فرق، فأدخل أحدهما يده في جنبي فنزع ضلعين منه كما ينزل علق الصندوق الشديد، فأدخل يده في جوفي وأنا أجد بردها، فأخرج قلبي فوضعه على كفه وقال لصاحبه، نعم القلب، وقال: قلب رجل صالح، ثم أدخلا القلب مكانه وردا الضلعين كما يرد علق الصندوق الشديد، ثم ارتفعا ورفعا سلمهما فاستيقظت فإذا السقف كما هو فقلت يحلم، وذكره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لخديجة بنت خويلد فعصمها اللَّه من التكذيب وقالت: أبشر! فو اللَّه لا يفعل اللَّه بك إلا خيرا، وأخبرها أنه رأى بطنه طهر وغسل ثم أعيد كما كان، فقالت: هذا واللَّه خير فأبشر، ثم استعلن له جبريل وهو بأفلاء مكة من قبل حراء فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه وقال له: لا تخف! أنا جبريل، وأجلسه معه على مجلس كريم كهيئة الدر، نوره فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره برسالات اللَّه حتى اطمأن إلى جبريل ثم قال: اقرأ، قال: كيف أقرأ؟ قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله: ما لَمْ يَعْلَمْ، فأبدى له جبريل نفسه، له جناحان من ياقوت يخطفان البصر، ففتح جبريل عينا من ماء فتوضأ، ومحمد ينظر إليه فوضأ وجهه ويديه
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (خ) وليس في رواية (ابن إسحاق) .
[ (2) ] المشبّح: المقشور، والكساء القوى (ترتيب القاموس) : 2/ 665 وفي (خ) : «شبخة سبخة» ، ولم أدر ما المراد بها، ولعلها «سجة» من السياج، وهو الحائط، وما أحيط به على شيء مثل النخل والكرم، وقد سيّج حائطه تسييجا. (المرجع السابق) : 2/ 655.

(3/28)


إلى المرفقين، ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه [وسجد] [ (1) ] سجدتين مواجه البيت، ففعل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم كما رأى جبريل يفعل، وقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رسالة ربه، وسألها اللَّه بحقها، واتّبع الّذي نزل به جبريل من عند رب العرش العظيم، فلما قضى جبريل الّذي أمره به، انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يمر على حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه، فرجع إلى بيته وهو مؤمن قد رأى أمرا عظيما، فلما دخل على خديجة أخبرها، قال: أرأيتك الّذي كنت أخبرتك أني رأيته في المنام؟ فإنه جبريل قد استعلن لي، أرسله إليّ ربي عزّ وجلّ، أخبرها بالذي جاءه من اللَّه وسمع فقالت: أبشر، فو اللَّه لا يفعل اللَّه بك إلا خيرا، فاقبل الّذي أتاك من اللَّه فإنك رسول اللَّه حقا،
ثم انطلقت حتى أتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس- نصرانيا من أهل نينوى يقال له: عداس- فقالت: يا عدّاس أذكرك باللَّه، هل عندك من جبريل علم؟ فلما سمعها: عداس تذكر جبريل قال: قدوس قدوس، ما شأنه يذكر بهذه الأرض التي أهلا أهل الأوثان؟ قالت:
أحب أن تحدثني فيه بعلمك، قال: فإنه أمين اللَّه بينه وبين النبيين، وهو صاحب عيسى وموسى عليهما السلام.
رجعت خديجة من عنده فأتت ورقة ابن نوفل، وكان ورقة قد كره عبادة الأوثان هو وزيد بن عامر بن نفيل، وكان زيد قد حرم كل شيء حرمه من الدم والذبيحة، على النصب، وكل شيء من أبواب الظلم في الجاهلية، فلما وصفت خديجة لورقة حين جاءته شأن محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكرت له جبريل وما جاء به من عند اللَّه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لها: يا ابنة أخي! واللَّه ما أدري لعل صاحبك الّذي ينتظره أهل الكتاب الّذي يجدونه مكتوبا في الإنجيل، وأقسم باللَّه إن كان إياه ثم دعا إلى اللَّه وأنا حيّ لأبلين اللَّه في طاعة رسوله وحسن المؤازرة والنصرة له، فمات ورقة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسائق.
[ (2) ] ونحوه بسياقة أخرى فيها تقديم وتأخير في (البداية والنهاية) : 3/ 20- 23، وهي رواية موسى ابن عقبة بمعنى حديث عروة بن الزبير.

(3/29)


ورواه من طريق محمد بن فليح عن موسى بن عقبة بمعنى حديث عروة بن الزبير من طريق محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه بأتم من روايتي عروة وموسى بن عقبة وأحسن، فقد اختلفت الروايات في نزول [أول سورة من القرآن على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .

ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري في كتاب التفسير من حديث وكيع عن على بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه عن ذلك وقلت له مثل الّذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا، فدثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [ (2) ] ، وكرره غير مرة.
وخرجه مسلم من حديث الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: اقْرَأْ؟ فقال جابر:
أحدثكم ما حدثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قال: جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] أول سورة المدثر، وقوله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ: أي أنها أول ما نزل حين تتابع الوحي وحمي، والذين كانوا يقولون: هو اقْرَأْ، ذكروا ذلك بناء على أنها الأول مطلقا، ويحتمل أن بعض الناس ظن اقْرَأْ أول سورة حين تتابع الوحي، بناء على ظن نزولها مرتين مثلا، فهذا ردّ عليهم، واللَّه تعالى أعلم. (حاشية السندي على صحيح البخاري) : 3/ 209، كتاب التفسير.

(3/30)


شمالي فلم أر أحدا، ثم نوديت، فنظرت فلم أر أحدا ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في [الهواء] [ (1) ]- يعني جبريل عليه السلام- فأخذتني رجفة شديدة فأتيت خديجة فقلت: دثروني، فدثروني وصبوا عليّ ماء [ (2) ] ، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (3) ] قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ.
__________
[ (1) ] في (خ) : «في الهوى» .
أما قوله: «إن أول ما أنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فهو ضعيف بل باطل، والصواب أن أول ما أنزل على الإطلاق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، كما صرح به في حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وأما يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكان نزولها بعد فترة الوحي، كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر، والدلالة صريحة فيه في مواضع، منها قوله وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال: فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ومنها قوله: ثم تتابع الوحي- يعني بعد فترته- فالصواب: أن أول ما نزل: اقْرَأْ، وأن أول ما نزل بعد فترة الوحي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. وأما قول من قال من المفسرين: أول ما نزل الفاتحة، فبطلانه أظهر من أن يذكر. واللَّه أعلم.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فاستبطنت الوادي» ،
أي صرت في باطنه،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في جبريل عليه السلام: «فإذا هو على العرش في الهواء» ،
المراد بالعرش الكرسي، كما تقدم
في الرواية الأخرى «على كرسي بين السماء والأرض» ،
قال أهل اللغة: العرش هو السرير، وقيل: سرير الملك.
قال اللَّه تعالى: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [الآية 23/ النمل] ، والهواء هنا ممدود يكتب بالألف، وهو الجو بين السماء والأرض كما في الرواية الأخرى، والهواء: الخالي، قال تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [الآية 43/ إبراهيم] .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فأخذتني رجفة شديدة» ،
هكذا هو في الروايات المشهورة «رجفة: بالراء» ، قال القاضي: ورواه السمرقندي «وجفة: بالواو» وهما صحيحان متقاربان، ومعناهما: الاضطراب.
قال اللَّه تعالى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ [الآية 8/ النازعات] ، وقال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ [الآية 6/ النازعات] ، وقال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [الآية 14/ المزمل] .
[ (2) ]
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فصبوا على ماء» ،
فيه أنه ينبغي أن يصب على الفزع الماء ليسكن فزعه. واللَّه تعالى أعلم.
[ (3) ] وأما تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقال العلماء: المدثر، والمتلفف، والمشتمل، بمعنى واحد، ثم الجمهور على أن معناه المدثر بثيابه. وحكى الماوردي قولا عن عكرمة أن معناه المدثر بالنّبوّة وأعبائها.
وقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ، معناه حذّر العذاب من لم يؤمن، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظمه ونزهه عما لا يليق به، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قيل معناه طهرها من النجاسة، وقيل قصّرها، وقيل:
المراد بالثياب النفس، أي طهرها من الذنب وسائر النقائص. وَالرُّجْزَ بكسر الراء في قراءة الأكثرين، وقرأ حفص بضمها، وفسره في الكتاب الأوثان، وكذا قاله جماعات من المفسرين. والرّجز في اللغة العذاب، وسمّي الشرك وعبادة الأوثان رجزا لأنه سبب العذاب، وقيل: المراد بالرجز في الآية الشرك، وقيل: الذنب وقيل: الظلم. واللَّه أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 2/ 565- 567، كتاب الإيمان باب (73) حديث رقم (257) .

(3/31)


وفي لفظ له: فإذا جبريل جالس بين السماء والأرض [ (1) ] ، وفي لفظ البخاري [ (2) ] : فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض.
وخرج الحاكم من حديث الحميدي، حدثنا سفيان عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: أول سورة أنزلت: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ إلى ما لَمْ يَعْلَمْ [ (3) ] .

ذكر الاختلاف في شق [ (4) ] صدر [ (5) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، متى كان وأين وقع؟
اعلم أن شق صدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وغسل قلبه وحشوه بالإيمان والحكمة،
__________
[ (1) ]
في الحديث رقم (255) : «جالسا على كرسي بين السماء والأرض. وفي الحديث رقم (258) : «فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض» . (المرجع السابق) .
[ (2) ] في الحديث رقم (4) - كتاب بدء الوحي: «جالس على كرسيّ بين السماء والأرض» (فتح الباري) : 1/ 37.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 576، كتاب التفسير، باب (96) تفسير سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، حديث رقم (3953/ 1091) ، وقال في آخره: (فإذا ابن عيينة لم يسمعه من الزهري) .
وحديث رقم (3954/ 1092) ، وقال في آخره: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) .
[ (4) ] الشّق: الخرم الواسع في شيء، يقال: شقّه نصفين. قوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [1/ القمر] ، كان انشقاقه في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: انشقاق يعرض فيه حين تقرب القيامة، وقيل معناه: وضح الأمر. والشّقّة: القطعة المنشقّة كالنصف. والشّق- بالكسر- المشقّة والانكسار الّذي يلحق النفس والبدن، وذلك كاستعارة الانكسار لها، قال تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [الآية 6/ النحل] .
والشّقّة: الناحية التي تلحقك المشقة في الوصول إليها قال تعالى: وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [الآية 42/ التوبة] ، والشّقاق: المخالفة، قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما [الآية 35/ النساء] ، وكونك في شقّ غير شقّ صاحبك، أو من شقّ العصا بينك وبينه.
وقوله تعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 13/ الأنفال] ، أي صار في شقّ غير شقّ أوليائه، وفلان شقّ نفسي، وشقيق نفسي، أي كأنه شقّ مني لمشابهة بعضنا بعضا، (البصائر) :
3/ 330- 331.
[ (5) ] الصدر: الجارحة، والجمع: صدور، ثم استعير لمقدم الشيء، مثل صدر القناة، وصدر

(3/32)


قال اللَّه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [ (1) ] ، قال إبراهيم بن طهمان: سألت سعيدا عن قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ قال: فحدثني عن قتادة عن أنس بن مالك أنه قد شق بطنه- يعني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- من عند بطنه إلى صدره، فاستخرج قلبه فغسل في طست من ذهب ثم مليء إيمانا وحكمة ثم أعيد مكانه، قد روى من وجوه باختلاف الأماكن والأيام، فروى أن ذلك وقع وهو مسترضع في بني سعد كما تقدم ذكره عند ذكر حليمة في فصل أمهاته من الرضاعة، وقيل وقع ذلك في موضع آخر في زمان آخر، فروى أنه أعيد له شرح الصدر بعد أن تم له عشر سنين.
وقد أخرج في الصحيحين أنه شق صدره ليلة المعراج،
وخرج الحافظ أبو نعيم من حديث معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبيّ بن كعب قال حدثني أبي عن أبيه عن جده أبيّ بن كعب أن أبا هريرة سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكان حريّا [ (2) ] أن يسأله عن الّذي لا يسأله غيره- فقال: يا رسول اللَّه! ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ فقال [ (3) ] : إذا سألتني إني لفي صحراء أمشي ابن عشر حجج، إذا
__________
[ () ] السهم. وسهم مصدّر: غليظ الصدر، وأخذ الأمر بصدره: بأوله. والأمور بصدورها، وهؤلاء صدرة القوم: مقدّموهم. وصدّر فلان فتصدّر: قدّم فتقدّم، وصدره: أصاب صدره، ومنه رجل مصدور: يشتكي صدره، فإذا عدّي «صدر» بعن اقتضى الانصراف، نحو صدرت الإبل عن الماء صدرا.
والمصدر يقال في مصدر صدر عن الماء، ولموضع الصدر، ولزمانه، وقد يقال في عرف النحاة للفظ الّذي روعي فيه صدور الفعل الماضي والمستقبل عنه. وقال بعض العلماء: حيثما ذكر اللَّه القلب فإشارة إلى العقل والعلم، نحو قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [36/ ق] ، وحيثما ذكر الصدر، فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى: من الشهوة، والهوى والغضب، ونحوها.
وقوله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [25/ طه] ، سؤال لإصلاح قواه، وكذا قوله:
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [14/ التوبة] ، إشارة إلى اشتفائهم، وقوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [46/ الحج] ، أي العقول التي هي مندسّة فيما بين سائر القوى. (المرجع السابق) : 392، 393.
[ (1) ] أول سورة الشرح.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «حريصا» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «إذ» .

(3/33)


أنا برجلين فوق رأسي، يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، [قال] [ (1) ] :
فأخذاني فلصقاني بحلاوة القفا، ثم شقا بطني، [وكان] [ (2) ] جبريل يختلف بالماء في طست من ذهب، وكان ميكائيل يغسل جوفي، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فإذا صدري [فيما أرى] [ (3) ] مفلوقا لا أجد له وجعا ثم قال: اشقق قلبه، فشق قلبي، فقال أخرج الحسد والغل [ (4) ] منه، فأخرج شبه العلقة فنبذ به [ (5) ] ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة قلبه [ (6) ] ، فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذرّ عليه ثم نقر إبهامي ثم قال: أغد، فرجعت بما لم أغد به من رحمتي على الصغير ورقتي على الكبير.
قال: أبو نعيم: وهذا الحديث مما تفرد به معاذ ابن محمد [عن آبائه] [ (7) ] ، وتفرد بذكر السن الّذي شق فيه عن قلبه والّذي رواه عبد اللَّه بن جعفر عن حليمة السعدية وعبد الرحمن بن عمرو السلمي عن عتبة ابن عبد، اتفقا على أنه كان مسترضعا في بني سعد، فأما رواية أبي ذر، فرواه الزهري عن أنس عنه، قال كاتبه: معاذ مما يروى عن أبيه وعن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، وأبي الزبير المكيّ وجماعة، ويروى عنه معاوية بن صالح الحضرميّ وعبد اللَّه بن لهيعة، ومحمد بن عمر الواقدي وآخرون، ذكره ابن حبان في الثقات.
وفي أفراد مسلم من حديث شيبان بن فروخ قال: حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن أنس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة ثم قال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده إلى
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «فكان» .
[ (3) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (4) ] في (المرجع السابق) : «الغل والحسد» .
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «فنبذه» .
[ (6) ] في (المرجع السابق) : «في قلبه» .
[ (7) ] زيادة من (خ) .

(3/34)


مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره [ (1) ]- فقالوا: إن محمدا قد قتل! فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت [أرى] [ (2) ] أثر المخيط في صدره صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
قال البيهقي: وهو موافق لما هو معروف عند أهل المغازي- يعني وقوع ذلك- وهو مسترضع في بني سعد، وسيأتي في الإسراء
حديث مسلم [ (4) ] من طريق سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت،
وحديث البخاري من طريق سليمان عن شريك بن عبد اللَّه عن أنس، وحديث البخاري
__________
[ (1) ] الظئر: المرضع أو الأم من الرضاعة.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الحديث الأول في (دلائل أبي نعيم) ، 1/ 219- 220، رقم (166) رواه عبد اللَّه بن أحمد في زوائد (المسند) ، ورجاله ثقات، وثقهم ابن حبان.
والحديث الثاني في (المرجع السابق) 1/ 221، رقم (168) ، أخرجه مسلم في صحيحه بسنده ومتنه في كتاب الإيمان باب الإسراء، حديث رقم (261) ، والبيهقي في (الدلائل) 2/ 5، باب ما جاء في شق صدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واستخراج حظ الشيطان من قلبه سوى ما مضى في باب ذكر رضاعه، (مسند أحمد) : 3/ 617، حديث رقم (12097) .
[ (4) ]
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت» ،
معنى شرح شق،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثم أنزلت» ،
هو بإسكان اللام وضم التاء، هكذا ضبطناه، وكذا هو في جميع الأصول والنسخ، وكذا نقله القاضي عياض رحمه اللَّه عن جميع الروايات، وفي معناه خفاء واختلاف، قال القاضي:
قال الوقشيّ: هذا وهم من الرواة، وصوابه: تركت، فتصحّف، قال القاضي: فسألت عنه ابن سراج فقال: أنزلت في اللغة بمعنى تركت صحيح، وليس فيه تصحيف. قال القاضي: وظهر لي أنه صحيح بالمعنى المعروف في أنزلت، فهو ضدّ رفعت، لأنه قال: انطلقوا بي إلى زمزم ثم أنزلت، أي ثم صرفت إلى موضعي الّذي حملت منه، قال: ولم أزل أبحث عنه حتى وقعت على الجلاء فيه من رواية الحافظ أبي بكر البرقاني، وأنه طرف حديث، وتمامه: «ثم أنزلت على طست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا» هكذا بفتح اللام وإسكان التاء، وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين للحميدي، وحكى الحميدي هذه الزيادة المذكورة عن رواية البرقاني وزاد عليها، وقال: أخرج البرقاني بإسناد (مسلم) ، وأشار الحميدي إلى أن رواية (مسلم) ناقصة وأن تمامها ما زاده البرقاني، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 2/ 573، حديث رقم (260) ، كتاب الإيمان باب (74) .

