إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر الفضائل التي خصّ اللَّه تعالى
بها نبيّه ورسوله محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم وشرفه بها على جميع الأنبياء
اعلم أن اللَّه تعالى فضّل رسوله محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم بفضائل عديدة
ميّزه بها وشرّفه على من عداه من الأنبياء عليهم السلام، فجعله رحمة
للعالمين، ولم يخاطبه باسمه وإنما خاطبه بالنّبوّة والرسالة التي لا أجلّ
منها ولا أعظم، ونهى تعالى الأمة أن يخاطبوه باسمه، ودفع عنه ما قذفه به
المشركون، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم يذكر له ذنبا ولا زلة،
وأخذ الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا به إن أدركوه، وأمر الناس أن
يتأسوا به فعلا وقولا، وفرض طاعته على الكافة، وقرن اسمه تعالى باسمه، وقدم
نبوته قبل خلق آدم عليه السلام، ونوه باسمه من عهد آدم، وشرّف أصله، وكرّم
حسبه ونسبه، وطيب مولده، وسماه بخير الأسماء، وأقسم بحياته، وأفرده
بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء، فآدم ومن دونه تحت لوائه، وخصّه
بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر وبالحوض المورود، وجعله أعظم الأنبياء
تبعا، وأعطاه خمسا لم يعطهن أحدا قبله، وبعث بجوامع الكلم، وأولى مفاتيح
خزائن الأرض، وأمدّه اللَّه بالملائكة حتى قاتلت معه، وختم به الأنبياء،
وجعل أمته خير الأمم، وذكره في كتب الأنبياء وصحفهم، وأنطق العلماء
بالبشارة به حتى كانت بعثته صلى اللَّه عليه وسلّم تنتظرها الأمم، وسمع
الأخبار بنبوته صلى اللَّه عليه وسلّم من هواتف الجن ومن أجواف الأصنام ومن
رجز الكهان، صلى اللَّه تعالى عليه وعلى جميع الأنبياء وعظّم وكرّم.
***
(3/95)
فأما أنه صلى اللَّه عليه وسلّم رحمة
للعالمين
فقد قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (1) ] ،
وذلك أن أعداءه أمنوا من العذاب مدة حياته، قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [ (2) ] ، فلم يعذبهم اللَّه تعالى حتى
ذهب عنهم إلى ربه، فأنزل بهم ما أوعدهم من قبل وأشد، وذلك قوله تعالى:
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [ (3) ] .
خرج الحرث بن أبي أسامة من حديث على بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: بعثني اللَّه رحمة وهدى للعالمين،
وهو هدي الدعاء والبيان.
ورواه محمد بن إسحاق من حديث الفرح بن فضالة عن علي بن يزيد به ولفظه: إن
اللَّه بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين،
وهو هدى التعريف والاستهداء.
وقال يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قيل يا
رسول اللَّه، ألا تدعو على المشركين؟ قال: إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابا،
فإن قيل: كيف يكون رحمة للعالمين وقد أنزل بمن عاداه الذل والصّغار، فحطّم
بعد الرفعة، وأهانهم بعد المنعة، وصيرهم بعد الملك إلى الهلك، بأن حوى
أموالهم، وسبى حريمهم، وملك معاقلهم، وقتل حماتهم، ثم إن أصحابه من بعده
دوخوا ممالك الأرض بدعوته، فاجتاحوا العرب من بني حنيفة وغيرهم عند
ارتدادهم عن ملته، ومزقوا ملك كسرى وملك فارس، وأذلوا الفرس، وشردوا قيصر
ملك الروم عن الشام والجزيرة، وقتلوا الروم والفرس أبرح قتل، وغلبوا قبط
مصر وجبروهم أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بعد ما ملكوا ديارهم
وأموالهم
__________
[ (1) ] الأنبياء: 107.
[ (2) ] الأنفال: 33.
[ (3) ] الزخرف: 41.
(3/96)
بمصر، وأزاحوا البربر عن بلاد المغرب
وانتزعوها منهم ومن القوط الجلالقة، فلم يتركوا نوعا من أنواع العذاب حتى
أحلّوه بمن ذكرنا من الأمم، وهم سكان البسيطة ومعظم الخليقة من البشر؟.
قلنا: هذا اعتراض من لم ترض نفسه بالحكمة، حتى غفل عن ترتيب حكمة الباري
تعالى في مصنوعاته، ولم يعلم ما تعطيه حقائق الأشياء، وذلك أن المحالّ إنما
تقبل على قدر الاستعداد المهيأ فيها، وبيان ذلك أن اللَّه تعالى وصف كتابه
العزيز بأنه هدى للناس، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [ (1) ] ، وهذا عام مطّرد باعتبار القوة
والصلاحية، أي في قوته وصلاحيته أن يهدي جميع الناس، وهو عام مخصوص بمن لم
يهتد باعتبار الفعل، إذ كثير من الناس لم يهتد به، ثم وصف تعالى كتابه
بوصفين متضادين في وروده على الناس بحسب قبول قلوبهم له على قدر استعدادها،
قال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ
كافِرُونَ [ (2) ] ، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ
شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا
خَساراً [ (3) ] ، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً
وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [ (4) ] ،
فانظر- أعزك اللَّه- كيف كانت عين القرآن واحدة، وأثره في قلوب الناس
مختلف، فيزيد المؤمن به إيمانا على إيمانه، ويزداد به الكافر كفرا على كفره
حتى يموت كافرا، وانظر كيف تكون شفاء ورحمة لقوم وخسارا لآخرين، وكيف يهتدي
به قوم ويكون عمى على قوم؟، وذلك بحسب ما أعطاه اللَّه من الاستعداد
والمهيأ للقبول، وقد كشف لنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قناع هذا
المعنى ببليغ بيانه:
فخرج البخاري [ (5) ] ..
__________
[ (1) ] البقرة: 185.
[ (2) ] التوبة: 124، 125.
[ (3) ] الإسراء: 82.
[ (4) ] فصلت: 44.
[ (5) ] (فتح الباري) : 1/ 232، كتاب العلم، باب (20) فضل من علم وعلّم،
حديث رقم (79) .
(3/97)
ومسلم [ (1) ] ...
__________
[ (1) ]
قال المقريزي- رحمه اللَّه- بعد أن ساق هذا الحديث: «اللفظ لمسلم» ، ولفظ
مسلم: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو عامر الأشعري، ومحمد بن العلاء
[واللفظ لأبي عامر] ، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن بريد عن أبي بردة، عن أبي
موسى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إن مثل ما بعثني به اللَّه عزّ
وجلّ من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت
الماء فأنبتت الكلا والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع
اللَّه بها الناس فشربوا منها، وسقوا، ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما
هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين اللَّه، ونفعه
بما بعثني اللَّه به، فعلم، وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل
هدى اللَّه الّذي أرسلت به» .
(مسلم بشرح النووي) : 16/ 51- 53، كتاب الفضائل، باب (5) ، بيان مثل ما بعث
به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الهدى والعلم، حديث رقم (2282) .
أما الغيث فهو المطر، وأما العشب والكلأ والحشيش، فكلها أسماء للنبات لكن
الحشيش مختص باليابس والرطب. وقال الخطابي وابن فارس: الكلأ يقع على
اليابس، وهذا شاذ ضعيف. وأما الأجادب- فبالجيم والدال المهملة- وهي الأرض
التي تنبت كلأ. وقال الخطابي هي الأرض التي تمسك الماء، فلا يسرع فيه
النضوب.
قال ابن بطال، وصاحب المطالع، وآخرون: هو جمع جدب، على غير قياس، كما قالوا
في حسن:
جمعه محاسن، والقياس: أن محاسن جمع محسن، وكذا قالوا: مشابه جمع شبه،
وقياسه: أن يكون جمع مشبه، قال الخطابي: وقال بعضهم: أحادب- بالحاء المهملة
والدال- قال: وليس بشيء. قال:
وقال بعضهم: أجارد- بالجيم والراء والدال-. قال: وهو صحيح المعنى.
قال الأصمعي: الأجارد من الأرض ما لا ينبت الكلأ، معناه: أنها جرداء هزرة،
لا يسترها النبات، قال: وقال بعضهم: إنما هي أخاذات- بالخاء والذال
المعجمتين وبالألف- وهو جمع أخاذة، وهي الغدير الّذي يمسك الماء. وذكر صاحب
(المطالع) هذه الأوجه التي ذكرها الخطابي، فجعلها روايات منقولة.
وقال القاضي في (الشرح) : لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره، إلا
بالدال المهملة من الجدب، الّذي هو ضد الخصب. قال: وعليه شرح الشارحون.
وأما القيعان فبكسر القاف- جمع القاع، وهو الأرض المستوية، وقيل: الملساء،
وقيل: التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في هذا الحديث، كما شرح به صلى
اللَّه عليه وسلّم، ويجمع أيضا على أقوع، وأقواع، والقيعة- بكسر القاف-
بمعنى القاع. قال الأصمعي: قاعة الدار: ساحتها.
وأما الفقه في اللغة فهو الفهم. يقال منه: فقه- بكسر القاف- يفقه فقها،
بفتحها كفرح يفرح فرحا، وقيل: المصدر فقها- بإسكان القاف- وأما الفقه
الشرعي، فقال صاحب (العين) ، والهروي، وغيرهما: يقال منه فقه- بضم القاف-
وقال ابن دريد: بكسرها كالأول.
والمراد بقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فقه في دين اللَّه» ، هذا الثاني،
فيكون مضموم القاف على المشهور، وعلى
(3/98)
__________
[ () ] قول ابن دريد بكسرها، وقد روى بالوجهين، والمشهور الضم.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء» ،
فهكذا هو في جميع نسخ مسلم «طائفة طيبة» . ووقع في البخاري: «فكانت منه
نقية قبلت الماء»
- بنون مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مشددة- وهو بمعنى طيبة،
هذا هو المشهور في روايات البخاري. ورواه الخطابي وغيره: «ثغبة» - بالثاء
المثلثة والغين المعجمة والباء الموحدة- قال الخطابي: وهو مستنقع الماء في
الجبال والصخور، وهو الثغب أيضا، وجمعه ثغبان. قال القاضي وصاحب (المطالع)
: هذه الرواية غلط من الناقلين وتصحيف، وإحالة للمعنى، لأنه إنما جعلت هذه
الطائفة الأولى مثلا لما ينبت، والثغبة لا تنبت.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وسقوا»
فقال أهل اللغة: سقى وأسقى: بمعنى لغتان، وقيل: سقاه: ناوله ليشرب، وأسقاه:
جعل له سقيا.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ورعوا»
فهو بالراء من الرعي، هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري «وزرعوا»
، وكلاهما صحيح، واللَّه تعالى أعلم.
أما معاني الحديث ومقصوده: فهو تمثيل الهدى الّذي جاء به صلى اللَّه عليه
وسلّم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:
فالنوع الأول، من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيي بعد أن كان ميتا وينبت الكلأ،
فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه
الهدى والعلم، فيحفظه، فيحيا قلبه، ويعمل به، ويعلمه غيره، فينفع وينفع.
والنوع الثاني، من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة،
وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من
الناس، لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل،
يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم
يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج، متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع
والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث، من الأرض السباخ، التي لا تنبت، ونحوها، فهي لا تنتفع
بالماء، ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس، ليست لهم
قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه
لنفع غيرهم، واللَّه تعالى أعلم. وفي هذا الحديث أنواع من العلم، منها:
[1] ضرب الأمثال.
[2] فضل العلم والتعليم.
[3] شدة الحث عليهما.
[4] ذم الإعراض من العلم.
واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) .
(3/99)
والنّسائي [ (1) ] من حديث سويد عن أبي
بردة عن أبي موسى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أن مثل ما بعثني اللَّه
به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء
فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب فمسكت الماء فنفع اللَّه بها
الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا
تمسك ماء ولا تنبت كلا، فذلك مثل من فقه معاني دين اللَّه ونفعه بما بعثني
به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللَّه الّذي أرسلت
به.
اللفظ لمسلم، ذكره في كتاب المناقب، وذكره البخاري في كتاب العلم وقال فيه:
كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء، وقال فيه: فشربوا
وسقوا وزرعوا، وقال فيه: ونفعه بما بعثني اللَّه، وقال بعده: قال إسحاق:
وكان منها طائفة قبلت الماء قاع يعلوه الماء.
__________
[ (1) ] لم أجده في (النسائي) بهذه السياقة، لكن
أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي موسى الأشعري، ضمن حديث طويل أوله: عبد
اللَّه حدثني أبي، حدثني عبد اللَّه بن محمد- وسمعته أنا من عبد اللَّه بن
محمد- حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى،
قال: «ولد لي غلام، فأتيت به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فسماه إبراهيم
وحنكه بتمرة، وقال: احترق بيت بالمدينة على أهله، فحدث النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم بشأنهم فقال: إنما هذه النار عدوّ لكم، فإذا نمتم فأطفئوها
عنكم، قال: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا بعث أحدا من أصحابه
في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وقال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم:
إن مثل ما بعثني اللَّه عزّ وجلّ به من الهدى والعلم ... » وساق الحديث
بنحو سياقه البخاري ومسلم.
(مسند أحمد) : 5/ 544، حديث رقم (19076) .
قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لما جاء به من الدين،
مثلا بالغيث العام الّذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال
الناس قبل مبعثه صلى اللَّه عليه وسلّم، فكما أن الغيث يحي البلد الميت،
فكذا علوم الدين تحيي القلب الميّت، ثم شبّه السامعين له بالأرض المختلفة
التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض
الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها.
ومنهم الجامع للعلم، المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم
يتفقه فيما جمع، لكنه أدّاه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء
فينتفع به الناس.
ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة
الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المجودتين، لاشتراكهما في
الانتفاع بهما، وأفراد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. (الأمثال
في الحديث النبوي) : 378- 379، حديث رقم (326) والتعليق عليه.
(3/100)
فانظر ما أبلغ هذا المثال النبوي وأبينه
لما نحن بصدده، فهذه عين الماء الّذي نزل من السماء واحدة، وأثره في الأرض
مختلف على قدر ما أعطاها الحكيم الخبير سبحانه من الاستعداد، وهيأ فيها من
القبول حتى قبلت [كل] [ (1) ] قطعة منها الماء بحسب استعدادها، فأنبتت
الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات التي يفضل بعضها على بعض
في الأكل، وقبلت قطعة أخرى من الأرض ذلك الماء بعينه، فأنبتت بحسب
استعدادها كلأ وعشبا ترعاه الأنعام، وفقدت قطعة أخرى هذا الاستعداد المهيئ
لقبول الإنبات، فأمسكت الماء ولم تغيره عن أصله لطيبها حتى استقى منه الناس
فشربوا وحملوا وسقوا أنعامهم، وكانت قطعة أخرى من الأرض لم يجعل اللَّه
تعالى فيها من الاستعداد لقبول الإنبات شيئا، وسلبها مع ذلك الطيب
والاعتدال، حتى انحرفت عنه فلم تخرج نبتا ولا أمسكت ماء، بل أحالته لخبثها
أجاجا وملحا لا ينتفع به، فكما اختلفت الأرض في الاستعداد واختلفت في
القبول، وهكذا نفوس الناس لما اختلفت في الاستعداد لقبول الخير والهدى،
اختلفت في قبوله، وعين الهدى واحدة، ولكن أثره في نفوس الناس مختلف، فواحد
قبل هدى اللَّه الّذي جاء به نبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم حال ما جاء
به من غير أن يدعى إليه ولا طلب منه دليلا عليه كخديجة بنت خويلد، وأبي بكر
الصديق، وعلي بن أبي طالب، وزيد الحبّ، رضي اللَّه عنهم، وذلك بحسب قوة
استعدادهم لقبول الهدى، وقد عبّر عن هذا الاستعداد في اصطلاح القرآن
بالهداية، ويقال له التوفيق أيضا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [ (2) ] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [ (3) ] ، أي والذين
اهتدوا يعني قبلوا الهداية العامة الإيمانية بقابليتهم الأصلية، وأقبلوا
بكلية مواطنهم إليها، زادهم اللَّه هدى بما أدركهم من عناية مدد الحضرة
الرحمانية بالهداية الخاصة من مقام الإحسان، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ يعني
أعطاهم تقوى نفوسهم بأن جعلوا حكم توحيدهم الباطن في قلوبهم وقاية تصون
أنفسهم عن التلبس من أحشاء الانحرافات المبعدة لهم عن جناب
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الحجرات: 7.
[ (3) ] محمد: 17.
(3/101)
موجدهم تقدّس وتعالى.
وآخرون آتاهم اللَّه تعالى من هذا الاستعداد دون ما أتى من ذكرنا، فاحتاجوا
إلى أن يدعوا إلى اللَّه ويدلّوا على الطريق إليه، وهم الذين دخلوا في دين
الإسلام من المهاجرين والأنصار، وقصر هذا الاستعداد في قلوب آخرين حتى
احتاجوا في دخولهم في الإيمان إلى أن أظهر لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم من آياته ومعجزاته ما قادهم إلى الإيمان به طوعا، وانحط فريق عن هذه
الرتب لضعف الاستعداد عندهم لقبول الهدى، فلم يدخلوا فيه إلا كرها من تحت
السيف، كمسلمة الفتح الذين قيل لهم:
«الطلقاء» [ (1) ] .
وعدمت طوائف من الناس هذا الاستعداد جملة فشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم
الهدى وعاندوا الحق بعد ما وضح، وصدّوا عن سبيل اللَّه من آمن به، وبذلوا
جهدهم في إطفاء نور اللَّه- رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- حتى ماتوا
وهم كافرون من أجل أنه لم يكن فيهم من الاستعداد المهيء لقبول الهدى شيء،
قلّ ولا جلّ، بل كانوا في ورود الهدى عليهم بمنزلة الأرض الخبيثة التي
أحاطت ماء الغيث العذب الطهور إلى السباخ الرديء، وبمنزلة من به آفة في
معدته من خلط رديء، [فأحالت] [ (2) ] أطيب المآكل وأنفعها سما مهلكا وداء
عياء.
وانظر- رحمك اللَّه- إلى الآية الواحدة من كتاب اللَّه تعالى فإنّها ترد
على الأسماع، فواحد يفهم أمرا واحدا، وآخر لا يفهم منها ذلك الأمر بل يفهم
أمرا آخر، وآخر يفهم منها أمورا كثيرة، ولهذا يستشهد كل واحد من الناظرين
فيها بها، فالآية واحدة العين، والسامعون لها مختلفون في القبول، وذلك
لاختلاف استعداد أفهامهم فيها.
واوع سمعك أمثالا أفصّلها مما قد ألفته من المحسوسات: منها أن الشمس تبسط
أنوارها على الموجودات كلها فتقبل المحال ذلك النور على قدر الاستعداد،
فالجسم
__________
[ (1) ] إشارة إلى
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم يوم الفتح: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
(3/102)
المبرود يسخن بها فيتلذذ بذلك، والجسم
المحرور يزيد في كمية حرارته فيتألم بها، فالنور واحد لهما، وكل واحد منهما
يتألم بما به ينعم الآخر بعينه، فلو كان النور لإعطائه حقيقة واحدة، وإنما
ذلك لاستعداد القابل.
وهكذا تجد الشمس تسوّد وجه القصّار [ (1) ] وتبيض الثوب الّذي يقصره، فإن
استعداد الثوب تعطي الشمس فيه التبييض، ووجه القصّار تعطي الشمس فيه
التسويد، وكذلك ترى الشمس تذيب الشمع والشحم، وتجفف الطين والثوب المبلول،
فإن استعداد كل واحد من هذه المذكورات تعطيه الشمس بحسب قبوله، ومن ذلك
الهواء، إذا هبّ فإنه في هبوبه يطفئ السراج ويشعل النار في الحطب ونحوه مما
من شأنه أن يقبل الاشتعال، وهكذا نفخك يطفئ السراج ويشعل النار في الحطب،
وربما كان ذلك بنفخة واحدة، وذلك أن اختلافهما في الاستعداد يوجب اختلافهما
في القبول، والهواء واحد في عينه، ومن هذا القبيل العطايا الإلهية، قال
تعالى: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [ (2) ] أي ممنوعا، فهو سبحانه
معط على الدوام، والمحالّ تقبل على قدر ما أعطاها اللَّه تعالى من
الاستعدادات، فإذا فهمت هذا علمت أن عطاء اللَّه تعالى ليس بممنوع، إلا أنك
تحب أن يعطيك مالا يقبله استعدادك، وتنسب المنع إليه- سبحانه- فيما طلب
منه، ولا تجعل ما لك من الاستعداد وتقول: إن اللَّه تعالى على كل شيء قدير،
وتصدق في ذلك، ولكنك تغفل عن ترتيب الحكمة الإلهية وما تعطيه حقائق الأشياء
والكل من عند اللَّه، فمنعه عطاء، وعطاؤه منع، ولكن بقي أن تعلم بكذا أو من
كذا.
وإذا تدبرت هذه الأمثلة انجلت لك شبهة ما أورده أهل الزيغ والإلحاد على
عموم أن رسالة محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم رحمة للعالمين،
واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال أبو عبد اللَّه محمد بن علي المعروف بالحكيم الترمذي: إن الأنبياء
والرسل
__________
[ (1) ] القصّارة المحوّر للثياب لأنه يدقها بالقصرة التي هي القطعة من
الخشب وحرفته القصارة، والمقصرة:
خشبة القصّار. (لسان العرب) : 5/ 104.
[ (2) ] الإسراء: 20.
(3/103)
صفوة الخلق، وأما محمد صلى اللَّه عليه
وسلّم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه [نور] [ (1) ] ورحمة، قال اللَّه
تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (2) ] ، فالرسل
خلقوا للرحمة، ومحمد صلى اللَّه عليه وسلّم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار
أمانا للخلق لما بعثه سبحانه وتعالى أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور،
وسائر الأنبياء عليهم السلام لم يحلوا هذا المحل، ولذلك
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا رحمة مهداة،
فأخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من اللَّه تعالى، وقوله: مهداة، أي هدية من
اللَّه سبحانه وتعالى للخلق، واللَّه الموفق.
***
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الأنبياء: 107.
(3/104)
وأما مخاطبة اللَّه له بالنّبوّة والرسالة
ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه
فإن ذلك أبان اللَّه تعالى به عن إجلال قدر نبيه محمد صلى اللَّه عليه
وسلّم وتمجيده وتعظيمه، فإنه لا أجلّ من النبوة، ولا أعظم خطرا منها، قال
تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ [ (1) ] ، وقال: يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [ (2) ] ، وقال: يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [ (3) ] ،
وقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [ (4) ] ،
وخاطب سبحانه الأنبياء بأسمائهم، وأخبر عنهم بأسمائهم، فقال تعالى: يا
آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [ (5) ] ، وقال في الإخبار
عنه:
وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [ (6) ] ، وقال، يا نُوحُ اهْبِطْ [ (7) ] ،
وقال في الإخبار عنه: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ [ (8) ] ، وقال: يا إِبْراهِيمُ
أَعْرِضْ عَنْ هذا [ (9) ] ، وقال في الإخبار عنه: وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [ (10) ] ، وقال:
يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي [ (11) ] ، وقال
في الإخبار عنه:
فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [ (12) ] ، وقال: يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ [ (13) ] ، وقال في الإخبار عنه:
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ [ (14) ] ، وقال:
يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [ (15) ] ، وقال: يا صالِحُ ائْتِنا بِما
تَعِدُنا (بعذاب اللَّه) [ (16) ] ، وقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ [
(17) ] ، وقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ [ (18) ] ،....
__________
[ (1) ] الأحزاب: 45.
[ (2) ] الأنفال: 64.
[ (3) ] آل عمران: 176.
[ (4) ] المائدة: 67.
[ (5) ] الأعراف: 19.
[ (6) ] طه: 121.
[ (7) ] هود: 48.
[ (8) ] هود: 42.
[ (9) ] هود: 76.
[ (10) ] البقرة: 127.
[ (11) ] الأعراف: 144.
[ (12) ] القصص: 15.
[ (13) ] المائدة: 110.
[ (14) ] الصف: 6.
[ (15) ] هود: 53.
[ (16) ] الأعراف: 77.
[ (17) ] ص: 26.
[ (18) ] ص: 34.
(3/105)
وقال: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلامٍ [ (1) ] ، وقال: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ [ (2) ] ، فلم يخاطب
أحدا منهم ولا أخبر عنه إلا باسمه، وكل موضع ذكر فيه محمدا صلى اللَّه عليه
وسلّم أضاف إليه ذكر الرسالة، فقال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ (3) ] ، وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ [ (4) ] ، وقال: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ
وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [ (5) ] ، وقال: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى
مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [ (6) ] ، فسماه ليعلم من جحده
أن أمره وكتابه هو الحق، ولأنهم لم يعرفوه إلا بمحمد، فلو لم يسمه لم يعلم
اسمه من الكتاب، وكأن تسمية اللَّه له بمحمد زيادة في جلالة قدره وتنبيها
على مزيد شرفه، لأن اسمه عليه السلام مشتق من اسم اللَّه تعالى، كما مدحه
به عمه أبو طالب بقوله:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
ولما جمع اللَّه تعالى بين ذكر محمد وإبراهيم عليهما السلام، سمي خليله
باسمه وكنّي حبيبه محمدا بالنّبوّة فقال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا [ (7) ] ، فأبان سبحانه بذلك عن شرف مقدار محمد صلى اللَّه عليه
وسلّم وعلو رتبته عنده، ثم قدمه اللَّه عز وجل في الذكر على من تقدمه في
البعث، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ... [ (8) ] ، إلى قوله: وَآتَيْنا
داوُدَ زَبُوراً [ (9) ] ، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ [ (10) ] الآية،
وقد روى من طرق عن سعيد بن بشير، حدثنا قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي
اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في قوله تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [
(11) ] ، قال: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث،
فانظر كيف خاطب اللَّه سبحانه محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم بالنّبوّة
والرسالة، ولم يخاطب غيره من الأنبياء إلا باسمه، إلا أن يكون محمدا صلى
اللَّه عليه وسلّم في جملتهم فيشركهم معه
__________
[ (1) ] مريم: 7.
[ (2) ] مريم: 20.
[ (3) ] آل عمران: 144.
[ (4) ] الفتح: 29.
[ (5) ] الأحزاب: 40.
[ (6) ] محمد: 2.
[ (7) ] آل عمران: 68.
[ (8) ] النساء: 163.
[ (9) ] النساء: 163.
[ (10) ] الأحزاب: 7.
[ (11) ] الأحزاب: 7.
(3/106)
في الخطاب والخبر، ليبين تعالى لعباده
ارتفاع رتبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على جميع الأنبياء، وعلوّ
مكانته على مكاناتهم كلهم، إذ الكناية عن الاسم غاية التعظيم للمخاطب، لأن
من بلغ به الغاية في التعظيم كني عن اسمه بأخص أوصافه وأجلّها، واللَّه
الموفق.
(3/107)
وأما دفع اللَّه عن الرسول صلى اللَّه عليه
وسلّم ما قرفه به المكذبون، ونهي اللَّه تعالى العباد عن مخاطبته باسمه
اعلم أن الأمم السالفة كانت تخاطب أنبياءهم بأسمائهم، كقولهم: يا مُوسَى
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [ (1) ] ، وقولهم: يا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً
[ (2) ] ، وقولهم: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [ (3) ] ، وقولهم:
يا صالِحُ ائْتِنا [ (4) ] ، فشرف اللَّه الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم
بتبجيل قدره، ونهى الكافة أن يخاطبوه باسمه، فقال تعالى: لا تَجْعَلُوا
دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [ (5) ] ،
فندبهم اللَّه تعالى إلى تكنيته بالنّبوّة والرسالة، رفعة لمنزلته وتشريفا
لقدره على جميع الرسل والأنبياء، وأوجب تعالى تعزيره صلى اللَّه عليه وسلّم
وتوقيره، وألزم سبحانه إكرامه وتعظيمه، قال ابن عباس: تعزروه: تبجلوه، وقال
المبرد:
تعزروه: تبالغوا في تعظيمه، وقال الأخفش: تنصرونه، وقال الطبري: تعينونه،
وقرأ تعززونه بزاءين من العز.
[و] [ (6) ] خرج محمد بن عثمان بن أبي شيبة من حديث أبي رزق عن الضحاك عن
ابن عباس رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [ (7) ] قال: كانوا يقولون: يا
محمد يا أبا القاسم، قال:
فنهاهم اللَّه عن ذلك إعظاما لنبيه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: فقالوا: يا
نبي اللَّه، يا رسول اللَّه.
ولأبي نعيم من حديث محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس:
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
يعني كدعاء أحدكم إذا
__________
[ (1) ] الأعراف: 138.
[ (2) ] المائدة: 112.
[ (3) ] هود: 53.
[ (4) ] الأعراف: 77.
[ (5) ] النور: 63.
[ (6) ] زيادة للسياق.
[ (7) ] النور: 63.
(3/108)
دعي أخاه باسمه، ولكن وقروه وعزروه وعظموه،
وقولوا: يا رسول اللَّه، ويا نبي اللَّه.
وعن عاصم عن الحسن: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ
بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال: لا تقولوا: يا محمد، قولوا يا رسول اللَّه.
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال: لا تقولوا: يا محمد، قولوا يا
رسول اللَّه.
وعن قتادة: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ
بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال: أمر اللَّه سبحانه وتعالى أن يهاب نبيه صلوات
اللَّه عليه وأن يعظم ويفخّم ويسوّد، وفي رواية قال: أمرهم اللَّه تعالى أن
يفخموه ويشرفوه، ونهى المؤمنين أن يقولوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: راعنا سمعك، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا
راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا [ (1) ] ، قال الضحاك عن ابن عباس:
لا تقولوا: راعنا، وذلك أنها سبّة بلغة اليهود، فقال: قولوا انظرنا، يريد
أسمعنا، فقال المؤمنون بعدها: من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه، فانتهت
اليهود بعد ذلك.
وعن أبي صالح عن ابن عباس: لا تَقُولُوا راعِنا قال: راعنا بلسان اليهود
السب القبيح، فكان اليهود يقولون لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك
سرا، فلما سمعوا أصحابه يقولونه أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون
فيما بينهم، فسمعها منهم سعد بن معاذ رضي اللَّه عنه فقال لليهود: يا أعداء
اللَّه، عليكم لعنة اللَّه، والّذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم
يقولها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لأضربن عنقه.
وعن مجاهد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا خلافا
وقولوا: انظرنا، أفهمنا، بين لنا.
وعن قتادة: لا تَقُولُوا راعِنا قال: كانت اليهود تقول: راعنا استهزاء،
فنهى اللَّه المؤمنين أن يقولوا كقولهم.
__________
[ (1) ] البقرة: 104.
(3/109)
وعن عطية: لا تَقُولُوا راعِنا قال: كان
أناس من اليهود يقولون: راعنا سمعك، حتى قالها أناس من المؤمنين، فكره لهم
ما قالت اليهود، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا
كما قالت اليهود وَقُولُوا انْظُرْنا واللَّه الموفق.
***
(3/110)
وأما دفع اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم ما قرفه المكذبون له
كان من تقدم من أنبياء اللَّه صلوات اللَّه عليهم كانوا يردون عن أنفسهم
ويدفعون ما قرفهم مكذبوهم، فتولى اللَّه ذلك عن رسول اللَّه محمد صلى
اللَّه عليه وسلّم، قال تعالى [حكاية] [ (1) ] عن قوم نوح: إِنَّا لَنَراكَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (2) ] ، فقال دافعا عن نفسه: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي
ضَلالَةٌ [ (3) ] ، وقال قوم هود: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [ (4) ] ،
فقال دافعا عن نفسه: قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ [ (5) ] ، وقال
فرعون لموسى: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [ (6) ] ، فقال موسى
مجيبا له:
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [ (7) ] ، فتولى اللَّه
سبحانه وتعالى المجادلة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين قال
المشركون عنه: إنه شاعر، فقال: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [ (8) ] ، ولما
قالوا: كاهن قال تعالى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما
تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [ (9) ] ،
ولما قالوا: ضال، قال سبحانه وتعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [ (10)
] ، ولما قالوا عنه صلى اللَّه عليه وسلّم: إنه مجنون، قال اللَّه سبحانه
وتعالى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ
[ (11) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الأعراف: 60.
[ (3) ] الأعراف: 66.
[ (4) ] الأعراف: 61.
[ (5) ] الأعراف: 67.
[ (6) ] الإسراء: 101.
[ (7) ] الإسراء: 102.
[ (8) ] يس: 69.
[ (9) ] الحاقة: 41.
[ (10) ] النجم: 2.
[ (11) ] الطور: 29.
(3/111)
وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطا
ولا زلّة
فقد خرج الحاكم من حديث الحكم بن أبان قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس:
إن اللَّه فضل محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم على جميع الأنبياء وعلى جميع
أهل السماء، وفضله على أهل الأرض، قالوا: يا ابن عباس!! بم فضله على أهل
السماء؟ قال:
قال اللَّه تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ
فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ (1) ] ، وقال
لمحمد: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [ (2) ] الآية، قالوا: فبم فضّله
على أهل الأرض؟ قال: قال اللَّه تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [ (3) ] ، الآية، وقال لمحمد:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [ (4) ]
، فأرسله إلى الجن والإنس، قال الحاكم: هذا حديث صحيح.
واعلم أن من تقدم الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم، من الأنبياء ذكر اللَّه
تعالى أحوالهم [و] [ (5) ] ما كان منهم يقصّه تعالى على ما غفره لهم، قال
تعالى في قصه موسى: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً [ (6) ] ،
وقال: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [ (7) ] ، فقصّ
تعالى ما غفر له وسأل فيه المغفرة، وقال تعالى عن داود: وَهَلْ أَتاكَ
نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ
فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ
فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ
الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ
نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ
الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا
لَهُ ذلِكَ [ (8) ] ، فقصّ تعالى على
__________
[ (1) ] الأنبياء: 29.
[ (2) ] الفتح: 1، 2.
[ (3) ] إبراهيم: 4.
[ (4) ] سبأ: 28.
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] القصص: 33.
[ (7) ] القصص: 16.
[ (8) ] ص: 21- 24.
(3/112)
ما كان فيهم، ولم يقصّ على خطأ كان من رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إكراما له وتشريفا، فقال عز من قائل: إِنَّا
فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ
صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [ (1) ] ،
وهذا غاية الفضل والشرف، لأنه تشريف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من غير أن
يكون هناك ذنب، ولكنه تعالى استوعب في هذه الآية جميع أنواع النعم الأخروية
والدنيوية التي أنعم اللَّه بها على عباده، فلم تبق نعمة يمكن أن تكون من
اللَّه تعالى على عباده إلا وقد جمعها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم،
فإن جميع النعم الأخروية شيئان: سلبية وهي غفران الذنوب، وثبوتية وهي لا
تتناهى، أشار إليها بقوله: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [ (1) ] ، وجميع
النعم الدنيوية شيئان: دينية أشار إليها بقوله: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً [ (1) ] ، ودنيوية، وإن كانت هنا المقصود بها الدين، وهي
قوله:
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [ (1) ] ، وقدم الأخروية على
الدنيوية، وقدم في الدنيوية الدينية على غيرها تقديما للأهم فالمهم، فانتظم
بذلك تعظيم قدر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بإتمام نعم اللَّه تعالى
عليه، المتفرقة في غيره، ولهذا قال: جعل ذلك غاية الفتح المبين الّذي عظمه
وفخمه بإسناده إليه بنون العظمة، وجعله خاصا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم بقوله:
لك.
وقد أشار ابن عطية إلى هذا فقال: وإنما المعنى: التشريف بهذا الحكم، ولو لم
يكن له ذنب البتة. انتهى.
وقد ذكر الناس أقوالا أخر، منها: ما يجب تأويله، ومنها ما يجب ردّه، فمن
ذلك ما روى عن ابن عباس رضي اللَّه عنه: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ أي ما
يكون، وهذا يمكن تأويله على ما قدمناه، أي مما يكون لو كان، والمعنى أنك يا
سيد المرسلين بحالة لو كان لك ذنوب ماضية ومستقبلة لغفرنا جميعها لك لشرفك
عندنا.
ومنها قول مقاتل: لِيَغْفِرَ لَكَ ما كان في الجاهلية، وهذا مردود، لأن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس له جاهلية، ومن قال: ليغفر لك ما
كان قبل النبوة فهو مردود
__________
[ (1) ] أول سورة الفتح.
(3/113)
أيضا، لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم معصوم
قبل النبوة وبعدها.
ومنها قول سفيان الثوري: ليغفر لك ما كان في الجاهلية ما علمت وما لم تعلم،
وهو مردود بمثل الّذي قبله، ومنها قول عطاء الخراسانىّ: ليغفر لك ما تقدم
من ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك على حذف
مضاف.
ومنها ما حكى عن مجاهد: ليغفر لك ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة
زيد، وهذا قول باطل، فإنه لم يكن في قصه مارية وامرأة زيد ذنب أصلا، وقد
أوردنا ما جاء في قصتيهما عند ذكر أزواجه وسراريه صلى اللَّه عليه وسلّم،
وليس فيهما ما يعدّ زلة ولا ذنبا، ومن اعتقد ذلك فقد أخطأ.
ومنها قول الزمخشريّ: جميع ما فرط منك، وهذا مردود بشيئين: أحدهما:
عصمة الأنبياء، وقد أجمعت الأمة على عصمتهم فيما يتعلق بالتبليغ وفي غير
ذلك من الكبائر ومن الصغائر الرذيلة التي تحط مرتبتهم، ومن المداومة على
الصغائر، فهذه الأربعة مجمع عليها، واختلفوا في الصغائر التي لا تحط
مرتبتهم، فذهبت المعتزلة، وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع لأنا
مأمورون بالاقتداء في كل ما يصدر منهم في قول وفعل، فكيف يقع منهم ما لا
ينبغي، ونؤمر بالاقتداء بهم فيه؟
وتجاسر قوم على الأنبياء فنسبوا إليهم تجويزها عليهم مطلقا، وهم محجوجون
بما تقدم من الإجماع، ثم إن الذين جوزوا الصغائر لم يجوزوها بنص ولا دليل،
وإنما أخذوا ذلك من هذه الآية وأمثالها، وقد ظهر بجواب هذه، وفي كل موضع من
الباقيات يذكر جوابه إن شاء اللَّه تعالى.
والذين جوزوا الصغائر التي ليست برذائل، قال ابن عطية: اختلفوا هل وقع ذلك
من محمد صلى اللَّه عليه وسلّم أو لم يقع؟ قال كاتبه: والحق الّذي لا مرية
فيه أنه لم يقع، وكيف يستحيل خلاف ذلك وأحواله صلى اللَّه عليه وسلّم
منقسمة إلى قول وفعل؟ أما القول، فقال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى *
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [ (1) ] ، وأما الفعل،
__________
[ (1) ] النجم: 3- 4.
(3/114)
فإجماع الصحابة المعلوم منهم قطعا على
اتباعه والتأسي بما يفعله في كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو
كبير، لما عندهم في ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله عليه السلام في السر
والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم صلى اللَّه عليه وسلّم
أو لم يعلم.
والثاني: أنا لو سلمنا بعدم العصمة- وحاش للَّه- فإنه لا يناسب ما تشير
إليه الآية من التعظيم والامتنان، وجعل ذلك غاية الفتح المبين، المقرون
بالتعظيم، فحمله على ذلك مخل بالبلاغة، والمعنى الّذي حملنا عليه الآية
يناسب البلاغة، فوجب المصير إليه، وقوله: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً
عَزِيزاً [ (1) ] أعيد لفظه لمّا بعد عما عطف عليه، وليكون المبتدأ
والمنتهي بالاسم الظاهر، والضميران في الوسط، وأتت هذه النعم الأربع بلفظ
الغيبة، وجاء الفتح قبلها بضمير المتكلم تعظيما لأمر الفتح، لأن المغفرة
وإن كانت عظيمة فهي عامة، قال تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ [ (2) ] وكذلك إتمام النعمة، قال تعالى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي [ (3) ] ، وهكذا الهداية، قال تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ (4)
] ، ومثله النصر، قال تعالى:
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [ (5) ] ، وأما الفتح: فإنه لم يتفق لغير
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقيل في الاسم مع النصر: إنه تعظيم له،
ولهذا قلّ ما ذكر اللَّه تعالى النصر من غير إضافة إليه أو اقتران باسمه
ليطمئن القلب بذكر اللَّه تعالى، فيحصل الصبر، وبه يحصل النصر، واللَّه
يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وقال سفيان عن عيينة قال: عن ميسرة قال ابن عبد اللَّه: أخبره بالعفو قبل
أن يخبره بالذنب، قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [
(6) ] ، وقال عبد اللَّه بن يزيد المصري: ليس هذا لنبي قبله ولا بعده، يعني
قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ [ (6) ] ، فبدأ سبحانه
بالعفو قبل العقاب.
__________
[ (1) ] الفتح: 3.
[ (2) ] النساء: 48.
[ (3) ] المائدة: 3.
[ (4) ] البقرة: 142.
[ (5) ] الصافات: 172.
[ (6) ] التوبة: 43.
(3/115)
وأما أخذ اللَّه تعالى الميثاق على جميع
الأنبياء أن يؤمنوا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وينصروه إن أدركوه
فقد قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما
آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا
وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [ (1) ] .
قوله: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ ما، بمعنى الّذي، قال النحاس: التقدير
على قول الخليل: الّذي آتيتكموه ثم حذف الهاء لطول الاسم، والإصر: العهد.
وعن أبي أيوب عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: لم يبعث اللَّه نبيا
[من لدن] [ (2) ] آدم فمن بعده إلا أخذ اللَّه العهد عليه في محمد لئن بعث
وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه، فقال: وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
وَحِكْمَةٍ ...
وعن سعيد عن قتادة: قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ
لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... الآية، هذا ميثاق قد أخذه
اللَّه على النبيين أن يصدّقوا بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب اللَّه
ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب اللَّه ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم فيما
بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم ويصدقوه وينصروه.
وقال أسباط عن السدي: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما
آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ الآية، قال: لم يبعث اللَّه نبيا قط من
لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن
__________
[ (1) ] المائدة: 83.
[ (2) ] زيادة للسياق.
(3/116)
بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم ولينصرنه إن
خرج وهو حيّ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرونه هم إن خرج وهم
أحياء.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم- يعني على أهل
الكتاب- وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه- يعني بتصديق محمد صلى اللَّه
عليه وسلّم- إذا جاءهم، وإقرارهم به على أنفسهم فقال: وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ
... إلى آخر الآية.
