إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات اللَّه عليهما وسلامه [ (1) ]
اعلم أنه لما ثبتت سيادة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأنه إمام الأنبياء والمرسلين وأفضلهم، قيل: فكيف طلب له من أمته من صلاة اللَّه تعالى عليه ما لإبراهيم عليه السلام حين قالوا في صلواتهم: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ فاقتضى هذا أن يكون إبراهيم أفضل من محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] قال اللَّه عزّ وجلّ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [253: البقرة] ، فأخبره بأنه فاوت بينهم في الفضل، فأما الأخبار التي وردت في النهي عن التخيير بين الأنبياء فإنما هي في مجادلة أهل الكتاب في تفضيل نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم على أنبيائهم عليهم السلام، لأن المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين مختلفين لم يؤمن أن يخرج كل واحد منهما في تفضيل من يريد تفضيله إلى الإزراء بالآخر، فيكفر بذلك.
فأما إذا كانت المخايرة من مسلم يريد الوقوف على الأفضل، فيقابل بينهما ليظهر له رجحان الأرجح، فليس هذا بمنهي عنه، لأن الرسل إذا كانوا متفاضلين، وكان فضل الأفضل يوجب له فضل حق، وكان الحق إذا وجب لا يهتدى إلى أدائه إلا بعد معرفته، ومعرفة مستحقه كانت إلى معرفة الأفضل حاجة، ووجب أن يكون للَّه عزّ وجلّ عليه دلالة، وطلب العلم المحتاج إليه من قبل إعلامه المنصوبة عليه ليس مما ينكر واللَّه تعالى أعلم. وهذا قول أبو عبد اللَّه الحليمي رحمه اللَّه.
قال البيهقي: ومن تكلم في التفضيل ذكر في مراتب نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وخصائصه وجوها لا يحتمل ذكرها بأجمعها هذا الكتاب، ونحن نشير إلى وجه منها على طريق الاختصار.
فمنها: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان رسول الثقلين الإنس والجن، وأنه خاتم الأنبياء.
ومنها: أن شرف الرسول بالرسالة، ورسالته أشرف الرسالات بأنها نسخت ما تقدمها من الرسالات، ولا تأتي بعدها رسالة تنسخها.
ومنها: أن اللَّه تبارك وتعالى أقسم بحياته صلى اللَّه عليه وسلّم.
ومنها: أنه جمع له بين إنزال الملك عليه أو إصعاده إلى مساكن الملائكة، وبين إسماعه كلام الملك، وإراءته إياه في صورته التي خلقه عليها، وجمع له بين إخباره عن الجنة والنار وإطلاعه عليهما، وصار العلم له، واقعا بالعالمين، دار التكليف ودار الجزاء عيانا.
ومنها: قتال الملائكة معه صلى اللَّه عليه وسلّم.
ومنها: ما أخبر عن خصائصه التي يخصّه اللَّه تعالى بها يوم القيامة، وهو المقام المحمود الّذي وعده بقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [79: الإسراء] .

(3/241)


قيل: قد اختلفت طرق العلماء في الجواب عن ذلك، فقالت طائفة: هذه الصلاة علمها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يعرف أنه سيد ولد آدم، وردّ هذا بأن هذه هي الصلاة التي علمها أمته لما سألوه عن تفسير قول اللَّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] ، وجعلها مشروعة في الصلاة إلى يوم القيامة، وهو لم يزل أفضل ولد آدم قبل أن يعلم بذلك وبعده، فلما علم بأنه سيد ولد آدم لم يغيّر نظم الصلاة عليه التي علمها أمته، ولا أبدلها بغيرها، ولا روي عن أحد خلافها، [فصلح] [ (2) ] هذا الجواب.
وقالت طائفة: هذا السؤال والطلب شرع ليتخذه اللَّه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وقد أجابه اللَّه تعالى إلى ذلك كما
ثبت في الصحيح: «ألا وإن صاحبكم خليل الرحمن» [ (3) ] ،
يعني نفسه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهذا القول من جنس ما قبله، فإن مضمونه أنه بعد أن اتخذ خليلا لا تشرع الصلاة عليه على هذا الوجه، وهذا من أبطل الباطل.
وقالت طائفة أخرى: إنما هذا التشبيه راجع إلى المصلى فيما يصير له من ثواب الصلاة عليه، فطلب من ربه ثوابا وهو أن يصلي عليه كما صلى على إبراهيم، لا بالنسبة إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فإن المطلوب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الصلاة وأعظم مما هو حاصل لغيره من العالمين، وردّ هذا: بأن التشبيه ليس فيما يحصل للمصلّي، بل فيما يحصل للمصلى عليه، وهو النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وآله، فمن قال: أن المعنى اللَّهمّ أعطني ثواب صلاتي عليه كما صليت على إبراهيم و [على] [ (4) ] آل إبراهيم فقد حرف الكلام
__________
[ () ] ومنها: أن اللَّه جلّ ثناؤه لم يخاطبه في القرآن إلا بالنبيّ أو الرسول، ودعا سائر الأنبياء بأسمائهم، وحين دعا الأعراب نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم باسمه أو كنيته نهاهم عن ذلك، وقال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [63: النور] ، وأمرهم بتعظيمه وبتفخيمه، ونهاهم عن التقديم بين يديه، وعن رفع أصواتهم فوق صوته، وعاب من ناداه من وراء الحجرات، إلى غير ذلك مما يطول بشرحه الكتاب، وهو مذكور في كتب أهل الوعظ أهل الوعظ والتذكير.
ومنها: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أكثر الأنبياء إعلاما، وقد ذكر بعض المصنفين أن أعلام نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم تبلغ ألفا.
(دلائل البيهقي) : 5/ 491، باب ما جاء في التخيير بين الأنبياء.
[ (1) ] الأحزاب: 56.
[ (2) ] في (خ) : «فطاح» ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] سبق الإشارة إليه.
[ (4) ] زيادة للسياق.

(3/242)


وأبطل في كلامه.
وقالت طائفة: التشبيه عائد إلى الآل فقط، وتم الكلام عند قوله: اللَّهمّ صل على محمد، ثم قال: وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، فالصلاة المطلوبة لآل محمد هي المشبهة بالصلاة الحاصلة لإبراهيم، وهذا الجواب نقله العمراني عن الشافعيّ، واستبعدت صحته عنه رحمه اللَّه، فإنه
ورد في كثير من الأحاديث: «اللَّهمّ صل على محمد كما صليت على آل إبراهيم» ،
وأيضا فإنه لا يصح هذا الجواب من جهة العربية، فإن العامل إذا ذكر معموله وعطف عليه غيره، ثم قيد بظرف أو جار أو مجرور أو مصدر أو صفة مصدر، كان ذلك راجعا إلى المعمول وما عطف عليه، هذا الّذي لا تحتمل العربية غيره.
فإذا قلت: جاءني زيد وعمرو يوم الجمعة، كان الظرف مقيدا بمجيئهما لا بمجيء أحدهما دون الآخر، وكذلك إذا قلت: ضربت زيدا وعمرا ضربا مؤلما، وأمام الأمير، أو قلت: سلّم علي زيد وعمرو يوم الجمعة.. ونحوه.
فإن قيل: هذا متجه إذا لم تعد العامل، فأما إذا أعيد العامل حسن ذلك، تقول: سلّم علي زيد وعلى عمرو إذا لقيته لم يمنع أن تختص ذلك بعمرو دون زيد، وهنا قد أعيد العامل في قوله: وعلى آل محمد، قيل: ليس هذا المثال بمطابق لمسألة الصلاة، وإنما المطابق أن تقول: سلّم علي زيد وعلى عمرو كما تسلم على المؤمنين، ونحو ذلك، وحينئذ فادّعاء أن التشبيه بسلامه على عمرو وحده دون زيد دعوى باطلة.
وقالت طائفة: لا يلزم أن يكون المشبه به أعلى من المشبه، بل يجوز أن يكونا متماثلين، وأن يكون المشبه أعلى من المشبه به، قال هؤلاء: والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل من إبراهيم من جهات غير الصلاة عليه وإن كانا متساويين في الصلاة، والدليل على أن المشبه قد يكون أفضل من المشبه به قول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وعورض هذا القول بوجوه من الرد:
أحدهما: أن هذا خلاف المعلوم من قاعدة تشبيه الشيء بالشيء، فإن العرب

(3/243)


لا تشبه الشيء إلا بما فوقه [ (1) ] .
الثاني: أن الصلاة من اللَّه تعالى من أفضل المراتب وأجل وأتم من كل صلاة، تحصل لكل مخلوق فلا يكون غيره مساويا له فيها.
الثالث: أن اللَّه تعالى أمر بها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، فأمر بالصلاة والسلام عليه، وأكده بالتسليم، وهذا الخبر والأمر لم يثبتهما لغيره في القرآن من المخلوقين.
الرابع:
أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إن اللَّه وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، وهذا لا بتعلمهم الخير، فلما هداهم إلى خير الدنيا والآخرة وتسبّبوا بذلك إلى سعادتهم وفلاحهم، وذلك سبب دخولهم في جملة المؤمنين المهديين الذين يصلى عليهم اللَّه وملائكته.
ومن المعلوم أنه لا أحد من معلمي الخير أفضل ولا أكثر تعليما له من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، ولا أنصح لأمته ولا أصبر على تعليم الخير منه، ولهذا أنال أمته من تعليمه لهم ما لم تنله أمة من الأمم سواهم، وحصل للأمة من تعليمه من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ما صارت به خير أمة أخرجت للعالمين، فكيف تكون الصلاة على هذا الرسول المعلم للخير مساوية في الصلاة على من لم يماثله في التعليم؟ وما بقول الشاعر على جواز كون المشبه به أفضل من المشبه، فلا يدل ذلك لأن قوله:
بنونا بنو أبنائنا
إما أن يكون المبتدأ فيه مؤخرا والخبر مقدما، ويكون قد شبه بنو أبنائه ببنيه، وكان تقديم الخبر لظهور المعنى وعدم وقوع اللبس، وعلى هذا جاز على أصل التشبيه، وإما أن يكون من باب عكس التشبيه كما يشبه القمر بالوجه الكامل في حسنه، ويشبه الأسد بالكامل في شجاعته، وعلى هذا فيكون الشاعر قد نزل
__________
[ (1) ] ومع ذلك فقد ضرب اللَّه تعالى مثلا لنوره كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [35: النور] .

(3/244)


بني أبنائه منزلة بنيه وأنه لم يفرقهم عنده، ثم شبه بنيه بهم، وهذا قول طائفة من أهل المعاني.
وظاهر البيت أن الشاعر لم يرد ذلك وإنما أراد التفريق بين بني بنيه وبين بني بناته، فأخبر أن بني بناته تتبع لآبائهم ليسوا بأبناء لنا، وإنما أبناؤنا بني أبنائنا لا بنو بناتنا ولم يرد تشبيه بني بنيه ببنيه ولا عكسه، وإنما أراد ما ذكرنا من المعنى، وهذا ظاهر.
وقالت طائفة: النبي صلى اللَّه عليه وسلّم له من الصلاة الخاصة التي لا تساويها صلاة من لم يشركه فيها أحد، والمسئول له إنما هو صلاة زائدة على ما أعطيته مضافا إليه، [وتكون تلك] [ (1) ] الزائدة [مشبهة] [ (2) ] بالصلاة على إبراهيم، وليس بمستنكر أن يسأل للفاضل فضيلة أعطيها المفضول منضما إلى ما اختص به من هو من الفضل الّذي لم يحصل لغيره.
قالوا: ومثال ذلك أن يعطي السلطان رجلا مالا عظيما، ويعطي غيره دون ذلك فيسأل السلطان أن يعطي صاحب المال الكثير مثل ما أعطي صاحب من هو دونه لينضم إلى ما أعطيه فيحصل له مثل مجموع العطاءين أكثر ما يحصل له من الكثير وحدة، وهذا جواب ضعيف، لأن اللَّه سبحانه وتعالى أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، ثم أمر بالصلاة عليه، ولا ريب أن المطلوب من اللَّه سبحانه وتعالى هو الصلاة المخبر بها لا ما هو دونها، وهو أكمل الصلاة عليه وأرجحها لا الصلاة المرجوحة المفضولة، وعلى قول هؤلاء إنما يكون الطلب لصلاة مرجوحة لا راجحة، وإنما تصير راجحة بانضمامها إلى صلاة لم تطلب، ولا ريب في فساد ذلك، فإن الصلاة التي تطلبها الأمة له صلى اللَّه عليه وسلّم من ربه تعالى هي أجلّ صلاة وأفضلها.
وقالت طائفة: التشبيه المذكور إنما هو في أصل الصلاة لا في قدرها ولا كيفيتها، إنما هو راجع إلى الهبة لا إلى قدرها، وهذا كما تقول للرجل: أحسن إلى أبيك كما أحسنت إلى فلان، وأنت لا تريد بذلك قدر الإحسان وإنما تريد به أصل الإحسان.
__________
[ (1) ] في (خ) : «ويكون ذنك» .
[ (2) ] في (خ) : «مشبها» .

(3/245)


وقد يحتج لذلك بقوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [ (1) ] ، ولا ريب أنه لا يقدر أحد أن يحسن بقدر ما أحسن اللَّه إليه، وإنما أريد به أصل الإحسان لا قدره.
ومنه قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ (2) ] ، وهذا التشبيه إنما هو في أصل الوحي لا في قدره وفضيلة الموحي به، وقوله تعالى: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [ (3) ] ، إنما مرادهم جنس الآية لا نظيرها.
وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [ (4) ] ، ومعلوم أن كيفية الاستخلاف مختلفة، وإنما لهذه الأمة أكمل ما لغيرها.
وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ (5) ] ، والتشبيه إنما هو في أصل الصوم لا في عينه وقدره وكيفيّته.
وقال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ (6) ] ، ومعلوم تفاوت ما بين النشأة الأولى وهي المبتدأ، وبين الثانية وهي المعاد.
وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [ (7) ] ، ومعلوم أن الشبيه في أصل الإرسال لا يقتضي تماثل الرسولية.
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «لو أنكم تتوكلون على اللَّه حق توكله لرزقنكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» ،
فالتشبيه هنا في أصل الرزق لا في قدره، ولا في كيفيته، ونظائر ذلك [كثير] .
__________
[ (1) ] القصص: 77.
[ (2) ] النساء: 163.
[ (3) ] الأنبياء: 5.
[ (4) ] النور: 55.
[ (5) ] البقرة: 183.
[ (6) ] الأعراف: 29.
[ (7) ] المزمل: 16.

(3/246)


واعترض على هذا بوجوه:
أحدها: ما ذكروه يجوز أن يستعمل في الأعلى والأدنى، فلو قلت: أحسن إلى ابنك وأهلك كما أحسنت إلى مركوبك وخادمك ونحوه، جاز ذلك.
ومن المعلوم أنه لو كان التشبيه في أصل الصلاة لحسن أن تقول: اللَّهمّ صل على محمد كما صليت على آل أبي أوفى، أو كما صليت على آحاد المؤمنين ونحوه، أو كما صليت على آدم ونوح، وهود ولوط، فإن التشبيه عند هؤلاء إنما هو واقع في أصل الصلاة لا في قدرها ولا في صفتها، ولا فرق في ذلك بين كل من صلى عليه، وأيّ مزيّة في ذلك لإبراهيم وآله، وما الفائدة حينئذ. في ذكره وذكر آله، وكان الكافي في ذلك أن يقال: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد فقط.
الثاني: أن الأمثلة المذكور ليست بنظير الصلاة على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فإنّها نوعان: خبر وطلب، فما كان منها خبرا فالمقصود بالتشبيه الاستدلال والتقريب إلى الفهم، وتقرير ذلك الخبر وأنه لا ينبغي لعاقل إنكاره كنظيره المشبه به، فكيف تنكرون الإعادة وقد وقع الاعتراف بالبداءة وهي نظيرها، وحكم النظير حكم نظيره.
ولهذا يحتج سبحانه بالمبدإ على المعاد كثيرا، قال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ (1) ] ، وقال تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [ (2) ] ، وقال تعالى:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [ (3) ] ، وهذا كثير في القرآن.
وكذلك قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [ (4) ] ، أي كيف يقع الإنكار منكم وقد تقدم قبلكم رسل مني مبشرين ومنذرين، وقد علمتم حال من عصى رسلي كيف أخذتهم أخذا وبيلا.
__________
[ (1) ] الأعراف: 29.
[ (2) ] الأنبياء: 104.
[ (3) ] يس: 78.
[ (4) ] المزمل: 16.

(3/247)


وكذلك قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [ (1) ] الآية، أي لست أول رسول طرق العالم، قد تقدمت قبلك رسل أوحيت إليهم كما أوحيت إليك كما قال تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [ (2) ] ، فهذا ردّ وإنكار على من أنكر رسالة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم مع مجيئه صلى اللَّه عليه وسلّم ولست من الأمور التي لم تطرق العالم، بل لم تخل الأرض من الرسل وآثارهم، فرسولكم جاء على منهاج من تقدمه من الرسل في الرسالة لم يكن بدعا.
وكذلك قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ (3) ] ، إخبارا عن عادته سبحانه وتعالى في خلقه، وحكمته التي لا تبديل لها، من آمن وعمل صالحا مكّن له في الأرض واستخلفه فيها ولم يهلكه ويقطع دابره كما أهلك من كذب رسله وخالفهم، وأخبرهم سبحانه وتعالى عن معاملته من آمن برسله وصدقهم، وأنه لم يفعل بهم كما فعل بمن قبلهم من أتباع الرسل.
وهكذا قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لو أنكم تتوكلون على اللَّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» ،
إخبار بأنه سبحانه وتعالى يرزق المتوكلين عليه من حيث لا يحتسبون، وأنه لا يخليهم من رزق قط كما ترون ذلك في الطير فإنّها تغدو من أوكارها خماصا فيرزقها سبحانه وتعالى حتى ترجع بطانا من رزقه، فأنتم أكرم على اللَّه سبحانه وتعالى من الطير ومن سائر الحيوانات، فلو توكلتم عليه سبحانه وتعالى لرزقكم من حيث لا تحتسبون، ولم يمنع أحدا منكم رزقه، هذا ما كان من قبيل الإخبار.
وأما في قسم الطلب والأمر، فالمقصود منه التنبيه على العلة وأن الجزاء من جنس العمل، فإذا قلت: علم كما علمك اللَّه، وأحسن كما أحسن اللَّه إليك، واعف كما عفا اللَّه عنك.. ونحوه، كان في ذلك تنبيها للمأمور على شكر النعمة التي أنعم اللَّه سبحانه وتعالى بها عليه، وأنه حقيق أن يقابلها بمثلها ويقيدها بشكرها، وأن جزاء تلك النعمة من جنسها، ومعلوم أنه يمتنع خطاب الرب سبحانه وتعالى بشيء
__________
[ (1) ] النساء: 163.
[ (2) ] الأحقاف: 9.
[ (3) ] النور: 55.

(3/248)


من ذلك، ولا يحسن في حقه، فيصير ذكر التشبيه لغوا لا فائدة فيه وهذا غير جائز.
الثالث: أن قوله: كما صليت على آل إبراهيم صفة لمصدر محذوف تقديره:
صلاة مثل صلاتك على آل إبراهيم، وهذا الكلام حقيقته أن تكون الصلاة مماثلة في الصلاة المشبهة بها، فلا تعدل عن حقيقة الكلام ووجهه.
وقالت طائفة: إن هذا التشبيه حاصل بالنسبة إلى كل صلاة من صلوات المصلين، فكل مصل صلى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بهذه الصلاة فقد طلب من اللَّه تعالى أن يصلي على رسوله صلاة مثل الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، ولا ريب أنه إذا حصل من كل من طلب من اللَّه مثل صلاته على آل إبراهيم حصل له من ذلك أضعافا مضاعفة من الصلاة لا تعدّ ولا تحصى، ولم يقاربه فيها صلى اللَّه عليه وسلّم أحد، فضلا عن أن يساويه أو يفضله صلى اللَّه عليه وسلّم.
ونظير هذا: أن يعطى ملك لرجل ألف درهم فيسأله كل واحد منهم أن يعطيه ألفا، فيحصل له من الألوف بعدد كل واحد منهم، وأورد على هذا أن التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة المطلوبة وكل فرد من أفرادها، فالإشكال وارد كما هو، وتقديره أن العطية التي [يعطاها] الفاضل لا بد أن تكون أفضل من العطية التي يعطاها المفضول، فإذا سئل عطية دون ما يستحقه لم يكن لائقا بمنصبه.
وأجيب بأن هذا الإشكال إنما يرد إذا لم يكن الأمر للتكرار، فأما إذا كان الأمر للتكرار فالمطلوب من الأمة أن يسألوا اللَّه سبحانه وتعالى له صلاة بعد صلاة، كل صلاة منها نظير ما حصل لإبراهيم، فيحصل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الصلوات ما لا يحصى مقداره بالنسبة إلى الصلاة الحاصلة لإبراهيم عليه السلام.
وردّ هذا الجواب بأن التشبيه إنما هو واقع في صلاة اللَّه سبحانه وتعالى عليه، لا في صلاة المصلى عليه، ومعنى هذا الدعاء: اللَّهمّ أعطه نظير ما أعطيت إبراهيم، فالمسئول له صلى اللَّه عليه وسلّم صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام، وكلما تكرر هذا السؤال كان هذا معناه، فيكون كل مصل قد سأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يصلي عليه صلاة دون التي يستحقها، وهذا السؤال والأمر به متكرر، فهل هذا إلا تقوية

(3/249)


لجانب الإشكال؟.
ثم إن التشبيه واقع في أصل الصلاة وأفرادها ولا يعني جوابكم عنه بقضية التكرار شيئا، فإن التكرار لا يجعل جانب المشبه به أقوى من جانب المشبه كما هو مقتضى التشبيه، فلو كان التكرار يجعله كذلك لكان الاعتزار به نافعا، بل التكرار يقتضي زيادة تفضيل المشبه وقوته، فكيف يشبه حينئذ بما هو دونه، فظهر ضعف هذا الجواب.
وقالت طائفة: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليست في آل محمد مثلهم، فإذا طلب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء حصل لآل محمد من ذلك ما يليق بهم فإنّهم لا يبلغون مراتب الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وسلامه، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم عليه السلام لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم فتحصل له بذلك من المزية صلى اللَّه عليه وسلّم ما لم يحصل لغيره، وتقدير ذلك: أن تجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله وفيهم الأنبياء جملة مقسومة على محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وآله.
ولا ريب أنه لا يحصل لآله صلى اللَّه عليه وسلّم مثل ما حصل لآل إبراهيم عليه السلام وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم ويبقى سهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مع الزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به صلى اللَّه عليه وسلّم، فيصير الحاصل له صلى اللَّه عليه وسلّم من مجموع ذلك أعظم وأفضل من الحاصل لإبراهيم عليه السلام، وهذا أحسن من كل ما تقدم.
وأحسن منه أن يقال: محمد صلى اللَّه عليه وسلّم من آل إبراهيم بل هو خير آل إبراهيم، كما روي عن أبي طلحة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [ (1) ] ، قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: محمد صلى اللَّه عليه وسلّم من آل إبراهيم عليه السلام، فدخول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أولى فيكون قولنا: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم متناولا للصلاة عليه وعلى سائر الأنبياء الذين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا اللَّه سبحانه وتعالى أن نصلي عليه وعلى آله خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموما وهو فيهم،
__________
[ (1) ] آل عمران: 34.

(3/250)


فيحصل لآله صلى اللَّه عليه وسلّم ما يليق بهم ويبقى الباقي كله له صلى اللَّه عليه وسلّم.
وتقدير ذلك: أنه يكون قد صلى عليه خصوصا، وطلب له من الصلاة ما لآل إبراهيم وهو داخل معهم، ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم عليه السلام ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له صلى اللَّه عليه وسلّم دونهم، فيطلب له صلى اللَّه عليه وسلّم هذا الأمر العظيم الّذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعا.
وحينئذ تظهر فائدة التشبيه وجريه على أصله، وأن المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله أوفر نصيب منه، صار له صلى اللَّه عليه وسلّم من المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم عليه السلام وغيره، وتضاف إلى ذلك ما له من المشبه به من الخصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله صلى اللَّه عليه وسلّم وشرفه على إبراهيم عليه السلام وعلى كل من آله- وفيهم النبيون- ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته.
واعلم أن الأحاديث الواردة في الصلاة والواردة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كلها صريحة بذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وبذكر آله، وأما في حق إبراهيم عليه السلام- وهو المشبه به- فإنما جاءت بذكر آل إبراهيم عليه السلام فقط دون ذكر إبراهيم، أو بذكره عليه السلام دون ذكر آله، ولم يجيء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم كما تظاهرت على لفظ محمد وآل محمد، وبيانه أن أشهر الأحاديث الواردة في الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال:
ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: «قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وهذا لفظهم إلا الترمذي فإنه قال: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم فقط، وكذا في ذكر البركة ولم يذكر الآل، وهي رواية لأبي داود، وفي رواية: كما صليت على آل إبراهيم بذكر الآل فقط، وكما باركت على إبراهيم
(بذكره فقط) .

(3/251)


وفي الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي: قالوا: يا رسول اللَّه، كيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . هذا هو اللفظ المشهور، وقد روي فيه: «كما صليت على إبراهيم وكما باركت على إبراهيم
بدون لفظ الآل في الموضعين.
وفي البخاري عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: قلنا: يا رسول اللَّه هذا السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: «قولوا: اللَّهمّ صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه قال: أتانا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا اللَّه سبحانه وتعالى أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» .
وقد روي هذا الحديث بلفظ آخر: بكما صليت على إبراهيم وكما باركت على إبراهيم (لم يذكر الآل فيهما) وفي رواية أخرى: كما صليت على إبراهيم وكما باركت على آل إبراهيم
بذكر إبراهيم عليه السلام وحده في الأولى، والآل فقط في الثانية، هذه هي الألفاظ المشهورة في هذه الأحاديث المشهورة، أكثرها بلفظ آل إبراهيم في الموضعين، وفي بعضها بلفظ آل إبراهيم فيهما، وفي بعضها بلفظ إبراهيم في الأول والآل في الثاني، وفي بعضها عكسه.
وأما الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم
فرواه البيهقي في سننه من حديث حيي ابن السباق عن رجل من بني الحرث عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم [أنه قال:] «إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد كما صليت

(3/252)


وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وهذا إسناد ضعيف.
ورواه الدّارقطنيّ من حديث ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التميمي عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه عن أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه فذكر الحديث وفيه: «اللَّهمّ صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ،
ثم قال: هذا إسناد حسن متصل.
وفي النسائي من حديث موسى بن طلحة عن أبيه قال: قلنا: يا رسول اللَّه كيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» ، ولكن رواه هكذا ورواه مقتصرا فيه على ذكر إبراهيم في الموضعين.
وقد روي ابن ماجة حديثا موقوفا آخر عن ابن مسعود فيه إبراهيم وآل إبراهيم، قال في السنن: حدثنا الحسين بن بيان، حدثنا زياد بن عبد اللَّه حدثنا المسعودي عن عون بن عبد اللَّه عن ابن أبي فاختة عن الأسود بن يزيد عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: إذا صليتم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض، قال: فقالوا له: فعلمنا، قال: قولوا: «اللَّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللَّهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبطه الأولون والآخرون، اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد،
وهذا حديث موقوف، وابن أبي فاختة اسمه نوير، قال يونس بن أبي إسحاق: كان رافضيا، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال الدار الدّارقطنيّ: متروك.
وعامة الأحاديث التي في الصحاح والسنن كما ذكرنا باقتصار على الآل وإبراهيم

(3/253)


في الموضعين، أو الآل في إحداهما وإبراهيم في [الأخرى] [ (1) ] فحيث جاء ذكر إبراهيم وحده في الموضعين فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها وآله تبعا له عليه السلام فيها، فذلك ذكر المتبوع على التابع، واندرج فيه وأغنى عن ذكره، وحيث جاء ذكر آله فقط فلأنه داخل في آله كما تقرر في موضعه، فيكون ذكر آل إبراهيم عليه السلام مغنيا عن ذكره وذكر آله بلفظين، وحيث جاء في أحدهما ذكره عليه السلام فقط وفي الآخر ذكر آله فقط، كان ذلك جمعا بين الأمرين فيكون ذكر المتبوع الّذي هو الأصل، وذكر أتباعه بلفظ يدخل هو فيهم.
وأما ذكر محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وذكر آله فقد جاء بالاقتران دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث، فلأن الصلاة عليه صلى اللَّه عليه وسلّم وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء بخلاف الصلاة على إبراهيم عليه السلام، فإنّها جاءت في مقام الخبر وذكر الواقع لأن
قوله: «اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد» جملة طلبية، وقوله: «كما صليت على آل إبراهيم»
جملة خبرية، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها، ولهذا شرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها فإنّها دعاء، واللَّه سبحانه وتعالى يحب الملحين في الدعاء، ولهذا تجد كثيرا من أدعية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فيها من بسط الألفاظ وذكر كل معنى بصريح لفظه دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه، ما يشهد لذلك
كقوله صلى اللَّه عليه وسلّم في حديث علي الّذي رواه مسلم في صحيحه: «اللَّهمّ اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت» .
ومعلوم أنه لو قيل: اغفر لي كل ما صنعت كان أوجز، ولكن ألفاظ الحديث في مقام الدعاء والتضرع وإظهار العبوديّة والافتقار، واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلا أحسن أو بلغ من الإيجاز والاختصار.
وكذلك قوله في الحديث الآخر: «اللَّهمّ اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، أوله وآخره» .
وفي حديث آخر: «اللَّهمّ اغفر لي خطيئتي وجهلي
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(3/254)


وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللَّهمّ اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي» .
وهذا كثير في الأدعية المأثورة، فإن الدعاء عبودية للَّه سبحانه وتعالى وافتقار إليه، وتذلل بين يديه سبحانه وتعالى، فكلما كثّره العبد وطوله، وأعاده وأبدأه، ونوّع جملته، كان ذلك أبلغ في عبوديته، وإظهار فقره، وتذلله وحاجته، فكان ذلك أقرب له من ربه سبحانه وتعالى وأعظم لثوابه.
وهذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما كثرت سؤالك إياه وعددت له حوائجك أبرمته وثقلت عليه وهنت في نفسه عنده، وكلما تركت سؤاله كنت أعظم عنده وأحب إليه، واللَّه جل جلاله كلما سألته كنت أقرب إليه وأحب إليه، وكلما ألححت في الدعاء أحبك، ومن لم يسأل اللَّه سبحانه وتعالى يغضب عليه، فاللَّه سبحانه وتعالى يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب [ (1) ] ، فالمطلوب منه سبحانه وتعالى يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه.
وأما الخبر، فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضى لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم تكن في زيادة اللفظ فيه كبير فائدة، ولا سيما والمقام ليس مقام إيضاح وتفهيم المخاطب ليحسن معه البسط والإطناب، فكان الإيجاز والاختصار فيه أكمل وأحسن، فلهذا جاء فيه بلفظ إبراهيم تارة، وبلفظ آله تارة أخرى، لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر من الوجه الّذي تقدم ذكره، فكان المراد باللفظين واحدا مع الإيجاز والاختصار، بخلاف ما لو قيل: صل على محمد، لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آله، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ، ليس خبرا عن أمر قد وقع واستقر.
ولو قيل: صلى على آل محمد لكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إنما يصلي عليه ضمنا في العموم، فقيل: على محمد وعلى آل محمد ليحصل له صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك الصلاة عليه بخصوصه،
__________
[ (1) ] إشارة إلى قول الشاعر:
لا تسألنّ بنيّ آدم حاجة ... وسل الّذي أبوابه لا تقضب
فاللَّه يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب
القضب: القطع. (لسان العرب) : 1/ 678.

(3/255)


والصلاة عليه صلى اللَّه عليه وسلّم بدخوله في آله.
وهنا للناس طريقان في مثل هذا، هل يقال: داخل في آله مع اقترانه بذكره فيكون قد ذكر مرتين: مرة بخصوصه ومرة في اللفظ العام، وعلى هذا فيكون قد صلى عليه مرتين خصوصا وعموما، وهذا على أصل من يقول: أن العام إذا ذكر بعد الخاص كان متناولا له أيضا، ويكون الخاص قد ذكر مرتين، وكذلك في ذكر الخاص بعض العام كقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [ (1) ] ، وكذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ [ (2) ] الآية، والطريق [الّذي اختاره] [ (3) ] إلى ذكره بلفظ الخاص يدل على أنه غير داخل في اللفظ العام، فيكون ذكره بخصوصه مغنيا عن دخوله في العام، وعلى هذه الطريقة فيكون في ذلك فوائد:
الأولى [ (4) ] : أنه لما كان صلى اللَّه عليه وسلّم من أشرف النوع العام أفرد صلى اللَّه عليه وسلّم بلفظه يخصه صلى اللَّه عليه وسلّم، فيكون في ذلك تنبيها على اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم ومزيته على النوع الداخل في اللفظ العام.
الثانية: أنه يكون فيه تنبيه على أن الصلاة عليه صلى اللَّه عليه وسلّم أصل، وأن الصلاة على آله تبع له، وأنهم إنما نالوا ذلك بتبعيتهم له صلى اللَّه عليه وسلّم.
الثالثة: أن إفراده صلى اللَّه عليه وسلّم بالذكر يرفع عنه توهم التخصيص، وأنه لا يجوز أن يكون مخصوصا من اللفظ العام، بل هو مراد قطعا.
واعلم أن
قوله: «وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم»
دعاء يتضمن إعطاء محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الخير ما أعطاه اللَّه سبحانه وتعالى لآل إبراهيم مع إدامة ذلك الخير وثبوته له صلى اللَّه عليه وسلّم ومضاعفته وزيادته، فإن هذا هو حقيقة البركة، وقد قال اللَّه تعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ [ (5) ] ، وقال تعالى فيه وفي
__________
[ (1) ] البقرة: 98.
[ (2) ] الأحزاب: 7.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق، وفي (خ) : «منها» .
[ (5) ] الصافات: 112- 113.

(3/256)


أهل بيته: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [ (1) ] ، وتأمل كيف جاء في القرآن: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ [ (2) ] ، ولم يذكر إسماعيل، وجاء في التوراة ذكر البركة على إسماعيل ولم يذكر إسحاق، فقال بعد أن ذكر إسماعيل: وأنه سيلد اثنى عشر عظيما ما حكايته سمعتك ها أنا باركته وأيمنته بمادماد أي بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فجاء في التوراة ذكر البركة في إسماعيل إيذانا بما حصل لبنيه من الخير والبركة، ولا سيما خاتم بركتهم، وأعظمهم وأجلهم محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فنبههم سبحانه وتعالى بذلك على ما يكون في بني إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام من البركة العظيمة الموافية على لسان المبرك صلى اللَّه عليه وسلّم.
وذكر لنا في القرآن الكريم بركته سبحانه وتعالى، منها ما حصل في أولاده من نبوة موسى وغيره، وما أوتوه من الكتاب والعلم، مستدعيا سبحانه وتعالى من عباده الإيمان بذلك والتصديق به، وأن لا يهملوا معرفة حقوق بيت إبراهيم عليه السلام، إذا هو البيت المبارك، وأهله أهل النبوة والعلم والكتاب.
ولا يقول القائل: هؤلاء أنبياء بني إسرائيل لا تعلق لنا بهم، فإنه يجب علينا معشر المسلمين احترامهم وتوقيرهم والإيمان بهم ومحبتهم، وموالاتهم والثناء عليهم، وصلوات اللَّه عليهم وسلامه.
ولما كان هذا البيت المبارك المطهر أشرف بيوت العالم على الإطلاق، خص اللَّه سبحانه وتعالى أهله بخصائص منها: أن جعل فيهم النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم عليه السلام نبي إلا من أهل بيته.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعلهم أئمة يهدون بأمره تعالى إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة أولياء اللَّه سبحانه وتعالى بعدهم فإنما دخل بدعوتهم من طريقهم.
ومنها: أنه اتخذ منهم سبحانه وتعالى الخليلين إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فبدأ هذا البيت بإبراهيم عليه السلام، وختمه بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، أنه من ولد إبراهيم
__________
[ (1) ] هود: 73.
[ (2) ] الصافات: 113.