(3/35)


ومسلم عن طريق همام عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة [ (1) ] ، وفيها شق صدره ليلة الإسراء.
وخرج الحافظ أبو نعيم من حديث يونس عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل فعرج صدري حتى غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه.
ولأبي داود الطيالسي من حديث عمار بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة ابن الزبير عن أبي ذر الغفاريّ رضي اللَّه عنه قال: قلت يا رسول اللَّه! كيف علمت أنك نبي؟ وبما علمت حتى استيقنت؟ قال: يا أبا ذر، أتاني آتيان وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض [ (2) ] والآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما للآخر [ (3) ] : أهو هو [ (4) ] ؟ فقال: فزنه برجل، [فوزنني برجل] [ (5) ] فرجحته، ثم قال [ (6) ] : زنه بعشرة، فوزنني بعشرة فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة، فوزنني بمائة فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف، فوزنني [بألف] [ (7) ] فرجحتهم، ثم جعلوا يتساقطون [ (8) ] على [ (9) ] كفة الميزان، ثم قال أحدهما لصاحبه:
__________
[ (1) ] حديث مالك بن صعصعة: ذكره (البخاري) في كتاب مناقب الأنصار، باب (42) ، حديث رقم (3887) . وذكره (مسلم في كتاب الإيمان، باب (74) ، حديث رقم (264) . ومالك ابن صعصعة هو مالك بن صعصعة بن وهب بن عدي بن مالك الأنصاري، من بني النجار، ليس له في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف من روى عنه إلا أنس بن مالك. (فتح الباري) : 7/ 258.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «وكان الآخر بين السماء والأرض» .
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فقال أحدهما لصاحبه» .
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «أهو هو؟، قال: هو هو نعم» .
[ (5) ] ما بين الحاصرتين زيادة للبيان من المرجع السابق.
[ (6) ] في المرجع السابق: «قال فزنه بعشرة» .
[ (7) ] ما بين الحاصرتين زيادة للبيان من المرجع السابق.
[ (8) ] في المرجع السابق: «ثم جعلوا يتساقطون عليّ» .
[ (9) ] في المرجع السابق: «في كفة الميزان» .

(3/36)


شقّ بطنه، فشقّ بطني فأخرج قلبي، فأخرج منه مغمز الشيطان، وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه [ (1) ] غسل الملأ، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه فخاط بطني وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن ووليّا عني وكأني أعاين [الأمر] [ (2) ] معاينة [ (3) ] .
وفي رواية: لو وزنته بأمته لرجحهم، وقال: واغسل قلبه غسل الماء، ثم أتيت بسكينة وهرهرة [ (4) ] بيضاء فأدخلت قلبي.
ولأبي نعيم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتيت في أهلي فأتى بي إلى زمزم، فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم نزلت طست من ذهب قد ملئت إيمانا وحكمة، فحشى بها صدري،
قال أنس:
فكأني انظر والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى الأثر في صدره [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «واغسل بطنه» .
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «أعاين معاينة» ، وما بين الحاصرتين من (خ) .
[ (3) ] الحديث في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 221، حديث رقم (167) .
[ (4) ] تقول: «سمعت له هرهرة أي صوتا عند الحلب» (لسان العرب) : 5/ 262 ولم أدر معناها في سياق هذه العبارة من الحديث.
[ (5) ] الحديث رقم (168) في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 221، 222: حدثني عمر بن حمدان قال:
حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا هدبة وشيبان قالا: حدثنا حماد بن سلمة قال: حدثنا ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه، أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق بطنه، فاستخرجه، ثم استخرج من قلبه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل القلب في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، ثم لأمه. قال أنس: فلقد رأيت أثر المخيط في صدره صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وحادث شق الصدر ورد في كتب السيرة باتفاق، فهو في (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) :
1/ 236، كتاب الإسراء، ذكر وصف الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بيت المقدس، حديث رقم (48) ، قال محقق (الإحسان) نقلا عن الحافظ ابن حجر في (الفتح) : «وجميع ما ورد من شقّ الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحيته القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك. قال القرطبي في (المفهم) :
لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء، لأن رواته ثقات مشاهير، ثم ذكر نحو ما تقدم» ، وفي (المستدرك) : 2/ 673، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4430/ 240) ، قال في التلخيص: على شرط مسلم، وفي (مسند أحمد) : 3/ 571، حديث رقم (11812) ، وفي (طبقات ابن سعد) : 1/ 112، وفي (البداية والنهاية) : 2/ 335- 337،

(3/37)


وقد ذكر بعضهم أن اللَّه تعالى خلق في قلوب البشر علقة قابلة لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت هذه العلقة من قلب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يبق فيه مكان قابل لأن يلقي فيه الشيطان شيئا.
__________
[ () ] وفي (سيرة ابن هشام: 1/ 301.
وقد تكرر هذا الحادث مرتين بعد طفولته المبكرة، فكانت المرة الثانية لما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن عشر سنين، والمرة الثالثة لما جاوز صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمسين من عمره. وقصة شق الصدر هذه تشير إلى تعهد اللَّه تعالى نبيّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن مزالق الطبع الإنساني، ووساوس الشيطان، وهو حصانة للرسول الكريم التي أضفاها اللَّه عليه، فإن اللَّه تعالى قد شاءت إرادته أزلا، أن يكون محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم خاتم المرسلين، أراد سبحانه أن يجعل منه المثل الكامل، للإنسان الكامل، الّذي يسير نحو الكمال بطهارة القلب، وصفاء النفس.
ولما شبّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كانت مكة تعجّ بمختلف أنواع اللهو والفساد، والملاذ الشهوانية الدنسة، كانت حانات الخمر منتشرة، وبيوت الريبة عليها علامات تعرف بها، مع كثرة الماجنات والراقصات، وغير ذلك من أمور الجاهلية التي كانت تعج بها مكة في ذلك المجتمع الجاهلي، وتتوجها عبادة الأصنام والأوثان، واللَّه تبارك وتعالى برّأ رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، واختاره من أكرم معادن الإنسانية، ثم اختاره لحمل أكمل رسالات السماء إلى أمم الأرض، وتشهد الأثار على ما حباه ربه من العصمة، فمن ذلك ما سبق أن أوردناه بتمامه مع شرحه من
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما همت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين، كلتاهما عصمني اللَّه تعالى فيها» ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه ابن عباس رضي اللَّه عنهما ما حدثته به أم أيمن رضي اللَّه عنها: «كانت بوانة صنما تحضره قريش لتعظمه.
.. إلخ» .
ولا يطمئن بعض الجاهلين، ومعهم المستشرقين، إلى حادثة شق الصدر، واستخراجه، ومعالجته، سواء التي حدثت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو عند حليمة السعدية، أو ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب في معجزة الإسراء والمعراج.
وابن حبان- منذ أكثر من ألف سنة- يناقش الموضوع، ويعتبره من معجزات النبوة، ويقول:
«كان ذلك له فضيلة فضّل بها على غيره، وإنه من معجزات النبوة، إذ البشر إذا شقّ عن موضع القلب منهم، ثم استخرج قلوبهم ماتوا» ، فهذا فعلا كان في عصر ابن حبان، المتوفى سنة (354) هجرية، لا بل هو إلى عهد قريب جدا.
وتقدّم العلم، والطب، والجراحة، والتخدير، والعمليات الجراحية صارت تجرى في غرف معقمة، وبوسائل مختلفة، وتقنية ماهرة، فأمكن للجراحين اليوم من إجراء مختلف أنواع العلميات الجراحية، في كل موضع من مواضع الجسم، الهدف منها استئصال الداء وطرحه، حيث لم تعد تنفع الوسائل الطبية، حتى أمكن الآن استخراج القلب، وليس فقط معالجته، لا بل استبدال قلب سليم من إنسان مات حديثا، بالقلب التالف، أو حتى قلب صناعي، ثم تخاط طبقات الجسم وتعاد، فلا يموت المريض! وهذا أصبح في استطاعة الإنسان.
أفما استطاعة الإنسان، لا يستطيعه اللَّه الّذي يقول للشيء كُنْ فَيَكُونُ؟.

(3/38)


ذكر مجيء جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصورة التي خلقه اللَّه تعالى عليها
خرج الحافظ أبو نعيم من حديث أيوب بن فرقد عن الأعمش عن عبد اللَّه ابن عبد اللَّه الرازيّ عن سعيد بن جبير عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال ورقة ابن نوفل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا محمد! كيف يأتيك الوحي؟ يعني جبريل عليه السلام؟ فقال: يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ، وباطن قدميه أخضر [ (1) ] .
وفي حديث سليمان: سألت زر بن حبيش عن قول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال زر: قال عبد اللَّه: لقد رأى جبريل له ستمائة جناح.
وفي رواية زرّ عن عبد اللَّه ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [ (2) ] ، قال رأى جبريل له ستمائة جناح.
وفي رواية: سأل زر بن حبيش عن قول اللَّه عز وجل: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [ (3) ] قال: قال عبد اللَّه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت جبريل عليه السلام له ستمائة جناح [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 1/ 222 حديث رقم (169) وقال في سنده «حدثنا عبد اللَّه بن محمد ابن جعفر قال: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن رستة، ومحمد بن نصير قالا: حدثنا سليمان بن داود، قال: حدثنا أيوب بن فرقد ... » .
[ (2) ] الآية: 11/ النجم.
[ (3) ] الآية: 9/ النجم.
[ (4) ] وردت أحاديث هذا الباب بسياقات مختلفة، في بعضها تقديم وتأخير، وفي بعضها زيادة ونقصان، وكلها صحيحة إن شاء اللَّه تعالى، فمنها ما أخرجه (البخاري) في، باب فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى حيث الوتر من القوس، حديث رقم (4856) : حدثنا أبو النعمان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الشيبانيّ قال: سمعت رزّا «عن عبد اللَّه فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى قال: حدّثنا ابن مسعود أنه رأى جبريل له ستمائة جناح» .
هكذا أورده، والمراد بقوله: «عن عبد اللَّه، وهو ابن مسعود أنه قال في تفسير هاتين الآيتين ما سأذكره، ثم استأنف قال: «حدثنا ابن مسعود» وليس المراد أن ابن مسعود حدّث عبد اللَّه كما هو ظاهر السياق، بل عبد اللَّه هو ابن مسعود، وأخرجه في [الحديث الّذي يليه] من وجه آخر عن الشيبانيّ فقال: سألت زرّا عن قوله فذكره. ولا إشكال في سياقه، وقد أخرجه أبو نعيم في (المستخرج) ، من طريق سليمان بن داود الهاشمي، عن عبد الواحد بن زياد، عن الشيبانيّ

(3/39)


ولأبي يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد بن سلمة، حدثنا عاصم عن زر عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت جبريل عند السدرة وله ستمائة جناح ينتشر من ريشه تهاويل الدر والياقوت، قال أبو نعيم: رواه عن عاصم مثله مرفوعا زائدة وحسين بن واقد. ورواه شريك وغيره موقوفا على عبد اللَّه.
وقال أبو وائل عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاني جبريل في خضر معلقا به الدرّ، وزاد عاصم: وله ستمائة جناح [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني وآدم عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن عبد اللَّه وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [ (2) ] قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في صورته عند السدرة له ستمائة جناح، جناح منها سد الأفق تتناثر من أجنحته التهاويل الدر والياقوت ما لا يعلمه إلا اللَّه [ (3) ] .
__________
[ () ] قال: «سألت زر بن حبيش عن قول اللَّه: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فقال: قال عبد اللَّه، قال رسول اللَّه» فذكره. (فتح الباري) : 8/ 784، 785، كتاب التفسير، سورة (53) .
[ (1) ] هذا الحديث أخرجه (البخاري) في كتاب التفسير، باب فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى، الحديث رقم (4857) : حدثنا طلق بن غنام، حدثنا زائدة عن الشيبانيّ قال: «سألت زرّا عن قوله تعالى:
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى قال: أخبرنا عبد اللَّه أنه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى جبريل له ستمائة جناح.
قوله: «أنه محمد» ، الضمير للعبد المذكور في قوله تعالى: إِلى عَبْدِهِ ووقع عند أبي ذر «أن محمدا رأى جبريل» وهذا أوضح في المراد، والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الّذي رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه فأوحى، أي جبريل، إلى عبده، أي عبد اللَّه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأنه يرى أنه الّذي دنا فتدلى هو جبريل، وأنه هو الّذي أوحى إلى محمد. وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الّذي أوحى هو اللَّه، أوحى إلى عبده محمد، ومنهم من قال: إلى جبريل.
قوله: «له ستمائة جناح» : زاد عاصم عن زرّ في هذا الحديث «يتناثر من ريشه التهاويل من الدرّ والياقوت» . أخرجه النسائي وابن مروديه، ولفظ النسائي: «يتناثر منها تهاويل الدر والياقوت» .
(المرجع السابق) . ونحوه في كتاب بدء الخلق، باب (7) حديث رقم (3232) . (المرجع السابق) : 6/ 385.
[ (2) ] الآية: 14/ النجم.
[ (3) ] أخرج البخاري نحوه في كتاب التفسير، باب لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، حديث رقم (4858) : حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، «عن عبد اللَّه ابن مسعود رضي اللَّه عنه لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال: رأى رفرفا أخضر قد

(3/40)


__________
[ () ] سدّ الأفق» .
قوله: «رأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق» ، هذا ظاهره يغاير التفسير السابق أنه رأى جبريل، ولكن يوضح المراد، أخرجه النسائي والحاكم، عن طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: أبصر نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل عليه السّلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» فيجتمع من الحديثين أن الموصوف جبريل، والصفة التي كان عليها.
وقد وقع في رواية محمد بن فضيل عند الإسماعيلي، وفي رواية ابن عيينة عن النسائي، كلاهما عن الشيبانيّ عن زرّ عن عبد اللَّه، أنه رأى جبريل له ستمائة جناح قد سدّ الأفق، والمراد أن الّذي سدّ الأفق الرفرف الّذي فيه جبريل، فنسب جبريل إلى سد الأفق مجازا.
وفي رواية أحمد والترمذي، وصححها من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رأى جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض، وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلة، ويؤيده قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ [الآية 76/ الرحمن] ، وأصل الرفرف ما كان من الديباج، رقيقا حسن الصنعة، ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شيء فعطف وثنى فهو رفرف. ويقال: رفرف الطائر بجناحه إذا بسطهما، وقال بعض الشّراح:
يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته فصارت تشبه الرفرف، كذا قال، والرواية التي أوردتها توضح المراد. (فتح الباري) : 8/ 786، 787.
ومن أحاديث الباب ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب (77) معنى قول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، وهل رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء، حديث رقم 287 (177) : «حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود عن الشعبي، عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على اللَّه الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى ربه فقد أعظم على اللَّه الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطا من السماء، سادّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: أو لم تسمع أن اللَّه يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ أو لم تسمع أن اللَّه يقول: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ؟ قالت: ومن زعم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتم شيئا من كتاب اللَّه فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
؟ قالت:
ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه يقول: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 10- 12.
وأخرج ابن حبان في صحيحه، باب: ذكر رؤية المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل بأجنحته، حديث رقم (6427) أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحيّ، حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن الشيبانيّ، قال:
«سألت زرّ بن حبيش عن هذه الآية: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [18/ النجم] قال:
قال عبد اللَّه: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» . وقال في هامشه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. والشيبانيّ: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان. (الإحسان) : 14/ 336.

(3/41)


ومن طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد اللَّه في قوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في حلتي رفرف قد سد ما بين السماء والأرض [ (1) ] .
ومن حديث قيس بن وهب عن مرة عن عبد اللَّه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً قال:
رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل معلقا رجليه بالسدرة، عليهما الدر كأنه قطر المطر على البقل.
ومن حديث سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن علقمة عن عبد اللَّه وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، قال: جبريل في رفرف خضر قد سد الأفق [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ونحوه في (صحيح ابن حبان) في باب ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم أنه مضادّ للخبر الّذي ذكرناه، حديث رقم (59) : أخبرنا محمد بن صالح بن ذريح بعكبرا، حدثنا مسروق ابن المرزبان، حدثنا ابن أبي زائدة، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد:
«عن ابن مسعود في قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في حلة من ياقوت- وفي رواية غير المؤلف-: في حلة من رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض.
قال أبو حاتم: قد أمر اللَّه تعالى جبريل ليلة الإسراء أن يعلّم محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم ما يجب أن يعلمه كما قال:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يريد به جبريل ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى يريد به جبريل فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى يريد به جبريل فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
بجبريل ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى يريد به ربه بقلبه في ذلك الموضع الشريف، ورأى جبريل في حلة من ياقوت قد ملأ ما بين السماء والأرض على ما في خبر ابن مسعود الّذي ذكرناه. (الإحسان) :
1/ 255- 257.
وأخرجه الإمام أحمد بنحوه فقال: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه، في قوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في حلة من رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض. (مسند أحمد) : 1/ 651، حديث رقم (3732) .
[ (2) ] الحاكم في (المستدرك) : 2/ 509، كتاب التفسير، تفسير سورة النجم، حديث رقم (3746/ 883) : «أخبرنا أبو زكريا العنبري، حدثنا محمد بن عبد السلام، حدثنا إسحاق، أنبأنا يحيى ابن آدم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه في قوله عزّ وجلّ: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى، قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في حلة رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» وقال في آخره: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
و (الفردوس بمأثور الخطاب) : 2/ 256، 257، حديث رقم (3192) عن ابن مسعود «رأيت جبريل واقفا على السدرة له ستمائة جناح تسد أجنحته ما بين المشرق والمغرب.