وقال أسباط عن السدي في قوله: لَما آتَيْتُكُمْ: يقول لليهود: أخذت ميثاق
النبيين لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم وهو الّذي ذكر في الكتاب عندكم، فهذا
كما ترى، وقد أخذ اللَّه الميثاق على جميع الأنبياء عليهم السلام إن جاءهم
رسول مصدق لما معهم وهو محمد صلى اللَّه عليه وسلّم آمنوا به ونصروه، فلم
يكن أحد منهم ليدرك الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم إلا وجب عليه الإيمان به
ونصره على أعدائه لأخذه الميثاق منهم، فجعلهم تعالى كلهم أتباعا لمحمد صلى
اللَّه عليه وسلّم يلزمهم الانقياد له والطاعة لأمره لو أدركوه.
وقد نصّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على معنى ما قلنا،
فروى هشيم عن مجالد عن الشعبيّ عن جابر عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه
قال: «أتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ومعي كتاب أصبته من بعض أهل الكتاب
فقال: والّذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا اليوم ما وسعه إلا أن يتبعني»
[ (1) ] .
__________
[ (1) ]
رواه البخاري عن يحى بن بكير، وعن موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد،
وقال البيهقي في (الشّعب) : وقد روينا عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد
اللَّه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أن عمر أتاه فقال: إنا نسمع
أحاديث من اليهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوّكون أنتم كما
تهوّكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما
وسعه إلا اتّباعي.
قال أبو عبيد: قال ابن عون فقلت للحسن: متهوكون؟ قال: متحيرون.
وأخبرنا أحمد بن الحسن القاضي، حدثنا أبو علي حامد بن محمد الرفّاء، حدثنا
محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا حماد بن زيد، عن مجالد،
عن الشعبي، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا
تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنّهم لن يهدوكم وقد ضلوا» . زاد القاضي في
روايته: «واللَّه لو كان موسى عليه السلام حيا ما حلّ له إلا أن يتبعني» .
وروى عن جبير بن نفير، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
في محو ما كتب من قول اليهود
(3/117)
وقال بعض العارفين باللَّه تعالى. وبهذا
يتبين لك سيادة محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على جميع الأنبياء
[والمرسلين من] [ (1) ]
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم [ (2) ] ولا فخر،
وفي رواية مسلم [ (3) ] : أنا سيد الناس يوم القيامة،
فثبتت له السيادة والشرف على
__________
[ () ] (بريقه والنهي عن ذلك.
(شعب الإيمان للبيهقي) : 1/ 199- 200، باب في الإيمان بالقرآن والكتب
المنزلة، ذكر حديث جمع القرآن، حديث رقم (176) ، (178) ، (179) ، وحديث رقم
(5205) :
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأنا أبو عبد اللَّه الصنعاني، حدثنا
إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، أن حفصة جاءت إلى
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بكتاب فيه قصص يوسف في كتف، فجعلت تقرأ عليه،
والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم يتلون وجهه فقال: «والّذي نفسي بيده، لو
أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم» . (المرجع السابق) : 4/
308- 309، باب حفظ اللسان، فصل في ترك قراءة كتب الأعاجم. ونحوه في
(المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) 3/ 114- 115، باب الزجر عن
النظر في كتب أهل الكتاب، حديث رقم (3024) .
وخرّج الإمام أحمد من حديث عبد اللَّه بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه، قال:
حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا سفيان، عن
جابر، عن الشعبي، عن عبد اللَّه بن ثابت قال: «جاء عمر بن الخطاب إلى النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، إني مررت بأخ لي من قريظة،
فكتب لي من جوامع التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم، قال عبد اللَّه: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال عمر: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام
دينا، وبمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم رسولا، قال: فسرّي عن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم ثم قال: والّذي نفسي بيده، لو أصبح فيكم موسى، ثم اتبعتموه
وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين» . (مسند أحمد)
: 4/ 513- 514، حديث رقم (15437) .
[ (1) ] زيادة للسياق، ومكانها مطموس في (خ) .
[ (2) ]
(المستدرك) : 3/ 133، 134، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4625/ 223) :
حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا محمد بن معاذ، حدثنا أبو
حفص عمر بن الحسن الراسي، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير،
عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا سيد
ولد آدم، وعليّ سيد العرب» .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وفي إسناده عمر بن الحسن،
وأرجو أنه صدوق، ولولا ذلك لحكمت بصحته على شرط الشيخين، وله شاهد من
حديث عروة عن عائشة رقم (4626/ 224) : أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر القاري
ببغداد، حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح، حدثنا الحسين بن علوان، عن هشام بن
عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم: «ادعوا لي سيد العرب» فقلت: يا رسول اللَّه! ألست سيد العرب؟
قال: «أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب» .
وله شاهد آخر من
حديث جابر رقم (4627/ 225) : قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
«ادعوا لي سيد العرب، فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: ألست سيد العرب يا رسول
اللَّه؟ فقال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب» .
[ (3) ]
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 66- 69، كتاب الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (327)
،
(3/118)
أبناء جنسه من البشر،
وقال صلى اللَّه عليه وسلّم: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين [ (1) ] ،
فأخبره اللَّه تعالى بمرتبته، وأنه عليه السلام إذ ذاك صاحب شرع، فإنه
قال: كنت نبيا
ولم
__________
[ () ] وحديث رقم (328) ، قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد الناس يوم
القيامة» ،
ضمن حديث طويل معروف باسم (حديث الشفاعة) ، وسيأتي ذكره مشروحا إن شاء
اللَّه تعالى في فصل [اختصاصه بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر] .
[ (1) ]
المعروف أن هذا الحديث بلفظ: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث» ،
أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن لال، ومن
طريقه الديلميّ، كلهم من حديث سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي
هريرة به مرفوعا.
وله شاهد من
حديث ميسرة الفجر، بلفظ:
«كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» ، أخرجه أحمد، والبخاري في (التاريخ) ،
والبغوي، وابن السكن، وغيرهما في (الصحابة) ، وأبو نعيم في (الحلية) ،
وصححه الحاكم، وكذا هو بهذا اللفظ عند الترمذي وغيره عن أبي هريرة: متى كنت
أو كتبت نبيا؟ قال: «وآدم» ، وذكره. وقال الترمذي:
إنه حسن صحيح، وصححه الحاكم أيضا* وفي لفظ: «وآدم منجدل في طينته» ،
وفي صحيحي ابن حبان والحاكم، من حديث العرباض بن سارية مرفوعا: «إني عند
اللَّه لمكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته» .
وكذا أخرجه أحمد، والدارميّ في مسنديهما، وأبو نعيم والطبراني، من حديث ابن
عباس، قال: قيل: يا رسول اللَّه، متى كتبت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح
والجسد» .
وأما الّذي على الألسنة بلفظ
«كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» ،
فلم نقف عليه بهذا اللفظ، فضلا عن زيادة:
«وكنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا طين» .
وقد قال شيخنا- الحافظ ابن حجر- في بعض الأجوبة عن الزيادة: إنها ضعيفة،
والّذي قبلها قوي. (المقاصد الحسنة) : 520- 521، حديث رقم (837) .
وقال الزركشي: لا أصل له بهذا اللفظ، قال السيوطي في (الدر) : وزاد العوام:
«ولا آدم ولا ماء ولا طين» ، لا أصل له أيضا، وقال القاري: يعني بحسب
مبناه، وإلا فهو صحيح باعتبار معناه.
وروى الترمذي أيضا عن أبي هريرة، أنهم قالوا: يا رسول اللَّه، متى وجبت لك
النبوة؟ قال:
«وآدم بين الروح والجسد» ، وفي لفظ: متى كتبت نبيا؟ قال: «كتبت نبيا وآدم
بين الروح والجسد» . وعن الشعبي، قال رجل: يا رسول اللَّه متى استنبئت؟
قال: «وآدم بين الروح والجسد، حين أخذ مني الميثاق» .
وقال التقي السبكي: فإن قلت: النبوة وصف، لا بدّ أن يكون الموصوف به
موجودا، وإنما يكون بعد أربعين سنة، فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله؟
قلت: جاء أن اللَّه تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون بقوله: «كنت
نبيا» ، إلى روحه الشريفة، أو حقيقته، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها،
وإنما يعرفها خالقها، ومن أمدّه بنور آلهي.
ونقل العلقميّ عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده مرفوعا أنه قال: «كنت نورا
بين يدي ربي عزّ وجلّ قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام. (كشف الخفا
ومزيل الالتباس) : 2/ 129، حديث رقم (2007) .
(3/119)
يقل: كنت إنسانا، ولا كنت موجودا، أو ليست
النبوة إلا بالشرع المقدر عليه من عند اللَّه تعالى؟ فأخبر سبحانه وتعالى
أنه عليه السلام صاحب النبوة قبل وجوده في الأنبياء في الدنيا وهو روح قبل
اتخاذه تعالى الأجسام الإنسانية، فكانت الأنبياء عليهم السلام في هذا
العالم نواب محمد صلى اللَّه عليه وسلّم من آدم إلى عيس عليهما السلام،
وإلى هذا الإشارة بقوله عليه السلام: لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن
يتبعني، وكذلك لو كان محمد صلى اللَّه عليه وسلّم موجودا بجسمه من لدن آدم
عليه السلام إلى زمان وجوده، لكان جميع بني آدم تحت شريعته، ولهذا لم يبعث
بشريعة عامة إلا هو صلى اللَّه عليه وسلّم، فإنه الملك والسيد، وكل رسول
إنما بعث إلى قوم مخصوصين، ولم تعم، فمن زمن آدم إلى زمن بعثة محمد رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وإلى يوم القيامة ملكه، وله يوم القيامة
التقدم أيضا على جميع الرسل مع السيادة، فكانت روحانيته صلى اللَّه عليه
وسلّم روحانية كل رسول موجودة، والإمداد يأتي إليهم من روحه الطاهرة بما
يظهر منهم من الشرائع والعلوم في زمن وجودهم رسلا، وكان تشريعهم الشرائع
كما كان علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وغيرهما من الصحابة رضي اللَّه عنهم
يقضون في زمان وجود جسم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وكما يكون عيسى
عليه السلام حين ينزل آخر الزمان بشرع محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، لكن لما
لم يوجد صلى اللَّه عليه وسلّم في الحسّ نسب كل شرع إلى من بعث به، وهو في
الحقيقة شرع محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وإن كان مفقود العين، كما يكون
صلى اللَّه عليه وسلّم مفقود العين في زمان نزول عيسى وحكمه بالشرع
المحمدي، وكون محمد صلى اللَّه عليه وسلّم نسخ اللَّه بشرعه جميع الشرائع،
لا يخرجها النسخ عن أن تكون من شرعه، فإن اللَّه تعالى قد أشهدنا في القرآن
والسنة النسخ مع إجماعنا واتفاقنا على أنه شرعه، فنسخ بالمتأخر، فكان هذا
النسخ الموجود في القرآن والسنة المحمدية تنبيها لنا على أن نسخه لجميع
الشرائع المتقدمة لا يخرجها عن كونها شرعا له، وكان نزول عيسى آخر الزمان
حاكما بغير شرعه الّذي كان عليه في زمان رسالته، وحكمه بشرع محمد صلى
اللَّه عليه وسلّم أدلّ دليل على أنه لا حكم لأحد من الأنبياء مع وجود محمد
صلى اللَّه عليه وسلّم أو وجود ما قرره من الحكم، فخرج من هذا كله أن محمدا
صلى اللَّه عليه وسلّم ملك وسيد على جميع بني آدم، وأن جميع من تقدمه كان
ملكا له، والحاكمون فيه كانوا نوابا عنه، فإن قلت: قال اللَّه تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ
(3/120)
اقْتَدِهْ [ (1) ] ، قلت: هذا صحيح، فقد
قال تعالى: فَبِهُداهُمُ، وهداهم من اللَّه وهو شرعه صلى اللَّه عليه
وسلّم، أي الزم شرعك الّذي أظهرته نوّابك من إقامة الدين وعدم التفرق فيه،
ولم يقل سبحانه: فبهم أقتد، وكذا قال سبحانه: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [ (2) ] وهو الدين، فهو صلى
اللَّه عليه وسلّم مأمور باتباع الدين، فإن أصل الدين إنما هو من اللَّه
تعالى لا من غيره، وأين هذا من قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: لو كان موسى
حيا ما وسعه إلا أن يتبعني؟ فأضاف الاتباع إليه، وأمر هو صلى اللَّه عليه
وسلّم باتباع الدين لا باتباع الأنبياء، فإن السلطان الأعظم إذا حضر لا
يبقى لنائب من نوابه حكم إلا له، فإذا غاب حكم النائب بمراسمه، فهو الحاكم
في الحقيقة غيبا وشهادة، مما قيل في شرفه:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا ظهرت لم يبد منهن كوكب [ (3) ]
فانظر ما أبدع هذا الفضل الّذي لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، الّذي
لم ينتبه إليه إلا من شاء اللَّه، وقليل ما هم، واللَّه يختص برحمته من
يشاء.
***
__________
[ (1) ] الأنعام: 90.
[ (2) ] النحل: 123.
[ (3) ] البيت للنابغة الذبيانيّ.
(3/121)
وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض
الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى اللَّه
عليه وسلّم
فاعلم أن الإيمان به صلى اللَّه عليه وسلّم هو التصديق بنبوته وإرسال
اللَّه تعالى له وتصديقه في جميع ما جاء به من اللَّه وما قاله، ومطابقة
تصديق القلب بذلك شهادة اللسان بأنه رسول اللَّه، فإذا اجتمع التصديق
بالقلب والنطق بالشهادة باللسان، تم الإيمان به والتصديق له، قال اللَّه
تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [
(1) ] ، وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (2) ] ، وقال:
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ [ (3) ] الآية، فالإيمان بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم واجب لا
يتم الإيمان إلا به، ولا يصح الإسلام إلا معه، وقد تقرر بما تقدم ثبوت
نبوته وصحة رسالته، فوجب الإيمان به وتصديقه فيما أتى به وتعيّن ذلك، قال
تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ سَعِيراً [ (4) ] ، وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا
كَافَّةً لِلنَّاسِ [ (5) ] ، وقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [ (6) ] ، وقال: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ
رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [ (7) ] ، أي على رسالتك يشهد لك
بإظهار المعجزات على صدقك، إذ المعجزة في قوة قول اللَّه تعالى: صدق عبدي
في أنه رسول، والثانية مقررة للأولى، لأنه إنما تثبت عموم دعوته بإخباره،
وما ورد على لسانه، وخبره إنما يقبل إذا ثبت صدقه، وصدقه إنما ثبت
بالمعجزات، فأذن نظم الدليل هكذا: محمد صلى اللَّه عليه وسلّم أتي
بالمعجزات فهو صادق، وكل صادق يجب قبول خبره بعموم دعوته، وهو المطلوب.
وخرج مسلم من حديث يزيد بن زريع قال: حدثنا روح عن العلاء بن
__________
[ (1) ] التغابن: 8.
[ (2) ] الفتح: 8.
[ (3) ] الفتح: 13.
[ (4) ] الفتح: 13.
[ (5) ] سبأ: 28.
[ (6) ] الأعراف: 158.
[ (7) ] النساء: 79.
(3/122)
عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه، عن أبي هريرة
رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أمرت أن أقاتل
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا
فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه [ (1) ]
.
وخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن
عمر عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه
وأن محمدا رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوه عصموا مني
دماءهم وأموالهم وحسابهم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 314- 315، كتاب الإيمان، باب (8) الأمر
بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأن
من فعل ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى اللَّه تعالى،
وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشعائر
الإسلام، حديث رقم (32) ، (33) ، (34) ، (35) ، (36) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا
اللَّه فمن قال لا إله إلا اللَّه فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه
على اللَّه» ،
قال الخطابي رحمه اللَّه: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل
الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا اللَّه، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم
السيف.
قال: ومعنى حسابه على اللَّه: أي فيما يستسرون به ويخفونه، دون ما يخلون به
في الظاهر من الأحكام الواجبة. قال: ففيه أن من أظهر الإسلام وأسّر الكفر
قبل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة
الزنديق لا تقبل. ويحكى ذلك أيضا عن أحمد بن حنبل رضي اللَّه عنهما. هذا
كلام الخطابي.
وذكر القاضي عياض معنى هذا، وزاد عليه، وأوضحه، فقال: اختصاص عصمة المال
والنفس بمن قال: لا إله إلا اللَّه، تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن
المراد بها مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي
إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفي في عصمته
بقول لا إله إلا اللَّه، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء
في
الحديث الآخر: «وأني رسول اللَّه، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة» .
هذا كلام القاضي عياض.
قال الحافظ ابن حجر: ولا بدّ مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، كما جاء
في الرواية الأخرى لأبي هريرة، هي مذكورة في الكتاب: «حتى يشهدوا أن لا إله
إلا اللَّه، ويؤمنوا بي، وبما جئت به» .
واللَّه أعلم.
واختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق- وهو الّذي ينكر الشرع جملة- فذكروا
فيه خمسة أوجه، لأصحابنا أصحها، والأصوب منها قبولها مطلقا للأحاديث
الصحيحة المطلقة.
(3/123)
على اللَّه [ (1) ] .
وقال البخاري: فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام
وحسابهم على اللَّه. ذكره في كتاب الإيمان.
__________
[ (1) ]
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فإذا فعلوا ذلك» ،
فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة
المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «عصموا»
أي منعوا، وأصل العصمة من العصام وهو الخيط الّذي يشد به فم القربة ليمنع
سيلان الماء.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حسابهم على اللَّه» ،
أي في أمر سرائرهم، ولفظة «على» مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن
تكون بمعنى اللام، أو على سبيل التشبيه، أي هو كالواجب على اللَّه في تحقيق
الوقوع، وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر،
والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة،
وقد تقدم فيه، ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد، الملتزمين
للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن.
فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك مؤدي الجزية
والمعاهد؟
الجواب من أوجه:
أحدها: دعوى النسخ، بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه
الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ.
ثانيها: أن يكون من العام الّذي خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول
المطلوب. فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم.
ثالثها: أن يكون من العام الّذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم «أقاتل الناس» ، أي المشركين من غير أهل
الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: «أمرت أن أقاتل المشركين» . فإن
قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعادين ولا فيمن منع الجزية،
أجيب بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة،
ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية، بدليل الآية.
رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها، التعبير عن إعلاء كلمة
اللَّه، وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض
بالمعاهدة.
خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه من جزية أو غيرها.
سادسها: أن يقال الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام وسبب السبب سبب،
فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا بما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن،
ويأتي فيه ما في الثالث وهو آخر الأجوبة. واللَّه تعالى أعلم (فتح الباري)
: 1/ 102- 105، كتاب الإيمان باب (17) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، حديث رقم (25) .
(3/124)
وخرج مسلم من حديث عبد اللَّه بن بريد عن
يحى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهنيّ، فانطلقت
أنا وحميد بن عبد الرحمن [الحميري] [ (1) ] حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو
لقينا أحدا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فسألناه عن ما يقول
[هؤلاء] [ (2) ] في القدر فوفق لنا عبد اللَّه بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي،
كان أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ
فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفّرون
العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف، [قال:
فإذا] [ (3) ] لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والّذي
يحلف به
__________
[ (1) ] في (خ) : «الحميدي» والتصويب من رواية مسلم.
[ (2) ] زيادة من رواية مسلم.
[ (3) ] في (خ) : «فقال إذا» والتصويب من رواية مسلم.
قوله: «فاكتنفته أنا وصاحبي» ، يعني صرنا في ناحيتيه، ثم فسّره فقال: أحدنا
عن يمينه، والآخر عن شماله، وكنفا الطائر جناحاه، وفي هذا تنبيه على أدب
الجماعة في مشيهم مع فاضلهم، وهو أنهم يكتنفونه ويحفون به.
قوله: «فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ» معناه يسكت ويفوضه إليّ لإقدامي
وجرأتي وبسطة لساني، فقد جاء عنه في رواية «لأني كنت أبسط لسانا» .
قوله: «ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم» ، هو بتقديم القاف على
الفاء، ومعناه يطلبونه ويتتبعونه، هذا هو المشهور، وقيل معناه يجمعونه،
رواه بعض شيوخ المغاربة من طريق ابن ماهان «يتفقرون» - بتقديم الفاء- وهو
صحيح أيضا، معناه يبحثون عن غامضه، ويستخرجون خفيّه. وروى في غير مسلم:
«يتقفون» بتقديم القاف، وحذف الراء، وهو صحيح أيضا، ومعناه يتتبعون.
قال القاضي عياض: ورأيت بعضهم قال فيه: «يتقعرون» بالعين، وفسّره بأنهم
يطلبون قعره، أي غامضه وخفيّه. ومنه تقعّر في كلامه إذا جاء بالغريب منه،
وفي رواية أبي يعلي الموصلي: «يتفقهون» بزيادة الهاء، وهو ظاهر.
قوله: «وذكر من شأنهم» . هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحى بن
يعمر، والظاهر أنه من ابن بريدة الراويّ، عن يحى بن يعمر، وذكر ابن يعمر من
حال هؤلاء، وصفهم بالفضيلة في العلم، والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به.
قوله: «يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف» ، هو بضم الهمزة والنون، أي مستأنف
لم يسبق به قدر ولا علم من اللَّه تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه كما قدمنا
حكايته عن مذهبهم الباطل، وهذا القول قول غلاتهم، وليس قول جميع القدرية،
وكذب قائله وضلّ وافترى. عافانا اللَّه وسائر المسلمين.
(3/125)
عبد اللَّه بن عمر لو أن لأحد مثل أحد ذهبا
فأنفقه في سبيل اللَّه ما قبله اللَّه منه حتى يؤمن بالقدر، ثم
قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال بينما نحن عند رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد
سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال:
يا محمد! أخبرني عن الإسلام فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، وتقيم
الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال:
صدقت، فعجبنا له، يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن
باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال:
صدقت، قال: [فأخبرني] [ (1) ] عن الإحسان، قال: أن تعبد اللَّه كأنك تراه،
فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: [فأخبرني] [ (1) ] عن الساعة، قال: ما
المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أمارتها، [قال:] [ (2) ]
[أمارتها] [ (3) ] أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة [العالة] [
(4) ] رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق فلبث مليا، ثم قال
لي: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: اللَّه
__________
[ () ] قوله: «قال- يعني ابن عمر رضي اللَّه عنهما-: فإذا لقيت أولئك
فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والّذي يحلف به عبد اللَّه بن عمر،
لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل اللَّه منه حتى يؤمن بالقدر» ،
هذا الّذي قاله ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ظاهر في تكفير القدرية.
قال القاضي عياض رحمه اللَّه: هذا في القدرية الأول، الذين نفوا تقدم علم
اللَّه تعالى بالكائنات، قال: والقائل بهذا كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين
ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة.
قال غيره: ويجوز أنه لم يرد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة، فيكون من
قبيل كفران النعم، إلا أن قوله: ما قبله اللَّه منه، ظاهر في التكفير، فإن
إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر، إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل
عمله لمعصيته وإن كان صحيحا، كما أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة، غير
محوجة إلى القضاء عند جمهور العلماء، بل بإجماع السلف، وهي غير مقبولة، فلا
ثواب فيها على المختار عند أصحابنا. واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح
النووي) : 1/ 259، كتاب الإيمان، حديث رقم (1) .
[ (1) ] في (خ) : «أخبرني» والتصويب من رواية مسلم.
[ (2) ] زيادة للسياق من رواية مسلم.
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] زيادة من رواية مسلم.
(3/126)
ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم
دينكم. هذا الحديث انفرد به مسلم [ (1) ] ، ولم يخرجه البخاري، وأخرجه أبو
داود من طريق ابن بريدة بمثله
أو
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في أول كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان،
ووجوب الإيمان بإثبات قدر اللَّه سبحانه وتعالى، وبيان الدليل على التبري
ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه، حديث رقم (1) .
قوله: «لا يرى عليه أثر السفر» ضبطناه بالياء المثناة من تحت، المضمومة،
وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العدوي
هنا: «نرى» بالنون المفتوحة، وكذا هو في مسند أبي يعلي الموصلي، وكلاهما
صحيح.
قوله: «ووضع كفيه على فخذيه» ، معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي
نفسه، وجلس على هيئة المتعلم. واللَّه تعالى أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن
تراه فإنه يراك» ،
هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى اللَّه عليه وسلّم، لأنا لو قدرنا أن
أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى، لم يترك شيئا مما يقدر
عليه من الخضوع والخشوع، وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه، على الاعتناء
بتتميمها على أحسن وجوهها، إلا أتي به،
فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: أعبد اللَّه في جميع أحوالك كعبادتك في حال
العيان،
فإن التتميم المذكور في حال العيان، إنما كان لعلم العبد باطلاع اللَّه
سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذه الحال للاطلاع عليه،
وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود
الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى، في
إتمام الخشوع والخضوع، وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين،
ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم، واستحياء منهم،
فكيف بمن لا يزال اللَّه تعالى مطلعا عليه في سرّه وعلانيته.
قال القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع
وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص
السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه،
ومتشعبة منه.
قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة، ألّفنا كتابنا الّذي سميناه:
[المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان] ، إذ لا يشذّ شيء من الواجبات، والسنن،
والرغائب، والمحظورات، والمكروهات، عن أقسامه الثلاثة. واللَّه تعالى أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ،
فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما، إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا
أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يستدل به على ورعه، وتقواه، ووفور علمه.
قوله: «أن تلد الأمة ربتها» ، وفي الرواية الأخرى «ربها» على التذكير، وفي
الأخرى «بعلها»
وقال: يعني السراري، ومعنى ربها وربتها، سيدها ومالكها، وسيدتها ومالكتها،
قال الأكثرون من العلماء: هو إخبار عن كثره السراري وأولادهم، فإن ولدها من
سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال
(3/127)
__________
[ () ] الإنسان صائر إلى ولده، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين، إما
بتصريح أبيه له بالإذن، وإما يعلمه بقرينة الحال، أو عرف الاستعمال.
وقيل: معناه أن الإماء يلدن الملوك، فتكون أمه من جملة رعيته، وهو سيدها
وسيد غيرها من رعيته، وهذا قول إبراهيم الحربي، وقيل: معناه أن تفسد أحوال
الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان، فيكثر تردادها في أيدي
المشترين، حتى يشتريها ابنها ولا يدري، ويحتمل على هذا القول أن لا يختص
هذا بأمهات الأولاد، فإنه متصور في غيرهن، فإن الأمة تلد ولدا حرا من غير
سيدها بشبهة، أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا
صحيحا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقديره في
أمهات الأولاد.
وأما بعلها، فالصحيح في معناه أن البعل هو المالك أو السيد، فيكون بمعنى
ربها على ما ذكرناه. قال أهل اللغة: بعل الشيء ربه ومالكه. وقال ابن عباس
رضي اللَّه عنهما والمفسرون في قوله سبحانه وتعالى:
أَتَدْعُونَ بَعْلًا: أي ربّا، وقيل: المراد بالبعل في الحديث، الزوج،
ومعناه نحو ما تقدم، أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا
يدري، وهذا أيضا معنى صحيح، إلا أن الأول أظهر، لأنه إذا أمكن حمل
الروايتين في القضية الواحدة على معنى كان أولى، واللَّه أعلم.
واعلم أن هذا الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد، ولا منع
بيعهن، وقد استدل إمامان من كبار العلماء به على ذلك، فاستدل أحدهما على
الإباحة، والأخر على المنع، وذلك عجب منهما، وقد أنكر عليهما، فإنه ليس كل
ما أخبر صلى اللَّه عليه وسلّم بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو
مذموما، فإن تطاول الرعاء في البنيان، وفشو المال، وكون خمسين امرأة لهن
قيم واحد ليس بحرام بلا شك، وإنما هذه علامات، والعلامة لا يشترط فيها شيء
من ذلك، بل تكون بالخير والشّر، والمباح والمحرم، والواجب وغيره، واللَّه
أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء
يتطاولون في البنيان» ،
أما العالة فهم الفقراء، والعائل الفقير، والعيلة الفقر، وعال الرجل يعيل
عيلة أي افتقر، والرعاء بكسر الراء وبالمد، ويقال فيهم الرعاة بضمّ الراء
وزيادة الهاء بلا مدّ، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة
والقافة، تبسط لهم الدنيا، حتى يتباهون في البنيان. واللَّه أعلم.
قوله: «فلبث مليا» هكذا ضبطناه، لبث آخره ثاء مثلثة من غير تاء، وفي كثير
من الأصول المحققة «لبثت» بزيادة تاء المتكلم، وكلاهما صحيح، وأما «مليا»
بتشديد الياء، فمعناه وقتا طويلا، وفي رواية أبي داود والترمذي، أنه قال
ذلك بعد ثلاث، وفي شرح السنة للبغوي بعد ثالثة، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث
ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله
في حديث أبي هريرة بعد هذا بم أدبر الرجل فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: ردّوا عليّ الرجل، فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا، فقال النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم: «هذا جبريل»
فيحتمل الجمع بينهما أن عمر رضي اللَّه عنه لم يحضر قول النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس، فأخبر النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر رضي اللَّه عنه بعد ثلاث، إذا لم
يكن حاضرا وقت إخبار الباقين، واللَّه أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» ،
فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها
(3/128)
نحوه، وقال فيه: فلبثت مليا [ (1) ]
وخرجه الترمذي بنحو حديث مسلم وقال في آخره: فلقيني النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم بعد ذلك بثلاث فقال: يا عمر، أتدري من السائل؟
ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم [ (2) ] .
قال القاضي عياض: فقد قرر أن الإيمان محتاج [ (3) ] إلى العقد بالجنان،
والإسلام
__________
[ () ] دينا. واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف، والآداب
واللطائف، بل هو أصل الإسلام. ومن فوائد هذا الحديث:
[1] أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا
يسألون عنها، أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع.
[2] أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه، ليتمكن من سؤاله، غير
هائب منه ولا منقبض.
[3] أنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله. (المرجع السابق) : 1/ 269- 275.
[ (1) ] (صحيح سنن الترمذي) : 3/ 887، باب (17) في القدر، حديث رقم (3928-
4695) ، (تحفة الأحوذي) : 12/ 300، كتاب السنة، باب (16) ، حديث رقم (4681)
.
[ (2) ]
وأخرجه أيضا ابن ماجة، (صحيح ابن ماجة) : 1/ 16- 17، حديث رقم (53- 63) ،
(54- 64) ، وقال في آخره: «ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربتها
فذلك من أشراطها وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذلك من أشراطها، في خمس
لا يعلمهن إلا اللَّه، فتلا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إِنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما
فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] .
وأخرجه أيضا النسائي، وقال في أوله: «عن أبي هريرة وأبي ذر قالا: كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا
يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن
نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين كان يجلس
عليه، وإنا لجلوس ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في مجلسه، إذ أقبل
رجل أحسن الناس وجها، وأطيب الناس ريحا، كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلّم
في طرف البساط فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام. قال: أدنو يا
محمد،.. فما زال يقول: أدنو مرارا حتى وضع يده على ركبتي رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم، قال: يا محمد، أخبرني ما الإسلام ... وساق الحديث
باختلاف يسير. (صحيح سنن النسائي) : 3/ 1025- 1026، كتاب (47) الإيمان
وشرائعة، باب (6) صفة الإيمان والإسلام، حديث رقم (4618) .
وأخرجه الإمام أحمد في المسند، وقال في آخره بعد قوله صلى اللَّه عليه
وسلّم: ذاك جبريل جاءكم يعلمكم دينكم، قال: وسأله رجل من جهينة، أو مزينة
فقال: يا رسول اللَّه، فيما نعمل؟ أفي شيء قد خلا أو مضى؟
أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: في شيء قد خلا أو مضى، فقال رجل أو بعض القوم:
يا رسول اللَّه فيما نعمل؟ قال: أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل
النار ييسرون لعمل أهل النار. (مسند أحمد) : 1/ 46، مسند عمر بن الخطاب،
حديث رقم (185) .
[ (3) ] في (خ) «يحتاج» ، وما أثبتناه من (الشفا بتعريف حقوق المصطفى
للقاضي عياض) .
(3/129)
به مضطر إلى النطق باللسان، وهذه الحالة
المحمودة التامة، وأما الحال المذمومة:
فالشهادة باللسان دون تصديق القلب، وهذا هو النفاق، قال: وللفرق بين القول
والعقد ما جعل في حديث جبريل عليه السلام، الشهادة من الإسلام، والتصديق من
الإيمان، وبقيت حالتان [أخريان بين هذين] [ (1) ] .
إحداهما: أن يصدق بقلبه ثم يخترم [ (2) ] قبل اتساع وقت للشهادة بلسانه،
فاختلف فيه فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول والشهادة به، ورآه بعضهم
مؤمنا مستوجبا للجنة لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: يخرج من النار من كان في
قلبه مثقال ذرة من إيمان [ (3) ] ، فلم يذكر سوى ما في القلب، وهذا مؤمن
بقلبه غير عاص ولا مفرط بترك غيره، وهذا هو الصحيح في هذا الوجه.
الثانية: أن يصدق بقلبه ويطول مهلة وعلم ما يلزمه من الشهادة فلم ينطق بها
جملة، ولا استشهد في عمره ولا مرة، فهذا اختلف فيه أيضا فقيل: هو مؤمن لأنه
مصدق، والشهادة من جملة الأعمال، فهو عاص بتركها غير مخلد [في النار] [ (4)
] ، وقيل: ليس بمؤمن حتى يقارن عقده بشهادة، إذ الشهادة إنشاء عقد وإلزام
إيمان، وهي مرتبطة مع العقد، ولا يتم التصديق مع المهملة إلا بها، وهذا هو
الصحيح.
وخرج الحاكم من حديث عبد الرازق عن معمر عن أيوب عن سعيد بن هيثم، عن ابن
عباس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما من
أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار،
فجعلت أقول:
أين [ (5) ] تصديقها في كتاب اللَّه، [وقلّ ما سمعت حديثا عن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم إلا وجدت
__________
[ (1) ] تكملة من المرجع السابق.
[ (2) ] في (خ) و (الشفا) «يحترم» بالحاء، وما أثبتناه أجود للسياق، حيث
اخترم فلان عنّا: مات وذهب، واخترمته المنية من بين أصحابه: أخذته من
بينهم، واخترمهم الدهر وتخرّمهم أي اقتطعهم واستأصلهم، ويقال: خرمته
الخوارم إذا مات. (لسان العرب) : 12/ 172 مادة خرم.
[ (3) ] في (خ) : «الإيمان» ، وما أثبتناه من (الشفا) .
[ (4) ] زيادة للسياق من هامش المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) : «أن» ، ما أثبتناه من (المستدرك) : 2/ 372، كتاب التفسير،
تفسير سورة هود عليه السلام، حديث رقم (3309/ 446) .
(3/130)
تصديقه في كتاب اللَّه تعالى] [ (1) ] ،
حتى وجدت هذه الآية: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ
مَوْعِدُهُ [ (2) ] ، قال: الأحزاب الملل كلها، قال الحاكم: هذا حديث صحيح
على شرط الشيخين.
***
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، وليست في (المستدرك) .
[ (2) ] هود: 17.
(3/131)
وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به
وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتي به صلى اللَّه عليه وسلّم
قال اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ (1) ] ، وقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [ (2) ] ، فجمع تعالى بينهما بواو العطف المشتركة،
ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: وَإِنْ
تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [ (3) ] ، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطاعَ اللَّهَ [ (4) ] ، وقال:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ (5)
] ، وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [ (6) ] الآية، وقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [ (7) ] ، فجعل طاعة رسوله طاعته
تعالى، وقرن طاعته بطاعة رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم، ووعد على ذلك بجزيل
الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه،
فبيّن أنه سبحانه وتعالى فرض على الكافة بأسرها طاعة رسوله صلى اللَّه عليه
وسلّم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء، كما فرض تعالى طاعته ولم يقل من
طاعتي، أو من كتابي أو بأمري، وحين فرض أمره ونهيه صلى اللَّه عليه وسلّم
على الخلق طرا كفرض من التنزيل، لا يزاد في ذلك، ولا يطلب فيه تنبيه، كما
أخبر تعالى عن قوم موسى عليه السلام أنهم قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [ (8) ] ، وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم أولى بأمته وبأموالهم وأنفسهم وأهليهم وذراريهم منهم بأنفسهم، قال
تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ (9) ] ،
وقع ذلك منهم بوفاقهم وكراهيتهم، فإنه تعالى حكم على من وجد في نفسه شيئا
من
__________
[ (1) ] النساء: 59، وفي (خ) : «ورسوله» .
[ (2) ] آل عمران: 32.
[ (3) ] النور: 54.
[ (4) ] النساء: 80.
[ (5) ] الحشر: 7.
[ (6) ] النساء: 69.
[ (7) ] النساء: 64.
[ (8) ] البقرة: 55.
[ (9) ] الأحزاب: 6.
(3/132)
حكمه صلى اللَّه عليه وسلّم وقضائه بالخروج
من الإيمان، قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] ، فأقسم سبحانه وتعالى
بأن أحدا لا يؤمن حتى يحكّم رسوله محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم مع
تحكيمه إياه لا يجد في نفسه كرها لما قضى به عليه مما هو مخالف لهواه، بل
يرضى بما حكم به، ويسلّم لأمره تسليما لا شائبة فيه من اعتراض ولا تعقيب.
وانظر- أعزك اللَّه وهداك- كيف أقسم تعالى بإضافة الرب إلى كاف الخطاب،
يتبين لك تعظيمه تعالى للرسول صلى اللَّه عليه وسلّم، حتى هنا: غاية، أي
ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين،
وفِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، في كل أمر دنيوي وأخروي وقع بينهم فيه تنازع
وتجاذب، ومعنى يُحَكِّمُوكَ: يجعلوك حكما، وفي الكلام حذف تقديره: فتقضي
بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا، أي ضيقا من حكمك.
وقال مجاهد: شكّا، لأن الشاكّ في ضيق من أمره حتى يلوح له الشأن، وقال
الضحاك: إثما، أي سبب إثم، والمعنى: لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم
الرضى، وقيل: هما وحزنا، ويسلموا: أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك لا يعارضون
فيه بشيء، قاله ابن عباس رضي اللَّه عنهما والجمهور.
وقيل: معناه ويسلموا: أي سارعوا فيه لحكمك، ذكره الماوردي، وأكد تعلق الفعل
بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة.
قال المفسرون والأئمة: طاعة الرسول في التزام محبته والتسليم لما جاء به،
وقالوا: وما أرسل اللَّه من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه، وقالوا:
من يطع الرسول في سنته يطع اللَّه في فرائضه.
وسئل سهل بن عبد اللَّه عن شرائع الإسلام فقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ [ (2) ] ، وقال السمرقندي: يقال: أطيعوا اللَّه في فرائضه
والرسول في سننه، وقيل: أطيعوا اللَّه فيما حرّم عليكم والرسول فيما بلغكم،
ويقال: أطيعوا اللَّه
__________
[ (1) ] النساء: 65.
[ (2) ] الحشر: 7.
(3/133)
بالشهادة له بالربوبية، والنبي بالشهادة له
بالنّبوّة.
وخرج البخاري في كتاب الأحكام من حديث الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد
الرحمن أنه سمع [من] [ (1) ] أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم قال: من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصى أميري فقد
عصاني [ (2) ] . وخرجه مسلم [ (3) ] مثله
__________
[ (1) ] زيادة في السياق.
[ (2) ]
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع اللَّه» ،
هذه الجملة منتزعه من قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللَّهَ، أي أني لا آمر إلا بما أمر اللَّه به، فمن فعل ما آمره به فإنما
أطاع من أمرني أن آمره، ويحتمل أن يكون المعنى لأن اللَّه أمر بطاعتي فمن
أطاعني فقد أطاع أمر اللَّه له بطاعتي، وفي المعصية كذلك. والطاعة هي
الإتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المنهي عنه، والعصيان بخلافه.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ومن أطاع أميري فقد أطاعني» ، في رواية
(همام) ، و (الأعرج) وغيرهما عند مسلم: «ومن أطاع الأمير» ،
ويمكن رد اللفظين لمعنى واحد، فإن كل من يأمر بحق وكان عادلا فهو أمير
الشارع، لأنه تولى بأمره وبشريعته، ويؤيده توحيد الجواب في الأمرين، وهو
قوله: صلى اللَّه عليه وسلّم: «فقد أطاعني» ،
أي عمل بما شرعته، وكأن الحكمة في تخصيص أميره بالذكر، أنه المراد وقت
الخطاب، ولأنه سبب ورود الحديث.
وأما الحكم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ووقع
في رواية همام أيضا: «ومن يطع الأمير فقد أطاعني» بصيغة المضارعة، وكذا
«ومن يعص الأمير فقد عصاني»
وهو أدخل في إرادة تعميم من خوطب ومن جاء بعد ذلك.
قال ابن التين: قيل: كانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة،
فكانوا يمتنعون على الأمراء، فقال هذا القول يحثهم على طاعة من يؤمرهم
عليهم، والانقياد لهم، إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولا هم البلاد، فلا
يخرجوا عليهم، لئلا تفترق الكلمة.
قال الحافظ في الفتح: هي عبارة الشافعيّ في (الأم) ، ذكره في سبب نزولها،
وعجبت لبعض شيوخنا الشراح من الشافعية، فكيف قنع بنسبة هذا الكلام إلى ابن
التين، معبرا عنه بصيغة «قيل» ، وابن التين إنما أخذه من كلام الخطابي؟
ووقع عند أحمد، وأبي يعلي، والطبراني، من حديث ابن عمر، قال: «كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في نفر من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أن من
أطاعني فقد أطاع اللَّه، وأن من طاعة اللَّه طاعتي؟ قالوا: بلى نشهد، قال:
فإن من طاعتي أن تطيعوا أمراءكم» . وفي لفظ: «أئمتكم» .
وفي الحديث وجوب طاعة ولاه الأمور، وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية، والحكمة
في الأمر بطاعتهم، المحافظة على اتفاق الكلمة، لما في الافتراق من الفساد،
واللَّه أعلم. (فتح الباري) :
13/ 139- 141، كتاب الأحكام، باب (1) أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، حديث رقم (7137) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 464، كتاب الإمارة، باب (8) وجوب طاعة
الأمراء من غير
(3/134)
سواء، فطاعة الرسول من طاعة اللَّه، إذ
اللَّه أمر بطاعته، وطاعته امتثال لما أمر اللَّه به وطاعة له.