(3/257)


عليه السلام، قال تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [ (1) ] ،
وثبت أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن اللَّه اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» ،
ولم يكن لبيت من بيوت العالم مثل هذه الخصوصية.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل صاحب هذا البيت إماما للعالمين، قال تعالى:
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [ (2) ] .
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أجرى على يديه بناء بيته الحرام الّذي جعله قبلة للناس وحجا لهم، فكان ظهور هذا البيت المحرم من أهل هذا البيت الأكرمين، ومن تبحر في أحوال العالم علم أنه كان في الدهر الغابر سبعة بيوت في الأرض يحج الناس إليها، لم يبلغ بيت منها عظمة هذا البيت ولا بركته، ما منها إلا ما أباده اللَّه وأبقى هذا البيت دونها، وزاده تشريفا وتكريما وتعظيما.
قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [ (3) ] ، أي صير اللَّه الكعبة قواما للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز ضعيفهم عن قويهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، فحجز سبحانه وتعالى بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض إذ لم يكن لهم قيام غيره، وجعلها معالم لدينهم ومصالح أمورهم، فجعل سبحانه وتعالى الكعبة والشهر الحرام قواما لمن كان يحترم ذلك من العرب، ويعظمه بمنزلة الرئيس الّذي يقوّم أمر أتباعه.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أخرج منهم الآيتين العظيمتين التي لم يخرج من أهل بيت غيرهم مثلهما، وهما أمة موسى عليه السلام وأمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، تمام سبعين أمة خيرها وأكرمها على اللَّه سبحانه وتعالى.
ومنها: أن اللَّه سبحانه وتعالى أبقى عليهم لسان صدق وثناء حسنا في العالم، فلا يذكرون إلا بالثناء عليهم، والصلاة والسلام عليهم، قال تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [ (4) ] .
__________
[ (1) ] النساء: 125.
[ (2) ] البقرة: 124.
[ (3) ] المائدة: 97.
[ (4) ] الصافات الآيات: 108- 110.

(3/258)


ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل أهل هذا البيت فرقانا بين الناس، فالسعداء أتباعهم ومحبوهم ومن تولاهم، والأشقياء من أبغضهم وأعرض عنهم وعاداهم، فالجنة لهم ولأتباعهم، والنار لأعدائهم ومخالفيهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل ذكرهم مقرونا بذكره تعالى، فيقال: إبراهيم خليل اللَّه ورسوله ونبيه، وموسى كليم اللَّه ورسوله، وعيسى روح اللَّه وكلمته، ومحمد رسول اللَّه، قال اللَّه تعالى لنبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (1) ] ، قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: إذا ذكرت ذكرت معي، فيقال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه في كلمة الإسلام وفي الأذان وفي الخطب وفي التشهد وغير ذلك.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل خلاص خلقه من شقاء الدنيا والآخرة على يدي أهل هذا البيت، فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها، ولهم من المنن الجسام في رقاب الأولين والآخرين من أهل السعادة مع الأيادي العظام عندهم ما لا يمكن أن يجازيهم عليها إلا اللَّه سبحانه وتعالى.
ومنها: أن كل خير ونفع وعمل صالح وطاعة للَّه سبحانه وتعالى حصلت وكانت في العالم فلهم من الأجر مثل أجور عاملها فضيلة خصهم اللَّه سبحانه وتعالى بها من بين أهل العالم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى سد جميع الطرق بينه وبين البشر وأغلق دونهم الأبواب فلم يفتح لأحد إلا من طريقهم وبابهم، قال الجنيد رحمه اللَّه: يقول اللَّه عز وجل لرسوله محمد صلى اللَّه عليه وسلّم: وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق واستفتحوا كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى خصهم من العلم بما لم يخص به أهل بيت سواهم، فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم باللَّه سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله، وثوابه وعقابه وشرعه، ومواقع رضاه وغضبه، وملائكته ومخلوقاته منهم،
__________
[ (1) ] الشرح: 4.

(3/259)


فجمع سبحانه وتعالى لهم علم الأولين والآخرين.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى خصهم من توحيده ومحبته وقربه والاختصاص به بما لم يخص أهل بيت سواهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى مكن لهم الأرض واستخلفهم فيها، وأطاع أهل الأرض لهم، ما لم يحصل لغيرهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أيدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائهم وأعدائه ما لم يؤيد به غيرهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى محابهم من آثار أهل الضلال والشرك، ومن الآثار التي يبغضها ويمقتها، ما لم يمحه بسواهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل آثارهم في الأرض سببا لبقاء العالم وحفظه، فلا يزال العالم باقيا ما دامت آثارهم باقية، فإذا ذهبت آثرهم من الأرض فذاك أوان خراب العالم، قال سبحانه وتعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: لو تركت الناس كلّهم الحج لوقعت السماء على الأرض، وقال: لو ترك الناس الحج كلهم لما مطروا.
وأخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن في آخر الزمان يرفع اللَّه بيته من الأرض وكلامه من المصاحف وصدور الرجال، فلا يبقى في الأرض بيت يحجّ ولا كلام يتلى، فحينئذ يقرب خراب العالم.
وهكذا الناس اليوم، إنّما قيامهم بقيام آثار نبيهم وشرائعه بينهم، وقيام أمورهم وحصول مصالحهم واندفاع أنواع البلاء والشر عنهم بحسب ظهورها بينهم وقيامها، وهلاكهم وحلول البلايا والشر بهم عند تعطلها والإعراض عنها والتحاكم إلى غيرها واتحاد سواها.
ومن عرف حوادث الزمان فإنه يقف على أن البلاد التي سلّط اللَّه سبحانه وتعالى عليها من سلّطه حتى أخرب البلاد وأهلك العباد، إنما كان سببه تعطيلهم لدينه بينهم

(3/260)


وشرائعه، فكان ذلك انتقاما منهم بتسليط اللَّه سبحانه وتعالى عليهم، وأن البلاد التي لآثار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وسنته وشرائعه فيها ظهور دفع اللَّه سبحانه وتعالى عنهم بحسب ظهور ذلك بينهم.
وهذه الخصائص وأضعاف أضعافها من آثار رحمة اللَّه سبحانه وتعالى وبركاته على أهل هذا البيت الإبراهيمي، فلهذا أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن نطلب له من اللَّه سبحانه وتعالى أن يبارك عليه وعلى آله كما بارك على [آل] [ (1) ] هذا البيت المعظم.
ومن بركاته: أنه سبحانه وتعالى أظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت غيرهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أعطاهم من خصائصهم ما لم يعط غيرهم، فمنهم من اتخذه خليلا [ (2) ] ، ومنهم الذبيح [ (3) ] ، ومنهم من كلّمه تعالى تكليما [ (4) ] ، ومنهم من آتاه اللَّه سبحانه وتعالى شطر الحسن وجعله من أكرم الناس عليه [ (5) ] ، ومنهم من أتاه اللَّه سبحانه وتعالى ملكا لم يؤته أحدا غيره [ (6) ] .
ولما ذكر اللَّه سبحانه وتعالى أهل هذا البيت وذرّيتهم أخبر أن كلهم فضّله على العالمين [ (7) ] .
ومن خصائصهم: بركاتهم على أهل الأرض [أنه] [ (8) ] يرفع العذاب عن سكان البسيطة بهم ويبعثهم، فإن عادة اللَّه سبحانه وتعالى كانت في أمم الأنبياء الذين قبلهم أن يهلكهم إذا كذبوا أنبياءهم ورسله بعذاب يعمهم كلهم كما فعل بقوم نوح إذ أغرق الأرض كلها وأهلك من عليها بالطوفان إلا أصحاب السفينة [ (9) ] ، وكما
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] إبراهيم عليه السلام.
[ (3) ] إسحاق أو إسماعيل على خلاف بين أهل التفسير فليراجع هناك.
[ (4) ] موسى عليه السلام.
[ (5) ] يوسف عليه السلام.
[ (6) ] سليمان عليه السلام.
[ (7) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ [86: الأنعام] .
[ (8) ] زيادة للسياق.
[ (9) ] إشارة إلى قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [15: العنكبوت] .

(3/261)


فعل تعالى بقوم هود إذ أهلك عادا بريح دمّرتهم كلهم [ (1) ] ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [ (2) ] ، وكما فعل سبحانه وتعالى بقوم صالح: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ
[ (3) ] ، وكما فعل تعالى بقوم لوط جعل مدائنهم عالِيَها سافِلَها [ (4) ] ، فلما أنزل اللَّه سبحانه وتعالى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، رفع بنزولها العذاب العام عن أهل الأرض، وأمر سبحانه وتعالى بجهاد من كذبها وخالفها، فكان ذلك نصرة لأهل دينه بأيديهم، وشفاء لصدورهم واتخاذ الشهداء منهم، وإهلاك عدوّ اللَّه بأيديهم لتحصل [نصرته] سبحانه وتعالى على أيديهم.
وحق لأهل بيت هذا من بعض فضائلهم وخصائصهم أن لا تزال الألسنة رطبة بالصلاة عليهم والسلام، والثناء والتعظيم، ولا تزال القلوب ممتلئة من محبتهم وتوقيرهم وإجلالهم، وليعلم المصلي عليهم أنه لو صرف أنفاسه كلها في الصلاة عليهم لما وفى القليل من حقهم، فجزاهم اللَّه سبحانه وتعالى [عنا] [ (5) ] أفضل الجزاء، وزادهم في الملأ الأعلى تعظيما وتشريفا، ومهابة وتكريما، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
***
__________
[ (1) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [21: الأحقاف] .
[ (2) ] الذاريات: 42.
[ (3) ] الأعراف: 78.
[ (4) ] إشارة إلى قوله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] .
[ (5) ] زيادة للسياق.

(3/262)


وأما اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم بالشفاعة [ (1) ] العظمى يوم الفزع [ (2) ] الأكبر
قال اللَّه تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ (3) ] ، قال قتادة والحسن وزيد بن أسلّم: قدم صدق هو محمد صلى اللَّه عليه وسلّم يشفع لهم.
وعن أبي سعيد الخدريّ: هي شفاعة نبيهم محمد، وهو شفيع صدق عند ربهم.
__________
[ (1) ] الشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصرا له ومسائلا عنه. وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى. ومنه الشفاعة في القيامة، قال تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [48:
المدثر] ، أي لا تشفع لهم.
وقوله: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها [85: النساء] ، أي من انضم إلى غيره وعاونه، وصار شفعا له أو شفيعا في فعل الخير أو الشّر وقوّاه، شاركه في نفعه وضرّه.
وقيل الشفاعة ها هنا: أن يشرع الإنسان لآخر طريق خير أو طريق شرّ، فيقتدي به، فصار كأنه شفع له، وذلك كما
قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» . [رواه مسلم مطولا] .
وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [3: يونس] ، أي يدبر الأمر وحده لا ثاني له في فصل الأمر، إلا أن يأذن للمدبرات والمقسمات من الملائكة فيفعلون ما يفعلونه بعد إذنه.
واستشفعت بفلان على فلان فتشفّع لي إليه. وشفّعه: أجاب شفاعته. ومنه الحديث: «القرآن شافع مشفّع» . [رواه ابن حبان] . وإن فلانا ليستشفع به. قال الشاعر:
مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
(بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 3/ 328- 329.
[ (2) ] الفزع: الذّعر والفرق. وربما جمع على الأفزاع، وإن كان مصدرا يقال: فزع- بالكسر-: خفا.
قال تعالى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [89: النمل] . وفزع أيضا: استغاث. والإفزاع:
الإخافة والإغاثة.
والتفزيع من الأضداد، يقال: فزّعه إذا أخافه. وفزّع عنه: كشف عنه الفزع. قال تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [23: سبأ] ، أي كشف عنها الفزع. (المرجع السابق) : 4/ 191.
[ (3) ] يونس: 2.

(3/263)


خرج البخاري وأبو داود من حديث مسدد قال: حدثنا يحيى عن الحسن بن ذكوان قال: حدثنا أيوب قال: حدثني عمران بن الحصين رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يخرج قوم فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميون. ذكره البخاري في الرقاق في باب صفة الجنة والنار، وذكره أبو داود في كتاب السنة في باب الشفاعة
ولفظهما فيه سواء [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث همام عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة الجهنميون [ (1) ] . ذكره في الرقاق في كتاب التوحيد في باب قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [ (2) ] .
[و] من حديث هشام عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم اللَّه تعالى الجنة بفضل رحمته يقال لهم: الجهنميون [ (3) ] .
وللترمذي من طريق عن الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه [ (4) ] .
وله من حديث سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أتاني آت من عند ربي فخيّرني بين أن يدخل نصف
__________
[ (1) ] سبق الإشارة إليه وشرحه.
[ (2) ] الأعراف: 56.
[ (3) ] سبق الإشارة إليه.
[ (4) ] رواه الترمذي رقم (2437) في صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة، وأبو داود رقم (4739) في السنة، باب في الشفاعة، ورواه أيضا ابن ماجة رقم (4310) في الزهد، باب ذكر الشفاعة، وهو حديث صحيح، وأخرجه الترمذي أيضا من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما مثله، وزاد فيه: قال الراويّ: فقال لي جابر: «يا محمد! من لم يكن من أهل الكبائر، فما له وللشفاعة؟» رقم (2438) في صفة القيامة، باب رقم (12) وهو حديث حسن.

(3/264)


أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك باللَّه شيئا [ (1) ] .
وخرج أبو بشر بن محمد بن أحمد بن حماد الدولابي من حديث محمد بن عوف ابن سفيان الطائي قال: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: حدثنا أنس بن مالك عن أم حبيبة رضي اللَّه عنها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أريت ما [يلقى] [ (2) ] أمتي بعدي وسفك بعضهم دماء بعض، [فأحزنني وشق ذلك عليّ] [ (3) ] ، وسبق ذلك من اللَّه [تعالى] [ (3) ] كما سبق في الأمم قبلهم، فسألته [أن يوليني الشفاعة فيهم يوم القيامة ففعل] [ (4) ] .
وخرج مسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابرا رضي اللَّه عنه يقول: سمعه من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بأذنه يقول: إن اللَّه تبارك وتعالى يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة [ (5) ] .
وخرج من حديث حماد بن زيد قال: قلت لعمرو بن دينار: أسمعت جابر ابن عبد اللَّه يحدث عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن اللَّه تعالى يخرج قوما من النار بالشفاعة؟
__________
[ (1) ] حديث رقم (2443) في صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة، وإسناده حسن، وفي (خ) :
«وهي لمن مات» ، وفي الترمذي: «وهي نائلة من مات..» .
[ (2) ] في (خ) : «تلقى» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة عن رواية (المستدرك) .
[ (4) ]
كذا في (خ) ، وفي (المستدرك) : «فسألته أن يوليني الشفاعة فيهم يوم القيامة ففعل» . والحديث رواه الحاكم في (المستدرك) : 1/ 138- 139، حديث رقم (227/ 228) من كتاب الإيمان وقال في آخره: هذا حديث حسن صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والعلة عندهما فيه أن أبا اليمان حدّث به مرتين، فقال مرة: عن شعيب، عن الزهري، عن أنس، وقال مرة:
عن شعيب، عن ابن أبي حسين، عن أنس.. وقد قدمنا القول في مثل هذا أنه لا ينكر أن يكون الحديث عند إمام من الأئمة عن شيخين، فمرة يحدث به هذا، ومرة عن ذاك. وقد حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن عمر، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا إبراهيم بن هانئ النيسابورىّ قال:
قال لنا أبو اليمان: الحديث حديث الزهري والّذي حدثتكم عن ابن أبي حسين غلطت فيه بورقة قلبتها.
قال الحاكم: هذا كالأخذ باليد، فإن إبراهيم بن هانئ ثقة مأمون. وقال الذهبي في (التلخيص) بنحو كلام الحاكم.
[ (5) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (317) .

(3/265)


قال: نعم [ (1) ] .
وخرجه البخاري من حديث حماد عن عمرو عن جابر أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «يخرج من النار [قوم] [ (2) ] بالشفاعة كأنهم الثّعارير، قلنا: ما الثعارير؟ قال:
الضغابيس» [وفي رواية] [ (2) ] : «إن اللَّه يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة» وفي أخرى: «إن اللَّه يخرج قوما من النار بالشفاعة» ] [ (3) ] .
وخرج من حديث حماد، عن عمرو، عن جابر رضي اللَّه عنه، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «يخرج من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير» . قلت: وما الثعارير؟
قال: الضغابيس. وكان قد سقط فمه، فقلت لعمرو [بن دينار] [ (3) ] : أبا محمد، سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: «يخرج بالشفاعة من النار» ؟ قال: نعم [ (4) ] . ذكره في كتاب الرقاق.
ولمسلم من حديث أبي أحمد الزبيري، حدثنا قيس بن سليم العنبري، قال:
حدثني يزيد الفقير، حدثنا جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أم قوما يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، من حديث رقم (318) . وكلاهما في (مسلم بشرح النووي) : 3/ 51.
[ (2) ] زيادة للسياق من (جامع الأصول) : 10/ 550، و (الثعارير) : صغار القثاء، وهي الضغابيس أيضا، واللفظة بالثاء المعجمة والعين المهملة. وذكرها الهروي في حرف الغين المعجمة، وبعدها الراء المهملة، وبعدها الزاي المعجمة «كما تنبت التغاريز» والتاء معجمة بنقطتين من فوق قبل الغين، وقال:
هي فسيل النخل إذا حولت من موضع إلى موضع فغرزت فيه، الواحدة تغريز وتنبيت. وقال مثله في التقدير: التناوير، لنور الشجر، والتقاصيب لما قصّب من الشعر. قال: وقد رويت «الثعارير» يعني الأول، والوجه الأول، وهو الرواية، وتعضده الرواية الأخرى التي قال فيها: «الضغابيس» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (جامع الأصول) ، والحديث أخرجه البخاري في الرقاق باب (51) ، حديث رقم (6558) ، ومسلم في الإيمان، باب (84) أدنى أهل الحجنة منزلة فيها، حديث رقم (317) ، (318) .
[ (4) ] انظر التعليق السابق.
[ (5) ] أخرجه مسلم في الإيمان، باب (84) أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم (319) .

(3/266)


وله من حديث ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يسأل عن الورود فقال: «نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا، انظر أي ذلك فوق الناس، قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا، ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء اللَّه، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفا لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم، كأضواء نجم في السماء، ثم كذلك، ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا اللَّه، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل، ويذهب حراقه، ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها» [ (1) ] .
[قال كاتبه: هكذا وقع في رواية هذا الحديث «عن كذا وكذا، انظر» .
وقال الحفاظ: هو كلام فاسد غير مستقيم، وصوابه: «على كوم» ، وهو جمع كومة، وهو المكان المشرف، أي نحن فوق الناس، فلم يذكر المؤلف اللفظة أو المكنى عنه، فكنى عنها بكذا وكذا، وفسرها بقوله: «أي ذلك فوق الناس» ، وقوله: «انظر» أي تأمل هذا الموضع واستثبت فيه، فظنه الناسخ من الحديث
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (316) قوله: «حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ويذهب حراقه ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها» ، وهكذا هو في جميع الأصول ببلادنا «نبات الشيء» ، وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، وعن بعض رواة مسلم «نبات الدمن» ، يعني بكسر الدال وإسكان الميم، وهذه الرواية هي الموجودة في (الجمع بين الصحيحين) لعبد الحق، وكلاهما صحيح، لكن الأول هو المشهور الظاهر، وهو بمعنى الروايات السابقة «نبات الحبة في حميل السيل «، وأما «نبات الدمن» فمعناها أيضا كذلك، فإن الدمن البعر، والتقدير: نبات ذي الدمن في السيل، أي كما ينبت الشيء الحاصل في البعر، والغثاء الموجود في أطراف النهر، والمراد التشبيه به في السرعة والنضارة، وقد أشار صاحب (المطالع) إلى تصحيح هذه الرواية، ولكن لم ينقح الكلام في تحقيقها، بل قال: عندي أنها رواية صحيحة، ومعناه سرعة نبات الدمن مع ضعف ما ينبت فيه، وحسن منظره. واللَّه تعالى أعلم.
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 50- 51.

(3/267)


فألحقه بمتنه، ولا يخفى ما فيه من التخليط] [ (1) ] .
[وقال الشيخ محيي الدين النووي: « ... هكذا في جميع الأصول من صحيح مسلم، واتفق المتقدمون والمتأخرون على أنه تصحيف» ] [ (1) ] .
[وقال الحافظ عبد الحق في كتابه (الجمع بين الصحيحين) : «هذا الّذي وقع في كتاب مسلم تخليط» ] [ (1) ] .
[وقال القاضي عياض: «هذه صورة الحديث في جميع النّسخ، وفيه تغيير كثير وتصحيف» ] [ (1) ] .
[وفي طريق ابن أبي خيثمة من حديث أنس بن مالك: «يحشر الناس يوم القيامة على تل وأمتي على تل» ] [ (1) ] .
[وفي رواية: «يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل» ،
قال القاضي عياض: «.... فجمع النقلة الكلّ ونسّقوه على أنه من متن الحديث كما تراه.... وقد تابعه عليه جماعة من المتأخرين» ] [ (1) ] .
وخرج من حديث محمد بن [بشر] [ (2) ] حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: أتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك [ (3) ] ؟ يجمع اللَّه يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي [ (4) ] ، وينفذهم البصر [ (4) ] ، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون، من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم فيقولون:
يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في التصوير الميكروفيلمي للمخطوطة (خ) ، وقد قمنا بصياغة هذه العبارات بحيث تفيد المعنى الّذي أراده المصنف من خلال الأجزاء الواضحة في الميكروفيلم.
[ (2) ] في (خ) : «عبيد» .
[ (3) ] في (خ) : «بم يجمع» .
[ (4) ] في (خ) : «فيبصرهم الناظر» ، «ويسمعهم الداعي» .

(3/268)


فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟.
فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض، وسمّاك اللَّه عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، لا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها، على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم.
فيأتون إبراهيم فيقولن: أنت نبي اللَّه وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم:
إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى صلى اللَّه عليه وسلّم فيقولون: يا موسى، أنت رسول اللَّه فضّلك اللَّه برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى صلى اللَّه عليه وسلّم: إن ربي قد غضب اليوم غصبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى صلى اللَّه عليه وسلّم.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول اللَّه، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم صلى اللَّه عليه وسلّم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
فيأتون فيقولون: يا محمد، أنت رسول اللَّه، وخاتم الأنبياء، وغفر لك

(3/269)


ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشتفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح اللَّه على ويلهمني من محامده، وحسن الثناء عليه، شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم قال:
يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفّع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والّذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين [ (1) ] من مصاريع الجنة، لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى [ (2) ] .
__________
[ (1) ] المصراعان- بكسر الميم- جانبا الباب، وهجر- بفتح الهاء والجيم- مدينة عظيمة، هي قاعدة بلاد البحرين، وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث «إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر» ، تلك قرية من قرى المدينة، كانت القلال تصنع بها، وهي غير مصروفة. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 69، (معجم البلدان) موضع رقم (12637) .
[ (2) ] بصرى- بضم الباء- مدينة معروفة، بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل، وهي مدينة حوران، وبينها وبين مكة شهر (المرجع السابق) ، (معجم البلدان) موضع رقم (1949) .
والحديث أخرجه مسلم في الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (327) ، قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «يجمع اللَّه يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر» ،
أما الصعيد فهو الأرض الواسعة المستوية، وأما ينفذهم البصر، فهو بفتح الياء وبالذال المعجمة، وذكر الهروي وصاحب (المطالع) وغيرهما، أنه روي بضم الياء، وبفتحها، قال صاحب (المطالع) : رواه الأكثرون بالفتح، وبعضهم بالضم.
وأما معناه، فقال الهروي: قال أبو عبيد: معناه ينفذهم بصر الرحمن تبارك وتعالى، حتى يأتي عليهم كلهم. وقال غير أبي عبيد: أراد تخرقهم أبصار الناظرين لاستواء الصعيد، واللَّه تبارك وتعالى قد أحاط الناس أولا وآخرا. هذا كلام الهروي.
وقال صاحب (المطالع) : معناه أنه يحيط بهم الناظر، لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض، أي ليس فيها ما يستتر به أحد عن الناظرين. قال: وهذا أولى من قول أبي عبيد: يأتي عليهم بصر الرحمن سبحانه وتعالى، لأن رؤية اللَّه تعالى تحيط بجميعهم في كل حال، في الصعيد المستوى وغيره، هذا قول صاحب (المطالع) .
قال الإمام أبو السعادات الجزري بعد أن ذكر الخلاف بين أبي عبيد وغيره، في أن المراد بصر الرحمن سبحانه وتعالى، أو بصر الناظر من الخلق: قال أبو حاتم: أصحاب الحديث يروونه بالذال المعجمة، وإنما هو بالمهملة، أي يبلغ أولهم وآخرهم، حتى يراهم كلهم ويستوعبهم، من نفد الشيء وأنفدته.
قال: وحمل الحديث على بصر الناظر أولى من حمله على بصر الرحمن تبارك وتعالى. مختصرا من (مسلم بشرح النووي) : 3/ 67- 68.

(3/270)


ولمسلم من حديث عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: وضعت بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قصعة من ثريد ولحم، فتناول الذراع، وكانت أحب الشاة إليه، فنهس نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، ثم نهس أخرى فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، فلما رأى أصحابه لا يسألونه قال: ألا تقولون كيفه؟ قالوا: كيفه يا رسول اللَّه؟ قال: يقوم الناس لرب العالمين، وساق الحديث بمعنى حديث أبي حيان عن أبي زرعة. وزاد في قصة إبراهيم فقال: وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم: بل فعل كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم.
قال: والّذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة، قال: لا أدري أي ذلك قال [ (1) ] .
وله من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وأبو مالك عن ربعي [بن خراش] [ (2) ] ، عن حذيفة قالا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يجمع اللَّه تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون، يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم، لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل اللَّه، قال: فيقول إبراهيم:
لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء [ (3) ] أعمدوا إلى موسى صلى اللَّه عليه وسلّم، الّذي كلّمه اللَّه تكليما، فيأتون موسى صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست بصاحب ذاك، اذهبوا إلى عيسى كلمة اللَّه وروحه، فيقول عيسى صلى اللَّه عليه وسلّم: لست بصاحب ذاك.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 3/ 69- 70، حديث رقم (328) .
[ (2) ] زيادة للنسب من (خ) .
[ (3) ]
قوله: «إنما كنت خليلا من وراء وراء» ،
قال صاحب (التحرير) : هذه الكلمة تذكر على سبيل التواضع، أي لست لتلك الدرجة الرفيعة، قال: وقع لي معنى مليح فيه، وهو أن معناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بوساطة سفارة جبريل عليه السلام، ولكن ائتوا موسى فإنه حصل له سماع الكلام بغير واسطة، قال: وإنما كرر «وراء وراء» ، لكون نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم حصل له السماع بغير واسطة، وحصل له الروية، فقال إبراهيم عليه السلام: أنا وراء موسى الّذي هو وراء محمد صلى اللَّه عليه وعليهم أجمعين وسلّم. هذا كلام صاحب التحرير، وأما ضبط «وراء وراء» ، فالمشهور فيه الفتح فيهما بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤهما على الضم، على خلاف بين أهل اللغة، فليراجع في مظانه.
(المرجع السابق) .

(3/271)


فيأتون محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم، فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم [ (1) ] ، فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أوّلكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كمرّ البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمرّ الريح، ثم كمرّ الطير، وشدّ الرجال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم [قائم] [ (2) ] على الصراط، يقول: ربّ سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا.
قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار، والّذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون خريفا [ (3) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث مالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، قال: حدثني أبي، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يدخل اللَّه أهل الجنة الجنة، يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار،
__________
[ (1) ] وأما إرسال الأمانة والرحم، فهو لعظم أمرهما، وكثير موقعهما، فتصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها اللَّه تعالى، قال صاحب (التحرير) : في الكلام اختصار، والسامع فهم أنهم تقومان لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما. (المرجع السابق) .
[ (2) ] في (خ) : «ونبيم على الصراط» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) قوله: «فيمر أولهم كالبرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم» ، أما شدّ الرجال فهو بالجيم جمع رجل، هذا هو الصحيح المعروف المشهور.
ونقل القاضي أنه في رواية ابن ماهان بالحاء، قال القاضي: وهما متقاربان في المعنى، وشدّها:
عدوها البالغ وجريها.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «تجري بهم أعمالهم» ،
فهو كالتفسير،
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم، «فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح.. إلخ»
معناه أنهم يكونون في سرعة المرور على حسب مراتبهم وأعمالهم.
قوله: «والّذي نفس أبي هريرة بيده أن قعر جهنم لسبعون خريفا» ، هكذا هو في بعض الأصول «لسبعون» بالواو، وهذا ظاهر، وفيه حذف تقديره أن مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة، ووقع في بعض الأصول والروايات: لسبعين بالياء، وهو صحيح أيضا، أما على مذهب من يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على جره، فيكون التقدير سير سبعين.
وأما على أن قعر جهنم مصدر، قال: قعرت الشيء إذا بلغت قعره، ويكون «سبعين» ظرف زمان، وفيه خبر «أن» ، التقدير أن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفا، والخريف السنة. واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) .
[ (3) ] والحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (329) ، وفي (خ) بعد قوله: وراء وراء» «اعمدوا إلى ابني إبراهيم خليل اللَّه» ، وهو تكرار من الناسخ.

(3/272)


ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون منها حمما قد امتحشوا، فيلقون في نهر الحياة أو الحيا، فينبتون فيه كما تبنت الحبة إلى جانب السيل، ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية؟ هذا لفظ مسلم، وعند البخاري: «فيخرجون منها قد اسودّوا، وقال: «من خردل من خير» [ (1) ] .
وأخرجاه من حديث وهيب، حدثنا حجاج بن الشاعر، حدثنا عمرو ابن عون، أخبرنا خالد، كلاهما عن عمرو بن يحيى بهذا الإسناد [وقالا] [ (2) ] : فيلقون في نهر يقال له: الحياة، ولم يشكّا، وفي حديث خالد: كما تنبت الغثاءة في جانب السيل، وفي حديث وهيب: كما تنبت الحبة في حمئة أو حميلة السيل [ (3) ] ، [ذكره البخاري في باب صفة الجنة والنار، وذكره مسلم في باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار] .
وخرج مسلم من حدث بشر بن المفضل عن أبي مسلمة عن أبي نصرة عن أبي سعيد [الخدريّ] [ (4) ] قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أما أهل النار الذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال:
- بخطاياهم- فأماتهم [اللَّه] [ (4) ] إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة [ (5) ] فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل [ (6) ] : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل،
فقال رجل من القوم: كأنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد كان بالبادية [ (7) ] .
__________
[ (1) ] رواه البخاري في الرقاق، باب صفة الجنة والنار حديث رقم (6560) ، ومسلم في الإيمان باب (84) أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
[ (2) ] في (خ) : «وقال» .
[ (3) ] ذكره مسلم في كتاب الإيمان باب (82) إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار حديث رقم (305) ، والبخاري كما في تعليق (7) .
[ (4) ] زيادة من (خ) .
[ (5) ] في (خ) : «في الشفاعة» .
[ (6) ] في (خ) : «فقيل» .
[ (7) ]
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (82) إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، حديث رقم (304) ، قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فأماتهم» ،
أي أماتهم إماتة، وحذف للعلم به، وفي بعض النسخ «فأماتتهم» بتاءين، أي أماتتهم النار ...

(3/273)


وخرج البخاري ومسلم من حديث حماد بن زيد، أخبرنا معبد بن هلال الغزي قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك رضي اللَّه عنه وتشفعنا بثابت فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت فدخلنا عليه وأجلس ثابتا معه على سريره فقال له [ثابت] [ (1) ] : يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد [رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] قال: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم [صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] فيقولون [ (2) ] : اشفع لذريتك فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم [عليه السلام] [ (3) ] فإنه خليل اللَّه، فيأتون إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست لها [بأهل] [ (4) ] ، ولكن عليكم بموسى [عليه السلام] [ (3) ] فإنه كليم اللَّه، فيؤتى موسى صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست لها، ولكن
__________
[ () ] وأما معنى الحديث، فالظاهر أن الكفار الذين هم أهل النار والمستحقون للخلود لا يموتون فيها ولا يحيون حياة ينتفعون بها ويستريحون معها، كما قال اللَّه تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [36: فاطر] ، وكما قال تعالى: ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى، [13:
الأعلى] ، وهذا جار على مذهب أهل الحق أن نعيم أهل الجنة دائم، وأن عذاب أهل الخلود في النار دائم.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ولكن ناس أصابتهم النار ... إلخ» فمعناه أن المذنبين من المؤمنين يميتهم اللَّه تعالى إماتة بعد أن يعذبوا المدة التي أرادها اللَّه تعالى، وهذه الإماتة إماتة حقيقية يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم، ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس المدة التي قدّرها اللَّه تعالى، ثم يخرجون من النار موتى قد صاروا فحما، فيحملون ضبائر كما تحمل الأمتعة، ويلقون على أنهار الجنة، فيصب عليهم ماء الحياة، فيحيون وينبتون نبات الحبة في حميل السيل في سرعة نباتها وضعفها، فتخرج لضعفها صفراء ملتوية، ثم تشتد قوتهم بعد ذلك، ويصيرون إلى منازلهم وتكمل أحوالهم. فهذا هو الظاهر من لفظ الحديث ومعناه.
وحكى القاضي عياض رحمه اللَّه فيه وجهين: أحدهما: أنها إماتة حقيقية. والثاني: ليس بموت حقيقي، ولكن يغيب عنهم إحساسهم بالآلام. قال: ويجوز أن تكون آلامهم أخفّ، فهذا كلام القاضي، والمختار ما قدمناه واللَّه تعالى أعلم.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم، «ضبائر» ، فكذا هو في الروايات والأصول، «ضبائر ضبائر» مكررة مرتين، وهو منصوب على الحال، وهو بفتح الضاد المعجمة، وهو جمع ضبارة، بفتح الضاد وكسرها لغتان، حكاهما القاضي عياض، وصاحب (المطالع) ، وغيرهما، أشهرها الكسر، ولم يذكر الهروي وغيره إلا الكسر، ويقال فيها أيضا إضبارة بكسر الهمزة، قال أهل اللغة: الضبائر جماعات في تفرقة، وروي:
«ضبارات في ضبارات» . واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 40- 41.
[ (1) ] زيادة من (خ) .
[ (2) ] في (خ) ، والبخاري: «فيقولون: اشفع» ، وفي رواية مسلم: «فيقولون له: اشفع» .
[ (3) ] زيادة من رواية مسلم.
[ (4) ] زيادة من (خ) .