(3/42)


ومن حديث عثمان، حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي اللَّه عنها قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت جبريل منهبطا قد ملأ ما بين السماء إلى الأرض عليه ثياب سندس معلق به الدر والياقوت [ (1) ] .
ومن حديث مسلمة بن أبي الأشعث عن أبي صالح عن أبي سلمة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لجبريل: وددت أن أراك في صورتك، قال: أتحب ذلك؟ قلت: نعم، قال: موعدك كذا وكذا من الليل في بقيع الغرقد،
فلقيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لموعده، فنشر جناحا من أجنحته فسد أفق السماء حتى ما يرى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من السماء شيئا، وأحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك [ (2) ] .
وللإمام أحمد من حديث أبي بكر بن عياش عن إدريس بن وهب بن منبه عن أبيه وهب عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل أن يراه في صوره، فقال: ادع ربك، فدعا ربه فطلع عليه سواد من قبل المشرق فجعل يرتفع فينتشر، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صعق، فنعشه فمسح البزاق عن فمه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المسند) : 1/ 652، حديث رقم (3740) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا حجاج، حدثنا شريك عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه قال: «رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سدّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما اللَّه به عليم» ،
و1/ 680، حديث رقم (3905) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود: «أنه قال في هذه الآية:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت جبريل عند سدرة المنتهى، عليه ستمائة جناح، ينشر من ريشه التهاويل، الدر والياقوت» .
[ (2) ] (الحبائك في الملائك للسيوطي) : 16.
[ (3) ] (المسند) : 1/ 530، حديث رقم (2959) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن منبه، عن أبيه وهب بن منبه، عن ابن عباس قال:
«سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل أن يراه في صورته؟ فقال: ادع ربك، قال: فدعا ربه، قال: فطلع عليه سواد من قبل المشرق، قال: فجعل يرتفع وينتشر، قال: فلما رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صعق، فأتاه، فنعشه، ومسح البزاق عن شدقيه» .

(3/43)


ولابن حبان من حديث صفوان بن عمرو عن شريح بن عبد اللَّه قال: لما صعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السماء فأوحى اللَّه إلى عبده ما أوحى، خرّ جبريل ساجدا حتى قضى اللَّه إلى عبده ما قضى، ثم رفع رأسه فرأيته في خلقه الّذي خلق عليه، منظوم بالزبرجد، واللؤلؤ والياقوت، فخيّل إليّ أنّ ماء عينيه قد سد الأفق، وكنت لا أراه قبل ذلك إلا على صورة مختلفة، وأكثر ما كنت أراه على صورة دحية الكلبي، وكنت أحيانا لا أراه قبل ذلك إلا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال [ (1) ] .
قال أبو نعيم: والروايات تتسع في ترائي جبريل عليه السلام للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في صور مختلفة، ووجه ذلك: أن يكون لجبريل ضروب من الصور، فكل مرة يتراءى فيها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم يثبت اللَّه قلب رسوله لرؤيته فيها بقوة يجددها اللَّه له، وكل حالة إبقاء اللَّه تعالى رسوله على جبلته، ولا يحدث له فيها قوة، يضعف صلّى اللَّه عليه وسلّم عن رؤيته، فيصعق صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ثبته اللَّه تعالى.
__________
[ (1) ] صفوان بن عمر بن هرم السكسكيّ له في صحيح ابن حبان أحد عشر حديثا لم أجد من بينها هذا الحديث. (الإحسان) : 18/ 156 (فهرس الرواة) .

(3/44)


ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن الحرث بن هشام سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، كيف كان يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول.
قالت عائشة رضي اللَّه عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا.
وخرجه النسائي أيضا، وخرجه البخاري ومسلم من حديث على بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الحرث بن هشام سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف يأتيك الوحي؟ قال: كل ذلك، يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال وهو أشده عليّ، ويتمثل لي الملك أحيانا رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق، وخرجه النسائي عن سفيان عن هشام وقال فيه: وأحيانا يأتيني في مثل صورة الفتى فينبذه إليّ [ (1) ] .
وخرجه مسلم من حديث أبي أسامة ومحمد بن بشر عن هشام ولفظه: أن الحرث بن هشام سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كيف كان يأتيك [ (2) ] الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ عليّ، ثم يفصم عني وقد وعيته، وأحيانا ملك في مثل صورة الرجال، فأعى ما يقول.
__________
[ (1) ] في (خ) «فينبذه مسلم إليّ» وما أثبتناه من (سنن النّسائي) ج 2 ص 147.
[ (2) ] قوله: «كيف يأتيك الوحي» ظاهره أن السؤال عن كيفية الوحي نفسه لا عن كيفية الملك الحامل له، ويدل عليه أول الجواب، لكن آخر الجواب يميل إلى أن المقصود بيان كيفية الملك الحامل، فيقال:
يلزم من كون الملك في صورة الإنسان كون الوحي في صورة مفهوم متبين أول الوهلة، فالنظر إلى هذا اللازم صار بيانا لكيفية الوحي، فلذلك قوبل بصلصلة الجرس، ويحتمل أن المراد السؤال عن كيفية الحامل، أي كيف يأتيك حامل الوحي. وقوله: «في مثل صلصلة الجرس» يأتيني في صوت متدارك لا يدرك في أول الوهلة كصوت الجرس، أي يجيء في صورة وهيئة لها مثل هذا الصوت،

(3/45)


ولمسلم من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: إن كان لينزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الغداة الباردة ثم تفيض جبهته عرقا.
وله من حديث قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد اللَّه عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد وجهه، وفي لفظ: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أنزل عليه الوحي نكس رأسه، ونكس أصحابه رءوسهم، فلما أتلى [ (1) ] عنه رفع رأسه.
وفي رواية لغير مسلم: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أنزل عليه الوحي عرفنا ذلك فيه وغمض عينيه وتربد وجهه، فنزل عليه فأمسكنا عنه، فلما سرى عنه قال:
خذوهن اقتلوهن [ (2) ] .
ولعبد الرزاق من حديث يونس بن يزيد الأشهلي عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي نسمع عنه دويا كدويّ النحل.
__________
[ () ] فنبه بالصوت غير المعهود على أنه يجيء في هيئة غير معهودة، فلذا قابله بقوله: «في مثل صورة الفتى» ، وعلى الوجهين فصلصلة الجرس مثال لصوت الوحي، والصلصلة- بصادين مهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة- صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، والجرس- بفتحتين- الجلجل الّذي يعلق في رءوس الدواب، وجه الشبه هو أنه صوت متدارك لا يدرك في أول الوهلة. وقوله:
«فيفصم» يضرب أي فيقطع عني حامل الوحي الوحي، قوله: «وقد وعيت عنه» أي حفظت عنه، أي أجده في قلبي مكشوفا متبينا بلا التباس ولا إشكال، فوله: «فينبذه» - كيضرب- أي يلقيه إليّ في صوت إنسان. واللَّه تعالى أعلم (سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي) ج 2 ص 146، 147.
[ (1) ] قوله: «أتلى عنه» هكذا هو في معظم نسخ بلادنا، أتلى بهمزة ومثناة فوق ساكنة ولام وياء، ومعناه:
ارتفع الوحي، هكذا فسّره صاحب (التحرير) وغيره، ووقع في بعض النسخ: «أجلى» بالجيم، وفي رواية ابن ماهان «انجلى» ، ومعناها: أزيل عنه وزال عنه، وفي رواية (البخاري) : «انجلى» ، واللَّه أعلم. (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 89.
[ (2) ] في حدّ الزنا.

(3/46)


وخرجه الترمذي من حديث عبد الرزاق بهذا السند ولفظه: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل [ (1) ] ، فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللَّهمّ زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال: أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ (2) ] حتى ختم عشر آيات. قال الترمذي: سمعت إسحاق بن منصور يقول: رواه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن يونس بن سليمان عن يونس بن يزيد عن الزهري هذا الحديث نحوه، ومن سمع من عبد الرزاق فربما قال لهم: إنما تذكرون فيه عن يونس بن يزيد، وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد، ومن ذكر فيه عن يونس بن يزيد فهو أصح، وكذا عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد، وربما لم يذكره وهو عندنا أصح.
وخرجه أيضا عنه ابن حميد، وخرجه الحاكم وقال: الإسناد صحيح.
وفي حديث قصة الإفك قالت عائشة: فو اللَّه ما رام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل الّذي ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سرّي عنه وهو يضحك [ (3) ] .
ولأبي بكر بن أبي شيبة من حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن علقمة ابن وقاص، حدثتني عائشة رضي اللَّه عنها قالت: شخص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بصره إلى السقف، وكان إذا نزل عليه وجد ثقلا، قال اللَّه تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «سمع عليه وجهه كدوي النحل» ، وما أثبتناه من (مسند أحمد) ج 1 ص 34.
[ (2) ] من أول سورة المؤمنون.
[ (3) ] (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) عند تفسيره لسورة النور.
[ (4) ] سورة المزمل الآية/ 5.

(3/47)


وللإمام أحمد من حديث صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد قال: سمعت زيد بن ثابت يقول: كان إذا نزل الوحي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثقل لذلك وتحدر جبينه عرقا كأنه الجمان، وإن كان في البرد.
وله من حديث معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...
وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ (1) ] ، فجاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول اللَّه، إني أحب الجهاد، ولكن بي من الزّمانة [ (2) ] ما ترى، قال زيد: فثقلت فخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم قال: اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ (3) ] .
ولأبي نعيم من حديث ابن لهيعة قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عمرو ابن الوليد عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنه قال: قلت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل تحس بالوحي؟ قال: نعم أسمع صلاصل ثم أسبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض منه.
ولأبي نعيم من حديث عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب قال:
حدثني أبي عن خالد الفلتان بن عاصم قال: كنا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من اللَّه عز وجل.
وله من حديث أبي عون عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي صدع فغلف رأسه بالحناء.
وله لأحمد بن حنبل من حديث سفيان عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: كنت آخذة بزمام ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين نزلت المائدة، فكاد
__________
[ (1) ] سورة النساء الآية/ 95.
[ (2) ] الزّمانة: العاهة (ترتيب القاموس) ج 2 ص 477.
[ (3) ] أخرجه أيضا: أبو نعيم في (دلائل النبوة) ج 1 ص 73.

(3/48)


أن ينكسر عضدها من ثقل المائدة [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة، حدثنا حيي عن عبد اللَّه أن أبا عبد الرحمن الجبليّ حدثه قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو [ (2) ] يقول: أنزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها [ (3) ] .
وللبخاريّ ومسلم من حديث همام قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح قال:
حدثني صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بالجعرانة [ (4) ] وعليه جبة وعليه أثر الخلوق [ (5) ]- أو قال: أثر صفرة- فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: فأنزل اللَّه على النبي الوحي [صلوات اللَّه وسلامه عليهما] [ (6) ] فستر بثوب، [وكان يعلى يقول] [ (7) ] : وددت أن أرى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أنزل [ (8) ] اللَّه عليه الوحي، فقال عمر رضي اللَّه عنه: أيسرك أن ترى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] قال الإمام الحافظ عماد الدين، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشيّ الدمشقيّ في تقدمته لسورة المائدة:
«قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية شيبان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذه بزمام العضباء ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة» .
«وروى ابن مردويه، من حديث صباح بن سهل، عن عاصم الأحول قال: حدثتني أم عمرو عن عمها، أنه كان في مسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه تعالى عليه وآله وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها» .
«وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني حييّ بن عبد اللَّه، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: أنزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. تفرد به أحمد» . (تفسير القرآن العظيم لابن كثير) : 2/ 3.
[ (2) ] في (خ) : «عمر» ، والتصويب من المرجع السابق والمرجع التالي.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 368، مسند عبد اللَّه بن عمرو، حديث رقم (6605) .
[ (4) ] الجعرانة: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، والعراقيون يشدّدون راءها ويكسرون عينها، أما الحجازيون، فإنّهم يسكنون عينها ويخفّفون راءها. (معجم ما استعجم) 2/ 384.
[ (5) ] الخلوق: بفتح الخاء المعجمة، نوع من الطيب مركب فيه زعفران.
[ (6) ] زيادة في (خ) .
[ (7) ] كذا في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 225، حديث رقم (176) .
[ (8) ] في (المرجع السابق) : «وقد نزل» .

(3/49)


وقد أنزل [ (1) ] عليه اللَّه الوحي؟ قلت: نعم، فرفع عمر طرف الثوب، فنظرت إليه له [ (2) ] غطيط، قال: وأحسب [ (3) ] قال: كغطيط البكر، قال: فلما سرى عنه قال: أين السائل عن العمرة؟ اخلع الجبة واغسل [ (4) ] أثر الخلوق وأنق [ (5) ] الصفرة، واصنع في عمرتك كما [ (6) ] تصنع في حجك [ (7) ] وقال مسلم: اغسل عنك أثر الصفرة أو قال: أثر الخلوق، واخلع عنك جبتك، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك [ (8) ] . وخرجاه من طرق مطولا ومختصرا [ (9) ] .
__________
[ (1) ] في (المرجع السابق) : «وقد نزل» .
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «وله» .
[ (3) ] في (المرجع السابق) : «قال همام: أحسبه» .
[ (4) ] في (المرجع السابق) : «واغسل عنك» .
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «أو الصفرة» .
[ (6) ] في (المرجع السابق) : «ما صنعت» .
[ (7) ]
الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب العمرة، باب (10) ما يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج، حديث رقم (1789) ، ورواه بسياقة أخرى في كتاب الحج، باب (17) غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب، حديث رقم (1536) : قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء أن صفوان بن يعلي أخبره «أن يعلى قال لعمر رضي اللَّه عنه: أرني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين يوحي إليه. قال فبينما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجعرانة- ومعه نفر من أصحابه- جاءه رجل فقال: يا رسول اللَّه، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمّخ بطيب؟ فسكت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر رضي اللَّه عنه إلى يعلى، فجاء يعلى- وعلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثوب قد أظلّ به- فأدخل رأسه، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محمرّ الوجه وهو يغط، ثم سرّي عنه فقال: أين الّذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال: اغسل الطيب الّذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّتك» .
قلت لعطاء: أراد الإنقاء حسن أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم» .
قوله: «يغطّ» - بفتح أوله وكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة- أي ينفخ، والغطيط: صوت النفس المتردد من النائم أو المغمى، وسبب ذلك شدة ثقل الوحي، وكان سبب إدخال يعلى رأسه عليه في تلك الحال، أنه كان يحب لو رآه في حالة نزول الوحي. (فتح الباري) : 3/ 503.
[ (8) ] (صحيح مسلم) : كتاب الحج، باب (1) ، ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه، حديث رقم (6- (1180) .
[ (9) ] فمما أخرجه (البخاري) : كتاب جزاء الصيد، باب (19) ، إذا أحرم جاهلا وعليه قميص، حديث رقم (1847) ، وفي كتاب فضائل القرآن، باب (2) ، نزل القرآن بلسان قريش والعرب، قُرْآناً عَرَبِيًّا بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، حديث رقم (4985) ، وفي كتاب المغازي، باب (57) ، غزوة الطائف في شوال سنة ثمان- قال موسى بن عقبة- حديث رقم (4329) .
ومما أخرجه (مسلم) : كتاب الحج، باب (1) ، ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه، حديث رقم (6- (1180) ، (7) ، (8) ، (9) ، (10) ، وقال فيه:
«خمّره عمر بالثوب» ، أي غطّاه، وأما إدخال يعلى رأسه، ورؤيته النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تلك الحال، وإذن عمر له في ذلك، فكله محمول على أنهم علموا من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه لا يكره الاطلاع عليه في ذلك الوقت وتلك الحال، لأن فيه تقوية الإيمان بمشاهدة حالة الوحي الكريم، واللَّه تعالى أعلم.

(3/50)


وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الزناد عن خارجة بن زيد قال: قال زيد ابن ثابت: إني قاعد إلى جنب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ أوحي إليه، قال: وغشيته السكينة [و] [ (1) ] وقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة، [قال زيد] [ (1) ] :
فلا واللَّه ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم سرى عنه فقال: أكتب يا زيد [ (2) ] .
وروى الحسين بن إسماعيل المحاملي من حديث أبي الزياد عن خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت قال: كان إذا أنزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة، وإذا أنزل عليه السورة اللينة أخذ [ (3) ] به من ذلك على قدر لينها.
ولابن سعد من حديث صالح بن محمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي أروى الدوسيّ قال: رأيت الوحي ينزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنه على راحلته فترغو وتقبل يديها حتى أظن أن ذراعها تنفصم فربما بركت وربما قامت موئدة يديها حتى يسرى عنه مثل الوحي، وإنه ليتحدر مثل الجمان [ (4) ] .
وخرج الحاكم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن عبد اللَّه بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أوحي إليه لم يستطع أحد منا يرفع طرف إليه حتى ينقضي الوحي. قال هذا حديث صحيح
__________
[ (1) ] زيادة من (مسند أحمد) .
[ (2) ]
(مسند أحمد) : 6/ 245، حديث رقم (21156) ، وتمام لفظه: «فأخذت كتفا، فقال:
أكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ الآية كلها إلى قوله: أَجْراً عَظِيماً، فكتبت ذلك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- فقام حين سمع فضيلة المجاهدين، قال: يا رسول اللَّه، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى وأشباه ذلك؟ قال زيد:
فو اللَّه ما مضى كلامه، أو ما هو إلا أن قضي كلامه، غشيت النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم السكينة فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ثم سرّى عنه. فقال: اقرأ، فقرأت عليه:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
قال زيد: فألحقتها، فو اللَّه لكأنّي انظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف» .
[ (3) ] في (خ) : «أخذا» .
[ (4) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 197، باب ذكر شدة نزول الوحي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.

(3/51)


على شرط مسلم [ (1) ] . [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وله من حديث معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فلم تستطع أن تتحرك، وتلت قول اللَّه عزّ وجلّ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال: هذا حديث صحيح الإسناد [ (3) ] ، [ولم يخرجاه] [ (2) ] واللَّه الموفق بمنه وكرمه وحسن توفيقه.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 242، حديث رقم (2880/ 9) .
[ (2) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 548، حديث رقم (3865/ 1002) .

(3/52)


ذكر تعليم جبريل عليه السلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوضوء والصلاة
قال أبو عمر بن عبد اللَّه: ومعلوم أن الجنابة لم يفترض الغسل منها قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم افترضت عليه الصلاة بمكة والغسل من الجنابة، وأنه لم يصل قط بمكة إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة ومثل وضوئنا اليوم، وهذا لا يجهله عالم ولا يدفعه إلا معاند.
وخرج الإمام أحمد من حديث [ابن] لهيعة عن عقيل عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن جبريل أتاه أول ما أوحي إليه فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة ماء فنضح بها فرجة [ (1) ] .
وروى الواقدي من حديث معمر عن الزهري وقتادة والكلبي قالوا: علم جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوضوء والصلاة، واقرأه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (2) ] ، فأتى خديجة رضي اللَّه عنها فأخبرها بما أكرمه اللَّه عز وجل به، وعلمها الوضوء فصلت معه، وكانت أول خلق صلى معه [ (3) ] .
ومن حديث أبي معشر عن محمد بن قيس قال: فحص جبريل بعقبه الأرض فنبع ماء، فعلم جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوضوء، فمضمض ثم استنشق وغسل وجهه وذراعيه، ومسح رأسه وغسل رجليه، ثم نضح تحت إزاره ثم صلّى ركعتين، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسرورا فجاء إلى خديجة رضي اللَّه عنها فحدثها وأراها ما أراه جبريل، ثم صلت معه ركعتين [ (3) ] .
وقال الواقدي: وكان علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة رضي اللَّه عنهما يلزمان
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 5/ 165- 166، حديث رقم (17026) .
[ (2) ] أول سورة العلق.
[ (3) ] سبق الإشارة إليهم في سياق الغزوات.