وقد حكى اللَّه تعالى عن الكفار في دركات [ (1) ] جهنم يوم تقلب وجوههم في
النار يقولون: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [
(2) ] فتمنوا طاعته حيث لا ينفعهم التمني.
وخرج البخاري ومسلم من حديث ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن،
وسعيد بن المسيب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم يقول: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما
استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم [
(3) ] .
وخرجه البخاري من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي
اللَّه عنه قال: عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: دعوني ما تركتكم،
إنما هلك من كان
__________
[ () ] معصية وتحريمها في المعصية، حديث رقم (32) ، (33) :
قال الإمام النووي: أجمع العلماء على وجوبها في غير معصية، وعلى تحريمها في
المعصية، قال العلماء:
المراد بأولي الأمر، من أوجب اللَّه طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول
جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم. وقيل: هم العلماء، وقيل:
هم الأمراء والعلماء، وأما من قال: الصحابة خاصة فقد أخطأ. (المرجع السابق)
.
[ (1) ] دركات النار: منازل أهلها، والنار دركات، والجنة درجات، والدّرك
إلى أسفل، والدّرج إلى فوق.
(لسان العرب) : 10/ 422 مادة درك.
[ (2) ] الأحزاب: 66.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 118، كتاب الفضائل، باب (37) توقيره صلى
اللَّه عليه وسلّم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به
تكليف، وما لا يقع، ونحو ذلك، حديث رقم (130) .
قال الإمام النووي: مقصود أحاديث الباب أنه صلى اللَّه عليه وسلّم نهاهم عن
إكثار السؤال والابتداء بالسؤال عما لا يقع، ذكره ذلك لمعان:
* منها أنه ربما كان سببا لتحريم شيء على المسلمين فيلحقهم به المشقة.
* ومنها أنه ربما كان في الجواب ما يكرهه السائل ويسوؤه، ولهذا أنزل اللَّه
تعالى في ذلك قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ* ومنها أنهم أحفوه صلى اللَّه عليه وسلّم بالمسألة،
والحفوة المشقة والأذى، فيكون ذلك سببا لهلاكهم.
(المرجع السابق) .
(3/135)
قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم،
فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ذكره
في كتاب الاعتصام [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 312، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (2) ،
الاقتداء بسنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه تعالى:
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث رقم (7288) .
قال الإمام النووي: هذا من جوامع الكلم، وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من
الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء،
وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على
الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار، إلى غير
ذلك من المسائل التي يطول شرحها.
وقال غيره: فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبّر عنه
بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من
أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب
عن الزنا، لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم فلا يسقط عنهما بعجزهما عن
العزم على عدم العود، إذ لا يتصور منهما العود عادة، فلا معنى للعزم على
عدمه.
* واستدل به على أن من أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما
عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن [ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه] ، ومن ثم
كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.
واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات،
لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات
بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد.
فإن قيل: أن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين، كذا قيل،
والّذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة، لا يدل على المدعي مع
الاعتناء به، بل هو من جهة الكف، إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية
الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك،
بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب
الاستطاعة دون النهي.
وعبّر الطوفي في هذا الموضوع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال
عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم
إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم النهي عنه قد تتخلف،
واستدل له بجواز أكل المضطر الميتة، وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن
بالتناول في تلك الحالة.
وقال ابن فرج في (شرح الأربعين) : قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فاجتنوه» ،
هو على إطلاقه، حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر
عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا
بالإيمان، كما نطق به القرآن.
والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي بأن
الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح
ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح
ترك العمل بالعذر لأن العمل قد يعجز المعذور عنه.
(3/136)
__________
[ () ] وادعى بعضهم أن قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ،
يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ
يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي، أن العجز
يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار.
وزعم بعضهم أن قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، نسخ قوله
تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ. والصحيح أن لا نسخ، بل المراد بحق
تقاته، امتثال أمره واجتناب نهية مع القدرة لا مع العجز.
واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه،
فشمل الواجب والمندوب.
وأجيب بأن قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ، يعمل به في الإيجاب والندب
بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر وهو الأمر.
وقال الفاكهاني: النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا
معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما.
واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب
الواجب والمندوب، وكذا عكسه. وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به، لم يرد
الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد بالمعنى الأعم وهو الإذن.
واستدل به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه، وقيل: يقتضيه، وقيل:
يتوقف فيما زاد على مرة، وحديث الباب قد يتمسك به لذلك، لما في سببه أن
السائل قال في الحج: أكل عام؟ فلو كان مطلقة يقتضي التكرار أو عدمه لم يحسن
السؤال ولا العناية بالجواب. وقد يقال: إنما سأل استظهارا أو احتياطا.
وقال المازري: يحتمل أن يقال: إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحج في
اللغة قصد تكرار، فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة، لا من صيغة
الأمر. وقد تمسك به من قال بإيجاب العمرة، لأن الأمر بالحج إذا كان معناه
تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحج لا يجب
إلا مرة، فيكون العود إليه مرة أخرى دالا على وجوب العمرة.
* واستدل به على أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يجتهد في الأحكام
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لو قلت نعم لوجبت» ،
وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحى إليه ذلك في الحال.
* واستدل به على أن جميع الأشياء على الإباحة، حتى يثبت المنع من قبل
الشارع.
* واستدل به على النهي عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك.
قال البغوي في (شرح السنة) : المسائل على وجهين:
أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز، بل
مأمور به لقوله تعالى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، وعلى ذلك تتنزل
أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما.
ثانيهما: ما كان على وجه التعنت والتكلف، وهو المراد في هذا الحديث،
واللَّه تعالى أعلم،
(3/137)
وخرج البخاري ومسلم من حديث أبي أمامة عن
بريدة عن أبي بريدة عن أبي موسى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إنما
مثلي ومثل ما بعثني اللَّه به كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم، إني رأيت
الجيش بعينيّ وإني أنا النذير العريان، فالنجاء [النجاء] [ (1) ] ، فأطاعه
طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة فأصبحوا
مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني [فاتبع] [ (2) ]
ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق.
لفظهما فيه متقارب، ولم يقل فيه مسلم: فنجوا. ذكره البخاري في كتاب
الاعتصام [ (3) ] .
..
__________
[ () ] ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف،
فعند أحمد من حديث معاوية: «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نهي عن
الأغلوطات» ،
قال الأوزاعي: هي شداد المسائل، وقال الأوزاعي أيضا: «إن اللَّه إذا أراد
أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليظ، فلقد رأيتهم أقل الناس
علما» .
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: «المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب
الرجل» ، وقال ابن العربيّ: «كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن
ينزل ما يشق عليهم، فأما بعد فقد أمن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة
الكلام في المسائل التي لم تقع» ، قال: «وإنه لمكروه إن لم يكن حراما، إلا
للعلماء، فإنّهم فرعوا ومهدوا، فنفع اللَّه من بعدهم بذلك، ولا سيما مع
ذهاب العلماء ودروس العلم.
وينبغي أن يكون محل الكراهية للعالم، إذا شغله ذلك عما هو أعم منه، وكان
ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات ليسهل
تناوله، واللَّه المستعان.
* واستدل به على أن الاشتغال بالأهم المتاح إليه عاجلا عما لا يحتاج إليه
في الحال، فكأنه قال:
عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فاجعلوا اشتغالكم بها عوضا عن
الاشتغال بالسؤال عما لم يقع.
فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن اللَّه ورسوله، ثم يجتهد في تفهم ذلك،
والوقوف على المراد به، ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العلميات، يتشاغل
بتصديقه واعتقاد أحقيته، وإن كان من العمليات، بذل وسعه في القيام به فعلا
وتركا، فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرف
حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمة مصروفة عن
سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع، مع الإعراض عن القيام
بمقتضى ما سمع، فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا
كان للعمل، لا للمراء والجدال. (المرجع السابق) :
325- 328.
[ (1) ] في (خ) : «النجاء» مرتين خلافا لرواية البخاري.
[ (2) ] في (خ) : «واتبع» ، وما أثبتناه من رواية البخاري.
[ (3) ] (فتح الباري) : 13/ 311، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب (2)
الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه تعالى:
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث رقم (7283) .
(3/138)
وفي كتاب الرقاق [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 11/ 383، كتاب الرقاق، باب (26) الانتهاء عن
المعاصي، حديث رقم (6482) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما بعثني اللَّه» ،
العائد محذوف، والتقدير بعثني اللَّه به إليكم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أتى قوما»
التنكير فيه للشيوع.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «بعيني» ،
بالإفراد، وللكشميهني بالتثنية بفتح النون والتشديد، قيل: ذكر العينين
إرشادا إلى أنه تحقّق عنده ما أخبر عنه، تحقّق من رأى شيئا بعينه، لا
يعتريه وهم، ولا يخالطه شك.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وإني أنا النذير العريان» ،
قال ابن بطال: النذير العريان، رجل من خثعم، حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة،
فقطع يده ويد امرأته، فانصرف إلى قومه فحذرهم، فضرب به المثل في تحقيق
الخبر.
قال الحافظ في الفتح: وسبق إلى ذلك يعقوب بن السكيت وغيره، وسمّى الّذي حمل
عليه (عوف ابن عامر اليشكري) ، وأن المرأة كانت من بني كنانة، وتعقب
باستبعاد تنزيل هذه القصة على لفظ الحديث، لأنه ليس فيها أنه كان عريانا.
وزعم ابن الكلبي أن النذير العريان امرأة من بني عامر بن كعب، لما قتل
المنذر بن ماء السماء أولاد أبي داود- وكان جار المنذر- خشيت على قومها،
فركبت جملا ولحقت بهم وقالت: أنا النذير العريان.
ويقال: أول من قاله أبرهة الحبشي لما أصابته الرمية بتهامة وقد سقط لحمه.
وذكر أبو بشر الآمدي:
أن زنبرا- بزاي ونون ساكنة ثم موحدة- ابن عمرو الخثعميّ، كان ناكحا في آل
زبيد، فأرادوا أن يغزوا قومه، وخشوا أن ينذر بهم، فحرسه أربعة، فصادف منهم
غرة، فقذف ثيابه وعدا، وكان من أشدّ الناس عدوا فأنذر قومه.
وقال غيره: الأصل فيه أن رجلا لقي جيشا فسلبوه وأسروه، فانفلت إلى قومه
فقال: إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عريانا فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا
يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقة لهذه
القرائن، فضرب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك،
لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على القطع بصدقة، تقريبا لأفهام
المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه.
ويؤيد
ما أخرجه الرامهرمزيّ في الأمثال، وعند أحمد أيضا بسند جيد، من حديث عبد
اللَّه بن بريدة، عن أبيه قال: «خرج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم
فنادى ثلاث مرات: أيها الناس، مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم،
فبعثوا رجلا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو، فأقبل لينذر قومه
فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه أيها الناس أتيتم ثلاث
مرات» . وأحسن ما فسّر به الحديث من الحديث.
وأخرجه أبو الشيخ بنحوه في كتاب (الأمثال في الحديث النبوي) ، وقال: رجاله
رجال الصحيح.
ص 297، حديث رقم (253) .
وهذا كله يدل على أن العريان من التعري، وهو المعروف في الرواية.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فالنجاء النجاء» ،
بالمد فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية، وبالقصر فيهما تخفيفا، وهو منصوب
على الإغراء، أي اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب، إشارة إلى أنهم لا يطيقون
مقاومة ذلك
(3/139)
وخرج البخاري من حديث سعيد بن ميناء قال:
حدثنا- أو سمعت- جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه يقول: جاءت ملائكة إلى
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم:
إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا:
[بأن] [ (1) ] لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا، فقالوا: مثله كمثل رجل
بنى دارا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل [من]
[ (2) ] المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل [من] [ (2) ]
المأدبة، فقالوا:
أولوها له بفقهها، [قال] [ (3) ] بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم: إن العين
نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى اللَّه عليه
وسلّم [ (2) ] ، فمن أطاع محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] فقد أطاع
اللَّه، ومن عصى محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] فقد عصى اللَّه،
ومحمد فرق بين
__________
[ () ] الجيش. قال الطيبي: في كلامه أنواع من التأكيدات:
* أحدها: «بعيني» . * ثانيهما: «وإني أنا» . * ثالثها: «العريان» ، لأنه
الغاية في قرب العدو، ولأنه الّذي يختص في إنذاره بالصدق.
قوله: «فأطاعه طائفه» ، كذا فيه بالتذكير، لأن المراد بعض القوم.
قوله: «فأدلجوا» ، بهمزة قطع ثم سكون، أي ساروا أول الليل، أو ساروا الليل
كله، على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة.
قوله: «على مهلهم» ، بفتحتين، والمراد به الهينة والسكون، وبفتح أوله وسكون
ثانيه الإمهال، وليس مرادا هنا، وفي رواية مسلم «على مهلتهم» بزيادة تاء
تأنيث، وضبطه النووي بضم الميم وسكون الهاء وفتح اللام.
قوله: «وكذبته طائفة» ، قال الطيبي: عبّر في الفرقة الأولى بالطاعة، وفي
الثانية بالتكذيب، ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق، ويشعر بأن التكذيب
مستتبع للعصيان.
قوله: «فصبّحهم الجيش» ، أي أتاهم صباحا، هذا أصله، ثم كثر استعماله، حتى
استعمل فيمن طرق بغتة في أي وقت كان.
قوله: «فاجتاحهم» ، بجيم ثم حاء مهملة، أي استأصلهم، من جحت الشيء أجوحه
إذا استأصلته، والاسم: الجائحة، وهي الهلاك، وأطلقت على الآفة لأنها مهلكة.
قال الطيبي: شبه صلى اللَّه عليه وسلّم نفسه بالرجل، وإنذاره بالعذاب
القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه،
بمن كذّب الرجل في إنذاره ومن صدّقه.
[ (1) ] كذا في (خ) ورواية البخاري: «إن» .
[ (2) ] زيادات من رواية البخاري.
[ (3) ] كذا في (خ) ، ورواية البخاري «فقال» .
(3/140)
الناس [ (1) ] [ (2) ] ...
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 310، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب
[ (2) ] الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه
تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث رقم (7281) .
قوله: «حدثنا أو سمعت» ، القائل ذلك سعيد بن ميناء، والشّاك هو سليم بن
حيان، شك في أيّ الصيغتين قالها شيخه سعيد.
قوله: «جاءت ملائكة» ، لم أقف على أسمائهم ولا أسماء بعضهم، ولكن
في رواية سعيد بن أبي هلال المعلقة عقب هذا عن الترمذي أن الّذي حضر في هذه
القصة جبريل وميكائيل، ولفظة: «خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم يوما فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند
رجلي..» ،
فيحتمل أنه كان مع كل منهما غيره. واقتصر في هذه الرواية على من باشر
الكلام منهم ابتداء وجوابا، ووقع في حديث ابن مسعود عند الترمذي، وحسنه
وصححه ابن خزيمة: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم توسّد فخذه فرقد، وكان
إذا نام نفخ، قال: فبينا أنا قاعد، إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض، اللَّه
أعلم بما بهم من الجمال، فجلست طائفة منهم عند رأس رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم، وطائفة منهم عند رجليه.
قوله: «إن لصاحبكم هذا مثلا قال: فاضربوا له مثلا» ، كذا للأكثر، وسقط لفظ
«قال» من رواية أبي ذر.
قوله: «فقال بعضهم: إنه نائم ... إلى قوله: يقظان» ، قال الرامهرمزيّ: هذا
تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال: رجل يقظ، إذا كان ذكي القلب،
وفي حديث ابن مسعود، فقالوا بينهم: ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا
النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا.
وفي رواية سعيد بن أبي هلال: فقال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال:
«اسمع سمع أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك» . ونحوه في حديث ربيعة الجرشي،
عند الطبراني، زاد أحمد في حديث ابن مسعود، فقالوا: اضربوا له مثلا، ونؤول
أو نضرب وأولوا، وفيه: ليعقل قلبك.
قوله: «مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة» ، في حديث ابن مسعود: «مثل
سيد بنى قصرا» ، وفي رواية أحمد: «بنيانا حصينا ثم جعل فيها مأدبة فدعا
الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجاب أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه
عاقبه- أو قال- عذبه» . وفي رواية أحمد «عذب عذابا شديدا.
والمأدبة بسكون الهمزة وضم الدال بعدها موحدة، وحكى بالفتح، وقال ابن
التين: عن أبي عبد الملك الضم والفتح لغتان فصيحتان،
وقال الرامهرمزيّ نحوه في حديث «القرآن مأدبة اللَّه»
قال:
وقال لي أبو موسى الحامض: من قاله بالضم أراد الوليمة، ومن قاله بالفتح
أراد أدب اللَّه الّذي أدب به عباده. قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا يتعين
الضم.
قوله: «فبعث داعيا» ، في رواية سعيد: «ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه،
فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه» .
قوله: «فقال بعضهم: أوّلوها بفقهها» ، قيل: يؤخذ منه حجة لأهل التعبير، أن
التعبير إذا وقع في المنام اعتمد عليه. قال ابن بطال: قوله: «أولوها له»
يدل على أن الرؤيا ما عبرت في النوم، أ. هـ.
وفيه نظر لاحتمال الاختصاص بهذه القصة، لكون الرائي النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم، والمرئي الملائكة، فلا يطرد ذلك في حق غيرهم.
(3/141)
__________
[ () ] قوله: «فقالوا: الدار الجنة» ، أي الممثل بها، زاد في رواية سعيد بن
أبي هلال: «فاللَّه هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد
رسول اللَّه» . وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: «أما السيد فهو اللَّه رب
العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، والطعام الجنة، ومحمد الداعي» ، فمن
اتبعه كان في الجنة.
قوله: «فمن أطاع محمدا فقد أطاع اللَّه» ، أي لأنه رسول صاحب المأدبة، فمن
أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة، وهو كناية عن دخول الجنة، ووقع بيان
ذلك في رواية سعيد، ولفظه: «وأنت يا محمد رسول اللَّه، فمن أجابك دخل
الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها» .
قوله: «ومحمد فرق بين الناس» ، كذا لأبي ذر بتشديد الراء فعلا ماضيا،
ولغيره بسكون الراء والتنوين، وكلاهما متجه. قال الكرماني: ليس المقصود من
هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركّب بالمركّب، مع قطع
النظر عن مطابقة المفردات من الطرفين. أ. هـ.
وقد وقع في غير هذه الطريق ما يدل على المطابقة المذكورة، زاد في حديث ابن
مسعود: «فلما استيقظ قال: سمعت ما قال هؤلاء، هل تدري من هم؟ قلت: اللَّه
ورسوله أعلم، قال: هم الملائكة، والمثل الّذي ضربوا: الرحمن بنى الجنة ودعا
إليها عباده»
الحديث.
تنبيه:
قال الحافظ في الفتح: تقدم في كتاب المناقب من وجه آخر عن سليم بن حيان
بهذا الإسناد، «قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مثلي ومثل الأنبياء كرجل
بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة»
الحديث. وهو حديث آخر، وتمثيل آخر، فالحديث الّذي في المناقب- وهو الحديث
رقم (3534) - يتعلق بالنّبوّة وكونه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين.
وهذا يتعلق بالدعاء إلى الإسلام، وبأحوال من أجاب أو امتنع، وقد وهم من
خلطهما كأبي نعيم في (المستخرج) ، فإنه لما ضاق عليه مخرج حديث الباب، ولم
يجده مرويا عنده، أورد حديث اللبنة، ظنا منه أنهما حديث واحد، وليس كذلك
لما بينته.
وسلّم الإسماعيلي من ذلك، فإنه لما لم يجده في مروياته،
أورده من روايته عن الفربري، بالإجازة عن البخاري بسنده، وقد روى يزيد بن
هارون بهذا السند حديث اللبنة، أخرجه أبو الشيخ في (كتاب الأمثال) ، من
طريق أحمد بن سنان الواسطي عنه، وساق بهذا السند حديث «مثلي ومثلكم كمثل
رجل أوقد نارا» أ
لحديث، لكنه عن أبي هريرة لا عن جابر، وقد ذكر الرامهرمزيّ حديث الباب في
(كتاب الأمثال) معلقا فقال: وروى يزيد بن هارون، فساق السند ولم يوصل سنده
بيزيد، وأورد معناه من مرسل الضحاك بن مزاحم.
[ (2) ] زاد في رواية البخاري بعد قوله: «ومحمد فرّق بين الناس» ، تابعه
قتيبة عن ليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال «عن جابر، خرج علينا النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم ... » .
قوله: «تابعه قتيبة عن ليث» ، يعني ابن سعد، «عن خالد» ، يعني ابن يزيد،
وهو أبو عبد الرحيم المصري أحد الثقات.
قوله: «عن سعيد بن أبي هلال عن جابر قال: خرج علينا النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم، هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث، وظاهر أن بقية الحديث مثله،
وقد بينت ما بينهما من الاختلاف، وقد وصله الترمذي عن قتيبة بهذا السند،
ووصله أيضا الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، وأبو نعيم من طريق أبي العباس
(3/142)
__________
[ () ] السراج، كلاهما عن قتيبة، ونسب السراج في روايته الليث وشيخه كما
ذكرته. قال الترمذي بعد تخريجه: هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يدرك
جابر بن عبد اللَّه.
قال الحافظ ابن حجر: وفائدة إيراد البخاري له، رفع التوهم عمن يظن أن طريق
سعيد بن ميناء موقوفة، لأنه لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم، فأتى بهذه الطريق لتصريحها، ثم قال الترمذي: وجاء من غير وجه عن
النبي بإسناد أصحّ من هذا. قال: وفي الباب عن ابن مسعود، ثم ساقه بسنده
وصححه، وقد بينت ما فيه أيضا بحمد اللَّه تعالى. ووصف الترمذي له بأنه
مرسل، يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة
الجرشي عند الطبراني، فإنه بنحو سياقه وسنده جيد، وسعيد بن أبي هلال غير
سعيد بن ميناء الّذي في السند الأول، وكل منهما مدني، لكن ابن ميناء تابعي،
بخلاف ابن أبي هلال.
والجمع بينهما إما بتعدد المرئي، وهو واضح، أو بأنه منام واحد، حفظ فيه بعض
الرواة ما لم يحفظ غيره، وتقدم طريق الجمع بين اقتصاره على جبريل وميكائيل
في حديث، وذكره الملائكة بصيغة الجمع في الجانبين الدال على الكثرة في آخر،
وظاهر رواية سعيد بن أبي هلال أن الرؤيا كانت في بيت النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم لقوله: «خرج علينا فقال: إني رأيت في المنام» .
وفي حديث ابن مسعود أن ذلك كان بعد أن خرج إلى الجن فقرأ عليهم، ثم أغفى
عند الصبح فجاءوا إليه حينئذ. ويجمع بأن الرؤيا كانت على ما وصف ابن مسعود،
فلما رجع إلى منزله خرج على أصحابه فقصها، وما عدا ذلك فليس بينهما منافاة،
إذ وصف الملائكة برجال حسان، يشير إلى أنهم تشكلوا بصورة الرجال.
وقد أخرج أحمد والبزار والطبراني، من طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران،
عن ابن عباس، نحو أول حديث سعيد بن أبي هلال، لكن لم يسمّ الملكين، وساق
المثل على غير سياق من تقدم، قال:
«إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر، انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم
من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك، إذ
أتاهم رجل فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء، أتتبعوني؟
قالوا: نعم، فانطلق بهم فأوردهم، فأكلوا، وشربوا، وسمنوا، فقال لهم: إن بين
أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة:
صدق، واللَّه لنتبعه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه» .
وهذا إن كان محفوظا قوى الحمل على التعدد، إما للمنام وإما لضرب المثل،
ولكن عليّ بن زيد ضعيف من قبل حفظه. قال ابن العربيّ في حديث ابن مسعود: إن
المقصود «المأدبة» ، وهو ما يؤكل ويشرب، ففيه رد على الصوفية الذين يقولون:
لا مطلوب في الجنة إلا الوصال، والحق أن لا وصال لنا إلا بانقضاء الشهوات
الجسمانية والنفسانية والمحسوسة والمعقولة، وجماع ذلك كله في الجنة.
(أ. هـ) .
وليس ما ادّعاه من المرد بواضح، قال: وفيه أن من أجاب الدعوة أكرم، ومن لم
يجبها أهين، وهو بخلاف قولهم: من دعوناه فلم يجبنا فله الفضل علينا، فإن
أجابنا فلنا الفضل عليه، فإنه مقبول في النظر، وأما حكم العبد مع المولى،
فهو كما تضمنه هذا الحديث. (المرجع السابق) : 317- 320.
(3/143)
وله من حديث فليح: حدثنا هلال بن علي عن
عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي، قالوا: [يا رسول اللَّه] [
(1) ] ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي [ (2) ] » .
ذكره والّذي قبله في كتاب الاعتصام.
***
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين تكملة من رواية البخاري.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 310، كتاب الاعتصام بالسنة، باب (2) الاقتداء
بسنن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه تعالى: وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث رقم (7280) .
قوله: «فليح» ، بالفاء والمهملة، مصغر، هو ابن سليمان المدني، وشيخه هلال
بن علي، هو الّذي يقال له ابن ميمونة.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبي» ،
بفتح الموحّدة، أي امتنع، وظاهره أن العموم مستمر، لأن كلّا منهم لا يمتنع
من دخول الجنة، ولذلك قالوا: «ومن يأبى» فبين لهم أن إسناد الامتناع إليهم
عن الدخول، مجاز عن الامتناع عن سننه، وهو عصيان الرسول صلى اللَّه عليه
وسلّم.
وأخرج أحمد والحاكم من طريق صالح بن كيسان عن الأعرج، عن أبي هريرة رفعه
«لتدخلن الجنة إلا من أبي وشرد على اللَّه شراد البعير» ،
وسنده على شرط الشيخين، وله شاهد عن أبي أمامة عن الطبراني، وسنده جيد،
والموصوف بالإباء وهو الامتناع، إن كان كافرا فهو لا يدخل الجنة أصلا، وإن
كان مؤمنا، فالمراد منعه من دخولها مع أول داخل، إلا من شاء اللَّه تعالى.
(3/144)
وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء
بهداه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقد قال اللَّه تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ (1)
] فوعد تعالى محبته ومغفرته [للذين] [ (2) ] اتبعوا الرسول صلى اللَّه عليه
وسلّم وآثروه على أهوائهم وما تجنح إليه نفوسهم، قال الحسن: إن أقواما
قالوا: يا رسول اللَّه، إنا نحب اللَّه، فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى: قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية، وقيل إن كعب بن الأشرف وغيره
قالوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، ونحن أشد حبا للَّه، فأنزل اللَّه: قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية، وقال الزجاج: معناه إن كنتم تحبون
اللَّه أن تقصدوا طاعته فافعلوا ما أمركم، إذ محبة العبد للَّه والرسول
طاعته لهما ورضاه بما أمر، ومحبة اللَّه لهم عفوه عنهم وإنعامه عليهم
برحمته، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ
الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [ (3) ] ، فأمر تعالى الكافة بمتابعته صلى اللَّه
عليه وسلّم، ووعدهم الاهتداء باتباعه لأنه اللَّه تعالى أرسله بالهدى ودين
الحق ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما
شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية، أي ينقادون لحكمك، يقال: سلم واستسلم وامتثل إذا
انقاد، فجعل تعالى صحة إيمان خليقته بانقيادهم له صلى اللَّه عليه وسلّم
ورضائهم بحكمه وترك الاعتراض عليه. وقال سهل في قوله: صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [ (4) ] قال: بمتابعة السنة.
وخرج أبو داود من حديث ثور بن يزيد قال: حدثني خالد بن معدان قال:
حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن
__________
[ (1) ] آل عمران: 31.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الأعراف: 158.
[ (4) ] الفاتحة: 7.
(3/145)
سارية [ (1) ] وهو ممن نزل فيه: وَلا عَلَى
الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [ (2) ] ، فتكلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين
ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذات
يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة تامة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها
القلوب، فقال قائل: يا رسول اللَّه [كأن] [ (3) ] هذه موعظة مودّع فماذا
تعهد إلينا، فقال: أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا،
فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات
الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ...
__________
[ (1) ] هو العرباض بن سارية السلمي، من أعيان أهل الصّفّة، سكن حمص، وروى
أحاديث، روي عنه جبير بن نفير، وأبو رهم السّمعي، وعبد الرحمن بن عمرو
السّلمي، وحبيب بن عبيد، وحجر بن حجر، ويحى بن أبي المطاع، وعمر بن الأسود
وعدّة. ابن وهب: حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن سعد بن إبراهيم، عن عروة بن
رويم، عن العرباض بن سارية- وكان يحب أن يقبض- فكان يدعو: اللَّهمّ كبرت
سني، ووهن عظمي، فاقبضني إليك. قال: فبينا أنا يوما في مسجد دمشق أصلي،
وأدعو أن أقبض، إذا أنا بفتى من أجمل الرجال، وعليه دوّاج [ثوب] أخضر،
فقال: ما هذا الّذي تدعو به؟
قلت: كيف أدعو يا ابن أخي؟ قال: قل اللَّهمّ حسن العمل وبلّغ الأجل. فقلت:
ومن أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا «رتبابيل» الّذي يسلّ الحزن من صدور
المؤمنين، ثم التفت فلم أر شيئا. قال أحمد بن حنبل: كنية العرباض، أبو
نجيح.
روى إسماعيل بن عيّاش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، قال: قال عتبة بن
عبد: أتينا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم سبعة من بني سليم، أكبرنا العرباض
بن سارية فبايعناه. [رجاله ثقات] .
إسماعيل بن عيّاش: حدثنا أبو بكر بن عبد اللَّه، عن حبيب بن عبيد، عن
العرباض: قال: لولا أن يقال: فعل أبو نجيح، لألحقت مالي سبلة، ثم لحقت
واديا من أودية لبنان عبدت اللَّه حتى أموت.
شعبة: عن أبي الفيض؟ سمع أبا حفص الحمّصي يقول: أعطى معاوية المقداد حمارا
من المغنم، فقال له العرباض بن سارية: ما كان لك أن تأخذه، ولا له أن
يعطيك، كأني بك في النار تحمله، فردّه.
قال أبو مسهر وغيره: توفي العرباض سنة خمس وسبعين.
* (طبقات ابن سعد) : 4/ 276، 7/ 412، (التاريخ الكبير) : 7/ 85، (الجرح
والتعديل) : 7/ 39، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 330، (مرآة الجنان) : 1/
156، (الإصابة) : 4/ 482، ترجمة رقم (5505) ، (تهذيب التهذيب) : 7/ 147،
(خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 436، (شذرات الذهب) : 1/ 82، (سير أعلام
النبلاء) :
3/ 419- 422، ترجمة رقم (71) .
[ (2) ] التوبة: 92، وتمامها: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ.
[ (3) ] تكملة من (صحيح سنن أبي داود) : 3/ 871، حديث رقم (3851- 4607) ،
قال الألباني: صحيح.
(3/146)
ضلالة [ (1) ] . وأخرجه الترمذي [ (2) ]
وقال: حديث حسن صحيح.
وخرج بقي بن مخلد من حديث زيد بن الجناب عن معاوية بن صالح قال:
حدثني الحسن بن جابر أنه سمع المقدام بن معديكرب يقول: قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: يوشك برجل متكئ على أريكته يحدث بحديثي يقول: بيننا
وبينكم كتاب اللَّه،
__________
[ (1) ] قوله: «فسلمنا» ، أي على العرباض، «زائرين» من الزيارة، «وعائدين»
من العيادة، «ومقتبسين» ، أي محصلين منك العلم، «ذرفت» ، أي دمعت، «ووجلت»
، أي خافت، «كأن هذه موعظة مودع» ، فإن المودّع- بكسر الدال- عند الوداع،
لا يترك شيئا مما يهم المودّع- بفتح الدال- أي كأنك تودعنا بها، لما رأى من
مبالغته صلى اللَّه عليه وسلّم في الموعظة، «فماذا تعهد» ، أي توصي، «وإن
عبدا حبشيا» أي وإن كان المطاع عبدا حبشيا.
قال الخطابيّ: يريد به طاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبدا حبشيا، ولم
يرد بذلك أن يكون الإمام عبدا حبشيا.
وقد ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «الأئمة من قريش» ،
وقد يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يصح في الوجود،
كقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من بنى للَّه مسجدا ولو مثل مفحص قطاة، بنى
اللَّه له بيتا في الجنة» ،
وقدر مفحص القطاة لا يكون مسجدا لشخص آدمي، ونظائر هذا الكلام كثير.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وعضوا عليها بالنواجذ» ،
جمع ناجذة بالذال المعجمة، قيل: هو الضرس الأخير، وقيل: هو مرادف السن، وهو
كناية عن شدة ملازمة السنة والتمسك بها. وقال الخطابي: وقد يكون معناه أيضا
الأمر بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات اللَّه، كما يفعله المتألم
بالوجع يصيبه.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وإياكم ومحدثات الأمور» ،
قال الحافظ ابن رجب في كتاب (جامع العلوم والحكم) : فيه تحذير للأمة من
اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك
بقوله: «وكل بدعة ضلالة» .
والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان
له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة.
فقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وكل بدعة ضلالة» ،
من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين. وأما ما وقع
في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا
الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي اللَّه عنه في التراويح: «نعمت البدعة هذه» ،
وروى عنه أنه قال: «إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة» ، ومن ذلك أذان الجمعة
الأول، زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقرّه عليّ، واستمر عمل المسلمين
عليه. وروى عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في
التراويح. (عون المعبود) : 12/ 234، كتاب السنه، باب التمسك بالسنة، حديث
رقم (4594) .
[ (2) ] قال المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وليس في حديثهما ذكر حجر
بن حجر، غير أن الترمذي أشار إليه تعليقا، وقال الترمذي: حسن صحيح.
والخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: والمحدث على قسمين: محدث ليس له أصل
إلا الشهوة والعمل بالإرادة فهذا باطل، وما كان على قواعد الأصول أو مردود
إليها فليس ببدعة ولا ضلالة.
(المرجع السابق) : 235.
(3/147)
وما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا
فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول اللَّه مثل ما حرم اللَّه [ (1) ]
.
وخرج البخاري في كتاب الأدب [ (2) ] وفي كتاب الاعتصام [ (3) ] من حديث
الأعمشي، حدثنا مسلم عن مسروق [قال] [ (4) ] : قالت عائشة رضي اللَّه عنها:
صنع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم شيئا [فرخص] [ (5) ] فيه فتنزه عنه قوم،
فبلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فخطب فحمد
__________
[ (1) ]
أخرج أبو داود نحوه في كتاب السنة، باب لزوم السنة، حديث رقم (3848- 4604)
: عن المقدام بن معديكرب، عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال:
«ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول:
عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام
فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السّبع، ولا
لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن
لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» .
وحديث رقم (3849- 4605) :، عن أبي رافع عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
قال: «لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به
أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب اللَّه اتبعناه. (صحيح سنن
أبي داود للألباني) : 3/ 870- 871.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «على أريكته»
أي على سريره المزين بالحلل والأثواب، وأراد بهذه الصفة أصحاب الترفة
والدعة، الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم من مظانه. قال الخطابي: في
الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم شيء كان حجة بنفسه، فأما ما رواه بعضهم
أنه قال: إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على الكتاب فإن وافقه فخذوه، فإنه حديث
باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا الساجي عن يحى بن معين أنه قال: هذا حديث
وضعته الزنادقة.
قال المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا
الوجه، وحديث أبي داود أتم من حديثهما. (عون المعبود) 12/ 231، حديث رقم
(4591) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 628، باب (72) من لم يواجه الناس بالعتاب، حديث
رقم (6101) .
[أي حياء منهم] .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 342، باب (5) ما يكره من التعمق والتنازع
والغلوّ في الدين والبدع، لقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا
فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، حديث رقم
(7301) .
قوله: «صنع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم شيئا فترخص فيه» ، في رواية مسلم
من طريق أبي معاوية عن الأعمش:
«رخّص النبي في أمر» .
قوله: «فتنزه عنه قوم» ، في رواية مسلم من طريق جرير عن الأعمش «فبلغ ذلك
ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا» .
قوله: «فخطب» ، في رواية أبي معاوية «فبلغ ذلك النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
فغضب حتى بان الغضب في وجهه.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] في (خ) : «ترخص فيه» .
(3/148)
اللَّه ثم قال: [ما بال] [ (1) ] أقوام
يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو اللَّه إني لأعلمهم باللَّه وأشدهم [له] [ (1)
] خشية. وخرجه مسلم بنحوه أو قريب منه [ (2) ] .
وخرج الترمذي من حديث سفيان عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن
__________
[ (1) ] تكملة من البخاري.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 115، كتاب الفضائل، باب (35) علمه صلى
اللَّه عليه وسلّم باللَّه تعالى وشدة خشيته، حديث رقم (127) ، (128) .
قوله: «ما بال أقوام» ، في رواية جرير «ما بال رجال»
قال ابن بطال: هذا لا ينافي الترجمة، لأن المراد بها المواجهة مع التعيين،
كأن يقول: ما بالك يا فلان تفعل كذا، وما بال فلان يفعل كذا، فأما مع
الإبهام فلم تحصل المواجهة وإن كانت صورتها موجودة، وهي مخاطبة من فعل ذلك،
لكنه لما كان من جملة المخاطبين ولم يميز عنهم، صار كأنه لم يخاطب.
قوله: «يتنزهون عن الشيء أصنعه» ، في رواية جرير «بلغهم عني أمر ترخّصت فيه
فكرهوه وتنزهوا عنه» ، وفي رواية أبي معاوية: «يرغبون عما رخص لي فيه» .
قوله: «فو اللَّه إني لأعلمهم باللَّه وأشدهم له خشية» ،
جمع بين القوة العملية، والقوة العلمية، أي أنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل
أقرب لهم عند اللَّه، وليس كذلك، إذ هو أعلمهم بالقربة، وأولادهم بالعمل
بها.
قال ابن بطال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رفيقا بأمته، فلذلك خفف
عنهم العتاب، لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، ولو كان ذلك حراما
لأمرهم بالرجوع إلى فعله.
قال الحافظ ابن حجر: أما المعاتبة فقد حصلت منه لهم بلا ريب، وإنما لم يميز
الّذي صدر منه ذلك سترا عليه، فحصل منه الرّفق من هذه الحيثية، لا بترك
العتاب أصلا، وأما استدلاله بكون ما فعلوه غير حرام، فواضح من جهة أنه لم
يلزمهم بفعل ما فعله هو.
وفي الحديث الحث على الاقتداء بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، وذم التعمق
والتنزه عن المباح، وحسن العشرة عند الموعظة، والإنكار والتلطف في ذلك.
قال الإمام النووي في شرح مسلم: فيه الحث على الاقتداء به صلى اللَّه عليه
وسلّم، والنهي عن التعمق في العبادة، وذم التنزه عن المباح شكّا في إباحته.
* وفيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع. وإن كان المنتهك متأولا تأويلا
باطلا.
* وفيه حسن المعاشرة بإرسال التعزير والإنكار في الجمع، ولا يعين فاعله،
فيقال: ما بال أقوام ونحوه.
* وفيه أن القرب إلى اللَّه تعالى سبب لزيادة العلم به وشدة خشيته.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فو اللَّه لأنا أعلمهم باللَّه وأشدهم
له خشية» ،
فمعناه أنهم يتوهمون أن سننهم عما فعلت أقرب لهم عند اللَّه، وإن فعل خلاف
ذلك، وليس كما توهموا، بل أنا أعلمهم باللَّه وأشدهم له خشية، وإنما يكون
القرب إليه سبحانه وتعالى، والخشية له على حسب ما أمر، لا بمخيلات النفوس،
وتكلف أعمال لم يأمر بها. واللَّه أعلم.
(3/149)
عبد اللَّه بن يزيد عن عبد اللَّه بن عمرو
[بن العاص] [ (1) ] رضي اللَّه [عنهما] [ (2) ] قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ليأتين على أمتي ما أتى على بني
إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية [ليكوننّ] [
(3) ] في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة،
[وستفترق] [ (4) ] أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة،
قالوا من هي يا رسول اللَّه؟ قال:
[من كان على] [ (5) ] ما أنا عليه وأصحابي.
قال أبو عيسى: هذا حديث مفسّر غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه [ (6) ] .
قال الترمذي: الإفريقي ضعيف عند أهل الحديث،
__________
[ (1) ] تكملة من (جامع الأصول) : 10/ 33.
[ (2) ] في (خ) : «عنه» .
[ (3) ] في (خ) : «لكان» .
[ (4) ] في (خ) : «وتفترق» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (5) ] تكملة من المرجع السابق، حديث رقم 7491.
[ (6) ]
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ليأتينّ على أمتي» ،
من الإتيان وهي المجيء بسهولة، وعدّى بعلي لمعنى الغلبة المؤدية إلى
الهلاك، ومنه قوله تعالى: ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ
[الذاريات: 42] .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حذو النعل بالنعل»
استعارة في التساوي، وقيل: الحذو القطع والتقدير أيضا، يقال: حذوت النعل
بالنعل إذا قدرت كل واحدة من طاقاتها على صاحبتها لتكونا على السواء، ونصبه
على المصدر، أي يحذونهم حذوا مثل حذو النعل بالنعل، أي تلك المماثلة
المذكورة في غاية المطابقة والموافقة، كمطابقة النعل بالنعل.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حتى إذا كان منهم من أتى أمه» ،
حتى: ابتدائية، والواقع بعده جملة شرطية، وإتيان الأم كناية عن الزنا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين مله»
،
سمى صلى اللَّه عليه وسلّم طريقة كل واحد منهم «ملة» اتساعا، وهي في الأصل
ما شرع اللَّه لعباده على ألسنة أنبيائه ليتوصلوا به إلى القرب من حضرته
تعالى، ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها، ولا تكاد توجد مضافة إلى
اللَّه تعالى، ولا إلى آحاد أمة النبي، بل يقال: ملة محمد صلى اللَّه عليه
وسلّم أو ملتهم كذا، ثم إنها اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة، لأنهم لما
عظم تفرقهم، وتدنّيت كل فرقة منهم بخلاف ما تديّن به غيرها، كانت طريقة كل
منهم كالملة الحقيقية في التدين، فسميت باسمها مجازا.