(3/274)


عليكم بعيسى فإنه روح اللَّه وكلمته، فيؤتى عيسى صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فأوتي فأقول: أنا لها، فأنطلق فاستأذن على ربي عزّ وجلّ فيؤذن لي، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه إلا أن [ (1) ] يلهمنيه اللَّه عزّ وجلّ، ثم أخرّ له [ (2) ] ساجدا فيقال [ (3) ] لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب [ (4) ] أمتي أمتي، فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها. قال البخاري:
فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفّع، فأقول: رب [ (5) ] أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه [ (6) ] مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها. وقال البخاري: فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من خردل من إيمان فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه ... ، وقال البخاري: فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل.
هذا حديث أنس الّذي أنبأنا به، فخرجنا من عنده فلما كنا بظهر الجبان قلنا: لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف في دار أبي خليفة، قال: فدخلنا عليه فسلمنا عليه، قلنا [ (7) ]
__________
[ (1) ] في مسلم: «الآن» ولعلها خطأ مطبعي، وفي (خ) ، والبخاري: «إلا أن» .
[ (2) ] في (خ) ، ومسلم: «ثم أخرّ له» ، وفي البخاري: «ثم أخرّ لربنا ساجدا» .
[ (3) ] في (خ) ، ومسلم: «فيقال لي» ، وفي البخاري: «فيقول» .
[ (4) ] في (خ) ، والبخاري: «يا رب أمتي» ، وفي مسلم: «رب أمتي» .
[ (5) ] في (خ) : «رب أمتي» ، وفي البخاري ومسلم: «يا رب أمتي» .
[ (6) ] في رواية مسلم أيضا، «فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار» ، وهو مطابق لرواية البخاري.
[ (7) ] كذا في (خ) والبخاري، وفي مسلم: «فقلنا» .

(3/275)


يا أبا سعيد، جئنا من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع بمثل حديث حدثناه في الشفاعة، [قال] [ (1) ] : هيه، قال: فحدثناه الحديث فقلنا هيه، قلنا: ما زادنا، قال: قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع، ولقد ترك شيئا ما أدري أنسى الشيخ أم كره [ (2) ] أن يحدثكم فتتكلوا، قلنا له، حدثنا، فضحك وقال:
خلق الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه: ثم أرجع إلى ربي [عز وجل] [ (3) ] في الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن [قال] [ (4) ] : لا إله إلا اللَّه، قال: ليس [ (5) ] ذلك لك، أو قال: ليس ذلك [ (6) ] إليك، ولكن وعزتي وكبريائي، وعظمتي وجبريائي [ (7) ] لأخرجن من قال: لا إله إلا اللَّه. قال: فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك، أراه قال: قبل عشرين سنة وهو يومئذ جميع. اللفظ لمسلم [ (8) ] .
وقال البخاري في أوله: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره فوافقناه يصلي [ (9) ] الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.. الحديث وقال فيه: ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد، وقال فيه: خلق الإنسان عجولا، وقال في آخره: فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا اللَّه، فيقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا اللَّه. هذا آخر الحديث عنده، ذكره في كتاب التوحيد
__________
[ (1) ] في (خ) : «فقال» ، وما أثبتناه من رواية البخاري ومسلم.
[ (2) ] في رواية مسلم: «أو كره» .
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] في (خ) : «يقول» .
[ (5) ] في البخاري: «فليس» .
[ (6) ] في مسلم: «ليس ذاك» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، ومسلم، وفي البخاري: «وعظمتي لأخرجن» .
[ (8) ] حديث رقم (326) من كتاب الإيمان، باب (84) أدنى أهل الجنة منزلة فيها، من صحيح مسلم.
[ (9) ] في (خ) : «فصلى» والتصويب من رواية البخاري.

(3/276)


في باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم [ (1) ] .
وخرج في هذا الباب حديث أبي بكر بن عيّاش عن حميد قال: سمعت أنسا قال: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إذا كان يوم القيامة [شفعت] [ (2) ] فقلت: يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء،
فقال أنس: كأني انظر إلى أصابع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث أبي عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يجمع اللَّه الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك [وقال ابن عبيد: فيلهمون من ذلك] [ (4) ] فيقولون: لو استشفعنا [على] [ (5) ] ربنا عزّ وجلّ حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا [ (6) ] فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها [ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه اللَّه، فيأتون نوحا صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها] [ (7) ] ولكن ائتوا إبراهيم الّذي اتخذه اللَّه خليلا، فيأتون إبراهيم عليه السلام
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري برقم (5710) . قوله: «وهو يومئذ جميع» في رواية مسلم، وفي رواية البخاري «وهو جميع» ، أي مجتمع العقل، وهو إشارة إلى أنه كان حينئذ لم يدخل في الكبر، الّذي هو مظنة تفرق الذهن، وحدوث اختلاط الحفظ.
وأخرجه البخاري أيضا في التوحيد، باب (19) قول اللَّه تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، حديث رقم (7410) ، وفي باب (37) في قوله عزّ وجلّ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم (7515) ، وفي تفسير سورة البقرة، باب (1) قول اللَّه تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، حديث رقم (4476) ، وفي الرقاق، باب (51) صفة الجنة والنار حديث رقم (6565) .
[ (2) ] في (خ) : «تشفعت» .
[ (3) ] أخرجه البخاري في التوحيد، باب (36) كلام الرب عزّ وجلّ يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، حديث رقم (7509) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين تكملة من صحيح مسلم.
[ (5) ] في (خ) : «إلى» .
[ (6) ] في (خ) بعد قوله: «مكاننا هذا» قال: فيأتون آدم عليه السلام وهو تكرار من الناسخ، والتصويب من صحيح مسلم.
[ (7) ] ما بين الحاصرتين سقط في (خ) .

(3/277)


فيقول: لست هناكم [ويذكر] [ (1) ] خطيئته التي أصحاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الّذي كلمه اللَّه وأعطاه التوراة، قال: فيأتون موسى عليه السلام فيقول:
لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح اللَّه وكلمته، فيأتون عيسى روح اللَّه وكلمته عليه السلام فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا قد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: فيأتوني فاستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، قل تسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع [فيحد لي حدا] [ (2) ] فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ثم يقال [لي] [ (3) ] : يا محمد، قل تسمع، وسل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع [فيحد لي حدا] [ (2) ] فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة. قال: [فلا] [ (4) ] أدري في الثالثة أو في الرابعة قال:
فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب الخلود، واللفظ لمسلم [ (5) ] ولم يذكر البخاري فيه قوله: فيهتمون لذلك، ولا فيلهمون لذلك، ولا قوله: التي أصاب فيستحي ربه منها في المواضع الثلاثة. وقال في آخره: حتى ما بقي في النار إلا من حبسهم القرآن، فكان قتادة يقول عند هذا: إلا من وجب عليه الخلود. ذكره في كتاب الرقاق [ (6) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيهتمون بذلك أو يلهمون ذلك، بمثل حديث أبي عوانة، وقال في الحديث: ثم آتيه الرابعة فأقول: يا رب، ما بقي إلا من حبسه القرآن [ (7) ] .
لم يذكر مسلم من الحديث غير هذا، وذكر بعده
__________
[ (1) ] في (خ) : «فيذكر» .
[ (2) ] في (خ) : «فنخر ساجدا» وهو خطأ بين.
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] في (خ) : «ولا» .
[ (5) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم (322) .
[ (6) ] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (51) صفة الجنة والنار، حديث رقم (6565) .
[ (7) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم (323) .

(3/278)


حديث معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يجمع اللَّه المؤمنون يوم القيامة فيلهمون لذلك بمثل حديثهما، وذكر في الرابعة: فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود [ (1) ] .
وأخرجه البخاري من هذه الطريق ولفظه: عن أنس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يجمع المؤمنون يوم القيامة لذلك فيقولون، لو استشفعنا إلى ربنا ... الحديث بنحو حديث أبي عوانة عن قتادة، وقال فيه في ذكر نوح وأنه أول رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض، وقال فيه: فأستأذن على ربي ويؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وهكذا في موضعين بعد هذا، ثم أرجع فإذا رأيت ربي كما قال في هذا، وقال في الرابع: ثم أرجع فأقول: رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود [ (2) ] .
وخرج البخاري في تفسير سورة البقرة من طريق مسلم بن إبراهيم، أخبرنا هشام، [حدثنا] [ (3) ] قتادة عن أنس عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يجمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك اللَّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحى ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم، فيستحي ويقول: ائتوا خليل [ (4) ] الرحمن، فيأتون فيقول: لست هناكم، [ائتوا موسى، عبدا كلمه اللَّه وأعطاه التوراة، فيأتونه فيقول: لست هناكم] [ (5) ] فيستحي من ربه [فيقول] [ (6) ] : ائتوا عيسى عبد اللَّه ورسوله، وكلمة اللَّه وروحه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمدا، عبدا غفر
__________
[ (1) ] المرجع السابق، حديث رقم (324) .
[ (2) ] سبق الإشارة إليه.
[ (3) ] في (خ) : «أخبرنا» .
[ (4) ] في (خ) : «كليم» .
[ (5) ] ما بين الحاصرتين سقط من (خ) .
[ (6) ] زيادة للسياق من البخاري.

(3/279)


اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى [ (1) ] استأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء ثم يقال: ارفع رأسك [وسل] [ (2) ] تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع [فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة] [ (2) ] ثم أعود الرابعة: فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود. قال أبو عبد اللَّه [ (3) ] : إلا من حبسه القرآن يعني قول اللَّه تعالى: خالِدِينَ فِيها [ (4) ] .
وخرج في كتاب التوحيد من حديث همام بن يحيى عن قتادة عن أنس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمّوا بذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا [ (5) ] فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس: خلقك اللَّه بيده، وأسكنك جنته [ (6) ] ، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، لتشفع [ (7) ] لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيقول لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب- أكله من الشجرة وقد نهى عنها- ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه اللَّه إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب- سؤاله ربه تعالى بغير علم- ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم فيقول: [إني] [ (8) ] لست هناكم ويذكر ثلاث [كذبات] [ (9) ] كذبهن، ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه اللَّه التوراة وكلّمه وقرّبه نجيا، قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هناكم، ويذكر خطيئته، التي أصاب- قتله النفس- ولكن ائتوا عيسى عبد اللَّه ورسوله، وروح اللَّه وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،
__________
[ (1) ] في (خ) : «فأستأذن» .
[ (2) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (3) ] هو الإمام البخاري.
[ (4) ] الحديث أخرجه البخاري في التفسير باب (1) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، حديث رقم (4476) ، واختلف في المراد بالأسماء: فقيل أسماء ذريته، وقيل أسماء الملائكة، وقيل أسماء الأجناس دون أنواعها، وقيل أسماء كل ما في الأرض، وقيل أسماء كل شيء حتى القصعة. (فتح الباري) : 8/ 202- 203.
[ (5) ] في (خ) : «إلى اللَّه» .
[ (6) ] في (خ) : «الجنة» .
[ (7) ] في (خ) : «اشفع» .
[ (8) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (9) ] في (خ) : «كلمات» .

(3/280)


فيأتوني [ (1) ] فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعي، فيقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: وأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه [ (2) ] ، فيحدّ لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة.
قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه [ (3) ] ، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدا، فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وسمعته [ (4) ] يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما [ (5) ] يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود، ثم تلا هذه الآية:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، قال: وهذا المقام المحمود الّذي وعده [ (6) ] نبيكم صلى اللَّه عليه وسلّم [ (7) ] .
وخرج مسلم من حديث مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة يدعوها [ (8) ] ،
__________
[ (1) ] في (خ) : «قال: فيأتوني» .
[ (2) ] في (خ) : «يعلمنيه ثم أشفع» .
[ (3) ] في (خ) : «تعط» .
[ (4) ] في (خ) : «وقد سمعته» .
[ (5) ] في (خ) : «حتى لا يبقى» .
[ (6) ] في (خ) : «وعد» .
[ (7) ] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب (24) قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، حديث رقم (7440) .
[ (8) ] في (خ) : «يدعو بها» .

(3/281)


فأريد [ (1) ] أن أختبئ [ (2) ] دعوتي شفاعة [ (3) ] لأمتي يوم القيامة [ (4) ] .
ومن حديث ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لكل نبي دعوة، وأردت إن شاء اللَّه أختبئ [ (5) ] دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (6) ] . خرجه البخاري من حديث شعيب عن الزهري ولفظه: لكل نبي دعوة، وأريد إن شاء اللَّه أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. ذكره في كتاب التوحيد في المشيئة والإرادة [ (7) ] .
وخرج مسلم من حديث يونس عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن أبا هريرة قال لكعب الأحبار: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة يدعوها، فأنا أريد إن شاء اللَّه أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة،
فقال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ قال أبو هريرة: نعم [ (8) ] .
وخرج البخاري من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة [مستجابة] [ (9) ] يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة [ (10) ] . ذكره في أول كتاب الدعاء.
وخرج مسلم من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لكل نبي دعوة مستجابة، [فتعجل كل نبي دعوته] [ (11) ] وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي [ (12) ] نائلة إن
__________
[ (1) ] في (خ) : «وأنا أريد» .
[ (2) ] في (خ) : «أخبي» .
[ (3) ] في (خ) : «شفاعتي» .
[ (4) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (86) اختباء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعوة الشفاعة لأمته، حديث رقم (334) .
[ (5) ] في (خ) : «أخبي» .
[ (6) ] المرجع السابق، حديث رقم (335) .
[ (7) ] حديث رقم (7474) .
[ (8) ] مسلم في كتاب الإيمان، باب (86) اختباء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعوة الشفاعة لأمته، حديث رقم (337) .
[ (9) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (10) ] ذكره البخاري في أول كتاب الدعاء، باب (1) لكل نبي دعوة مستجابة، حديث رقم (6304) .
[ (11) ] زيادة للسياق من صحيح مسلم.
[ (12) ] في (خ) : «وهي» .

(3/282)


شاء اللَّه من مات من أمتي لا يشرك باللَّه شيئا [ (1) ] .
وأخرجه الترمذي من هذه الطريق، ولم يقل فيه: فتعجل كل نبي دعوته.
وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب له فيؤتاها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (3) ] .
وله من حديث شعبة عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء اللَّه أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (4) ] .
[و] [ (5) ] وله من حديث ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر ابن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه يقول عن النبي للَّه: لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (6) ] .
وله من حديث معاذ بن [ (7) ] هشام قال: أخبرنا [ (8) ] أبي عن قتادة، أخبرنا [ (8) ] أنس بن مالك أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة دعاها [ (9) ] لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (10) ] . وذكر له طرقا أخر. وخرجه البخاري تعليقا
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (86) ، اختباء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعوة الشفاعة لأمته، حديث رقم (338) .
[ (2) ] رواه الترمذي رقم (3597) في الدعوات، باب رق (141) ، ط (الموطأ) : 1/ 22 في القرآن، باب ما جاء في الدعاء.
[ (3) ] رواه مسلم في كتاب الإيمان باب (86) اختباء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعوة الشفاعة لأمته، حديث رقم (339) .
[ (4) ] المرجع السابق، حديث رقم (340) ، في (خ) : «أدّخر» .
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] المرجع السابق، حديث رقم (345) .
[ (7) ] في مسلم: «معاذ يعنون ابن هشام» .
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي مسلم: «حدثنا» .
[ (9) ] في (خ) : «دعا بها» .
[ (10) ] المرجع السابق، حديث رقم (341) .

(3/283)


في كتاب الدعاء [ (1) ] .
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث أحمد بن عبد اللَّه قال: أخبرنا زهير ابن معاوية، أخبرنا أبو خالد الأسدي، أخبرنا عون بن أبي جحيفة السواري عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي عن عبد الرحمن بن أبي عقيل قال: انطلقت في وفد فأتينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأنخنا الباب وما في الناس أبغض إلينا من رجل نلج عليه، فما خرجنا حتى ما في الناس رجل أحب إلينا من رجل دخلنا عليه، فقال قائل منا: يا رسول اللَّه! ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان بن داود؟ فضحك ثم قال: لعل لصاحبكم عند اللَّه أفضل من ملك سليمان بن داود! إن اللَّه لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذ بها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذا عصوه فأهلكوا بها، وإن اللَّه أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي
__________
[ (1) ]
أخرجه البخاري في الدعوات، باب (1) ، لكل نبي دعوة مستجابة، حديث رقم (6304) ، (6305) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأريد. أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة» ،
وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة «فأريد إن شاء اللَّه أن أختبئ» ،
وزيادة «إن شاء اللَّه» في هذا للتبرك،
ولمسلم من رواية أبي صالح عن أبي هريرة «وإني اختبأت» ،
وفي حديث أنس «فجعلت دعوتي» ، وزاد «يوم القيامة» ، وزاد أبو صالح «فهي نائلة إن شاء اللَّه من مات من أمتي لا يشرك باللَّه شيئا.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم «من مات» في محل نصب على المفعولية، و «لا يشرك» في محل نصب على الحال، والتقدير: شفاعتي نائلة من مات غير مشرك، وكأنه صلى اللَّه عليه وسلّم أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل، ورجا وقوع ذلك، فأعلمه اللَّه به، فجزم به.
وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الدعوات المجابة، ولا سيما نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب: أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة.
وقيل: معنى قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لكل نبي دعوة» ، أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل:
لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته، إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة، فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب، وقيل: لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح:
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ، وقول زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي، وقول سليمان:
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، حكاه ابن التين.
والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع، أعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة....

(3/284)


يوم القيامة [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد [المقبري] [ (2) ] عن سعيد عن أبي هريرة أنه قال: قيل [ (3) ] يا رسول اللَّه، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال [رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (4) ] لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا اللَّه خالصا من قلبه، أو نفسه [ (5) ] . ذكره في كتاب العلم وترجم عليه باب الحرص
__________
[ () ] وتعقبه الطيبي- وفي نسخة القرطبي- بأنه صلى اللَّه عليه وسلّم دعا على أحياء من العرب، ودعا على أناس من قريش بأسمائهم، ودعا على رعل، وذكوان، ودعا على مضر، قال: والأولى أن يقال: إن اللَّه جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته، فنالها كل منهم في الدنيا، وأما نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم فإنه لما دعا على بعض أمته، نزل عليه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فبقي تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم، وإنما أراد ردعهم ليتوبوا.
وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة، ففيه غفلة عن
الحديث الصحيح: «سألت اللَّه ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة» .
قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم على سائر الأنبياء، حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم.
وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرفه صلى اللَّه عليه وسلّم، لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه أنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته، لكونهم أحوج إليها من الطائعين.
وقال النووي: فيه كمال شفقته صلى اللَّه عليه وسلّم على أمته ورأفته بهم، واعناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم.
وأما قوله: «فهي نائلة» ، ففيه دليل لأهل السنة أن من مات غير مشرك لا يخلد في النار، ولو مات مصرا على الكبائر. مختصرا من (فتح الباري) : 11/ 116- 117.
[ (1) ] له شواهد من أحاديث الباب على صحته.
[ (2) ] زيادة في النسب من البخاري.
[ (3) ] في (خ) : «قال» .
[ (4) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (5) ] ذكره البخاري في كتاب العلم، باب (32) الحرص على الحديث، حديث رقم (99) . قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: أولى منك» ، فيه فضل أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وفضل الحرص على تحصيل العلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من قال: لا إله إلا اللَّه» ،
احتراز من المشرك، والمراد مع قوله: محمد رسول اللَّه، لكن قد يكتفي بالجزء الأول من كلمتي الشهادة، لأنه صار شعارا لمجموعهما كما تقدم في الإيمان ...

(3/285)


على الحديث. وخرجه في كتاب الرقاق من حديث إسماعيل بن جعفر عن عمرو ...
إلى آخره، وقال: خالصا من قبل نفسه [ (1) ] .
وخرجه النسائي بنحوه [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن العاص أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تلى قول اللَّه عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ... [ (3) ] الآية، وقال عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ (4) ] ، فرفع يديه وقال: اللَّهمّ أمتي.. أمتي [ (5) ] ، وبكي، فقال اللَّه عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد وربك أعلم، فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بما قال
__________
[ () ] قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «خالصا» احتراز من المنافق، ومعنى أفعل في قوله: «أسعد» الفعل، لا أنها أفعل التفضيل، أي سيد الناس، كقوله تعالى: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا، ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها، وأن كل أحد يحصل له سعد بشفاعته، لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإنه صلى اللَّه عليه وسلّم يشفع في الخلق لإراحتهم من هول الموقف، ويشفع في الكفار بتخفيف العذاب كما صح في حق أبي طالب، ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، ويشفع في بعضهم بعدهم دخولها بعد أن استوجبوا دخولها، ويشفع في بعضهم بدخول الجنة بغير حساب، ويشفع في بعضهم برفع الدرجات فيها، فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة، وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من قلبه، أو نفسه» شك من الراويّ، وللمصنف في الرقاق: «خالصا من قبل نفسه» ، وذكر ذلك على سبيل التأكيد كما في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.
وفي الحديث دليل على اشتراط النطق بكلمتي الشهادة، لتعبيره بالقول في قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من قال» ، واللَّه تعالى أعلم. مختصرا من (فتح الباري) 1/ 257- 258.
[ (1) ] ذكره البخاري في كتاب الرقاق، باب (51) صفة الجنة والنار، حديث رقم (6570) ، وقال النووي: الشفاعة خمس:
[1] في الإراحة من هول الموقف. [2] في إدخال قوم الجنة بغير حساب.
[3] في إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا.
[4] في إخراج من أدخل النار من العصاة.
[5] في رفع الدرجات.
[ (2) ] لم أجده في (سنن النسائي) .
[ (3) ] 36: إبراهيم، وتمامها: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[ (4) ] 118: المائدة.
[ (5) ] في (خ) : «اللَّهمّ أمتي اللَّهمّ أمتي» .

(3/286)


وهو أعلم، فقال اللَّه: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك [ (1) ] .
***
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب (87) دعاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لأمته وبكائه شفقة عليهم، حديث رقم (346) : وسنده: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو ابن الحارث، أن أبا بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ...
وهذا أتم من السند المذكور في (خ) .
وهذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد:
منها بيان كمال شفقة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على أمته، واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم.
ومنها استحباب رفع اليدين في الدعاء.
ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة، زادها اللَّه شرفا بما وعدها اللَّه تعالى بقوله: سنرضيك في أمتك ولا نسؤك، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة، أو أرجأها.
ومنها بيان عظم منزلة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عند اللَّه تعالى، وعظيم لطفه سبحانه به صلى اللَّه عليه وسلّم والحكمة في إرسال جبريل لسؤاله صلى اللَّه عليه وسلّم إظهار شرف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأنه بالمحل الأعلى، فيسترضى ويكرم بما يرضيه واللَّه تعالى أعلم.
وهذا الحديث موافق لقول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، وأما قوله تعالى:
ولا نسؤك، فقال صاحب (التحرير) : هو تأكيد للمعنى، أي لا نحزنك، لأن الإرضاء قد يحصل في حق البعض بالعفو عنهم، ويدخل الباقي النار، فقال تعالى: نرضيك ولا ندخل عليك حزنا، بل ننجي الجميع واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 78- 79.

(3/287)


ذكر المقام المحمود الّذي وعد اللَّه تعالى به الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم
قال اللَّه جل جلاله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] .
خرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث وكيع عن إدريس الأودي عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] قال: الشفاعة.
وخرج الحاكم من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب ابن مالك عن أبيه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء اللَّه أن أقول، فذلك المقام المحمود،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وله من حديث إسرائيل قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة ابن اليمان [سمعته يقول] [ (3) ] في قوله عز وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (4) ] قال: يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا، سكوتا لا تكلم نفس إلا بإذنه، قال: فينادي محمد صلى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] 79: الإسراء.
[ (2) ] أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 395، في كتاب التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3383) وما بين الحاصرتين زيادة منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 492 من حديث كعب بن مالك الأنصاري، حديث رقم (15356) بنحوه سواء.
[ (3) ] تكملة من (المستدرك) .
[ (4) ] 79: الإسراء.

(3/288)


فيقول: «لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، المهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحان رب البيت» ، فذلك المقام المحمود الّذي قال اللَّه: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما خرج مسلم حديث أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة، ليخرجن من النار فقط [ (2) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد قال: حدثنا علي بن الحكم عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة، فقال رجل من الأنصار: وما المقام المحمود؟ قال: ذاك إذا جيء بكم عراة حفاة غرلا، فأقوم مقاما لا يقومه أحد غيري يغبطني به الأولون والآخرون [ (3) ] .
وله من حديث وكيع قال: حدثنا داود بن عبد اللَّه الأودي الزعافري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: المقام المحمود الشفاعة [ (4) ] ، وخرجه الترمذيّ وقال: هذا حديث حسن [ (5) ] ، وداود الزعافري هو داود الأودي، وهو عم عبد اللَّه بن إدريس وفي الباب عن كعب بن مالك وأبي سعيد وابن عباس.
وخرجه البغوي من حديث أبي عبد الرحمن عبد اللَّه بن عمر، حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] قال: هو المقام الّذي أشفع فيه لأمتي.
__________
[ (1) ] 79: الإسراء.
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 395 في كتاب التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3384) ، وحديث مسلم المشار إليه قد سبق شرحه.
[ (3) ] هذا الحديث جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد في (المسند) من حديث عبد اللَّه بن مسعود، حديث رقم (3777) ج 1 ص 658، وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) : 2/ 396 في كتاب التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل حديث رقم (3385) وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 3/ 253، حديث رقم (9844) .
[ (5) ] (صحيح سنن الترمذي) : 3/ 68- 69، حديث رقم (3358) ، وقال الألباني: صحيح، و (المجموعة الصحيحة) برقم (2639) ، (2370) .

(3/289)


ورواه سفيان بن وكيع عن جرير بن عبد الحميد عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: [قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] : يقيمني رب العالمين مقاما لم يقمه أحدا قبلي ولن يقيمه أحدا بعدي.
وروى حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنه في قوله تعالى:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: إن لمحمد من ربه مقاما لا يقومه نبي مرسل ولا ملك مقرب، يبين اللَّه للخلائق فضله على جميع الأولين والآخرين.
وقال أبو سفيان العمري عن معمر عن الزهري، عن علي بن الحسن أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدّ الأديم حتى لا يكون للإنسان إلا موضع قدميه، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن فأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليّ، فيقول تبارك وتعال: صدق، ثم أشفع فأقول: يا رب عبادك في أطراف الأرض، فهو المقام المحمود.
قال أبو عمر بن عبد البر: على هذا أصل في تأويل قول اللَّه عز وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أنه الشفاعة.
وقد روي عن مجاهد: أن المقام المحمود أن يقعده معه يوم القيامة على العرش، وهذا عندهم منكر في تفسير هذه الآية، والّذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن المقام المحمود هو المقام الّذي يشفع فيه لأمته.
وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك فصار إجماعا في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة.
ذكر ابن أبي شيبة عن شبابة عن ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، قال: شفاعة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
وذكر بقيّ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أخبرنا قيس عن عاصم عن عبد اللَّه مثله، وذكر الغرباني عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن ابن مسعود مثله.

(3/290)


وذكر ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: المقام المحمود الشفاعة. وروى سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق عن صله عن حذيفة قال: يجتمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي- زاد سفيان في حديثه-: حفاة عراة سكوتا، كما خلقوا قياما، لا تكلم نفس إلا بإذنه، ثم اجتمعوا، فينادي منادي: يا محمد، على رءوس الأولين والآخرين، فيقول:
لبيك وسعديك والخير في يديك، زاد سفيان: والشر ليس إليك، ثم اجتمعا والمهدي من هديت تباركت وتعاليت، ومنك وإليك، لا ملجأ ولا منجى إلا إليك. قال حذيفة: فذلك المقام المحمود. وذكر له عن حذيفة عدة طرق، قال:
وروى يزيد عن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، قال: ذكر لنا أن نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خيّر بين أن يكون عبدا نبيا أو ملكا نبيا فأومأ إليه جبريل أن تواضع، واختار نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يكون عبدا نبيا، وأعطى.
بها اثنتين: أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع.
قال قتادة: وكان أهل العلم يرون أن المقام المحمود الّذي قال اللَّه عزّ وجلّ:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً شفاعته يوم القيامة، قال: وممن روى عنه أيضا: أن المقام المحمود الشفاعة: الحسن البصري وإبراهيم النّخعيّ وعلي ابن الحسين بن علي وابن شهاب وسعد بن أبي هلال وغيرهم.
***

(3/291)


تنبيه وإرشاد
قال الحافظ أبو نعيم: وهذه الأخبار وما يجانسها في الشفاعة وإجابة آدم عليه السلام فمن دونه في الشفاعة عليه كلها داخلة في علو مرتبة نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وشرف منزلته ورفعته عند ربه تعالى، لأن النبوة لا يخص اللَّه بها إلا المنتخبين من خلفة في الأمم، وذوي الأخطار العظيمة، والمناقب الرفيعة، فإذا كان سائر الأنبياء يدفعون عن أنفسهم التشفيع والمسألة، ويجيئون بها على محمد صلى اللَّه عليه وسلّم بأن فضله وعلو مرتبته على مراتبهم، وفي تعريف هذه المنزلة وإن لم تكن في نفسها معجزة، وأن اللَّه تعالى وضع نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم في أعلى المراتب وأشرف المناقب، لتكون القلوب مقبلة على قبوله، والنفوس مسرعة إلى طاعته صلى اللَّه عليه وسلّم، هذا له مع ما خصه اللَّه من الخصال التي لم تعط من تقدمه من النّبيين والمرسلين من المنافع البهية والمرافع السنية. انتهى.
واعلم أن الشفاعة خمسة أقسام:
الأولى: الشفاعة في إراحة المؤمنين من طول الوقوف وتعجيل الحساب كما تقدم ذكره.
والثانية: الشفاعة في إدخال قوم من المؤمنين الجنة بغير حساب كم تقدم من حديث أنس، وفيه: فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن.
والثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم ومن يشاء اللَّه.
والرابعة: الشفاعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجهم اللَّه بشفاعة نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وبشفاعة الملائكة وإخوانهم المؤمنين، ثم يخرج اللَّه عز وجل من النار كل من قال لا إله إلا اللَّه ولا يبقى في النار إلا الكافرون.
والخامسة: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.
واتفقوا على شفاعة الحشر وعلى الشفاعة في زيادة درجات أهل الجنة، وخالفت الخوارج والمعتزلة في الأقسام الثلاثة الأخر. وقال ابن عبد البر: وقد قيل إن الشفاعة

(3/292)


منه صلى اللَّه عليه وسلّم تكون من مرتين: مرة في الموقف يشفع في قوم فينجون من النار ولا يدخلون الجنة، ومرة بعد دخول قوم من أمته النار فيخرجون منها بشفاعته.
وقد رويت آثار بنحو هذا الوجه بنفي الوجه الأول،
ثم ذكر من طريق ثور ابن يزيد عن هشام بن عروة عن أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول اللَّه، أدع اللَّه أن يجعلني ممن يشفع له يوم القيامة، فقال لها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إذن تخمشك النار فإن شفاعتي لكل هالك من أمتي تخمشه [ (1) ] النار.
وذكر من طريق يحيى بن معين قال: حدثنا أبو اليمان عن شعيب عن أبي حمزة عن الزهري عن أنس بن مالك عن أم حبيب رضي اللَّه عنها أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ذكر ما تلقى أمته بعده من سفك دم بعضها بعضا، وسبق ذلك من اللَّه كما سبق في الأمم قبلهم، فسألته أن يوليني شفاعة فيهم ففعل.
وذكر من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذرّ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي:
بعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، ونصرت بالرعب شهرا فيرعب العدو مني مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وقيل سل تعط فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة وهي نائلة إن شاء اللَّه من لم يشرك باللَّه شيئا.
وذكر شيبان بن فروخ قال: حدثنا حرب بن شريح، أخبرنا أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال: ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقال إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
__________
[ (1) ] الخمش: الخدش في الوجه، وقد يستعمل في سائر الجسد، والخموش الخدوش، قال الفضل بن عباس يخاطب امرأته:
هاشم جدّنا، فإن كنت غضبي ... فاملئي وجهك الجميل خدوشا
والخماشة من الجراحات: ما ليس له أرش [دية] معلوم، كالخدش ونحوه، والخماشة: الجناية.
مختصرا من (لسان العرب) : 6/ 299.

(3/293)


وذكر من طريق أبي داود الطيالسي قال: أخبرنا محمد بن ثابت عن جعفر ابن محمد بن على عن أبيه جابر بن عبد اللَّه قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، قال: فقال لي جابر: من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة.
قال أبو عمرو: والآثار في هذا كثيرة متواترة، والجماعة وأهل السنة على التصديق بها، ولا ينكرها إلا أهل البدع.
وذكر من طريق قاسم بن أصبغ قال: أخبرنا الحرث بن أبي أسامة، أخبرنا إسحاق بن عيسى، أخبرنا حماد بن زيد عن على بن زيد عن يوسف بن عوان عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا أيها الناس، إن الرجم حق ولا تخدعنّ عنه، وآية ذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد رجم، وأبا بكر [قد رجم] [ (1) ] ، ورجمنا بعدهما، وأنه سيكون أناس يكذبون بالرجم، ويكذبون باللعان، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا، قال أبو عمر: كل هذا يكذب به جميع طوائف أهل البدع والخوارج والمعتزلة والجهمية وسائر الفرق المبتدعة، وأما أهل السنة، أئمة الفقه والأمر في جميع الأمصار فيؤمنون بذلك كله ويصدقونه، وهم أهل الحق، واللَّه المستعان.
***
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(3/294)


إيضاح وتبيان
قد استشكل ظاهر قوله: لكل نبي دعوة يدعو بها، إنما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة، ولا سيما نبينا صلى اللَّه عليه وسلم، فإنه ظاهره أن لكل نبي دعوة واحدة مجابة فقط، والجواب: أن المراد بالإجابة الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعوات فهو على رجاء الإجابة، وقيل: مضى قوله: لكل نبي دعوة أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخر، وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم أو بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب: وقيل: لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح عليه السلام: لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [ (1) ] ، وقول زكريا عليه السلام: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [ (2) ] ، وقول سليمان عليه السلام: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ (3) ] ، حكاه ابن التين.
وقال بعض شراح (المصابيح) : اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن لكل نبي دعاء على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع، فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة: أمة الدعوة لا أمة الإجابة، وتعقبه الطيبي بأنه صلى اللَّه عليه وسلم دعا على أحياء من العرب، ودعا على الناس من قريش بأسمائهم، فدعا على رعل وذكوان وغيرهم. قال: والأولى أن يقال: أن اللَّه تعالى جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته، فنالها كل منهم في الدنيا إلا نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [ (4) ] ، فبقي تلك الدعوة المستجابة مدّخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم، وإنما أراد ردعهم ليتوبوا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] 26: نوح.
[ (2) ] 5: مريم.
[ (3) ] 35: ص.
[ (4) ] 128: آل عمران.
[ (5) ] (فتح الباري) : 11/ 116- 117.

(3/295)


وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح:
سألت اللَّه ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. وقال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضيلة نبينا صلى اللَّه عليه وسلم على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاءً عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم [ (1) ] .
وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرفه صلى اللَّه عليه وسلّم، لأنه جعل الدعوة بشيء ينبغي، ومن كثرة كرمه أنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره أنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين.
وقال النووي: فيه كمال شفقته صلى اللَّه عليه وسلّم على أمته ورأفته بهم، واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم [ (2) ] .
قال أبو عمر بن عبد البر: وأما قوله: لكل نبي دعوة يدعو بها، فمعناه:
أن كل نبي أعطى أمنية وسؤلا ودعوة يدعو بها ما شاء أجيب وأعطيه. ولا وجه لهذا الحديث غير ذلك، لأن لكل نبي دعوات مستجابات، ولغير الأنبياء أيضا، دعوات مستجابات، وما يكاد أحد من أهل الإيمان يخلو من أن تجاب دعوته ولو مرة في عمره، فإن اللَّه تعالى يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ (3) ] ، وقال:
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [ (4) ] ، وقال صلى اللَّه عليه وسلّم: ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما يستجاب له فيما دعا به، وإما أن يدخر له مثله، أو يكفر عنه [ (5) ] . وقال: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر، والدعاء عند حضرة النداء، والصف في سبيل اللَّه، وعند نزول الغيث، وفي ساعة يوم الجمعة لا يرد، فإذا كان هذا، هكذا لجميع المسلمين، فكيف يتوهم متوهم أن ليس للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم ولا لسائر الأنبياء إلا دعوة واحدة يجابون فيها، هذا ما لا يتوهمه ذو لب ولا إيمان، ولا من له أدنى فهم، وباللَّه التوفيق.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 116- 117.
[ (2) ] انظر شرح النووي لأحاديث الشفاعة بصحيح مسلم كتاب الإيمان.
[ (3) ] 60: غافر.
[ (4) ] 41: الأنعام.
[ (5) ] رواه الترمذي رقم (3378) في الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، وهو حديث صحيح لكن باختلاف يسير، وأخرجه مالك موقوفا في القرآن 1/ 217.