(3/53)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان يخرج إلى الكعبة أول النهار ويصلي صلاة الضحى- وكانت تلك صلاة لا تنكرها قريش- وكان إذا صلّى في سائر اليوم بعد ذلك قعد عليّ أو زيد يرصدانه [ (1) ] .
وروى عن سلمة بن [] [ (2) ] عن عميرة بنت عبيد اللَّه بن كعب بن مالك عن بنت أبي بحراة قالت: كانت قريش لا تنكر صلاة الضحى إنما تنكر غيرها، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فيصلون فرادى ومثنى، قال الواقدي: كانوا يصلون الضحى والعصر، ثم نزلت الصلوات الخمس قبل الهجرة، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم نزل تمامها بالمدينة للمقيم، وبقيت صلاة المسافر ركعتين.
وقال مقاتل بن سليمان: فرض اللَّه تعالى على المسلم في أول الإسلام صلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالضحى، ثم فرض الخمس في ليلة المعراج، وقد جاء أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلّى عند زوال الشمس في أول النبوة، ولما نزلت سورة المزمل بمكة كان قيام الليل فرضا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين، فشق ذلك عليه وعليهم، فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [ (3) ] .
وقال عطاء بن السائب ومقاتل بن سليمان: نزل قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [ (3) ] بالمدينة، والأول أصح، وقيل: نسخ قيام الليل في حقه بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [ (4) ] ، ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس، وقيل: نسخ عن الأمة وبقي فرضه عليه، وقيل:
إنما كان مفروضا عليه دونهم، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنه: كان بين نزول أول المزمل وآخرها سنة.
__________
[ (1) ] سبق الإشارة إليهم في سياق الغزوات.
[ (2) ] ما بين القوسين في (خ) كلمة غير واضحة، لم أجد لها توجيها فيمن اسمه «سلمة» ، فيما بين يدي من كتب الرجال.
[ (3) ] سورة المزمل، آية/ 20.
[ (4) ] سورة الإسراء، آية/ 79.

(3/54)


وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السّير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة في حين الإسراء حين عرج به إلى السماء، ولكنهم اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروي عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيدت في صلاة الحضر، فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين، وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد ابن إسحاق.
وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنها فرضت أربعا وفي السفر ركعتين، وقال نافع بن جبير: أنها فرضت في أول ما فرضت أربعا إلا المغرب، فإنّها فرضت ثلاثا، والصحيح ركعتين، وكذلك قال الحسن البصري وهو قول ابن جريج.
وقد روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث القشيري وغيره ما يوافق ذلك، ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الزوال عند الإسراء، فعلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلاة ومواقيتها وهيئتها.
وقال إسحاق الحربي: أول ما فرضت الصلاة بمكة، ركعتان في أول النهار وركعتان في آخره، وذكر حديث عائشة قالت: فرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلاة ركعتين ركعتين ثم زاد فيها في الحضر، هكذا حدث ابن الحربي عن أحمد بن الحجاج عن ابن المبارك عن ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت:
فرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلاة ركعتين ركعتين. الحديث، وليس في حديث عائشة هذا دليل على صحة ما ذهب إليه من قال: أن الصلاة فرضت ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره، وليس يوجد هذا في أثر صحيح، بل في حديث عائشة دليل على أن الصلاة التي فرضت ركعتين ركعتين في الصلوات الخمس ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر، لأن الإشارة بالألف واللام إلى الصلاة في حديث عائشة هذا هي إشارة إلى الصلاة المعهودة، وهذا هو الظاهر المعروف في الكلام، وقد أجمع العلماء أن الصلوات الخمس إنما فرضت في الإسراء، والظاهر من حديث عائشة أنها أرادت تلك الصلاة، واللَّه أعلم.

(3/55)


وأورد من طريق النسائي حديث الوليد بن مسلم قال: أخبرني أبو عمر يعني الأوزاعي أنه سأل الزهري عن صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة قبل الهجرة إلى المدينة فقال: أخبرني عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: فرض اللَّه الصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أول ما فرضها ركعتين ركعتين ثم أتمت في الحضر أربعا، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى [ (1) ] ، فهذا ومثله يدلك على أنها الصلاة المعهودة، وهي الخمس المفترضة في الإسراء به لا صلاتان، ومن ادّعى غير ذلك كان عليه الدليل من كتاب أو سنة، ولا سبيل له إليه.
وقال جماعة من أهل العلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن عليه صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أمر به من صلاة الليل على نحو قيام الليل من رمضان من غير توقيت ولا تحديد، لا بركعات معلومات ولا بوقت محصورة، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وقامه المسلمون معه نحوا من حول حتى شق عليهم ذلك فأنزل اللَّه التوبة عنهم والتخفيف في ذلك، ونسخه بقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [ (2) ] ، فنسخ آخر السورة أولها، فضلا منه ورحمة، فلم تبق في الصلاة فريضة إلا الخمس، ألا ترى إلى
حديث طلحة بن عبيد اللَّه في الأعرابي النجدي إذا سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عما عليه من الصلاة فقال: الصلوات الخمس، فقال: هل على غيرها؟ فقال: لا.
ذكر وكيع عن مسعر عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: لما نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل [ (3) ] آخرها، وكان بين أولها وآخرها حول.
وعن عائشة مثله بمعناه وقالت: فجعل قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وعن الحسن مثله قال: فنزلت الرخصة بعد حول.
قال كاتبه: حديث عائشة خرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت:
__________
[ (1) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 99، حديث رقم (44) .
[ (2) ] سورة المزمل، آية/ 20.
[ (3) ] في (خ) : «نزلت» .

(3/56)


فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
وقال البخاري: فرض اللَّه الصلاة حين فرضها ... الحديث مثله، ذكره في كتاب الصلاة، وخرجه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتان، فأقرت في صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر ... الحديث، ذكره البخاري في أبواب تقصير الصلاة [ (1) ] .
وخرجه مسلم من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: فرض اللَّه الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 724، حديث رقم (1090) .
[ (2) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) : 5/ 201، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (2) من أحاديث الباب.
اختلف العلماء في القصر في السفر، فقال الشافعيّ ومالك بن أنس، وأكثر العلماء: يجوز القصر والإتمام، والقصر أفضل، ولنا قول: أن الإتمام أفضل، ووجه أنهما سواء، والصحيح المشهور أن القصر أفضل.
وقال أبو حنيفة وكثيرون: القصر واجب ولا يجوز الإتمام، ويحتجون بهذا الحديث، وبأن أكثر فعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه كان القصر.
واحتج الشافعيّ وموافقوه بالأحاديث المشهورة في صحيح مسلم وغيره، أن الصحابة رضي اللَّه عنهم كانوا يسافرون مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمنهم القاصر، ومنهم المتمم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض، وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة وغيرها، وهو ظاهر قول اللَّه عزّ وجلّ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ، وهذا يقتضي رفع الجناح والإباحة.
وأما حديث: فرضت الصلاة ركعتين، فمعناه فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار، وثبتت دلائل جواز الإتمام، فوجب المصير إليها، والجمع بين دلائل الشرع. (المرجع السابق) : 201- 202.
ورواية البخاري: عائشة رضي اللَّه عنها: «فرض اللَّه الصلاة- حين فرضها- ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى» ، وفي رواية، قالت: «فرض اللَّه الصلاة- حين فرضها- ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» .
وفي أخرى، قالت: «فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى. قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟

(3/57)


وخرجه البخاري من حديث يزيد بن ذريع، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم هاجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الأولى، تابعه عبد الرزاق عن معمر، ذكره البخاري في كتاب الهجرة [ (1) ] ، وأما حديث ابن عباس فخرجه النسائي [ (2) ] من حديث أبي عوانة عن بكير الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال:
فرضت الصلاة على لسان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، قال ابن عبد البر: انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما انفرد به.
وخرج ابن أبي شيبة من حديث عبيدة بن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فلما أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب.
قال ابن عبد البر: قول الشعبي هذا أصله حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وقد يمكن أن يأخذه عن الأسود عن مسروق عن عائشة، فأكثر ما عنده عن عائشة هو عنهما.
__________
[ () ] قال: تأولت كما تأول عثمان» .
أخرجه البخاري ومسلم. وأخرج الرواية الثانية الموطأ وأبو داود، وأخرج الثانية والثالثة النسائي رواه البخاري في الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، وفي تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه، وفي فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه، ومسلم في صلاة المسافرين باب صلاة المسافرين وقصرها، والموطأ في قصر الصلاة في السفر، وأبو داود في الصلاة، باب صلاة المسافر، والنسائي في الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة- ر: (جامع الأصول في أحاديث الرسول) : 5/ 184- 185، حديث رقم (3249) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 341، كتاب مناقب الأنصار، باب التاريخ، من أين أرّخوا التاريخ، حديث رقم (3935) ، وقال فيه: «فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي» ، أي بمكة، وقوله:
«تركت» أي على ما كانت عليه من عدم وجوب الزائد، بخلاف صلاة الحضر، فإنّها زيدت في ثلاث منها ركعتان، فالمعنى: أقرت صلاة السفر على جواز الإتمام، وإن كان الأحب القصر.
[ (2) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 99، حديث رقم (442) ، وقال عنه: «صحيح» ، و (صحيح سنن ابن ماجة) : 1/ 176، حديث رقم (1068) ، (صحيح أبي داود) : 1/ 227، حديث رقم (1089) : عن أنس بن مالك، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة إلى مكة، فكان يصلى ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، فقلنا: هل أقمتم بها شيئا؟ قال: أقمنا عشرا. ذكر في باب متى يتم المسافر.

(3/58)


وروى يونس بن بكير عن سالم بن أبي المهاجر قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى ثم صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعا فصارت سنة، وأقرت الركعتان للمسافر وهي تمام. قال ابن عبد البر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله:
فصارت سنة قول نكر، وكذلك استثنى الشعبي المغرب وحدها، ولم يذكر الصبح قول لا معنى له، ومن قال بهذا من أهل السير قال: إن الصلاة أتمت بالمدينة بعد الهجرة بشهر وأربعة أيام.

(3/59)


وأمّا إقامة جبريل عليه السّلام أوقات الصّلاة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنّه أمّه فيها
فخرج البخاري ومسلم من حديث مالك عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخّر الصلاة يوما فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخّر الصلاة يوما وهو في [الكوفة] [ (1) ] فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال: ما هذا يا مغيرة؟! أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم صلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم صلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] ، ثم قال بهذا أمرت، فقال عمر [ (3) ] لعروة: انظر ما تحدثت به يا عروة، أو أن جبريل هو الّذي أقام لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقت الصلاة؟ فقال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه، قال [ (4) ] عروة: ولقد حدثتني عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [أنه] كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر [ (5) ] .
وأخرجاه والنسائي من حديث الليث بن سعد عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخّر الصلاة شيئا، فقال له عروة: أما أن جبريل قد نزل فصلى أمام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة، فقال: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا سلمة مسعود يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: نزل جبريل فأمني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ويحسب بأصابعه خمس صلوات.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي صحيح البخاري: بدونها، وفي رواية: «وهو بالعراق» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي صحيح البخاري: «ثم صلّى فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» [خمس مرات] .
[ (3) ] يعني ابن عبد العزيز.
[ (4) ] بداية حديث آخر في البخاري، على ما سيأتي شرحه ...
[ (5) ] فتح الباري 2/ 4- 8.
قوله: «أخّر الصلاة يوما» : وللبخاريّ في بدء الخلق من طريق الليث عن ابن شهاب بيان الصلاة المذكور، ولفظه: «أخّر العصر شيئا» . قال ابن عبد البر: ظاهر سياقه أنه فعل ذلك يوما ما، لا أن ذلك كان عادة له وإن كان أهل بيته معروفين بذلك، وكذا في نسخة الصغاني، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب: «أخّر الصلاة مرة» ، يعني العصر.
وللطبراني من طريق أبي بكر بن حزم، أن عروة حدّث عمر بن عبد العزيز- وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك- وكان ذلك زمان يؤخرون فيه الصلاة، يعني بني أمية. قال ابن عبد البر: المراد أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب، لا أنه أخرها حتى غربت الشمس.

(3/60)


__________
[ () ] ويؤيده سياق رواية الليث المتقدمة. وأما ما رواه الطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أسامة بن زيد الليثي، عن ابن شهاب في هذا الحديث، قال: «دعا المؤذن لصلاة العصر فأمسي عمر بن عبد العزيز قبل أن يصليها» ، فمحمول على أنه قارب المساء لا أنه دخل فيه، وقد رجع عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فروى الأوزاعي عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز- يعني في خلافته- كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل.
قوله: «أن المغيرة بن شعبة أخّر الصلاة يوما» ، بين عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج عن ابن شهاب أن الصلاة المذكورة العصر أيضا، ولفظه: «أمسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر.
قوله: «وهو بالعراق» ، في الموطأ، رواية القعنبي وغيره عن مالك «وهو بالكوفة» ، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي، والكوفة من جملة العراق، فالتعبير بها أخصّ من التعبير بالعراق، وكان المغيرة إذا ذاك أميرا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان.
قوله: «ما هذا» ؟ الأكثر في الاستعمال في مخاطبة الحاضر: «ألست» ، وفي مخاطبة الغائب:
«أليس» .
قوله: «قد علمت» ، قال عياض: يدل ظاهره على علم المغيرة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الظن من أبي مسعود لعلمه بصحبة المغيرة. قلت: ويؤيد الأول رواية شعيب عن ابن شهاب عند المصنف في غزوة بدر بلفظ «فقال لقد علمت» بغير أداة استفهام، ونحوه لعبد الرزاق عن معمر وابن جريج جميعا.
قوله: «إن جبريل نزل» ، بين ابن إسحاق في المغازي، أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، قال ابن إسحاق: «حدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير» ، وقال عبد الرزاق: «عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الليلة التي أسري به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سمّيت «الأولى» أي صلاة الظهر، فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلّى به جبريل، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس» ، فذكر الحديث، وفيه ردّ على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحقّ أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قوله: «نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» ، قال عياض: ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن المنصوص في غيره أن جبريل أمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيحمل قوله: «صلّى فصلّى» ، على أن جبريل كان كلما فعل جزءا من الصلاة تابعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفعله. وبهذا جزم النووي.
وقال غيره: الفاء بمعنى الواو، واعترض بأنه يلزم أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل، على ما يقتضيه مطلق الجمع، وأجيب بمراعاة الحيثية وهي التبين، فكان لأجل ذلك يتراخى عنه، وقيل: الفاء للسببية كقوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. وفي رواية الليث عند المصنف وغيره: «نزل جبريل فأمّني فصليت معه» ، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر: «نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى الناس معه» ، وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة، وإنما دعاهم إلى الصلاة بقوله: «الصلاة جامعة» ، لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ.
واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب به عن قصة

(3/61)


__________
[ () ] أبي بكر في صلاته خلف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلّغا فقط، كما سيأتي تقريره في أبواب الإمامة.
واستدلوا به أيضا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفّل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس، قاله ابن العربيّ وغيره.
وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة كانت واجبة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ، وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة، وأجاب باحتمال أن الوجوب عليه كان معلقا بالبيان، فلن يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة.
قال: وأيضا لا نسلم أن جبريل كان متنفلا بل كانت تلك الصلاة- واجبة علي لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض بفرض خلف مفترض بفرض آخر.
قوله: «بهذا أمرت» ، بفتح المثناة على المشهور، والمعنى هذا الّذي أمرت به أن تصليه كل يوم وليلة، وروي بالضم، أي هذا الّذي أمرت بتبليغه لك.
قوله: «كذلك كان بشير» ، هو بفتح الموحّدة، بعدها معجمة بوزن فعيل، وهو تابعي جليل، ذكر في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورآه. قال ابن عبد البر: هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء، لأن ابن شهاب لم يقل: حضرت مراجعة عروة لعمر، وعروة لم يقل: حدثني بشير، لكن الاعتبار عند الجمهور بثبوت اللقاء والمجالسة، لا بالصيغ.
وقال الكرماني: اعلم أن الحديث بهذا الطريق ليس متصل الإسناد، إذ لم يقل أبو مسعود:
«شاهدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» ، ولا قال: «قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» . قلت: هذا لا يسمى منقطعا اصطلاحا، وإنما هو مرسل صحابي لأنه لم يدرك القصة، فاحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو بلغه عنه بتليغ من شاهده أو سمعه كصحابي آخر. على أن رواية الليث عند المصنف تزيل الإشكال كله، ولفظه: «فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول» ، فذكر الحديث.
وكذا سياق ابن شهاب، وليس فيه التصريح بسماعه له من عروة، وابن شهاب قد جرّب عليه التدليس، لكن وقع في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب قال: «كنا مع عمر بن عبد العزيز» ، فذكره. وفي رواية شعيب عن الزهري: «سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز» ، الحديث.
قال القرطبي: قول عروة إن جبريل نزل ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبد العزيز إذ لم يعين له الأوقات. قال: وغاية ما يتوهم عليه أن نبّهه وذكّره بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات.
قال: وفيه بعد، لإنكار عمر على عروة حيث قال له: «اعلم ما تحدث يا عروة» . قال: وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة جبريل. قال الحافظ ابن حجر: لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة من جهة العمل المستمر، لكن لم يكن يعرف أن أصله لم يكن بتبيين جبريل بالفعل، فلهذا استثبت فيه، وكأنه كان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا يحمل عمل المغيرة وغيره من الصحابة، ولم أقف في شيء من الروايات على جواب المغيرة لأبي مسعود، والظاهر أنه رجع إليه واللَّه أعلم ...