وقيل: الملة كل فعل وقول اجتمع عليه جماعة، وهو قد يكون حقا، وقد يكون
باطلا، والمعنى أنهم يفترقون فرقا، تتديّن كل واحدة منها بخلاف ما تتديّن
به الأخرى.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة» ،
قيل: فيه إشارة لتلك المطابقة، مع زيادة هؤلاء في ارتكاب البدع بدرجة.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إلا ملة» ، بالنصب، أي إلا أهل ملة، «قالوا:
من هي» ؟ أي تلك الملة أي أهلها الناجية.
قوله: «هذا حديث حسن غريب» ، في سنده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو
ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب، وحديث عبد اللَّه بن عمرو
هذا أخرجه أيضا الحاكم
(3/150)
ضعفه يحى بن سعيد القطان وغيره، وقال أحمد:
لا أكتب حديث الإفريقي.
وخرج الترمذي من حديث محمد بن عبد اللَّه الأنصاري عن أبيه عن علي بن زيد
عن سعيد بن [المسيب] [ (1) ] قال: قال أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: قال
[لي] [ (2) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يا بني إن قدرت أن تصبح
وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني، وذلك من سنتي ومن
[أحيا] [ (3) ] سنتي فقد [أحياني] [ (4) ] ومن [أحياني] [ (5) ] كان معي في
الجنة
- وفي الحديث قصة طويلة- قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ومحمد
بن عبد اللَّه الأنصاري ثقة، وأبوه ثقة، وعلي بن زيد صدوق إلا أنه [ربما] [
(6) ] يرفع الشيء الّذي يوقفه
__________
[ () ]
وفيه: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .
واعلم أن أصول البدع كما نقل في (المواقف) ثمانية:
[1] المعتزلة القائلون بأن العباد خالقوا أعمالهم، وبنفي الرؤية، وبوجوب
الثواب والعقاب، وهم عشرون فرقة.
[2] الشيعة المفرطون في محبة علي كرم اللَّه وجهه وهم اثنان وعشرون فرقة.
[3] الخوارج المفرطة المكفّرة له رضي اللَّه عنه، ومن أذنب كبيرة وهم عشرون
فرقة.
[4] المرجئة القائلة بأن لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر
طاعة، وهي خمس فرق.
[5] والنجّارية الموافقة لأهل السنة في خلق الأفعال، فرقة أيضا.
[6] المعتزلة في نفي الصفات وحدوث الكلام، وهم ثلاث فرق.
[7] والجبرية القائلة بسلب الاختيار عن العباد فرقة واحدة.
[8] والمشبهة الذين يشبهون الحق بالخلق في الجسمية والحلول. فرقة أيضا،
فتلك ثلاث وسبعون فرقه، والفرقة الناجية هم أهل السنة البيضاء المحمدية،
والطريقة النقية الأحمدية. (تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي) : 7/ 333-
334، أبواب الإيمان باب (18) افتراق هذه الأمة، حديث رقم (27779) .
وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) : 1/ 129، حديث رقم (444/ 155) ذكره في
كتاب العلم. قال في التخليص: رواه ثابت بن محمد العابد، عن الثوري، عن ابن
أنعم الإفريقي، عن عبد اللَّه بن يزيد عنه. وقال إسماعيل بن أبي أويس:
حدثنا كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف بن يزيد، عن أبيه، عن جده مرفوعا:
«لتسلكن سنن من قبلكم، إن بني إسرائيل افترقت ... »
الحديث.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط من (خ) ، وما أثبتناه من صحيح الترمذي.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط من (خ) ، وما أثبتناه من صحيح الترمذي.
[ (3) ] في (خ) : «أحب» .
[ (4) ] في (خ) : «أحبني» .
[ (5) ] في (خ) : «أحبني» وما أثبتناه من صحيح الترمذي.
[ (6) ] زيادة من صحيح الترمذي.
(3/151)
غيره. [قال] [ (1) ] : وسمعت محمد بن بشار
يقول: قال أبو الوليد: قال شعبة:
[أخبرنا] [ (1) ] علي بن زيد وكان رفاعا، ولا يعرف لسعيد بن المسيب [عن
أنس] [ (2) ] رواية إلا في هذا الحديث بطوله. وقد روى عباد [بن ميسرة] [
(3) ] المقبري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس ولم يذكر فيه عن سعيد بن
المسيب، قال أبو عيسى: وذاكرت محمد بن إسماعيل [ولم] [ (4) ] يعرفه، ولم
يعرف لسعيد بن المسيب، عن أنس هذا الحديث ولا غيره، ومات أنس [بن مالك] [
(5) ] سنة ثلاث وتسعين، ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين، مات سنة خمس
وتسعين واللَّه أعلم [ (6) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) ، وفي (خ) : «حدثنا» وما أثبتناه من صحيح الترمذي.
[ (2) ] زيادة من صحيح الترمذي.
[ (3) ] في (خ) : «عباد بن ميسرة المقبري» .
[ (4) ] في (خ) : «فلم» .
[ (5) ] تكملة من صحيح الترمذي.
[ (6) ] والحديث أخرجه الترمذي في (الجامع الصحيح) في أبواب العلم، باب
الأخذ بالسنة واجتناب البدعة.
قوله: «قال لي» ، أي وحدي أو مخاطبا لي من بين أصحابي، «يا بني» بضم التاء
تصغير ابن، وهو تصغير لطف ومرحمة، ويدل على جواز هذا لمن ليس ابنه، ومعناه
اللطف، وأنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة.
قوله: «إن قدرت» ، أي استطعت، والمراد: اجتهد قد ما تقدر «أن تصبح وتمسي» ،
أي تدخل في وقت الصباح والمساء، والمراد جميع الليل والنهار «ليس في قلبك»
الجملة حال من الفاعل، تنازع فيه الفعلان، أي وليس كائنا في قلبك «غش»
بالكسر ضد النصح، الّذي هو إرادة الخير للمنصوح له.
قوله: «لأحد» وهو عام للمؤمن والكافر، فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في
إيمانه، ويسعى في خلاصه من ورطة الهلاك باليد واللسان، وللتألف بما يقدر
عليه من المال. كذا ذكره الطيبي.
قوله: «فافعل» ، جزاء كناية عما سبق في الشرط، أي افعل نصيحتك «وذلك» ، أي
خلو القلب من الغش، قال الطيبي: وذلك إشارة إلى أنه رفيع المرتبة أي بعيد
التناول «من سنتي» أي طريقتي، «ومن أحيا سنتي» أي أظهرها وأشاعها بالقول أو
العمل، «فقد أحياني ومن أحياني» كذا في النسخ الحاضرة من الإحياء في
المواضع الثلاثة.
وأورد صاحب المشكاة هذا الحديث نقلا عن الترمذي بلفظ «من أحب سنتي فقد
أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» ، ومن الإحباب في المواضع الثلاثة،
فالظاهر أنه قد وقع في بعض نسخ الترمذي هكذا، واللَّه تعالى أعلم.
قال محققه: ولعل المقريزي- رحمه اللَّه- قد نقل من إحدى هذه النسخ ذلك
اللفظ الّذي حققناه وصوبناه من الرواية الأخرى حسب الهوامش السابقة على متن
هذا الحديث.
قوله: «كان معي في الجنة» ، أي معية مقاربة لا معية متحدة في الدرجة، قال
تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
(3/152)
ومخالفة أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم وتبديل سنته ضلال وبدعة، يوعد اللَّه تعالى على ذلك بالخذلان
والعذاب، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [ (1) ] ،
وقال: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [ (2) ] .
والآثار المسندة والموقوفة أيضا كثيرة جدا وفي استيعابها خروج عما نحن
بصدده، وفيما أوردته كفاية إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه سبحانه وتعالى
الموفق بمنه.
***
__________
[ () ] أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 169] .
قوله: «وعلي بن زيد صدوق» ، وضعّفه غير واحد من أئمة الحديث، «وكان رفّاعا»
بفتح الراء وتشديد الفاء، أي كان يرفع الأحاديث الموقوفة كثيرا «وقد روى
عباد» بن ميسرة «المنقري» بكسر الميم وسكون النون، البصري المعلم، لين
الحديث، عابد من السابعة «ولا غيره» بالنصب عطف على هذا الحديث.
قوله: «ومات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين»
مقصود الترمذي بهذا أن المعاصرة بين أنس وبين سعيد بن المسيب ثابتة، فيمكن
سماعة منه. (تحفة الأحوذي) : 7/ 370- 371، أبواب العلم، باب الأخذ بالسنة
واجتناب البدعة، حديث رقم (2818) .
[ (1) ] النور: 63.
[ (2) ] النساء: 115.
(3/153)
وأما أمر الكافّة بالتّأسي به قولا وفعلا
فقال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [ (1) ] ، فأمر تعالى
بالتأسي به صلى اللَّه عليه وسلّم أمرا مطلقا، لم يستثن من التأسي به شيئا
بخلاف أمره تعالى بالتأسي بإبراهيم عليه [السلام] [ (2) ] ، فإنه استثنى
بالتأسي به، قال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي
إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا
مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا
بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [ (3) ] ، فحثّ تعالى المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم
عليه السلام والذين معه من أنبياء اللَّه فيما ذكر تعالى، ثم استثنى من
التأسي به استغفاره عليه السلام لأبيه، فنهى المؤمنين عن التأسي به في ذلك.
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ، قال:
نهوا أن يتأسوا به في استغفاره لأبيه، فيستغفروا للمشركين. وقال مطرف عن
مجاهد: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ
لَكَ يقول تعالى: ائتسوا به في كل شيء ما خلا قوله لأبيه:
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ فلا تأتسوا بذلك منه، فإنّها كانت عن موعدة وعدها
إياه.
وقال معمر عن قتادة: يقول: لا تأتسوا بذلك منه فإنه كان عليه موعدا، وتأسوا
بأمره كله. وقال ابن وهب: قال ابن زيد: قول اللَّه تعالى: قَدْ كانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله: إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ قال: يقول: ليس لكم في هذه
أسوة. وقال محمد بن علي الترمذي:
الأسوة في الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم الاقتداء به والاتباع لسنته وترك
مخالفته في قول أو فعل.
وقال الإمام محمد بن عمر الرازيّ: اختلفوا في أن فعل الرسول صلى اللَّه
عليه وسلّم بمفرده،
__________
[ (1) ] الأحزاب: 21.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الممتحنة: 4.
(3/154)
هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟ على أربعة
أقوال:
أحدها: أنه للوجوب وهو قول ابن شريج وأبي سعيد الاصطخري، وأبي على ابن
خيران.
وثانيها: أنه للندب ونسب ذلك إلى الشافعيّ رحمه اللَّه.
وثالثها: أنه للإباحة وهو قول مالك رحمه اللَّه.
ورابعها: أنه يتوقف على الكل، وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة، وهو المختار
لنا، إنا إذا جوّزنا في ذلك الفعل أن يكون ذنبا له ولنا، وحينئذ لا يجوز
لنا فعله، وإن لم نجوز الذنب عليهم جوزنا كونه مباحا ومندوبا وواجبا،
وبتقدير أن يكون واجبا جوزنا أن يكون ذلك من خواصه، وأن لا يكون، ومع
احتمال هذه الأقسام امتنع الجزم بواحد منها، واحتج القائلون بالوجوب
بالقرآن والإجماع والمعقول، أما القرآن: فسبع آيات.
[أولها] : قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ،
والأمر حقيقة الفعل، والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله.
وثانيها: قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وهذا يجري
مجرى الوعيد فيمن ترك التأسي به، ولا معنى للتأسي إلا أن يفعل الإنسان مثل
فعله.
وثالثها: قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ، وظاهر الأمر للوجوب، والمتابعة هي
الإتيان بمثل فعله.
ورابعها: قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي،
دلت الآية على أن محبته تعالى مستلزمة للمتابعة، لكن المحبة واجبة
بالإجماع، ولازم الواجب واجب، فمتابعه واجبة.
وخامسها: قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، فإذا فعل فعلا
فقد أتانا بالفعل، فوجب علينا أن نأخذه.
وسادسها: قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ ... ،
(3/155)
دلت الآية بإطلاقها على وجوب طاعة الرسول،
والآتي بمثل ما فعله الغير لأجل أن ذلك الغير فعله طائع لذلك الغير، فوجب
أن يكون ذلك واجبا.
وسابعها: قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [
(1) ] ، بين أنه تعالى إنما زوجه لها ليكون حكم أمته مساويا لحكمه في ذلك
وهو المطلوب.
وأما الإجماع فلأن الصحابة بأجمعهم اختلفوا في الغسل بالتقاء الختانين،
فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: فعلته أنا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم فاغتسلنا، فرجعوا إلى ذلك، وإجماعهم على الرجوع حجة، وهو المطلوب.
وإنما كان ذلك لفعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقد أجمعوا ها هنا
على أن مجرد الفعل للوجوب، ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل، وخلعوا نعالهم
لما خلع، وأمرهم عام الحديبيّة بالتحلل فتوقفوا، فشكا ذلك إلى أم سلمة رضي
اللَّه عنها فقالت: اخرج إليهم فاحلق واذبح، ففعل، فحلقوا وذبحوا مسارعين،
وأنه خلع خاتمه فخلعوا، وأن عمر رضي اللَّه عنه كان يقبل الحجر الأسود
ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول اللَّه
يقبلك لما قبلتك، وأما خلع الخاتم فهو مباح، فلما خلع أحبوا موافقته لا
لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم.
والجواب عن الوجه الأول من المعقول أن الاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن
الضرر قطعا، وها هنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما، وإذا احتمل
الأمران لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا.
وعن الثاني إن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به الملك العظيم قد يكون تعظيما،
ولذلك يقبح من العبد أن يفعل كل ما يفعله سيده، واحتج القائلون بالندب
بالقرآن والإجماع والمعقول.
أما القرآن: فقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ، فلو كان التأسي به واجبا لقال عليه، ولما لم يقل ذلك وقال لكم دل
على عدم الوجوب، ولما أثبت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك، فلم
يكن
__________
[ (1) ] الأحزاب: 37.
(3/156)
مباحا.
وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل الأمصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال
بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد
الندب.
وأما المعقول: فهو أنه يفيد أن فعله إما أن يكون راجح العدم أو مساوي العدم
أو مرجوح العدم، والأول باطل لما ثبت أنه لا يوجد منه الذنب، والثاني باطل
ظاهر، لأن الاشتغال به عبث، والعبث مزجور عنه لقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [ (1) ] ، فتعين الثالث، وهو أن يكون مرجوح
العدم.
ثم لما تأملنا أفعاله صلى اللَّه عليه وسلّم وجدنا بعضها مندوبا وبعضها
واجبا، والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجوب وعدم الوجوب ثابت بمقتضى
الأصل، فأثبتنا الرجحان مع عدم الوجوب.
والجواب عن الأول ما تقدم: أن التأسي في إيقاع الفعل على الوجوب الّذي
أوقعه، فلو فعله واجبا أو مباحا وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي.
وعن الثاني أنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل، فلعلهم وجدوا مع الفعل
قرائن أخر.
وعن الثالث: لا نسلّم أن فعل المباح عبث، لأن العبث هو الخالي عن العرض،
وإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثا، بل من حيث النفع به خرج عن
العبث، فلم قلتم بأنه خلّى عن العرض، ثم حصول العرض في التأسي بالنبيّ صلى
اللَّه عليه وسلّم متابعته في أفعاله بيّن، فلا يعد من أقسام العبث.
واحتج القائلون بالإباحة بأنه لما ثبت أنه لا يجوز صدور الذنب منه صلى
اللَّه عليه وسلّم ثبت أن فعله لا بد وأن يكون مباحا أو مندوبا أو واجبا،
وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل، فأما رجحان جانب الفعل
يثبت على وجوده دليلا لأن الكلام فيه، وثبت على عدمه دليل، لأن هذا الرجحان
كان معدوما، والأصل
__________
[ (1) ] المؤمنون: 115.
(3/157)
في كل شيء بقاؤه، فقد ثبت بهذا أنه لا حرج
في فعله قطعا، ولا رجحان في فعله ظاهرا، فهذا الدليل يقتضي في كل أفعاله
صلى اللَّه عليه وسلّم أن يكون مباحا ترك العمل به في الأفعال التي كونها
واجبة أو مندوبة، فبقي معمولا به في الباقي، وإذا ثبت كونه مباحا ظاهرا وجب
أن يكون في حقنا كذلك، للآية الدالة على وجوب التأسي ترك العمل به فيما إذا
كان من خواصه، فبقي معمولا به في الباقي.
والجواب هنا: أنه في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم كذلك، فلم يجب أن يكون في
حق غيره كذلك؟ واللَّه أعلم.
قال جمهور الفقهاء والمعتزلة: التأسّي واجب، ومعنى ذلك أنا إذا علمنا أن
الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا أن نفعله
على وجه الوجوب، وإن علمنا أنه مستقل به كنا متعبدين بالتنفل به، وإن علمنا
أنه فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته، وجاز لنا أن لا
نفعله.
وقال أبو على بن خلاد- تلميذ أبي هاشم من المعتزلة-: نحن متعبدون بالتأسي
به في العبادات دون غيرها كالمناكحات والمعاملات، ومن الناس من أنكر ذلك في
الكل، احتج أبو الحسن بالقرآن والإجماع.
أما القرآن فقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ والتأسي بالغير في أفعاله هو أن يفعل على الوجه الّذي فعل ذلك
الغير، ولم يفرق اللَّه تعالى بين أفعال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا
كانت مباحة أو لم تكن مباحة.
وأما الإجماع: فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه صلى اللَّه عليه وسلّم في
قبلة الصائم، وفي من أصبح جنبا لم يفسد صومه، وفي تزويج النبي ميمونة رضي
اللَّه عنها وهو حرام، وذلك يدل على أن أفعاله لا بد من أن يمتثل بها في
طريقه.
ولقائل أن يقول: على الدليل الأول، الأمر يفيد التأسي به مرة واحدة، كما أن
قول القائل لغيره: لك في الدار ثوب حسن، يفيد ثوبا واحدا، فإن قلت: هذا إن
ثبت تم عرضا من التعبد بالتأسي به صلى اللَّه عليه وسلّم في الجملة، ولأنه
يفيد إطلاق كون الشيء أسوة لنا، ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة لزيد إلا
إذا لم يجز لزيد وصف أن يتبعه إلا في واحد، وإنما يطلق ذلك أن لو كان ذلك
الإنسان لزيد قدوة يهتدي به في
(3/158)
أموره كلها ما خصه الدليل.
قلت: الجواب عن الأول: أن أحدا لا ينازع في التأسي به صلى اللَّه عليه
وسلّم في الجملة، لأنه لما قال: صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني
مناسككم، فقد أجمعوا على وقوع التأسي به، والآية ما دلت إلا على المرة
الواحدة، فكان التأسي به صلى اللَّه عليه وسلّم في هذه الصورة كافيا في
العمل بالآية، لا سيما والآية إنما وردت على صيغة الإخبار عما مضى، وذلك
يكفي فيه وقوع التأسي به فيما مضى.
والجواب عن الثاني: أنك إن أردت أنه لا يصح إطلاق اسم الأسوة إلا إذا كان
أسوة في كل شيء فهو ممنوع، ثم يدل على فساده وجهان:
الأول: أنه من يعلم من إنسان نوعا واحدا من العلم يقال له: إن لك في فلان
أسوة حسنة في كل شيء، ويقال لك في فلان أسوة حسنة في هذا الشيء دون ذاك ولو
اقتضى اللفظ العموم لكان الأول تكرار، والثاني نقصا، وإن أردت أنه يصح
إطلاق اسم الأسوة إذا كان أسوة في بعض الأشياء فهذا مسلّم، ولكنه صلى
اللَّه عليه وسلّم أسوة لنا في أقواله وأفعاله التي أمرنا بالاقتداء بها
كقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم» .
والجواب عن الحجة الثانية: أن قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ يطلق في الاتباع
فلا يفيد العموم في كل الاتباعات، والأمر لا يقتضي التكرار، فلا يفيد
العموم في كل الأزمنة، فإن قلت: ترتب الحكم على الاسم يشعر بأن المسمى علة
لذلك الحكم، فماهية المتابعة علة الأمر بها، قلت: فعلى هذا لو قال السيد
لعبده:
اسقني، يلزمه أن يكون أمرا له يجمع أنواع السقي في كل الأزمنة، وفي هذه
الأمثلة كثرة، وما ذكرناه في فساد ما قالوا، وأما الإجماع فقد سبق الكلام
عليه، قال: لما عرفت أن التأسّي مطابقة المتأسّى به في الوجه وجب معرفة
الوجه الّذي عليه وقع فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم وهو ثلاثة: الندب
والإباحة والوجوب.
أما الإباحة فتعرف بطرق أربعة:
أحدها: أن ينص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على أنه مباح.
وثانيها: أن تقع امتثالا لأنها دالة على الإباحة.
(3/159)
وثالثها: أن تقع بيانا لأنها دالة على
الإباحة.
ورابعها: أنه لما ثبت أنه لا ندب ثبت أنه لا حرج عليه في ذلك الفعل، ويعرف
نفي كيفية الوجوب والندب بالبقاء على الأصل، فحينئذ نعرف كونه مباحا. أما
الندب فيعرف بتلك الثلاثة الأدلة مع أربعة أخرى.
أحدها: أن يعلم من قصده صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قصد القربة بذلك الفعل،
فيعلم أنه راجح الوجود، ولم يعرف انتفاء الوجوب بحكم الاستصحاب فيثبت
الندب.
وثانيها: أن ينص على أنه كان مخيّرا بين ما فعل وبين فعل ما ثبت أنه ندب،
لأن التخيير لا يقع بين الندب وبين ما ليس بندب.
وثالثها: أن يقع قضاء لعبادة كانت مندوبة.
ورابعها: أن يداوم على الفعل ثم يخل به من غير نسخ، فيكون إدامته صلى
اللَّه عليه وسلّم دليلا على كونه طاعة، وإخلاله به من غير نسخ دليل على
عدم الوجوب.
وأما الوجوب، فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع خمسة أخرى:
أحدها: الدلالة على أنه كان مخيرا بينه وبين فعل آخر قد ثبت وجوبه، لأن
التخيير لا يقع بين الواجب وما ليس بواجب.
وثانيها: أن يكون قضاء لعبادة ثبت وجوبها.
وثالثها: أن يكون على وقوعه أمارة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة الوجوب
كالصلاة بأذان وإقامة.
ورابعها: أن يكون جزاء الشرط موجب كفعل ما وجب نذره.
وخامسها: أن يكون لو لم يكن واجبا لم يجز كالجمع بين الركوعين في الكسوف.
قال: الفعل إذا عارضه معارض، فمعارض فعله صلى اللَّه عليه وسلّم إما أن
[يكون] [ (1) ] قولا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(3/160)
أو فعلا، أما القول: فإما أن يعلم أن
المقدم هو القول أو الفعل، ولا يعلم واحد منهما.
أما القسم الأول: وهو أن يكون المتقدم هو القول والفعل المعارض إما أن يحصل
عقيبه أو متراخيا عنه، فإن كان متعاقبا له فإما أن يكون القول متناولا له
خاصة، أو لأمّته خاصة، أو له ولهم معا، لا يجوز أن يتناوله خاصة إلا على
قول من يجوّز نسخ الشيء قبل حضور وقته، فإن تناول أمته خاصة وجب المصير إلى
القول دون الفعل، وإلا لكان القول لغوا ولا يلغو الفعل لأن حكمه ثابت في
الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم، وإن كان الخطاب يعمه وإياهم، ذلك فعله على
أنه مخصوص من القول، وأمته داخلة فيه لا محالة وإن كان الفعل متراخيا عن
القول، فإن كان القول عاما لنا وله صار مقتضاه منسوخا عنا وعنه، وإن تناول
ما دونه كان ناسخا عنا دونه، لأن القول لم يتناوله، وإن تناوله دوننا كان
منسوخا عنه دوننا، ثم يلزمنا مثل فعله لوجوب التأسي به.
القسم الثاني: أن يكون هو الفعل، فالقول المعارض له إما أن يحصل عقيبه أو
متراخيا عنه، فإن كان متعقبا: فإما أن يكون الفعل متناولا له خاصة، أو
لأمنه خاصة، أو عاما فيه وفيهم، فإن كان متناولا له خاصة وقد كان الفعل
المتقدم على لزوم مثله لكل مكلف في المستقبل فيصير ذلك القول المخصص به
مخصصا له عن ذلك العموم، وإن كان متناولا لأمته خاصة، دل على أن حكم الفعل
مختص به دون أمته، وإن كان عاما فيه وفيهم دلّ سقوط حكم الفعل عنه [و] [
(1) ] عنهم، وأما إن كان القول متراخيا عن الفعل، فإن كان القول متناولا له
ولأمته فيكون القول ناسخا لحكم الفعل عنه وعن أمته، أو يتناول أمته دونه
فيكون منسوخا عنهم دونه أو يتناوله دون أمته، فيكون منسوخا عنه دون أمته.
القسم الثالث: إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فهاهنا يقدم القول على
الفعل ويدل عليه وجهان.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(3/161)
أحدهما: أن القول أقوى من الفعل، والأقوى
راجح، إنما قلنا أنه موافى لأن دلالة القول تستغني على الفعل، ودلالة الفعل
لا تستغني عن القول، والمستغني أقوى من المحتاج.
والثاني: أنا نقطع بأن القول قد يتناولها، وأما الفعل فبتقدير أن [يتراخى]
[ (1) ] كان متناولا لنا معلوم، وبتقدير أن يتناولنا [أو] [ (2) ] لا
يتناولنا، وكون [الفعل] [ (2) ] متناولا لنا معلوم، وكون الفعل متناولا لنا
مشكول، والمعلوم مقدم لنا [على] [ (2) ] المشكول.
فرع: نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن استقبال القبلة واستدبارها
في قضاء الحاجة، ثم جلس في البيت لقضاء الحاجة مستقبل بيت المقدس، فعند
الشافعيّ- رحمه اللَّه- أن نهيه مخصوص بفعله حتى يجوز استقبال القبلة
واستدبارها في البيوت لكل أحد، وعند الكرخي: يجب إجراء النهي على إطلاقه في
الصحراء والبنيان، وكان ذلك من خواص النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وتوقف
القاضي عبد الجبار في المسألة.
وحجة الشافعيّ: أن النهي عام ومجموع الدليل الّذي يوجب علينا أن نفعل مثل
فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم مع كونه مستقبل القبلة في البنيان عند
قضاء الحاجة أخص من ذلك النهي، والخاص مقدم على العام، فوجب القول
بالتخصيص، أما إذا كان الفعل للفعل فعلا آخر، فذاك على وجهين.
الأول: أن يفعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم فعلا فيعلم بالدليل أن غيره
مكلف به ثم نراه بعد ذلك قد أقر الناس على فعل ضده، فنعلم أنه خارج منه.
الثاني: إذا علمنا أن ذلك الفعل مما يلزم أمثاله للرسول صلى اللَّه عليه
وسلّم في مثل تلك الأوقات ما لم يرد ناسخ، ثم يفعل صلى اللَّه عليه وسلّم
ضده في مثل ذل الوقت، فنعلم أنه قد نسخ عنه.
تنبيه: التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحقا ما دلّ على أن ذلك الفعل لازم
لغيره، فإنه لازم له في مستقبل الأوقات، وإنما يقال: أن ذلك الفعل قد لحقه
__________
[ (1) ] في (خ) «يتراخا» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
(3/162)
النسخ، يعني أنه قد زال التعبد بمثله، فإن
التخصيص قد لحقه على معنى أن المكلفين لا يلزمهم مثله واللَّه أعلم. وأنه
قال في جواب [من سأل] [ (1) ] أم سلمة رضي اللَّه عنها عن قبلة الصائم: ألا
أخبرتيه أني أقبّل وأنا صائم، وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه، وأعظم مراتب فعل
الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم أن يكون واجبا عليه وعلى أمته، فوجب حمله
عليه ببيان الأول أن الاحتياط يتضمن دفع ضرر الخوف عن النفس بالكلية، ودفع
الضرر واجب ببيان الثاني، أن أعظم مراتب الفعل أن يكون واجبا على الكل.
الثاني: أنه لا نزاع في وجوب تعظيم الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم في
الجملة، وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيم له بدليل العرف، والتعظيمان
مشتركان في هذا القدر من المناسبة، فيجمع بينهما بالقدر المشترك فيكون ورود
الشرع بإيجاب ذلك التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة الإتيان بمثل
فعله، والجواب عن الأول: أنا لا نسلّم أن الأمر حقيقة في الفعل، فليس حمله
على ذلك بأولى من حمله على هذا سلمناه، لكن هاهنا ما يمنع حمله على الفعل
من وجهين: الأول أن تقدم ذكر الدعاء وذكر المخالفة، وذكر الدعاء يمنع منه،
فإن الإنسان إذا قال لعبده: لا تجعل دعائي كدعاء غيري واحذر مخالفة أمري،
فهم منه أنه أراد بالأمر القول الثاني، وهو أنه قد أريد به القول بالإجماع،
ولا يجوز حمله على الفعل، إلا أن اللفظ المشترك لا يجوز حمله على معنييه
سلمنا ذلك، ولكنها راجعة إلى اللَّه تعالى لأنه أقرب المذكورين، فإن قلت:
القصد هو الحث على اتباع الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم لأنه تعالى قال: لا
تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [
(2) ] ، فحث بذلك على الرجوع إلى أقواله وأفعاله، ثم عقب ذلك بقوله:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [ (2) ] ، فعلمنا أنه حث
بذلك على التزام ما كان دعاء اللَّه من الرجوع إلى أمر النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم، وأيضا فلم لا يجوز الحكم بصرف الكناية إلى اللَّه والرسول؟
قلت: الجواب عن الأول صرف الضمير إلى اللَّه تعالى مؤكد لهذا الغرض أيضا،
ولأنه لما حثّ على الرجوع إلى أقوال الرسول وأفعاله
__________
[ (1) ] ما بين القوسين مثبت في هامش (خ) .
[ (2) ] النور: 63
(3/163)
ثم حذر عن مخالفة أمر اللَّه تعالى كان ذلك
تأكيدا لما هو المقصود من متابعة الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم.
وعن الثاني: أن الهاء كناية عن واحد، فلا يجوز عوده إلى اللَّه تعالى وإلى
الرسول معا، سلمنا عود الضمير إلى الرسول فلم قلت أن الإتيان بمثل فعله
مخالفة لأمره. فإن قلت يدل عليه أمران:
الأول: أن المخالفة ضد الموافقة، لكن موافقة الغير هو أن يفعل مثل فعله،
فمخالفته هو أن لا يفعل مثل فعله.
الثاني: وهو أن المعقول من المختلفين هما اللذان لا يقوم أحدهما مقام
الآخر، والعدم والوجود لا يقوم أحدهما مقام الآخر بوجه أصلا، فكانا في غاية
المخالفة، فثبت أن عدم الإتيان بمثل فعله مخالف للإتيان بمثل فعله من كل
الوجوه.
قلت: هب أنها في أصل الوضع كذلك، لكنها في عرف الشرع ليست كذلك، ولهذا لا
يسمى إخلال الحائض بالصلاة مخالفة للمسلمين، بل هي عبارة عن عدم الإتيان
بمثل فعله إذا كان الإتيان به واجبا، وعلى هذا لا يسمى ترك مثل فعل النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم مخالفة إلا إذا فعله على الوجوب، وإذا بينا ذلك بهذا
لزم الدور وهو محال.
والجواب عن الثاني: لم قلتم أن الإتيان بمثل فعل الغير مطلقا يكون تأسيا
به، بل عندنا كما يشترط في التأسي المساواة في الصورة يشترط فيه المساواة
في الكيفية، حتى لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسيين به، وعلى هذا
لا يكون مطلق فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم سببا للوجوب في حقنا لأن
فعله قد لا يكون واجبا فيكون فعلنا إياه على سبيل الوجوب قادحا في التأسي
به.
فالجواب عن الثالث: أن قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ، إما أن لا يفيد العموم
أو يفيد، فإن كان الأول سقط التمسك به، وإن كان الثاني فبتقدير أن لا يكون
ذلك الفعل واجبا عليه وعلينا، وجب أن نعتقد فيه أيضا هذا الاعتقاد، فالحكم
بالوجوب يناقضه، فوجب أن لا يتحقق، وهذا هو الجواب عن التمسك بقوله تعالى:
(3/164)
فَاتَّبِعُونِي [ (1) ] .
والجواب عن الخامس: لا نسلّم أن قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ [ (2) ] يتناول الفعل، ويدل عليه وجهان.
الأول: أن قوله تعالى: وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ (2) ] على أنه
عني بقوله:
ما آتاكُمُ ما أمركم.
الثاني: أن الإتيان إنما يتأتى بالقول لأنا نحفظه، وامتثاله يصير كأننا
أخذناه، فكأنه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطاناه.
والجواب عن السادس: أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور به أو بالمراد على
اختلاف المذهبين، فلم قلت: أن مجرد فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم يدل
على أنّا أمرنا بمثله أو أريد منا مثله؟ والجواب عن الإجماع من وجوه.
الأول: أن هذه آحاد ولا تفيد العلم، ولهم أن يقولوا: هب أنها تفيد الظن،
لكن ما حصل ظن كونه دليلا ترتب عليه ظن ثبوت الحكم، فيكون العمل به دافعا
للضرر المظنون فيكون واجبا، إلا أن أكثر هذه الأخبار واردة في الصلاة
والحج، فلعله صلى اللَّه عليه وسلّم كان قد بين لهم أن شرعه وشرعهم سواء في
هذه الأمور،
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ،
وعليه خرج مسألة التقاء الختانين [ (3) ] ،
وقال: «خذوا عني مناسككم» ،
وعليه يقبل عمر رضي اللَّه عنه الحجر،
وقال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» .
وأما عن الوصال [ (4) ] : فإنّهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه
قصد بفعله بيان الواجب، فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم الموافقة.
وأما خلع النعل: فلا نعلم أنهم فعلوا ذلك واجبا، وأيضا لا يمتنع أن يكونوا
__________
[ (1) ] آل عمران: 31.
[ (2) ] الحشر: 7.
[ (3) ] بوجوب الغسل من الإكسال، والإكسال: هو الجماع بدون إنزال.
[ (4) ] الوصال لغة: يكون في عفاف الحب ودعارته (ترتيب القاموس) ج 4 ص 620،
وشرعا: تتابع الصوم من غير إفطار بالليل. قال (الخطابي) في (معالم السنن) :
الوصال من خصائص ما أبيح لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهو محظور
على أمته. راجع (عون المعبود شرح سنن أبي داود) ج 6 ص 487.
(3/165)
لما رأوه قد خلع نعله مع قوله تعالى:
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [ (1) ] ظنوا أن خلعها مأمور به
غيرهم، لأنه لو كان مباحا ما ترك له المستنون في الصلاة على
أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قال لهم: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: لأنك خلعت
نعلك، فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما أذى،
فبين بهذا أنه ينبغي أن يعرفوا الّذي وقع عليه فعله صلى اللَّه عليه وسلّم
ثم يتبعوه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
***
__________
[ (1) ] الأعراف: 31.
(3/166)
وأما اقتران اسم النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم باسم اللَّه تعالى
فإنه سبحانه قرن اسمه تعالى باسمه صلى اللَّه عليه وسلّم في كتابه العزيز
عند ذكر طاعته ومعصيته، وفرائضه وأحكامه، ووعده ووعيده، قال اللَّه تعالى:
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ (1) ] ، وقال: وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [ (2) ] ، وقال:
يُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [ (3) ] ،
وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [
(4) ] ، وقال: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [ (5) ] ، وقال:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (6) ] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (7) ] ، وقال: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ [ (8) ] ، وقال: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (9) ] ،
وقال: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ [ (10) ] ،
وقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (11)
] ، وقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [
(12) ] ، وقال: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ (13) ]
، [وقال] :
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[ (6) ] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (7) ] ،
وقال: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (8) ] ، وقال: وَأَذانٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (9) ] ، وقال: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ [ (10) ] ، وقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ
يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (11) ] ، وقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ
يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (12) ] ، وقال: وَلا يُحَرِّمُونَ ما
حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ (13) ] ، [وقال] : وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ [ (14) ] ، وقال: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [
(15) ] ، وقال: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ (16) ] ، وقال:
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [ (17)
] ، وقال:
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ (18) ] ، وقال: وَما نَقَمُوا
إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ
__________
[ (1) ] النساء: 59.
[ (2) ] المائدة: 92. وفي (خ) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[ (3) ] التوبة: 71، وفي (خ) وَرَسُولَهُ أُولئِكَ.
[ (4) ] التوبة: 62.
[ (5) ] الأنفال: 24.
[ (6) ] الأحزاب: 36.
[ (7) ] الأحزاب: 57.
[ (8) ] التوبة: 1.
[ (9) ] التوبة: 3.
[ (10) ] التوبة: 63.
[ (11) ] التوبة: 16. وفي (خ) يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
[ (12) ] المائدة 33.
[ (13) ] التوبة: 29.
[ (14) ] الأنفال: 13.
[ (15) ] الأنفال: 1.
[ (16) ] النساء: 59.
[ (17) ] التوبة: 59.
[ (18) ] الأنفال: 41.
(3/167)
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [ (1) ] ، وقال:
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (2) ] ، وقال: أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [ (3) ] ، فقرن تعالى اسمه الكريم
باسم رسوله محمد في جميع الأحكام والأصول، تعظيما لقدره وتشريفا له على
غيره صلى اللَّه عليه وسلّم.
***
__________
[ (1) ] التوبة: 74.
[ (2) ] التوبة: 90.
[ (3) ] الأحزاب: 37.
(3/168)
وأما تقدم نبوته صلى اللَّه عليه وسلّم قبل
تمام خلق آدم عليه السلام
فخرج الترمذي من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحي بن
أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قالوا: يا رسول اللَّه!
متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد [ (1) ] ،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا
الوجه، هذا آخر كلام الترمذي.
وقد رواه عباد بن جويرية عن الأوزاعي مرسلا، واختلف على الوليد بن مسلم
فيه، فرواه بعضهم عنه مرسلا، ورواه بعضهم عنه فأسنده كما تقدم ذكره.
ولأبي نعيم من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل عن ميسرة، عن عبد اللَّه بن
شقيق عن ميسرة الفجر قال: متى كنت يا رسول اللَّه نبيا؟ قال: وآدم بين
الروح والجسد [ (1) ] .
وله من حديث حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن عبد
اللَّه بن شقيق عن رجل أنه سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: متى كنت نبيا؟
قال: وآدم بين الروح والجسد. كذا رواه حماد ولم يسم ميسرة، وتابعه عليه عن
خالد الحذاء وهب بن خالد [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث عمرو بن واقد، عن عروة بن رويم [ (2) ] ، عن الصنابجي
قال عمر رضي اللَّه عنه: متى جعلت نبيا؟ قال: وآدم منجدل في الطين.
وله من حديث نصر بن مزاحم، حدثنا قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي،
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها.
[ (2) ] عروة بن رويم اللخمي أبو القاسم الأردني، قال ابن أبي حاتم عن
أبيه: عامة أحاديث مرسلة.
(3/169)
عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قيل: يا
رسول اللَّه! متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد.
تفرد به نصر بن مزاحم.
وله من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية
قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إني عبد اللَّه في أم
الكتاب وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته.
وفي رواية: أنا عبد اللَّه خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته. وفي
رواية: إني عبد اللَّه مكتوب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته. وفي
رواية: إني عبد اللَّه لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته [ (1) ] .
وخرجه الحاكم من حديث عثمان بن سعيد الدارميّ قال: قلت لأبي اليمان:
حدثك أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية
السلمي قال: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إني عبد اللَّه في أول
الكتاب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسآتيكم بتأويل ذلك دعوة
أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي بي التي رأت أنه خرج منها نور
أضاءت له قصور الشام.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث سعيد عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم قال: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث [ (3) ]
.
وفي الصحيحين [ (4) ] من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة لأبي نعيم) ج- 1 ص 8- 9، وفي (خ) «بخاتم»
[ (2) ] (المستدرك للحاكم ج 2 ص 600 وله شاهد على صحته ص 609.
[ (3) ] سبق تخريجه وشرحه.
[ (4) ] ذكره البخاري في كتاب الجمعة، باب (2) هل على من لم يشهد الجمعة
غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟ وقال ابن عمر: إنما الغسل على من تجب عليه
الجمعة، حديث رقم (896) :
حدثنا مسلم ابن إبراهيم قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا ابن طاوس عن أبيه، عن
أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون
والسابقون يوم القيامة، أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا
اليوم الّذي اختلفوا فيه فهدانا اللَّه، فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى»
فسكت. (897) : ثم قال: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل
فيه رأسه وجسده» .
(3/170)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن
الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة»
الحديث. وله طرق [ (1) ] ، قال أبو نعيم: وكان صلى اللَّه عليه وسلّم آخرهم
في البعث، وبه ختمت النبوة، وهو
__________
[ () ] وأخرجه مسلم من كتاب الجمعة باب (6) هداية هذه الأمة ليوم الجمعة،
حديث رقم (19) :
وحدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن
أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون ونحن
السابقون يوم الجمعة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من
بعدهم، ثم هذا اليوم الّذي كتبه اللَّه علينا، هدانا اللَّه له، فالناس لنا
فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد.
وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة
وابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة»
بمثله.
وحديث رقم (20) : حدثنا قتيبة بن سعيد، وزهير بن حرب قالا: حدثنا جرير عن
الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد
أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا، فهدانا اللَّه
له، قال يوم الجمعة، فاليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى»
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة» ،
قال العلماء: معناه الآخرون في الزمان والوجود، السابقون بالفضل ودخول
الجنة، فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا
وأوتيناه من بعدهم» ،
هو بفتح الباء الموحدة وإسكان المثناة تحت، قال أبو عبيد: لفظه «بيد» تكون
بمعنى غير، وبمعنى على، وبمعنى من أجل، وكله صحيح هنا، ويقال: «ميد» بمعنى
«بيد» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «هذا اليوم الّذي كتبه اللَّه علينا هدانا
اللَّه له» ،
فيه دليل لوجوب الجمعة، وفيه فضيلة هذه الأمة.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «اليهود غدا» ،
أي عيد اليهود غدا، لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث فيقدر فيه
معنى يمكن تقديره خبرا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فهذا يومهم الّذي اختلفوا فيه هدانا اللَّه»
،
قال القاضي: الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين، ووكل إلى
اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه، فاختلف اجتهادهم في تعيينه، ولم يهدهم اللَّه
له، وفرضه على هذه الأمة مبينا، ولم يكله إلى اجتهادهم، ففازوا بتفضيله.