(3/296)


وأما حوض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو الكوثر
قال اللَّه جل جلاله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (1) ] ، واختلف في المراد به، فقيل إنه نهر في الجنة، وقيل: الكوثر: الخير الكثير الّذي أعطيه النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فقد بلغ التواتر عن جماعة من علماء الآثار، ورواه الجم الغفير عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
وبان، وجابر، وأبو هريرة، وجابر بن سمرة، وعقبة بن عامر، وعبد اللَّه بن عمرو، وأبوه عمرو بن العاص، وحارثة بن وهب، والمستورد، وأبو برزة، وحذيفة، وأبو أمامة، وأبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وعبد اللَّه بن زيد، وسهل بن سعيد، وسويد بن عبلة، وبريدة وأبو سعيد، والبراء بن عازب، وعتبة ابن عبد السلمي وجندب، والصنايجي، وأبو بكرة، وأبو ذر الغفاريّ، وأسماء بنت أبي بكر، وخولة بنت قيس، ذكرهم اللالكائي وغيره.
قال القاضي عياض [ (2) ] : أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأول ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة. قاله ابن عباس.
وقيل: هو العلم والقرآن، قاله الحسن، وقيل: النبوة، قاله عكرمة، وقيل:
إنه حوض النبي صلى اللَّه عليه وسلم يكثر عليه الناس. قاله عطاء، وقيل: إنه كثرة أتباعه وأمته، قاله أبو بكر بن عياش،
وقال جعفر بن محمد الصادق: يعني بالكوثر نورا في قلبك يدلّك علي ويقطعك عمن سواي. وعنه أيضا أنه الشفاعة.
وقال هلال بن يسار:
هو قول لا إله إلا اللَّه، وقيل: هو الصلوات الخمس.
وأصح هذه الأقوال: ما ثبت عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم،
[فقد] [ (3) ] خرج البخاري في آخر كتاب الرقاق من حديث هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا
__________
[ (1) ] 1: الكوثر.
[ (2) ] (الشفا) : 1/ 185.
[ (3) ] زيادة للسياق.

(3/297)


قتادة، حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: [بينما] [ (1) ] أنا أسير في الجنة، [إذا] [ (2) ] أنا بنهر [حافّتاه] [ (3) ] قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟
قال: هذا الكوثر الّذي أعطاك ربك، فإذا طيبه أو طينه [مسك] [ (4) ] أذفر شكّ هدبة [ (5) ] .
وخرج في التفسير من حديث شيبان، حدثنا قتادة عن أنس: لما عرج بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافاته قباب اللؤلؤ [مجوف] [ (6) ] فقلت:
ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر [ (7) ] .
ومن حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عائشة رضي اللَّه عنها قال: سألتها عن قوله [تعالى] [ (8) ] : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى اللَّه عليه وسلم شاطئاه [عليه] [ (9) ] در مجوف، آنيته كعدد النجوم [ (10) ] . [رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف عن أبي إسحاق] [ (8) ] .
ومن حديث أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الّذي أعطاه اللَّه إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الّذي في الجنة هو الخير الّذي أعطاه اللَّه إياه [ (11) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «بينا» وما أثبتناه من البخاري.
[ (2) ] في (خ) : «وإذا» .
[ (3) ] في (خ) : «حافته» .
[ (4) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (5) ] حديث رقم (6581) ، كتاب الرقاق، باب (53) في الحوض وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
[ (6) ] في (خ) : «مجوفة» ، وما أثبتناه من البخاري.
[ (7) ] حديث رقم (4964) من كتاب التفسير باب (108) ، سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
[ (8) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (9) ] في (خ) : «عليهما» .
[ (10) ] حديث رقم (4965) ، من كتاب التفسير، باب (108) ، سورة: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
[ (11) ] أخرجه البخاري في التفسير، باب (108) ، سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (4966) ، وفي الرقاق، باب (53) ، في الحوض وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (6578) .

(3/298)


وخرج مسلم من حديث على بن مسهر قال: أخبرنا المختار بن فلفل عن أنس ابن مالك رضي اللَّه عنه قال: بينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رجع، فرأيته مبتسما!! فقلنا: ما أضحكك يا رسول اللَّه؟ قال: نزلت على آنفا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ (1) ] إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [ (2) ] ، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟
فقلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر في الجنة وعدنيه ربي عليه خير كثير، أو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك [ (3) ] . [زاد
__________
[ (1) ] أول سورة الفاتحة.
[ (2) ] أول سورة الكوثر 1- 3.
[ (3) ] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (14) ، حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى (براة) ، حديث رقم (400) .
وقوله: «يختلج» ، أي ينتزع وينقطع، وفي هذا الحديث فوائد، منها: أن البسملة في أوائل السور من القرآن، وهو مقصود مسلم بإدخال هذا الحديث هنا.
وفيه جواز النوم في المسجد، وجواز نوم الإنسان بحضرة أصحابه، وأنه إذا رأى التابع من متبوعه تبسما أو غيره مما يقتضي حدوث أمر، يستحب له أن يسأل عن سببه.
وفيه إثبات الحوض والإيمان به واجب.
قوله: «وهل تدري ما أحدثوا بعدك» ، وفي الرواية الأخرى: قد بدلوا بعدك فأقول: «سحقا سحقا» ، هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال:
أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدون، فيقال: ليس هؤلاء ممن وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.
والثاني: أن المراد من كان في زمن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم ارتد بعده، فيناديهم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى اللَّه عليه وسلّم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك.
والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر، الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين ينادون بالنار، بل يجوز أن يزاد عقوبة لهم، ثم يرحمهم اللَّه سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب.
وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء. قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر. قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخير. واللَّه تعالى أعلم. مختصرا من (مسلم بشرح النووي) : 3/ 138- 139، كتاب الطهارة، باب (12) استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، حديث رقم (246) ، 4/ 355- 356، كتاب الصلاة، باب (14) حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى (براءة) ، حديث رقم (400) .

(3/299)


ابن حجر في حديثه: «بين أظهرنا في المسجد» وقال: «ما أحدث بعدك» ] [ (1) ] .
وفي رواية النسائي: «أحدثت بعدك» ، وهي رواية لمسلم أيضا، وقال النسائي في حديثه: «آنيته أكثر من عدد الكواكب» ، ذكره النسائي في كتاب الصلاة، وفي كتاب التفسير.
[ ... ] [ (2) ]
وخرج الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب عن محارب ابن دثار عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ذكره في التفسير [ (3) ] .
وخرج البخاري في الرقاق من حديث شعبة عن عبد الملك [بن عمير] [ (4) ] قال: سمعت جندبا يقول: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: أنا فرطكم على الحوض [ (5) ] .
وخرجه مسلم من حديث زائدة عن عبد الملك [ (6) ] ، وذكر له طرقا، وله من
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين تكملة من المرجع السابق.
[ (2) ] في (خ) بعد قوله: «في كتاب التفسير» طمس في الأصل، لم يظهر في التصوير الميكروفيلم، قال المقريزي بعده: «وخرجه أبو داود بهذا الإسناد وقال: فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة، عليه خير كثير، عليه حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، ذكره في كتاب شرح السنة، في باب الحوض» .
[ (3) ] رقم (3358) باب ومن سورة الكوثر، وأخرجه ابن ماجة في الزهد حديث رقم (43344) باب صفة الجنة، وأحمد في (المسند) 2/ 256، حديث رقم (5877) ، وإسناده صحيح، فإن الراويّ عن عطاء عنده هو حماد بن زيد، وقد سمع منه قديما. وذكره السيوطي في (الدر المنثور) :
6/ 403، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وابن جرير.
[ (4) ] زيادة من (خ) .
[ (5) ] أخرجه البخاري في الرقاق، باب (53) ، في الحوض، وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» ، حديث رقم (6589) .
[ (6) ] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته، حديث رقم (25) ، وجندب: هو أبو ذر الغفاريّ الصحابي الجليل رضي اللَّه عنه، وسبقت له ترجمة.

(3/300)


حديث سماك بن حرب عن جابر بن سمرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ألا إني فرط لكم على الحوض، وإن بعد ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأيلة، كأن الأباريق فيه النجوم [ (1) ] .
وله من حديث حاتم بن إسماعيل، عن المهاجر بن مسمار، عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أخبرني بشيء سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فكتب إليّ: أني سمعته يقول: أنا الفرط على الحوض [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن أبي عدي عن شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة أنه سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: حوضه ما بين صنعاء والمدينة،
فقال له المستورد: ألم تسمعه قال الأواني؟ فقال: لا، فقال المستورد: ترى فيه الآنية مثل الكواكب [ (3) ] .
وخرجه البخاري من حديث حرمي بن عمارة، حدثنا شعبة عن معبد بن خالد «عن حارثة سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وذكر الحوض فقال: كما بين المدينة وصنعاء» [ (4) ] [قال] [ (5) ] : وزاد ابن أبي عدي عن شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة سمع
__________
[ (1) ] المرجع السابق، حديث رقم (44) ، وصنعاء: منسوبة إلى جودة الصنعة ذاتها، كقولهم: امرأة حسناء وعجزاء وشلاء، والنسبة إليها صنعانيّ على غير قياس، كالنسبة إلى بهراء بهراني.
روى البخاري في صحيحه في كتاب مناقب الأنصار، باب (29) من حديث خباب مرفوعا، وفيه: «وليتمن اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا اللَّه» قال البخاري: زاد بيان: «والذئب على غنمه» .
وصنعاء موضعان، أحدهما باليمن، وهي العظمي، وأخرى قرية بالغوطة من دمشق، وقد ذكرهما ياقوت الحموي في (معجم البلدان) بالتفصيل، وفرّق بين من نسب إلى هذه وهذه، ج 3 ص 483- 489، فليراجع هناك، و (تقويم البلدان) : 94- 95.
وأيلة: بالفتح: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام، قال أبو زيد: أيلة مدينة صغيرة، عامرة، بها زرع يسير، وهي مدينة اليهود الذين حرّم اللَّه عليهم صيد السمك يوم السبت فخالفوا فمسخوا قردة وخنازير. (معجم البلدان) : 1/ 347.
[ (2) ] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وشفاعته، حديث رقم (45) .
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (33) .
[ (4) ] أخرجه البخاري في الرقاق باب (53) في الحوض، وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (6591) .
[ (5) ] زيادة من (خ) .

(3/301)


النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: حوضه ما بين صنعاء والمدينة،
فقال له المستورد: ألم تسمعه قال الأواني؟ قال: لا، قال المستورد: ترى فيه الآنية مثل الكواكب [ (1) ] .
وخرج مسلم وأحمد من حديث عبد العزيز بن عبد الصمد العمى، عن أبي عمران الجوني عن عبد اللَّه بن الصامت عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قلت:
يا رسول اللَّه، ما آنية الحوض؟ قال: والّذي نفس محمد بيده، لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء، وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، ذكره في المناقب [ (2) ] .
وله من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد عن عقبة بن عامر رضي اللَّه عنه قال: صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فقال: إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] المرجع السابق، حديث رقم (6592) .
[ (2) ] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وشفاعته، حديث رقم (36) . وأخرجه أحمد في (المسند) : 6/ 184- 185 عن أبي ذر الغفاريّ رضي اللَّه عنه، حديث رقم (20820) ، وأخرجه أحمد بنحو منه في المرجع السابق 2/ 256، حديث رقم (5877) مسند عبد اللَّه بن عمر.
[ (3) ] الجحفة: بالضم ثم السكون، والفاء: كانت قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل، وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة، فإن مروا بالمدينة فميقاتهم ذو الحليفة، وكان اسمها مهيعة، وإنما سميت الجحفة، لأن السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام، وهي الآن خراب، وبينها وبين ساحل الحجاز نحو ثلاث مراحل، وبينها وبين المدينة ست مراحل.
وقال السكري: الجحفة: على ثلاث مراحل من مكة في طريق المدينة، والجحفة أول الغور إلى مكة، وكذلك هي من الوجه الآخر إلى ذات عرق، وأول الثغر من طريق المدينة أيضا الحجفة.
وقال الكلبي: إن العماليق أخرجوا بني عقيل، وهم إخوة عاد بن رب، فنزلوا الجحفة، وكان اسمها يومئذ مهيعة، فجاءهم سيل واجتحفهم، فسميت الجحفة.
ولما قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة استوبأها وحمّ أصحابه، فقال: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشدّ، وصحّحها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها إلى الجحفة.
وروى أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نعس ليلة في بعض أسفاره، إذ استيقظ فأيقظ أصحابه وقال: مرّت بي الحمى في صورة امرأة ثائرة الرأس منطلقة إلى الجحفة، (معجم البلدان) : 2/ 129.

(3/302)


إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن [تنافسوا] [ (1) ] فيها فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم،
قال عقبة: فكان آخر ما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر [ (2) ] .
وذكره البخاري بهذا السند ولفظه: قال: صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، إن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها.
قال: فكانت آخر نظرة نظرها إليّ رسول اللَّه [ (3) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وأني واللَّه لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني واللَّه ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها [ (3) ] . لفظهما متقارب جدا، ذكره البخاري في باب الصلاة على الشهيد، وفي كتاب الرقاق، وفي آخر غزوة أحد. وذكره في باب علامات النبوة في الإسلام وقال: مفاتيح خزائن الأرض (من غير شك) . وذكره أبو داود بهذا الإسناد [ (4) ] ، وانتهى من الحديث إلى قوله: ثم انصرف. وذكره النسائي [ (5) ] وانتهى إلى قوله: وأنا شهيد عليكم.
__________
[ (1) ] في (خ) : «تتنافسوا» .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته، حديث رقم (31) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي البخاري: «نظرتها إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم» . والحديث رواه البخاري في الرقاق، باب في الحوض، وباب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، وفي الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، وفي الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام، وفي المغازي، باب غزوة أحد، وباب أحد يحبنا ونحبه.
ومسلم في الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته.
[ (4) ] (صحيح سنن أبي داود) : 2/ 620، باب (75) ، الميت يصلى على قبره بعد حين، حديث رقم (2760) ، قال الألباني: صحيح.
[ (5) ] (صحيح سنن النسائي) : 2/ 420، باب (61) ، الصلاة على الشهداء، حديث رقم (1846) ، قال الألباني: صحيح.

(3/303)


وخرج مسلم من حديث معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن سالم ابن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن ثوبان، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: إني لبعقر حوضي أذود الناس [عنه] [ (1) ] لأهل اليمن، أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم، فسئل عن عرضه فقال: من مقامي إلى عمان، وسئل عن شرابه فقال:
أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من الذهب والآخر من ورق [ (2) ] .
وخرج أيضا من حديث الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لأذودن عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة من الإبل [ (3) ] .
وخرج البخاري في كتاب الشرب من حديث شعبة عن محمد بن زياد سمعت أبا هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: والّذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض [ (4) ] .
وخرج مسلم من حديث عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرني عمرو- وهو ابن الحرث- أن بكيرا حدثه عن القاسم بن عباس الهاشمي، عن عبد اللَّه بن رافع مولى أم سلمة، عن م سلمة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم سمع ذلك من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما كان [يوما] [ (5) ] من ذلك- والجارية تمشطني- فسمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: [أيّها] [ (6) ] الناس، فقلت للجارية: استأخري عنها، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: إني من الناس، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني لكم فرط على الحوض، فإياي لا يأتينّ
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الفضائل باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته، حديث رقم (37) ، وعقر الحوض: مؤخره.
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (38) ، وفي (خ) : «تزاد» .
[ (4) ] (جامع الأصول) : 10/ 473، في ورود الناس على الحوض، حديث رقم (8004) ، وإسناده صحيح.
[ (5) ] في (خ) : «يوم» .
[ (6) ] في (خ) : «يا أيها» .

(3/304)


أحدكم فيذبّ عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: [سحقا] [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال: قال عبد اللَّه بن عمرو، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا. ذكره في الرقاق في باب الحوض [ (2) ] .
وله فيه من حديث نافع بن عمر، حدثني ابن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنها قالت: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: إني على الحوض حتى انظر من يرد عليّ منكم، [وسيؤخذ] [ (3) ] ناس دوني، فأقول: يا رب [مني] [ (4) ] ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ واللَّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم. فكان ابن أبي مليكة يقول: اللَّهمّ إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا.
على أعقابهم ينكصون: يرجعون على العقب، ذكره في كتاب الفتن [ (5) ] .
وخرج مسلم في المناقب من حديث نافع بن عمر الجمحيّ، عن ابن أبي مليكة، قال: قال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: حوضي مسيرة شهر، زواياه سواء وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، كيزانه كنجوم السماء، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا. قال: وقالت أسماء بنت أبي بكر: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني على الحوض [حتى] [ (6) ] انظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي، فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ واللَّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم،
قال: وكان ابن أبي مليكة
__________
[ (1) ] في (خ) : «فسحقا» ، أخرجه مسلم في الفضائل باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته، حديث رقم (29) .
[ (2) ] حديث رقم (6579) .
[ (3) ] في (خ) : «وسيوجد» .
[ (4) ] في (خ) : «أمتي» .
[ (5) ] باب (1) ما جاء في قول اللَّه تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وما كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يحذّر من الفتن، حديث رقم (7048) وذكره أيضا في كتاب الرقاق، باب (53) في الحوض، وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (6593) .
[ (6) ] تكملة من رواية البخاري.

(3/305)


يقول: اللَّهمّ إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا [ (1) ] .
وله من حديث ابن خيثم عن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكة، سمع عائشة رضي اللَّه عنها تقول: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يقول بين ظهراني أصحابه:
إني على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم، فو اللَّه ليقتطعن دوني رجال فلأقولن:
أي رب، مني ومن أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم [ (2) ] .
وخرج البخاري في الرقاق من حديث أبي عوانة عن سليمان عن شقيق عن عبد اللَّه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم [أنه قال] : أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ إليّ رجال منكم حتى إذا هويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي! يقول:
لا تدري ما أحدثوا بعدك [ (3) ] . وخرجه مسلم من طرق [ (4) ] .
وخرج البخاري من حديث عبد اللَّه قال: حدثني نافع عن ابن عمر أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال لي: إنّ أمامكم حوضا ما بين جرباء وأذرح [ (5) ] .
وخرجه مسلم من طرق في بعضها: حوضي، وفي بعضها: إن أمامكم حوضا ما بين ناحيتيه. وخرجه كذلك أبو داود وفي بعضها: إن أمامكم حوضا كما بين جرباء وأذرح، فيه أباريق كنجوم السماء، من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (53) الحوض، حديث رقم (6593) ، وفي كتاب الفتن، باب (1) ، حديث رقم (7048) .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الفضائل، باب (9) حديث رقم (28) .
[ (3) ] أخرجه البخاري في الرقاق، باب (53) الحوض بسند آخر وسياقة أخرى، حديث رقم (6576) .
[ (4) ] أخرجه مسلم في الفضائل، باب (9) ، حديث رقم (40) .
[ (5) ] كتاب الرقاق، باب (53) ، حديث رقم (6577) .
[ (6) ] مسلم في الفضائل، باب (9) ، حديث رقم (34، 35) ، والجرباء: كأنه تأنيث الأجرب، موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام، قرب جبال السراة من ناحية الحجاز، وهي قرية من أذرح، وبينهما كان أمر الحكمين بين عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعريّ. والجرباء أيضا:
ماء لبني سعد بن زيد مناة بن تميم بين البصرة واليمامة. (معجم البلدان) : 2/ 137.
وأذرح: بالفتح، ثم السكون، وضم الراء، والحاء المهملة: اسم بلد في أطراف الشام من أعمال

(3/306)


وخرج البخاري من حديث ابن وهب عن يونس، قال ابن شهاب: حدثني أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة [ (1) ] . وخرجه مسلم من طرق، في بعضها: ما بين لابتي حوضي. وله من حديث خالد بن الحرب عن سعيد عن قتادة، قال أنس: قال نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ترى فيه: أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء [ (2) ] . وفي لفظ: أو أكثر من عدد نجوم السماء [ (3) ] .
وذكر البخاري ومسلم أحاديث فيها ذكر الحوض من حديث سهل بن سعد بمعنى ما تقدم، وجاءت أحاديث أخر في ذكر الحوض، وفيما أوردته من الصحيحين والسنن ما يشبع ويكفي إن شاء اللَّه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وكل من أحدث في الدين ما لا يرضاه اللَّه، ولم يأذن به اللَّه، فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، مثل الخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، هؤلاء كلهم مبدلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق، وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، كل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بهذا الخبر، ولا يخلد في النار إلا كل فاجر جاحد، ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
وقد قال أبو القاسم: قد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء، وكان يقال: تمام الإخلاص تجنب المعاصي. (انتهى) .
__________
[ () ] الشراة، ثم من نواحي البلقاء، وفي كتاب مسلم بن الحجاج: بين أذرح والجرباء ثلاثة أيام، (المرجع السابق) : 1/ 157.
[ (1) ] أخرجه البخاري في الرقاق، باب (53) ، حديث رقم (6591) ، وقال فيه: «كما بين المدينة وصنعاء» ، ورواية مسلم في الفضائل: «بين صنعاء والمدينة» .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الفضائل باب (9) ، حديث رقم (43) .
[ (3) ] المرجع السابق في الباب.

(3/307)


والظاهر أن الشرب من الحوض يكون بعد الحساب والنجاة من النار، وقيل:
يشرب منه إلا من قدر له السلامة من النار. واللَّه الرحيم الرحمن [ (1) ] .
***
__________
[ (1) ] قال القاضي عياض رحمه اللَّه: أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأوّل ولا يختلف فيه.
قال القاضي: وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن عمرو ابن العاص، وعائشة، وأم سلمة، وعقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وحارثة بن وهب، والمستورد، وأبي ذر، وثوبان، وأنس، وجابر بن سمرة.
ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصديق، وزيد بن أرقم، وأبي أمامة، وعبد اللَّه بن زيد، وأبي برزة، وسويد بن جبلة، وعبد اللَّه بن الصنابحي، والبراء بن عازب، وأسماء بنت أبي بكر، وخولة بن قيس، وغيرهم.
قال الإمام النووي: ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أبي هريرة، ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب، وعائذ بن عمر، وآخرين.
وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (البعث والنشور) بأسانيده، وطرقه، المتكاثرات. قال القاضي: وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا فرطكم على الحوض» ،
قال أهل اللغة: الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط:
هو الّذي يتقدم الوارد ليصلح لهم الحياض، والدلاء، ونحوها من أمور الاستقاء. فمعنى «فرطكم على الحوض» : سابقكم إليه كالمهيء له. (مسلم بشرح النووي) : 15/ 59.

(3/308)


وأما كثرة أتباعه صلى اللَّه عليه وسلّم
فخرج مسلم من حديث جرير عن المختار بن فلفل عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعا [ (1) ] .
وفي رواية سفيان عن مختار: أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة [ (2) ] . وفي رواية زائدة عن المختار: أنا أول شفيع في الجنة، لم يصدّق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد [ (3) ] .
وخرج البخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] والنسائي من حديث الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الّذي [أوتيته] وحيا أوحي إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم [تابعا] يوم القيامة.
وخرج الترمذي من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أكثرهم واردة، وإني
__________
[ (1) ]
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (85) في قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا» ، حديث رقم (330) .
[ (2) ] المرجع السابق، حديث رقم (331) .
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (332) .
[ (4) ]
أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب (1) كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، حديث رقم (4981) ، وفي (خ) : «أوتيت» ، و «تبعا» ، والتصويب من رواية البخاري، وأخرجه البخاري أيضا في كتاب الاعتصام بالسنة، باب (1) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: بعثت بجوامع الكلم، حديث رقم (7274) .
[ (5) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (70) وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، حديث رقم (329) .

(3/309)


لأرجو أن أكون أكثرهم واردة [ (1) ] . قال هذا حديث غريب، وقد روى الأشعث ابن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مرسلا، ولم يذكر عن سمرة،
وهذا أصح.
***
__________
[ (1) ] (صحيح سنن الترمذي) : 2/ 295- 296، باب (12) صفة الحوض، حديث رقم (1988) ، قال الألباني: صحيح، و (الصحيحة) : حديث رقم (1589) .

(3/310)


وأما الخمس التي أعطيها صلى اللَّه عليه وسلّم
وقد روى ست، وروى ثلاث وأربع، وهي تنتهي إلى أزيد من سبع، قال:
فهن لم يؤتهن أحد قبلي.
فخرج البخاري من حديث هشيم، أخبرنا سيار، حدثنا يزيد الفقير، قال:
أخبرنا جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة. ذكره في باب التيمم [ (1) ] ، وخرجه في كتاب الصلاة [ (2) ] ولفظه: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي.. الحديث إلى آخره، وقال: وبعثت إلى كافة الناس. وخرجه مسلم [ (3) ] بهذا السند ولفظه: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة.
وخرجه النسائي [ (4) ] ، ولفظه عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: جعلت لي الأرض مسجدا طهورا، فأينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلى.
لم يذكر
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب التيمم. قول اللَّه تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6] باب (1) ، حديث رقم (335) .
[ (2) ]
باب (56) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، حديث رقم (438) .
وأخرجه البخاري أيضا في كتاب فرض الخمس، باب (8) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «أحلّت لي الغنائم.
وقال اللَّه عزّ وجلّ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها [الفتح: 20] ، وهي للعامة حتى بينه الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3122) ، ورقم (3124) .
[ (3) ] ذكره في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (521) .
[ (4) ] ذكره النسائي في كتاب المساجد، باب (42) الرخصة في الصلاة في أعطان الإبل، حديث رقم (735) .

(3/311)


منه غير هذا [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعيّ عن حذيفة رضي اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: فضلنا على الأنبياء بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء،
وذكر خصلة أخرى [ (2) ] .
وخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبي عوانة عن أبي مالك بسنده ولفظه:
فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا وترابها طهورا، وأعطيت آخر سورة البقرة وهي كنز من العرش.
وروى أبو داود السجستاني من حديث جرير عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد ابن عمير عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا [ (3) ] .
وخرج ابن الجارود من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا محمد- يعني ابن عمرو- عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: مثله سواء.
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة بسنده ولفظه.
وخرجه ابن الجارود أيضا من حديث حماد عن ثابت وحميد عن أنس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا.
__________
[ (1) ]
قال محققه: لكن ذكره النسائي أيضا في كتاب الغسل، باب (26) التيمم بالصعيد، حديث رقم (430) : أخبرنا الحسن بن إسماعيل بن سليمان، حدثنا هشيم قال: أنبأنا سيّار عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحدا قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأينما أدرك الرجل من أمتي الصلاة يصلي، وأعطيت الشفاعة، ولم يعط نبي قبلي، وبعثت إلى الناس كافة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة» .
(سنن النسائي) 1/ 229- 231.
[ (2) ] ذكره في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (4) .
[ (3) ] ذكره في كتاب الصلاة، باب (24) في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، حديث رقم (489) .

(3/312)


وخرج أبو نعيم من حديث شعبة عن واصل عن مجاهد عن أبي ذر عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أوتيت خمسا لم يؤتهن نبي قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب على مسيرة شهر، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة وهي نائلة من أمتي من مات منهم لا يشرك باللَّه شيئا. قال أبو نعيم: هكذا رواه شعبة عن واصل عن مجاهد عن أبي ذر، وتابعه عليه عمرو بن ذر [ (1) ] .
وخرجه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق قال: حدثني سليمان الأعمش عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج عن عبيد بن عمير الليثي عن أبي ذر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أوتيت خمسا لم يؤتهن نبي كان قبلي: نصرت بالرعب فيرعب مني العدو من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وقيل لي: سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم- إن شاء اللَّه- من لقي اللَّه عز وجل لا يشرك به شيئا،
وكان مجاهد يرى أن الأحمر الإنس والأسود الجن [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث جرير عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر قال: طلبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليلا فوجدته قائما يصلي فأطال الصلاة ثم قال: أوتيت الليلة خمسا لم يؤتها نبي قبلي: أرسلت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب فيرعب العدو وهو مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وقيل لي: سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي، وهي نائلة لمن لا يشرك باللَّه شيئا [ (1) ] .
قال أبو نعيم: تابع جرير استدل ابن علي وأبو معاوية ومحمد بن إسحاق على عبيد بن عمير وقال مرة: متن هذا الحديث وخصائص النبي صلى اللَّه عليه وسلّم راتب مشهور ومتفق عليه من حديث يزيد الفقير عن جابر بن عبد اللَّه وغيره، وحديث عبيد بن عمير عن أبي ذر مختلف في سنده، فمنهم من يرويه عن الأعمش عن مجاهد عن أبي ذر من دون عبيد، وتفرّد جرير بإدخال عبيد بين مجاهد وأبي ذر عن الأعمش.
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها في فصل (اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر) فتراجع هناك.

(3/313)


وله من حديث سلمة عن مجاهد عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، ونصرت بالرعب يرعب مني عدوي شهرا، وأطعمت المغنم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا [ (1) ] .
وله من حديث سلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مثله، قال: وتابعه عليه الحكم بن عيينة، ورواه يزيد بن أبي زياد مثله عن مجاهد وفيه: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، ولا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر والأسود، فذكر مثله سواء.
وله من حديث ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن على بن رباح عن رجل سمع عبادة بن الصامت قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن جبريل أتاني فبشرني أن اللَّه أمدني بالملائكة وأتاني النصر، وجعل بين يدي الرعب، وأتاني السلطان والملك، وطيب لي ولأمتي الغنائم، ولم يكن لأحد قبلنا. واللَّه يؤتي فضله من يشاء وبه يكتفى [ (1) ] .
***
__________
[ (1) ] سبق تخريجه أو نحوه والتعليق عليه.

(3/314)


وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزائن الأرض
فخرج البخاري في الجهاد من حديث عقيل عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي،
قال أبو هريرة: وقد ذهب رسول اللَّه وأنتم تنتثلونها [ (1) ] .
وخرجه في كتاب التعبير في باب المفاتيح في اليد ولفظه: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت مفاتيح خزائن الأرض وضعت [ (2) ] في يدي، قال محمد: وبلغني أن جوامع الكلم: أن اللَّه يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك [ (3) ] .
وخرجه في كتاب الاعتصام من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي، قال أبو هريرة:
فقد ذهب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأنتم تلغثونها أو ترغثونها، أو كلمة تشبهها [ (4) ] .
وخرجه مسلم من حديث يونس عن ابن شهاب، ومن حديث الزبيدي عن الزهري، أخبرنا سعيد بن المسيب وأبو سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت رسول
__________
[ (1) ]
باب (122) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» ، حديث رقم (2977) .
[ (2) ] في (خ) : «فوضعت» .
[ (3) ] حديث رقم (7013) ، قوله: (باب المفاتيح في اليد) أي إذا رئيت في المنام، قال أهل التعبير:
المفتاح مال، وعز، وسلطان، فمن رأى أنه فتح بابا بمفتاح فإنه يظفر بحاجته، بمعونة من له بأس، وإن رأى أن بيده مفاتيح فإنه يصيب سلطانا عظيما. (فتح الباري) : 12/ 496.
[ (4) ]
باب (1) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «بعثت بجوامع الكلم» ، حديث رقم (7273) ، واللغث والرغث كناية عن سعة العيش، وأصله من رغث الجدي أمه إذا ارتضع منها، وأرغثته هي أرضعته. (فتح الباري) : 13/ 308.

(3/315)


اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول:.. فذكره [ (1) ] ، وخرجه من حديث معمر عن الزهري [ (2) ] ، وخرجه النسائي أيضا من حديث معمر ويونس عن الزهري [ (3) ] ، وأخرجه أيضا من حديث الزبيدي عن الزهري عن سعيد [ (4) ] ، وأبي سلمة عن أبي هريرة [ (5) ] .
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول حين فتحت الأمصار في زمان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومن بعده: افتحوا ما بدا لكم، فو الّذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا اللَّه قد أعطى محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم مفاتيحها قبل ذلك.
وخرج البخاري من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال:
قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت مفاتيح الكلم ونصرت بالرعب، وبينما أنا نائم البارحة إذا أتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي، قال أبو هريرة: فذهب رسول اللَّه وأنتم تنتقلونها. ذكره في كتاب التعبير في باب رؤيا بالليل [ (6) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة أنه حدثه عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: نصرت بالرعب على العدو، وأوتيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي [ (7) ] .
وله من حديث عبد الرزّاق، حدثنا معمر عن هشام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فذكر أحاديث منها: وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم، ذكره والّذي قبله في كتاب الصلاة [ (8) ] .
__________
[ (1) ] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (6) من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] الحديث الّذي يليه بالمرجع السابق.
[ (3) ] (سنن النسائي) : 6/ 310 كتاب الجهاد، باب (1) وجوب الجهاد، حديث رقم (3087) .
[ (4) ] المرجع السابق، حديث رقم (3089) .
[ (5) ] المرجع السابق، حديث رقم (3088) .
[ (6) ] حديث رقم (6998) .
[ (7) ] ذكره في كتاب المساجد ومواضع الصلاة فيها، حديث رقم (7) .
[ (8) ] المرجع السابق، حديث رقم (8) .

(3/316)


وخرج من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون [ (1) ] .
وخرجه أبو نعيم من حديث أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: فضلت على النبيين بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، وأرسلت إلى الناس كافة، وأحلت لي الغنائم، وختم بي النبيون [ (2) ] .
وله من حديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت فواتح الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم إذ أتيت بمفاتح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي [ (2) ] .
وله من حديث الحسن بن سفيان قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا عيسى ابن ميمون، حدثنا محمد بن كعب قال: سمعت ابن عياش رضي اللَّه عنه يقول:
كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: أوتيت خصالا لا أقولها فخرا، قيل: وما هن يا رسول اللَّه؟ قال: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأوتيت الكوثر آنيته عدد نجوم السماء.
وله من طريق الغرياني جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو جعفر النفيلي، حدثنا موسى بن أمين عن عطاء بن السائب عن أبي جعفر عنه أبيه عن جده عن أبي طالب عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: أرسلت إلى الأبيض والأسود والأحمر، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي، وأعطيت جوامع الكلم، يعني القرآن [ (2) ] .
__________
[ (1) ] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (6) من صحيح مسلم.
[ (2) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها.

(3/317)


وخرج مسلم من حديث مالك بن مغول عن الزبير بن عديّ عن مرة الهمدانيّ عن عبد اللَّه قال: لما أسري برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى، أعطي ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن كان من أمته لا يشرك باللَّه المقحمات [ (1) ] .
وذكر قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت مكان التوراة السبع، ومكان الزبور المئين، ومكن الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل [ (2) ] .
***
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان. باب (76) في ذكر سدرة المنتهى، حديث رقم (279) ، والمقحمات: الذنوب الكبائر التي تقحم أصحابها في النار.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 475، وأخرجه الطبراني في الكبير، وأشار إليه السيوطي بالحسن، (فيض القدير) : 1/ 565.