(3/62)


__________
[ () ] وأما ما زاده عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري في هذه القصة قال: فلم يزل عمر يعلم الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا، رواه أبو الشيخ في كتاب (المواقيت) له من طريق الوليد عن الأوزاعي عن الزهري قال: «ما زال عمر بن عبد العزيز يتعلم مواقيت الصلاة حتى مات» . ومن طريق إسماعيل ابن حكيم «أن عمر بن عبد العزيز جعل ساعات ينقضين مع غروب الشمس» زاد من طريق ابن إسحاق عن الزهري «فما أخّرها حتى مات» . فكله يدل على أن عمر لم يكن يحتاط في الأوقات كثير احتياط إلا بعد أن حدثه عروة بالحديث المذكور.
وقد نبّه الحافظ ابن حجر على أنه قد ورد في هذه القصة من وجه آخر عن الزهري بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يرفع الإشكال، ويوضح توجيه احتجاج عروة به، فروى أبو داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق ابن وهب، والطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب، كلاهما عن أسامة بن زيد، عن الزهري هذا الحديث بإسناده، وزاد في آخره: «قال أبو مسعود: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الظهر حين تزول الشمس» فذكر الحديث.
وذكر أبو داود أن أسامة بن زيد تفرد بتفسير الأوقات فيه، وأن أصحاب الزهري لم يذكروا ذلك.
قال: وكذا رواه هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة، لم يذكروا تفسيرا.
ورواية هشام أخرجها سعيد بن منصور في سننه، ورواية حبيب أخرجها الحارث بن أبي أسامة في مسندة. وقد وجدت ما يعضد رواية أسامة ويزيد عليها، أن البيان من فعل جبريل، وذلك فيما رواه الباغندي في (مسند عمر بن عبد العزيز) ، والبيهقي في (السنن الكبرى) من طريق يحيى ابن سعيد الأنصاري، عن أبي بكر بن حزم أنه بلغه عن أبي مسعود، فذكره منقطعا.
لكن رواه الطبراني من وجه آخر عن أبي بكر عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة، ووضح أن له أصلا، وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصارا، وبذلك جزم ابن عبد البر، وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة المذكورة، فلا توصف والحالة هذه بالشذوذ. وفي هذا الحديث من الفوائد:
[1] دخول العلماء على الأمراء.
[2] إنكارهم عليهم ما يخالف السنة.
[3] استثبات العالم فيما يستقر به السماع.
[4] الرجوع عند التنازع إلى السنة.
[5] فيه فضيلة عمر بن عبد العزيز.
[6] فيه فضيلة المبادرة بالصلاة في الوقت الفاضل.
[7] قبول خبر الواحد الثبت.
[8] استدل به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل دون المنقطع، لأن عروة أجاب عن استفهام عمر له لما أن أرسل الحديث بذكر من حدّثه به فرجع إليه، فكأنما عمر قال له: تأمل ما تقول، فلعله بلغك عن غير ثبت. فكأن عروة قال له: بل قد سمعته ممن قد سمع صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والصاحب قد سمعه من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[9] واستدل به عياض على جواز الاحتجاج بمرسل الثقة، كصنيع عروة حين احتج على عمر قال:
وإنما راجعه عمر لتثبته فيه، لا لكونه لم يرض به مرسلا. كذلك قال، وظاهر السياق يشهد لما قال ابن بطال. وقال ابن بطال أيضا: ...

(3/63)


__________
[ () ] [10] في هذا الحديث دليل على ضعف الحديث الوارد في أن جبريل أمّ بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في يومين لوقتين مختلفين لكل صلاة، قال: لأنه لو كان صحيحا لم ينكر عروة على عمر صلاته في آخر الوقت محتجا بصلاة جبريل، مع أن جبريل قد صلّى في اليوم الثاني في آخر الوقت وقال: «الوقت ما بين هذين» .
وأجيب باحتمال أن تكون صلاة عمر كانت خرجت عن وقت الاختيار وهو مصير ظل الشيء مثليه، لا عن وقت الجواز وهو مغيب الشمس، فيتجه إنكار عروة، ولا يلزم منه ضعف الحديث. أو يكون عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو الصلاة في أول الوقت، ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضا.
وقد روى سعيد بن منصور من طريق طلق بن حبيب مرسلا قال: «إن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله» . ورواه أيضا عن ابن عمر من قوله، ويؤيد ذلك احتجاج عروة بحديث عائشة في كونه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، وهي الصلاة التي وقع الإنكار بسببها، وبذلك تظهر مناسبة ذكره لحديث عائشة بعد حديث أبي مسعود، لأن حديث عائشة يشعر بمواظبته على صلاة العصر في أول الوقت، وحديث أبي مسعود يشعر بأن أصل بيان الأوقات كان بتعليم جبريل. (فتح الباري) : 2/ 3- 8، كتاب مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، حديث رقم (521) ،
وذكر البخاري نحوا منه في كتاب بدء الخلق، حديث رقم (3221) : «أما إن جبريل قد نزل فصلّى أمام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر: اعلم ما تقول يا عروة، قال: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: نزل جبريل فأمني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات.
وذكره البخاري في كتاب المغازي (حديث رقم 4007) : «سمعت عروة بن الزبير يحدّث عمر ابن عبد العزيز في إمارته: أخّر المغيرة بن شعبة العصر وهو أمير الكوفة، فدخل أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ جد زيد بن حسن شهد بدرا فقال: لقد علمت نزل جبريل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمس صلوات ثم قال: هكذا أمرت، ذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه» .
ورواه مسلم في المساجد باب استحباب التبكير بالعصر، والموطأ 1/ 8- 9 في وقت الصلاة، وأبو داود في الصلاة، باب في وقت صلاة العصر، والنسائي في المواقيت، باب تعجيل العصر.
وأما قول عروة: «ولقد حدثتني عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر» ، فهو الحديث الّذي ذكره البخاري برقم (522) في كتاب مواقيت الصلاة بعد الحديث السابق شرحه وتخريجه، وقد ذكر البخاري نحوا منه في باب وقت العصر من كتاب مواقيت الصلاة، الأحاديث أرقام: (544) ، (545) ، (546) ، بسياقات متقاربة مفادها أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: «كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي، لم يظهر الفيء بعد» . قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أن أنس بن عياض- وهو أبو ضمرة الليثي- وأبا أسامة رويا الحديث عن هشام- وهو ابن عروة بن الزبير- عن أبيه عن عائشة، وزاد أبو أسامة التقييد بقعر الحجرة، وهو أوضح في تعجيل العصر من الرواية المطلقة، وقد وصل الإسماعيلي طريق أبي أسامة في مستخرجه، لكن بلفظ «والشمس واقعة في حجرتي، وعرف بذلك أن الضمير في قوله:

(3/64)


وقال البخاري والنسائي [ (1) ] : أخر العصر شيئا، ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق في ذكر الملائكة [ (2) ] ، وخرجه في كتاب المغازي من حديث شعيب عن الزهري: سمعت عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز في إمارته: أخّر المغيرة ابن شعبة العصر وهو أمير الكوفة، فدخل أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري جد زيد بن حسن- شهد بدرا- فقال: لقد علمت نزل جبريل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمس صلوات ثم قال هكذا أمرت، كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه. ذكره في الباب الّذي بعد باب شهود الملائكة بدرا [ (3) ] .
وخرجه قاسم بن أصبغ من حديث سفيان قال: حدثنا الزهري قال: أخّر عمر ابن عبد العزيز يوما الصلاة فقال له عروة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: نزل جبريل فأمّني فصليت معه، ثم نزل فأمني فصليت معه، ثم نزل فأمني فصليت معه، حتى عد الصلوات الخمس فقال له عمر بن عبد العزيز: اتّق اللَّه يا عروة وانظر ما تقول:
فقال عروة: أخبرنيه بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
قال الحافظ أبو عمر بن عبد [البر] [ (5) ] : وظاهر مساقه في رواية مالك تدل على الانقطاع لقوله: أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما ودخل عليه عروة، ولم يذكر فيه سماعا لابن هشام من شهاب من عروة، ولا سماعا لعروة من بشير بن أبي
__________
[ () ] «حجرتها» لعائشة، وفيه نوع التفات، وإسناد أبي ضمرة كلهم مدنيون، والمراد بالحجرة- وهي بضم المهملة وسكون الجيم- البيت، والمراد بالشمس ضوؤها، وقوله في رواية الزهري: «والشمس في حجرتها» ، أي باقية، وقوله: «لم يظهر الفيء» ، أي في الموضع الّذي كانت الشمس فيه، ومن طريق مالك عن الزهري بلفظ: «والشمس في حجرتها قبل أن تظهر» ، أي ترتفع، فهذا الظهور غير ذلك الظهور، ومحصله أن المراد بظهور الشمس خروجها من الحجرة، وبظهور الفيء انبساطه في الحجرة، وليس بين الروايتين اختلاف، لأن انبساط الفيء لا يكون إلا بعد خروج الشمس. (فتح الباري) : 2/ 31- 32، كتاب مواقيت الصلاة.
[ (1) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 108، كتاب المواقيت، باب إمامة جبريل عليه السلام، للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم 480.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 375- 376، كتاب بدء الخلق، ذكر الملائكة، حديث رقم (3221) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 402- 403، كتاب المغازي، باب رقم (12) ، حديث رقم (4007) .
[ (4) ] سبق شرحه وتخريجه.
[ (5) ] في (خ) : «عبد العزيز» .

(3/65)


مسعود، وهذه اللفظة- أعني أن عند جماعة من [أهل] [ (1) ] العلم بالحديث- محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع واللقاء، ومنهم من لا يلتفت إليها، ويحمل الأمر على المعروف من مجالسة بعضهم بعضا، ومشاهدة بعضهم لبعض، وأخذهم بعضهم من بعض، فإن كان ذلك معروفا لم يسأل عن هذا اللفظة، وكان الحديث عنده على الاتصال، وهذا يشبه أن يكون مذهب مالك- رحمه اللَّه- لأنه في موطئه لا يفرق بين شيء من ذلك، وهذا الحديث متصل عند أهل العلم مسند صحيح لوجوه: منها أن مجالسة بعض المذكورين فيه لبعض مشهورة، ومنها أن هذه القصة قد صح شهود ابن شهاب لما جرى فيها بين عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير بالمدينة، وذلك في أيام إمارة عمر عليها لعبد الملك وابنه الوليد، وهذا محفوظ من رواية الثقات لهذا الحديث عن ابن شهاب.
قال: وممن ذكر مشاهدة ابن شهاب للقصة عند عمر بن عبد العزيز مع عروة ابن الزبير في هذا الحديث من أصحاب ابن شهاب: معمر والليث بن سعد وشعيب ابن أبي حمزة وابن جريج، فذكروا رواية الليث التي تقدم ذكرها من طريق النسائي إلا أن سياقه عن ابن شهاب أنه كان قاعدا على منابر عمر بن عبد العزيز في إمارته على المدينة ومعه عروة بن الزبير، فأخّر عمر العصر، فقال له عروة: أما أن جبريل قد نزل فصلّى أمام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال له عمر: اعلم يا عروة ما تقول، فقال:
سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: نزل جبريل فأمّني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس مرات.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز فأخر العصر مرة، فقال له عروة: حدثني بشير بن أبي مسعود الأنصاري أن المغيرة ابن شعبة أخر الصلاة مرة- يعني العصر- فقال له أبو مسعود: أما واللَّه يا مغيرة لقد علمت أن جبريل نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى الناس معه، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصلّى الناس معه، حتى عدّ خمس صلوات، فقال له عمر: انظر ما تقول يا عروة، أو أن جبريل هو سنّ وقت الصلاة؟
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(3/66)


فقال له عروة: كذلك حدثني بشير بن أبي مسعود. قال: فما زال عمر يعتلم وقت الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا [ (1) ] .
قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج قال: حدثني ابن شهاب أنه سمع عمر بن عبد العزيز يسأل عروة بن الزبير، فقال عروة بن الزبير: مشى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر وهو على الكوفة
فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال له: ما هذا يا مغيرة؟ أما واللَّه لقد علمت أن جبريل نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى بالناس معه خمس مرات، ثم قال: هكذا أمرت،
فقال عمر لعروة: اعلم ما تقول، أو أن جبريل هو أقام وقت الصلاة؟ فقال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه فقد بان بما ذكرنا من رواية الثقات عن ابن شهاب لهذا الحديث اتصاله وسماع ابن شهاب له من عروة، وسماع عروة من بشير، وبان بذلك أيضا أن الصلاة التي أخرها عمر هي صلاة العصر، وأن الصلاة التي أخرها المغيرة تلك أيضا، وبان بما ذكرنا أيضا أن جبريل صلّى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمس صلوات في أوقاتها، وليس في شيء من معنى حديث ابن شهاب هذا ما يدل على أن جبريل صلّى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرتين كل صلاة في وقتين.
وظاهر من حديث ابن شهاب هذا [ما] [ (2) ] يدلك على أن ذلك إنما كان مرة واحدة لا مرتين، وقد روى من غير وجه في إمامة جبريل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه صلّى مرتين في كل صلاة من الصلوات الخمس في وقتين.
وظاهر من حديث ابن شهاب هذا [ما] [ (2) ] يدلك على أن ذلك إنما كان مرة واحدة لا مرتين، وقد روى من غير وجه في إمامة جبريل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه صلّى مرتين من في كل صلاة من الصلوات الخمس في وقتين.
قال: ورواية ابن عيينة لهذا الحديث عن ابن شهاب بمثل حديث الليث ومن ذكرنا معه في ذلك، وفي حديث معمر وابن جريج أن الناس صلوا خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ، وقد روى ذلك من غير حديثهما، ثم ذكر حديث سفيان من طريق قاسم بن أصبغ كما تقدم ذكره، وقال: فهذا وضح ما ذكرنا من أنه إنما صلّى به الصلوات الخمس مرة واحدة، وهو ظاهر الحديث، إلا أن في رواية ابن أبي ذؤيب وأسامة بن زيد الليثي عن ابن شهاب في هذا الحديث ما يدل على أنه صلّى به مرتين في يومين على نحو ما ذكره عن ابن شهاب في حديث إمامة جبريل،
__________
[ (1) ] سبق شرحه وتخريجه.
[ (2) ] زيادة للسياق.

(3/67)


فأما رواية ابن أبي ذؤيب له، فإن ابن أبي ذؤيب ذكره في موطنه عن ابن شهاب أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبي مسعود الأنصاري أن المغيرة بن شعبة أخّر الصلاة، فدخل عليه أبو مسعود فقال: ألم تعلم أن جبريل نزل على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى وصلّى وصلّى وصلّى وصلّى وصلّى، ثم صلّى ثم صلّى ثم صلّى ثم صلّى ثم صلّى [ثم صلّى] [ (1) ] ، ثم قال: هكذا أمرت.
وأما حديث أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره أن عمر بن عبد العزيز كان قاعدا على المنبر، فأخر العصر شيئا، فقال له عروة: أما أن جبريل قد أخبر محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بوقت الصلاة، فقال له عمر: اعلم ما تقول،
فقال عروة: سمعت بشير بن أبي معسود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يقول] [ (2) ] : نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه، ثم صليت [معه] [ (3) ] ، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات،
فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلّى الظهر حين زالت الشمس وربما أخرها حين يشبه الحر، وروايته: يصلّى العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل أن تدخلها الصّفرة، فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حين يجتمع الناس، ويصلي الصبح مرة بغلس، ثم صلّى مرة آخرا فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك إلى الغلس حتى مات لم يعد يغد إلى أن يسفر.
قال أبو داود: روي هذا الحديث عن الزهري: معمر ومالك وابن عيينة وشعيب بن أبي حمزة والليث بن سعد وغيرهم، لم يذكروا الوقت الّذي صلّى فيه [و] [ (4) ] لم يفسروه، وكذلك رواه أيضا: هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه، إلا أن حبيبا لم يذكر.
قال ابن عبد البر: هذا كلام أبي داود، ولم يسبق في كتابه رواية معمر ولا من ذكر معه عن ابن شهاب لهذا الحديث، وإنما ذكروا رواية أسامة بن زيد هذه
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، ولعلّ ما بين القوسين تكرار من الناسخ.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق.

(3/68)


عن ابن شهاب وحدها من رواية ابن وهب، ثم أردفها بما ذكرنا من كلامه، وصدق فيما حكى، إلا أن حديث أسامة ليس فيه من البيان ما في حديث ابن أبي ذؤيب من تكرير الصلوات الخمس مرتين مرتين، وكذلك رواية معمر ومالك والليث ومن تابعهم ظاهرها مرة واحدة، وليس فيها ما يقطع به على أن ذلك كذلك، وقد ذكرنا رواية معمر ومالك والليث وغيرهم، وقد روى الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب هذا الحديث مثل رواية ابن وهب عن أسامة سواء.
قال محمد بن يحى الذهلي في رواية أبي بكر بن حزم عن عروة بن الزبير ما يقوّى رواية أسامة، لأن رواية أبي بكر بن حزم شبيهة برواية أسامة، فيه أنه صلّى الوقتين، وإن كان لم يسنده عنه إلا أيوب بن عتبة فقد روى عنه معناه مرسلا يحيى بن سعيد وغيره من الثقات.
قال ابن عبد البر: وقد روى هذا الحديث جماعة عن عروة بن الزبير منهم:
هشام بن عروة، وحبيب بن أبي مرزوق، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهم، فأما رواية هشام بن عروة عن أبيه، فذكرها من طريق أحمد بن زهير قال: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا فليح عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أخّر عمر بن عبد العزيز الصلاة يوما فدخلت عليه فقلت: إن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما فدخل عليه أبو مسعود ... فذكر الحديث، وقال فيه: كذلك سمعت بشير ابن أبي مسعود يحدث عن ابنه، قال: ولقد حدثتني عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم تظهر،
وقال أحمد بن زهير: وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن المغيرة ابن شعبة كان يوجز الصلاة، فقال له رجل من الأنصار: أما سمعت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: قال جبريل عليه السلام: صل صلاة كذا في وقت كذا حتى عدّ الصلوات الخمس؟ قال: بلى،
قال: فاشهد أنا كنا نصلّى العصر مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والشمس نقية بيضاء، ثم نأتي بني عمرو وإنها لمرتفعة- وهي على رأس ثلثي فرسخ من المدينة.