قال: وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بالجمعة، وأعلمهم بفضلها فناظروه
أن السبت أفضل، فقيل له: دعهم.
قال القاضي: ولو كان منصوصا لم يصح اختلافهم فيه، بل كان يقول: خالفوا فيه.
قال الإمام النووي: ويمكن أن يكون أمروا به صريحا، ونصّ على عينه، فاختلفوا
فيه، هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله، وأبدلوه وغلطوا في إبداله. (مسلم بشرح
النووي) : 6/ 391، كتاب الجمة، باب (6) هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، حديث
رقم (19) ، (20) ، (21) .
[ (1) ] باقي طرق الحديث في المرجع السابق، حديث رقم (22) ، (23) ، كلها
بسياقات قريبة من بعضها مع التقديم والتأخير والزيادة والنقصان لكن بمعنى
واحد، وذكره أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 49، باب ما روي في تقديم نبوته صلى
اللَّه عليه وسلّم قبل خلق آدم عليه السلام، حديث رقم (11) ، والنسائي في
الجمعة، باب إيجاب يوم الجمعة، حديث رقم (1366) .
(3/171)
__________
[ () ] قال الحافظ السيوطي: قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون» ،
أي الآخرون زمانا، الأولون منزلة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في
الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، بأنهم أول من يحشروا،
وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة.
وقيل: المراد بالسبق إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة،
وقيل المراد به السبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا:
سَمِعْنا وَعَصَيْنا، والأول أقوى. «بيد» بموحدة ثم تحتية ساكنه مثل «غير»
وزنا، ومعنى، وإعرابا، وبه جزم الخليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة.
وروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعيّ رحمه اللَّه، عن الربيع، عنه، أن معنى
«بيد» من أجل، وكذا ذكره ابن حبان والبغوي، عن المزني عن الشافعيّ، وقد
استبعده القاضي عياض، ولا بعد فيه.
والمعنى إنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة، مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم
ضلوا عنها مع تقدمهم. ويشهد لهم ما في (فوائد المقري) بلفظ: نحن الآخرون في
الدنيا، ونحن أول من يدخل الجنة، لأنهم أورثوا الكتاب من قبلنا. وقال
الراويّ: هي بمعنى «على» أو «مع» .
قال القرطبي: إن كانت بمعنى «غير» فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى «مع»
، فنصب على الظرف، وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهي من باب تأكيد المدح بما
يشبه الذم. «أنهم أوتوا الكتاب قبلنا» اللام للجنس، والمراد التوراة
والإنجيل: «وأوتيناه» المراد الكتاب، مرادا به القرآن، «وهذا اليوم الّذي
كتب اللَّه عليهم» ، أي فرض عليهم تعظيمه، «فاختلفوا فيه» ، قال ابن بطال:
ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن
يترك ما فرض اللَّه عليه وهو مؤمن، وإنما يدل واللَّه تعالى أعلم على أنه
فرض عليهم يوم الجمعة ووكل على اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في
أي الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة.
وقال النووي: يمكن أن يكونوا أمروا به صريحا فاختلفوا، هل يلزم تعيينه أم
يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك فأخطئوا. وقد روى ابن أبي حاتم عن
السدّي، في قوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ، قال: إن اللَّه فرض على اليهود يوم الجمعة فأبوا
وقالوا: يا موسى إن اللَّه لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، فجعله
عليهم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «اليهود غدا والنصارى بعد غد» ، قال القرطبي
«غدا»
منصوب على الظروف، وهو متعلق بمحذوف تقديره: اليهود يعظمون غدا وكذا بعد غد
ولا بد من هذا التقدير لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة، وقدر ابن
مالك تقييد اليهود غدا. (حاشية الحافظ السيوطي على سنن النسائي) : 3/ 95-
96، كتاب الجمعة، باب إيجاب الجمعة، حديث رقم (1366) .
وقال الإمام السندي:
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون السابقون» ،
أي الآخرون زمانا في الدنيا، الأولون منزلة وكرامة يوم القيامة، والمراد أن
هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة إياهم في
الآخرة، بأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من
يدخل الجنة.
وقيل: المراد بالسبق إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة،
وقيل: المراد بالسبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا:
سَمِعْنا وَعَصَيْنا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أوتوا الكتاب» ،
اللام للجنس، فيحمل بالنسبة إليهم على كتابهم، وبالنسبة إلينا
(3/172)
السابق يوم القيامة لأنه أول مكتوب في
النبوة، ففي هذا الخبر الفضيلة العظيمة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم، لما أوجب اللَّه تعالى له النبوة قبل تمام خلق آدم الّذي هو أبو
البشر، ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم اللَّه ملائكته ما سبق في
علمه وقضائه من بعثته صلى اللَّه عليه وسلّم في آخر الزمان، فمن حاز هذه
الفضيلة حق له الصبر على مواصلة الدعوة واحتمال الأذية ممن ردها، وإعظام من
قبلها، واستفراغ الوسع في احتمال كل عارض وشدة وبلوى تعرض دون إقامتها، إذ
الفضيلة سابقة على فضائل من تقدمه من الأنبياء في العهد والخلق الأول.
وقال بعض العارفين باللَّه: لما خلق اللَّه الأرواح المدبرة للأجسام عند
حركة الفلك أول ما خلق الزمان بحركته، كان أول ما خلق روح محمد صلى اللَّه
عليه وسلّم، ثم صدرت الأرواح الفلكية عن الحركات الفلكية، فكان لها وجود في
عالم الغيب دون عالم الشهادة، وأعلمه اللَّه بنبوته، وآدم لم يكن إلا كما
قال بين الماء والطين، فاقتضى
قوله: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين»
أن يكون وجوده حقيقة، فإنه لا يكون العدم بين أمرين موجودين لانحصاره،
والمعدوم لا يوصف بالحصر في شيء، ثم انتهى الزمان في حقه عليه السلام إلى
وجود جسمه وارتباط الروح به، فظهر محمد صلى اللَّه عليه وسلّم بكليته جسما
وروحا، فكان له الحكم أولا باطنا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي
الأنبياء والرسل عليهم السلام، ثم صار له الحكم ظاهرا فنسخ كل شرع وإن كان
المشرع واحدا، وهو صاحب الشرع، فإنه قال: «كنت نبيا» ..،
__________
[ () ] على كتابنا، وهذا بيان زيادة شرف لنا، أي فصار كتابنا ناسخا
لكتابهم، وشريعتنا ناسخة لشريعتهم، وللناسخ فضل على المنسوخ، فهو من باب
تأكيد المدح بما يشبه الذم.
أو المراد بيان أن هذا يرجع إلى مجرد تقدمهم علينا في الوجود، وتأخرنا عنه
فيه، ولا شرف لهم فيه، أو هو شرف لنا أيضا من حيث قلة انتظارنا أمواتا في
البرزخ، ومن حيث حيازة المتأخر علوم المتقدم دون العكس، فقولهم الفضل
للتقدم ليس بكلي. قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وهذا اليوم» ، الظاهر أنه
أوجب عليهم يوما بعينه والعبادة فيه، فاختاروا لأنفسهم أن يبدل اللَّه لهم
يوم السبت، فأجيبوا إلى ذلك، وليس بمستبعد من قوم قالوا لنبيهم: اجْعَلْ
لَنا إِلهاً.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فهدانا اللَّه» ،
بالثبات عليه حين شرع لنا العبادة فيه،
«اليهود غدا»
أي يعبدون اللَّه في يوم الجمعة. فأخذ المصنف قوله: «كتب اللَّه» ، الوجوب،
والظاهر أن الحكم بالنظر إلى واحد، فحيث إن ذلك الحكم هو الوجوب بالنسبة
إلى قوم تعين أنه الوجوب بالنظر إلى الآخرين، واللَّه تعالى أعلم (المرجع
السابق) .
(3/173)
ما قال: كنت إنسانا، ولا كنت موجودا، وليست
النبوة إلا بالشرع المقرر من عند اللَّه، فأخبر أنه صاحب النبوة قبل وجود
الأنبياء في الدنيا كما تقرر فيما تقدم، فكانت استدارته إليها دورته بالاسم
الباطن، وابتداء دورة أخرى بالاسم الظاهر،
فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه
السموات والأرض» [ (1) ] ،
__________
[ (1) ]
ذكره البخاري في مواضع متفرقة من صحيحه يتمم بعضها بعضا، لكن أخرجه مسلم
بتمامه في كتاب القسامة باب (9) تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال،
حديث رقم (29) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ويحى بن حبيب الحارثي «وتقاربا
في اللفظ» قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن
أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «إن
الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض، السنة اثنا عشر
شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم،
ورجب شهر مضر، الّذي بين جمادى وشعبان، ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا:
اللَّه ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس
ذا الحجة، قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال:
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:
أليس البلدة؟ قلنا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال:
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى يا
رسول اللَّه، قال فإن دماءكم وأموالكم قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم حرام
عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا
ترجعن بعدي كفارا- أو ضلالا- يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد
الغائب، فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه، ثم قال: ألا هل
بلغت» ؟ قال ابن حبيب في روايته: «ورجب مضر» وفي رواية أبي بكر: «فلا
ترجعوا بعدي» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه
السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو
القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر، الّذي بين جمادى وشعبان» ،
أما ذو القعدة، فبفتح القاف، وذو الحجة بكسر الحاء، هذه اللغة المشهورة،
ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء، وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر
الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب
في كيفية عدّها، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأهل الأدب، يقال: المحرم ورجب
وذو القعدة وذو الحجة، ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة
والبصرة، وجماهير العلماء، هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة
سرد، وواحد فرد، وهذا هو الصحيح الّذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، منها هذا
الحديث الّذي نحن فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ورجب شهر مضر الّذي بين جمادى وشعبان» ،
وإنما قيّده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة للبس عنه، قالوا: وقد
كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبا هذا الشهر
المعروف الآن، وهو الّذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا
أضافه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى مضر.
وقيل: لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وقيل: إن العرب كانت تسمي رجبا
وشعبان
(3/174)
__________
[ () ] الرجبين، وقيل كانت تسمى جمادى ورجبا جمادين، وتسمى شعبان رجبا.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه
السموات والأرض» ،
فقال العلماء:
معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم في
تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات،
فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الّذي بعده، وهو
صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد
سنة، حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرّموا ذا الحجة لموافقة
الحساب الّذي ذكرناه، فأخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن الاستدارة قد
صادفت ما حكم اللَّه تعالى به يوم خلق السموات والأرض.
وقال أبو عبيد: كانوا ينسئون أي يؤخرون، وهو الّذي قال اللَّه تعالى فيه:
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، فربما احتاجوا إلى الحرب في
المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفر في سنة أخرى، فصادف تلك
السنة رجوع المحرم إلى موضعه.
قوله: «ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه
سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا:
اللَّه ورسوله أعلم.. إلى آخره» ،
هذا السؤال، والسكوت، والتفسير، أراد به التفخيم، والتقرير، والتنبيه على
عظم مرتبه هذا الشهر، والبلد، واليوم، وقولهم: «اللَّه ورسوله أعلم» ، هذا
من حسن أدبهم، وأنهم علموا أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لا يخفى عليه ما
يعرفونه من الجواب، فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم،
كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» .
المراد بهذا كله بيان توكيد غليظ تحريم الأموال والدماء، والأعراض،
والتحذير من ذلك.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض»
،
قيل في معناه سبعة أقوال:
[1] أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق.
[2] المراد كفر النعمة، وحق الإسلام.
[3] أنه يقرب من الكفر، ويؤدي إليه.
[4] أنه فعل كفعل الكفار.
[5] المراد حقيقة الكفر، ومعناه: لا تكفروا، ودوموا مسلمين.
[6] حكاه الخطابي وغيره، أن المراد بالكفار: المتكفرون بالسلاح، يقال:
تكفّر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الأزهري في كتاب (تهذيب اللغة) : يقال
للابس السلاح كافر.
[7] قال القاضي عياض رحمه اللَّه: ثم إن الرواية «يضرب» برفع الباء، هكذا
هو الصواب، وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا.
ونقل القاضي عياض رحمه اللَّه، أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء. قال
القاضي: وهو إحالة للمعنى، والصواب الضم، قال الإمام النووي: وكذا قال أبو
البقاء العكبريّ: إنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر، أي إن ترجعوا
يضرب، واللَّه تعالى أعلم.
(3/175)
يعني في نسبة الحكم لنا ظاهرا كما كان في
الدورة الأولى منسوبا إلينا باطنا، وإن كان في الظاهر منسوبا لمن نسب إليه
من الأنبياء، ولما كانت العرب تنسئ [ (1) ] في الشهور فترى المحرّم منها
حلالا والحلال منها محرّما، جاء محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
برد الزمان إلى أصله الّذي حكم إليه به عند خالقه، فبين الحرم من الشهور
على حد ما خلقها اللَّه
__________
[ () ] وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفارا» ،
فقال القاضي: قال الصبري: معناه بعد فراقي من موقفي هذا، وكان هذا يوم
النحر بمنى في حجة الوداع، أو يكون بعدي أي خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم
بغير الّذي أمرتكم به، أو يكون تحقق صلى اللَّه عليه وسلّم أن هذا لا يكون
في حياته، فنهاهم عنه بعد مماته.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ،
فيه وجوب تبليغ العلم، وهو فرض كفاية، فيجب تبليغه بحيث ينتشر.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من
سمعه» ،
احتج به العلماء لجواز رواية الفضلاء وغيرهم من الشيوخ الذين لا علم لهم
عندهم ولا فقه، إذا ضبط ما يحدث به. (مسلم بشرح النووي) : 2/ 415- 416،
كتاب الإيمان، باب (29) بيان معنى
قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب
بعض» ،
حديث رقم (118) ، (المرجع السابق) : 11/ 180، كتاب القسامة، باب (9) .
تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (29) .
[ (1) ] النسيء: يقال نسأه وأنسأه، إذا أخّره، حكاه الكسائي. قال تعالى:
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ
ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ
أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
قال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشيء فهو منسوء
إذا أخّرته، ثم حوّل إلى نسيء، كما حوّل مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ، وقوم
نسأة، مثل فاسق وفسقة.
وقيل: النسيء مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكير من أنكر، وهو ظاهر
قول الزمخشريّ لأنه قال: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر.
وقال الطبريّ: النسيء بالهمز معناه الزيادة. قال أبو حيان: فإذا قلت: أنسأ
اللَّه أجله بمعنى أخّر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفا
للزيادة، بل قد يكون منفردا عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسيء مصدرا
كان الإخبار عنه بمصدر واضحا، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في
النسيء أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة، أي: ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار
يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، لأنه يكون
المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
وأخبر أن النسيء زيادة في الكفر، أي جاءت مع كفرهم باللَّه، لأن الكافر إذا
أحدث معصية ازداد كفرا. قال تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ
[التوبة: 125] ، كما أن المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيمانا. قال تعالى:
فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] ، وأعاد
الضمير في به على النسيء، لا على لفظ زيادة.
(3/176)
عليه، فلهذا
قال: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض» ،
كذلك استدار الزمان فأظهر محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم جسما وروحا، فنسخ [
(1) ] من شرعه المتقدم ما أراد أن ينسخ منه. وأبقى ما أراد اللَّه أن يبقى
عليه، وذلك النّسخ في الأحكام لا في الأصول، ولما كان ظهوره صلى اللَّه
عليه وسلّم [بالميزان] [ (2) ] وهو العدل في الكون وهو معتدل حار رطب كان
زمان ملته متصلا بالآخرة، وكان العلم في أمته أكثر مما كان.
في الأوائل، وأعطي صلى اللَّه عليه وسلّم علم الأولين وعلم الآخرين، فكان
الكشف في هذه الأمة
__________
[ () ] وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: يُضِلُّ مبنيا للمفعول، وهو مناسب
لقوله: زُيِّنَ، وباقي السبعة مبنيا للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن
ومجاهد، وقتادة، وعمرو بن ميمون، ويعقوب: يُضِلُّ أي اللَّه، أي يضل به
الذين كفروا أتباعهم.
ورويت هذه القراءة عن الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء. وقرأ أبو
رجاء:
يُضِلُّ بفتحتين، من ضللت بكسر اللام، أضلّ بفتح الضاد منقولا، فتحها من
فتحة اللام، إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن: نضل بالنون
المضمومة وكسر الضاد، أي فضل نحن.
ومعنى تحريمهم عاما وتحليله عاما: لا يراد أن ذلك كان مداولة في الشهر
بعينه، عام حلال وعام حرام، وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا
شقّ عليهم توالي الأشهر الحرم، أحل لهم المحرم، وحرم صفرا بدلا من المحرم،
ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل، حرّم
المحرم على حقيقته، وأحلّ صفر، ومشت الشهور مستقيمة، وإن هذه كانت حال
القوم.
وقال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة،
وكانوا ثلاثة.
وعن ابن عباس: إن أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ، وهو أول من سيب السوائب
وغيّر دين إبراهيم عليه السلام. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني
كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة.
والموطأة: الموافقة، أي ليوافقوا العدة التي حرّم اللَّه، وهي الأربعة ولا
يخالفونها، وقد خالفوا التخصيص الّذي هو أصل الواجبين. والواجبان هما العدد
الّذي هو أربعة، في أشخاص أشهر معلومة، وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة
والمحرم. يقال: تواطئوا على كذا، إذا اجتمعوا عليه، كأن كل واحد منهم يطأ
حيث يطأ صاحبه. ومن الإيطاء في الشعر، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على
لفظ واحد ومعنى واحد.
قال ابن عطية: ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد، فأزالوا الفضيلة
التي خصّ بها الأشهر الحرم وحدها، بمثابة أن يفطر رمضان، ويصوم شهرا من
السنة بغير مرض أو سفر. باختصار من (البحر المحيط) : 5/ 416- 418.
[ (1) ] النسخ إبطال الشيء وإقامة آخر مكانه، وفي التنزيل: ما نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، والآية
الثانية ناسخة والأولى منسوخة، والشيء ينسخ الشيء أي يزيله ويكون مكانه.
(لسان العرب) : 3/ 61.
[ (2) ] في (خ) «بالميراث» ، وما أثبتناه أجود للسياق.
(3/177)
أكثر مما كان في غيرها، لغلبة البرد واليبس
على سائر الأمم قبلنا، وإن كانوا أذكياء وعلماء فآحاد مهم معينون بخلاف
الأمة المحمدية، ألا ترى كيف ترجمت هذه الأمة جميع علوم الأمم، ولو لم يكن
المترجم عالما بالمعنى الّذي دل عليه لفظ المتكلم به لما صح أن يكون
مترجما، ولا كان ينطبق على ذلك اسم الترجمة، فقد علمت هذه الأمة علم من
تقدم، واختصت بعلوم لم تكن للمتقدمين، ولهذا
أشار صلى اللَّه عليه وسلّم بقوله: «فعلمت علم الأولين» ، وهم الذين
تقدموه، ثم قال: «وعلم الآخرين» ،
وهو علم ما لم يكن عند المتقدمين، وهو ما تعلمته أمته من بعده إلى يوم
القيامة، فقد أخبر عليه السلام أن عندنا علوما لم تكن قبل، فقد ثبت له صلى
اللَّه عليه وسلّم السيادة في الدنيا في العلم، وثبت له أيضا السيادة في
الحكم حيث
قال: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» ،
وتبين ذلك عند نزول عيسى عليه السلام، وحكمه فينا بالقرآن، فصحّت لنبينا
محمد صلى اللَّه عليه وسلّم السيادة في الدنيا بكل وجه ومعنى.
ثم أثبت له السيادة على سائر الناس يوم القيامة بفتحه باب الشفاعة، ولا
يكون ذلك [لنبي في [ (1) ] يوم القيامة] إلا له صلى اللَّه عليه وسلّم، فقد
شفع صلى اللَّه عليه وسلّم في الرسل والأنبياء أن تشفع، نعم، وفي الملائكة،
فأذن اللَّه تعالى عند شفاعته عليه السلام في ذلك لجميع من له شفاعة من ملك
ورسول ونبي ومؤمن أن يشفع، فهو صلى اللَّه عليه وسلّم أول شافع بإذن اللَّه
تعالى، وأرحم الراحمين، أخرج من النار من لم يعمل خيرا قط كما ورد في
الحديث الصحيح، فأي شرف أعظم من دائرة تدار يكون آخرها أرحم الراحمين، وآخر
الدائرة متصل بأولها، ولا شرف أعظم من شرف محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، حيث
كان ابتداء الأشياء، وبه كملت، وما أعظم شرف المؤمن حيث ثلث شفاعته بشفاعة
أرحم الراحمين، فلا دائرة أوسع من دائرة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فإن
له الإحاطة-[ولأمته بحكم التبعية فلها الاحاطة] [ (2) ]- بسائر الأمم،
ولذلك كانوا شهداء على الناس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ولا يكون ذلك لنبي إلا في يوم القيامة» ، وهو خطأ من
الناسخ.
[ (2) ] ما بين القوسين من هامش (خ) .
[ (3) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] .
(3/178)
[وأعطى] [ (1) ] اللَّه محمدا صلى اللَّه
عليه وسلّم ما لم يعط غيره، فمن ذلك القرآن لم يبدل [ولم يحرف] [ (2) ] ،
ولا نسخت شريعته بل ثبتت محفوظة، واستقرت بكل عين ملحوظة، يستشهد بها على
كل طائفة، وخصّ صلى اللَّه عليه وسلّم بعلم الأولين والآخرين، وبالتؤدة
والرّفق والرحمة وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [ (3) ] ، وما غلظ على
من غلظ إلا بالأمر الإلهي حين قيل له جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [ (4) ] ، فصحت له السيادة على العالم بما تقرر، فإنه
لم يحصل لغيره.
قال تعالى: يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ [ (5) ] ، وقال:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (6) ] ،
فلذلك ثبت القرآن ولم يحرف، وكذا علمه الإحاطي لم يكن لغيره ممن تقدمه.
ومما خص به: السيف الّذي بعث به، وقتال الملائكة معه، فإن ذلك لم يكن
لغيره، وهو من رتبة الكمال، وبعث من قوم ليس لهم همّ إلا في قرى الضيفان
ونحر الجزور، والقتال الدائم الّذي لم يكن في غيرهم من الناس، وبهذا ولهذا
كانوا يتمدحون كما هو معروف في أشعارهم، ولا خفاء عند كل أحد بفضل العرب
على العجم بالكرم والشجاعة، وإن كان في العجم كرماء وشجعان كما في العرب
بخلاء وجبناء لكن آحاد، والكلام يقع في الغالب لا في النادر، فهذا أمر لا
ينكره أحد.
ومما اختص به صلى اللَّه عليه وسلّم أنه حببت إليه النساء [ (7) ] ، فإن
حبهن بكون اللَّه تعالى حببهن إليه، فكان يحبهن. ومن سنته النكاح لا
التبتل، وجعل النكاح عبادة، وحبب إليه أيضا الطيب [ (7) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «وأعطا» .
[ (2) ] في (خ) «ولا حرف» .
[ (3) ] الأحزاب: 43.
[ (4) ] التوبة: 73، التحريم: 9.
[ (5) ] البقرة: 75.
[ (6) ] الحجر: 9.
[ (7) ]
أخرجه النّسائيّ في كتاب عشرة النساء، باب (1) ، حب النساء، حديث رقم
(3949) : حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن النّسائيّ قال: أخبرنا الحسين
بن عيسى القومسيّ قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا سلّام أبو المنذر عن
ثابت، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «حبّب إليّ من
الدنيا النساء والطّيب، وجعل قرة عيني في الصلاة» .
وحديث رقم (3950) : أخبرنا عليّ بن مسلم الطوسيّ قال: حدثنا سيّار قال:
حدثنا جعفر قال: حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: «حبّب إليّ النّساء والطيب، وجعلت قرّة عيني في الصلاة» .
قال الحافظ السيوطي: قال بعضهم: في هذا قولان: أحدهما: أنه زيادة في
الابتلاء والتكليف،
(3/179)
__________
[ () ] حتى يلهو بما حبب إليه من النساء، عما كلف من أداء الرسالة، فيكون
ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره.
والثاني: لتكون خلواته مع ما يشاهدها من نسائه، فيزول عنه ما يرميه به
المشركون من أنه ساحر أو شاعر، فيكون تحببهن إليه على وجه اللطف به، وعلى
القول الأول على وجه الابتلاء، وعلى القولين فهو له فضيلة.
وقال التستري في (شرح الأربعين) : «من» في هذا الحديث بمعنى «في» ، لأن هذه
من الدين لا من الدنيا، وإن كانت فيها. والإضافة في رواية «دنياكم» للإيذان
بأن لا علاقة له بها.
وفي هذا الحديث: إشارة إلى وفائه صلى اللَّه عليه وسلّم بأصلي الدين، وهما
التعظيم لأمر اللَّه، والشّفقة على خلق اللَّه، وهما كمال لقوّتيه، النظرية
والعملية، فإن كمال الأولى بمعرفة اللَّه، والتعظيم دليل عليها، لأنه لا
يتحقق بدونها، والصلاة لكونها مناجاة اللَّه تعالى على ما قال صلى اللَّه
عليه وسلّم: «المصلي يناجي ربه» ، نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها
ووظائفها.
وكمال الثانية في الشفقة وحسن المعاملة مع الخلق، وأولى الخلق بالشفقة
بالنسبة إلى كل واحد من الناس، نفسه وبدنه، كما
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: «أبدأ بنفسك ثم بمن تعول» ،
والطيب أخص الذات بالنفس، ومباشرة النساء ألذّ الأشياء بالنسبة إلى البدن،
مع ما يتضمن من حفظ الصحة، وبقاء النسل المستمر لنظام الوجود، ثم إن معاملة
النساء، أصعب من معاملة الرجال، لأنهن أرق دينا، وأضعف عقلا، وأضيق خلقا،
كما
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للبّ الرجل
الحازم منكن» .
فهو عليه الصلاة والسلام أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله تعالى: تَبْتَغِي
مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، وكان صدور ذلك طبعا لا تكلفا، كما يفعل الرجل ما يحبه
من الأفعال، فإذا كانت معاملته معهن هذا، فما ظنك بمعاملته مع الرجال،
الذين هم أكمل عقلا، وأمثل دينا، وأحسن خلقا؟.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ،
إشارة إلى أن كمال القوة النظرية أهم عنده وأشرف في نفس الأمر، وأما تأخيره
فللتدرج التعليمي من الأدنى إلى الأعلى، وقدم الطيب على النساء، لتقدم حظ
النفس على حظ البدن في الشرف.
وقال الحكيم الترمذي في (نوادر الأصول) : الأنبياء زيدوا في النكاح لفضل
نبوتهم، وذلك أن النور إذا امتلأ منه الصدر، ففاض في العروق، التذت النفس
والعروق، فأثار الشهوة وقوّاها.
وروى عن سعيد بن المسيب أن النبيين عليهم الصلاة والسلام، يفضّلون بالجماع
على الناس، وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «أعطيت قوة
أربعين رجلا في البطش والنكاح، وأعطى المؤمن قوة عشرة» ،
فهو بالنّبوّة، والمؤمن بإيمانه، والكافر له شهوة الطبيعة فقط.
قال: وأما الطيب فإنه يزكي الفؤاد ...
وروى أحمد والترمذي من حديث أبي أيوب قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: «أربع من سنن المرسلين: التعطّر، والحياء، والنكاح، والسواك» .
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: السّرّ في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، أن اللَّه تعالى أراد نقل بواطن الشريعة
وظواهرها، وما يستحيا من ذكره، وما لا يستحيا منه، وكان رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم أشدّ الناس حياء، فجعل اللَّه تعالى له نسوة، ينقلن من
الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله، التي قد يستحي من الإفصاح
بها بحضرة الرجال، ليكتمل نقل الشريعة، وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون
لهذا
(3/180)
واختص أيضا بإعجاز القرآن، وأعطي جوامع
الكلم، ولم يعط ذلك نبي قبله، واعطي كما قال: ستا لم يعطهن أحد من الأنبياء
قبله: بعث إلى الناس كافة فعمت رسالته، ونصر بالرعب، وأحلت له ولأمته
الغنائم، وجعلت له ولأمته الأرض مسجدا وتربتها طهورا، ومما خصّ به أن أعطاه
اللَّه مفاتيح خزائن الأرض، وخصّه بصورة الكمال فكملت به الشرائع وكان خاتم
الأنبياء، ولم يكن ذلك
__________
[ () ] النوع، ومنهن عرف مسائل الغسل، والحيض، والعدة، ونحوها.
قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحب الوطء للذة البشرية،
معاذ اللَّه، وإنما حبّب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحي هو من الإمعان في
التلفظ به، فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب.
وأيضا فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه، وحال خلوته، من
الآيات البينات على نبوته، ومن جدّه، واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد
كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي، وما كان يشاهدها غيرهن، فحصل بذلك خير
عظيم.
وقال الموفق عبد اللطيف البغدادي: لما كانت الصلاة جامعة لفضائل الدنيا
والآخرة، خصّها بزيادة صفة، وقدّم الطيب لإصلاحه النفس، وثنّي بالنساء
لإماطة أذى النفس بهن، وثلّث بالصلاة لأنها تحصل حينئذ صافية عن الشوائب،
خالصة من الشواغل. (سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي) : 7/ 72-
73.
وقال الإمام السندي: قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حبّب إليّ من الدنيا
النساء» ،
قيل: إنما حبب إليه النساء لينقلن عنه ما لا يطلع عليه الرجال من أحواله،
ويستحيا من ذكره.
وقيل: حبب إليه زيادة في الابتلاء في حقه، حتى لا يلهو بما حبب إليه من
النساء عما كلف به من أداء الرسالة، فيكون أكثر لمشاقه، وأعظم لأجره، وقيل
غير ذلك.
وأما الطيب، فكأنه يحبه لكونه يناجي الملائكة، وهم يحبون الطيب، وأيضا هذه
المحبة تنشأ من اعتدال المزاج، وكمال الخلقة، وهو صلى اللَّه عليه وسلّم
أشدّ اعتدالا من حيث المزاج، وأكمل خلقة.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «قرة عيني في الصلاة» ،
إشارة إلى أن تلك المحبة، غير ما نعقله عن كمال المناجاة مع الرب تبارك
وتعالى، بل هو مع تلك المحبة منقطع إليه تعالى، حتى أنه بمناجاته تقر
عيناه، وليس له قريرة العين فيما سواه.
فمحبته الحقيقية ليست إلا لخالقه تبارك وتعالى،
كما قال: صلى اللَّه عليه وسلّم: «لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر،
وإن صاحبكم لخليل الرحمن»
- أو كما قال- وفيه إشارة إلى أن محبة النساء والطيب إذا لم يكن مخلا لأداء
حقوق العبوديّة، بل للانقطاع إليه تعالى، يكون من الكمال، وإلا يكون من
النقصان، فليتأمّل.
وعلى ما ذكر، فالمراد بالصلاة، هي ذات ركوع وسجود، ويحتمل أن المراد في
صلاة اللَّه تعالى عليّ، أو في أمر اللَّه تعالى الخلق بالصلاة عليّ.
واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) : 73- 74.
(3/181)
لغيره [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
هذا الحديث أخرج البخاري في كتاب التيمم، باب (1) ، حديث رقم (335) :
أخبرنا سيار قال:
حدثنا يزيد الفقير قال: أخبرنا جابر بن عبد اللَّه أن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر،
وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل،
وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث
إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .
قوله: «حدثنا يزيد الفقير» ، هو ابن صهيب يكنى أبا عثمان، التابعي مشهور،
قيل له الفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره، ولم يكن فقيرا من المال، قال صاحب
المحكم: رجل فقير مكسور فقار الظهر، ويقال له: فقير بالتشديد أيضا.
فائدة: مدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد، وله شواهد من حديث ابن
عباس وأبي موسى وأبي ذر، من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواها كلها
أحمد بأسانيد حسان.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لم يعطهن أحد قبلي» ،
زاد في كتاب الصلاة عن محمد بن سنان: «من الأنبياء» ، وفي حديث ابن عباس:
«لا أقولهن فخرا» ، ومفهومه أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة، لكن
روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: «فضلت على الأنبياء بست» ،
فذكر أربعا من هذه الخمس، وزاد ثنتين كما سيأتي بعد.
وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على
الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله. وظاهر
الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك.
ولا يعترض بأن نوحا عليه السلام، كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان،
لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه، وقد كان مرسلا إليهم، لأن هذا العموم لم
يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الّذي وقع، وهو انحصار الخلق في
الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم فعموم
رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك.
وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة: «أنت أول رسول إلى أهل
الأرض» ،
فليس المراد به به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون
مرادا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات، على أن إرسال نوح كان
إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
واستدل بعضهم لعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض، فأهلكوا بالغرق
إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: وَما
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وقد ثبت أنه أول الرسل.
وأجيب بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم
يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن من قومه ومن غيرهم فأجيب، وهذا جواب حسن، لكن
لم ينقل أنه نبّئ في زمن نوح غيره.
ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى اللَّه عليه وسلّم في ذلك بقاء
شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه، أو بعده،
فينسخ بعض شريعته، ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد، بلغ بقية الناس،
فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسيره
(3/182)
__________
[ () ] سورة هود قال:
وغير ممكن أن تكون نبوّته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته، ووجّهه ابن
دقيق العيد بأن توحيد اللَّه تعالى يجوز أن يكون عامّا في حق بعض الأنبياء،
وإن كان التزام فروع شريعته ليس عاما، لأن منهم من قاتل غير قومه على
الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازما لهم لم يقاتلهم.
ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح، [وهذا الاحتمال
الأخير أظهر مما قبله، لقول اللَّه تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ
لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، وقوله تعالى:
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ
دَيَّاراً] فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود
غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم.
وغفل الداوديّ الشارح غفلة عظيمة فقال:
قوله: «لم يعطهن أحد»
يعني لم تجمع قبله، لأن نوحا بعث إلى كافة الناس، وأما الأربع فلم يعط أحد
واحدة منهن. وكأنه نظر في أول الحديث وغفل عن آخره، لأنه
نص صلى اللَّه عليه وسلّم على خصوصيته بهذه أيضا لقوله: «وكان النبي يبعث
إلى قومه خاصة» ، وفي رواية مسلم: «وكان كل نبي» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «نصرت بالرعب» ، زاد أبو أمامة: «يقذف في قلوب
أعدائي» ، أخرجه الإمام أحمد.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «مسيرة شهر» ،
مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في أكثر منها، أما
ما دونها فلا، لكن لفظ
رواية عمرو بن شعيب: «ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة
شهر» ،
فالظاهر اختصاصه به مطلقا، وإنما جعل الغاية شهرا، لأنه لم يكن بين بلده
وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو
كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وجعلت لي الأرض مسجدا» ،
أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن
المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في
جميعها، كانت كالمسجد في ذلك.
قال ابن التين: قيل: المراد جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وجعلت لغيري
مسجدا، ولم تجعل له طهورا، لأن عيسى عليه السلام، كان يسبح في الأرض، ويصلي
حيث أدركته الصلاة، كذا قال، وسبقه إلى ذلك الداوديّ.
وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأبيح لها
في جميع الأرض، إلا فيما يتيقنوا نجاسته، والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن
من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع، ويؤيده
رواية عمرو بن شعيب بلفظ: «وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم» ،
وهذا نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية، ويؤيده ما
أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب فيه: «ولم يكن من الأنبياء
أحد يصلي حتى يبلغ محرابه» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وطهورا» ،
استدلّ به على أن الطهور هو المطهر لغيره، لأن الطهور لو كان المراد به
الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها.
وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود، بإسناد صحيح، عن أنس مرفوعا: «جعلت لي
كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» ،
ومعنى طيبة طاهرة،
(3/183)
__________
[ () ] فلو كان معنى طهورا طاهرا للزم تحصيل الحاصل.
واستدل به على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا الوصف، قال
الحافظ في (الفتح) : «وفيه نظر» . قال محققه: «ليس للنظر المذكور وجه،
والصواب أن التيمم رافع للحدث كالماء، عملا بظاهر الحديث المذكور، وما جاء
في معناه، وهو قول جم غفير من أهل العلم. واللَّه تعالى أعلم. (أ. هـ) .
وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد في رواية أبي أمامة بقوله:
«وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فأيما رجل» ، «أيّ» مبتدأ فيه معنى الشرط، و
«ما» زائدة للتأكيد، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ولا ترابا،
ووجد شيئا من أجزاء الأرض، فإنه يتيمم به، ولا يقال:
هو خاص بالصلاة، لأنا نقول: لفظ حديث جابر مختصر، وفي رواية أبي أمامة عند
البيهقي: «فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء، وجد الأرض طهورا
ومسجدا. وعند الإمام أحمد: «فعنده طهوره ومسجده» . وفي رواية عمرو بن شعيب:
«فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت» .
واحتج من خصّ التيمم بالتراب، بحديث حذيفة عند الإمام مسلم بلفظ: «وجعلت
لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» ، وهذا
خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب، ودلّ الافتراق في
اللفظ، حيث حصل التأكيد من جعلها مسجدا دون الآخر على افتراق الحكم، وإلا
لعطف أحدهما على الآخر نسقا، كما في حديث الباب.
ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ «التربة» على خصوصية التيمم بالتراب بأن قال:
تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب بأنه ورد في الحديث المذكور
بلفظ «التراب» ، أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث علي: «وجعل التراب لي
طهورا» ، أخرجه الإمام أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ويقوى القول بأنه خاص
بالتراب، أن الحديث سبق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو كان جائزا بغير
التراب لما اقتصر عليه. قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فليصل» ، عرف مما
تقدم أن المراد فليصل بعد أن تيمم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأحلت لي الغنائم» ،
وللكشميهني «المغانم» وهي رواية الإمام مسلم، قال الخطابي:
كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم،
ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه،
وجاءت نار فأحرقته.. وقيل: المراد أنه خصّ بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف
يشاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم المغانم أصلا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت الشفاعة» ،
قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام منها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى
في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وكذا جزم النووي وغيره.
وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل. وقيل: الشفاعة لخروج من
في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من
ذلك، قاله عياض. والّذي يظهر لي أن هذه مع الأولى، لأنه يتبعها بها.
وقال البيهقي: يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها أن يشفع لأهل الصغائر
والكبائر، وغيره إنما يشفع لأهل الصغائر دون الكبائر. ونقل عياض أن الشفاعة
المختصة به شفاعة لا ترد.
وقد وقع في حديث ابن عباس: «وأعطيت الشفاعة، فأخّرتها لأمتي، فهي لمن لا
يشرك باللَّه شيئا» .
وفي حديث عمرو بن
(3/184)
__________
[ () ] شعيب: «فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا اللَّه» ،
والظاهر أن المراد بالشفاعة المختصّة في هذا الحديث إخراج من ليس له عمل
صالح إلا التوحيد، وهو مختص أيضا بالشفاعة الأولى، لكن جاء التنويه بذكر
هذه لأنها غاية المطلوب من تلك لاقتضائها الراحة المستمرة.
وقد ثبتت هذه الشفاعة في رواية الحسن عن أنس في كتاب التوحيد: «ثم أرجع إلى
ربي في الرابعة فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا اللَّه، فيقول:
وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال:
لا إله إلا اللَّه» . ولا يعكر على ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله: «وعزتي»
فيقول: «ليس ذلك، وعزتي.. إلخ» ،
لأن المراد أنه لا يباشر الإخراج كما في المرات الماضية، بل كانت الشفاعة
سببا في ذلك.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وبعثت إلى الناس عامة» ، فوقع في رواية مسلم:
«وبعثت إلى كل أحمر وأسود» ،
فقيل: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس، والأسود
الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى،
لأنه مرسل إلى الجميع، وأصرح الروايات في ذلك وأشملها،
رواية أبي هريرة عند مسلم: «وأرسلت إلى الخلق كافة» .
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : أول حديث أبي هريرة هذا: «فضّلت على
الأنبياء بست» ، فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد
خصلتين وهم: «وأعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون» ،
فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: «فضلنا على الناس بثلاث خصال: جعلت صفوفنا
كصفوف الملائكة»
وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى، وهي الخصلة المهمة بينها
ابن خزيمة والنسائي، وهي: «وأعطيت هذه الآيات من سورة البقرة من كنز تحت
العرش» ،
يشير إلى ما حطه اللَّه عن أمته من الإصر، وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع
الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعا.
ولأحمد من حديث علي: «أعطيت أربعا لم يعطهنّ أحد من أنبياء اللَّه: أعطيت
مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم»
وذكر خصلة التراب فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلة.
وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: «فضّلت على الأنبياء بست: غفر
لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن
صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه» ،
وذكر ثنتين مما تقدم.
وله من حديث ابن عباس رفعه: «فضّلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا
فأعانني اللَّه عليه فأسلّم»
قال: ونسيت الأخرى، قال الحافظ ابن حجر: فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة. ويمكن
أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقد تقدم طريق الجمع بين هذه
الروايات، وأنه لا تعارض فيها.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابورىّ في كتاب (شرف المصطفى) ، أن عدد الّذي اختص
به نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم عن الأنبياء ستون خصلة. وفي حديث الباب من
الفوائد غير ما تقدم:
[1] مشروعية تعديد نعم اللَّه.
[2] إلقاء العلم قبل السؤال.
[3] أن الأصل في الأرض الطهارة.
[4] أن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك.
وأما
حديث: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فضعيف، أخرجه الدار الدّارقطنيّ
من حديث
(3/185)
فبهذا وأمثاله انفرد بالسيادة الجامعة
للسيادات كلها، والشرف المحيط الأعم صلى اللَّه عليه وسلّم. وكان من رتبة
الكمال الّذي اختص به عليه السلام في جميع أموره: الكمال في [العبوديّة] [
(1) ] فكان عبدا صرفا لم تقم بذاته ربانية على أحد، وهي التي أوجبت له
السيادة، وهي الدليل على شهوده على الدوام، وقد قالت عائشة رضي اللَّه
عنها:
«كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يذكر اللَّه على كل أحيانه» ، وهو
أمر يختص بباطن الإنسان وقوله، وقد يظهر خلاف ذلك بأفعاله مع تحققه
بالمقام، فيلتبس على من لا معرفة له بالأحوال. واللَّه يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم.
***
__________
[ () ] جابر.