(3/318)


وأما تأييده بقتال الملائكة معه
فخرج البخاري من حديث يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقيّ عن أبيه- وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة [ (1) ] .
ومن حديث خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب [ (2) ] .
ولمسلم قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين [ (3) ] .
ولعثمان بن سعيد الدارميّ من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ [ (4) ] ، قال: أقبلت عير مكة تريد الشام، فبلغ أهل مكة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يريدون العير، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا السير إليها لكيلا يغلب عليها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وكان اللَّه عز وجل قد وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يلقوا
__________
[ (1) ] أخرجه في كتاب المغازي، باب (11) شهود الملائكة بدرا، حديث رقم (3992) .
[ (2) ] المرجع السابق، حديث رقم (3995) ، وأخرجه أيضا في باب (17) غزوة أحد برقم (4041) وفيه: «قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد ... » وباقي الحديث بمثله سواء.
[ (3) ] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب (18) الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، حديث رقم (58) ، وهو حديث طويل.
[ (4) ] 7: الأنفال.

(3/319)


العير أحب إليهم وأيسر شوكة، وأحضر مغنما، فلما سبقت العير وفاتت سار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالمسلمين يريد القوم، فكره القوم مسيرهم لشوكة القوم، فنزل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم والمسلمين بينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم القنط يوسوسهم: تزعمون أنكم أولياء اللَّه وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم كذا، فأمطر اللَّه عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، فأذهب اللَّه عنهم رجز الشيطان، وصار الرمل كذا، ذكر كلمة أخبر أنه أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمدّ نبيّه والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، [وميكائيل في خمسمائة مجنبة] [ (1) ] ، وجاء إبليس في جند من الشياطين معه، رأيته في صورة رجال بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جشعم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [ (2) ] ، فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللَّهمّ أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يده فقال: يا رب إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا، فقال جبريل: خذ قبضة من التراب، فأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوههم،
فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه ترابا من تلك القبضة فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس- لعنه اللَّه- فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة!! لم تزعم أنك جار لنا؟ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [ (2) ] ، وذلك حين رأى الملائكة.
وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال:
وحدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد اللَّه ابن أبي بكر وغيرهم من علمائنا، فذكر الحديث في يوم بدر إلى أن قال: فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في العريش هو وأبو بكر رضي اللَّه عنه ما معهما غيرهما، وقد تداني القوم بعضهم من بعض، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يناشد ربه ما وعده من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من تفسير ابن كثير.
[ (2) ] 48: الأنفال.

(3/320)


نصره ويقول: اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد، وأبو بكر رضي اللَّه عنه يقول:
بعض منا شدتك يا رسول اللَّه فإن اللَّه موفيك ما وعدك من نصره.
وخفق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خفقة [ثم هب] [ (1) ] ، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر اللَّه، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع- يقول الغبار-، ثم خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فعبأ [ (2) ] أصحابه وهيأهم وقال: لا يعجلن رجل بقتال [ (3) ] حتى نؤذنه، فإذا أكثبوكم [ (4) ] القوم- يقول: اقتربوا منكم- فانضحوهم [عنكم] [ (5) ] بالنبل، ثم تزاحم الناس، فلما تداني بعضهم من بعض خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأخذ حفنة من حصباء [ (6) ] ثم استقبل بها قريشا فنفخ بها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه- يقول: قبحت الوجوه- ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: احملوا يا معشر المسلمين، فحمل المسلمون، وهزم اللَّه قريشا، وقتل من قتل من أشرافهم، وأسر من أسر منهم [ (7) ] .
وقال يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق: قال عبد اللَّه بن أبي بكر: حدثني بعض بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة- وكان شهد بدرا- قال بعد أن أذهب بصره: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري، لأريتكم الشّعب الّذي خرجت منه الملائكة [ (8) ] .
وقال موسى بن عقبة: فمكث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعد قتل ابن الحضرميّ شهرين، ثم أقبل أبو سفيان بن حرب في عير لقريش من الشام، فذكر قصة بدر، إلى أن قال: وعجّ المسلمون إلى اللَّه تعالى يسألونه النصر حين رأوا القتال قد نشب، ورفع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يديه إلى اللَّه تعالى يسأله ما وعده ويسأله النصر ويقول: اللَّهمّ إن ظهر على هذه العصابة ظهر الشرك ولم يقم لك دين، وأبو بكر رضي اللَّه عنه
__________
[ (1) ] في (خ) : «ثم قال هب» .
[ (2) ] في (خ) : «فعبى» .
[ (3) ] في (خ) : «لقتال» .
[ (4) ] في (خ) : «أكثبكم» .
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (6) ] في (خ) : «حصاه» .
[ (7) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 81.
[ (8) ] المرجع السابق، و (ابن هشام) : 3/ 181، وزاد: «لا أشك فيه ولا أتمارى» .

(3/321)


يقول له: يا رسول اللَّه، والّذي نفسي بيده لينصرنك اللَّه عز وجل، وليبيض وجهك، فأنزل اللَّه عز وجل من الملائكة جندا في أكتاف العدو، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: قد أنزل اللَّه ونزلت الملائكة، أبشر يا أبا بكر فإنّي قد رأيت جبريل معتجرا يقود فرسا بين السماء والأرض، فلما هبط إلى الأرض جلس عليها فتغيب عني ساعة، ثم رأيت على شفته غبارا.
وقال ابن إسحاق في رواية محمد بن عبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد اللَّه البكائي: حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال:
حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان، ننظر الوقعة على من تكون الدائرة، فننتهب مع من ينتهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه مات مكانه، وأما أنا فكدت أن أهلك ثم تماسكت [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق عن يسار عن رجال من بني مازن ابن النجار عن أبي داود المازني- وكان شهد بدرا- فقال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع على رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري [ (2) ] .
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم مولى عبد اللَّه بن الحرث عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء وأرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا [ (3) ] .
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: العمائم تيجان العرب، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء قد أرخوها على ظهورهم، إلا جبريل فقد كانت عليه عمامة صفراء [ (4) ] .
__________
[ (1) ] المرجع السابق، وقال: «على من تكون الدّبرة» وهي بمعنى الدائرة.
[ (2) ] المرجع السابق، وقال: «وقع رأسه» .
[ (3) ] المرجع السابق: 182، وقال: «بيضا قد أرسلوها على ظهورهم» .
[ (4) ] المرجع السابق، وقال: «عمائم بيضا» .

(3/322)


قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم [ (1) ] عن ابن عباس قال: ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون [ (2) ] .
وقال الواقدي: فحدثني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس قال: سمعت ابن عباس يقول: لما تواقف الناس- يعني يوم بدر- أغمى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ساعة] [ (3) ] ، ثم كشف عنه، فبشر المؤمنين بجبريل في جند من الملائكة [في] [ (3) ] ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر [في] [ (3) ] ميسرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وإسرافيل في جند آخر بألف [ (4) ] ، قال: وكانت سيما الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم، خضرا وصفرا [وحمرا] [ (3) ] من نور، والصوف في نواصي خيلهم [ (5) ] .
وحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن الملائكة قد سوّمت فسوّموا، فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم.
وحدثني موسى بن محمد عن أبيه قال: كان أربعة من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يعلمون في الزحوف: حمزة بن عبد المطلب معلم يوم بدر بريشة نعامة، وكان عليّ معلما بصوفة بيضاء، وكان الزبير معلما بعصابة صفراء، وكان الزبير يحدث:
إن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر، وكان على الزبير يومئذ عصابة صفراء، وكان أبو دجانة يعلم بعصابة حمراء [ (6) ] .
وقال الزبير بن بكار: حدثني علي بن صالح عن عامر بن صالح بن عبد اللَّه ابن عروة بن الزبير، عن هشام بن عروة عن عباد بن حمزة بن عبد اللَّه بن الزبير أنه بلغه أن الملائكة نزلت يوم بدر وهم طير بيض عليهم عمائم صفر، وكانت
__________
[ (1) ] في (خ) : «مغنم» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (2) ] المرجع السابق.
[ (3) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (4) ] المرجع السابق: 1/ 70- 71.
[ (5) ] المرجع السابق: 1/ 75.
[ (6) ] المرجع السابق: 1/ 76، وقال: «فكان على الزبير» .

(3/323)


على الزبير يومئذ عمامة صفراء من بين الناس، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: نزلت الملائكة اليوم على سيما أبي عبد اللَّه، وجاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وعليه عمامة صفراء.
حدثني أبو المكرم عقبة بن مكرم الضبي قال: حدثني مصعب بن سلام التميمي عن سعد بن طريف عن أبي جعفر محمد بن علي قال: كانت على الزبير بن العوام يوم بدر عمامة صفراء، فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر.
حدثني محمد بن حسن عن محمد بن يحيى عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه قال: نزلت الملائكة يوم بدر على سيما الزبير، عليهم عمائم صفر، وقد أرخوها في ظهورهم، وكانت على الزبير عمامة صفراء، وفي ذلك يقول عامر بن صالح ابن عبد اللَّه بن عروة بن الزبير رضي اللَّه عنه:
جدي بن عمة أحمد ووراء ... عند البلاء وفارس الشقراء
وغداة بدر كان أول فارس ... شهد الوغى في لأمة الصفراء
نزلت بسيماه الملائكة قصره ... بالحوض يوم بسالة الأعداء
وقال الواقدي: وحدثني عبد اللَّه بن موسى بن أمية بن عبد اللَّه بن أبي أمية عن مصعب بن عبد اللَّه عن مولى لسهيل قال: سمعت بن عمرو يقول: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون [ (1) ] .
وحدثني خارجة بن إبراهيم بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال: سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة: «أقدم حيزوم» ؟
فقال: يا محمد، ما كلّ أهل السماء أعرف [ (2) ] .
وحدثني عبد الرحمن بن الحرث عن أبيه عن جده عبيد بن أبي [عبيد، عن أبي] [ (3) ] رهم الغفاريّ عن ابن عم له قال: بينما أنا وابن عم لي على ماء بدر، فلما رأينا قلة مع محمد وكثرة قريش قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 76.
[ (2) ] المرجع السابق: 1/ 77.
[ (3) ] زيادة في النسب من المرجع السابق.

(3/324)


وأصحابه فانطلقنا إلى المجنّبة اليسري من أصحاب محمد ونحن نقول: هؤلاء ربع قريش، فبينا نحن نمشي [في] [ (1) ] الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا، فرفعنا أبصارنا إليها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: «أقدم حيزوم» ، وسمعناهم يقولون: رويدا تتامّ أخراكم» ، فنزلوا على ميمنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم جاءت أخرى مثل تلك، فكانت مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فنظرنا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فإذا هم الضّعف على قريش، فمات ابن عمي وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. وأسلم وحسن إسلامه [ (2) ] .
قالوا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة- وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز اللَّه عن الذنوب العظام- إلا ما رأى يوم بدر، قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال:
أما أنه قد رأى جبريل يزع الملائكة. قالوا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: هذا جبريل يسوق الريح كأنه دحية الكلبي، إني نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور [ (3) ] .
وحدثني أبو إسحاق بن أبي عبد اللَّه، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن صالح ابن إبراهيم قال: كان عبد الرحمن بن عوف يقول: رأيت يوم بدر رجلين، عن يمين النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أحدهما، وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال، ثم ثلثهما ثالث من خلفه، ثم ربعهما رابع أمامه [ (4) ] .
وحدثني أبو إسحاق بن أبي عبد اللَّه عن عبد الواحد بن أبي عون عن زياد مولى سعد، عن سعد قال: رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أحدهما عن يساره والآخر عن يمينه، وإني لأراه ينظر إلى ذا مرة، وإلى ذا مرة، سرورا بما ظفّره اللَّه تعالى [ (5) ] .
حدثني إسحاق بن يحيى عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال: ما أدري كم يد مقطوعة، أو ضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر، قد رأيتها [ (6) ] !!.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (2) ] المرجع السابق.
[ (3) ] المرجع السابق.
[ (4) ] المرجع السابق.
[ (5) ] المرجع السابق: 1/ 78.
[ (6) ] المرجع السابق: 1/ 78.

(3/325)


وحدثني محمد بن يحيى عن أبي عفير عن رافع بن خديج، عن أبي بردة بن نيار قال: جئت يوم بدر بثلاثة رءوس فوضعتهن بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقلت:
يا رسول اللَّه! أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث، فإنّي رأيت رجلا أبيض طويلا ضربه فتدهدى أمامه، فأخذت رأسه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ذاك فلان من الملائكة.
وكان ابن عباس يقول: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر [ (1) ] .
وحدثني أبو حبيبة [ (2) ] عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم فيقول:
إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشيء، وذلك قول اللَّه تبارك وتعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [ (3) ] إلى آخر الآية.
وحدثني موسى بن محمد عن أبيه قال: كان السائب بن أبي حبيش الأسديّ يحدث في زمن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: واللَّه ما أسرني أحد من الناس، فيقال: فمن؟ فيقول: لما انهزمت قريش ما انهزمت معها، فيدركني رجل طويل أبيض على فرس أبلق بين السماء والأرض، فأوثقني رباطا، وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا، وكان عبد الرحمن ينادي في العسكر [ (4) ] : من أسر هذا؟
فليس أحد يزعم أنه أسرني، حتى انتهيت [ (5) ] إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من أسرك؟ قلت: لا أعرفه [ (6) ] ، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أسره ملك من الملائكة كريم، اذهب يا ابن عوف بأسيرك،
فذهب بي عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه، فقال السائب، فما زلت تلك الكلمة أحفظها، وتأخر إسلامي حتى [كان] [ (7) ] ما كان من إسلامي.
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 1/ 78- 79.
[ (2) ] في المرجع السابق: «ابن أبي حبيبة» .
[ (3) ] الأنفال: 18، وتمامها: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
[ (4) ] في المرجع السابق: «العسكر» .
[ (5) ] في المرجع السابق: «حتى انتهى بي» .
[ (6) ] في المرجع السابق: «لا أعرف» .
[ (7) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.

(3/326)


وحدثني عائذ بن يحيى عن ابن الحويرث عن عمارة بن أكيمة الليثي عن حكيم ابن حزام قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيّد به محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فما كانت إلا الهزيمة، وهي الملائكة [ (1) ] .
حدثني موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم، عن رجل من بني أود قال: سمعت عليا رضي اللَّه عنه يقول وهو يخطب بالكوفة:
بينا أنا [أسيح] [ (2) ] في قليب ببدر جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة، ثم ذهبت فجاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها، فكانت الأولى جبريل في ألف مع رسول اللَّه، والثانية ميكائيل في ألف عن ميمنة رسول اللَّه وأبي بكر، وكانت الثالثة إسرافيل في ألف نزل عن ميسرة رسول اللَّه، وأنا في الميسرة، فلما هزم اللَّه أعداءه حملني رسول اللَّه على فرس [] [ (3) ] فلما جرت خررت على عنقها، فدعوت ربي فأمسكني حتى استويت، وما لي والخيل، إنما كنت صاحب غنم، فلما استويت طعنت بيدي هذه حتى اختضبت مني ذا، يعني إبطه.
وفي مغازي ابن عقبة: أن ابن مسعود وجد أبا جهل جالسا لا يتحرك ولا يتكلم، فسلبه درعه، فإذا في بدنه نكت سود، فحلّ سبغة البيضة وهو لا يتكلم، واخترط سيفه- يعني سيف أبي جهل- فضرب به عنقه ثم سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين احتمل رأسه إليه عن تلك النكت السود التي رآها في بدنه، فأخبره عليه السلام أن الملائكة قتلته، وأن تلك آثار ضرب الملائكة له [ (4) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث إبراهيم بن سعد قال: حدثنا سعد عن أبيه عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قال: لقد رأيت يوم أحد عن يمين
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 1/ 80، والبجاد: الكساء.
[ (2) ] كذا في (خ) ، ولم أجد لها توجيها.
[ (3) ] في (خ) كلمة لم أتبين معناها لعدم وضوحها.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 90، و (ابن هشام) : 3/ 185 [هامش] ، (شرح ابن أبي الحديد على النهج) : 4/ 143.

(3/327)


رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وعن يساره رجلين عليها ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد [ (1) ] . وذكره البخاري في [المغازي] [ (2) ] ، وخرجاه من حديث مسعر عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال: رأيت عن يمين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض، ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل، لم يقل البخاري: يعني جبريل وميكائيل، ذكره البخاري في كتاب اللباس [ (3) ] .
وقال ورقاء عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد: لم تقاتل الملائكة يومئذ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر، قال البيهقي: إنما أراد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به [ (4) ] .
وحدث الواقدي عن شيوخه في قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [ (5) ] ، قال: فلم يصبروا فانكشفوا فلم يمدوا [ (6) ] .
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال: وكان اللَّه عزّ وجلّ وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة،
__________
[ (1) ] ذكره البخاري في المغازي، باب (18) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، حديث رقم (4054) .
[ (2) ] في (خ) : «المناقب» ، والصواب ما أثبتناه، وذكره مسلم في الفضائل باب (10) في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، حديث رقم (47) . و (مغازي الواقدي) : 1/ 234.
[ (3) ] باب (24) الثياب البيض، حديث رقم (5826) ولفظه: «رأيت بشمال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ويمينه رجلين عليهما ثياب بيض يوم أحد، ما رأيتهما قبل ولا بعد» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 255- 256.
[ (5) ] آل عمران: 124.
[ (6) ] المرجع السابق: 256، و (مغازي الواقدي) : 1/ 319- 320، باب ما نزل من القرآن بأحد.

(3/328)


وأنزل اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [ (1) ] ، فصدق اللَّه وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا الرسول أعقبهم البلاء.
وقال ابن هشام: مسوّمين: معلّمين، بلغنا عن الحسن بن أبي الحسن [البصري] [ (2) ] أنه قال: أعلموا أذناب خيلهم ونواصيها بصوف أبيض [ (3) ] .
وذكر يونس بن بكير عن عبد اللَّه بن عون عن عمير بن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبله أتاه بها قال: ارم أبا إسحاق، فلما فرغوا نظروا من الشاب فلم يروه ولم يعرف.
ورواه الواقدي عن عبيدة بنت نائل عن عائشة بنت سعد عن أبيها سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيتني أرمي بالسهم يومئذ فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى كان بعد فظننت أنه ملك [ (4) ] .
وقال الواقدي: حدثني الزبير بن سعيد عن عبد اللَّه العضل قال: أعطى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مصعب بن عمير اللواء، فقيل: فأخذه ملك في صورة مصعب، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول لمصعب في آخر النهار: يا مصعب، فالتفت إليه الملك فقال:
لست بمصعب، فعرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه ملك أيّد به [ (5) ] . [وسمعت أبا معشر يقول مثل ذلك] [ (6) ] .
وحدثني عبد الملك بن سليم عن قطن بن وهب عن عبيد بن عمير قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر، قال عبيد بن عمير: ولم تقاتل الملائكة يوم أحد [ (7) ] .
__________
[ (1) ] آل عمران: 152.
[ (2) ] زيادة للسياق من ابن هشام.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 58.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 234.
[ (5) ] المرجع السابق.
[ (6) ] ما بين الحاصرتين زيادة من المرجع السابق.
[ (7) ] المرجع السابق: 234- 235.

(3/329)


وحدثني ابن أبي سبرة عن عبد الحميد بن سهيل، عن عمر بن الحكم قال:
لم يمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد بملك واحد، وإنما كانوا يوم بدر [ (1) ] .
وحدثني ابن خديج عن عمرو بن دينار عن عكرمة مثله [ (2) ] .
وحدثني معمر بن راشد عن أبي لحيح عن مجاهد قال: حضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل [ (3) ] .
وحدثني سفيان بن [ (4) ] سعيد عن عبد اللَّه بن عثمان عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر [ (5) ] .
وحدثني ابن أبي سبرة عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث [ (6) ] عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قد وعدهم اللَّه أن يمدهم لو صبروا، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ [ (7) ] .
وحدثني سعيد بن عبد اللَّه بن أبي الأبيض، عن جدته- وهي مولاة جويرية-[قالت] [ (8) ] : سمعت جويرية بنت الحارث تقول: أتانا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به، قالت: فكنت أرى من [الخيل والناس] [ (9) ] [والسلاح] [ (10) ] ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ورجعنا، جعلت انظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، [فعرفت] [ (11) ] أنه رعب من اللَّه يلقيه في قلوب المشركين، [فكان رجل منهم] [ (12) ] قد أسلم فحسن إسلامه يقول: لقد كنا نرى رجالا بيضا على خيل بلق ما كنا نراهم قبل ولا بعد [ (13) ] .
__________
[ (1) ] المرجع السابق.
[ (2) ] المرجع السابق.
[ (3) ] المرجع السابق.
[ (4) ] في (خ) : «ابن أبي سعيد» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (5) ] المرجع السابق.
[ (6) ] في (خ) : «الليث» .
[ (7) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 235.
[ (8) ] في (خ) : «قال» .
[ (9) ] في المرجع السابق: «من الناس والخيل» .
[ (10) ] زيادة من (خ) .
[ (11) ] في المرجع السابق: «فعلمت» .
[ (12) ] في (خ) : «وكان منهم» .
[ (13) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 407، 408.

(3/330)


وقال ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان أنه حدّث: أن مالك بن عوف بعث عيونا [من رجاله] [ (1) ] ، فأتوه وقد تقطعت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ فقالوا: أتانا رجال بيض [ (2) ] على خيل بلق، فو اللَّه ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فما رده [ (3) ] ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد [ (4) ] يعني في يوم حنين.
وخرج بقي بن مخلد من حديث النضر بن شميل قال: أخبرنا عوف عن عبد الرحمن مولى أم برثن صاحب السبقاية- سقاية المربد- قال: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وصحابة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يقوموا لنا حلب شاة [ (5) ] أن كشفناهم، قال: فبينما نحن نسوقهم في آثارهم فإذ صاحب البغلة البيضاء، قال: فتلقّانا عنده رجال بيض الوجوه وقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، قال: فانهزمنا من قولهم، وركبوا أجيادنا فكانت إياها [ (6) ] .
وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار عن من حدثه عن جبير بن مطعم قال: إنا لمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد [ (7) ] الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا
__________
[ (1) ] تصويب من (ابن هشام) .
[ (2) ] في المرجع السابق: «رأينا رجالا بيضا» .
[ (3) ] في المرجع السابق: «فو اللَّه ما ردّه» .
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 107، عيون مالك بن عوف ونزول الملائكة، وهي رواية ابن إسحاق.
وقال الواقدي: وبعث مالك بن عوف رجالا من هوازن ينظرون إلى محمد وأصحابه- ثلاث نفر- وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ما شأنكم؟ ويلكم! قالوا:
رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو اللَّه، ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! وقالوا له: ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلا أهل السموات- وإن أفئدة عيونه تخفق، وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل ما رأينا أصابهم مثل الّذي أصابنا.
قال: أف لكم! بل أنتم قوم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده فرقا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجل شجاع، فأجمعوا له على رجل، فخرج، ثم رجع إليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم.
فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيضا علي خليل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فو اللَّه ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يثنه ذلك عن وجهه، (مغازي الواقدي) : 3/ 892- 893.
[ (5) ] كناية عن الزمن اليسير، وهو ما يساوي زمن حلب الشاة.
[ (6) ] ونحوه في (المرجع السابق) : 3/ 906.
[ (7) ] البجاد يعني الكساء من النمل مبثوثا.

(3/331)


وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة [ (1) ] .
وقال الواقدي [ (2) ] : حدثني عبد اللَّه بن علي عن سعيد بن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه عن جده قال: لما تراءينا نحن والقوم، رأينا سوادا لم نر مثله قط كثرة، وإنما ذلك السواد نعم، فحملوا النساء عليه، قال: فأقبل مثله الظّلّة السوداء من السماء حتى أظلت علينا وعليهم وسترت الأفق، فنظرت فإذا وادي حنين يسيل بالنمل- نمل أسود مبثوث- لم أشك أنه نصر أيدنا اللَّه به فهزمهم اللَّه عزّ وجلّ.
وحدثني ابن أبي سبرة، حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم، عن يحيى ابن عبد اللَّه بن عبد الرحمن، عن شيوخ من قومه من الأنصار قال: رأينا يومئذ كالبجد [ (3) ] الأسود هوت من السماء ركاما [ (4) ] ، فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كنا لننفضه عن ثيابنا، فكان نصر أيدنا اللَّه به [ (5) ] .
وكان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، وكان الرعب الّذي قذف اللَّه في قلوب المشركين يوم حنين، فكان يزيد بن عامر السوائي يحدث وكان حضر يومئذ فسئل عن الرعب فكان يأخذ الحصاة يرمي بها في الطست فيطن، فقال: كنا نجد في أجوافنا مثل [ (6) ] هذا.
وكان مالك بن أوس بن الحدثان يقول: حدثني عدّة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: لقد رمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بتلك الكف من الحصا، [ (7) ] فما منا أحد إلا يشكو القذى في عينه، وقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصا في
__________
[ (1) ] وقريب منه في (سيرة ابن هشام) : 5/ 117- 118.
[ (2) ] (المغازي) : 3/ 905.
[ (3) ] البجد: جمع البجاد، وهو كساء مخطط من أكسية الأعراب.
[ (4) ] الركام: السحاب المتراكم، وفي التنزيل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً [43: النور] .
[ (5) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 905.
[ (6) ] المرجع السابق) : 3/ 905- 906.
[ (7) ] في المرجع السابق.

(3/332)


الطساس، ما يهدأ ذلك الخفقان عنا، ولقد رأينا يومئذ رجالا بيضا على خيل بلق، عليهم عمائم حمر، أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض، كتائب كتائب، ما يلقون شيئا، وما نستطيع أن نتأملهم من الرعب [ (1) ] [منهم] .
***
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 3/ 906، وما بين الحاصرتين زيادة منه.

(3/333)


وأما أنه خاتم الأنبياء
فقد قال اللَّه تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (1) ] ، قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: خاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (1) ] : الّذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة، واختلفت القراء في قراءة قوله: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (1) ] ، فقرأ ذلك الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين، بمعنى أنه ختم النبيين، ذكر أن ذلك في قراءة عبد اللَّه، ولكنّ نبينا ختم النبيين، فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء، بمعنى أنه الّذي ختم الأنبياء صلى اللَّه عليه وسلّم. وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بفتح التاء، بمعنى أنه آخر النبيين، كما قرأ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ بمعنى آخره مسك، من قرأ ذلك كذلك [ (2) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن عبد اللَّه بن دينار عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا- وقال البخاري: بيتا- فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين، ولم يذكر البخاري قوله: من زواياه [ (3) ] .
ولمسلم من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد [ (4) ] عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه
__________
[ (1) ] الأحزاب: 40، وتمامها ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ.
[ (2) ] (تفسير الطبري) : 12/ 16، تفسير سورة الأحزاب.
[ (3) ] ذكره البخاري في كتاب المناقب، باب (18) خاتم النبيين، حديث رقم (3535) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب (7) ذكر كونه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين، حديث رقم (22) .
[ (4) ] في (خ) : «النهاد» .

(3/334)


وأجمله، فجعل الناس يطيفون به ويقولون: ما رأينا بنيانا أحسن من هذا [ (1) ] ، إلا هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة [ (2) ] .
وله من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فذكر أحاديث منها، قال: وقال أبو القاسم صلى اللَّه عليه وسلّم: ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها [وأجملها] [ (3) ] وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس [يطوفون] [ (4) ] ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة فيتم [بنيانك] [ (5) ] ؟ فقال محمد صلى اللَّه عليه وسلّم: فكنت أنا اللبنة [ (6) ] .
وخرج البخاري [ (7) ] ومسلم [ (8) ] من حديث سليم بن حيان قال: حدثنا سعيد ابن مينا عن جابر بن عبد اللَّه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها- وقال البخاري فأكملها وأحسنها- إلا موضع لبنة،
__________
[ (1) ] في (خ) : «هذه» .
[ (2) ] المرجع السابق، حديث رقم (20) .
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] في (خ) : «يطيفون» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) : «بناؤك» .
[ (6) ] (صحيح مسلم) : كتاب الفضائل، باب (7) ذكر كونه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين، حديث رقم (21) ، وفيه فضيلته صلى اللَّه عليه وسلّم، وأنه خاتم النبيين، وجواز ضرب الأمثال في العلم وغيره، واللبنة، بفتح اللام وكسر الباء- ويجوز إسكان الباء مع فتح اللام وكسرها، كما في نظائرها، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 15/ 56- 57.
[ (7) ] (صحيح البخاري) : كتاب المناقب، باب (18) خاتم النبيين، حديث رقم (3534) ، قال الحافظ في (الفتح) : أي أن المراد بالخاتم في أسمائه أنه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين، ولمح بما وقع في القرآن، وأشار إلى ما أخرجه في التاريخ من حديث العرباض بن سارية رفعه: «إني عبد اللَّه وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته» ، الحديث، وأخرجه أيضا أحمد وصححه ابن حبان والحاكم، فأورد فيه حديثي أبي هريرة وجابر رضي اللَّه عنهما، ومعناهما واحد، وسياق أبي هريرة أتم، ووقع في آخر حديث جابر عند الإسماعيلي من طريق عفان عن سليم بن حيان: «فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء» ، وفي الحديث: ضرب الأمثال للتقريب للأفهام، وفضل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على سائر النبيين، وأن اللَّه تعالى ختم به المرسلين، وأكمل به شرائع الدين. (فتح الباري) : 6/ 694.
[ (8) ] (صحيح مسلم) : كتاب الفضائل، باب (7) ذكر كونه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين، حديث رقم (23) .

(3/335)


فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء. انتهى حديث البخاري عند قوله: إلا موضع اللبنة. وترجم عليه وعلى حديث إسماعيل بن جعفر: باب خاتم الأنبياء.
و [خرج] الإمام أحمد من حديث زهير بن محمد عن عبد اللَّه بن محمد ابن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة! فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة [ (1) ] .
ولمسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ختم بي النبيون.
وله من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي [ (2) ] .
انفرد بإخراجه مسلم.
وله من حديث محمد بن المنكدر عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لعلي رضي اللَّه عنه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث شبعة عن الحكم عن مصعب بن سعد [ (4) ] عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خرج إلى تبوك واستخلف عليا رضي اللَّه عنه فقال:
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 164، حديث الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (20737) .
[ (2) ] (جامع الأصول) : 10/ 36- 37، حديث رقم (7496) ، 11/ 316، حديث رقم (8879) .
[ (3) ] (صحيح مسلم) : كتاب فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حديث رقم (30) .
[ (4) ] هو سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه.

(3/336)


أتخلفني في النساء والصبيان؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي [ (1) ] ؟.
وخرجه مسلم وأبو داود مثله سواء. وفي لفظ لمسلم: خلف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عليا بن أبي طالب في غزاة تبوك فقال: يا رسول اللَّه! أتخلفني في النساء والصبيان؟
فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي [ (2) ] ؟.
وخرجه النسائي بإسناده ومتنه [ (3) ] . وفي لفظ لمسلم والترمذي [ (4) ] والنسائي: أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟
***
__________
[ (1) ] (صحيح البخاري) : كتاب المغازي، باب (79) غزوة تبوك، وهي غزوة العسرة، حديث رقم (4416) ، وقال في آخره: «وقال أبو داود: حدثنا شعبة عن الحكم، سمعت مصعبا» ، قال الحافظ في (الفتح) : أراد بيان التصريح بالسماع في رواية الحكم عن مصعب، وطريق أبي داود هذه وصلها أبو نعيم في (المستخرج) ، والبيهقي في (الدلائل) من طريقه. (فتح الباري) : 8/ 141.
[ (2) ] (صحيح مسلم) : كتاب فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، حديث رقم (31) .
[ (3) ] يشهد له ما قبله.
[ (4) ] أخرجه الترمذي في المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حديث رقم (3732) ، وهو حديث صحيح بشواهده، منها الّذي قبله.

(3/337)


وأما أن أمته خير الأمم
قال اللَّه جل ذكره: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [ (1) ] .
خرج الحاكم من حديث سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ (1) ] ، تجروهم بالسلاسل فتدخلونهم الإسلام. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة [ (2) ] ، [وشهدوا بدرا والحديبيّة] [ (3) ] .
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: من فعل فعلهم كان مثلهم، وقيل:
هم أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل، وهم الشهداء على الناس يوم القيامة.
وقال مجاهد [ (3) ] : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ (1) ] على الشرائط المذكورة في الآية، وقيل معناه: كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم مذ أنتم خير أمة، وقيل: جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم وأمته، فالمعنى: كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة.
وقال الأخفش [ (3) ] : أي خير أهل دين، وقيل: خلقتهم ووجدتهم خير أمة، وقيل: أنتم خير أمة، وقيل: كنتم للناس خير أمة.
وقيل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [ (1) ] إذا أنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
__________
[ (1) ] آل عمران: 110، (صحيح البخاري) : كتاب التفسير، باب (3) حديث رقم (4557) .
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 323، كتاب التفسير، باب (3) تفسير سورة آل عمران، حديث رقم (3160/ 277) . وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التخليص) : على شرط مسلم.
[ (3) ] (فتح البيان) : 2/ 114.

(3/338)


وقيل: إنما صارت أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى، وقيل: هذا لأصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
كما قال صلى اللَّه عليه وسلّم: خير الناس قرني:
أي الذين بعث فيهم.
وقال الحافظ أبو نعيم: ومن إكرام اللَّه تعالى [لنبيه] [ (1) ] صلى اللَّه عليه وسلّم، أن فضل أمته.
على سائر الأمم، كما فضله على سائر الأنبياء، وكما أنه فاتح نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم بالعطية قبل المسألة، كذلك أعطى أمته أفضل العطية قبل المسألة إعظاما له وإكراما.
وخرج الحاكم من طريق عبد الرزاق [عن] معمر عن بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قال: أنتم متمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه.
قال الحاكم:
هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
ومن حديث يزيد بن هارون [عن] سعيد بن إياس الجريريّ عن حكيم بن معاوية عن أمية قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنتم توفون سبعين أمة، أنتم أكرمهم على اللَّه وأفضلهم [ (3) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن عمرو بن عبسة قال: سألت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عن قوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [ (4) ] ، ما كان النداء [ (5) ] ؟ وما كانت
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ]
(المستدرك) : 5/ 623، حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، حديث رقم (19525) ، ولفظه: «ألا إنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه عزّ وجلّ» .
[ (3) ]
المرجع السابق، حديث رقم (19645) ، ولفظه: «إنكم وفّيتم سبعين أمة، أنتم آخرها وأكرمها على اللَّه عزّ وجلّ» .
وما بين الحاصرتين في هذا الحديث والّذي قبله غير واضح في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (4) ] القصص: 46، وتمامها: وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
[ (5) ] قال الطبري: إِذْ نادَيْنا بأن: سأكتبها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 157] ، وعن أبي هريرة: أنه نودي من السماء حينئذ: يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تسألوني، فحينئذ قال موسى عليه السلام: اللَّهمّ اجعلني من أمة محمد، فالمعنى: إذ نادينا بأمرك، وأخبرنا بنبوتك، (البحر المحيط) : 8/ 310.