(3/69)


وأما رواية حبيب بن أبي مرزوق، فذكرها من طريق الحرث بن أبي أسامة قال: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر قال: حدثني حبيب بن أبي مرزوق عن عروة بن الزبير قال: حدثني أبو مسعود أن جبريل نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى أتمها خمسا، فقال له عمر بن عبد العزيز: انظر يا عروة ما تقول أن جبريل هو الّذي وقت مواقيت الصلاة؟ قال: كذلك حدثني ابن مسعود، فبحث عمر عن ذلك حتى وجد ثبته، فما زال عمر عنده علامات الساعات ينظر فيه حتى قبض.
قال ابن عبد البر: قد أحسن حبيب بن أبي مرزوق في سياقه هذا الحديث على ما ساقه أصحاب ابن شهاب في الخمس صلوات لوقت واحد مرة واحدة، إلا أنه قال فيه عن عروة: حدثني أبو مسعود، والحفاظ يقولون: عن عروة عن بشير عن أبيه، وبشير هذا ولد على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبوه أبو مسعود الأنصاري، اسمه عقبة بن عمر، ويعرف بالبدري لأنه كان يسكن بدرا، واختلف في شهوده بدرا.
وأما رواية أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بمثل رواية ابن أبي ذؤيب وأسامة ابن زيد عن ابن شهاب في أنه صلّى الصلوات الخمس لوقتين مرتين، وحديثه أبين في ذلك وأوضح، وفيه ما يضارع قول حبيب بن أبي مرزوق عن عروة عن أبي مسعود، فذكره من طريق على بن عبد العزيز قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أيوب بن عتبة، حدثنا أبو بكر بن حزم أن عروة بن الزبير كان يحدث عمر بن عبد العزيز- وهو يومئذ أمير المدينة في زمن الحجاج والوليد بن عبد الملك، وكان ذلك زمانا يؤخرون فيه الصلاة- فحدث عمر عروة وقال: حدثني أبو مسعود الأنصاري، وبشير بن أبي مسعود- قال كلاهما قد صحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أن جبريل جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين دلكت الشمس- قال أيوب: فقلت: وما دلوكها؟ قال:
حين زالت- قال: فقال: يا محمد، صلّ الظهر، قال: فصلّى، ثم جاءه حين

(3/70)


كان ظل كل شيء مثله فقال: يا محمد، صلّ العصر، فقال: فصلى، ثم أتاه جبريل حين غربت الشمس فقال: يا محمد، صل المغرب، فصلى، قال: ثم جاءه حين غاب الشفق فقال: يا محمد، صل العشاء، فصلى، ثم أتاه حين انشق الفجر فقال:
يا محمد، صلّ الصبح، قال: فصلى ثم جاءه الغد حين كان ظل كل شيء مثله فقال: يا محمد، صل [ (1) ] الظهر، قال: فصلى، ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثليه فقال: يا محمد، صلّ [ (1) ] العصر، قال: فصلى، ثم أتاه حين غربت الشمس فقال: يا محمد، صلّ [ (1) ] المغرب، قال: فصلى، ثم أتاه حين ذهبت ساعة من الليل فقال: يا محمد، صل [ (1) ] العشاء، قال فصلى، ثم أتاه حين أضاء الفجر وأسفر فقال: يا محمد، صل [ (1) ] الصبح، قال فصلى، قال ثم قال: ما بين هذين وقت، يعني أمس واليوم. قال عمر لعروة: أجبريل أتاه؟ قال: نعم.
ففي هذا الحديث وهذه الرواية بيان واضح أن صلاة جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في حين تعليمه له الصلاة في أول وقت فرضها كانت في يومين لوقتين وقتين كل صلاة، وكذلك رواية معمر عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن جبريل نزل صلى فذكر مثله سواء إلا أنه مرسل.
وكذلك رواه الثوري عن عبد اللَّه بن أبي بكر ويحيى بن سعيد، جميعا عن أبي بكر بن حزم مثله سواء، أن جبريل صلى الصلوات الخمس بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مرتين في يومين لوقتين، ومراسيل هؤلاء عند مالك حجة، وهو خلاف ظاهر حديث الموطأ، وحديث هؤلاء جميعا بالصواب أولى، لأنهم زادوا وأوضحوا، وفسروا ما أجمله غيرهم وأهمله، ويشهد بصحة ما جاءوا به: رواية ابن أبي ذؤيب ومن تابعه عن ابن شهاب، وعامة الأحاديث في إمامة جبريل على ذلك جاءت مفسرة لوقتين، ومعلوم أن حديث أبي مسعود من رواية ابن شهاب وغيره في إمامة جبريل وردّ برواية من زاد وأتم وفسّر أولى من رواية من أجمل وقصّر، وقد رويت إمامة جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث ابن عباس، وحديث جابر، وأبي سعيد الخدريّ على نحو ما ذكرنا.
__________
[ (1) ] في (خ) : «صلّى» ، وما أثبتناه حق اللغة.

(3/71)


فأما حديث ابن عباس رضي اللَّه عنه فذكره من طريق قاسم بن أصبغ قال:
حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحرث، ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الرحمن، ومن طريق قاسم: حدثنا أحمد بن زهير، وحدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحرث.
قال كاتبه: وخرجه الترمذي من حديث هناد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحرث بن عيّاش بن أبي ربيعة عن حكيم بن حكيم- وهو ابن عباد بن حنيف- أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: أخبرني ابن عبّاس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلّى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلّى العصر حين [كان] [ (1) ] [ظل] [ (2) ] كل شيء [مثله] [ (3) ] ، ثم صلّى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلّى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلّى الفجر حين برق [ (4) ] وحرم الطعام على الصائم، وصلّى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلّى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلّى المغرب لوقته الأول، ثم صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلّى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلى جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت [فيما] [ (5) ] بين هذين الوقتين [ (6) ] .
__________
[ (1) ] تكملة من رواية الترمذي.
[ (2) ] زيادة ليست في رواية الترمذي.
[ (3) ] تصويب من رواية الترمذي.
[ (4) ] في رواية الترمذي: «حين برق الفجر» .
[ (5) ] في (خ) : «ما» ، والتصويب من الترمذي.
[ (6) ] قال أبو عيسى: «وفي الباب عن أبي هريرة، وبريدة، وأبي موسى، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي سعيد، وجابر وعمرو بن حزم، والبراء، وأنس،.
هذا الحديث أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، حديث رقم (149) ، قوله: «عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة» ، قال في التقريب: عبد الرحمن بن الحارث بن عبد اللَّه بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، أبو الحارث المدني، صدوق له أوهام.
قوله: «عن حكيم بن حكيم وهو ابن بعاد بن حنيف» ، الأنصاريّ الأوسيّ، صدوق. قاله الحافظ، وذكره ابن حبان في الثقات، قاله الخزرجي ...

(3/72)


__________
[ () ] قوله: «قال: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم» ، النوفلي أبو محمد أو أبو عبد اللَّه المدني، ثقة فاضل من الثانية، مات سنة (99) تسع وتسعين، وهو من رجال الكتب الستة.
قوله: «أمني جبريل عند البيت» ، أي عند بيت اللَّه، وفي رواية في (الأم) للشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: «عند باب الكعبة» .
قوله: «مرتين» ، أي في يومين ليعرفني كيفية الصلاة وأوقاتها.
قوله: «فصلّى الظهر في الأولى منهما» ، أي المرة الأولى من المرتين، قال الحافظ في الفتح: بين ابن إسحاق في المغازي أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، قال ابن إسحاق: وحدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير، وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج قال:
قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الليلة التي أسري به، لم يرعه إلا جبريل، نزل حين زالت الشمس، ولذلك سميت الأولى- أي صلاة الظهر- فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلّى به جبريل، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس.. فذكر الحديث.
قوله: «حين كان الفيء» ، هو ظل الشمس بعد الزوال.
قوله: «مثل الشراك» ، أي قدره، قال ابن الأثير: الشراك أحد سيور النعل التي تكون على وجهها. وفي رواية أبي داود: «حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك» . قال ابن الأثير: قدره هاهنا ليس على معنى التحديث، ولكن زوال الشمس لا يبين إلا بأقل ما يرى من الظل، وكان حينئذ بمكة هذا القدر، والظل يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي يقل فيها الظل، فإذا كان طول النهار واستوت الشمس فوق الكعبة، لم ير بشيء من جوانبها ظل، فكل بلد يكون أقرب إلى خط الاستواء ومعدل النهار يكون الظل فيه أقصر، وكل ما بعد عنهما إلى جهة الشمال يكون الظل أطول.
قوله: «ثم صلّى العصر حين كان كل شيء مثله ظل» ، أي سوي ظله الّذي كان عند الزوال، يدل على ما رواه النسائي من حديث جابر بلفظ: «خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفيء قدر الشراك وظل الرجل» .
قوله: «ثم صلّى المغرب حين وجبت الشمس، وأفطر الصائم» ، أي غربت الشمس ودخل وقت إفطار الصائم، بأن غابت الشمس، فهو عطف تفسير.
قوله: «ثم صلّى العشاء حين غاب الشفق» ، أي الأحمر- على الأشهر- قاله القاري، وقال النووي في شرح مسلم: المراد بالشفق الأحمر، هذا مذهب الشافعيّ، وجمهور الفقهاء، وأهل اللغة، وقال أبو حنيفة والمزني رضي اللَّه عنهما وطائفة من الفقهاء وأهل اللغة: المراد الأبيض، والأول هو الراجح المختار. (انتهى كلام النووي) .
قال المباركفوري: وإليه ذهب صاحبا أبي حنيفة، أبو يوسف ومحمد، وقالا: الشفق هو الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة، بل قال في (النهر) : وإليه رجع الإمام، وقال في (الدر) : الشفق هو الحمرة عندهما، وبه قالت الثلاثة، وإليه رجع الإمام كما هو في شروح (المجمع) وغيره، فكان هو المذهب، قال صدر الشريعة: وبه يفتى، كذا في حاشية النسخة الأحمدية، ولا شك في أن

(3/73)


__________
[ () ] المذهب الراجح المختار، هو أن الشفق الحمرة، يدل عليه
حديث ابن عمر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الشفق الحمرة» ، رواه الدار الدّارقطنيّ، وصححه ابن خزيمة، وغيره، ووقفه على ابن عمر، كذا في (بلوغ المرام) .
قال محمد بن إسماعيل الأمير في (سبل السلام) : البحث لغويّ، والمرجع فيه إلى أهل اللغة، وابن عمر من أهل اللغة، ومخّ العرب، فكلامه حجّه، وإن كان موقوفا عليه.
ويدل عليه قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث عبد اللَّه بن عمرو عند مسلم: وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق،
قال الجزري في (النهاية) : أي انتشاره وثوران حمرته، من ثار الشيء يثور إذا انتشر وارتفع ... وفي (البحر الرائق) من كتب الحنفية، قال الشمني: هو ثوران حمرته ... ووقع في رواية أبي داود: وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق، قال الخطابي: هو بقية حمرة الشفق في الأفق، وسمى فورا بفورانه وسطوعه، وروى أيضا ثور الشفق، وهو ثوران حمرته ... وقال الجزري في (النهاية) : هو بقية حمرة الشمس في الأفق الغربي، سمي فورا لسطوعه وحمرته، ويروى بالثاء، وقد تقدم.
قوله: «ثم صلّى الفجر حين برق الفجر» ، أي طلع، «وصلّى المرة الثانية» أي في اليوم الثاني، «حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس» ، أي فرغ من الظهر حينئذ كما شرع في العصر في اليوم الأول، حينئذ قال الشافعيّ رضي اللَّه تعالى عنه: وبه يندفع اشتراكهما في وقت واحد، على ما زعمه جماعة، ويدل له خبر مسلم: وقت الظهر ما لم يحضر العصر.
قوله: «ثم صلّى المغرب لوقته الأول» ، استدل به من قال: إن لصلاة المغرب وقتا واحدا، وهو عقب غروب الشمس، بقدر ما يتطهر، ويستر عورته، ويؤذن، ويقيم، فإن أخّر الدخول في الصلاة عن هذا الوقت أثم وصارت قضاء، وهو قول الشافعية.
قال الإمام النووي: وذهب المحققون من أصحابنا، إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها، ما لم يغب الشفق، وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك، ولا يأثم بتأخيرها عن أول الوقت، وهذا هو الصحيح الصواب، الّذي لا يجوز غيره. والجواب عن حديث جبريل عليه السلام، حين صلّى المغرب في اليومين حين غربت الشمس، من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار، ولم يستوعب وقت الجواز، وهذا جار في الصلوات سوى الظهر.
والثاني: أنه متقدم في أول الأمر بمكة، وأحاديث امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة، فوجب اعتمادها.
والثالث: أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل عليه السلام فوجب تقديمها.
قوله: «فقال: يا محمد هذا» ، أي ما ذكر من الأوقات الخمسة، «وقت الأنبياء من قبلك» ، قال ابن العربيّ في (عارضه الأحوذي) : ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لمن قبلهم من الأنبياء، ليس كذلك، وإنما معناه: أن هذا وقتك المشروع لك، يعني الوقت الموسع، المحدد بطرفين، الأول والآخر، وقوله: وقت الأنبياء من قبلك، يعني ومثله وقت الأنبياء قبلك، أي صلاتهم كانت واسعة الوقت، وذات طرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات

(3/74)


قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن، وقال ابن عبد البر:
لا يوجد هذا اللفظ (وقت الأنبياء قبلك) إلا في هذا الإسناد، وتكلم بعض الناس في إسناد حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم معروفو [ (1) ] النسب، مشهورون [ (2) ] في العلم.
وقد خرجه أبو داود [ (3) ] وغيره، وذكره عبد الرزاق عن الثوري، وابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن الحرث بإسناده مثل رواية وكيع وأبي نعيم، وذكره عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه.
وأما حديث جابر رضي اللَّه عنه [ (4) ] فذكره من طريق أحمد بن زهير: حدثنا أحمد ابن الحجاج، ومن طريق النسائي [ (5) ] : حدثنا سويد بن نصر قالا: حدثنا ابن المبارك قال: أخبرني حسين بن علي بن حسين قال: أخبرني وهب بن كيسان، حدثنا جابر بن عبد اللَّه قال: جاء جبريل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين مالت الشمس فقال:
قم يا محمد فصل الظهر، فصلّى الظهر حيث مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا
__________
[ () ] إلا لهذه الأمة خاصة، وإن غيرهم قد شاركهم في بعضها. وقد روى أبو داود في حديث العشاء:
أعتموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، وكذا قال ابن سيد الناس، وقال: يريد في التوسعة عليهم في أن الوقت أولا وآخرا، لا أن الأوقات هي أوقاتهم بعينها. كذا في (قوت المغتذي) .
قوله: «والوقت فيما بين هذين الوقتين» ، قال ابن سيد الناس: يريد هذين وما بينهما، أما إرادته أن الوقتين اللذين أوقع فيهما الصلاة وقت لها، فتبين بفعله، وأما الإعلام ما بينهما أيضا وقت، فبينه قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ] في (خ) : «معروف» .
[ (2) ] في (خ) : «مشهور» .
[ (3) ] خرّجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (1) في المواقيت حديث رقم (389) ، (عون المعبود) :
2/ 40.
[ (4) ] وقال محمد: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، نحو حديث وهب بن كيسان، عن جابر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، (تحفة الأحوذي) : 1/ 398، عقب الحديث رقم (150) .
[ (5) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 115- 116، باب (17) أول وقت العشاء، حديث رقم (512) ، باختلاف يسير.

(3/75)


كان الفيء في الرجل مثله، جاء العصر فقال: يا محمد، قم صل العصر، فصلاها، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاء فقال: قم فصل المغرب، فقام فصلاها حين غابت الشمس، ثم غاب حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال: قم فصل العشاء فصلاها، ثم جاء سطع الفجر بالصبح فقال: قم يا محمد فصل الصبح، فصلاها، ثم جاءه حين كان فيء الرجل مثليه، فقال: يا محمد، قم فصل العصر، ثم جاء للمغرب حين غابت الشمس وقتا واحدا لم يغب عنه فقال: قم فصل المغرب، ثم جاءه حين ذهب ثلث الليل فقال: قم فصل العشاء، ثم جاءه للصبح حين ابيض جدا فقال: قم فصل، ثم قال له: الصلاة ما بين الوقتين.
وقال سويد بن نصر في حديثه: ما بين هذين وقت كله، قلت: وخرجه الترمذي من حديث أحمد بن محمد بن موسى، أنبأنا عبد اللَّه بن المبارك، أنبأنا حسين بن على، أخبرني وهب بن كيسان عن جابر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال:
أمني جبريل.. فذكر الحديث بنحو حديث ابن عباس بمعناه ولم يذكر فيه لوقت العصر بالأمس [ (1) ] .
قال أبو عيسى: وقال محمد: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح وعمرو ابن دينار، وابن الزبير عن جابر بن عبد اللَّه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو حديث وهب ابن كيسان عن جابر [ (2) ] .
وذكر ابن عبد البر من طريق النسائي: حدثنا يوسف [ (3) ] ، حدثنا قدامة ابن شهاب عن برد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر: أن جبريل أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصلّى الظهر حين زالت [ (4) ] الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] سبق شرحه وتخريجه.
[ (2) ] سبق الإشارة إليه.
[ (3) ] في (خ) : «حدثنا يوسف واصح» .
[ (4) ] في (خ) : «زالت الشمس» ، وهو تكرار من الناسخ.