واستدل به صاحب (المبسوط) من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي وقال: لأن
الآدمي خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كل منهما طهور، ففي ذلك بيان كرامته.
قال محققه:
وحديث جابر، يغني عنه ما
رواه ابن ماجة، وابن حبان، والحاكم بإسناد حسن عن ابن عباس مرفوعا: «من سمع
النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر» ،
وما
رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: «أن رجلا أعمى سأل النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم أن يصلي في بيته، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: هل تسمع
النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب» ،
وهذا في الفرائض كما هو معلوم، أما النافلة فلا تختص بالمسجد بل هي في
البيت أفضل، إلا ما للشرع دليل على استثنائه. واللَّه تعالى أعلم. (فتح
الباري) :
1/ 574 كتاب التيمم باب (1) حديث (335) .
[ (1) ] في (خ) : «العبودة» .
(3/186)
ذكر التنويه [ (1) ] بذكر رسول صلى اللَّه
عليه وسلّم من زمن آدم عليه السلام
فخرج الحاكم من حديث عمر بن أوس الأنصاري، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: «أوحى اللَّه إلى عيسى:
يا عيسى، آمن بحمد ومن أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلق آدم،
ولولا محمد ما خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا اللَّه
فسكن [ (2) ] » قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد.
وذكر إبراهيم بن طهمان [ (3) ] عن بديل بن ميسرة عن عبد اللَّه بن شقيق عن
__________
[ (1) ] ناه الشيء ينوه: ارتفع وعلا، عن ابن جني، فهو نائه. ونهت بالشيء
نوها، ونوّهت به، ونوّهته تنويها: رفعته. ونوّهت باسمه: رفعت ذكره. (لسان
العرب) : 13/ 550.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 671، كتاب تواريخ المتقدمين، حديث رقم (4227/ 237)
: حدثنا علي بن حمشاد العدل إملاء، حدثنا هارون بن العباس الهاشمي، حدثنا
جندل بن والق، حدثنا عمرو بن أوس الأنصاري، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن
قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: «أوحى اللَّه
إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى، آمن بمحمد، وأمر من أدركه من أمتك أن
يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار،
ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا اللَّه محمد رسول
اللَّه فسكن» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. قال في
(التخليص) : أظنه موضوعا على سعيد.
[ (3) ] هو إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراساني أبو سعيد، ولد في بهراة
وسكن نيسابور، وقدم بغداد، ثم سكن مكة إلى أن مات. روي عن أبي إسحاق
السبيعي، وأبي إسحاق الشيبانيّ، وعبد العزيز بن صهيب، وأبي جمرة نصر بن
عمران الضبعي، ومحمد بن زياد الجمحيّ، وأبي الزبير، والأعمش، وشعبة، وسفيان
والحجاج بن الحجاج الباهلي، وجماعة.
وروى عنه حفص بن عبد اللَّه السلمي، وخالد بن نزار، وابن المبارك، وأبو
عامر العقدي، ومحمد بن سنان العوفيّ، ومحمد بن سابق البغدادي وغيرهم. وروى
عنه صفوان بن سليم، وهو من شيوخه.
قال ابن المبارك: صحيح الحديث. وقال أحمد وأبو حاتم وأبو داود: ثقة. زاد
أبو حاتم: صدوق حسن الحديث. وقال ابن معين والعجليّ: لا بأس به. وقال عثمان
بن سعيد الدارميّ: كان ثقة في الحديث، لم يزل الأئمة يشتهون حديثه، ويرغبون
فيه، ويوثقونه.
وقال صالح بن محمد: ثقة، حسن الحديث، يميل شيئا إلى الإرجاء في الإيمان،
حبب اللَّه حديثه
(3/187)
ميسرة قال: قلت: يا رسول اللَّه، متى كنت
نبيا؟ قال: لما خلق اللَّه الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات،
وخلق العرش، كتب على ساق العرش: محمد رسول اللَّه، خاتم الأنبياء، وخلق
اللَّه الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب على أبوابها اسمي، والأوراق
والقباب والختام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه اللَّه نظر إلى العرش
فرأى اسمي فأخبره اللَّه تعالى أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا
واستشفعا باسمي إليه.
وخرج الطبراني من حديث عبد اللَّه بن مسلم، حدثنا إسماعيل المدني عن عبد
الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: قال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال:
يا رب، بحق محمد صلى اللَّه عليه وسلّم إلا غفرت لي، فأوحى اللَّه إليه:
وما محمد، ومن محمد؟ فقال: يا رب، إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك
فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، فعلمت أنه أكرم خلقك
عليك إذ قرنت اسمه مع اسمك، فقال: نعم، قد غفرت لك، وهو آخر الأنبياء من
ذريتك، ولولاه ما خلقتك.
قال البيهقي:
__________
[ () ] إلى الناس، جيد الرواية. وقال إسحاق بن راهويه: كان صحيح الحديث،
حسن الرواية، كثير السماع، ما كان بخراسان أكثر حديثا منه، وهو ثقة.
وقال يحى بن أكثم القاضي: كان من أنبل الناس ممن حدّث بخراسان والعراق
والحجاز، وأوثقهم وأوسعهم علما.
وقال أحمد: كان يرى الإرجاء، وكان شديدا على الجهمية. وقال أبو زرعة: ذكر
عند أحمد، وكان متكئا فاستوى جالسا وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ.
وقال الدار الدّارقطنيّ: ثقة، إنما تكلموا في الإرجاء. وقال البخاري في
(التاريخ) : حدثني رجل، حدثني علي بن الحسن بن شقيق، سمعت ابن المبارك
يقول: أبو حمزة السكري، وإبراهيم بن طهمان العلم والحديث.
قال البخاري: وسمعت محمد بن أحمد يقول: سألت أبا عبد اللَّه أحمد بن حنبل
عن إبراهيم فقال:
صدوق اللهجة. وقال ابن حبان في (الثقات) : قد روى أحاديث مستقيمه تشبه
أحاديث الأثبات، وقد تفرد عن الثقات بأشياء معضلات.
قال الحافظ ابن حجر: الحق فيه أنه ثقة صحيح الحديث إذا روى عنه ثقة، ولم
يثبت غلوه في الإرجاء ولا كان داعية إليه، بل ذكر الحاكم أنه رجع عنه.
(تهذيب التهذيب) :
1/ 112- 114، ترجمة رقم (231) باختصار.
(3/188)
تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا
الوجه عنه، وهو ضعيف [ (1) ] .
قال كاتبه: هو أبو زيد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب،
ضعّفه أحمد وأبو داود والنسائي، وقال ابن عدي: له أحاديث حسان، وهو ممن
احتمله وصدقه بعضهم، وهو ممن يكتب حديثه. وخرجه الحاكم من حديث عبد الرحمن
بن زيد عن أبيه عن جده عن عمر بنحو أو قريب منه، ثم قال: حديث صحيح
الإسناد.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا من حديث سعيد بن جبير أنه قال: اختصم ولد آدم
أي الخلق أكرم علي اللَّه تعالي؟ فقال بعضهم: آدم خلقه اللَّه بيده وأسجد
له ملائكته، وقال آخرون: بل الملائكة الذين لم يعصوا اللَّه، فذكروا ذلك
لآدم، فقال: لما نفخ في الروح لم يبلغ قدمي حتى استويت جالسا، فبرق لي
العرش، فنظرت فيه: محمد رسول اللَّه، فذاك أكرم الخلق علي اللَّه.
وروى الحسين بن [علي] بن أبي طالب مرفوعا: أهل الجنة ليست لهم كني إلا آدم
فإنه يكنى أبا محمد توقيرا وتعظيما.
وقال محمد بن عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة: حدثني عبد الرحمن بن عبد المنعم
عن أبيه عن وهب قال: أوحي اللَّه تعالي إلي آدم عليه السلام: أنا اللَّه،
وبكة [ (2) ] أهلها خيرتي، وزوارها وفدي كنفي، أعمر [بيتي] [ (3) ] بأهل
السماء وأهل الأرض، يأتونه أفواجا شعثا غبرا، يعجون بالتكبير عجيجا، ويرجون
بالتلبية رجيجا، ويثجون بالبكاء ثجا، فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارني
وضافني، ووفد إليّ، ونزل بي، وحق لي أتحفه بكرامتي، أجعل ذاك البيت وذكره
وشرفه ومجده وسناه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده، وأقضي
علي يديه عمارته، وأبسط له سقايته، وأريه حله وحرمه،
__________
[ (1) ] (المستدرك للحاكم) وقال: حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته
لعبد الرحمن بن زيد ابن أسلّم في هذا الكتاب، وقال (الحافظ الذهبي) في
(التلخيص) : «قلت: بل موضوع وعبد الرحمن واه» ج 2 ص 615.
[ (2) ] من أسماء مكة المكرمة: بكة، وأم القرى.
[ (3) ] في (خ) «أعمره» ، وما بين القوسين زيادة للسياق.
(3/189)
وأعلمه مشاعره، ثم تعمره الأمم والقرون حتى
ينتهي إلي بني من ولدك يقال له محمد، وهو خاتم النبيين، فأجعله من سكانه
وولاته وحجابه وسقاته، ومن سألك عني يومئذ فأنا الشعث الغبر الموفين
بنذورهم، المقبلين إلي ربهم.
وقال سعيد بن عمرو الأنصاري عن أبيه عن كعب الأحبار قال: لما أراد اللَّه
أن يخلق محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم أمر جبريل فأتاه بالقبضة التي هي موضع
قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فعجنت بماء التسنيم، وثم غمست في
أنهار الجنة وطيف بها في السموات والأرض، فعرفت الملائكة محمدا وفضله قبل
أن تعرف آدم، ثم كان نور [محمد] [ (1) ] يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له يا
آدم، هذا سيد ولدك من المرسلين، فلما حملت [حواء] [ (2) ] بشيث انتقل النور
من آدم إلي [حواء] [ (2) ] ، وكانت تلد في كل بطن ولدين إلّا شيثا فإنه
ولدته وحده كرامة لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم لم [يزل] [ (3) ] ينتقل
من طاهر إلي طاهر إلي أن ولد صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقال ورقاء بن عمر عن ابن أبي الحجيج عن عطاء بن السائب ومجاهد عن مرة
الهمزاني عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه، أين كنت
وآدم في الجنة؟ قال: كنت في صلبه، وأهبطت إلي الأرض وأنا في صلبه، وركبت
السفينة في صلب نوح، وقذفت في النار في صلب إبراهيم، لم يلتق لي أبوان قط
علي سفاح، لم يزل ينقلني من الأصلاب الطاهرة إلي الأرحام النقية مهذبا، لا
يتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، فأخذ اللَّه لي بالنّبوّة ميثاقي، وفي
التوراة بشّر بي، وفي الإنجيل شهر اسمي، تشرق الأرض لوجهي، والسماء لرؤيتي
[ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «محمدا» وما أثبتناه حق اللغة.
[ (2) ] في (خ) : «حوى» .
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] يشهد لهذا الأثر ما أخرجه كل من:
البخاري: في كتاب المناقب، باب (23) ، حديث رقم (3557) : حدثنا قتيبة بن
سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة
رضي اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «بعثت من خير
قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الّذي كنت منه» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا» ،
القرن الطبقة من الناس المجتمعين في عصر واحد» ، ومنهم من حدّه بمائة سنة،
وقيل: بسبعين، وقيل بغير ذلك. فحكى الحربي الاختلاف فيه من عشرة إلي مائة
وعشرين، ثم تعقب الجميع وقال: الّذي أراه أن القرن كل أمة هلكت
(3/190)
__________
[ () ] حتى لم يبق منها أحد. وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «قرنا» ، بالنصب
حال للتفصيل.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حتى كنت من القرن الّذي كنت منه» ، في رواية
الإسماعيلي: «حتى بعثت من القرن الّذي كنت فيه» .
.. والقرن أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة،
ويقال: إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم علي ملة،
أو مذهب، أو عمل. ويطلق القرن علي مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها، ذكر
الجوهري بين الثلاثين والثمانين، وقد وقع في حديث عبد اللَّه بن بسر عند
مسلم، ما يدل علي أن القرن مائة وهو المشهور.
وقال صاحب المطالع: القرن أمة هلكت، فلم يبق منهم أحد، وثبتت المائة في
حديث عبد اللَّه بن بسر، وهو ما عند أكثر أهل العراق. ولم يذكر صاحب
(المحكم) الخمسين، وذكر من عشر إلي سبعين، ثم قال: هذا هو القدر المتوسط من
أعمار أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال، وبه صرح ابن الأعرابي وقال: إنه
مأخوذ من الأقران، ويمكن أن يحمل عليه المختلف من الأقوال المتقدمة ممن قال
إن القرن أربعون فصاعدا، أما من قال إنه دون ذلك فلا يلتئم علي هذا القول
واللَّه أعلم.
والمراد بقرن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في هذا الحديث الصحابة.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وبعثت في خير قرون بني آدم» ، وفي رواية
بريدة عند الإمام أحمد: «خير هذه الأمة القرن الّذي بعثت فيهم» ،
وقد ظهر أن الّذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة،
أو دونها، أو فوقها بقليل، علي الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك
من بعد وفاته صلى اللَّه عليه وسلّم فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعا
وتسعين.
وأما قرن التابعين، فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، وأما
الذين بعدهم، فإن اعتبر منها، كان نحوا من خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن
تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان واللَّه تعالي أعلم.
واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلي حدود
العشرين ومائتين، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق
القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلي الآن، وظهر
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ثم يفشو الكذب» ظهورا بينا، حتى يشمل
الأقوال، والأفعال، والمعتقدات، واللَّه المستعان. (فتح الباري) : 6/ 712،
7/ 6- 7.
ومسلم: في كتاب الفضائل، باب (1) ، فضل نسب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، حديث رقم (2276) : حدثنا محمد بن مهران
الرازيّ، ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم، جميعا عن الوليد، قال ابن مهران:
حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن أبي عمار شداد، أنه سمع وائلة بن
الأسقع يقول: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إن اللَّه
اصطفي كنانة من ولد إسماعيل، واصطفي قريشا من كنانة، واصطفي من قريش بني
هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
وباب (2) تفضيل نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم علي جميع الخلائق، حديث رقم
(2278) ، حدثني الحكم بن موسي أبو صالح، حدثنا هقل- يعني ابن زياد- عن
الأوزاعي، حدثني أبو عمار، حدثني عبد اللَّه بن فروخ، حدثني أبو هريرة قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة،
وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع»
(3/191)
__________
[ () ] قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه اصطفي كنانة» ،
قال الإمام النووي: استدل به أصحابنا علي أن غير قريش من الغرب ليس بكفء
لهم، ولا غير بني هاشم كفؤ لهم، إلا بني المطلب فإنّهم هم وبنو هاشم شيء
واحد، كما صرح به في الحديث الصحيح.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق
عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع» ،
قال الهروي: السيد هو الّذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره: هو الّذي يفزع
إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمرهم، ويتحمّل عنهم مكارهم، ويدفعها
عنهم.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «يوم القيامة» ، مع أنه سيدهم في الدنيا
والآخرة، فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد، ولا يبقى
مناع ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار،
وزعماء المشركين.
وهذا التقييد قريب من معني قوله تعالي: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك، لكن كان في الدنيا
من يدعي الملك، أو من يضاف إليه مجازا، فانقطع كل ذلك في الآخرة.
قال العلماء:
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم» ،
لم يقله فخرا، بل صرّح بنفي الفخر في غير مسلم،
في الحديث المشهور: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ،
وإنما قاله لوجهين:
أحدهما: امتثال قوله تعالي: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
والثاني: أنه من البيان الّذي يجب عليه تبليغه إلي أمته، ليعرفوه ويعتقدوه،
ويعملوا بمقتضاه، ويوقروه صلى اللَّه عليه وسلّم بما يقتضي مرتبته، كما
أمرهم اللَّه تعالي.
الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى اللَّه عليه وسلّم علي الخلائق كلهم،
لأن مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى اللَّه عليه
وسلّم أفضل الآدميين وغيرهم. وأما
الحديث الآخر: «لا تفضلوا بين الأنبياء» ،
فجوابه من خمسة أوجه:
أحدهما: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما
علم أخبر به.
والثاني: قاله أدبا وتواضعا.
والثالث: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلي تنقيص المفضول.
والرابع: إنما نهي عن تفضيل يؤدي إلي الخصومة والفتنة، كما هو المشهور في
سبب الحديث.
والخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها، وإنما
التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى، ولا بدّ من اعتقاد التفضيل، فقد قال تعالي:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأول شافع وأول مشفع» ،
إنما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان، فيشفع الثاني منهما قبل الأول.
واللَّه تعالي أعلم.
والترمذي: في أبواب المناقب، باب (20) ما جاء في فضل النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم حديث رقم (3850) :
حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد،
عن عبد اللَّه بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة قال: «جاء العباس إلي
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وكأنه سمع شيئا،
(3/192)
قال جامعه قد أشار إلي هذا الحديث العباس
بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه في شعره المشهور عنه،
خرج أبو بكر الشافعيّ قال: حدثني أبو الشيخ محمد بن الحسين الأصفهاني، وعبد
اللَّه بن محمد بن ياسين قالا: حدثنا زكريا بن يحي بن عمر بن حصن بن حمير
عن منهب بن حارث بن خريم بن أوس بن حارثة قال:
قال: خريم بن أوس: هاجرت إلي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت
فسمعت العباس رضي اللَّه عنه يقول: يا رسول اللَّه إني أريد أن أمتدحك،
فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
فقل لا يفضض اللَّه فاك،
فأنشأ العباس يقول:
__________
[ () ] فقام النبي صلى اللَّه عليه وسلّم علي المنبر فقال: من أنا؟ فقالوا:
أنت رسول اللَّه عليك السلام، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب.
إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم
قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم
نفسا» ،
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وروي عن سفيان الثوري، عن يزيد بن
أبي زياد، نحو حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد عن عبد
اللَّه بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب.
قوله: «جاء العباس» ، أي غضبان «وكأنه سمع شيئا» ، أي من الطعن في نسبه أو
حسبه،
«فقال: من أنا؟»
استفهام تقرير علي جهة التبكيت، «فقالوا: أنت رسول اللَّه، فلما كان قصده
صلى اللَّه عليه وسلّم بيان نسبة وهم عدلوا عن ذلك المعني، ولم يكن الكلام
في ذلك المبني،
«أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب» ،
يعني وهما معروفان عند العارف المنتسب.
قال الطيبي: قوله: «فكأنه سمع» ، مسبب عن محذوف، أي جاء العباس غضبان بسبب
ما سمع طعنا من الكفار في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، نحو قوله
تعالي: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ، كأنهم حقّروا شأنه، وأن هذا الأمر العظيم الشأن لا يليق إلا بمن
هو عظيم من إحدى القريتين، كالوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي
مثلا، فأقرهم صلى اللَّه عليه وسلّم، علي سبيل التبكيت، علي ما يلزم تعظيمه
وتفخيمه، فإنه الأولى بهذا الأمر من غيره، لأن نسبه أعرف. ومن ثم لما
قالوا:
أنت رسول اللَّه، ردّهم بقوله: أنا محمد بن عبد اللَّه. (تحفة الأحوذي) :
10/ 54.
وابن الأثير في (جامع الأصول) : 8/ 536، حديث رقم (6338) ، رقم (6339) .
والإمام أحمد في (المسند) : 1/ 345، حديث رقم (1791) ، حديث رقم (1793) .
وأبو حيان الأندلسي في (البحر المحيط) : 8/ 198، عند تفسير قوله تعالي من
سورة الأعراف:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، قال ابن عباس: في أصلاب آدم، ونوح،
وإبراهيم، حتى خرجت.
وابن كثير في (التفسير) : 3/ 365، وروى البزار وابن أبي حاتم، من طريقين عن
ابن عباس أنه قال في هذه الآية وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ: يعني
تقلبه من صلب نبي إلي صلب نبي، حتى أخرجه نبيا.
(3/193)
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث
يخصف الورق
ثم هبطت البلاد ولا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق
وردت نار الخليل فكنتما ... تجول فيها فليس تحترق
نقلت من صالب إلي رحم ... إذا مضي عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... من خندف علياء تحتها النّطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي ... النور وسبل الرشاد نخترق
قوله: (في الظلال) ، يريد ظلال الجنة حيث كان كونه صلى اللَّه عليه وسلّم
في صلب آدم عليه السلام.
ويشير بقوله: (مستودع) ، إلي موضع آدم وحواء من الجنة، وقيل المستودع:
النطفة في الرحم.
ويشير بقوله: (يخصف الورق) إلي قوله تعالي حكاية عن آدم وحواء:
فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ
عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [ (1) ] .
وفي رواية: (وأهلها الغرق) ،
كأنه عني أهل الأرض أو البلاد لتقدم ذكرها، ويكون الضمير في قوله: (نسرا
وأهله) ، عائد علي قوم نوح المغرقين، يريد:
كنت يا محمد في صلب آدم وهو في الجنة، ثم لما هبط إلي الأرض هبطت في صلبه،
وتنقلت من بعده في الأصلاب حتى ركبت مع نوح عليه السلام السفينة وأنت في
صلبه، لما غرق قوم نوح بالطوفان من أجل كفرهم باللَّه عز وجل، وعباده
الأصنام التي هي ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وعبّر عن السفينة بالسفين،
وهو جمع سفينة، يقال: سفينة وسفين، وتجمع علي سفن والسفائن أيضا.
وقوله: (وردت نار الخليل) ، يريد أنك كنت في صلب إبراهيم عليه السلام
__________
[ (1) ] الأعراف: 22.
(3/194)
لما ألقي في النار فلم تحرقه.
وقوله: (تنقل) ،
وفي رواية: نقلت من صالب إلي رحم، يريد من صلب ذكر إلي رحم امرأة،
وفي الصلب ثلاث لغات: بضم الصاد وإسكان اللام، وصلب بضم الصاد واللام
جميعا، وصلب بفتح الصاد واللام معا، حكي هذه الأخيرة في (مختصر العين) .
وقد روى (تنقل من صلب) ،
ورواية (صالب) أشهر، والصالب بمعني الصلب لغة قليلة.
وقوله: (إذا مضي عالم بدا طبق) ، يريد بالطبق القرن لأنهم طبق الأرض،
فينقرضون ويأتي طبق آخر.
وقوله: (حتى احتوى بيتك المهيمن من خندف) ، قيل: حتى احتوى بيتك المهيمن أي
يا مهيمن من خندف علياء فأقام البيت مقامه صلى اللَّه عليه وسلّم لأن بيته
إذا حل بهذا المكان فقد حل هو به، وهو كما يقال: بيته أعزّ بيت، وإنما يراد
صاحبه، واعترض علي هذا بأنه إذا عبر بالبيت عنه صلى اللَّه عليه وسلّم فإنه
كما قال زياد الأعجم.
إن السماحة والمروءة والنّدى ... في قبة ضربت علي ابن الحشرج
فإن هذا وإن كان ممكنا، لا ضرورة تدعو إليه، إذ بقاؤه علي ظاهره ممكن، وهو
مدح أهل بيته صلى اللَّه عليه وسلّم وهو داخل فيهم، فإن مدح بيت الرجل قد
يكون أبلغ في مدحه.
فإن قيل: هذا مثل من العباس، أي جعلك اللَّه عاليا وجعل خندف كالنطاق لك،
قيل: هذا لا يقتضيه اللفظ إلا بإكراه وتقديم وتأخير، بأن يكون تقديره:
حتى احتويت واحتوى بيتك علياء تحتها النطق من خندف، وإنما الوجه أن يكون
المعني: احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء كل النطق تحتها، أو يعلق من خندف
بعلياء أي علياء من خندف كل نطاق دونها أو تحتها.
والنّطق: هي أوساط الجبال العالية.
والمهيمن: الشاهد، كأنه حتى احتوى شرف بيتك الشاهد منه الفرع الّذي
(3/195)
هو أنت علي طيب الأصل، ويمكن أن يكون قد
عبّر بالنطق عن ذوات النطاق، والنطق: جمع نطاق، والنطاق: إزار له تكة تنتطق
به المرأة، وكأنه لما قال: أنه احتوى علياء خنندف، والقبيلة إنما سميت
بالمرأة، حسن أن يقال: أن هذه العلياء التي احتواها دونها علياء كل ذات
نطاق، هي أم الشخص أو القبيلة، ويمكن أن يكون مأخوذا من نطاق البيت وهو ما
يراد عليه من خشب يجمع أركانه، فكأنه لما وصف شرفه الليالي وكني عنه البيت،
رشّحه إلي ذكر النطاق المستعمل للبيت، أي تحت علياء بيته نطاق كل بيت.
وقيل معناه: حتى احتويت يا مهيمن من خندف علياء، يريد النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم فأقام البيت مقامه، لأن البيت إذا حل بهذا المكان فقد حلّ به
صاحبه، وأراد بيته شرفه، والمهيمن من نعته، كأنه قال: حتى احتوى شرفك
الشاهد علي فضلك علياء الشرف من نسب ذوي خندف إلي تحتها النطق- وهي أوساط
الجبال العالية- وخندف: هي امرأة إلياس بن مضر بن نزار، فنسب إليها ولد
الناس [ (1) ] .
وقيل: أراد بقوله: النطق، العفاف من لبس المرأة النطاق ليحصنها، فيكون
النطق بمعني نطاق، أي تحتها نطاق العفاف، وقيل: النطق، جمع ناطق، وقيل:
النطق: جمع نطاق، وهو الّذي يشده الإنسان علي وسطه، ومنه المنطق، وهذا من
العباس رضي اللَّه تعالى عنه مثل، أي جعلك اللَّه عاليا، وجعل خندف كالنطاق
لك. واللَّه أعلم.
وقد روى أن جبير بن مطعم قال: لما بعث اللَّه تعالي نبيه صلى اللَّه عليه
وسلّم فظهر أمره بمكة خرجت إلي الشام، فلما كنت ببصرى أتاني جماعة من
النصارى فقالوا لي:
من أهل الحرم أنت؟ قلت: نعم، قالوا: فتعرف هذا الّذي تنبأ فيكم؟ قلت:
__________
[ (1) ] هي ليلي بنت حلوان بن عمران، وكان إلياس خرج في نجعة فنفرت إبله
أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها، وخرج عامر فتصيدها وطبخها، وانقمع عمير في
الخباء، وخرجت أمهم تسرع، فقال لها إلياس: أين تخندفين؟ فقالت: ما زلت
أخندف في إثركم، فلقبوا: مدركة، وطابخة، وقمعة، وخندف (ترتيب القاموس) : ج
2 ص 115، (الأعلام للزركلي) : ج 6 ص 116، (معجم قبائل العرب) : ج 1 ص 40.
(3/196)
نعم، قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا فيه
تماثيل وصور فقالوا: انظر، هل ترى صورة هذا الّذي بعث؟ فنظرت، فلم أر صورته
فقلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير، فإذا فيه تماثيل
وصور أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ فإذا أنا بصورة
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وصفته، وإذا أنا بصفة أبي بكر رضي
اللَّه تعالى عنه وصورته وهو آخذ بعقب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقالوا لي: هل ترى صورته؟ فقلت: نعم، وقلت: لا أخبرهم حتى أعرف ما يقولون،
قالوا: هو هذا؟ قلت: نعم، وأشاروا إلى جبهة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم، قلت: اللَّهمّ نعم، أشهد أنه هو، قالوا: هل تعرف هذا؟ قلت: نعم،
قالوا لي: نشهد أن هذا صاحبكم وهذا الخليفة بعده [ (1) ] .
وقال موسى بن عقبة: إن هشام بن العاص ونعيم بن عبد اللَّه ورجل آخر بعثوا
إلى ملك الروم زمن أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه، قالوا: فدخلنا على جبلة
بن الأهثم وهو بالغوطة، فإذا عليه ثياب سود، وإذا كل شيء حوله أسود، قالوا:
يا هشام، كلمه، فكلمه ودعاه إلى اللَّه تعالى، فقال: ما هذه الثياب السود؟
قال:
لبستها نذرا ولا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كلها!! قال: قلنا اتئد- أو
كلمة تشبهها- حتى تمنع مجلسك، فو اللَّه لنأخذنه منك وملك الملك الأعظم إن
شاء اللَّه، أخبرنا بذلك نبينا، قال: فأنتم إذن السمراء، قلنا: السمراء؟
قال: لستم هم، قلنا: ومن هم؟ قال: هم الذين يصومون النهار ويقومون الليل،
قلنا: نحن هم واللَّه، قال: فكيف صومكم؟ فوصفنا له صومنا، فقال: فكيف
صلاتكم؟
فوصفنا له صلاتنا، فقال: فاللَّه يعلم لقد غشيه سواد حتى صار وجهه كأنه
قطعة طابق وقال: قوموا، فأمر بنا إلى الملك، فانطلقنا، فلقينا الرسول بباب
المدينة فقال: إن شئتم آتيتكم ببغال، وإن شئتم آتيتكم ببراذين، فقلنا: لا
واللَّه لا ندخل
__________
[ (1) ] ونحوه باختلاف يسير في (دلائل النبوة للبيهقي) ج 1 ص 385، 386
وسنده: «أخبرني الشيخ أبو الفتح رحمه اللَّه من أصله قال: أنبأنا عبد
الرحمن بن أبي شريح الهروي قال: حدثنا يحى بن محمد ابن صاعد قال: حدثنا عبد
اللَّه بن شبيب أبو سعيد الربعي قال: حدثنا محمد بن عمر بن سعيد بن محمد بن
جبير بن مطعم عن أبيه سعيد بن محمد بن جبير عن أبيه قال: سمعت أبي جبير بن
مطعم يقول ... » وأورد الحديث.
(3/197)
عليه إلا كما نحن، فأرسل إليهم أن يأتون،
فأرسل: أن خلّ سبيلهم، فدخلنا معتمّين متقلدين السيوف على الرواحل، فلما
كنا بباب الملك، إذا هو في غرفة له عالية، فنظر إلينا، قال: فرفعنا رءوسنا
فقلنا: لا إله [إلا] اللَّه، فاللَّه يعلم لنقضت الغرفة كلها حتى كأنها غدق
نفضته الريح، فأرسل: إن هذا ليس لكم أن تجهروا بدينكم عليّ، وأرسل إلينا:
أن ادخلوا، فدخلنا، فإذا هو على فراش إلى السقف، وإذا عليه ثياب حمر، وإذا
كل شيء عنده أحمر، وإذا عنده بطارقة الروم، وإذا هو يريد أن يكلمنا برسول،
فقلنا: لا واللَّه ما نكلمه برسول، وإنما بعثنا إلى الملك، فإذا كنت تحب أن
نكلمك فأذن لنا نكلمك، فلما دخلنا عليه ضحك، فإذا هو رجل فصيح بالعربية،
فقلنا: لا إله إلا اللَّه، فاللَّه يعلم لقد نقض السقف حتى رفع رأسه هو
وأصحابه فقال: ما أعظم كلامكم عندكم، فقلنا: هذه الكلمة؟
قال: التي قلتماها قبل؟ قلنا: نعم، قال: فإذا قلتموها في بلاد عدوكم نقضت
سقوفهم؟ قلنا: لا، قال: فإذا قلتموها في بلادكم نقضت سقوفكم؟ قلنا لا، وما
رأيناها فعلت هذا، وما هو إلا شيء عبرت به، فقال: ما أحسن الصدق! فما
تقولون إذا فتحتم المدائن؟ قلنا: نقول: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر،
قال:
تقولون: لا إله إلا اللَّه ليس معه شيء، واللَّه أكبر من كل شيء؟ قلنا:
نعم، قال:
فما منعكم أن تحيوني بتحية نبيكم؟ قلنا: إن تحية نبينا لا تحل لكم، وتحيتك
لا تحل لنا فنحييك بها، قال: وما تحيتكم؟ قلنا: تحية أهل الجنة، قال: وبها
كنتم تحيون نبيكم؟ قلنا: نعم، قال: وبها كان يحييكم؟ قلنا نعم، قال: فمن
كان يورث منكم؟ قلنا: من كان أقرب قرابة، قال: وكذلك ملوككم؟ قلنا: نعم،
فأمر لنا بنزل كثير ومنزل حسن، فمكثنا ثلاثا ثم أرسل إلينا ليلا، فدخلنا
عليه وليس عنده أحد، فاستعاد كلامنا فأعدنا عليه، فإذا عنده مثل الربعة
العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار، ففتح منها بابا، واستخرج منه خرقة
حرير سوداء، فيها صورة بيضاء، فإذا رجل طوّال أكثر الناس شعرا فقال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال:
هذا آدم، ثم أعاد وفتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء
فإذا رجل ضخم الرأس عظيم، له شعر كشعر القبط، أعظم الناس أليتين، أحمر
العينين فقال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح، ثم أعاده وفتح بابا آخر فاستخرج
(3/198)
حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل
أبيض الرأس واللحية، كأنه يبتسم، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا
إبراهيم، ثم أعاده وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء،
وإذا واللَّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول اللَّه، وبكينا، واللَّه يعلم أنه قام
قائما ثم جلس وقال: واللَّه إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو كأننا ننظر إليه،
فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر الأبواب ولكني عجلته لأنظر
ما عندكم، ثم أعاده وفتح بابا آخر، واستخرج خرقة حرير سوداء فيها صورة
بيضاء، فإذا رجل مقلص الشفتين غائر العينين، متراكم الأسنان كث اللحية
عابس، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى، وإذا جنبه رجل يشبهه
غير أن في عينيه قيلا وفي رأسه استدارة، فقال: هذا هارون، ثم رفعهما، وفتح
بابا آخر واستخرج منه خرقة سوداء فيها صورة حمراء أو بيضاء، فإذا رجل أحمر
أحمش الساقين أخفش العينين، ضخم البطن مقلد سيفا، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا:
لا، قال: هذا داود، ثم أعاده وفتح بابا آخر واستخرج منه حريرة سوداء، وإذا
فيها صورة بيضاء، وإذا رجل راكب على فرس، طويل الرجلين قصير الظهر، كل شيء
منه جناح تحفه الريح، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان، ثم
أعاده ففتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة أو خرقة سوداء، فيها صورة بيضاء،
فإذا صورة شاب تعلوه صفرة، صلت الجبين حسن اللحية، يشبهه كل شيء منه، قال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى ابن مريم، ثم أعاده وأمر بالربعة
فرفعت، فقلنا: هذه صورة نبينا قد عرفناها، فإنا قد رأيناه، فهذه الصورة
التي لم نرها كيف نعرفها أنى هي؟ قال: إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه
صورة نبي نبي، فأخرج إليه صورهم في خرق الحرير من الجنة، فأصابها ذو
القرنين في خزانة آدم في مغرب الشمس، فلما كان دانيال، صورها هذه الصّور،
فهي بأعيانها، فو اللَّه لو تطيب نفسي في الخروج عن ملكي ما باليت أن أكون
عبدا لأشدّكم ملكة، ولكن عسى أن تطيب نفسي، قال: فأحسن جائزتنا وأخرجنا [
(1) ] .
__________
[ (1) ] وفي المرجع السابق: «فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر
الصديق فحدثناه بما رأيناه وما قال لنا وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر
وقال: مسكين، لو أراد اللَّه به خيرا لفعل ثم قال: أخبرنا رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى اللَّه عليه وسلّم
عندهم» ص 390.
(3/199)
وقد رواه شرحبيل بن مسلم الخولانيّ عن أبي
أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص، قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي اللَّه
تعالى عنه ورجلا آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام،
فخرجنا حتى قدمنا الغوطة، فنزلنا على جبلة بن الأهتم الغساني، فذكروه ...
وزاد بعد قوله في صورة نبينا عليه السلام وذكر موسى وهارون: ففتح بابا آخر
فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان حسن
الوجه، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا:
لا، قال: هذا لوط، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة رجل
أبيض مشرب حمرة أجنأ، خفيف العارضين حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا؟
قلنا: لا، قال: هذا إسحاق، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة
تشبه صورة إسحاق، إلا أن بشفته السفلى خالا، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا:
لا، قال: هذا يعقوب، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة رجل
أبيض حسن الوجه أقنى الأنف حسن القامة، يعلو وجهه النور، يعرف في وجهه
الخشوع، يضرب إلى الحمرة فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل
جد نبيكم، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة كأنها صورة آدم،
كأن وجهه الشمس، قال: هل تعرفون هذا؟ [قلنا: لا، قال:] [ (1) ] هذا يوسف.
ثم ذكر قصة داود وسليمان وعيسى مثل حديث موسى ابن عقبة، وزاد: قال: فلما
قدمنا على أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه حدثناه بما رأيناه وما قال لنا وما
أرانا، فبكى أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه وقال: مسكينا، لو أراد اللَّه به
خيرا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنهم واليهود
يجدون نعت محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال تعالى: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق ص 291.
[ (2) ] وأخرج الإمام أحمد في (المسند) ، من حديث رجل من أصحاب النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم قال: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا إسماعيل عن
الجريريّ، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب
(3/200)
__________
[ () ] قال: «جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم، فلما فرغت من بيعتي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال:
فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من
اليهودي ناشرا التوراة يقرؤها، يعزى بها نفسه على ابن له في الموت، كأحسن
الفتيان وأجمله، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنشدك بالذي
أنزل التوراة، هل تجد في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه: هكذا، أي لا،
فقال ابنه: إني والّذي أنزل التوراة، لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن
لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، فقال: أقيموا اليهود عن أخيكم، ثم ولى
كفنه، وحنطه، وصلى عليه» . (المرجع السابق) : 6/ 571، حديث رقم (22981) .
وذكر ابن كثير في (التفسير) ، عند قوله تعالى في سورة الأعراف: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، باختلاف يسير، وقال
في آخره:
هذا حديث جيد، قوي له شاهد في الصحيح عن أنس (تفسير ابن كثير) : 2/ 262.
وأما حديث صور الأنبياء، فقد أخرجه ابن كثير في (التفسير) ، عن الحاكم صاحب
(المستدرك) :
أخبرنا محمد بن عبد اللَّه بن إسحاق البغوي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم
البلدي، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ابن إدريس، حدثنا عبد اللَّه بن إدريس،
عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام ابن العاص الأموي قال:
بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى
قدمنا الغوطة- يعني غوطة دمشق- فنزلنا على جبلة بن الأهتم الغسّاني، فدخلنا
عليه فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: واللَّه لا
نكلم رسولا وإنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لم نكلم
الرسول، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا فقال:
تكلموا، فكلمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثياب سود، فقال
له هشام: وما هذه الثياب التي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى
أخرجكم من الشام، قلنا: ومجلسك هذا لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم
إن شاء اللَّه، أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، قال:
لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه،
فملئ وجهه سوادا فقال: قوموا، وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا حتى إذا
كنا قريبا من المدينة قال لنا الّذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة
الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال، قلنا: واللَّه لا ندخل إلا
عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك، فأمرهم أن ندخل على رواحلنا،
فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة له، فأنخنا في أصلها
وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، فاللَّه يعلم لقد
انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح.
قال: فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل إلينا أن ادخلوا،
فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقة من الروم، وكل شيء في مجلسه
أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه، فضحك فقال: ما
عليكم لو جئتموني بتحيتكم فيما بينكم؟، وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير
الكلام، فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيّا بها لا
يحل لنا أن نحيك بها، قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليكم،
قال: فكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها، قال: فكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها، قال:
فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله
(3/201)
__________
[ () ] إلا اللَّه واللَّه أكبر، فلما تكلمنا بها- واللَّه يعلم- لقد
انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال:
فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة، أكلّ ما قلتموها في بيوتكم
انتفضت عليكم غرفكم؟
قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك، قال لوددت أنكم كلما قلتم
انتفض كل شيء عليكم، وإني قد خرجت من نصف ملكي، قلنا: لم؟.
قال: لأنه كان أيسر لشأنها وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة، وأنها تكون من
حيل الناس، ثم سألنا عما أراد، فأخبرناه، ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟
فأخبرناه، فقال: قوموا، فأمر لنا بمنزل حسن، ونزل كثير، فأقمنا ثلاثا،
فأرسل إلينا ليلا، فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة
الربعة العظيمة، مذهبة، فيها بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا،
فاستخرج حريرة سوداء، فنشرناها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم
العينين، عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له
ضفيرتان أحسن ما خلق اللَّه. فقال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس
شعرا.
ثم فتح باب آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء وإذا له
شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون
هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن
العينين، صلت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية، كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون
هذا؟ قلنا: لا، قال:
هذا إبراهيم عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا واللَّه رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا نعم، هذا محمد رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم، قال: وبكينا، قال: واللَّه يعلم أنه قام قائما ثم جلس،
وقال واللَّه إن لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر
إليها ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم، لأنظر ما عندكم.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سمحا،
وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس، متراكب الأسنان، متقلص
الشفة، كأنه غضبان، فقال:
هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى عليه السلام، وإلى جنبه صورة
تشبهه، إلا أنه مدهان الرأس، عريض الجبين، في عينيه قبل، فقال: هل تعرفون
هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون بن عمران عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم، سبط،
ربعة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط عليه
السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب
حمرة، أقنى خفيف العارضين حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال:
هذا إسحاق عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا
أنه على شفته خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب عليه
السلام.
(3/202)
__________
[ () ] ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن
الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجه الخشوع، يضرب
إلى الحمرة، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيكم صلى
اللَّه عليه وسلّم.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة كصورة آدم، كأن
وجهه الشمس، فقال: تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يوسف عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل ضخم
الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسا، فقال، هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال:
هذا سليمان بن داود عليهما السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شاب شديد
سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟
قلنا: لا، قال: هذا عيسى ابن مريم عليه السلام.
قلنا: من أين لك هذه الصور، لأنا نعلم أنها على ما صوّرت عليه الأنبياء
عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله؟ فقال: إن آدم عليه
السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في
خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب
الشمس، فدفعها إلى دانيال.
ثم قال: أما واللَّه إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدا لا
[يترك] ملكه حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرّحنا.
فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه، فحدثناه بما أرانا وبما
قال لنا، وبما أجازنا، قال:
فبكى أبو بكر وقال: مسكين! لو أراد اللَّه به خيرا لفعل، ثم قال: أخبرنا
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى
اللَّه عليه وسلّم عندهم. (تفسير ابن كثير) : 2/ 262- 263، تفسير الآية
(157) من سورة الأعراف.