(3/339)


الرحمة [ (1) ] ؟ قال: كتاب كتبه اللَّه قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، وستمائة عام على وزن عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد، سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منهم يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبدي ورسولي أدخلته الجنة [ (2) ] .
وله من حديث أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد الواقدي، قال: حدثنا سفيان ابن عيينة عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: في قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [ (3) ] ، قال: نودوا يا أمة محمد، ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم [ (4) ] .
ومن حديث حمزة الزيات عن الأعمش عن علي بن مدرك عن أبي زرعة ابن عمرو بن جرير عن أبي هريرة في قوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، قال: نودي يا أمة محمد، أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم
__________
[ (1) ] رحمة بالنصب، فقدّر: ولكن جعلناك رحمة، وقد أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى وأبو حيوة: رحمة بالرفع، وقدر: ولكن هو رحمة، أو هو رحمة، أو أنت رحمة لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ: أي في زمن الفترة بينك وبين عيسى عليه السلام، وهو خمسمائة وخمسون عاما ونحوه. (المرجع السابق) .
[ (2) ] أخرج الفريابي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي معا في (الدلائل) ، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، قال: نودوا يا أمة محمد، أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني.
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر عنه من وجه آخر بنحوه، (فتح القدير) : 4/ 251- 252.
[ (3) ] القصص: 46.
[ (4) ]
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن حذيفة في قوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا مرفوعا قال:
نودوا: يا أمة محمد ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا: «إن اللَّه نادى: يا أمة محمد أجيبوا ربكم قال: فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة، فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا، ونحن عبيدك حقا، وقال صدقتم أنا ربكم وأنتم عبيدي حقا، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا اللَّه دخل الجنة. (المرجع السابق) ، (تفسير ابن كثير) : 3/ 402.

(3/340)


قبل أن تدعوني [ (1) ] .
وله من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جبارة بن المغلّس، حدثنا الربيع بن النعمان عن سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن موسى عليه السلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة قال: يا ربي، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون [ (2) ] فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال يا رب إني أجد في الألواح أمة هم السابقون المشفوع لهم، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة أنا جيلهم في صدورهم يقرءونه [ (3) ] ظاهرا، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أمد، [قال يا رب إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء فاجعلها أمتي، قال تلك أمة أحمد] [ (4) ] ، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة [واحدة] [ (4) ] ، وإن عملها كتبت له عشر حسنات، فاجعلها أمتي، قال:
تلك أمة أحمد، قال يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة ولم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر فيقتلون [قرون الضلالة] [ (4) ] المسيح الدجال، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد،
__________
[ (1) ]
أخرجه ابن مردويه، وأبو نعيم في (الدلائل) ، وأبو نصر السجزيّ في (الإبانة) ، والديلميّ في (مسند الفردوس) [7402] ، عن عمرو بن عبسة قال: سألت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عن قول اللَّه تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، ما كان النداء؟ وما كانت الرحمة؟ قال: كتبه اللَّه قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، ثم وضعه على عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد، سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت كم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة.
(المرجع السابق) .
[ (2) ] أي يأتون آخر الأمم في الترتيب التاريخي في الدنيا، ويكونون في مقدمة الأمم في دخول الجنة يوم القيامة.
[ (3) ] في (خ) : «يقرءونه» .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من أبي نعيم.

(3/341)


قال: يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فأعطى عند ذلك خصلتين، فقال:
يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [ (1) ] ، قال: قد رضيت يا رب.
قال أبو نعيم: وهذا الحديث من غرائب حديث سهيل، لا أعلم أحدا رواه مرفوعا إلا من هذا الوجه، تفرّد به الربيع بن نعمان، وبغيره من الأحاديث عن سهيل، وفيه لين [ (2) ] .
[وخرّج البيهقي من حديث سلام بن مسكين، عن مقاتل بن حيّان قال:
وذكر وهب بن منبه في قصة داود النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وما أوحي إليه في الزبور: يا داود، إنه سيأتي من بعدك نبي يسمى: أحمد ومحمدا، صادقا سيدا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائص التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتون يوم القيامة نورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لي لكل صلاة، كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم] [ (3) ] .
[يا داود، فإنّي فضّلت محمدا وأمته على الأمم كلها: أعطيتهم ستة خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا أؤاخذهم بالخطإ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة، ولهم في المدخور عندي أضعافا مضاعفة وأفضل من
__________
[ (1) ] الأعراف: 144.
[ (2) ] هذا الحديث تفرد به أبو نعيم، وفيه جبارة بن المغلّس، قال عنه ابن حجر في (التقريب) : ضعيف، وقال عنه الدار الدّارقطنيّ: متروك، وقال البخاري: حديثه مضطرب، وقال عنه ابن معين: كذاب، ترجمته في: (ميزان الاعتدال) ، (تهذيب التهذيب) . والحديث ذكره أبو نعيم في (الدلائل) :
1/ 68- 69، حديث رقم (31) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في (خ) ، وأثبتناه من (دلائل البيهقي) : 1/ 380، وابن كثير في (البداية والنهاية) عن البيهقي أيضا.

(3/342)


ذلك، وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما أن أدّخره لهم في الآخرة] [ (1) ] .
[يا داود، من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي. ومن لقيني وقد كذّب محمدا، وكذّب بما جاء به، واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار] [ (1) ] .
وذكر من حديث شيبان عن قتادة قال: حدثنا رجال من أهل العلم أن موسى عليه السلام لما أخذ الألواح قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة- الآخرون في الخلق، السابقون في دخول الجنة- فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد ... وذكره بطوله.
وله من حديث سفيان بن الحرث بن مضر عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: صفتي أحمد المتوكل، مولده مكة، ومهاجره طيبة، ليس بفظ ولا غليظ، يجزي بالحسنة الحسنة، ولا يكافئ بالسيئة، وأمته الحمادون، يأتزرون على أنصافهم، ويوضئون أطرافهم، أنا جيلهم في صدورهم، يصفّون للصلاة كما يصفّون للقتال، قربانهم الّذي يتقربون به إليّ دماؤهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار.
وله من حديث شريك عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح عن كعب أنه قال: محمد صلى اللَّه عليه وسلّم في التوراة مكتوب: محمد المختار، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، يوضئون أطرافهم، ويأتزرون على أوساطهم، يصلون الصلاة لوقتها
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في (خ) ، وأثبتناه من (دلائل البيهقي) : 1/ 381، وابن كثير في (البداية والنهاية) عن البيهقي أيضا.

(3/343)


ولو على رأس كناسة، لهم دوي بالقرآن حول العرش كدوي النحل، مولده مكة، ومهاجره بالمدينة، وملكه بالشام.
وذكر أبو نعيم حديث كعب من طرق باختلاف ألفاظ وزيادة ونقصان.
وله من حديث موسى بن عقبة قال: أخبرني سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يقول: رأيت في المنام كأن الناس جمعوا للحساب، فدعى الأنبياء فجاء مع كل نبي أمته، ورأى لكل نبي نورين، ولكل من اتبعه نورا يمشي به، فدعى محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نورا، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما، فقال كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا: من حدثك هذا؟
فإنّي أنا واللَّه الّذي لا إله إلا هو رأيت هذا في المنام، فقال: باللَّه الّذي لا إله إلا هو رأيت هذا في منامك؟ قال: نعم، قال: والّذي نفس كعب بيده إنها لصفة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وأمته، وصفة الأنبياء وأممها في كتاب اللَّه، لكأنما قرأه من التوراة.
وذكر الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو الشيبانيّ قال: حدثني البكالي قال:
كان عمرو البكالي إذا افتتح موعظة قال: ألا تحمدون ربكم الّذي حضر غيبتكم، وأخذ سهمكم، وجعل وفادة القوم لكم، وذلك أن موسى عليه السلام وفد ببني إسرائيل فقال اللَّه لهم: إني قد جعلت لكم الأرض مسجدا حيث ما صليتم منها تقبلت صلاتكم إلا في ثلاثة مواطن، من صلى فيهن لم أقبل صلاته: المقبرة، والحمام، والمرحاض، قالوا: لا إلا في كنيسة، قال: وجعلت لكم التراب طهورا إذا لم تجدوا الماء، قالوا: لا إلا بالماء، قال: وجعلت لكم حيث ما صلى الرجل مكان وجده تقبلت صلاته، قالوا: لا إلا في جماعة.
***

(3/344)


وأما ذكره في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته
فقد قال اللَّه جل ذكره: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ (1) ] ، فقوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، يخرج اليهود والنصارى من عموم قوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، ويخصها بأمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم. قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وقوله: الَّذِي يَجِدُونَهُ، أي يجدون نعته أو اسمه أو صفته، مكتوبا عندهم. وقوله: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، قال عطاء: يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، عبادة الأصنام وقطع الأرحام، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وهو ما كانت العرب تستطيبه، وقيل: هي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل، والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وهو ما كانت العرب تستخبثه، وما كانوا يستحلون من الميتة والدم ولحم الخنزير، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ، الإصر الثقل، قاله قتادة ومجاهد وسعيد ابن جبير، والإصر: العهد، قاله ابن عباس والضحاك والحسن، فجمعت الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال، فوضع بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك العهد، وثقل تلك الأعمال من تحريم السبت والشحوم والعروق، والتشديد في البول، ومجانبة الحائض في كل حال، وتحريق الغنائم بالنار.
وقال الزجاج: ذكر الأغلال تمثيل، فقد كان عليهم أن لا يقبل في القتل دية، ولا يعمل في يوم السبت عمل، وأن لا تقبل توبتهم إلا بقتل أنفسهم ... إلى غير ذلك.
__________
[ (1) ] 157: الأعراف.

(3/345)


وقد ذكر صلى اللَّه عليه وسلّم في عدة مواضع من التوراة باسمه وصفته على ما سيرد إن شاء اللَّه.
وذكرت صفته في الإنجيل في فصل (الفارقليط) من إنجيل يوحنا [ (1) ] ، هذا مع ما لحق الكتابين من التحريف والتبديل، فبقي ذكره صلى اللَّه عليه وسلّم فيهما من قبيل المعجزة، لأن اجتهاد أمتين عظيمتين على إزالة ذكره من كتابين لطيفي الحجم ثم لا يستطيعون ذلك معجزة لا شك فيه، وتعجيز إلهي لا ريب فيه.
حدّث سعيد بن بشير عن قتادة عن كعب قال: أوحى اللَّه تعالى إلى أشعياء [ (2) ] أن قم من قومك، أوح على لسانك، فقام أشعياء خطيبا، فلما قام أطلق اللَّه لسانه بالوحي، فحمد اللَّه وسبحه وقدسه وهلله، ثم قال: يا سماء اسمعي، ويا أرض أنصتي، ويا جبال أوبي، فإن اللَّه يريد أن [يفضّ] [ (3) ] شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته، واصطفاهم لنفسه، وخصهم بكرامته، فذكر معاتبة اللَّه إياهم، ثم قال: وزعموا أنهم [ (4) ] لو شاءوا أن يطلعوا على الغيب [بما] [ (5) ] توحي إليهم الشياطين والكهنة اطلعوا، وكلهم مستخف بالذي يقول ويسرّه، وهم يعلمون أني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما يبدون وما يكتمون، وأني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته، وحتما حتمته على نفسي، وجعلت دونه أجلا مؤجلا، لا بدّ أنه واقع. فإن صدّقوا بما ينتحلون من علم الغيب [فليخبروك] [ (6) ] متى هذه [المدة] [ (7) ] ، وفي أي زمان تكون، [وإن] [ (8) ] كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون [فليأتوا] [ (9) ] بمثل هذه القدرة التي بها أمضيته، فإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون [فيؤلفوا] [ (9) ] مثل هذه الحكمة التي بها أدبّر مثل ذلك القضاء إن كانوا صادقين، وإني قضيت يوم خلقت السموات
__________
[ (1) ] لعله في نسخة لم تمتد إليها يد التحريف، حيث لم أجد ذلك في النسخة التي عندي، وهي المترجمة من اللغة اليونانية.
[ (2) ] أشعياء: أحد أنبياء بني إسرائيل.
[ (3) ] (في دلائل أبي نعيم) : «يفضّ» ، وفي (خ) : «يقصّ» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «إن شاءوا» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «لما» .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «فيخبرونك» .
[ (7) ] في المرجع السابق: «العدّة» .
[ (8) ] في المرجع السابق: «فإن» .
[ (9) ] في المرجع السابق: «فلؤلفوا» .

(3/346)


والأرض أن أجعل النبوة في غيرهم، وأن أحول الملك عنهم، وأجعله في الرعاء، والعز في الأذلاء، والقوة في الضعفاء، والغنى في الفقراء، والكثرة في الأقلاء، والمدائن في الفلوات، والآجام [والمفاوز] [ (1) ] في الغيطان، والعلم في الجهلة، [والحكمة] [ (2) ] في الأميين، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا [ (3) ] ، وعلى يدي من أثبته، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون؟ [ (4) ] .
وزاد وهب بن منبه في روايته [ (5) ] فإنّي [سأبعث] [ (6) ] لذلك نبيا أميا، أعمى من عميان، ضالا من ضالين، أفتح به آذانا صما، وقلوبا غلفا، وأعينا عميا، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، عبدي المتوكل، المصطفى المرفوع، الحبيب المتحبب المختار. لا يجزي [بالسيئة] [ (7) ] السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، بالمؤمنين رحيم [ (8) ] ، يبكي للبهيمة المثقلة، ويبكي لليتيم في حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، لا يتزيئ بالفحش، ولا قوال بالخنا [ (9) ] ، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى زاد ضميره، والحكمة معقولة، والصدق والوفاء طبيعته،
__________
[ (1) ] في (خ) : «والمعادن» .
[ (2) ] في (خ) : «والحكم» .
[ (3) ] في (خ) : «على هذا» .
[ (4) ] هذا الحديث لم أجده غير عند أبي نعيم، وسعيد بن بشير أربعة كلهم ضعفاء، وهم: [1] سعيد ابن بشير الأزدي، ويقال: البصري، مولاهم أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سلمة من البصرة، ويقال:
من واسط. [2] سعيد بن بشير الأنصاري النجاري أو البخاري. [3] سعيد بن بشير القرشيّ.
[4] سعيد بن بشير صاحب قتادة. ترجمتهم في: (المغني في الضعفاء الكبير) : 1/ 256، (الضعفاء المتروكين) : 1/ 314، 315، (الضعفاء الكبير) : 2/ 100، 101، (تهذيب التهذيب) :
4/ 10، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 3/ 369، 390، (لسان الميزان) : 3/ 30، (المجروحين) : 1/ 318، 319، (التاريخ الكبير) : 3/ 460، ولعل في بعض أسمائهم تشابه، واللَّه تعالى أعلم.
[ (5) ] [الآجام في الصحاري، والبراري في المفاوز والغيطان] ، هذه الزيادة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] في المرجع السابق: «مبتعث» .
[ (7) ] زيادة للسياق من (خ) .
[ (8) ] في (دلائل أبي نعيم) : «رحيما بالمؤمنين» .
[ (9) ] الخنا: الفاحش من القول، وفي (الخصائص) بعد قوله: «بالخنا» : [لو يمر إلى جانب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو مشى على القصب الرعراع لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرا ونذيرا] .

(3/347)


والعفو والمغفرة والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأسمّي به بعد النكرة، وأكثر به القلّة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلّف به بين قلوب وأهواء متشتتة، وأمم مختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، آمرا [ (1) ] بالمعروف وناهيا [ (2) ] عن المنكر، وتوحيدا بي [ (3) ] ، وإيمانا بي، وإخلاصا وتصديقا لما جاءت به رسلي، وهم رعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب والأرواح والوجوه [ (4) ] التي أخلصت إلي [ (5) ] الهمم، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد في مساجدهم ومجالسهم، ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم. يصفون في مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشي، هم أوليائي وأنصاري، أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان، يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجدا [ (6) ] ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألوفا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم، ويدخل في دينهم وشريعتهم فليس مني، وهو مني بريء، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطا، [ليكونوا] [ (7) ] شهداء على الناس، إذا غضبوا هللوني، وإذا قبضوا كبروني، وإذا تنازعوا سبحوني، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويكبرون ويهللون على التلال والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبانا بالليل ليوثا بالنهار، ينادي مناديهم في جو السماء، لهم دوي كدوي النحل، طوبى لمن كان منهم وعلى دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم [ (8) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : أمرا.
[ (2) ] في (المرجع السابق) : ونهيا.
[ (3) ] في (المرجع السابق) : «بي» في الموضعين، وما أثبتناه من (خ) ، فهو أجود للسياق.
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «الوجوه والأرواح» .
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «لي» ، وفي (خ) «إلى الهمم» ، «ألهمتهم» .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي (الخصائص) ، لكن في (المرجع السابق) : «وركوعا وسجودا» .
[ (7) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (8) ] هذا الحديث أخرجه ابن أبي حاتم وأبو نعيم، عن وهب بن منبه، وفيه عبد المنعم بن إدريس القصاص المشهور، قال الذهبي: ليس يعتمد عليه، وقال أحمد بن حنبل:
كان يكذب على وهب بن منبه، وقال ابن حبان: يضع الحديث على أبيه وعلى غيره، (انظر ميزان

(3/348)


وفي رواية: ولا صخاب في الأسواق، ولو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرا ونذيرا، وأستنقذ به قياما من الناس عظماء من الهلكة، أجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين، والشهداء والصالحين، وأمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون، أعزّ من نصرهم، وأؤيد من دعا إليهم، أجعل دائرة السوء على من خالفهم وبغى عليهم، وأراد أن ينزع شيئا مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الّذي بدأت به أوّلهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
وقال عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بخت نصّر عليهم، وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون محمدا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية، في قرية ذات نخل، ولما خرجوا من أرض الشام جعلوا يميزون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن، يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم ويرجون أن يلقوا محمدا فيتبعونه، حتى نزل من بني هارون من حمل التوراة بيثرب منهم طائفة، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم أنه [آت] [ (1) ] ، ويحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدركه من أدركه من أبنائهم وكفروا به وهم يعرفونه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد [ (2) ] عن سلمة بن سلامة [ (3) ] قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته [- وذلك قبل مبعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ () ] الاعتدال) : 2/ 668، ترجمة رقم (5270) .
وفيه أيضا إدريس بن سنان، وقد ضعفه ابن عدي، وقال عنه الدار الدّارقطنيّ: متروك.
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (2) ] [أخى بنى عبد الأشهل] ، زيادة من رواية ابن إسحاق.
[ (3) ] [ابن وقش، وكان سلمة من أصحاب بدر] ، زيادة من رواية ابن إسحاق.

(3/349)


بيسير-] [ (1) ] حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا، عليّ بردة لي مضطجعا فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة، والحساب والميزان، والجنة والنار، قال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا: ويحك وتكون دارا فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم والّذي أحلف به، ولودّ أن حظه من تلك النار أعظم تنور في [هذه] [ (1) ] الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه [فيطبقونه] [ (2) ] عليه، [ثم] [ (3) ] ينجو من تلك النار غدا، [قالوا] [ (4) ] ويحك. وما آية ذلك؟ قال: نبي [يبعث] [ (5) ] من هذه البلاد- وأشار بيده نحو مكة واليمن- قالوا: [فمتى] [ (6) ] تراه؟ [فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي] [ (7) ] وأنا أحدث القوم سنا فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فو اللَّه ما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللَّه نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهو حيّ بين أظهرنا فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: [ويلك] [ (8) ] يا فلان، ألست الّذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال:
بلى ولكن ليس به. وذكر الواقدي أن اليهودي اسمه يوشع [ (9) ] .
وقال الخرائطي [ (10) ] : حدثنا عبد اللَّه بن أبي سعيد قال: حدثنا حازم بن عقال ابن حبيب بن المنذر بن أبي الحصن بن السموأل بن عاديا قال: حدثني جامع بن حيران ابن جميع بن عثمان بن سماك بن أبي الحصن بن السموأل بن عاديا قال: لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة، اجتمع إليه قومه من غسان فقال: إنه حضر من أمر اللَّه ما ترى، وقد كنا نأمرك في شبابك أن تتزوج فتأبى، وهذا أخوك الخزرج له خمس بنين، وليس لك ولد غير مالك، فقال: لن يهلك هالك،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (خ) .
[ (2) ] رواية ابن إسحاق: «فيطينونه» .
[ (3) ] رواية ابن إسحاق: «بأن ينجو» .
[ (4) ] رواية ابن إسحاق: «فقالوا له: ويحك يا فلان، فما..» .
[ (5) ] رواية ابن إسحاق: «نبي مبعوث من نحو هذه البلاد..» .
[ (6) ] رواية ابن إسحاق: «ومتى» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي رواية ابن إسحاق: «قال فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنا» .
[ (8) ] في رواية ابن إسحاق: «ويحك»
[ (9) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 38.
[ (10) ] في (خ) : «الخوائطي» ، والخبر بتمامه وزيادة في (البداية والنهاية) : 2/ 404- 405.

(3/350)


ترك مثل مالك، إن الّذي يخرج النار من [الورسة] [ (1) ] ، قادر [على] [ (2) ] أن يجعل لمالك نسلا، ورجالا بسلا، وكل إلى موت، ثم أقبل على مالك وقال: أي بني، المنيّة ولا الدنيّة، العقاب ولا العتاب، التجلد ولا التلدد، القبر خير من الفقر، ومن قلّ ذلّ، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم، الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر، إنه ليس ينفلت منها ملك متوج، ولا لئيم معلج، سلّم ليومك، حياك ربك، ثم أنشأ يقول:
شهدت السبايا يوم آل محرّق ... وأدرك عمري صيحة اللَّه في الحجر
فلم أر ذا ملك من الناس واحدا ... ولا سوقه إلا إلى الموت والقبر
فعلّ الّذي أردى ثمودا وجرهما ... سيعقب لي نسلا على آخر الدهر
يقربهم من آل عمرو بن عامر ... عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر
فإن تكن الأيام أبلين جدّتي ... وشيّبن رأسي والمشيب مع العمر
فإن لنا فاعلا فوق عرشه ... عليما بما نأتي من الخير والشرّ
ألم يأت قومي أن للَّه دعوة ... يفوز بها أهل السعادة والبشر
إذا بعث المبعوث من آل غالب [ (3) ] ... بمكة فيما بين زمزم [ (4) ] والحجر
هنالك فابغوا نصرة ببلادكم ... بني عامر إن السعادة في النّصر
ثم قضى من ساعته.
وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم [بن عبد الرحمن بن عوف] [ (5) ] ، عن يحيى بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن [سعد] [ (6) ] بن زرارة قال: حدثني من [شئت] من رجال قومي عن حسان بن ثابت رضي اللَّه عنه قال: واللَّه إني
__________
[ (1) ] في (خ) : «الوسة» ، لعل الصواب ما أثبتناه، فهو يخدم المعنى، لأن «الورسة» من ورس النبت رءوسا: اخضرّ. (لسان العرب) : 6/ 254، قال محققه: وهذا من أبلغ الإعجاز، حيث تخرج النار من الورسة، وهذا ما لا يستطيعه إلا اللطيف الخبير جلّ وعلا.
[ (2) ] زيادة في السياق.
[ (3) ] إشارة إلى النبي محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] في (البداية والنهاية) : «بين مكة والحجر» .
[ (5) ] زيادة في النسب من رواية ابن إسحاق (2) في (خ) : «أسعد» .
[ (6) ] في (خ) : «تثبت» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.

(3/351)


[لغلام] [ (1) ] [يفعه] [ (2) ] ابن [سبع سنين أو ثمان] [ (3) ] ، أعقل [كل] [ (4) ] ما سمعت، إذا سمعت يهوديا يصرخ [بأعلى صوته] [ (4) ] على أطمة بيثرب: يا معشر يهود! فلما اجتمعوا إليه [ (5) ] وقالوا له: ويلك، مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الّذي ولد به. وفي رواية: طلع الليلة نجم أحمد نبي هذه الأمة الّذي ولد به [ (6) ] .
وفي رواية الواقدي: هذا كوكب أحمد قد طلع، هذا كوكب لا يطلع إلا بالنّبوّة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد. وفيه قصة. وفي رواية له: قال: لما صاح اليهودي من فوق الأطم: هذا كوكب أحمد قد طلع، وهو لا يطلع إلا بالنّبوّة، قال: وكان أبو قيس من بني عدي بن النجار قد ترهّب ولبس المسوح، فقالوا:
يا أبا قيس! انظر ما يقول هذا اليهودي، قال: فانتظاري الّذي صنع بي هذا، فأنا أنتظره حتى أصدقه وأتبعه.
وقال ابن إسحاق: عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، حدثنا محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحبّ ولد أبي [ (7) ] إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع [ولد لهما] [ (8) ] إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة [ونزل] [ (9) ] قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب [مغلّين] [ (10) ] ، قالت: فلم يرجعا حتى [كانا] [ (11) ] مع غروب الشمس فأتيا
__________
[ (1) ] في (خ) : «غلام» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (2) ] في (خ) : «يومئذ» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (3) ] في (خ) : «ابن ثمان سنين أو سبع» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (4) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (5) ] في المرجع السابق: «حتى إذا اجتمعوا إليه» .
[ (6) ] قال ابن إسحاق «فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فقلت: ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة؟ فقال: ابن ستين، وقدمها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين» (سيرة ابن هشام) 1/ 295- 296.
[ (7) ] في (خ) : «والداي» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (8) ] في (خ) : «ولدهما» .
[ (9) ] في (خ) : «فنزل في قباء» .
[ (10) ] في (خ) : «مغليين» .
[ (11) ] في (خ) : «كان» .

(3/352)


كالّين كسلانين [ساقطين] [ (1) ] ، يمشيان الهوينا، قالت: فمشيت إليهما كما كنت أصنع، فو اللَّه ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الهم [ (2) ] ، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حييّ بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم واللَّه قال [ (3) ] : أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال [ (3) ] : فما في نفسك منه؟ قال: عداوته واللَّه ما بقيت [أبدا] [ (4) ] .
قال ابن إسحاق: وكان من حديث مخيريق وكان حبرا عالما، وكان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بصفته وما يجد في علمه [وغلب عليه إلف دينه] [ (5) ] ، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد- وكان يوم أحد يوم السبت- قال: يا معشر يهود! واللَّه إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت [لكم] [ (5) ] ، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم [فأموالي] [ (6) ] لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم يصنع [فيها] [ (7) ] ما أراه اللَّه، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل،
فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- فيما بلغني [ (8) ]- يقول: مخيريق خير يهود،
وقبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أمواله فعامة صدقات رسول [اللَّه] [ (9) ] صلى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة فيها.
وقال يونس بن بكير عن أبي جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال في قوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [ (9) ] : ذكر قصة المعراج وما أعطي الأنبياء، فقال له ربّه: قد
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من رواية ابن إسحاق.
[ (2) ] في ابن إسحاق: «الفمّ» .
[ (3) ] في (خ) : «قالت» .
[ (4) ] زيادة من (خ) ، والأثر في (سيرة بن هشام) : 3/ 52.
[ (5) ] زيادة للسياق من رواية ابن إسحاق.
[ (6) ] في (خ) : «فمالي» .
[ (7) ] في (خ) : «فيه» .
[ (8) ] زيادة للسياق من رواية ابن إسحاق.
[ (9) ] سقط في (خ) ، وأثبتناه من رواية ابن إسحاق. (سيرة ابن هشام) : 3/ 51- 52.
(9) أول سورة الإسراء.

(3/353)


اتخذتك خليلا فهو في التوراة مكتوب: محمد حبيب الرحمن، وأرسلتك إلى الناس كافة، وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا، وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيا قبلك، وجعلتك فاتحا وخاتما، وشرحت صدرك، ورفعت ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك أمة وسطا، وأرسلتك رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، وأنزلت عليك الفرقان فيه تبيان كل شيء، فقال إبراهيم عليه السلام للأنبياء: بهذا فضلكم محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقال داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال سموأل اليهودي لتبع- وهو يومئذ أضلهم-: أيها الملك، إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي مولده مكة، واسمه أحمد، وهذه دار هجرته.
وقال عكرمة عن ابن عباس، قال: كانت يهود قريظة والنضير وفدك وخيبر، يجدون صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عندهم قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة، فلما ولد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قالت أحبار يهود: ولد أحمد الليلة، هذا الكوكب قد طلع، فلما تنبأ قالوا: قد تنبأ أحمد، كانوا يعرفون ذلك ويقرون به ويصفونه.
وقال عاصم بن عمرو بن قتادة عن نملة بن أبي نملة عن أبيه أبي نملة قال:
كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في كتبهم، ويعلمون الولدان بصفته واسمه ومهاجره إلى المدينة، فلما ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حسدوا، وبغوا، وأنكروا.
وقال عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ عن أبيه قال: سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم- ونحن يومئذ في هدنة من الحرب- فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظلّ خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم، فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي- كالمستهزئ به-: ما صفته؟ قال:
رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره، قال: فرجعت إلى قومي بني خدرة. وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلا منا يقول: ويوشع يقول هذا وحده؟

(3/354)


كل يهود يثرب تقول هذا. قال أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت قريظة فأجد جمعا فتذاكروا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الّذي لم يطلع إلا لخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره.
قال أبو سعيد: فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة، أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لو أسلم الزبير وذووه من رؤساء يهود لأسلّم كلهم، إنما هم له تبع.
وقال عاصم بن عمرو بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن مسلمة قال: لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع فسمعته يقول:
وإني لغلام في إزار قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى بيت اللَّه، فمن أدركه فليصدقه، فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأسلمنا وهو بين أظهرنا، ولم يسلّم حسدا وبغيا.
وعن عبد اللَّه بن سلام قال: ما تمت سبع حتى صدق بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم أحمد لما كان يهود يثرب يخبرونه، وأن تبع مات مسلما. وعن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه:
كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبّئ، وأنه لا نبي بعده، اسمه أحمد، مهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة ونزلها أنكروه وحسدوا وبغوا.
وعن زياد بن لبيد أنه كان على أطم من آطام المدينة فسمع: يا أهل يثرب!! - ففزع عنا وفزع الناس-: قد ذهبت واللَّه نبوة بني إسرائيل، هذا نجم طلع بمولد أحمد، وهو نبي آخر الأنبياء، ومهاجره إلى يثرب.
وقال داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن عن الحرث بن خزمة قال: كان يهود المدينة ويهود خيبر ويهود فدك يخبرون بصفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأنه خارج [من نحو هذا البيت] [ (1) ] ، وأن مهاجره إلى يثرب واسمه أحمد، وأنه يقتلهم قتل الذّر حتى يدخلهم في دينه، وأنه ينزل عليه كتاب اللَّه كما نزل على موسى التوراة، ويخبرون بصفته، فلما نزل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة أنكروه وحسدوه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(3/355)


وقال مسلم بن يسار عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما كان في الأوس والخزرج رجل أوصف لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم منه- يعني من بني عامر- كان يألف اليهود ويسائلهم عن الدين، ويخبرونه بصفة رسول اللَّه، وأنّ هذه دار هجرته، ثم خرج إلى يهود تيماء فأخبروه بمثل ذلك، ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى، فأخبروه بصفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأن مهاجره يثرب.
فرجع أبو عامر وهو يقول: أنا على دين الحنفية، فأقام مترهبا لبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم عليه السلام، وأنه ينتظر خروج النبي، فلما ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بمكة لم يخرج إليه، وأقام على ما كان عليه.
فلما قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة حسد وبغى ونافق، فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد! بم بعثت؟ فقال: بالحنفية، فقال: أنت تخلطها بغيرها، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم:
أتيت بها بيضاء، أين ما كان يخبرك الأحبار من اليهود والنصارى من صفتي؟ فقال:
لست بالذي وصفوا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: كذبت، فقال: ما كذبت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: الكاذب أمانة اللَّه وحيدا طريدا، قال: آمين،
ثم رجع إلى مكة فكان مع قريش يتبع دينهم، وترك ما كان عليه [ (1) ] .
وذكر محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري علام كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية [ (2) ] ، وأسد بن
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 128.
[ (2) ] قال إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، عن ابن إسحاق- وهو أحد رواه المغازي- عنه: أسيد بن سعية بضم الألف، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق- وهو قول الواقدي وغيره-: أسيد بفتحها، قال الدار الدّارقطنيّ: وهذا هو الصواب، ولا يصح ما قاله إبراهيم عن ابن إسحاق.
وبنو سعية هؤلاء، فيهم أنزل اللَّه عزّ وجلّ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [113- 115: آل عمران] ، وسعية أبوهم يقال له: ابن العريض، وهو بالسين المهملة، والياء المنقوطة باثنتين.
وأما سعنة بالنون، فزيد بن سعنة، حبر من أحبار اليهود، كان قد داين النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فجاءه يتقاضاه قبل الأجل، فقال: ألا تقضيني يا محمد؟! فإنكم يا بني عبد المطلب مطل، وما أردت إلا

(3/356)


عبيد، نفر من بني [هدل] [ (1) ] ، [أو هذيل، أتوا بني قريظة، فكانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام، قال: قلت: لا، قال: فإن رجلا من يهود أهل الشام، يقال له: ابن الهيّبان] [ (2) ] ، قدم علينا قبيل الإسلام [بسنوات] [ (3) ] فحل بين أظهرنا [قال لي:] [ (4) ] واللَّه ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا أقحطنا [ (5) ] قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق، فيقول: لا واللَّه حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فيقولون [ (6) ] :
كم؟ فيقول: صاع [ (6) ] من تمر أو مدان [ (6) ] من شعير [عن كل إنسان حي] [ (7) ] ، قال: فنخرجها، فيخرج بنا إلى ظاهر حرّتنا فيستسقي لنا، فو اللَّه ما يبرح مجلسه حتى تمرّ [السحاب الشراج سائله] [ (8) ] ونسقي [به] [ (9) ] ، فعل [ (10) ] ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث [ (11) ] ، قال: ثم حضرته الوفاة [عندنا] [ (12) ] ، فلما عرف أنه ميت قال: أيا معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض الجوع والبؤس؟ قال: قلنا: إنك [ (13) ] أعلم، قال: فأني قدمت هذا [ (14) ] البلد
__________
[ () ] أعلم علمكم، فارتعد عمر، ودار، كأنه في فلك، وجعل يلحظ يمينا وشمالا، وقال: تقول هذا لرسول اللَّه يا عدوّ اللَّه؟!
فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا إلى غير هذا منك أحوك يا عمر: أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التّبعة، قم فاقضه عني، فو اللَّه ما حلّ الأجل، وزده عشرين صاعا بما روعته.
وفي حديث آخر أنه قال: دعه، فإن لصاحب الحق مقالا، ويذكر أنه أسلم لما رأى من موافقة وصف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لما كان عنده في التوراة، وكان يجده موصوفا بالحلم، فلما رأى من حلمه ما رأى أسلم، وتوفي غازيا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في غزوة تبوك. ويقال في اسمه: سعية بالياء كما في الأول، ولم يذكره الدار الدّارقطنيّ إلا بالنون.
[ (1) ] في (خ) : «وهل» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (2) ] في (خ) : السياق مضطرب فيما يبين الحاصرتين، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق، والهيّبان: من المسمين بالصفات، يقال: قطن هيّبان: أي منتفش، والهيبان: أيضا الجبان.
[ (3) ] في رواية ابن إسحاق: «بسنين» .
[ (4) ] زيادة من رواية ابن إسحاق.
[ (5) ] في رواية ابن إسحاق: «فكنا إذا قحط عنا المطر» .
[ (6) ] في رواية ابن إسحاق: «فنقول» ، «صاعا» ، «مدّين» .
[ (7) ] ما بين الحاصرتين ليس في رواية ابن إسحاق.
[ (8) ] ما بين الحاصرتين ليست في رواية ابن إسحاق.
[ (9) ] زيادة من (خ) .
[ (10) ] في رواية ابن إسحاق: «قد فعل» .
[ (11) ] في (خ) : «ثلاثا» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق، وهو حق اللغة.
[ (12) ] زيادة من رواية ابن إسحاق.
[ (13) ] في (خ) : «اللَّه أعلم» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (14) ] في رواية ابن إسحاق: «هذه البلدة» .