(3/76)


فصلّى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى الغداة، ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع مثل ما صنع بالأمس فصلّى الظهر، ثم أتاه جبريل حين كان ظل الرجل مثل شخصيه، فصنع كما صنع بالأمس فصلّى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع بالأمس فصلّى المغرب فيها، ثم أتاه فصنع كما صنع بالأمس فصلّى العشاء، فأتاه جبريل حين امتد الفجر واضح والنجوم بادية مشتبكة، فصنع كما صنع بالأمس فصلّى الغداة ثم قال: ما بين هذين وقت [ (1) ] .
ورواه أبو الدرداء [ (2) ] عن برد عن عطاء عن جابر مثله سواء، إلا أنه قال في اليوم الثاني في المغرب: ثم جاءه حين وجبت الشمس لوقت واحد فذكره، قال:
ثم جاء نحو ثلث الليل للعشاء فذكره، ثم جاء حين أضاء الصبح ولم يقل: والنجوم بادية مشتبكة.
وأما حديث أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه [ (3) ] ، فذكره ابن عبد البر من طريق محمد بن سنجر قال: حدثنا سعيد بن الحكم حدثنا ابن لهيعة قال: حدثني بكر [ (4) ] بن [عبد اللَّه] [ (5) ] الأشج عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الساعدي أنه سمع أبا سعيد الخدريّ يقول [ (6) ] : قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمني جبريل في الصلاة فصلّى الظهر حين زالت الشمس، وصلّى العصر حين كان الفيء قامة [ (7) ] ، وصلّى المغرب حين غابت الشمس [في وقت واحد، وصل العشاء ثلث الليل، وصلّى الصبح
__________
[ (1) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 112، (10) آخر وقت العصر، حديث رقم (500) .
[ (2) ] في (خ) : «أبو الوراد» ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] حديث أبي سعيد الخدريّ، أخرجه الإمام أحمد في مسندة: 3/ 414، حديث رقم (10856) .
[ (4) ] في (خ) : «بكير» ، وما أثبتناه من (المسند) .
[ (5) ] تكملة من (المسند) .
[ (6) ] في (المسند) : «عن أبي سعيد الخدريّ قال» .
[ (7) ] في (خ) : «كانت الشمس قائمة» ، وما أثبتناه من (المسند) .

(3/77)


حين كادت الشمس أن تطلع، ثم قال: الصلاة فيما بين هذين الوقتين] [ (1) ] .
قال ابن عبد البر: هذا ما في إمامة جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من صحيح الآثار، قال:
واحتج من زعم أن جبريل صلّى بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في اليوم الّذي يلي ليلة الإسراء مرة واحدة الصلوات كلها لا مرتين على ظاهر حديث مالك في ذلك، فذكر من طريق أحمد بن زهير قال: حدثنا هدبة بن خالد عن هشام عن قتادة، قال فحدثنا الحسن أنه ذكر له أنه لما كان عند صلاة الظهر نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس فاجتمعوا إلى نبيهم صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى بهم الظهر أربع ركعات يؤم جبريل عليه السلام محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويؤم محمد الناس، يقتدي محمد بجبريل، ويقتدي الناس بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس، فلما [زالت] الشمس نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصلّى بهم العصر أربع ركعات وهي أخف، يؤم جبريل محمدا، ويؤم محمد الناس، يقتدي محمد بجبريل ويقتدي الناس بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم جبريل على محمد، وسلم محمد على الناس، فلما غربت الشمس نودي الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم فصلّى بهم ثلاث ركعات أسمعهم القراءة في ركعتين وسبح في الصلاة الثالثة- يعني به قام لم يظهر القراءة- يؤم جبريل محمدا ويؤم محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، ويقتدي محمد بجبريل، ويقتدي الناس بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس، فلما بدت النجوم نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصلّى بهم أربع ركعات أسمعهم القراءة في ركعتين وسبح في الأخريين، يؤم جبريل محمدا، ويؤم محمد الناس، يقتدي محمد بجبريل، ويقتدي الناس بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس، ثم رقدوا ولا يدرون أيزادون أم لا؟ حتى إذا طلع الفجر نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصلّى بهم ركعتين أسمعهم فيها القراءة، يؤم جبريل محمدا، ويؤم
__________
[ (1) ] السياق مضطرب فيما بين الحاصرتين، ورواية (المسند) بعد قوله: «حين غابت الشمس» ، «وصلّى العشاء حين غاب الشفق، وصلّى الفجر حين طلع الفجر، ثم جاء الغد، فصلّى الظهر وفيء كل شيء مثله، وصلّى العصر والظل قامتان، وصلّى المغرب حين غربت الشمس، وصل العشاء إلى ثلث الليل الأول، وصلّى الصبح حين كادت الشمس تطلع، ثم قال: الصلاة فيما بين هذين الوقتين» .

(3/78)


محمد الناس، يقتدي محمد بجبريل ويقتدي الناس بمحمد، ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس، وصلّى اللَّه على جبريل ومحمد وسلم تسليما كثيرا.
ففي هذا الخبر أن جبريل لم يصل الصلوات الخمس بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا مرة واحدة، وهو وإن كان مرسلا فإنه حديث حسن مهذب.
واحتجوا أيضا فذكر من طريق أحمد بن زهير وعبيد بن عبد الواحد قالا:
حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق عن عتبة ابن مسلم مولى بني تميم عن نافع بن جبير قال: وكان نافع بن جبير كثير الرواية عن ابن عباس، قال: فلما فرضت الصلاة وأصبح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم....
وذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال نافع ابن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من ليلة أسري به لم يرعه إلا جبريل، نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت الأولى، فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة فاجتمعوا، فصلّى جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، طوّل الركعتين الأوليين ثم قصر الباقين، ثم سلم جبريل على النبي وسلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الناس، ثم نزل في العصر على مثل ذلك ففعلوا كما فعلوا في الظهر، ثم نزل في الليل في أوله فصيح الصلاة جامعة، فصلّى جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، طول في الأوليين وقصر في الثالثة، ثم سلم جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسلم النبي على الناس، ثم لما ذهب ثلث الليل نزل، فصيح الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلّى جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلّى النبي بالناس، فقرأ في الأولين فطوّل وجهر، وقصر في الباقيتين، ثم سلم جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الناس، فلما طلع الفجر فصيح الصلاة جامعة، فصلّى جبريل بالنبيّ، وصلّى النبي بالناس، فقرأ فيهما فجهر وطول ورفع صوته، وسلم جبريل بالنبيّ، وصلّى النبي بالناس، فقرأ فيهما فجهر وطول ورفع صوته، وسلم جبريل على النبي، وسلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الناس.
قال ابن عبد البر: فقال: من ذكرنا حديث نافع بن جبير هذا مثل حديث الحسن في أن جبريل لم يصل في وقت فرض الصلاة بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلوات الخمس إلا مرة واحدة، وهو ظاهر حديث مالك، والجواب عن ذلك ما تقدم ذكرنا له من الآثار الصحاح المتصلة في إمامة جبريل لوقتين، وقوله: ما بين هذين وقت،

(3/79)


وفيها زيادة يجب قبولها والعمل بها لنقل العدول لها، وليس تقصير من قصّر عن حفظ ذلك وإتقانه والإتيان به بحجة، وإنما الحجة في شهادة من شهد لا في قول من قصر وأجمل واختصر، على أن هذه الآثار منقطعة، وإنما ذكرناها لما وصفنا، ولأن فيها أن الصلاة فرضت في الحضر أربعا لا ركعتين على خلاف ما زعمت عائشة، وقال بذلك جماعة، وردّوا حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وإن كان إسناده صحيحا لضروب من الأعمال، واللَّه سبحانه وتعالى الموفق بمنه وكرمه.

(3/80)


ذكر الجهة [ (1) ] التي كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يستقبلها في صلاته
ذكر ابن جريج في تفسيره، وذكر سنينة عن حجاج عن ابن جريج قال: صلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أول ما صلّى إلى الكعبة [ (2) ] ، ثم صرف إلى بيت المقدس [ (3) ] ، فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه صلّى اللَّه عليه وسلّم بثلاث حجج [ (4) ] ، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] الجهة: والجهة، والجهة، بالكسر، والضم، والفتح، والوجه: الجانب والناحية، والجمع جهات، ووجوه، على الترتيب. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 5/ 167.
[ (2) ] الكعبة: البيت المربّع، وجمعه كعاب، والكعبة، البيت الحرام، منه، لتكعيبها أي تربيعها، وقالوا:
كعبة البيت فأضيف، لأنهم ذهبوا بكعبته إلى تربع أعلاه، وسمّي كعبة لارتفاعه وتربعه، وكل بيت مربع، فهو عند العرب كعبة. (لسان العرب) : 1/ 718، مادة «كعب» ، (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 4/ 357.
[ (3) ] التقديس: التطهير والتبريك، وتقدّس أي تطهر، وفي التنزيل: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [30/ البقرة] . الزجاج: معنى نقدس لك، أي نطهر أنفسنا لك وكذلك نفعل بمن أطاعك، نقدّسه أي نطهره. ومن هذا قيل للسّطل: القدس، لأنه يتقدّس منه أي تتطهّر، ومن هذا بيت المقدس، أي البيت المطهّر، أي المكان الّذي يتطهّر به من الذنوب.
ابن الكلبيّ: القدّوس الطاهر، وقوله تعالى: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الطاهر في صفة اللَّه عزّ وجلّ [23/ الحشر] ، وجاء في التفسير أنه المبارك، والقدّوس: هو اللَّه عزّ وجلّ. والقدس: البركة، والأرض المقدسة: الشام منه، وبيت المقدس من ذلك أيضا، ابن الأعرابي: المقدس المبارك، والأرض المقدسة، المطهرة.
وقال الفرّاء: الأرض المقدسة الطاهرة، وهي: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن. ويقال: أرض مقدسة أي مباركة، وهو قول قتادة، وإليه ذهب ابن الأعرابي. وروح القدس: جبريل عليه السلام، وفي الحديث: «إن روح القدس نفث في روعي» ، يعني جبريل عليه السلام، لأنه خلق من طهارة.
وقال اللَّه عزّ وجلّ في صفة عيسى- على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام-: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وهو جبريل عليه السلام، معناه روح الطهارة، أي خلق من طهارة. وفي الحديث:
«لا قدّست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويّها» ، أي لا طهّرت. (لسان العرب) : 6/ 168- 169، مادة «قدس» .
[ (4) ] يعني ثلاث سنين، ومنه قوله تعالى: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [27/ القصص] .

(3/81)


بعد قدومه ستة عشر شهرا، ثم وجهه اللَّه إلى الكعبة [ (1) ] .
قال ابن عبد البر: وهذا أمر قد اختلف فيه، وأحسن شيء روى في ذلك فذكر من حديث أبي عوانة عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة، والكعبة بين يديه، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا، ثم صرفه اللَّه إلى الكعبة [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث عفّان [ (2) ] قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [ (3) ] ، فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كما هم نحو القبلة [ (4) ] . قال أبو عمر بن عبد البر: وروى أن المخبر لهم بما في هذا الحديث هو عباد بن بشر [ (5) ] .
__________
[ (1) ] ونحوهما في (مسند أحمد) بسياقات متقاربة:
1/ 413، حديث رقم (2252) من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا حسين بن علي عن زائدة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: «صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم صرفت القبلة» .
و1/ 576، حديث رقم (3260) بنحوه سواء.
و1/ 589، حديث رقم (3353) : من حديث ابن عباس أيضا: «صلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو بيت المقدس- قال عبد الصمد: ومن معه- ستة عشر شهرا ثم حولت القبلة بعد، قال عبد الصمد:
ثم جعلت القبلة- نحو بيت المقدس» . وقال معاوية- يعني ابن عمرو-: ثم حولت القبلة بعد.
[ (2) ] في (خ) : «عنان» ، وما أثبتناه من صحيح مسلم.
[ (3) ] آية 44/ البقرة.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 14، حديث رقم (527) .
[ (5) ] هو عبّاد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل، الإمام أبو الربيع الأنصاري الأشهلي، أحد البدريين، كان من سادة الأوس، عاش خمسا وأربعين سنة، وهو الّذي أضاءت له عصاته ليلة انقلب إلى منزله من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أسلم على يد مصعب بن عمير، وكان أحد من قتل كعب ابن الأشرف اليهوديّ، واستعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على صدقات مزينة وبني سليم، وجعله على حرسه في غزوة تبوك، وكان كبير القدر، رضي اللَّه عنه، أبلى يوم اليمامة بلاء حسنا، وكان أحد الشجعان الموصوفين.
ابن إسحاق: عن يحيى بن عباد بن عبد اللَّه، عن أبيه قال: قالت عائشة: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وعباد بن بشر،

(3/82)


روى إبراهيم بن حمزة الزبيري قال: حدثني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد ابن سلمة عن أبيه عن جدته تويلة بنت أسلم [ (1) ] ، وكانت من المبايعات، قالت:
كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استقبل الكعبة- أو قال: البيت الحرام- فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال.
وخرج البخاري ومسلم من حديث يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني أبو إسحاق قال: سمعت البراء يقول: صلينا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفنا نحو الكعبة. وقال البخاري: ثم صرفه نحو القبلة [ (2) ] . ذكره في التفسير في باب قوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ [هُوَ مُوَلِّيها]
[ (3) ] .
__________
[ () ] وأسيد بن الحضير، آخى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
وروي بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخدريّ: سمع عباد بن بشر يقول: رأيت الليلة كأن السماء فرجت لي، ثم أطبقت عليّ، فهي إن شاء اللَّه الشهادة. فنظر يوم اليمامة وهو يصيح. احطموا جفون السيوف. وقاتل حتى قتل بضربات في وجهه. رضي اللَّه عنه.
ابن إسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن عائشة قالت: تهجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيتي، فسمع صوت عباد بن بشر، فقال: «يا عائشة! هذا صوت عباد ابن بشر؟» قلت: نعم، قال: «اللَّهمّ اغفر له» .
لعباد بن بشر حديث واحد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يا معشر الأنصاري! أنتم الشّعار والناس الدّثار، فلا أوتين من قبلكم» ، قال عليّ بن المديني: لا أحفظ لعباد سواه، وهذا الحديث رجاله ثقات، أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب، وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الطائف حديث رقم (4330) ، ومسلم في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، وأحمد 4/ 42، وعندهم جميعا: «الأنصار شعار والناس دثار» .
* (طبقات ابن سعد) : 3/ 2/ 16، (التاريخ الصغير) : 36، (الجرح والتعديل) : 6/ 77، (الاستيعاب) : 2/ 801- 804، (الإصابة) : 3/ 611- 612، (سير أعلام النبلاء) :
1/ 337- 340.
[ (1) ] «ثويلة» ، بالتصغير، بنت أسلم، روي حديثها الطبراني، من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن سلمة، عن أبيه، عن جدته أم أبيه، ثويلة بنت أسلم، وهي من المبايعات، قالت: بينا أنا في بني حارثة، فقال عباد بن بشر بن قيظي: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلوا السجدتين الباقيتين نحو الكعبة. وذكر أبو عمر فيه أن الصلاة كانت الظهر، وقيل فيها: تولة بغير تصغير، وقيل: أولها نون. (الإصابة) : 7/ 546، ترجمة رقم (10959) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 220- 221، كتاب التفسير، باب: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، حديث رقم (4492) .
[ (3) ] زيادة للسياق.

(3/83)


ولمسلم من حديث أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال:
صليت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا حتى نزلت الآية التي في البقرة وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ (1) ] ، فنزلت بعد ما صلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فانطلق رجل [من القوم] [ (2) ] فمر بناس من الأنصار وهم يصلون، فحدثهم [بالحديث] [ (3) ] ، فولوا وجوههم [نحو القبلة، وهو البيت] [ (4) ] وخرج البخاري من حديث زهير، حدثنا أبو إسحاق عن البراء أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده- أو قال: على أخواله- من الأنصار، وأنه صلّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلّى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن صلّى معه فمر على مسجد فيه قوم راكعون فقال: أشهد باللَّه لقد صليت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت
__________
[ (1) ] آية 144/ البقرة.
[ (2) ] زيادة من رواية مسلم.
[ (3) ] في مسلم: «فحدثهم فولوا» .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين ليست في مسلم، ورواية مسلم: «فولوا وجوههم قبل البيت» .
وفي هذا الحديث- حديث البراء- دليل على جواز النسخ ووقوعه. وفيه قبول خبر الواحد. وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا من صلّى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده في أثنائها فيستدير إلى الجهة الأخرى حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات في الصلاة الواحدة، فصلّى كل ركعة منها إلى جهة صحت صلاته على الأصح، لأن أهل هذا المسجد المذكور في الحديث استداروا في صلاتهم واستقبلوا الكعبة ولم يستأنفوها.
وفيه دليل على أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، فإن قيل: هذا نسخ للمقطوع به بخبر الواحد، وذلك ممتنع عند أهل الأصول، فالجواب: أنه احتفت به قرائن ومقدمات، أفادت العلم، وخرج عن كونه خبر واحد مجردا، واختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء- رحمهم اللَّه تعالى- في أن استقبال بيت المقدس هل كان ثابتا بالقرآن؟ أم كان باجتهاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فحكى الماوردي في (الحاوي) وجهين في ذلك لأصحابنا.
قال القاضي عياض- رحمه اللَّه تعالى-: الّذي ذهب إليه أكثر العلماء: أنه كان بسنة لا بقرآن، فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال: إن القرآن ينسخ السنة، وهو قول أكثر الأصوليين المتأخرين، وهو أحد قولي الشافعيّ، رحمه اللَّه تعالى-.
والقول الثاني له، وبه قال طائفة: لا يجوز لأن السنة مبينة للكتاب فكيف ينسخها؟ وهؤلاء يقولون: لم يكن استقبال بيت المقدس بسنة، بل كان بوحي.

(3/84)


اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولي وجهه قبل البيت أنكروا ذلك.
قال زهير: حدثنا أبو إسحاق في حديثه عن البراء أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فهيم، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (1) ] ، ذكره في كتاب الإيمان [ (2) ] ،
__________
[ (1) ] آية 144/ البقرة، ورواية البخاري حتى إِيمانَكُمْ.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 128، كتاب الإيمان، باب (30) ، الصلاة من الإيمان، وقول اللَّه تعالى:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم عند البيت، حديث رقم (40) .
قوله: «يعني صلاتكم عند البيت» ، وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه الّذي أخرج منه البخاري حديث الباب، فروى الطيالسي والنسائي، من طريق شريك وغيره عن أبي إسحاق عن البراء في الحديث المذكور: «فأنزل اللَّه: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ صلاتكم إلى بيت المقدس» .
وعلى هذا فقول البخاري: «عند البيت» مشكل، مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات، ولا اختصاص لذلك بكونه عند البيت، وقد قيل إن فيه تصحيفا، والصواب يعني صلاتكم لغير البيت.
قال الحافظ ابن حجر: وعندي أنه لا تصحيف فيه، بل هو صواب ومقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة، وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس وغيره: كان يصلّى إلى بيت المقدس، ولكنه لا يستدبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس.
وأطلق آخرون: أنه كان يصلي إلى بيت المقدس، وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح، لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس.
وكأن البخاري أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح، من أن الصلاة لما كانت عند البيت، كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع، فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه، فتقدير الكلام: يعني صلاتكم التي صليتموها عند البيت إلى بيت المقدس.
قوله: «قبل بيت المقدس» ، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي إلى جهة بيت المقدس.
قوله: «ستة عشر شهرا أو سبعة عشر» ، كذا وقع الشك في رواية زهير هذه هنا، وفي الصلاة أيضا عن أبي نعيم عنه، وكذا في رواية الثوري عنده، وفي رواية إسرائيل عند البخاري، وعند الترمذي أيضا. ورواه أبو عوانة في صحيحه، عن عمار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال: «ستة عشر» من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي إسحاق زائدة وشريك، ولأبي عوانة أيضا من رواية عمار بن رزيق- بتقديم الراء مصغرا- كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف «سبعة عشر» ، وكذا للطبراني عن ابن عباس ...