وهكذا أورده أيضا الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في (دلائل النبوة) : 1/
385- 390، باب ما وجد من صورة نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم مقرونة
بصورة الأنبياء قبله بالشام، عن الحاكم إجازة، فذكره، وإسناده لا بأس به.
وذكر أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 50- 56، بنحوه وقال في آخره: قال الشيخ
رضي اللَّه عنه: ففي هذه القصة علم أهل الكتابين بصفة نبينا صلى اللَّه
عليه وسلّم، وباسمه، وبعثته.
وانتفاض الغرفة حين أهلّوا بلا إله إلا اللَّه، وما يوجد من المعجزات بعد
موت الأنبياء، كما يوجد أمثالها قبل بعثتهم، إعلاما وإيذانا بقرب مبعثهم
ومجيئهم. (المرجع السابق) .
(3/203)
وأما شرف أصله،
وتكريم حسبه ونسبه، وطيب مولده
فخرج مسلم والترمذي من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي عن أبي
عمار شداد، أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم يقول: إن اللَّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة
قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. وقال الترمذي:
واصطفى هاشما من قريش،
وقال: هذا حديث حسن غريب [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار عن واثلة
بن الأسقع قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه اصطفى من
ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني
كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح [ (1) ] .
وقد خرج الفسوي من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد ابن على أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن اللَّه اختار العرب، ثم اختار
منهم كنانة أو النضر بن كنانة، ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني
هاشم.
وهو حديث مرسل.
وله أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه
ابن الحرث بن نوفل، عن العباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: قلت: يا رسول
اللَّه إن قريشا إذا التقوا، لقي بعضهم بعضا بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا
بوجوه لا
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها بالشرح.
(3/204)
لا نعرفها!! فغضب رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم عند ذلك غضبا شديدا ثم قال: والّذي نفس محمد بيده، لا يدخل
الجنة قلب رجل الإيمان حتى يحبكم للَّه ولرسوله، وقلت:
يا رسول اللَّه، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في
كناس الأرض، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه عز وجلّ
يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم، ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين، ثم حين
جعل القبائل جعلني في خير قبيلة، ثم جعلني حين جعل البيوت في خير بيوتهم،
فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد
اللَّه بن الحرث عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت: يا رسول اللَّه! إن
قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كناسة الأرض، فقال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه خلق الخلق فجعلني من خير
فرقهم، وخير الفريقين، ثم خير القبائل، فجعلني في خير القبيلة، ثم في خير
البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا. انفرد به
الترمذي وقال: هذا حديث
__________
[ (1) ] ونحوه في أبواب المناقب من (سنن الترمذي) : 10/ 54 حديث رقم (3849)
، وقال فيه «فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض» ، أي كصفة نخلة نبتت
في كناسة من الأرض، والمعنى أنهم طعنوا في حسبك.
قال الجزري في (النهاية) : 4/ 145: كبا، فيه: «ما عرضت الإسلام على أحد إلا
كانت عنده له كبوة، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم» .
الكبوة: الوقفة كوقفة العاثر، أو الوقفة عند الشيء يكرهه الإنسان. ومنه
«كبا الزّند» إذا لم يخرج نارا.
ومنه حديث أم سلمة قالت لعثمان: «لا تقدح بزند كان رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم أكباها» ، أي عطّلها من القدح فلم يور بها.
وفي حديث العباس «قال: يا رسول اللَّه، إن قريشا جعلوا مثلك مثل نخلة في
كبوة من الأرض» قال شمر: لم نسمع الكبوة، ولكنا سمعنا الكبا، والكبة، وهي
الكناسة والتراب الّذي يكنس من البيت.
وقال الزمخشريّ في (الفائق) : 3/ 242: وعنه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قيل
له: أين ندفن ابنك؟ قال: عند فرطنا عثمان بن مظعون، وكان قبر عثمان عند كبا
بني عمرو بن عوف.
وقال أصحاب الفراء: الكبة المزبلة، وجمعها كبون، وأصلها كبوة، من كبوت
البيت إذا كنسته، وعلى الأصل جاء الحديث، إلا أن المحدّث لم يضبط الكلمة
فجعلها كبوة بالفتح، وإن صحت الرواية فوجهها أن تطلق الكبوة، وهي الكسحة،
على الكساحة.
(3/205)
حسن. وعبد اللَّه بن الحرث هو ابن نوفل [
(1) ] .
ورواه أبو نعيم عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد، فزاد في إسناده: المطلب ابن
أبي وداعة.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبد
اللَّه بن الحرث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال: قال العباس:
بلغه صلى اللَّه عليه وسلّم بعض ما يقول الناس، قال: فصعد المنبر فقال: من
أنا؟ فقالوا: أنت رسول اللَّه، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب،
إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير
فرقة، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا.
وقد خرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن
الحرث قال: حدثني المطلب بن ربيعة أن العباس دخل على رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم مغضبا وأنا عنده فقال: ما أغضبك؟ فذكر نحوه وقال: هذا
حديث حسن صحيح.
قال: ورواه جرير عن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحرث
عن المطلب بن ربيعة وهو الصواب. قال كاتبه: وهكذا رواه يزيد بن عطاء عن
يزيد بن أبي زياد
كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
[وخرج] [ (2) ] أبو بكر بن أبي شيبة من حديث ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد
عن عبد اللَّه بن الحارث، عن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب قال: بلغ النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم أن قوما نالوا منه وقالوا له: إنما مثل محمد كمثل
نخلة تنبت في كناس، فغضب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [و] [ (2) ]
قال: إن اللَّه خلق خلقه فجعلهم فرقتين، فجعلني في خير الفرقتين، ثم جعلهم
قبائل فجعلني في خيرهم قبيلا، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، ثم قال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني خيركم قبيلا وخيركم بيتا. قال
البيهقي:
كذا قال عن ربيعة بن الحرث، وقال غيره: عن المطلب بن ربيعة بن الحرث، وابن
ربيعة إنما هو عبد المطلب بن ربيعة له صحبة، وقد قيل: عن المطلب بن أبي
وداعة.
ثم ذكر حديث أبي نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا سفيان عن يزيد ابن أبي زياد
عن عبد اللَّه بن الحرث بن نوفل عن عبد المطلب بن أبي وداعة قال:
__________
[ (1) ] سبق الإشارة إليه وشرحه.
[ (2) ] زيادة للسياق.
(3/206)
قال العباس: بلغه بعض ما يقول الناس،
وفي رواية: عن عبد المطلب بن أبي وداعة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم- وبلغه بعض ما يقول الناس- فصعد المنبر فحمد اللَّه تعالى وأثنى
عليه وقال: من أنا؟ قالوا: أنت رسول اللَّه، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه
ابن عبد المطلب، إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين
فجعلني في خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا
فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا [ (1) ] .
وخرجه الإمام أحمد من حديث حسين بن محمد، حدثنا يزيد بن عطاء عن يزيد بن
عبد اللَّه عن عبد اللَّه بن الحرث بن نوفل عن عبد المطلب بن ربيعة بن
الحرث قال: أتى ناس من الأنصار النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: إنا
نسمع من قومك حتى يقول القائل منهم: إنما محمد مثل نخلة تنبت في كنا، قال:
حسين: الكنا، الكناسة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أيها
الناس! من أنا؟ قالوا: أنت رسول اللَّه، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه بن
عبد المطلب، قال: فما سمعناه ينتمي قبلها إلا أن اللَّه خلق خلقه فجعلني في
خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني
في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا
وخيركم نفسا [ (1) ] .
وخرجه الترمذي من حديث سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحرث،
عن عبد المطلب بن أبي وداعة قال: جاء العباس إلى رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم وكأنه سمع شيئا فقام النبي فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول
اللَّه، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، إن اللَّه خلق الخلق
فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فريقين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل
فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا.
انفرد به الترمذي وقال: هذا حديث حسن [صحيح غريب] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريج وشرح نظائر هذه الأحاديث على خلاف في السياقات لكن بنفس
المعنى.
[ (2) ] زيادة من رواية الترمذي، (تحفة الأحوذي) : 10/ 54- 55، حديث رقم
(3850) ، وسبق شرحه.
(3/207)
وللفسوي من حديث قيس عن الأعمش عن عباية بن
ربعي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: إن اللَّه عز وجل خلق الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسما، وذلك قوله:
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ [ (1) ] ، أَصْحابُ الشِّمالِ [ (2) ] ، فأنا من
أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين [أثلاثا] [ (3) ]
فجعلني في خيرهم ثلثا، فذلك قوله عزّ وجلّ:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [ (4) ] ، وَالسَّابِقُونَ [ (5) ] ، فأنا من
السابقين وأنا خير السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة،
وذلك قول اللَّه عز وجل: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ [ (6) ] ، فأنا [ (7) ] أتقى ولد آدم وأكرمهم على اللَّه ولا فخر،
ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرهم [ (8) ] ، بيتا، فذلك قوله عز وجل:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (9) ] ، فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب [
(10) ] .
وخرج البيهقي من حديث محمد بن ذكوان عن عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي
اللَّه تعالى عنهما: إنا لقعود بفناء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذ مرت [
(11) ] امرأة، فقال بعض
__________
[ (1) ] الواقعة: 38.
[ (2) ] الواقعة: 41، وفي (خ) : «وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال» ، وما
أثبتناه موافق للتنزيل.
[ (3) ] في (خ) : «ثلاثا» والتصويب من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] الواقعة: 8
[ (5) ] الواقعة: 10، وفي (خ) بين الآيتين قوله تعالى: وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ، والسياق يقتضي عدم إثباتها.
[ (6) ] الحجرات: 13
[ (7) ] في (دلائل البيهقي) : «وأنا» .
[ (8) ] في المرجع السابق: «في خيرها»
[ (9) ] الأحزاب: 33.
[ (10) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 1/ 170- 171، وقال: «فيه غرابة ونكارة»
.
ورواية عباية بن ربعي- من غلاة الشيعة- له عن علي: «أنا قسيم النار» ،
وحديث الصراط، قال الخريبي: «كنا عند الأعمش فجاءنا يوما وهو مغضب، فقال:
«ألا تعجبون من
موسى بن طريف يحدث عن عباية عن علي: «أنا قسيم النار» .
وذكره العقيلي في (الضعفاء الكبير) : 3/ 415، وقال: روى عنه موسى بن طريف،
كلاهما غاليان ملحدان.
[ (11) ] زيادة من (دلائل البيهقي) : 1/ 172.
(3/208)
القوم: هذه [ابنة] [ (1) ] رسول اللَّه،
فقال أبو سفيان: مثل محمد في نبي هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت
المرأة فأخبرت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فجاء يعرف في وجهه الغضب فقال:
ما بال أقوال تبلغني عن أقوام؟! إن اللَّه عز وجل خلق السموات سبعا، فاختار
العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق واختار من الخلق بني
آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا،
واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار،
فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث عبد الواحد، أنبأنا كريم بن وائل، حدثتني ربيبة النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم- زينب بنت أبي سلمة- قالت: قلت لها: أرأيت النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم أكان من مضر؟ قالت: فممّن كان إلا من مضر؟ من بني النضر
بن كنانة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «امرأة» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (2) ] سرده العقيلي في الضعفاء وقال: «لا يتابع عليه» ، ومن رواته يزيد
بن عوانة، عن محمد بن ذكوان، فيزيد بن عوانة، ضعّفه العقيلي، وسرد له
الحديث المنكر هذا، وقال: «لا يتابع عليه» . (الميزان) :
4/ 436، أما محمد بن ذكوان الأزدي الطائي اتفقوا على ضعفه، قال البخاري:
منكر الحديث.
وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال ابن حبان: سقط الاحتجاج به.
[ (3) ] أخرجه البخاري في أول كتاب المناقب، باب قول اللَّه تعالى: يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] ، وقوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ
كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1] وما ينهى عن نسب الجاهلية، حديث رقم:
(3491) ، حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا كليب ابن وائل قال:
حدثتني ربيبة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم زينب ابنة أبي سلمة قال: «قلت
لها: أرأيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أكان من مضر؟ قالت: فمن كان إلا من
مضر؟ من بني النضر بن كنانة» .
وحديث رقم (3492) ، حدثنا موسى، حدثنا عبد الواحد، حدثنا كليب، حدثتني
ربيبة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم- زينب- قالت: «نهى رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم عن الدّباء، والختم، والمقيّر، والمزفّت.
وقلت لها:
أخبريني، النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ممن كان، من مضر كان؟ قالت: فممن كان
إلا من مضر؟ كان من ولد النضر بن كنانة» .
قوله: «مضر» ، هو ابن نزار بن معد بن عدنان. والنسب ما بين عدنان إلى
إسماعيل بن إبراهيم مختلف فيه كما سيأتي، وأما من النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم إلى عدنان فمتفق عليه. وقال ابن سعد في (الطبقات) :
حدثنا هشام بن الكلبي قال: «علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم فقال: محمد بن عبد اللَّه
(3/209)
ولأبي داود الطيالسي من حديث حماد بن سلمة
عن عقيل بن طلحة السلمي عن مسلم بن هيضم عن الأشعث بن قيس قال: قلت: يا
رسول اللَّه، إنا نزعم أنا منكم أو أنكم منا؟ فقال: نحن من بني النضر بن
كنانة، لا ننتفي من أبينا ولا نقفوا أمنا،
قال: فقال الأشعث: لا أوتي برجل نفي رجلا من قريش من النّضر بن كنانة، إلّا
جلدته ...
__________
[ () ] ابن عبد المطلب- وهو شيبة الحمد- بن هاشم- واسمه عمرو- بن عبد مناف
واسمه المغيرة بن قصي واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن
فهر وإليه جماع قريش» .
«وما كان فوق فهر فليس بقرشيّ بل هو كناني، ابن مالك بن النضر واسمه قيس بن
كنانة بن خزيمة بن مدركة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر.
وروى الطبراني بإسناد جيد، عن عائشة قالت: «استقام نسب الناس إلى معد بن
عدنان» . ومضر بضم الميم وفتح المعجمة، يقال: سمي بذلك لأنه كان مولعا بشرب
اللبن الماضر، وهو الحامض، وفيه نظر لأنه يستدعي أنه كان له اسم غيره قبل
أن يتصف بهذه الصفة، نعم يمكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متصفا
به حال التسمية، وهو أول من حدا الإبل.
وروى ابن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال: «مات عدنان، وأبوه، وابنه معد،
وربيعة، ومضر، وقيس، وتميم، وأسد وضبّة، على الإسلام على ملة إبراهيم عليه
السلام.
وروى الزبير بن بكار من وجه آخر، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: «لا تسبوا
مضر ولا ربيعة، فإنّهما كانا مسلمين» ، ولابن سعد من مرسل عبد اللَّه بن
خالد، رفعه: «لا تسبوا مضر فإنه كان قد أسلم» .
قوله: «من بني النضر بن كنانة» ،
أي المذكور، وروى أحمد وابن سعد، من حديث الأشعث ابن قيس الكندي قال: «قلت:
يا رسول اللَّه، أنّا نزعم أنكم منا- يعني من اليمن- فقال: نحن بنو النضر
بن كنانة» . وروى ابن سعد من حديث عمرو بن العاص، بإسناد فيه ضعف مرفوعا
«أنا محمد بن عبد اللَّه، وانتسب حتى بلغ النضر بن كنانة، قال: فمن قال غير
ذلك فقد كذب» .
وإلى النضر تنتهي أنساب قريش، وسيأتي بيان ذلك في الباب الّذي يليه [من
أبواب البخاري] ، وإلى كنانة منتهي أنساب أهل الحجاز.
وقد روى مسلم من حديث واثلة مرفوعا: «إن اللَّه اصطفي كنانة من ولد
إسماعيل، واصطفي من كنانة، قريشا، واصطفي من قريش بني هاشم، واصطفاني من
بني هاشم» .
ولابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر: ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار
بني عبد المطلب من بني هاشم.
قوله: «وأظنها زينب» كأن قائله موسي، لأن قيس بن حفص في الرواية التي قبلها
قد جزم بأنها زينب، وشيخهما واحد. لكن أخرجه الإسماعيلي من رواية حبان بن
هلال، عن عبد الواحد وقال:
لا أعلمها إلا زينب، فكأن الشك فيه من شيخهم عبد الواحد، كان يجزم بها
تارة، ويشك تارة أخرى.
(3/210)
الحد [ (1) ] .
وقال أبو محمد عبد اللَّه بن محمد بن ربيعة القدامي: حدثنا مالك بن أنس عن
الزهري عن أنس بن مالك وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام قال:
بلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن رجالا من كندة يزعمون [أنه] [ (2) ]
منهم، فقال: «إنما كان يقول [ذاك] [ (3) ] العباس وأبو سفيان بن حرب إذا
قدما المدينة ليأمنا بذلك، وإنا لن ننتفي من آبائنا، نحن [بنو] [ (4) ]
النضر بن كنانة، قال: وخطب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنا
محمد بن عبد اللَّه، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، ابن قصي، بن
كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤيّ، بن غالب، بن فهر، ابن مالك، بن النضر، بن
كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، ابن مضر، ابن نزار» ، وما افترق
الناس فريقين إلا جعلني [اللَّه] [ (5) ] في خيرهما، فأخرجت [من] [ (5) ]
بين أبوين فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية، خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح،
من لدن آدم حتى [انتهيت] [ (6) ] ، إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفسا وخيركم
أبا.
قال البيهقي: تفرد به أبو محمد عبد اللَّه بن محمد بن ربيعة
__________
[ (1) ]
أخرجه ابن ماجة في (السنن) ، كتاب الحدود، باب (37) من نفي رجلا من قبيلته،
حديث رقم (2612) ولفظه: عن مسلم بن الهيضم، عن الأشعث بن قيس، قال: أتيت
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في وفد كندة، ولا يروني إلا أفضلهم.
قلت: يا رسول اللَّه! ألستم منا؟ فقال: «نحن بنو النضر ابن كنانة، لا نقفوا
أمنا ولا ننتفي من أبينا» ،
قال: فكان الأشعث بن قيس يقول: لا أوتي برجل نفي رجلا من قريش ومن النضر بن
كنانة إلا جلدته الحدّ.
قال في (الزوائد) : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، لأن عقيل بن طلحة وثّقه
ابن معين والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد على شرط
الإمام مسلم.
وقال في (النهاية) : «لا نقفوا أمّنا» ، أي لا نتّهمها ولا نقذفها، يقال:
قفا فلان فلانا: إذا اتهمه بما ليس فيه. وقيل معناه: لا نترك النسب إلى
الآباء، وننتسب إلى الأمهات. (سنن ابن ماجة) : 2/ 871. وفي (خ) : «ولا
نقثوا من أمنا» ، وهو خطأ من الناسخ وما أثبتناه من المرجع السابق ومن
المرجع التالي.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 276، حديث رقم (21332) بنحوه
سواء.
[ (2) ] في (خ) : «أنهم» .
[ (3) ] في (خ) : «ذلك» .
[ (4) ] في (خ) : «بني» .
[ (5) ] زيادة من (دلائل البيهقي) .
[ (6) ] في (خ) : «أتيت» والتصويب من المرجع السابق.
(3/211)
القدامي، وله عن مالك وغيره أفراد لم تتابع
عليها.
قال كاتبه: قال ابن عدي: عن عبد اللَّه بن محمد بن ربيعة بن قدامة بن مظعون
أبو محمد المصيصي [ (1) ] ، عامة أحاديثه غير محفوظة، وهو ضعيف على ما تبين
لي من رواياته واضطرابه، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما.
وخرج البخاري من حديث قتيبة بن سعيد، أنبأنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو
عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال: بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الّذي كنت فيه.
ذكره في باب صفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
وخرج البيهقي من حيث عمرو بن عبد اللَّه بن نوفل عن الزهري عن أبي سلمة عن
عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: [قال] لي
جبريل عليه السلام:
قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الأرض
مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث شعبة، حدثني عبد الملك عن طاووس عن ابن عباس [في قوله
تعالي] : إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، قال: فقال سعيد بن جبير:
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن محمد بن ربيعة القدامي من أهل المصيصة، كان يقلب
الأخبار، قلب على مالك أكثر من مائة حديث وخمسين حديثا، ذكره ابن حبان في
(المجروحين) : 2/ 39. (دلائل النبوة البيهقي) : 174- 175.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 701، كتاب المناقب، باب (23) صفة النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3557) . ورواية البيهقي: «كنت فيه» .
قوله: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا» ،
القرن الطبقة من الناس المجتمعين في عصر واحد، ومنهم من حدّه بمائة سنة،
وقيل بسبعين، وقيل بغير ذلك. فحكى الحربي الاختلاف فيه من عشرة إلى مائة
وعشرين، ثم تعقب الجميع وقال: الّذي أراه أن القرن كل أمة هلكت حتى لم يبق
منها أحد. وقوله: «قرنا» بالنصب على الحال للتفصيل. وفي رواية الإسماعيلي:
«حتى بعثت من القرن الّذي كنت فيه» . (المرجع السابق) ، (دلائل البيهقي) :
1/ 175.
[ (3) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 1/ 176، وتعقّبه بقوله: «قال أحمد: هذه
الأحاديث وإن كان في روايتها من لا تصح به، فبعضها يؤكد بعضا، ومعني جميعها
يرجع لما روينا عن واثلة بن الأسقع وأبي هريرة.
واللَّه تعالي أعلم.
(3/212)
قربي محمد، فقال: إن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم لم يكن بطن [ (1) ] من قريش إلا وله فيه قرابة، فنزلت [عليه] [ (2) ]
فيه إلا أن تصلوا قرابة بيني وبينكم. ذكره في باب قوله تعالي:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [ (3) ] .
وخرجه في التفسير من حديث شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، سمعت طاووسا يقول:
عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد
__________
[ (1) ] في (خ) : «في بطن» .
[ (2) ] زيادة من (البخاري) .
[ (3) ]
(فتح الباري) : 6/ 652، حديث رقم: (3497) ، ونحوه حديث رقم: (4818) ، حدثني
محمد بن بشّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال:
سمعت طاووسا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه سئل عن قوله: إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، فقال سعيد بن جبير: قربي آل محمد صلى اللَّه
عليه وسلّم، فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لم يكن
بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من
القرابة» .
قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، ذكر فيه حديث طاووس «عن ابن
عباس، سئل عن تفسيرها، فقال سعيد بن جبير: قربي آل محمد، فقال ابن عباس:
«عجلت» أي أسرعت في التفسير، وهذا الّذي جزم به سعيد بن جبير، قد جاء عنه
من روايته عن ابن عباس مرفوعا، فأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق قيس بن
الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت قالوا: يا
رسول اللَّه، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ .. الحديث، وإسناده ضعيف،
وهو ساقط لمخالفته هذا الحديث الصحيح.
والمعني: إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش خاصة، والقربى
قرابة العصوبة والرحم، فكأنه قال: احفظوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة.
وقد جزم بهذا التفسير جماعة من المفسرين، واستندوا إلى ما ذكرته عن ابن
عباس من الطبري وابن أبي حاتم، وإسناده واه فيه ضعيف ورافضي.
وذكر الزمخشريّ هنا أحاديث ظاهر وضعها، وردّه الزجاج بما صح عن ابن عباس من
رواية طاووس.
وقد روى سعيد بن منصور من طريق الشعبي قال: أكثروا علينا في هذه الآية
فكتبت إلى ابن عباس أسأله عنها، فكتب: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم كان واسط النسب في قريش، لم يكن حيّ من أحياء قريش إلا ولده، فقال
اللَّه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبى تودوني بقرابتي منكم، وتحفظوني في ذلك.
وقوله: القربى، هو مصدر، كالزلفى والبشرى، بمعني القرابة، والمراد في أهل
القربى، وعبّر بلفظ في دون اللام كأنه جعلهم مكانا للمودة ومقرا لها، كما
يقال: في آل فلان هوى، أي هم مكان هواي، ويحتمل أن تكون في سببية، وهذا على
أن الاستثناء متّصل، فإن كان منقطعا فالمعني لا أسألكم عليه أجرا قط، ولكن
أسألكم أن تودوني بسبب قرابتي فيكم. (فتح الباري) : 8/ 724- 726 باختصار من
شرح الحديث رقم (4818) من كتاب التفسير.
(3/213)
ابن جبير: قربي آل محمد، فقال ابن عباس:
[عجلت] [ (1) ] إن رسول اللَّه [ (2) ] صلى اللَّه عليه وسلّم لم يكن [بطن]
[ (3) ] من قريش إلا كان له [فيهم] [ (4) ] قرابة: إلا أن تصلوا [ (5) ] ما
بيني وبينكم من القرابة.
وخرج أبو نعيم من حديث ورقاء بن عمر عن ابن أبي نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن
عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لم يلتق أبواي على سفاح،
لم يزل اللَّه ينتقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذبا،
ولا يتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما [ (6) ] .
وخرج البيهقي في سننه من حديث هشيم، حدثنا الملالي أو المليلي، أو كما قال
عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية، ما ولدني إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام [ (7)
] .
قال أبو نعيم: ووجه الدلالة في هذه الفضيلة أن النّبوّة ملك وسياسة عامة،
وذلك قوله تعالي: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [ (8) ] ، والملك في ذوي الأحساب والأخطار
من الناس، وكلما كانت خصال فضله أوفر كانت الرعية بالانقياد له أسمع، وإلى
طاعة مطيعة أسرع.
__________
[ (1) ] في (خ) : «علمت» .
[ (2) ] في (خ) : «إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم» .
[ (3) ] في (خ) : «بطنا» .
[ (4) ] في (خ) : «فيهم» .
[ (5) ] في (خ) : «تصلوا قرابة ما بيني وبينكم من القرابة» والتصويبات
السابقة من رواية المرجع السابق.
[ (6) ]
أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 57، الفصل الثاني، ذكر فضيلته صلى
اللَّه عليه وسلّم بطيب مولده وحسبه ونسبه، حديث رقم (15) ، ولفظه: حدثنا
محمد بن سليمان الهاشمي قال: أحمد بن محمد بن سعيد المروزي قال: حدثنا محمد
بن عبد اللَّه، حدّثني أنس بن محمد قال: حدثنا موسي بن عيسى قال:
حدثنا يزيد بن أبي حكيم، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: «لم يلتق أبواي في سفاح، لم يزل اللَّه عزّ وجلّ ينقلني
من أصلاب طيبة إلى أرحام طاهرة صافيا مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في
خيرهما» . قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 93، أخرجه أبو نعيم من طرق عن ابن
عباس رضي اللَّه عنهما.
[ (7) ] أخرجه البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 190، باب نكاح أهل الشرك
وطلاقهم.
[ (8) ] النساء: 54.
(3/214)
وإذا كان في الملك وتوابعه نقيصة، نقص عدد
أتباع رعيته، ففي اختيار اللَّه له صلى اللَّه عليه وسلّم أن أمده بكل ما
بالملوك إليه حاجة، ليدعو الناس إلى اتباعه، ولذلك قال قوم شعيب: ما
نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً
وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [ (1) ] الآية. وقال فرعون لموسى: أَنَا
خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [ (2) ] ،
فأزرى فرعون به ليثبط بذلك القوم عن اتباعه، حتى شكا موسي إلى اللَّه تعالي
وسأله أن يحل العقدة عن لسانه ليفقهوا قوله، وقال: وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [ (3) ]
، فدل ذلك على أن الملك لا يجعل إلا في أهل الكمال والمهابة، وهاتان
الخصلتان لا توجدان في غير ذوي الأحساب.
فجل اللَّه تعالي لنبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم من الحظوظ أوفرها، ومن
السهام أوفاها وأكثرها، ولذلك
قال عليه السلام فأنا من خيار إلى خيار،
وجعله أيضا من أفضل البقاع مولدا ومسكنا ومخرجا، وهي البقعة التي افترض
اللَّه على جميع الموحدين من المستطيعين حجّها، فكان بهذا أيضا أفضلهم نفسا
وحسبا ودارا صلى اللَّه عليه وسلّم، ولذلك سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن
حسبه فقال: كيف حسبه فيكم؟ فقال: هو من أوسطنا حسبا، فقال له هرقل: كذلك
الأنبياء.
***
__________
[ (1) ] هود: 91.
[ (2) ] الزخرف: 52.
[ (3) ] القصص: 34.
(3/215)
وأما أنّ أسماءه خير الأسماء
فقد تقدم أنه محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب والفاتح والخاتم والمقفى
ونبي التوبة، ونبي الملحمة، ونبي الرحمة [ (1) ] .
قال أبو نعيم: وفيما تضمنه اسمه الماحي والحاشر ونبي الرحمة والملحمة من
معان لطيفة، وفوائد جليلة، فإن الماحي إذا جرى على اللفظ المفسر في الخبر
أن اللَّه يمحو به الكفر، كان ذلك دلالة وبشارة بكثرة الفتوح وانتشار ضياء
الإسلام في الأرضيين وصفحتيها شرقا وغربا، وأن سلطان الإسلام يكون غالبا،
وسلطان الكفر دارسا عافنا، وذلك يرجع إلى معنى قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ (2) ] ، وليس معنى المحو أن يحسم الكفر أصلا حتى
لا يوجد في الأرض كافرا، بل معناه أن يكونوا مقهورين باعتلاء المسلمين
عليهم، حتى تكون الأقضية والأحكام والحل والعقد للمسلمين دونهم، وأن الكفار
مغمورون خاملون، خاملو الذكر ساقطو الصيت والكلام، أما الذمة عقدت عليهم
بصغار الجزية، وإما لخوفهم من سيوف الإسلام فيهم غزوا وجهادا، وهذا سائغ
بين أهل اللسان والبيان، أن معنى المحو مرجعه إلى الخمول والكتمان، ويريدون
بالمحو سقوطه وخموله لظهور العالمين والقاهرين عليهم، ومعنى المحو إن أضيف
إليه صلى اللَّه عليه وسلّم فلإجراء اللَّه ذلك على يديه، فأضيف إليه كما
أن الهداية مضافة إليه صلى اللَّه عليه وسلّم والهادي هو اللَّه، فكذلك
الماحي في
__________
[ (1) ]
أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب (17) ما جاء في أسماء رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه عزّ وجلّ:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ [الفتح: 29] ، وقوله: مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6]
، حديث رقم (3532) ، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «ولي خمسة
أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا
الحاشر الّذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» . (فتح الباري) : 6/ 688،
(المرجع السابق) : 8/ 826، حديث رقم (4896 بنحوه.
[ (2) ] الفتح: 28، الصف: 9.
(3/216)
الحقيقة هو اللَّه تعالى القاهر، فأضاف ذلك
إلى الرسول عليه السلام، إذ جرى ذلك على يده بتمكين اللَّه تعالى له،
وتسليطه على من كذبه وجحده، وهذه بشارة قد تحقق صدقها فيه لظهور المسلمين
وعلوهم على من خالفهم، فتحققت الدلالة وللَّه الحمد.
ومعنى الحاشر على ما روى الخبر: أنه الّذي يحشر الناس على قدمه، أي لا نبوة
بعده، وأن شريعته قائمة ثابتة إلى قيام الساعة، اهتدى بها من اهتدى، أو ضلّ
عنها من ضلّ.
ومعنى نبي الرحمة مثل قوله: إنما أنا رحمة مهداة، فبعثته من اللَّه رحمة،
هدى بها من شاء رحمته وهداه، وسمى كالمطر المسمى رحمة، لأن اللَّه يرحم
عباده بالمطر فيسوق إليهم بالمطر الخيرات، ويوسع عليهم بها النبات
والأقوات، ولا يوجب هذا الاسم أن اللَّه رحم به كل المدعوين من عباده، وذلك
إنما يجري اللَّه على لسانه من الدعاء والبيان، وإن كان رحمة فصورته كعطية
من قبلها فاز بنفعها، ومن تركها وردّها حرم نفعها ووجب عليه العقاب.
قال كاتبه ويؤيد هذا ما رواه البيهقي من حديث السعودي عن سعيد بن أبي سعيد
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (1) ] ، قال: من آمن باللَّه ورسوله تمت له
الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن باللَّه ورسوله عوفي مما كان يصيب
الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف والمسخ والقذف، فتلك الرحمة في
الدنيا.
قال أبو نعيم: ومعنى نبي الرحمة: فهو إعلام منه يكون بعده وفي زمانه من
الحروب والجهاد، والقتل والسبي. ومعنى الرحمة في إرساله: أن اللَّه تعالى
لم يعجل معجزته ودلائله كدلائل الماضين قبله من الأنبياء، وذلك أن الماضين
من الأمم كانوا يقترحون على أنبيائهم ويتحكمون عليهم بالآيات على حسب
شهوتهم واقتراحهم، فكان دأب اللَّه فيهم الاصطلام إذ لم يؤمنوا بها كقوله
لما اقترحوا على عيسى المائدة:
__________
[ (1) ] الأنبياء: 106.
(3/217)
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها
عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً
لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [ (1) ] ، واقتدي بهم المشركون
فسألوا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الآيات اقتراحا وتحكما، كقولهم: اجعل
الصفا لنا ذهبا، وأحيي لنا قصيا، وسيّر جبالنا لتتسع مزارعنا، وائتنا
بالملائكة إن كنت من الصادقين، وأنزل علينا كتابا نقرؤه، فأنزل اللَّه
تعالى ردا عليهم: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ
قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ
الْأَمْرُ جَمِيعاً [ (2) ] ، وقال: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا
بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [ (3) ] فجعل اللَّه تعالى
لرحمته بهم الآية الباقية مدة الدنيا له صلى اللَّه عليه وسلّم القرآن
المعجز، وتحدى به أرباب اللغة واللسان أن يأتوا بمثله أو بسورة أو بآية
مثله، فباءوا بالعجز عن معارضته مع تمكينهم من أصناف الكلام نظما ونثرا
ورجزا وسجعا، وكان القرآن معجزة له صلى اللَّه عليه وسلّم كإبراء الأكمه
وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام مع تقدم قومه بصناعة الطب، وكقلب العصا
حيّة لموسى وفلق البحر مع تمكن قوم فرعون وحذقهم بالسّحر.
فكان من رحمة اللَّه بهذه الأمة أن جعل أظهر دلائل نبوة محمد صلى اللَّه
عليه وسلّم القرآن الّذي يعلم صدقه بالاستدلال الّذي تعرض فيه الشبهة
والشكوك، لكنه لا يستأصل القوم المنكرون له كما استؤصل قوم صالح لما كفروا
بالناقة، وقوم موسى بانفلاق البحر، وتلقف العصا حبالهم وعصيهم.
وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ
إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [
(4) ] ، المعنى: أن إرادتنا لاستبقاء المقترحين للإيمان منعا من إرسال
الآيات التي اقترحوها بها، لعلمنا بأنا نخرج من أصلابهم من يؤمن، وإن من
سبق له منا الرحمة بالإيمان فقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرى [ (5) ] ، فدعاهم إلى التفكر والتذكر في القرآن الّذي
هو من
__________
[ (1) ] المائدة: 115.
[ (2) ] الرعد: 31.
[ (3) ] الحجر: 8.
[ (4) ] الإسراء: 59.
[ (5) ] العنكبوت: 51.
(3/218)
جنس ما يعرفونه ويتعاطونه من الفصاحة
والبيان.
أبان بعد هذا وجه الرحمة في تسمية اللَّه رسوله نبي الرحمة، ونبي الملحمة،
والحاشر، وإن الكتاب المعجز باق عندهم بقاء الدهر، كما قال: وَأُوحِيَ
إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ (1) ] ، فمن
بلغ وقبل فاز ونجا، ومن رده وكذب به قوتل، ونصبت بينه القتال والملحمة حتى
ينقاد لشريعته، أو يقتل لسوء اختياره، فتتم الرحمة بهذه المعاملة، ويعرف
فضل هذه الأمة على غيرها بإزالة الاستئصال والاصطلام الواقعة بغيرها من
الماضين من الأمم.
وذكر من طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي، عن عبيد اللَّه بن عطاء بن إبراهيم
عن جدته: أم عطاء- مولاة الزبير بن العوام- قالت: سمعت الزبير بن العوام
يقول: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (2) ] ، صاح رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على أبي قبيس: يا بني عبد مناف، إني نذير
لكم، فجاءت قريش فحذرهم وأنذرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك، وأن
سليمان سخر له الجبال والريح، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحي
الموتى، فادع اللَّه أن يسيّر عنا الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا، فنتخذها
محارث فنزرع ونأكل، وإلا فادع اللَّه بأن يحي لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا،
وإلا فادع اللَّه أن يصير هذه الصخرة التي تحتك ذهبا، فنبحث عنها وتغنينا
عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم، قال: فبينا نحن حوله إذ نزل
عليه الوحي، فلما سري عنه قال: والّذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو
شئت لكان، ولكن خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وبين أن
يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة فلا يؤمن منكم أحد،
فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أنه
يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فنزلت:
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ [ (3) ] ، فقرأ ثلاث آيات
فنزلت: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ
بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الأنعام: 19.
[ (2) ] الشعراء: 214.
[ (3) ] الإسراء: 59.
[ (4) ] الرعد: 31.
(3/219)
وخرج الحاكم من حديث معمر عن قتادة أنه تلا
هذه الآية: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [
(1) ] ، فقال: قال أنس: ذهب رسول اللَّه وبقيت النقمة، ولم يرى اللَّه نبيه
في أمته شيئا يكرهه حتى مضى صلى اللَّه عليه وسلّم، ولم يكن نبي من
الأنبياء عليهم السلام إلا قد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى اللَّه
عليه وسلّم. قال الحاكم: صحيح الإسناد.
***
__________
[ (1) ] الزخرف: 41.
(3/220)
وأما قسم اللَّه تعالى بحياته صلى اللَّه
عليه وسلّم
فقد قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ (1)
] ، وإنما يقع القسم بالمعظم وبالمحبوب، قوله: لَعَمْرُكَ [ (2) ] ، أصله
ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال، ومعناه: وبقائك يا محمد،
وقيل: وحياتك. قال القاضي أبو بكر محمد بن العربيّ [ (3) ] : قال المفسرون
بأجمعهم: أقسم اللَّه تعالى
__________
[ (1) ] الحجر: 72.
[ (2) ] الحجر: 72.
[ (3) ] فيها ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم اللَّه هنا بحياة محمد صلى
اللَّه عليه وسلّم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم
يتردّدون، قالوا: روى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال: ما خلق اللَّه
وما ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وما سمعت
اللَّه أقسم بحياة أحد غيره، وهذا كلام صحيح.
ولا أدري ما الّذي أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمد صلى اللَّه عليه وسلّم،
وما الّذي يمنع أن يقسم بحياة لوط، ويبلغ به من التشريف ما شاء؟ فكل ما
يعطى اللَّه للوط من فضل، ويؤتيه من شرف، فلمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم
ضعفاه، لأنه أكرم على اللَّه منه، أولا تراه قد أعطى لإبراهيم الخلّة،
ولموسى التكليم، وأعطى ذلك لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فإذا أقسم اللَّه
بحياة لوط، فحياة محمد أرفع، ولا يخرج من كلام إلى كلام آخر غيره لم يجر له
ذكر لغير ضرورة.
المسألة الثانية: قوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ، أراد به
الحياة والعيش، يقال: عمر، وعمر بضم العين وفتحها لغتان، وقالوا: إن أصلها
الضم، ولكنها فتحت في القسم خاصة لكثرة الاستعمال، والاستعمال إنما هو غير
القسم، فأما القسم فهو بعض الاستعمال، فلذلك صارا لغتين، فتدبروا هذا.
المسألة الثالثة: قال أحمد بن حنبل: من أقسم بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم
لزمته الكفارة، لأنه أقسم بما لا يتم الإيمان إلا به، فلزمته الكفارة، كما
لو أقسم باللَّه تعالى.
وقدّمنا أن اللَّه تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وليس لخلقه أن يقسموا إلا
به،
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف باللَّه أو ليصمت» ،
فإن أقسم بغيره فإنه آثم، أو قد أتى مكروها على قدر درجات القسم وحاله.
وقد قال مالك: إن المستضعفين من الرجال والمؤمنين منهم، يقسمون بحياتك
وبعيشتك، وليس من كلام أهل الذكر، وإن كان اللَّه أقسم به في هذه القصة،
فذلك بيان لشرف المنزلة، وشرف المكانة، فلا يحمل عليه سواه، ولا يستعمل في
غيره.
وقال قتادة: هو من كلام العرب، وبه أقول، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال،
وردّ القسم إليه. (أحكام القرآن لابن العربيّ) : 3/ 1130- 1131.
(3/221)
بحياة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم تشريفا
له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون. وقال القاضي
عياض [ (1) ] : اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من اللَّه تعالى بمدة حياة
محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، ومعناه: وبقائك يا محمد، وقيل: وعيشتك، وقيل:
وحياتك، وهذه نهاية التعظيم، وغاية البر والتشريف.
وخرج الحرث بن أبي أسامة من حديث عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء عن
ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: ما خلق اللَّه وما ذرأ نفسا أكرم على
اللَّه من محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وما سمعت أن اللَّه أقسم بحياة أحد
إلا بحياته فقال:
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ (2) ] ، وفي رواية:
ما حلف اللَّه بحياة أحد قط إلا بمحمد فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ (2) ] ، وقال أبو الجوزاء: ما أقسم اللَّه
بحياة أحد غير محمد لأنه أكرم البرية عنده، وقال ابن عقيل الحنبلي: وأعظم
من قوله لموسى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [ (3) ] ، وقوله لمحمد صلى
اللَّه عليه وسلّم: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ
اللَّهَ [ (4) ] ، وقوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ
حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [ (5) ] ، المعنى: أقسم لا بالبلد، فإن أقسمت
بالبلد فلأنك فيه. قال ابن الجوزي: أقسم تعالى بتراب قدم محمد صلى اللَّه
عليه وسلّم فقال:
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [ (5) ] ،
قال ابن عقيل: وقال تعالى:
يا موسى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [ (6) ] ، أي ولا تجيء إلا ماشيا، ومحمد ركب
البراق ولا يجيء إلا راكبا.
وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: أقسم اللَّه بحياته ثم زاده شرفا فأقسم
بغبار رجليه فقال تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً [ (7) ] ، الآية [ (8) ] ،
وقال أبو نعيم:
__________
[ (1) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 25، الفصل الرابع في قسمه تعالى
بعظيم قدره صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] الحجر: 72.
[ (3) ] طه: 41.
[ (4) ] الفتح: 10.
[ (5) ] البلد: 1.
[ (6) ] طه: 12.
[ (7) ] العاديات: 1.