(3/357)


أتوكف [ (1) ] خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقنّ [ (2) ] إليه يا معاشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه.
فلما بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وحاصر بني قريظة، قال: هؤلاء الفتية- كانوا شبابا أحداثا-: يا بني قريظة، واللَّه إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا، فأحرزوا دماءهم وأموالهم [وأهليهم] [ (3) ] .
وقال ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ منهم [ (4) ] ، قال:
قالوا: فينا واللَّه وفيهم نزلت هذه القصة، كنا قد علوناهم ظهرا في الجاهلية- ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب- فكانوا يقولون: إن نبيا يبعث الآن نتبعه قد أظلّ زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث اللَّه رسوله من قريش واتّبعناه كفروا به، يقول اللَّه تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ، إلى قوله: عَذابٌ مُهِينٌ [ (5) ] .
وعن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس، أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللَّه قبل مبعثه، فلما بعثه اللَّه من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر يهود، اتقوا اللَّه وأسلموا، قد كنتم تستفتحون علينا بمحمد وإنا أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم: ما هو بالذي كنا نذكر لكم، ما جاءنا بشيء نعرفه! فأنزل اللَّه تعالى في ذلك من قولهم ولما
__________
[ (1) ] التوكف: التوقع والانتظار، وفي حديث ابن عمير: أهل القبور يتوكفون الأخبار، أي ينتظرونها ويسألون عنها. وفي التهذيب: أي يتوقعونها، فإذا مات الميت سألوه: ما فعل فلان وما فعل فلان؟ يقال:
هو يتوكف الخبر أي يتوقعه، ونقول: ما زلت أتوكفه حتى لقيته. (لسان العرب) : 9/ 364.
[ (2) ] في (خ) : «يسبقنكم» .
[ (3) ] في (خ) «وأهاليهم» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق فهي أجود، وبها جاء التنزيل: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [6: التحريم] (سيرة ابن هشام) : 2/ 39- 40 وهامشهما، وفي آخر هذا الأثر قال ابن إسحاق: (فهذا ما بلغنا من أخبار يهود) .
[ (4) ] في رواية ابن إسحاق: «عن رجال من قومه» .
[ (5) ] هذا الأثر مختصر من رواية ابن إسحاق، (سيرة ابن هشام) : 2/ 37.

(3/358)


جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [ (1) ] .
وقال عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي اللَّه عنه: كانت يهود [بني] [ (2) ] قريظة و [بني] [ (2) ] النضير من قبل مبعث محمد صلى اللَّه عليه وسلّم يستفتحون- يدعون- على الذين كفروا يقولون: اللَّهمّ إنا نستنصرك بحق النبي الأمي ألا تنصرنا عليهم فينصرون، فلما جاءهم ما عرفوا- يريد محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم ولم يشكوا فيه- وكانوا يتمنونه ويقولون لجميع العرب: هذا محمد قد أظلنا، هذا أوان مجيئه، واللَّه لنقتلنكم معه قتل عاد وإرم، وكان الناس من لدن اليمن إلى الشام وجميع الدنيا قد عظموا شأن قريظة والنضير لخصال كثيرة: أنهم أهل كتاب وأحبار ورهبان وربانيون، لكثرة الأموال التي كانت لهم، ولأنهم كانوا من ولد هارون عليه السلام، وكان الناس يرغبون إليهم، ويسألونهم عن الدين، وكانوا إذا استنصروا على أحد من العرب استنصروا بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، ويذكرونه بالجميل.
عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان يهود أهل المدينة قبل قدوم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون عليهم، يستنصرون يدعون عليهم باسم نبي اللَّه فيقولون: اللَّهمّ ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك، وبكتابك الّذي تنزل عليه، وعدتنا أنك باعثه في آخر الزمان، وكانوا يرجون أن يكون منهم، فكانوا إذا قالوا ذلك نصروا على عدوهم.
وعن قتادة قال: كانت اليهود تستفتح بمحمد على كفار العرب يقولون: اللَّهمّ ابعث النبي الّذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم، فلما بعث اللَّه نبيه محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم كفروا به حين رأوه بعث من غيرهم، حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول اللَّه.
وعن ابن أبي نجيح عن علي البارقيّ في قوله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أن اليهود كانوا يقولون: اللَّهمّ ابعث هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس، يستفتحون ويستكثرون على الناس.
__________
[ (1) ] 89: البقرة.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.

(3/359)


وقال قتادة عن كعب الأحبار: كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من أرض بابل، رؤيا بخت نصّر، فإنه رأى رؤيا فزع منها، فدعا كهنته وسحرته فأخبرهم بما أصابه من الكرب في رؤياه، وسألهم أن يعبروها له، فقالوا: قصّها علينا، قال: قد نسيتها! فأخبروني بتأويلها، قالوا: فإنا لا نقدر حتى تقصها علينا، فغضب وقال:
اخترتكم واصطفيتكم لمثل هذا، أذهبوا فقد أجلتكم ثلاثة أيام، فإن أتيتموني بتأويلها وإلا قتلتكم! وشاع ذلك في الناس، فبلغ دانيال وهو محبوس، فقال لصاحب السجن وهو إليه محسن: هل لك أن تذكرني للملك؟ فإن عندي [تأويل] [ (1) ] رؤياه، وإني أرجو أن تنال عنده بذلك منزلة، ويكون سبب عافيتي، قال له صاحب السجن: إني أخاف عليك سطوة الملك، لعل غم السجن حملك على أن تتروح بما ليس عندك فيه علم، مع أني أظن إن كان أحد عنده في هذه الرؤيا علم فأنت هو، قال دانيال: لا تخف عليّ فإن لي ربا يخبرني بما شئت من حاجتي، فانطلق صاحب السجن فأخبر بخت نصّر بذلك، فدعا دانيال فأدخل عليه- وكان لا يدخل عليه أحد إلا سجد- فوقف دانيال فلم يسجد، فقال الملك لمن في البيت: اخرجوا، فخرجوا، فقال بخت نصّر لدانيال: ما منعك أن تسجد لي؟ قال دانيال: إن لي ربا آتاني هذا العلم الّذي سمعت به على أن لا أسجد لغيره، فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عني هذا العلم، ثم أصير في يدك أميا لا ينتفع بي فتقتلني، فرأيت ترك سجدة أهون من القتل، وخطر سجدة أهون من الكرب والبلاء الّذي أنت فيه، فتركت السجود نظرا إلى ذلك، فقال بخت نصّر: لم يكن قط أوثق في نفسي منك حين وفيت لإلهك، أعجب الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم العهود، فهل عندك علم بهذه الرؤيا التي رأيت، قال نعم عندي علمها وتفسيرها، رأيت صنما عظيما رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، أعلاه من ذهب، ووسطه من فضة، وسفله من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من فخار، فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه وإحكام صنعته، قذفه اللَّه بحجر من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(3/360)


السماء فوقع في قبة رابية فدقه حتى طحنه، فاختلط ذهبه وفضته، ونحاسه وحديدة وفخاره، حتى تخيل إليك أنه لو اجتمع جميع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك، ولو هبت ريح لأذرته، ونظرت إلى الحجر الّذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملأ الأرض كلها، فصرت لا ترى إلا السماء والحجر، قال له بخت نصّر: صدقت! هذه الرؤيا التي رأيت، فما تأويلها؟ قال دانيال: أما الصنم فأمم مختلفة في أوّل الزمان وفي أوسطه وفي آخره، وأما الذهب فهذا الزمان وهذه الأمة التي أنت فيها وأنت ملكها، وأما الفضة فابنك يملكها من بعدك، وأما النحاس فإنه الروم، وأما الحديد ففارس، وأما الفخار فأمتان يملكها من بعدك امرأتان: إحداهما في مشرق اليمن والأخرى في غربي الشام، وأما الحجر الّذي قذف به الصنم فدين يقذف اللَّه به هذه الأمم في آخر الزمان ليظهره عليها، فيبعث اللَّه نبيا أميا من العرب فيدوّخ اللَّه به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوّخ أصناف الصنم، ويظهره على الأديان والأمم، كما رأيت الحجر ظهر على الأرض وانتشر فيها حتى يملأها، فيمحص اللَّه به الحق ويزهق الباطل، ويهدي [به] [ (1) ] أهل الضلالة، يعلم به الأميين، ويقوي به الضعيف ويعزّ به الأذلاء، وينصر به المستضعفين. قال بخت نصّر: ما أعلم أحدا استعنت منذ وليت الملك على شيء غلبني غيرك، ولا أحد له عندي يدا أعظم من يدك، وأنا جازيك بإحسانك.. وذكر القصة.
ورويت هذه القصة أيضا عن وهب بن منبه، وقال ابن إسحاق: كان فيما بلغني عما وضع عيسى ابن مريم عليه السلام فيما جاءه من اللَّه تعالى لأهل الإنجيل في الإنجيل من صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] : اللَّهمّ [ (3) ] من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتكم [ (4) ] صنائع ما كانت لكم [ (5) ] خطيئة، ولكن [من] [ (6) ] الآن بطروا وظنوا أنهم يعزونني ولكن لا بدّ أن تتم الكلمة [ (7) ] التي في الناموس أنهم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 83- 85، حديث رقم (44) تفرد به أبو نعيم.
[ (2) ] [مما أثبت يحنّس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إليهم أنه قال: من أبغضني ... ] ما بين الحاصرتين تكملة من رواية ابن إسحاق.
[ (3) ] زيادة في (خ) .
[ (4) ] في رواية ابن إسحاق: «بحضرتهم لم يصنعها أحد قبلي ما كانت..» .
[ (5) ] «لهم»
[ (6) ] زيادة للسياق من رواية ابن إسحاق. في (خ) : «المملكة» .
[ (7) ] في (خ) : «فجاءوا» .

(3/361)


أبغضوني [مجّانا] [ (1) ] ، أي باطلا، فلو قد جاء المنحمنّا [هذا] [ (2) ] الّذي أرسله اللَّه إليكم من عند الرب وروح القدس هذا الّذي من عند الرب خرج [ (3) ] ، فهو شهيد [ (4) ] عليّ وأنتم أيضا، لأنكم قديما كنتم معي [في] [ (2) ] هذا قلت لكم كي لا تشكوا. قالوا: والمنحمنّا بالسريانية محمد، وهو بالرومية البرقليطس [ (5) ] ، صلى اللَّه عليه وسلّم.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر لي بعض أهل العلم، أنه وجد عند حبر من أحبار يهود عهدا من كتاب إبراهيم خليل الرحمن فيه: (مود مود) ، فقلت له: أنشدك باللَّه ما هذان الحرفان؟ قال: اللَّهمّ عمّر من ذكر محمد. وحدثني علي بن نافع الجرشيّ قال: قرأت في بيت مجرش كتابا كتبه الحبشة حين ظهروا على اليمن- وكانوا نصارى أهل كتاب-: مصلحا محمدا رشيدا أمما. وقال زياد: سيد الأمم.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن سعيد الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد العزيز ابن عبد اللَّه بن عثمان بن سهل بن حنيف، وعبد الملك بن عيسى الثقفي، وعبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يعلي بن كعب الثقفي، ومحمد بن يعقوب بن عتبة عن أبيه وغيرهم، كل قد حدثني من هذا الحديث طائفة، قال: قال المغيرة بن شعبة في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك أنهم لما دخلوا على المقوقس قال لهم: كيف خلصتم إليّ ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟ قالوا: لصقنا بالبحر وقد خضناه على ذلك، قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟ قالوا: ما تبعه منا رجل واحد، قال: ولم ذاك؟ قالوا: جاءنا بدين مجدد لا يدين به الآباء ولا يدين به الملك، ونحن على ما كان عليه آباؤنا، قال: فكيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحداثهم وقد لاقاه من خالفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن: مرة تكون عليهم الدبرة، ومرة تكون له.
قال: ألا تحدثونني وتصدقونني؟ إلى ماذا يدعو؟ قالوا: يدعو إلى أن يعبد اللَّه وحده لا شريك له، ونخلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو إلى الصلاة والزكاة، قال: وما الصلاة والزكاة؟ ألهما وقت يعرف وعدد ينتهى إليه؟ قال: يصلون
__________
[ (1) ] في (خ) : «فجاءوا» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) : «يخرج» .
[ (4) ] في (خ) : «وهو يشهد» .
[ (5) ] في (خ) : «البلقليطس» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق (سيرة ابن هشام) : 2/ 63- 64، باب صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الإنجيل.

(3/362)


في اليوم والليلة خمس صلوات كلها لمواقيت، وعدد قد سموه له، ويؤدون من كل ما بلغ عشرين مثقالا نصف دينار، وكل إبل بلغت خمسا شاة، قال: ثم أخبروه بصدقة الأموال كلها.
قال: أفرأيتم إذا أخذها أين يضعها؟ قال: يردها على فقرائهم، ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد وتحريم الزّنا والرّبا والخمر، ولا يأكل ما ذبح لغير اللَّه. قال:
هو نبي مرسل إلى الناس كافة، ولو أصاب القبط والروم تبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم، وهذا الّذي تصفون منه بعثت به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد فيظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر ومقطع النحور، ويوشك قومه أن يدافعونه بالراح.
قال: فقلنا لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا، قال: فأخفض رأسه وقال:
أنتم في اللعب!؟ قال: كيف نسبه في قومه؟ قلنا: هو أوسطهم نسبا، قال:
كذلك والمسيح، الأنبياء تبعث في نسب قومها، قال: فكيف صدق حديثه؟ قال:
قلنا: ما يسمى إلا الأمين من صدقه، قال: انظروا في أمركم، أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على اللَّه؟.
قال: فمن اتبعه؟ قلنا: الأحداث، قال: هم والمسيح أتباع الأنبياء قبله، قال: فما فعلت يهود يثرب، فهم أهل التوراة؟ قلنا: خالفوه فأوقع بهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه، قال: هم قوم حسّد حسدوه، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف.
قال المغيرة: فقمنا من عنده وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم وخضعنا وقلنا:
ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرحامهم منه، ونحن أقرباؤه وجيرانه لم ندخل معه وقد جاءنا داعيا إلى منازلنا؟.
قال المغيرة: فرجعت إلى منزلنا فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها، وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.

(3/363)


وكان أسقف من القبط هو رأس الكنيسة، أبى [يحسر] [ (1) ] كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم، لم أر أحدا إلا يصلي الصلوات الخمس أشدّ اجتهادا منه، فقلت: أخبرني هل بقي أحد من الأنبياء؟ قال: نعم، وهو آخر الأنبياء ليس بينه وبين عيسى ابن مريم أحد، وهو نبي قد أمرنا عيسى باتباعه، وهو النبي الأمي العربيّ، اسمه أحمد.
ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، ليس بالأبيض ولا بالآدم، يعفي شعره ويلبس ما غلظ من الثياب، ويجتزئ بما لقي من الطعام، سيفه على عاتقه، ولا يبالي بمن لاقى، يباشر القتال بنفسه، ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم، هم له أشد حبا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض القرظ، ومن حرم يأتي وإلى حرم يهاجر إلى أرض سباخ ونخل، يدين بدين إبراهيم عليه السلام.
قال المغيرة بن شعبة: زدني في صفته، قال: يأتزر على وسطه، يغسل أطرافه، ويحض بما لا يحض به الأنبياء قبله، كان النبي يبعث إلى قومه وبعث إلى الناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى، ومن كان قبله مشدّدا عليهم، لا يصلون إلا في الكنائس والبيع، قال المغيرة: فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره وما سمعت من ذلك.
فذكر الواقدي [ (2) ] حديثا طويلا في رجوعه من عند المقوقس ومجيئه إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وقال: فأسلمت ثم أخبرته صلى اللَّه عليه وسلّم عن مخرجنا من الطائف وقدومنا الإسكندرية، وأخبرته بما قال الملك وما قال الأساقفة الّذي كنت أسائلهم وأسمع منهم ومن رؤساء القبط والروم فأعجب ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأحب أن يسمعه أصحابه، فكنت أحدثهم ذلك في اليومين والثلاثة.
وخرج الحسن بن سفيان من حديث ملازم بن عمرو، حدثنا عبد اللَّه بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه قال: خرجنا وفد إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا واستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء فتوضأ منه
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (2) ] (المغازي) : 3/ 964- 965.

(3/364)


ومضمض منه وصبّ لنا في إداوة ثم قال: اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعكم وانضحوا مكانها من هذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدا، قلنا: إن البلد [بعيد] [ (1) ] والحر شديد والماء ينشف، قال: فأمدّوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيبا،
قال: فخرجنا وتشاححنا على حمل الإداوة أينا يحملها؟ فجعلها نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بيننا نوبا، على كل رجل يوما وليلة، فخرجنا حتى قدمنا بلدنا، ففعلنا الّذي أمرنا به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم- وراهبنا يومئذ من طيِّئ- فأذّنا، فقال الراهب لما سمع الأذان:
دعوة حق، ثم استقبل تلعة من تلاعنا [ (2) ] ثم هرب فلم ير بعد [ (3) ] .
وللطبراني من حديث يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب قال: حدثني أبي قال: أخبرني الفلتان بن عاصم قال: كنا قعودا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في المسجد فشخص بصره إلى رجل يمشي في المسجد فقال: أفلان، قال: لبيك يا رسول اللَّه- ولا ينادي الكلام إلا قال برسول اللَّه- فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أتشهد أني رسول اللَّه؟ قال: لا! قال: أتقرأ في التوراة؟
قال: نعم، قال: والإنجيل؟ قال: نعم، قال: والقرآن؟ قال: لا، قال: والّذي نفسي بيده لو تشاء لقرأته، قال: ثم ناشده: هل تجدني في التوراة والإنجيل؟ فقال:
سأحدثك مثلك ومثل هيئتك ومخرجك، وكنا نرجو أن تكون منّا، فلما خرجت تخوفنا أن تكون هو أنت، فنظرنا فإذا ليس هو أنت! قال: فلم ذاك، قال: إن معه من أمته سبعين ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب، وإنما معك نفر يسير، قال: فو الّذي نفسي بيده لأنا هو، إنهم لأمتي، وإنهم لأكثر من سبعين ألفا،
وقد بشر برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كعب بن لؤيّ بن غالب كما ستراه في أخباره.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن جدعان عن سعيد بن المسيب قال:
بينما العباس في زمزم إذ جاء كعب الأحبار فقال له العباس: ما منعك أن تسلم في عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر حتى أسلمت الآن في عهد عمر رضي اللَّه عنهم؟
__________
[ (1) ] في (خ) : «ببعد» .
[ (2) ] التلعة: ما ارتفع من الأرض وما انخفض منها، فهي من أسماء الأضداد.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 90- 91، حديث رقم (47) قال في (الخصائص) : 1/ 217: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن سعد، والبيهقي، وأخرجه أيضا النسائي في كتاب المساجد من طريق رجاله ثقات.

(3/365)


فقال: إن أبي كتب لي كتابا من التوراة ودفعه إليّ وقال: اعمل بهذا واتبعه، وأخذ علي حق الوالد على الولد أن لا أفضّ هذا الخاتم، وختم على سائر كتبه، فلما رأيت الإسلام قد ظهر ولم أر إلا خيرا قالت لي نفسي: لعل أباك غيب عليك علما، ففضضت هذا الخاتم فإذا فيه صفة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وأمته، فجئت الآن وأسلمت. وقد تقدم في ذكر حلم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وصفحه، حديث إسلام زيد بن سعنة، وفيه:
قال زيد: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه محمد سوى آيتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
وخرّج ابن حبان من حديث أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد [ (1) ] قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: قال لي حبر من أحبار الشام:
قد خرج نبي في بلدك أو هو خارج قد خرج نجمه، فارجع فصدّقه واتّبعه وآمن به.
ولأبي نعيم من حديث سلمة بن كهيل عن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، عن دحية الكلبي قال: بعثني النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى قيصر صاحب الروم بكتاب، فاستأذنت فقلت: استأذنوا لرسول رسول اللَّه، فأتى قيصر فقيل: إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول اللَّه، ففزعوا لذلك وقال: أدخلوه، فدخلت عليه وعنده بطارقته، فأعطيته الكتاب فقرئ عليه فإذا فيه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللَّه إلى قيصر صاحب الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط الشعر فقال:
لا يقرأ الكتاب اليوم، لأنه بدأ بنفسه، وكتب صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم، قال: فقرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم قيصر فخرجوا من عنده ثم بعث إليّ فدخلت إليه فسألني فأخبرته، فبعث إلى الأسقف فدخل عليه وكان صاحب أمرهم يصدرون عن قوله ورأيه، فلما قرأ الكتاب قال الأسقف: هو واللَّه الّذي بشرنا به عيسى وموسى الّذي كنا ننتظره، قال قيصر: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فإنّي مصدقه ومتبعه، فقال قيصر: إني أعرف أنه كذلك، ولكن
__________
[ (1) ] مرويات أسامة بن زيد في (صحيح ابن حبان) (16) حديثا ليس من بينها هذا الحديث- ر:
(الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 18/ 97 (فهرس الرواة) .

(3/366)


لا أستطيع أن أفعل، فإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم [ (1) ] .
وله من حديث العلاء بن الفضل بن أبي سوية بن خليفة قال: حدثني أبي عن جده أبي سوية بن خليفة- وكان خليفة مسلما- قال: سألت محمد بن عدي ابن ربيعة بن سوادة بن حبتم بن سعد فقلت كيف سماك أبوك محمدا؟ فضحك ثم قال: أخبرني- أي عدي بن ربيعة- قال: خرجت أنا وسفيان بن مجاشع ويزيد ابن ربيعة وأسامة بن مسكة نريد ابن جفنة، فلما قربنا منه نزلنا إلى شجرات وغدير فقلنا: لو اغتسلنا وادهنا ولبسنا ثيابنا من قشف السفر، فجعلنا نتحدث فأشرف علينا ديراني [ (2) ] من قائم له فقال: إني أسمع بلغة قوم ليس بلغة أهل هذه البلاد، قلنا: نحن قوم من مضر، قال: من أي المضريين؟ قلنا: من خندف [ (3) ] ، قال:
إنه سيبعث وشيكا نبي منكم فخذوا نصيبكم منه تسعدوا، قلنا: ما اسمه؟ قال:
محمد.
فأتينا ابن جفنة فقضينا حاجتنا ثم انصرفنا، فولد لكل رجل منا ابن فسماه محمدا يدور على ذلك الاسم [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 101- 102، حديث رقم (53) ، وقال الحافظ في (الفتح) : «وأخرجه ابن إسحاق مرسلا عن بعض أهل العلم» ، (سيرة ابن هشام) : 6/ 14، هامش (1) ، (2) ، (مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة) : 35- 37، (المصباح المضيء) :
2/ 68- 71، (الاستيعاب) : 2/ 461 ترجمة دحية الكلبي رقم (701) .
[ (2) ] الديرانيّ: صاحب الدير، أو المقيم فيه، نسبة إلى الدّير، على غير قياس.
[ (3) ] خندف: هي ليلى بنت حلوان بن عمران، زوجة إلياس بن مضر والد مدركة، قال مجد الدين الفيروزآبادي في (القاموس المحيط) : 2/ 115: خرج إلياس في نجعة فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها ابنه عمرو فأدركها، وخرج عامر- ابنه الثاني- فتصيدها وطبخها، وانقمع عمير. ابنه الثالث في الخباء، وخرجت أمهم- تسرع، فقال لها إلياس: أين تخندفين؟ فقالت: ما زلت أخندف في أثركم، فلقبوا: مدركة، وطابخة، وقمعة، وخندف.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 93- 94، حديث رقم (49) ، والحديث أخرجه البيهقي والطبراني، والخرائطي في (الهواتف) - ر: (الخصائص) : 1/ 57، وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : رواه البغوي وابن سعد، وابن شاهين، وابن السكن وغيرهم. وقال في (الإصابة) :
هو من طريق العلاء بن الفضل بن أبي سويّة المنقري، حدثني أبو الفضل بن عبد الملك، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن أبيه أبي سوية، عن أبيه خليفة بن عبدة. قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 8/ 232: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.

(3/367)


وسيأتي في التعريف لعبد المطلب ذكر اليهودي الّذي نظر في أنفه وقال له: أرى في إحدى يديك ملكا وفي أنفك نبوة، وذكر وفادته على سيف بن ذي يزن وإخباره إياه أنه يولد له ولد اسمه محمد، وبشّر بنبوته.
قال أبو بكر بن عبد اللَّه بن الجهم عن أبيه عن جده قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال: بينما أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم كأن شجرة نبتت من ظهري قد نال رأسها السماء، وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها، أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا.
ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تختفي وساعة تزهر.
ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخّرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا، فقلت: لمن النصيب؟ فقال: لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها.
فانتبهت مذعورا فزعا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، يدين له الناس، فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث، والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد خرج، ويقول: كانت الشجرة أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن به فيقول: السبّة والعار [ (1) ] !!.
عن الحرث بن عبد اللَّه الأزدي قال: لما نزل أبو عبيدة اليرموك وضم إليه قواصيه وجاءتنا جموع الروم فذكر أن ماهان صاحب جيش الروم بعث رجلا من كبارهم وعظمائهم يقال له: جرجير إلى أبي عبيدة بن الجراح، فأتى أبا عبيدة فقال:
إني رسول ماهان إليك، وهو عامل ملك الروم على الشام، وعلى هذه الحصون،
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 99- 100، حديث رقم (51) ، انفرد به أبو نعيم، وفيه خالد بن إلياس، متروك الحديث، (البداية والنهاية) : 2/ 387- 388.

(3/368)


وهو يقول لك: أرسل إلى الرجل الّذي كان قبلك أميرا، قد ذكر لي أن ذلك الرجل له عقل وله فيكم حسب، وقد سمعنا أن ذوي الأحساب أفضل عقولا من غيرهم، فنخبره بما نريد، ونسأله عما تريدون، فإن وقع بيننا وبينكم أمر لنا فيه ولكم صلاح أخذنا الحظ من ذلك وحمدنا اللَّه عليه، وإن لم يتفق ذلك بيننا وبينكم فإن القتال من وراء ما هناك.
فدعا أبو عبيدة خالدا فأخبره بالذي جاء فيه الروميّ وقال لخالد: ألقهم فادعهم إلى الإسلام، فإن قبلوا وإلا فافرض عليهم الجزية، فإن أبوا فأعلمهم أنا سنناجزهم حتى يحكم اللَّه بيننا وبينهم. قال: وجاءهم رسولهم الرومي عند غروب الشمس فلم يمكث إلا يسيرا حتى حضرت الصلاة فقام المسلمون يصلون، فلما قضوا صلاتهم قال خالد للرومي: قد غشينا الليل، ولكن إذا أصبحت غدوت إلى صاحبك إن شاء اللَّه، فارجع إليه فأعلمه.
فجعل المسلمون ينتظرون الرومي أن يقوم إلى صاحبه فيرجع إليه ويخبره بما اتعدوا عليه، فأخذ الرومي لا يبرح وينظر إلى رجال من المسلمين وهم يصلون فيدعون اللَّه ويتضرعون إليه، ثم أقبل على أبي عبيدة فقال: أيها الرجل! متى دخلتم هذا الدين ومتى دعوتم الناس إليه؟ فقال: منذ بضع وعشرين سنة، فمنا من أسلم حين أتاه الرسول، ومنا من أسلم بعد ذلك.
فقال: هل كان رسولكم أخبركم أنه يأتي من بعده رسول؟ قال: لا، ولكن أخبرنا أنه لا نبي بعده، وأخبرنا أن عيسى ابن مريم قد بشر به قومه، قال الرومي، وأنا على ذلك من الشاهدين، وأن عيسى قد بشرنا براكب الجمل، وما أظنه إلا صاحبكم، فأخبرني هل قال صاحبكم في عيسى شيئا؟ وما قولكم أنتم فيه؟.
قال أبو عبيدة: قول صاحبنا هو قول اللَّه وهو أصدق القول وأبرّه: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ (1) ] ، وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [ (2) ] إلى قوله: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ.
__________
[ (1) ] 59: آل عمران.
[ (2) ] 171: النساء.

(3/369)


قال: ففسّر له الترجمان هذا بالرومية، فقال: أشهد أن هذا صفة عيسى نفسه، وأشهد أن نبيكم صادق، وأنه الّذي بشرنا به عيسى وأنكم قوم صدق، وقال لأبي عبيدة: أدع لي رجلين من أوائل أصحابك إسلاما هما فيما ترى أفضل.
فدعا له معاذ بن جبل وسعيد بن جبير وزيد بن عمرو بن نفيل، فقيل له:
هذا من أفضل المسلمين فضلا ومن أوائل المسلمين إسلاما، فقال لهم الرومي:
أتضمنون لي الجنة إن أنا أسلمت وجاهدت معكم؟ قالوا: نعم، إن أنت أسلمت واستقمت ولم تغيّر حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة، قال: فإنّي أشهدكم أني من المسلمين، فأسلّم، ففرح المسلمون بإسلامه وصافحوه ودعوا له بخير.
وخرج أبو نعيم من حديث أبي بشر محمد بن عبيد اللَّه قال: حدثني عطاء بن عجلان عن بهز بن حوشب عن كعب بن ماتع الحميري أن إسلامه كان [عند] مقدم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الشام، وأخبرني كيف كان بدء أمره، قال:
إن أبي كان من أعلم الناس بما أنزل اللَّه على موسى عليه السلام، وكان لم يدخر عني شيئا مما كان يعلم.
فلما حضره الموت دعاني فقال لي: يا بني! إنك قد علمت أني لم أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم إلا أني قد حبست عنك ورقتين فيهما نبي يبعث قد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك ولا آمن عليك أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتطيعه، وقد جعلتهما في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، لا تعرض لهما ولا تنظرن فيهما حينك هذا، فإنّ اللَّه إن يرد بك خيرا ويخرج ذلك الّذي تتبعه.
قال: ثم إنه مات فدفناه، ولم يكن شيء أحب إلي من أن يكون المأتم قد انقضى حتى انظر ما في الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة، ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما: محمد رسول اللَّه، خاتم النبيين لا نبي بعده، مولده بمكة ومهاجرة بطيبة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ويجزئ بالسيئة الحسنة، ويعفو ويصفح.
أمته الحمادون الذين يحمدون اللَّه على كل حال، تذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم ويأتزرون على أوساطهم، أناجيلهم في

(3/370)


صدورهم، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم.
قال: فلما قرأت ذلك قلت في نفسي: وهل علمني أبي شيئا هو خير لي من هذا؟ فمكثت ما شاء اللَّه، ثم بلغني أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد خرج بمكة وهو يظهر مرة ويستخفي أخرى فقلت: هو ذا، فلم يزل كذلك حتى قيل لي: قد أتى المدينة، فقلت في نفسي إني لأرجو أن يكون إياه، وكانت تبلغني وقائعه: مرة له، ومرة عليه، ثم بلغني أنه توفى، فقلت في نفسي: لعله ليس بالذي كنت أظن حتى بلغني أن خليفته قد قام مقامه، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده، فقلت في نفسي:
لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أنهم هم الذين أرجو وانظر سيرتهم وأعمالهم.
فلم أزل أدافع ذلك وأؤخره لأستثبت حتى قدم علينا عمال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فلما رأيت وفاءهم بالعهد وما صنع اللَّه لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دينهم، فو اللَّه إني ذات ليلة فوق سطحي فإذا رجل من المسلمين يتلو قول اللَّه عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [ (1) ] ، قال:
فلما سمعت هذه الآية خشيت أن لا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح فغدوت على المسلمين.
قال: وحدثني عطاء عن شهر بن حوشب عن كعب قال: قلت لعمر رضي اللَّه عنه بالشام عند انصرافه أنه مكتوب في الكتب: أن هذه البلاد التي كان بنو إسرائيل أهلها مفتوحة على رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد سواء في الحق عنده، أتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواضعون متبارون، فقال عمر رضي اللَّه عنه: ثكلتك أمك! أهو ما تقول؟ فقال: إي والّذي يسمع ما أقول، فقال:
الحمد للَّه الّذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا ورحمنا بنبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] 47: النساء.

(3/371)


وله من حديث المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد عن أبيه، عن جده سعيد بن زيد، أن زيد بن عمرو وورقة ابن نوفل خرجا يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال لزيد بن عمرو: من أين أقبلت يا صاحب البعير؟ قال: من بيت إبراهيم، قال: وما تلتمس؟ قال: ألتمس الدين، قال:
ارجع فإنه يوشك أن يظهر الّذي تطلب في أرضك، فرجع وهو يقول: لبيك حقا حقا، تعبّدا ورقّا، البرّ أبغي لا الحال، وهو كمن قال: آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول: أبقي لك فإنّي واهم، مهما تجشمني فإنّي جاشم، ثم يخر فيسجد.
وله من حديث النضر بن مسلمة قال: حدثنا محمد بن موسى أبو غزية، عن علي بن عيسى بن جعفر عن أبيه عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن أبيه عامر ابن ربيعة العدوي قال: لقيت زيد بن عمرو بن نفيل وهو خارج من مكة يريد حراء يصلي فيها، وإذا هو قد كان بينه وبين قومه يوفي صدر النهار في ما أظهر من خلافهم، واعتزال آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم.
فقال زيد بن عمرو: يا عمر إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم خليل اللَّه وما كان يعبد وابنه إسماعيل من بعده، وما كانوا يصلون إلى هذه القبلة، وأنتظر نبيا من ولد إسماعيل من بني عبد المطلب اسمه أحمد، ولا أراني أدركه، فأنا يا عامر أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك يا عامر ما نعته حتى لا يخفى عليك، قلت: هلم.
قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليس يفارق عينيه حمره، وهو خاتم النبوة واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه فإنّي بلغت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم عليه السلام، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقول: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر: فوقع في نفسي الإسلام من يومئذ، فلما تنبأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كنت حليفا في قومي، وكان قومي أقل قريش عددا، فلم أقدر على اتباعه ظاهرا فأسلمت

(3/372)


سرا، وكنت أخبرت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بما أخبرني به زيد بن عمرو فترحم عليه وقال:
قد رأيته في الجنة يسحب ذيلا له أو ذيولا له [ (1) ] .
وله من حديث أبي بكر الهذلي عن عكرمة بن عباس قال: قال العباس:
خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان بن حرب فقدمت اليمن، وكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بأبي سفيان والنفر، ويصنع أبو سفيان يوما ويفعل مثل ذلك، فقال لي في يومي الّذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إليّ غداك؟ قلت: نعم.
فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت [إليه] [ (2) ] الغداء، فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني فقال: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول اللَّه؟ قلت أيّ بني أخي؟ قال: إياي تكتم؟ وأيّ بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد، قلت: وأيهم؟ هو محمد بن عبد اللَّه؟.
قلت: قد فعل؟ قال: قد فعل [ (3) ] ، وأخرج كتابا من ابنه حنظلة بن أبي سفيان: أخبرك أن محمدا أقام بالأبطح فقال: أنا رسول اللَّه أدعوكم إلى اللَّه، قال العباس: قلت: لعله يا أبا حنظلة صادق، فقال: مهلا يا أبا الفضل، فو اللَّه ما أحب أن تقول هذا، إني لأخشى أن تكون كنت على صبر من هذا الحديث، يا بني عبد المطلب إنه واللَّه ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة كل واحد منهما قامته، نشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك؟.
قلت: نعم قد سمعت، قال: فهذه واللَّه شؤمتكم، قلت: فلعلها يمنتنا، قال:
فما كان يبعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد اللَّه بن خرافة بالخبر وهو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس اليمن، وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يتحدث وفيه حبر من أحبار اليهود، فقال له اليهودي: ما هذا الخبر؟! بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الّذي قال ما قال.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 100- 101، حديث رقم (52) ، رواه ابن سعد في (الطبقات) : 1/ 161، والفاكهي بإسناده ثم ذكر الحديث. وانظر الإصابة أيضا، ويظهر أن إسناده عنده مقبول، و (الخصائص) : 1/ 61.
[ (2) ] في (خ) : «إلى» ، وما أثبتناه أجود للسياق.
[ (3) ] في (خ) : «بلى قد فعل» ، وما أثبتناه حق اللغة.