(3/85)


__________
[ () ] والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بسنة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدّهما معا، ومن شك تردّد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور.
ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان: «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» ، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول.
وشذّت أقوال أخرى: ففي ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق في هذا الحديث: «ثمانية عشر شهرا» ، وأبو بكر سيء الحفظ، وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية: «سبعة عشر» ، وفي رواية: «ست عشر» ، وخرّجه بعضهم على قول محمد ابن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الّذي ذكره النووي في (الروضة) وأقرّه، مع كونه رجّح في شرحه لمسلم رواية «ستة عشر شهرا» ، لكونها مجزوما بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغي شهري القدوم والتحويل.
وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة، ومن الشذوذ أيضا رواية: «ثلاثة عشر شهرا» ، ورواية: «تسعة أشهر» ، و «عشرة أشهر» ، ورواية: «شهرين» ، ورواية:
«سنتين» ، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجمع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، فجملة ما حكاه تسع روايات.
قوله: «وأنه صلّى أول» ، بالنصب لأنه مفعول صلّى، والعصر كذلك على البداية، وأعربه ابن مالك بالرفع، وفي الكلام مقدر لم يذكر لوضوحه، أي أو صلاة صلاها متوجها إلى الكعبة صلاة العصر. وعند ابن سعد: حولت القبلة في صلاة الظهر أو العصر- على التردد- وساق ذلك من حديث عمارة بن أوس قال: «صلينا إحدى صلاتي العشي» . والتحقيق: أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء، وهل كان ذلك في جمادى الآخرة أو رجب أو شعبان؟
أقوال.
قوله: «قبل مكة» ، أي قبل البيت الّذي في مكة، ولهذا قال: «فداروا كما هم قبل البيت» ، و «ما» موصولة، والكاف للمبادرة، وقال الكرماني: للمقارنة، و «ما» مبتدأ وخبره محذوف.
قوله: «قد أعجبهم» أي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، (وأهل الكتاب) : هو بالرفع عطفا على اليهود، من عطف العام على الخاص. وقيل: المراد النصارى، لأنهم من أهل الكتاب، وفيه نظر، لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس! فكيف يعجبهم؟ وقال الكرماني: كان إعجابهم بطريق التبعية لليهود.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه بعد لأنهم أشد الناس عداوة لليهود، ويحتمل أن يكون بالنصب، والواو بمعنى (مع) ، أي يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس، واختلف في صلاته إلى بيت المقدس وهو بمكة.
فروى ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش المذكورة: «صلينا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا» ، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين» ، وظاهره

(3/86)


__________
[ () ] أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا، وحكى الزهري خلافا في أنه هل كان يجعل الكعبة خلف ظهره، أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس؟
قال الحافظ ابن حجر: وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين،. وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وحمل ابن عبد البر هذا على القول الثاني، ويؤيد حمله على ظاهره إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن ذلك عند باب البيت.
قوله: «أنكروا ذلك» ، يعني اليهود، فنزلت: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ وقد صرح البخاري بذلك في روايته عن طريق إسرائيل.
قوله: «قال زهير» ، يعني ابن معاوية بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته، ووهم قال إنه معلق، وقد ساقه البخاري في (التفسير) ، مع جملة الحديث، عن أبي نعيم، عن زهير سياقا واحدا.
قوله: «أنه مات على القبلة» ، أي قبلة بيت المقدس قبل أن تحوّل «لأجاب، وقتلوا» ، ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، صحيحا عن ابن عبّاس، وكذلك والذين ماتوا بعد فرض الصلاة، وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشر أنفس: فبمكة من قريش: [1] عبد اللَّه بن شهاب. [2] المطلب ابن أزهر الزهريان. [3] السكران بن عمرو العامري.
وبأرض الحبشة منهم: [1] حطاب- بالمهملة- ابن الحارث الجمحيّ. [2] عمرو بن أمية الأسدي. [3] عبد اللَّه بن الحارث السهمي. [4] عروة بن عبد العزى. [5] عدي بن نضلة العدويان.
ومن الأنصار بالمدينة: [1] البراء بن معرور (بمهملات) . [2] أسعد بن زرارة، فهؤلاء العشرة متفق عليهم. ومات في المدة أيضا: إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة، فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد، ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتأريخ إذ ذاك.
ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه، وهو سويد بن الصامت، فقد ذكر ابن إسحاق: أنه لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قبل أن تلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليهم الإسلام فقال:
إن هذا القول حسن. وانصرف إلى المدينة فقتل بها في وقعة بعاث- بضم الموحدة وإهمال العين وآخره مثلثة- وكانت قبل الهجرة، قال: فكان قومه يقولون. لقد قتل وهو مسلم، فيحتمل أن يكون هو المراد. وذكر لي بعض الفضلاء: أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، قلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسراء.
من فوائد هذا الحديث:
[1] الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا. [2] تغيير بعض الأحكام جائز إذا ظهرت المصلحة في ذلك. [3] بيان شرف المصطفى وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال. [4] بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر، كما صح من حديث البراء أيضا فنزل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [93/ المائدة] ، وقوله تعالى:
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [30/ الكهف] ، ولملاحظة هذا المعنى، عقّب البخاري على هذا الباب بقوله: «باب حسن إسلام المرء» فذكر الدليل على أن المسلم إذا فعل الحسنة أثيب عليها، وهو الحديث رقم (41) من الباب (31) في كتاب (الإيمان) . (فتح الباري) 1/ 128- 133 حديث رقم (40) .

(3/87)


وذكره في التفسير مختصرا [ (1) ] ، وذكره في كتاب الصلاة [ (2) ] ، وفي باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 216، كتاب التفسير، باب (12) ، سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [142/ البقرة] ، حديث رقم (4486) وقال فيه: «السفهاء» : جمع سفيه، وهو خفيف العقل، وأصله من قولهم: ثوب سفيه، أي خفيف النسيخ، واختلف في المراد بالسفهاء، فقال البراء، وابن عباس، ومجاهد: هم اليهود، وأخرج ذلك عنهم الطبري بأسانيد صحيحة، وروي من طريق السدي قال:
هم المنافقون، والمراد بالسفهاء الكفار، وأهل النفاق، واليهود.
أما الكفّار فقالوا لما حولت القبلة: رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا، فإنه علم أنا على الحق.
وأما أهل النفاق فقالوا: إن كان أولا على الحق، فالذي انتقل إليه باطل وكذلك بالعكس.
وما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء، ولو كان نبيا لما خالف، فلما كثرت أقاويل هؤلاء السفهاء أنزلت هذه الآيات من قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [106/ البقرة] ، إلى قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [150/ البقرة] ، من أحاديث الباب أيضا، الأحاديث أرقام: (4490) ، (4491) ، (4492) ، (4493) ، (4494) ، بسياقات مختلفة.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 661، كتاب الصلاة، باب (31) التوجه نحو القبلة حيث كان، أي حيث وجد الشخص في سفر أو حضر، والمراد بذلك صلاة الفريضة، كما يتبين ذلك في الحديث الثاني من الباب، وهو حديث جابر، وأما حديث تحويل القبلة المذكور في هذا الباب فهو الحديث رقم (399) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 13/ 287، كتاب أخبار الآحاد، باب (1) : ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة، والصوم، والفرائض، والأحكام، وقول اللَّه تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [122/ التوبة] ، ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [9/ الحجرات] ،

(3/88)


وخرج البخاري ومسلم [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر قال:
بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة [ (2) ] وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا [ (3) ] إلى الكعبة، وقال البخاري: فاستداروا إلى القبلة، ذكره في التفسير [ (4) ] وفي كتاب الصلاة [ (4) ] ، وفي باب إجازة خبر الواحد الصدوق [ (4) ] .
وقال ابن عبد البر: وأجمع العلماء أن شأن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأجمعوا أن ذلك كان بالمدينة، وأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إنما صرف عن الصلاة إلى بيت المقدس، وأمر إلى الصلاة إلى الكعبة بالمدينة، واختلفوا في صلاته حين فرضت عليه الصلاة بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة؟ فقالت طائفة: كانت صلاته إلى بيت المقدس من حين فرضت عليه الصلاة بمكة إلى أن قدم المدينة، ثم بالمدينة سبعة عشر شهرا أو نحوها حتى صرفه اللَّه إلى الكعبة.
ذكر سفيان عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يستقبل صخرة بيت المقدس، فأول [ما] [ (5) ] نسخت من القرآن القبلة، ثم الصيام الأول، قال ابن عبد البر: من حجة الذين قالوا: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إنما صلى إلى بيت المقدس بالمدينة، وأنه إنما كان يصلى بمكة إلى الكعبة، فذكر حديث البراء ثم قال: فظاهر هذا الخبر يدل على أنه لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس لا قبل ذلك، ويدلل [ (6) ] على ذلك أيضا، فذكر من حديث عبد اللَّه بن صالح، حدثنا
__________
[ () ] فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية، وقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [6/ الحجرات] ، وكيف بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أمراءه واحدا بعد واحد، فإن سها أحد منهم ردّ إلى السنة، حديث رقم (7251) ، حديث رقم (7252) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 13، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، (2) باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، حديث رقم (526) ، ونحوه حديث رقم (527) .
[ (2) ] في (خ) : «الليل» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «فاستداروها» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (4) ] سبق الإشارة إليهم.
[ (5) ] زيادة للسياق، وفي (خ) «فأول أنه» ، وهو خطأ من الناسخ.
[ (6) ] في (خ) «ويدل» ولعل الصواب ما أثبتناه.

(3/89)


معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أول ما نسخ اللَّه من القرآن القبلة، وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود، أمره اللَّه أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهرا، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو اللَّه وينظر إلى السماء، فأنزل اللَّه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ (1) ]- يعني نحوه- فارتاب اليهود من ذلك وقالوا: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [ (2) ] ؟ فأنزل اللَّه: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ (2) ] ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ (1) ] ، وقال: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ [ (3) ] يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [ (4) ] ، قال ابن عباس: ليميز أهل اليقين من أهل الشك، قال ابن عبد البر: ففي قول ابن عباس هذا من الفقه: أن الصلاة لم ينسخ منها شيء قبل القبلة، وفيه أنه كان يصلي بمكة إلى الكعبة، وهو ظاهره أنه لم يصل إلى بيت المقدس إلا بالمدينة وهو محتمل غيره [ (5) ] .
__________
[ (1) ] سورة البقرة، آية/ 144.
[ (2) ] سورة البقرة، آية/ 142.
[ (3) ] في (خ) «ممن» .
[ (4) ] سورة البقرة، آية/ 143.
[ (5) ] قال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة، عن عطاء عنه: وروي عن أبي العالية، والحسن، وعطاء الخراسانىّ، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وزيد بن أسلّم نحو ذلك.
وقال ابن جرير، وقال آخرون: بل أنزل اللَّه هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جلّ ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له تعالى المشارق والمغارب، وإنه لا يخلو منه مكان، كما قال تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [7/ المجادلة] .
قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الّذي فرض عليهم، التوجه إلى المسجد الحرام، هكذا قال، وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان: إن أراد علمه تعالى فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذنا من اللَّه أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وشدة الخوف، حدثنا أبو كريب، أخبرنا ابن إدريس، حدثنا عبد الملك- هو ابن أبي سليمان- عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

(3/90)


__________
[ () ] ورواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق، عن عبد اللَّه بن أبي سليمان به، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر، وعامر بن ربيعة من غير ذكر الآية.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: «فإن كان خوف أشدّ من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» . قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقد روى من طريق آخر عن جابر، فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب، حدثني أحمد بن عبد اللَّه بن الحسن، قال: وجدت في كتاب أبي: أخبرنا عبد الملك العزرمي، عن عطاء، عن جابر قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ها هنا قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فسكت، وأنزل اللَّه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.
ثم
رواه من حديث محمد بن عبيد اللَّه العزرمي عن عطاء، عن جابر به، وقال الدار الدّارقطنيّ: قرئ على عبد اللَّه بن عبد العزيز وأنا أسمع: حدثكم داود بن عمر، وأخبرنا محمد بن يزيد الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في مسير فأصابنا غيم، فتحيرنا، فاختلفنا في القبلة، فصلى كل رجل منا على حدة، وجعل أحدنا يخط بين يديه، لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فلم يأمرنا بالإعادة وقال: «قد أجازت صلاتكم» ،
ثم قال الدار الدّارقطنيّ: كذا قال عن محمد بن سالم. وقال غيره: عن محمد بن عبد اللَّه العزرمي، عن عطاء، وهما ضعيفان.
ورواه ابن مردويه أيضا، من حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعث سرية فأخذتهم ضبابة، فلم يهتدوا إلى القبلة، فصلوا لغير القبلة، ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشمس، أنهم صلوا لغير القبلة، فلما جاءوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حدّثوه، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية:
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضا. وأما إعادة الصلاة لمن تبين خطؤه ففيها قولان للعلماء، وهذه دلائل على عدم القضاء واللَّه أعلم.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، كما
حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه» .
قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟ قال: فنزلت: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ، قال قتادة: فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل اللَّه: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وهذا غريب واللَّه تعالى أعلم.
وقيل إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة، كما حكاه القرطبي عن قتادة، وذكر القرطبي: أنه لما مات صلى عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب، قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه:
[أحدها] : أنه صلى اللَّه عليه وسلّم شاهده حين سوى عليه طويت له الأرض.

(3/91)


وقال أبو إسحاق الحربي: ثم قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة في ربيع الأول فصلى إلى بيت المقدس تمام سنة إحدى عشرة أشهر، وصلى من سنة ثنتين ستة أشهر ثم حولت القبلة في رجب.
__________
[ () ] [الثاني] : أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه، صلى عليه، واختاره ابن العربيّ، قال القرطبي:
ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه، وقد أجاب ابن العربيّ عن هذا، لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت، وهذا جواب جيد.
[الثالث] : أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك. واللَّه تعالى أعلم.
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية، من حديث أبي معشر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق» ، وله مناسبة ها هنا. وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي معشر- واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي المدني- به: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» .
وقال الترمذي: وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة، وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر قبل حفظه،
ثم قال الترمذي: حدثني الحسن بن بكر المروزي، أخبرنا المعلى بن منصور، أخبرنا عبد اللَّه ابن جعفر المخزومي عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ،
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وحكى عن البخاري، أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح،
قال الترمذي: وقد روى عن غير واحد من الصحابة: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ، منهم: عمر ابن الخطاب، وعلي، وابن عباس، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة، إذا استقبلت القبلة» ،
ثم قال ابن مردويه: حدثنا على بن أحمد بن عبد الرحمن، أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم، أخبرنا شعيب بن أيوب، أخبرنا ابن نمير عن عبد اللَّه بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» .
وقد رواه الدار الدّارقطنيّ والبيهقي،
وقال: المشهور عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قوله: قال ابن جرير:
ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي، فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما حدثنا القاسم، أخبرنا الحسين، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد: لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، قال ابن جرير: ومعنى قوله:
إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله: عَلِيمٌ فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم. (تفسير ابن كثير) : 1/ 162- 165.

(3/92)


وقال موسى بن عقبة وإبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن ابن عبد الرحمن ابن عبد اللَّه بن كعب بن مالك أن القبلة صرفت في جمادى.
وقال الواقدي: إنما صرفت صلاة العصر يوم الثلاثاء في النصف من شعبان.
وذكر أبو بكر أحمد بن علي الرازيّ الحنفي في كتاب أحكام القرآن [ (1) ] : أن من الناس من يقول: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان مخيّرا في أن يصلي إلى حيث شاء، وإنما كان توجهه إلى بيت المقدس على وجه الاختيار لا على وجه الإيجاب حتى أمر بالتوجه إلى الكعبة، وكان قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ (2) ] في وقت التخيير قبل الأمر بالتوجه إلى الكعبة، واللَّه الموفق.
***
__________
[ (1) ] «أن نفرا قصدوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة، وكان فيهم البراء ابن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبي الآخرون وقالوا: إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس، فلما قدموا مكة سألوا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال له: قد كنت على قبلة- يعني بيت المقدس- لو ثبت عليها أجزأك، ولم يأمره باستئناف الصلاة، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين» (التفسير الكبير للفخر الرازيّ) ج 4 ص 111.
[ (2) ] 115/ البقرة.

(3/93)


ذكر من قرن برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الملائكة
خرج الإمام أحمد من حديث ابن عدي عن داود عن عامر الشعبي: نزلت عليه صلى اللَّه عليه وسلّم النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، وكان يعلمه الكلمة والشيء. لم ينزل [من] [ (1) ] القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه [عشرين، عشرا بمكة وعشرا بالمدينة] [ (1) ] .
ولحديث ابن سعد من حديث وهيب بن خالد عن داود بن أبي هند عن عامر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، وكان معه إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين قرن بنبوته ثم عزل عنه إسرافيل عليه السلام، وقرن به أيضا جبريل عليه السلام بمكة عشر سنين مهاجره بالمدينة، قال ابن سعد: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وأن علماءهم وأهل السير منهم يقولون: لم يقرن به صلى اللَّه عليه وسلّم غير جبريل صلوات اللَّه وسلامه عليه من حيث أنزل عليه صلى اللَّه عليه وسلّم الوحي إلى أن قبض صلى اللَّه عليه وسلّم، وصحح الحاكم ذلك، واللَّه سبحانه الموفق بمنه.
***
__________
[ (1) ] زيادة من (دلائل النبوة للبيهقي) ج 1 ص 391.

(3/94)