[ (8) ] (أحكام القرآن لابن العربيّ) : 4/ 1973، سورة العاديات، قال: أقسم
اللَّه بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وأقسم بحياته فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، وأقسم بخيله، وصهيلها، وغبارها، وقدح
حوافرها النار من الحجر، فقال: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً* فَالْمُورِياتِ
قَدْحاً* فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ
بِهِ جَمْعاً العاديات: 1- 5.
(3/222)
والمعنى في هذا، أن المتعارف بين العقلاء:
أن الإقسام لا يقع إلا على المعظمين والمبجلين، فتبين بهذا جلالة الرسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وتعظيم أمره وما شرع اللَّه تعالى على لسانه
من الشرائع، وتنبيهه عباده على وحدانيته، ودعائه إلى الإيمان به، وعرفت
جلالة نبوته ورسالته بالقسم الواقع على حياته، إذ هو أعز البرية وأكرم
الخليقة صلى اللَّه عليه وسلّم.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ (1) ] قال: هو
قسم وهو من أسماء اللَّه. وعن كعب يس* [ (1) ] قسم أقسم اللَّه به قبل أن
يخلق السموات والأرض بألفي عام يا محمد إنك لمن المرسلين، ثم قال:
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [ (2) ] ، قال
القاضي عياض: ومؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه، وإن كان بمعنى النداء،
فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته، أقسم اللَّه تعالى
باسمه، وكني به أنه من المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من
إيمانه، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق.
وقال النقاش: لم يقسم اللَّه تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا
له صلى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
***
__________
[ (1) ] يس: 1- 2.
[ (2) ] يس: 2، 3.
[ (3) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 26.
(3/223)
وأما تفرده بالسيادة
يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه
قال تعالى: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ (1) ] ، روي عن جعفر بن محمد أنه
قال: أراد اللَّه (يا سيد) مخاطبة لنبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
فخرج مسلم من حديث الأوزاعي قال: حدثني أبو عمار قال: حدثني عبد اللَّه بن
فروخ قال: حدثني أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم.
أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول
مشفع.
وخرج الترمذي من حديث سفيان عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال:
قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة
ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ [من] ، آدم فمن تحته
إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر.
.. الحديث. قال: أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أبي
نضرة عن ابن عباس..
الحديث بطوله [ (2) ] .
وله من حديث عبد السلام بن حرب عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس ابن مالك
قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول الناس خروجا إذا
بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا يأسوا، لواء الحمد يومئذ
بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وخرج بقي بن مخلد من حديث سفيان عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي
هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: فضلت
بخصال ست لا أقولهن فخرا، لم يعطهنّ أحد قبلي: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما
تأخر، وأخرجت لي
__________
[ (1) ] يس: 1، 2.
[ (2) ] سبق تخريج وشرح هذه الأحاديث ونحوها وشواهدها.
(3/224)
خير الأمم، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد
قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب. والّذي
نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه [
(1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث معمر بن راشد عن محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب عن
بشر بن شغاف، عن عبد اللَّه بن سلام قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق الأرض عنه ولا
فخر، وأول شافع ومشفع، لواء الحمد بيدي يوم القيامة، تحتى آدم فمن دونه [
(1) ] .
وله من حديث أبي معمر إسماعيل بن إبراهيم القطيعي قال: أنبأنا عبد اللَّه
ابن جعفر عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم قال: أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيد
ولد آدم ولا فخر، وأنا صاحب لواء الحمد بيدي ولا فخر، وأنا أول من يدخل
الجنة ولا فخر، آخذ بحلقة باب الجنة فيؤذن لي فيستقبلني وجه الجبار تعالى
فأخرّ له ساجدا فيقول:
يا محمد ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: رب أمتي [ (2) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريج وشرح هذه الأحاديث ونحوها وشواهدها.
[ (2) ]
أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 479- 480، باب ما جاء في تحدّث رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بنعمة ربه عزّ وجلّ لقوله تعالى: وَأَمَّا
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، وما جاء في خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم
على طريق الاختصار: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد
بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث بن
سعد، عن يزيد بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس قال: سمعت النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم يقول: «إني أول الناس تنشق الأرض عن جبهتي يوم القيامة
ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر،
وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا آتي باب الجنة فآخذ
بحلقيها فيقولون: من هذا؟ فأقول: أنا محمد، فيفتحون لي، فأجد الجبّار فأسجد
له، فيقول: ارفع رأسك يا محمد، وتكلم يسمع منك، وقل يقبل منك، واشفع تشفّع،
فأرفع رأسي فأقول: أمّتي، أمّتي يا رب، فيقول: اذهب إلى أمتك، فمن وجدت في
قلبه مثقال حبة من شعير من الإيمان فأدخله الجنة» .
وذكر الحديث فيمن كان في قلبه نصف حبّه من شعير، ثم حبّة من خردل، ثم في
إخراج كل من كان يعبد اللَّه لا يشرك به شيئا.
وزاد الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 610: «وفرغ اللَّه من حساب الناس وأدخل
من بقي من أمتي النار مع أهل النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم
كنتم تعبدون اللَّه عزّ وجلّ لا تشركون به شيئا» ، فيقول الجبار عزّ وجلّ:
فبعزتي لأعتقنهم من النار، فيرسل إليهم فيخرجون وقد
(3/225)
وله من حديث ليث بن أبي سليم عن أبي إسحاق
عن صلة عن حذيفة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: أنا سيد الناس يوم
القيامة، يدعوني ربي فأقول: لبيك وسعديك [تباركت لبيك] [ (1) ] وحنانيك،
[والمهدي] [ (2) ] من هديت وعبدك بين يديك، [لا ملجأ ولا منجأ] [ (3) ] منك
إلا إليك، تباركت رب البيت [ (4) ] . [قال: وإن قذف المحصنة ليهدم عمل مائة
سنة] [ (5) ] .
ومن حديث خديج عن أبي إسحاق عن صلة، عن حذيفة قال: قال أصحاب رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم: إبراهيم خليل اللَّه، وموسى كلمه اللَّه تكليما،
وعيسى كلمة اللَّه وروحه، فما أعطيت يا رسول اللَّه؟ قال: ولد آدم كلهم تحت
رايتي، فأنا أول من يفتح له باب الجنة.
ومن حديث سلام بن سليم عن عبد اللَّه بن غالب عن حذيفة قال: قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد الناس يوم القيامة [ (6) ] .
وفي رواية روح بن مسافر عن أبي إسحاق
__________
[ () ] امتحشوا، فيدخلون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في غثاء
السيل، ويكتب بين أعينهم: هؤلاء عتقاء اللَّه عزّ وجلّ، فيذهب بهم فيدخلون
الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون، فيقول الجبار:
بل هؤلاء عتقاء الجبار عزّ وجلّ» حديث رقم (12060) .
[ (1) ] تكملة من (المستدرك) .
[ (2) ] في (خ) : «والهادي» والتصويب من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «لا منجا ولا ملجأ» والتصويب من المرجع السابق.
[ (4) ] أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 618، حديث رقم (8712/ 37) ، وقال
في آخره: «وقد أخرجه له مسلم شاهدا» ، وقال الذهبي في (التلخيص) : «قد
استشهد مسلم بليث بن أبي سليم.
[ (5) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (المستدرك) .
[ (6) ]
أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 1/ 83، حديث رقم (82/ 82) من كتاب الإيمان،
وهذا الحديث يشهد لكثير من أحاديث الباب التي لم نقف لها على تخريج ولفظه:
«أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد ابن عبد اللَّه الصفار، حدثنا إسماعيل بن
إسحاق القاضي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا
موسى بن عقبة، حدثني إسحاق بن يحيى، عن عبادة بن الصامت قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا
فخر، ما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء
الحمد، أنا أمشي ويمشي الناس معي، حتى آتي باب الجنة فأستفتح، فيقال من
هذا؟ فأقول محمد، فيقال: مرحبا بمحمد، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا انظر
إليه» .
قال الحاكم: هذا حديث كبير في الصفات والرؤية، على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الذهبي في (التلخيص) على شرطهما ولم يخرجاه.
ونحوه في (دلائل البيهقي) : 5/ 479- 480، ونحوه أيضا في (المسند) : 3/ 609،
حديث رقم (12060) .
(3/226)
أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر.
وفي رواية زكريا بن عدي قال: حدثنا سلام عن أبي إسحاق عن عبد اللَّه عن
حذيفة قال: محمد سيد الناس يوم القيامة.
وله من حديث عبد الأعلى قال: حدثنا سعد عن قتادة عن أنس، أن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، [وأنا] [ (1) ] أول
من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، ولواء الحمد معى، تحته آدم ومن دونه ومن
بعده من المؤمنين [ (2) ] .
وفي رواية يعلى بن الفضل قال: حدثنا زياد بن ميمون عن أنس قال: قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة،
فأخرج من قبري وحولي المهاجرون والأنصار، ينفضون التراب عن رءوسهم، وأنا
أول شافع وأول مشفع، ولا تزال لي دعوة عند ربي مستجابة، وأنا لكم عند
النفخة الثانية [ (3) ] .
وفي رواية منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب عن زياد النميري
عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم ولا
فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول من يأخذ بحلقة باب
الجنة ولا فخر، ولواء الحمد بيدي ولا فخر [ (4) ] .
وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم قال: حدثنا سهيل بن أبي صالح عن زياد
النميري عن أنس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا أول من
تنفلق الأرض عن جمجمته ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، ومعي
لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تفتح له أبواب الجنة ولا فخر،
فأتي فآخذ بحلقة باب الجنة
__________
[ (1) ] تكملة من رواية أبي نعيم.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 64، حديث رقم (23) ، وأخرجه أيضا الترمذي من
حديث أبي سعيد الخدريّ، حديث رقم (3148) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن
ماجة في (الزهد) ، باب ذكر الشفاعة مختصرا، والإمام أحمد في (المسند) : 1/
463، حديث رقم (2542) ، (2687) ، وقال أحمد محمد شاكر: إسناده صحيح، وقال
في (مجمع الزوائد) : 10/ 372:
فيه على بن زيد وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 481، ضمن حديث طويل أوله: «ما من نبي إلا
وله دعوة تنجّزها في الدنيا، وإني ادّخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة..»
وذكر الحديث بنحوه وزيادة.
[ (3) ] لم أجده بهذه السياقة، وسيأتي الكلام على النفختين بعد قليل.
[ (4) ] سبق الإشارة إليه.
(3/227)
فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتح،
فيستقبلني الجبار تعالى، فأخر له ساجدا فيقول: يا محمد، قل تسمع، واشفع
تشفع، وسل تعطه [ (1) ] .
وفي رواية منصور بن أبي الأسود عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أولهم خروجا إذا بعثوا،
وقائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا شافعهم إذا حبسوا، وأنا
مبشرهم إذا يئسوا، لواء الكرامة ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد
آدم على ربي، يطوف عليّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور [ (2) ] .
وفي رواية حبان بن علي عن ليث عن عبيد اللَّه بن زحر، عن الربيع بن أنس عن
أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم يوم
القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه القبور يوم القيامة ولا فخر، لواء
الحمد بيدي ولا فخر، مفاتيح الجنة يومئذ بيدي ولا فخر، آدم ومن دونه من
النبيين تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر، يطوف عليّ ألف خادم كأنهن بيض
مكنون [ (2) ] .
وفي رواية جرير والثوري وزائدة، عن [المختار] [ (3) ] بن فلفل عن أنس قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من يشفع في الجنة، وأنا
أكثر الأنبياء تبعا [ (4) ] .
وفي رواية الحميدي وسفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس قال: قال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة
فأقعقعها فيفتحها اللَّه [ (5) ] .
وفي رواية خلف بن هشام قال: أخبرنا عيسى بن ميمون عن عسل
__________
[ (1) ]
في (دلائل البيهقي) : 5/ 479، باختلاف يسير، وفيه: «عن جبهتي يوم القيامة
ولا فخر» .
[ (2) ]
(المرجع السابق) : 84 بنحوه، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 64، حديث رقم (24)
وفيه: «الكرامة ومفاتيح الجنة ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم
على ربي يطوف عليّ ألف خادم كأنهن بيض مكنون أو لؤلؤ منثور» .
والبيض المكنون: المستور عن الأعين. ولفظهما فيه متقارب.
[ (3) ] في (خ) : «المختال» ، والتصويب من صحيح مسلم.
[ (4) ]
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 72، حديث رقم (330) من كتاب الإيمان، باب (85) في
قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر
الأنبياء تبعا» .
[ (5) ] (مسند الحميدي) : 2/ 506- 507، حديث رقم (1204) . وأخرجه أيضا
الترمذي في آخر حديث الشفاعة، حديث رقم (3148) وقال في آخره: قال سفيان:
ليس عن أنس إلا هذه الكلمة:
«فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها» ، قال أبو عيس: هذا حديث حسن صحيح، وقد
روى
(3/228)
ابن سفيان عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا،
وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مبشرهم إذا [أبلسوا] [ (1) ] ، لواء
[الكرامة] [ (1) ] يومئذ بيدي، يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون.
وله من طريق أبي داود الطيالسي وسليمان بن حرب قالا: حدثنا حماد ابن سلمة،
حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة قال: خطبنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه
عنهما على منبر البصرة، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه وقال: قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ألا إني سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر،
وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه ولا
فخر.
ورواه هشيم عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق
عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع ولا فخر، وإن لواء الحمد
بيدي يوم القيامة ولا فخر [ (2) ] .
ورواه سفيان بن عيينة عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال:
خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنا سيد ولد آدم يوم
القيامة ولا فخر، بيدي لواء الحمد ولا فخر [ (2) ] .
وله من حديث زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة
فيفتحها اللَّه لي، وأنا سيد الأولين والآخرين من النبيين ولا فخر.
وله عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
ينظرون، فخرج حتى دنا منهم، فسمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم: عجبا!
إن اللَّه اتخذ من خلقه خليلا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلامه موسى تكليما،
وقال آخر: فعيسى كلمة اللَّه وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه اللَّه، فخرج
عليهم
__________
[ () ] بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة عن ابن عباس الحديث بطوله.
والقعقعة: حكاية حركة لشيء يسمع له صوت (لسان العرب) : 8/ 286.
[ (1) ] سيأتي شرحه بعد قليل، وفي (خ) : «بلسوا» ، «الكرم» .
[ (2) ] سبق الإشارة إليه.
(3/229)
فسلّم وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم أن
اللَّه اتخذ إبراهيم خليلا، وهو كذلك، وموسى نجيّ اللَّه، وهو كذلك، وعيسى
كلمته وروحه، وهو كذلك، وآدم اصطفاه اللَّه، وهو كذلك، ألا وأنا حبيب
اللَّه ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة وتحته آدم ومن دونه ولا
فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق
[باب] [ (1) ] الجنة فيتفح اللَّه لي، فيدخلينها ومعي فقراء المؤمنين ولا
فخر، [و] [ (1) ] أنا أكرم الأولين والآخرين على اللَّه عز وجل ولا فخر.
ورواه عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم: أرسلت إلى الجن والإنس، [وإلى] [ (2) ] كل أحمر وأسود، وأحلت
لي الغنائم دون الأنبياء، وجعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا، ونصرت بالرعب
أمامي شهرا، وأعطيت خواتيم سورة البقرة [ (3) ] وكانت من كنوز العرش، وخصصت
بها دون الأنبياء، وأعطيت المثاني [ (4) ] مكان التوراة، [والمئين] [ (5) ]
مكان الإنجيل، والحواميم [ (6) ] مكان الزبور، وفضلت بالمفصّل، فأنا سيد
ولد آدم في الدنيا والآخرة ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عني وعن أمتي
ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة، آدم وجميع الأنبياء من ولد آدم
تحته ولا فخر، وإليّ مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر، وبي تفتح الشفاعة
يوم القيامة ولا فخر، وأنا سابق [ (7) ] الخلق
__________
[ (1) ] زيادة للسياق، وأخرج الحاكم نحوه مختصرا في (المستدرك) : 2/ 629
حديث رقم (4098/ 107) .
[ (2) ] زيادة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] وهي من قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ حتى آخر السورة [من الآية 285 حتى الآية 286] .
[ (4) ] المثاني: سورة الفاتحة، وسميت بالمثاني لأنها تثنى وتقرأ في كل
ركعة من ركعات الصلاة. قال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [87:
الحجر] .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي رواية البيهقي في (الدلائل) ، لكن في رواية أبي
نعيم في (الدلائل) : «والمائدة مكان الإنجيل» ، أي سورة المائدة. والمئين:
أي السور التي أولها ما يلي سورة الكهف لزيادة كل منها على مائة آية.
[ (6) ] الحواميم: السور التي أولها حم وهي سبع سور: [1] سورة غافر، [2]
سورة فصلت، [3] سورة الشورى، [4] سورة الزخرف، [5] سورة الدخان، [6] سورة
الجاثية، [7] سورة الأحقاف.
[ (7) ] في (خ) : «سابق» ، وهي رواية السيوطي في (الخصائص) .
(3/230)
إلى الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا
أمامهم وأمتى بالأثر [ (1) ] .
وفي رواية مردان بن معاوية عن يحيى اللخمي عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد
اللَّه عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لواء
الحمد بيدي يوم القيامة، وأقرب الناس من لوائي العرب.
وله من حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن صالح بن عطاء، عن عطاء عن جابر
أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا قائد المسلمين ولا فخر،
وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا شافع ومشفع ولا فخر.
وله من حديث شريج بن النعمان قال: حدثنا عبد اللَّه بن نافع عن عاصم ابن
عمر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، عن سالم عن ابن عمر قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من تنشق الأرض عنه ثم أبو
بكر ثم عمر، ثم يأتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة فأحشر بين
الحرمين [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(دلائل أبي نعيم) : 1/ 65، حديث رقم (25) من الفصل الرابع: ذكر الفضيلة
الرابعة بإقسام اللَّه بحياته، وتفرده بالسيادة لولد آدم في القيامة، وما
فضل هو وأمته على سائر الأنبياء وجميع الأمم صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال
فيه: «وأنا سائق الخلق.
..» . و (دلائل البيهقي) : 5/ 475، في باب ما جاء في تحدث رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم بنعمة ربه عزّ وجلّ لقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ، وما جاء في خصائصه على طريق الاختصار: أخبرنا أبو بكر
بن فورك، أنبأنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود،
حدثنا عمران، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع قال: قال النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، ومكان الزبور
المئين، ومكان الإنجيل المثاني، وفضّلت بالمفصل» .
والسبع الطوال: من البقرة إلى براءة (التوبة) . والمفصّل: من أول سورة
الحجرات حتى آخر القرآن الكريم.
والحديث أخرجه الطبراني في الكبير، وأشار إليه السيوطي بالحسن.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 505، حديث رقم (3732/ 869) : بدون قوله: «فأحشر
بين الحرمين» ، وزاد في رواية (المستدرك) : «وتلا عبد اللَّه بن عمر:
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا
يَسِيرٌ [ق: 44] قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ذكره في
باب (50) تفسير سورة ق من كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين. و
(دلائل أبي نعيم) : 1/ 66 حديث رقم (26) بمثله سواء.
(3/231)
وله من حديث حماد بن شعيب وزائدة وإسرائيل،
كلهم عن عاصم عن زر ابن حبيش عن عبد اللَّه قال: إن اللَّه اتخذ إبراهيم
خليلا، وإن صاحبكم خليل اللَّه، وإن محمدا سيد ولد آدم يوم القيامة،
ثم قرأ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] .
ورواه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد اللَّه قال: إن اللَّه اتخذ
إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل اللَّه، وإن نبي اللَّه أكرم الخلائق على
اللَّه يوم القيامة، ثم قرأ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً [ (2) ] .
وله من حديث كثير بن زيد عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة قال: قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء
الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه [ (3) ] .
وفي رواية سعيد بن رافع عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد الخلائق يوم القيامة في اثنى عشر نبيا،
منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.
__________
[ (1) ] ونحوه باختلاف يسير بدون ذكر الآية في (المستدرك) : 2/ 550، حديث
رقم (4018/ 27) ، ذكره في باب ذكر إبراهيم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
خليل اللَّه عزّ وجلّ، وبينه وبين نوح هود وصالح صلوات اللَّه عليهما، من
كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح
على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ونحوه في (المستدرك) : 1/ 652، 653، الأحاديث أرقام (3741) ، (3742) ،
(3743) ، (3744) بسياقات متقاربة.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 485، وقال فيه: «وأن محمدا صلى
اللَّه عليه وسلّم أكرم الخلاق على اللَّه..» ،
والآية رقم 79: الإسراء.
[ (3) ] ونحوه بدون قوله: «فمن بعده المؤمنين» ، وقال فيه: «ومن دونه» ، في
(دلائل أبي نعيم) :
1/ 64، حديث رقم (23) ، بدون الآية.
ورواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدريّ في (الجامع الصحيح) ، حديث رقم
(3148) ، وقال: حديث حسن صحيح، (سنن الترمذي) : 5/ 288، كتاب (48) باب (18)
. ورواه الإمام أحمد في (المسند) من حديث ابن عباس في الشفاعة، ورواه ابن
ماجة في (السنن) :
2/ 1440، كتاب الزهد، باب (37) ذكر الشفاعة، حديث رقم (4308) . والترمذي
أيضا في المناقب، حديث (3615) ، قال أبو عيسى: وفي الحديث قصة، وهذا حديث
حسن صحيح، وقد روي بهذا الإسناد عن أبي نضرة، عن ابن عباس.
(3/232)
وفي رواية بديل بن المحبّر قال: حدثنا عبد
السلام بن عجلان قال: سمعت أبا يزيد المدني يحدث عن أبي هريرة عن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وأنا
أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا بيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر،
وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول شخص يدخل عليّ الجنة: فاطمة
بنت محمد، ومثلها في هذه الأمة مثل مريم في بني إسرائيل [ (1) ] .
ورواه يعقوب الحضرميّ عن عبد السلام عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة رضي
اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من يدخل
الجنة ولا فخر، وأول من تنشق الأرض عن هامته ولا فخر، وأنا أول مشفع ولا
فخر، لواء الحمد بيدي يوم القيامة، حرم اللَّه الجنة على كل آدمي يدخلها
قبلي [ (2) ] .
وله من حديث زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني أول من يرفع [رأسه] [ (3) ]
بعد النفخة الأخيرة، فإذا موسى متعلق بالعرش فلا أدري أكذاك كان أو بعد
النفخة [ (4) ] ؟.
ومن حديث شعيب عن الزهري قال: حدثني أبو سلمة وسعيد عن أبي هريرة قال: قال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 66، حديث رقم (27) . وأخرجه الترمذي بسند
آخر وقال: حديث غريب. وتوقف غيره في الاحتجاج به ثم قال: عن بديل بن
المحبر، عن عبد السلام بن عجلان، عن أبي يزيد المدني، عن أبي هريرة ... ،
فذكره، ثم قال: أخرجه أبو صالح المؤذن في مناقب فاطمة عليها السلام.
[ (2) ]
وفي (صحيح مسلم بشرح النووي) : 3/ 73- 74، كتاب الإيمان، باب (85) في قول
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر
الأنبياء تبعا» ، حديث رقم (333) ،
حدثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب قالا: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدثنا
سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن:
من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك.
وأخرجه البيهقي في (الدلائل) من حديث أنس بمثله سواء. (دلائل النبوة
للبيهقي) : 5/ 480.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ]
أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (43) النفخ في الصور، قال مجاهد: الصور
كهيئة البوق، زجرة: صيحة، وقال ابن عباس: الناقور الصور، الراجفة: النفخة
الأولى، والرادفة: النفخة الثانية، حديث رقم (6517) : حدثني عبد العزيز بن
عبد اللَّه قال: حدّثني إبراهيم بن سعد عن
(3/233)
__________
[ () ] ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن الأعرج أنهما
حدّثاه أن أبا هريرة قال: «استبّ رجلان، رجل من المسلمين ورجل من اليهود،
فقال المسلم: والّذي اصطفى محمدا على العالمين، فقال اليهودي: والّذي اصطفى
موسى على العالمين. قال: فغضب المسلم عند ذلك، فلطم وجه اليهودي، فذهب
اليهوديّ إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فأخبره بما كان من أمره
وأمر المسلم، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تخيّروني على
موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش
بجانب العرش، فلا أدري أكان موسى فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى
اللَّه عزّ وجلّ» .
وحديث رقم (6518) : حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن
الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «يصعق الناس
حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن
صعق» . رواه أبو سعيد عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
قوله: «باب نفخ الصور» تكرر ذكره في القرآن الكريم، في الأنعام، والمؤمنين،
والنمل، والزمر، وق، وغيرها، وهو بضم المهملة وسكون الواو، وثبت كذلك في
القراءات المشهورة والأحاديث، وذكر عن الحسن البصري أنه قرأها بفتح الواو،
جمع صورة، وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح.
وقال أبو عبيدة في (المجاز) : يقال: الصور- يعني بسكون الواو- جمع صورة،
كما يقال: سور المدينة جمع سورة، قال الشاعر:
[فلما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة] فيستوي معنى القراءتين.
وحكى مثله الطبري عن قوم وزاد: كالصوف جمع صوفة، قالوا: والمراد النفخ في
الصّور وهي الأجساد لتعاد فيها الأرواح، كما قال تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي، وتعقب قوله: «جمع» ، بأن هذه أسماء أجناس لا جموع، وبالغ
النحاس وغيره في الردّ على التأويل، وقال الأزهري: إنه خلاف ما عليه أهل
السنة والجماعة.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : وقد أخرج أبو الشيخ في (كتاب العظمة)
، من طريق وهب بن منبه من قوله قال: خلق اللَّه الصور من لؤلؤ بيضاء في
صفاء الزجاجة، ثم قال للعرش:
خذ الصور فتعلق به، ثم قال: كن، وكان إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور، فأخذه
وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة، ونفس منفوسة، فذكر الحديث وفيه: «ثم تجمع
الأرواح كلها في الصور، ثم يأمر اللَّه إسرافيل فينفخ فيه، فتدخل كل روح في
جسدها» ، فعلى هذا فالنفخ يقع في الصور أولا، ليصل النفخ بالروح إلى الصور،
وهي الأجساد، فإضافة النفخ إلى الصور الّذي هو القرن، حقيقة، وإلى الصّور
التي هي الأجساد، مجاز.
قوله: «قال مجاهد: الصور كهيئة البوق» ، وصله الفريابي من طريق ابن أبي
نجيح عن مجاهد، قال في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، قال كهيئة
البوق، وقال صاحب الصحاح: البوق الّذي يزمر به، وهو معروف، ويقال للباطل،
يعني يطلق ذلك عليه مجازا، لكونه من جنس الباطل.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : لا يلزم من كون الشيء مذموما أن لا
يشبه به
(3/234)
وفي رواية محمد بن يوسف الفرياني قال:
حدثنا سفيان عن عمر بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: إن الناس يصعقون [يوم القيامة] [ (1) ] فأكون أول من
يفيق [ (2) ] .
__________
[ () ] الممدوح، فقد وقع تشبيه صوت الوحي بصلصلة الجرس، مع النهي عن
استصحاب الجرس، كما تقدم تقريره في بدء الوحي.
قوله: «قال ابن عباس: الناقور الصور» ، وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق
على بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ
قال: الصور، ومعنى نقر نفخ، قاله في الأساس.
وأخرج البيهقي من طريق أخرى عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «كيف أنعم وقد
التقم صاحب القرن القرن» ؟
وللحاكم بسند حسن، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رفعه «إن طرف صاحب الصور
منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن
عينيه كوكبان درّيّان» .
قوله: «الراجفة النفخة الأولى، والرادفة النفخة الثانية» ، هو من تفسير ابن
عباس، وصله الطبري وابن أبي حاتم بالسند المذكور، وقد تقدم بيانه في تفسير
سورة النازعات، فليراجع هناك.
وإذا تقرر أن النفخة للخروج من القبور فكيف تسمعها الموتى؟ والجواب: يجوز
أن تكون نفخة البعث تطول إلى أن يتكامل إحياؤهم شيئا بعد شيء، وتقدم
الإلمام في قصة موسى مما ورد في تعيين من استثنى اللَّه تعالى في قوله
تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ
شاءَ اللَّهُ، وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال ذكرهم الحافظ ابن حجر في
(الفتح) : 11/ 451 باب (43) من كتاب الرقاق فليراجع هناك.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 67، حديث رقم (28) .
وخرّج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه، قال: «جاء
رجل من اليهود إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد لطم وجهه، فقال: يا
محمد! إن رجلا من الأنصار من أصحابك لطم وجهي، فقال: ادعوه، فدعوه، فقال:
لم لطمت وجهه؟
قال: يا رسول اللَّه، إني مررت باليهودي، فسمعته يقول: والّذي اصطفى موسى
على البشر، فقلت:
وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة، فلطمته، فقال: لا تخيّروني من بين الأنبياء، فإن
الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة
من قوائم العرش، فلا أدري: أفاق قبلي، أو جوزي بصعقة الطور» .
وفي رواية: «فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من
قوائم العرش ... »
وذكر نحوه.
رواه البخاري في (الخصومات) ، باب ما يذكر من الأشخاص والخصومة بين المسلم
واليهودي، وفي (الأنبياء) ، باب قول اللَّه تعالى: وَواعَدْنا مُوسى
ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ، وفي تفسير سورة الأعراف، باب
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ، وفي (الديات) ، باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب،
وفي (التوحيد) ، باب وكان عرشه على الماء وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ. ورواه مسلم في (الفضائل) ، باب من فضائل موسى صلى اللَّه عليه
وسلّم.
(3/235)
وله من حديث يحيى الحماقي وحبان بن موسى
قالا: حدثنا عبد اللَّه بن المبارك، أنبأنا حبان [عن] يحيى بن سعيد التيمي
قال: حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة قال: أتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد
الناس يوم القيامة. رواه مسلم [ (1) ] .
وفي رواية عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي
زرعة عن أبي هريرة قال: وضعت بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قصعة من ثريد فتناول الذراع- وكانت أحب الشاة إليه- فنهس نهسة ثم قال: أنا
سيد [الناس] [ (2) ] يوم القيامة [ (3) ] .
ولأبي نعيم من حديث يحيى الحماني، حدثنا شريك عن عبد اللَّه بن محمد بن
عقيل، عن الطفيل بن أبي كعب عن أبيه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال:
إذا كان يوم القيامة، كنت إمام الناس يوم القيامة وخطيبهم وصاحب شفاعتهم
ولا فخر [ (4) ] .
وله من حديث عبيد اللَّه بن عمرو عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن جابر
ابن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: إذا كان يوم القيامة كان لواء الحمد بيدي، وكنت إمام المرسلين وصاحب
شفاعتهم [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (327) وهو حديث
الشفاعة كاملا، والبيهقي في (الدلائل) : 5/ 476.
قوله: «فنهس منها نهسة» ، هو بالسين المهملة. قال القاضي عياض: أكثر الرواة
رووه بالمهملة، ووقع لابن ماهان بالمعجمة وكلاهما صحيح، بمعنى أخذ بأطراف
أسنانه. قال الهروي: قال ابن عباس:
النهس بالمهملة بأطراف الأسنان، وبالمعجمة الأضراس.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد الناس يوم القيامة» ،
إنما قال هذا صلى اللَّه عليه وسلّم تحدثا بنعمة اللَّه تعالى، وقد أمره
اللَّه تعالى بهذا، ونصيحة لنا بتعريفنا حقه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال
القاضي عياض: السيد الّذي يفوق قومه، والّذي يفزع إليه في الشدائد، والنبي
صلى اللَّه عليه وسلّم سيدهم في الدنيا والآخرة، وإنما خصّ يوم القيامة
لارتفاع السؤدد فيه، وتسليم جميعهم له، ولكون آدم وجميع أولاده تحت لوائه
صلى اللَّه عليه وسلّم (مسلم بشرح النووي) : 3/ 66- 67.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين في (خ) : «سيد ولد آدم» وما أثبتناه من (صحيح
مسلم) .
[ (3) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) : 3/ 69، كتاب الإيمان باب (84) ، حديث
رقم (328) .
[ (4) ] أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 481، والترمذي في (المناقب) باب
(1) في فضل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3613) ، وقال: هذا حديث
حسن.
[ (5) ] سبق الإشارة إليه.
(3/236)
وله من حديث أبي عوانة عن أبي بشير، عن
سعيد عن جابر عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كنت عند النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم فقال: أنا سيد ولد آدم.
وله من حديث أحمد بن أبي ظبية عن أبيه عن عبد اللَّه بن جابر عن عطاء عن أم
كرز أنها قالت: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: أنا سيد المؤمنين
إذا بعثوا، وسابقهم [ (1) ] إذا وردوا، ومبشرهم إذا أبلسوا [ (2) ] ،
وإمامهم إذا سجدوا، وأقربهم مجلسا من الرب تعالى إذا اجتمعوا، [أقوم] [ (3)
] ، فأتكلم فيصدّقني، وأشفع فيشفّعني، وأسأل فيعطيني [ (4) ] .
وله من حديث الحرث بن أسامة قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان، حدثنا إسرائيل
عن آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر رضي اللَّه عنه يقول: تصير الأمم يوم
القيامة تجيء كل أمة نبيها فيرقاهم على كوم فيقول: يا فلان اشفع، فيردها
بعضهم إلى بعض حتى ينتهي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فهو المقام
المحمود الّذي قال اللَّه تعالى عنه: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً [ (5) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) : وفي (الخصائص) : 3/ 222، وفي (دلائل أبي نعيم) :
«وسائقهم» .
[ (2) ] أبلسوا: أسكتوا من الحزن، ومنه إبليس لعنه اللَّه، وفي التنزيل:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ، حَتَّى إِذا
فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ،
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، وَإِنْ
كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
[12: الروم] ، [44: الأنعام] ، [77:
المؤمنون] ، [75: الزخرف] ، [49: الروم] على الترتيب.
[ (3) ] في (خ) : «أقول» ، وما أثبتناه من رواية أبي نعيم.
[ (4) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 67، الفصل الرابع، ذكر
الفضيلة الرابعة بإقسام اللَّه تعالى بحياته، وتفرده بالسيادة لولد آدم في
القيامة، وما فضّل به هو وأمته على سائر الأنبياء وجميع الأمم صلى اللَّه
عليه وسلّم، حديث رقم (29) . وقال السيوطي في (الخصائص) : 3/ 222 «أخرجه
أبو نعيم عن أم كرز» .
[ (5) ] 79: الإسراء، وعسى، مدلولها في المحبوبات الترجي، فقيل: هي على
بابها في الترجي تقديره لتكن على رجا من أن يَبْعَثَكَ. وقيل هي بمعنى كي،
وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى.
والأجود أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجود من اللَّه تعالى، وهو متعلق
من حيث المعنى بقوله:
فَتَهَجَّدْ. وعسى هنا تامة، وفاعلها أَنْ يَبْعَثَكَ، وربك فاعل يبعثك،
ومقاما الظاهر أنه معمول ليبعثك، هو مصدر من غير لفظ الفعل، لأن يبعثك
بمعنى يقيمك، تقول: أقيم من قبره، وبعث من قبره. وقال ابن عطية: منصوب على
الظرف أي في مقام
(3/237)
__________
[ () ] محمود. وقيل: منصوب على الحال، أي ذا مقام محمود. وقيل: هو مصدر
لفعل محذوف، التقدير فتقوم مقاما، ولا يجوز أن تكون عسى هنا ناقصة، وتقدم
الخبر على الاسم فيكون ربك مرفوعا اسم عسى وأَنْ يَبْعَثَكَ الخبر في موضع
نصب بها، إلا في هذا الإعراب الأخير.
وفي تفسير المقام المحمود أقوال:
أحدها: أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه صلى
اللَّه عليه وسلّم، والحديث في الصحيح، وهي عدة من اللَّه تعالى له صلى
اللَّه عليه وسلّم، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم، في دعائه
المشهور:
«وابعثه المقام المحمود الّذي وعدته» واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة.
الثاني: أنه في أمر شفاعته لأمّته في إخراجه لمذنبهم من النار، وهذه
الشفاعة لا تكون إلا بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار، وهذه لا يتدافعها
الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء.
وقد روي حديث الشفاعة وفي آخره: «حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن»
،
أي وجب عليه الخلود.
قال: ثم تلا هذه الآية عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: «المقام المحمود هو المقام الّذي أشفع
فيه لأمتي»
فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة
العظمى، التي يحمده بسببها الخلق كلهم، على أن المراد لأمته وغيرهم، أو
يقال: إن كل مقام منها محمود.
الثالث: عن حذيفة: يجمع اللَّه الناس في صعيد فلا تتكلم نفس، فأول مدعوّ
محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فيقول:
لبيك وسعديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك،
لا منجأ ولا ملجأ إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت. قال: فهذا
قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
الرابع: قال الزمخشريّ: معنى المقام المحمود المقام الّذي يحمده القائم
فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات (أ.
هـ) ، وهو قول حسن ولذلك نكّر مَقاماً مَحْمُوداً، فلم يتناول مقاما
مخصوصا، بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ.
الخامس: ما قالت فرقة- منها مجاهد- وقد روي أيضا عن ابن عباس أن المقام
المحمود هو أن يجلسه اللَّه تعالى معه على العرش. وذكر الطبري في ذلك
حديثا، وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو
عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا. قال ابن عطية:
يعني من أنكر جوازه على تأويله. وقال أبو عمر ومجاهد: إن كان أحد الأئمة
يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم هذا أحدهما، والثاني
تأويل إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [22: القيامة] ، قال تنتظر الثواب ليس من
النظر، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله: إِنَّ
الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [206: الأعراف] ، وقوله: ابْنِ لِي عِنْدَكَ
بَيْتاً [11: التحريم] ، وإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [69:
العنكبوت] ، كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان.
وقال الواحدي: هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل، موحش، فظيع، لا يصح
مثله عن ابن عباس، ونصّ الكتاب ينادي بفساده من وجوه: ...
(3/238)
ورواه البخاري من حديث أبي الأحوص عن آدم،
وله من حديث أبي نعيم قال: حدثنا داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة
رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في قوله تعالى عَسى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: الشفاعة [ (1) ] .
ورواه إدريس الأودي عن أبيه مثله، قال الحافظ أبو نعيم: أحمد. وفيه عن سعد
بن أبي وقاص وعبد اللَّه بن مسعود وكعب بن مالك وجابر وأبي سعيد وعبد
اللَّه بن عمرو بن العاص في المقام المحمود [ (1) ] .
ورواه الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن رجل من أهل العلم عن
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في المقام المحمود [ (1) ] .
واعلم أن كل من خبرك عن نفسه بأمر يحتاج إلى علمه لو إخباره ما عرفته، فليس
يقبح ذكره وإن اتصل بمدحه، ولهذه العلة مدحت الأنبياء عليهم السلام أنفسها
مع تواضعها.
وخرج الحاكم من حديث إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا يزيد بن أبي حكيم، حدثنا
الحكم بن أبان قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس [رضي اللَّه عنهما] [
(2) ] :
إن اللَّه فضل محمدا على أهل السماء وفضله على أهل الأرض قالوا: [يا ابن
عباس] [ (2) ] :
__________
[ () ] الأول: أن البعث ضد الإجلاس، بعث التارك، وبعث اللَّه الميت أقامه
من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد.
الثاني: لو كان جالسا- تعالى- على العرش لكان محدودا متناهيا، فكان يكون
محدثا.
الثالث: أنه قال: مقاما ولم يقل مقعدا محمودا، والمقام موضع القيام لا موضع
القعود.
الرابع: أن الحمقى والجهال يقولون: إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى
ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية، فلا مزّية له بإجلاسه معه! الخامس: إذا قيل:
بعث السلطان فلانا، لا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه. (البحر المحيط) :
7/ 100- 102، تفسير سورة الإسراء.
[ (1) ] أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 484، والترمذي في كتاب تفسير
القرآن، تفسير سورة الإسراء، حديث رقم (3137) 5/ 283 وقال: هذا حديث حسن.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
(3/239)
فبم [ (1) ] فضله على أهل السماء؟ قال: قال
اللَّه تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ
نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ (2) ] ، وقال لمحمد:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [ (3) ] الآية، قالوا:
فبم [ (1) ] فضله اللَّه على أهل الأرض؟ قال: إن اللَّه تعالى قال: وَما
أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [ (4) ] الآية، وقال
لمحمد: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [
(5) ] ، فأرسله إلى الجن والإنس. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن
الحكم بن أبان قد احتج به جماعة من أئمة الإسلام [أيضا] [ (6) ] [ولم يخرجه
الشيخان] [ (7) ] .
***
__________
[ (1) ] كذا في (خ) : وفي المرجع السابق: «فبما» .
[ (2) ] الأنبياء: 29.
[ (3) ] الفتح: 1.
[ (4) ] إبراهيم: 4.
[ (5) ] سبأ: 28.
[ (6) ] زيادة في (خ) .
[ (7) ] تكملة من المستدرك. والحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 381،
حديث رقم (3335/ 472) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح. وأخرجه البيهقي
في (الدلائل) : 5/ 486- 487 بالإسناد السابق..
والحكم بن أبان العدني أبو عيسى، روي عن عكرمة، وطاووس، وشهر بن حوشب،
وإدريس ابن سنان بن بنت وهب، وغيرهم، وعنه ابنه إبراهيم، وابن عيينة،
ومعمر، ومات قبله، وابن جريج- وهو من أقرانه- ومعتمر بن سليمان، وابن علية،
ويزيد بن أبي حكيم، وموسى بن عبد العزيز القنباري، وغيرهم.
قال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح، وقال العجليّ: ثقة صاحب
سنّة، كان إذا هدأت العيون وقف في البحر إلى ركبتيه يذكر اللَّه تعالى حتى
يصبح. وقال سفيان بن عيينة:
أتيت عدن فلم أر مثل الحكم بن أبان. وقال ابن عيينة: قدم علينا يوسف بن
يعقوب قاصّ كان لأهل اليمن، وكان يذكر منه صلاح، فسألته عن الحكم بن أبان،
قال: ذاك سيد أهل اليمن. قال أحمد: مات سنة (154) وهو ابن (84) سنة. ترجمته
في: (تهذيب التهذيب) : 2/ 364، ترجمة رقم (736) ، (الثقات) : 6/ 185،
(التاريخ الكبير) : 2/ 336، ترجمة رقم (662) .
(3/240)
|