(3/373)


قال أبو سفيان: صدقوا، وأنا عمه، قال اليهودي: أخو أبيه؟ قال نعم، قال:
فحدثني عنه، قال: لا تسألني، ما كنت أحب أن يدعي هذا الأمر أبدا، وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه، فرأى اليهودي أنه يغمص عليه ولا يحب أن يعيبه، فقال: ليس به بأس على اليهود وتوراة موسى.
قال العباس: فنادى إلى الحبر فجئت وخرجت حتى جلست هذا المجلس من الغد، وفيه أبو سفيان والحبر، فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا، زعم أنه رسول اللَّه فأخبرك أنه عمه وليس بعمه، ولكن ابن عمه، وأنا عمه وأخو أبيه، قال: أخو أبيه؟ قلت: أخو أبيه، فأقبل على أبي سفيان فقال:
صدق، قال نعم صدق، فقلت: سلني، فإن كذبت فيرده عليّ.
فقلت: نشدتك هل كانت لابن أخيك صبوة أو سفهة؟ قلت: لا، وإله عبد المطلب، ولا كذب ولا خان، وإن كان اسمه عند قريش الأمين، قال: هل كتب بيده؟ قال العباس: فظننت أنه خير له أن يكتب بيده، فأردت أن أقولها، ثم ذكرت مكان أبي سفيان أنه مكذّبي ورادّ عليّ، فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود.
قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن أخيك، قلت: قد رأيت، فهل لك أيا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقتك، وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك.
قال: لا أؤمن به حتى أرى الخيل في كذا، قلت: ما تقول؟ قال: كلمة جاءت على فمي إلا أني أعلم أن اللَّه لا ينزل خيلا تطلع من كذا.
قال العباس: فلما استفتح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مكة ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كذا، قلت: يا أبا سفيان! تذكر الكلمة؟ قال: إي واللَّه، إني أذكرها، والحمد للَّه الّذي هداني للإسلام.
وله من حديث إسماعيل بن الطريح بن إسماعيل الثقفي قال: حدثني أبي عن عمران بن الحكم عن معاوية بن أبي سفيان عن أبيه قال: خرجت أنا وأمية بن معاوية

(3/374)


ابن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام، فكلما نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرؤه علينا، وكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فجاءوه وأكرموه وأهدوا له، وذهب معهم إلى بيوتهم، ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما وقال لي: يا أبا سفيان، هل لك في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتاب نسأله؟ قلت: لا أرب لي فيه، واللَّه لئن حدثني بما أحب لا أثق به، ولئن حدثني بما أكره لأرحل منه.
قال: فذهب وخالفه فتى من النصارى فدخل عليه فقال: ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ؟ قلت: لست على دينه، قال: وإن، فإنك تسمع منه عجبا وتراه، ثم قال لي الثقفيّ: أنت قلت: لا، ولكني قريشيّ، قال: فما يمنعك من الشيخ؟ فو اللَّه إنه ليحبكم ويوصي بكم، قال: وخرج من عندنا ومكث أمية حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انحذل إلى فراشه، فو اللَّه ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه [ (1) ] ، ما يكلمنا وما نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل؟ فرحلنا، فسرنا بذلك ليلتين من همه، ثم قال لي في الليلة الثالثة: ألا تحدث أبا سفيان؟ قلت: وهل بك من حديث؟ واللَّه ما رأيت مثل الّذي رجعت به من عند صاحبك، قال: أما إن ذلك شيء لست فيه، إنما ذلك شيء وجلت به من منقلبي، قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي؟ قال: على ماذا؟
قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، فضحك ثم قال: بلى واللَّه يا أبا سفيان لنبعثن ولنحاسبن، وليدخلن فريق الجنة وفريق النار، قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك في ولا في نفسه.
قال: فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه، حتى قدمنا على غوطة دمشق فبعنا متاعنا فأقمنا شهرين وارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاءوه أهدوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاء بعد ما انتصف النهار، فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ورمى بنفسه على فراشه، فو اللَّه ما نام ولا قام، وأصبح كئيبا حزينا لا يكلمنا ولا نكلمه.
__________
[ (1) ] الغبوق: شراب اللبن في المساء، والصبوح: شرابه في الصباح، والمقصود هنا كناية عن الاضطراب وعدم الاتزان.

(3/375)


ثم قال: ألا نرحل؟ قلت: بلى إن شئت، فرحلنا لذلك [من بيته وحزبه] [ (1) ] ليالي ثم قال لي: يا أبا سفيان! هل لك في المسير فنقدم أصحابنا؟
فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال: هيا صخر، قلت: ما تشاء، قال:
حدثني عن عتبة بن ربيعة، أيجتنب المظالم والمحارم؟ قلت: إي واللَّه، قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: أي واللَّه، قال: وكريم الطرفين وسيط في العشيرة؟
قلت: نعم، قال: فهل تعرف في قريش من هو أفضل منه؟ قلت: لا واللَّه ما أعلمه، قال: أمحوج؟ قلت: لا، بل هو ذو مالك كثير، قال: وكم أتى له من السن؟ قلت: قد زاد على المائة، قال: فالشرف والسن والمال أزرين به، قلت:
ولم ذلك يردى به؟ قال: لا واللَّه بل يزيده خيرا.
قال: هو ذاك، هل لك في المبيت؟ قلت: لي فيه، فاضطجعنا حتى مرّ الثقل، فسرنا على ناقتين نحيلتين حتى إذا برزنا قال: هيا صخر [ (2) ] [عن] [ (1) ] عتبة ابن ربيعة، قلت: هيا فيه، [] [ (3) ] قال: وذو مال؟ قلت: وذو مال، قال: أتعلم في قريش أسود [ (4) ] ؟ قلت: لا واللَّه ما أعلمه، قال: كم أتى له من السن؟ قلت قد زاد على المائة، قال: فإن الشرف والمال أزرين به، قلت: كلا واللَّه، ما أرى ذلك به وأنت قائل شيئا فقلته، قال: لا تذكر حديثي حتى يأتي منه ما هو آت، ثم قال: فإن الّذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء ثم قلت: أخبرني من هذا النبي الّذي ينتظر.
قال: هو رجل من العرب، قلت: قد علمت أنه من العرب، فمن أي العرب هو؟ قال: من أهل بيت تحجه العرب، قلت: وفينا بيت تحجه العرب؟ قال:
هو في إخوانكم من قريش، قال: فأصابني واللَّه شيء ما أصابني مثله قط، وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون إياه.
فقلت: فإذا كان فصفه لي، قال: رجل شاب حين دخل في الكهولة، بدء
__________
[ (1) ] كذا في (خ) .
[ (2) ] في (خ) هيا فيه.
[ (3) ] في (خ) : تكرار من الناسخ لعبارة: «أيجتنب ... إلى ويفعل ذلك» .
[ (4) ] من السيادة.

(3/376)


أمره يجتنب المظالم والمحارم، ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة، أكثر جنده الملائكة.
قلت: وما آية ذلك؟ قال: قد رجعت الشام منذ هلك عيسى ابن مريم ثلاثين رجعة كلها مصيبة، وبقيت رجعة عامة فيها مصائب، قال أبو سفيان: فقلت له:
هذا واللَّه الباطل، لئن بعث اللَّه رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا.
قال أمية: والّذي أحلف به إن هذي لكذا يا أبا سفيان يقول: إن قول النصراني حق، هل لك في المبيت؟ قلت: لي فيه، فبتنا حتى جاءنا الثقل، ثم خرجنا حتى إذا كنا بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا راكب من خلفنا فسألناه، فإذا هو يقول:
أصاب أهل الشام بعدكم رجفة دمّرت أهلها، وأصابهم فيها مصائب عظيمة.
قال أبو سفيان: فأقبل على أمية فقال: كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان، قلت: أي واللَّه، وأظن أن ما حدّثك صاحبك حق، قال: وقدمنا مكة فقضيت ما كان معي، ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة، فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون ويسألون عن بضائعهم.
***

(3/377)


[ثم جاءني محمد بن عبد اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] وهند عندي تلاعب صبيا لها، فسلم عليّ ورحب بي، وسألني عن سفري ومقامي، ولم يسألني عن بضاعته، ثم قام، فقلت لهند: واللَّه إن هذا ليعجبني، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته، فقالت: وما علمت شأنه؟ قلت: - وفزعت- ما شأنه؟ قالت: يزعم أنه رسول اللَّه، فأيقظتني وذكرت قول النصراني ووجمت [ (2) ] حتى قالت هند:
مالك؟ فانتبهت وقلت: إن هذا لهو الباطل، هو أعقل من أن يقول هذا، قالت:
بلى، واللَّه إنه ليقول ذلك، فبوأنا عليه، وإن له لصاحبه على دينه، قلت: هذا الباطل، وخرجت، فبينا أنا أطوف بالبيت لقيته فقلت: إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا، وكان فيها خير، فأرسل فخذها، ولست بآخذ منك فيها ما آخذ من قومك، فأبى عليّ وقال: إذا لا آخذها، قلت: فأرسل وخذها وأنا آخذ منك ما آخذ من قومك، فأرسل إلي بضاعته فأخذها، وأخذت منه ما كنت آخذ من قومه غيره.
ولم أنشب أن خرجت تاجرا إلى اليمن فقدمت الطائف، فنزلت على أمية بن أبي الصلت فقلت له: أبا عثمان! هل تذكر حديث النصراني؟ قال: أذكره، قلت: قد كان، قال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد اللَّه، قال: ابن عبد المطلب؟
قلت: ابن عبد المطلب، ثم قصصت عليه خبر هند، قال: فاللَّه يعلم يتصبب عرقا ثم قال: واللَّه يا أبا سفيان لعله، إنّ صفته لهي، ولئن ظهر وأنا حيّ لأبلين اللَّه نصره عذرا.
قال: ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله، فأقبلت حتى نزلت إلى أمية بن أبي الصلت بالطائف فقلت: يا أبا عثمان! قد كان من أمر الرجل
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين عنوان في (خ) ، إلا أنها بداية فقرة جديدة، وقد أثبتناها كما هي في (خ) .
[ (2) ] وجم: سكت على غيظ. (لسان العرب) 12/ 630.

(3/378)


ما قد بلغك وسمعت، قال: قد كان لعمري، قلت: فأين أنت يا أبا عثمان عنه؟
قال: واللَّه ما كنت لأؤمن لرسول من غير ثقيف أبدا، قال أبو سفيان: وأقبلت إلى مكة، فو اللَّه ما أنا ببعيد حتى جئت مكة فوجدت أصحابه يضربون ويعزفون، فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟ قال: فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة [ (1) ] .
وله من حديث الليث بن سعيد عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن معاوية ابن أبي سفيان، أن أمية بن أبي الصلت كان بعزة أو قال: بإيلياء، فلما قفلنا قال لي: يا أبا سفيان! هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث؟ قلت: نعم، ففعلنا، فقال لي: يا أبا سفيان، إيه عن عتبة بن ربيعة، قلت: إيه عن عتبة بن ربيعة، قال: كريم الطرفين، ويجتنب المظالم والمحارم؟ قلت: نعم، قال: وشريف حسن، قال: السن والشرف أزريا به، فقلت له: كذبت، ما ازداد شيئا إلا ازداد شرفا، قال: يا أبا سفيان! إنها لكلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تنصرت، لا تعجل عليّ حتى أخبرك، قلت: هات.
قال إني أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه، فكنت أظن بل كنت لا أشك أني هو! فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة، فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الأربعين ولم يوح إليه، قال أبو سفيان: فضرب الدهر من ضربه.
[وأوحي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية! قد خرج النبي الّذي كنت تنعته، قال: أما إنه حق فأتبعه، قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا الاستحياء من نسيات
__________
[ (1) ] نفست عليه بالشيء أنفسه نفاسة، إذا ضننت به ولم تحب أن يصل إليك. (القاموس المحيط) : 6/ 238.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين عنوان في (خ) ، إلا أنها بداية فقرة جديدة، وقد أثبتناها كما هي في (خ) .

(3/379)


ثقيف، كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف، ثم قال ابن مية: فكأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي، ثم يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد!.
وله من حديث ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان يهودي سكن مكة يتّجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال في مجلس: يا معشر قريش! هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قال القوم:
ما نعلمه، قال: اللَّه أكبر، أما إن أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا يا معشر قريش ما أقول لكم: ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الآخر، بين كتفيه علامة فيها شعيرات متواترات كأنهن عرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذاك أن عفريتا من الجن أدخل إصبعه في فيه ومنعه من الرضاع، فتصدع القوم من مجلسهم وهم يعجبون من قوله وحديثه، فلما صاروا إلى منزلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا: ولد لعبد اللَّه بن عبد المطلب الليلة غلام وأسموه محمدا.
فالتقى القوم فقالوا: هل سمعتم حديث اليهودي وقد بلغكم مولد هذا الغلام؟
فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر فقال: اذهبوا بي حتى انظر إليه، فخرجوا به حتى دخلوا على آمنة بنت وهب فقالوا: أخرجي إلينا ابنك فأخرجته آمنة، فكشفوا له عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا له: ويلك! ما لك؟ قال: ذهبت واللَّه النبوة من بني إسرائيل، أفرحتم به يا معشر قريش؟ أما واللَّه ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب.
وكان في النفر يومئذ هشام والوليد ابنا المغيرة، ومسافر بن أبي عمرو وعبيدة ابن الحرث بن عبد المطلب، وعتبة بن ربيعة في نفر من بني عبد مناف وغيرهم من قريش.
وله من حديث محمد بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى (عيصا) من أهل الشام، وكان متخفّرا [ (1) ] بالعاص بن وائل، وكان اللَّه قد أتاه علما كثيرا، وجعل فيه منافع كثيرة
__________
[ (1) ] خفير القوم: مجيرهم، الّذي يكونون في ضمانه ما داموا في بلاده.

(3/380)


لأهل مكة من طب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة في كل سنة فيلقي الناس ويقول: يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة، يدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه فمن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه وخالفه أخطأ حاجته، وتاللَّه ما تركت الحمر والحمير [والأميّ] [ (1) ] ، ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف إلا في طلبه.
فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول: ما جاء بعد، فيقال له:
فصفه، فيقول: لا، ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لا نبي من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يفضي إليه من الأذى يوما.
ولما كان ظهور اليوم الّذي ولد فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خرج عبد اللَّه بن عبد المطلب حتى أتى (عصيا) فوقف في أصل صومعته ثم نادى: يا (عصيا) ، فناداه:
من هذا؟ فقال: أنا عبد اللَّه، فأشرف عليه فقال: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الّذي كنت أحدثكم عليه يوم الإثنين، ويبعث يوم الإثنين، ويموت يوم الإثنين.
قال: فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود، قال: فما سميته؟ قال: محمدا، قال: واللَّه لقد كنت أشتهي أن يكون فيكم هذا المولود أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه، فقد أتى عليه منها أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمدا، انطلق إليه فإن الّذي كنت أحدثكم عنه ابنك.
قال: فما يمنعك أن تأتيني؟ ولعله لن يولد يومنا هذا مولودون عدة، قال:
قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن اللَّه يشبّه علمه على العلماء لأنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع فيشتكي أياما ثلاثة، يظهر الوجع ثم يعافي، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد حسده أحد قط، ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه، وإن تعش حتى تبدو معالمه ثم يدعو يظهر لك من قومك ما لا يحتمله إلا على ذلّ، فاحفظ لسانك ودار عنه.
قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره أو قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتردونها من السنين، في إحدى وستين أو ثلاث وستين، أعمار جلّ أمته، قال:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) .

(3/381)


وحمل برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في عاشوراء المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشر ليلة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.
وله من حديث النضر بن سلمة قال: حدثنا يحيى بن إبراهيم بن أبي قتيلة عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده أسلم أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية أن يسرح نضلة بن معاوية الأنصاري وهو من أصحابه في ثلاثمائة فارس إلى حلوان فيغير على قراها، لعل اللَّه يفيدهم إبلا ورقيقا، فلما انتهى كتاب عمر إلى سعد دعا سعد نضلة فعقد له [لواء] [ (1) ] وقال: اخرج، فسار نضلة حتى إذا شارف حلوان فرّق أصحابه في ثلاث رساتق منها، فأغاروا فأصابوا إبلا ورقيقا وشاءا كثيرا، فانصرفوا فتبعهم المشركون، فكرّ عليهم نضلة وأصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم إن اللَّه صرف وجوه المشركين وولوا، وسار نضلة في أصحابه معهم الغنائم، وأرهق القوم صلاة العصر، فنادى نضلة أصحابه فقال لهم: سوقوا الغنائم إلى سفح الجبل وعليكم بالصلاة.
ثم نزل فأذّن فقال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، فأجابه كلام من الجبل: كبّرت كبيرا يا نضلة، فقال نضلة: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقال: أخلصت للَّه إخلاصا حرمت جسدك على النار، قال: أشهد أن محمدا رسول اللَّه، قال: نبي بعث خاتم النبيين، وصاحب شفاعة يوم القيامة، قال: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، قال: البقاء لأمة محمد وهو الفلاح، قال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، قال: كبّرت كبيرا، قال:
لا إله إلا اللَّه، قال أخلصت للَّه إخلاصا.
قال: فتعجب نضلة وأصحابه، فقال نضلة: من أنت يرحمك اللَّه؟ أهاتف من الجن؟ أم عبد صالح جعل اللَّه لك في هذا الجبل رزقا؟ حدثنا ما حالك؟ أرنا وجهك، قال: فانشق الجبل عن رأس كأن هامته رحى، شديد بياض الرأس واللحية، عليه ثياب الصوف، فقال: أنا زريب بن يرثلمي وصيّ العبد الصالح عيسى ابن مريم، سألته فطلب إلى ربه حين رفع، فوهب لي عمرا إلى أن يهبط عليّ. فإن لي في هذا الجبل رزقا، فأقرئ عمر بن الخطاب السلام وقل: سدّد
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(3/382)


وقارب وأبشر، حضر الأمر ونعم العبد أنت.
ثم انسدّ الجبل فنادوا كثيرا فلا جواب، فأخبر نضلة سعدا فكتب بذلك سعد إلى عمر رضي اللَّه عنه فأجابه: يا سعد، ذاك رجل من أوصياء عيسى ابن مريم عليه السلام، أعطى فيها رزقا وعمرا فسل عنه، فركب سعد فأقام بفناء الجبل أربعين يوما فلم يجب بشيء، فكتب سعد بذلك إلى عمر رضي اللَّه عنه.
ورواه الواقدي: حدثني عبد العزيز بن عمر، حدثنا جعونة بن نضلة قال:
كنت في الجبل يوم فتح حلوان، فطلبنا المشركين في الشعب فأمعنّا فيه، فحضرت الصلاة فانتهيت إلى ماء فنزلت [عن فرسي] [ (1) ] فأخذت بعنانه، فتوضأت ثم صعدت صخرة فأذّنت، فلما قلت: اللَّه أكبر اللَّه أكبر.. فذكره.
وقد روى من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر تفرد [به] [ (2) ] عبد الرحمن الراسبي وفيه ضعف ولين.
وله من حديث إسحاق بن أبي إسحاق الشيبانيّ عن أبيه عن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام عن أبيه قال: إني أجد فيما أقرأ من الكتب أنه ترفع راية بمكة، اللَّه مع صاحبها، وصاحبها مع اللَّه، يظهره اللَّه على جميع القرى.
وقال أبو محمد عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة: إعلام نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم الموجودة في كتب اللَّه المتقدمة، قول اللَّه عز وجل في السفر الأول من التوراة لإبراهيم عليه السلام:
قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وكثّرته وعظّمته جدا جدا، وسيلد اثنى عشر عظيما، وأجعله لأمة عظيمة، ثم أخبر موسى عليه السلام مثل ذلك في السفر وزاد فقال: لما هربت من سارة تراءى لها ملك اللَّه وقال: يا هاجر أمة سارة! ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإنّي سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصوا كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه إسماعيل، لأن اللَّه قد سمع خشوعك، وتكون يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع. [ (3) ]
__________
[ (1) ] في (خ) : «عرفوسي» .
[ (2) ] في (خ) : «عنه» .
[ (3) ] (العهد القديم) : سفر التكوين، الإصحاح السادس عشر، وفيه: 7- فوجدها ملاك الرب على

(3/383)


قال ابن قتيبة: فتدبّر هذا القول فإن فيه دليلا بينا على أن المراد به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، لأن إسماعيل لم تكن يده فوق يد إسحاق، ولا كانت يد إسحاق مبسوطة إليه بالخضوع، وكيف يكون ذلك والنبوة والملك في ولد إسرائيل والعيص، وهما ابنا إسحاق؟ فلما بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم انتقلت النبوة إلى ولد إسماعيل، فدانت له الملوك وخضعت له الأمم، ونسخ اللَّه به كل شرعة، وختم به النبيين، وجعل الخلافة والملك في أهل بيته إلى آخر الزمان، فصارت أيديهم فوق أيدي الجميع، وأيدي الجميع مبسوطة بالخضوع، قال:
***
__________
[ () ] عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور* 8- وقال يا هاجر جارية ساراى من أين أتيت وإلى أين تذهبين. فقالت: أنا هاربة من وجه مولاتي ساراى* 9- فقال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يدها* 10- وقال لها ملاك الرب: تكثيرا أكثّر نسلك فلا يعد من الكثرة* 11- وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك* 12- وإنه يكون إنسانا وحشيا. يده على كل واحد ويد كل واحد عليه. وأمام جميع إخوته يسكن» .

(3/384)


ومن إعلامه في التوراة
قال: جاء اللَّه من سيناء، وأشرق من ساعير [ (1) ] ، واستعلن من جبال فاران [ (2) ] ، وليس بهذا خفاء على من يدبّره ولا غموض، لأن مجيء اللَّه من سيناء:
إنزاله التوراة على موسى عليه السلام بطور سيناء هو عند أهل الكتاب وعندنا، لذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح عليه السلام الإنجيل، وكان المسيح يسكن ساعير بأرض الجليل بقرية تدعى ناصرة وباسمها سمي من اتبعه نصارى، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران بإنزال القرآن على محمد صلى اللَّه عليه وسلّم في جبال فاران وهي جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر من تحريفهم وإفكهم.
قلنا: ليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران، وقلنا: دلونا على الموضع الّذي استعلن اللَّه منه واسمه فاران والنبي الّذي أنزل اللَّه عليه كتابا بعد المسيح، أوليس استعلن وعلن بمعنى واحد، وهما ظهر وانكشف؟ فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟
__________
[ (1) ] ساعير، سعير: كلمة عبرانية معناها «كثير الشعر» ، وهي اسم الأرض التي كان يسكنها الحواريون، ثم استولى عليها (عيسو) ونسله، وكانت تسمى أيضا جبل سعير، لأنها أرض جبلية على الجانب الشرقي من البرية العربية، ويصل ارتفاع أعلى قمة في هذه الأرض 1600 مترا، وهي قمة جبل هور.
وساعير أيضا جبل في أرض يهوذا، بين قرية يعاريم وبيت شمس، وربما كانت سلسلة الجبال التي تقع عليها قرية ساريس إلى الجنوب الغربي من قرية يعاريم، وإلى الشمال الغربي من أورشليم، ولا زالت آثار الغابات التي كانت تنمو فوقه موجودة إلى اليوم. (قاموس الكتاب المقدس) : 466- 467.
[ (2) ] جبال فاران: برية واقعة إلى جنوب جبل يهوذا وشرق برية بئر سبع وشور. (المرجع السابق) : 667.

(3/385)


ومن إعلامه في التوراة أيضا
قال اللَّه لموسى في السفر الخامس: إني أقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك، أجعل كلامي على فمه، فمن إخوة بني إسرائيل إلا بنو إسماعيل كما تقول بكر وتغلب أبناء وائل، ثم تقول: تغلب أخو بكر، وبنو تغلب إخوة بني بكر، ترجع في ذلك إلى إخوة الأبوين، فإن قالوا: إن هذا النبي الّذي وعد اللَّه نقيمه لهم هو أيضا من بني إسرائيل، لأن بني إسرائيل إخوة بني إسرائيل، كذبتهم التوراة وألد بهم النظر، لأن في التوراة أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى، وأما النظر:
فإنه لو أراد إني أقيم لهم نبيا من بني إسرائيل مثل موسى لقال: أقيم لهم من أنفسهم مثل موسى ولم يقل: من إخوتهم، كما أن رجلا لو قال لرسوله: ائتني برجل من إخوة بكر بن وائل لكان يجب أن يأتيه برجل من بني تغلب بن وائل، ولا يجب أن يأتيه برجل من بني بكر.
قال: ومن قول حبقوق [ (1) ] المتنبي في زمن دانيال قال حبقوق: وجاء اللَّه من [اليتير] [ (2) ] ، والتقديس من جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميده وتقديسه، وملك الأرض بيمينه ورقاب الأمم.
وقال أيضا: تضيء له الأرض، ومحمد خيله في البحر، قال: وزادني بعض أهل الكتاب أنه قيل في كلام حبقوق: وستنزع في قسيك إغراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء، وهذا إفصاح باسمه وصفاته، فإن ادعوا غير نبينا وليس ينكر ذلك من جحودهم وتحريفهم، فمن أحمد هذا الّذي امتلأت الأرض من تحميده، والّذي جاء من جبال فاران فملك الأرض ورقاب الأمم؟ قال:
***
__________
[ (1) ] يبدو أن (حبقوق) تنبأ أثناء حكم يهويا قيم (607- 597 ق. م.) لكن من الصعب تعيين العصر بدقة، ويعتقد غالبية النقاد أن النبوة ترجع إلى زمن وقوع معركة كركميش (بين الكلدانيين والمصريين 605 ق. م.) ويعتقد آخرون أن تاريخ النبوة كان قبل تلك المعركة بزمن وجيز (قاموس الكتاب المقدس) : 288، وفيه أن حبقوق كان سبط لاوي.
[ (2) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه، ويتير: اسم عبري معناه «رفعه» وهي مدينة في جبال اليهودية خصصت للكهنة (المرجع السابق) : 1053.

(3/386)


ومن ذكر شعيا له
قال شعيا عن اللَّه تعالى: عبدي الّذي سرت به نفسي، وفي ترجمه أخرى قال: عبدي خيرتي رضى نفسي أفيض عليه روحي، وفي ترجمة أخرى قال: أنزل عليه وحيي فيظهر في الأرض [وفي] [ (1) ] الأمم عدله، ويوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، ويسمع الآذان الصم، ويحي القلوب الغلف، وما أعطيته لا أعطي غيره، أحمد يحمد اللَّه حمدا، حديثا يأتي من أقصى الأرض، يفرح البرية وسكانها، يهللون اللَّه على كل شرف، ويكبرونه على كل رابية.
وزاد آخر في الترجمة: لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى، ولا يسمع في الأسواق صوته، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوى به الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهم نور اللَّه الّذي لا يطفأ ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجتي ويقطع به العذر، وإلى توراته تنقاد الجن، وهذا إيضاح باسمه وصفاته. فإن قالوا: أي توراة له؟ قلنا: أراد أنه يأتي بكتاب يقوم مقام التوراة لكم. ومنه قول كعب: شكا بيت المقدس إلى اللَّه عز وجل الخراب، فقيل له: لأبدلنّك توراة محدثة، وعمالا محدثين، يدفون بالليل دفيف النسور، ويتحنّنون عليك تحنّ الحمامة على بيضها، ويملئونك خدودا سجدا. قال ابن قتيبة:
***
__________
[ (1) ] زيادة للسياق..

(3/387)


ومن ذكر شعيا له
قال: أنا اللَّه عظمتك بالحق وأيدتك، وجعلتك نور الأمم وعهد الشعوب، لتفتح أعين العميان وتنقذ الأسرى من الظلمات إلى النور، وقال في الفصل الخامس من إليا: إن سلطانه على كتفه- يريد علامة نبوته- هذا في التفسير السرياني، وأما في العبراني فإنه يقول: إن على كتفه علامة النبوة.
قال ابن قتيبة: ومن ذكر داود عليه السلام له في الزبور: سبحوا الرب تسبيحا حديثا، سبحوا الّذي هيكله الصالحون، ليفرح إسرائيل بخالقه، وبيوت صهيون من أجل أن اللَّه اصطفاه لكرامته، وأعطاه النصر، وسدد الصالحين منهم بالكرامة، يسبحون على مضاجعهم، ويكبرون اللَّه بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقموا للَّه من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال، قال: فمن هذه الأمة التي سيوفها ذات شفرتين غير العرب؟ ومن المنتقم بها من الأمم الذين لا يعبدون اللَّه؟ ومن المبعوث بالسيف من الأنبياء غير نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم؟ ومن خرت الأمم تحته غيره؟ ومن قرنت شرائعه بالهيبة، فإما القبول أو الجزية أو السيف ونحوه، فقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: نصرت بالرعب.
قال: وفي مزمور آخر: أن اللَّه أظهر من صهيون إكليلا محمودا، قال:
ضرب الإكليل مثلا للرئاسة والأمانة، ومحمود هو محمد صلى اللَّه عليه وسلّم. قال: وفي مزمور آخر: من صفته أنه يجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، أنه تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، ويلحس أعداؤه التراب، تأتيه الملوك بالقرابين وتسجد له، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، وليخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الّذي لا ناصر له، ويرأف بالضعفاء والمساكين، وأنه يعطي من ذهب من بلاد سبإ، ويصلي عليه ويبارك في كل يوم، ويدوم ذكره إلى الأبد.
قال ابن قتيبة: فمن هذا الّذي ملك ما بين البحر والبحر، وما بين دجلة

(3/388)


والفرات إلى منقطع الأرض، ومن ذا الّذي يصلي عليه ويبارك في كل وقت من الأنبياء غيره صلى اللَّه عليه وسلّم؟. قال: وفي موضع آخر من الزبور قال داود: اللَّهمّ ابعث صاحب إنه بشر، وهذا إخبار عن المسيح وعن محمد صلى اللَّه عليهما قبلهما بأحقاب، يريد: ابعث محمدا حتى يعلّم الناس أن المسيح بشر لعلم داود أنهم سيدّعوا في المسيح ما ادّعوا.
قال: وفي كتاب أشعيا قيل: قم فانظر ترى فخبّر به، قلت: أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل، يقول أحدهما للآخر: سقطت بابل وأصنامها المبخرة، قال: فصاحب الحمار عندنا وعند النصارى المسيح، فإذا كان صاحب الحمار المسيح فلم لا يكون محمد صلى اللَّه عليه وسلّم صاحب الجمل؟ أو ليس سقوط بابل والأصنام المبخرة به وعلى يديه لا بالمسيح؟ ولم يزل في إقليم بابل ملوك يعبدون الأوثان من لدن إبراهيم عليه السلام؟ أو ليس هو بركوب الجمل أشهر من المسيح بركوب الحمار؟.
قال ابن قتيبة: فأما ذكر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في الإنجيل: فقد قال المسيح للحواريين:
أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط [ (1) ] روح الحق الّذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما هو كما يقال له وهو يشهد عليّ وأنتم تشهدون، لأنكم مع من قتل الناس، فكل شيء أعده اللَّه لكم يخبركم به. قال:
***
__________
[ (1) ] في بعض كتب النصارى: «البارقليط»

(3/389)


وفي حكاية يوحنا عن المسيح
أنه قال: الفارقليط لا يجيئك ما لم أذهب، فإذا جاء سبح العالم من الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه مما يسمع به يكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب.
وفي حكاية أخرى: أن الفارقليط [ (1) ] روح الحق الّذي يرسله أبي باسمي هو يعلمكم كل شيء، وقال: إني سائل أبي أن يبعث إليكم فارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد، وهو يعلمكم كل شيء.
وفي حكاية أخرى: أن البشر ذاهب والفارقليط من بعده، يجيء لكم الأسرار ويقر لكم [كل] شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإنّي أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل.
قال ابن قتيبة: وهذه الأشياء على اختلافها متقاربة، وإنما اختلفت لأن من نقل الإنجيل عن المسيح عليه السلام عدة، فمن هذا الّذي هو روح الحق سبحانه، الّذي لا يتكلم إلا بما يوحى إليه؟ ومن العاقب للمسيح والشاهد له بأنه قد بلّغ؟
ومن الّذي أخبر بالحوادث في الأزمنة مثل خروج الدجال، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه هذا؟ وأخبر بالغيوب من أمر القيامة والحساب، والجنة والنار، وأشباه ذلك مما لم يذكر في التوراة والإنجيل غير نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم؟ وقال:
***
__________
[ (1) ] في بعض كتب النصارى: «البارقليط»

(3/390)


وفي إنجيل متى
أنه لما حبس يحيى بن زكريا ليقتل، وبعث تلاميذه إلى المسيح وقال لهم: قولوا له: أنت هو الآتي، أو يتوقع غيرك؟ فأجابه المسيح وقال: الحق أقول لكم، أنه لم تقم النساء عن أفضل من يحيى بن زكريا، وأن التوراة وكتب الأنبياء يتلو بعضها بعضا بالنّبوّة والوحي حتى جاء يحيى، فأما الآن فإن شئتم فأقبلوا أن الياهو مزمع أن يأتي، فمن كانت له أذنان سامعتان فليستمع.
قال ابن قتيبة: وليس يخلو هذا الاسم من إحدى خلال: إما أن يكون قال:
إن أحمد مزمع أن يأتي، فغيروا الاسم كما قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [ (1) ] ، وجعلوه إلياهو، وإما أن يكون قال: إن إيل مزمع أن يأتي، وإيل هو اللَّه عز وجل، ومجيء اللَّه مجيء رسوله بكتابه، كما قال في التوراة: جاء اللَّه من سيناء، فمعناه: جاء موسى من سيناء بكتاب اللَّه، ولم يأت كتاب بعد المسيح إلا القرآن، وإما أن يكون أراد النبي المسمى بهذا الاسم، وهذا لا يجوز عندهم لأنهم مجمعون على أن لا نبي بعد المسيح.
قال ابن قتيبة: وقد وقع ذكر مكة والبيت والحرم في الكتب المتقدمة فقال في كتاب شعيا: أنه ستمتلي البادية والمدن من قصور قيدار يسبحون، ومن رءوس الجبال ينادون، هم الذين يحصلون للَّه الكرامة، ويبثون تسبيحه في البر والبحر، وقال: ارفع علما بجميع الأمم من بعيد، فيصفر بهم من أقاصي الأرض، فإذا هم سراع يأتون.
قال ابن قتيبة: وبنو قيدار هم العرب، لأن قيدار بن إسماعيل بإجماع الناس، والعلم الّذي يرفع هو النبوة، والصفير بهم: دعاؤهم من أقاصي الأرض للحج، فإذا هم سراع يأتون، وهو قول اللَّه تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [ (2) ] ، وقال في موضع آخر من كتاب
__________
[ (1) ] 13: المائدة.
[ (2) ] 27: الحج.

(3/391)


شعيا: سأبعث من الصبا قوما فيأتون من المشرق مجيبين بالتلبية أفواجا، كالصعيد كثرة، ومثل الطيان تدوس برجله الطين، والصبا تأتي من مطلع الشمس، يبعث عز وجل من هناك قوما من أهل خراسان وما صاقبها، وممن هو نازل بمهب الصبا فيأتون مجيبين بالتلبية أفواجا كالتراب كثرة ومثل الطيان يدوس برجله الطين، يريد أن منهم رجاله كالين، وقد يجوز أن يكون أراد الهرولة إذا طافوا بالبيت.
قال ابن قتيبة: وقال في ذكر الحجر المسلم: قال شعيا: قال الرب السيد:
ها أنا ذا مؤسس بصهيون، وهو بيت اللَّه حجرا في زاوية مكة، والحجر في زاوية البيت، والكرامة أن يستلم ويلثم.
وقال شعيا في ذكر مكة: سرّى واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد، وانطقي بالتسبيح وافرحي إن لم تحبلي، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي، يعني بأهله:
أهل بيت المقدس من بني إسرائيل، [أو] أراد أن أهل مكة يكون ممن يأتيهم من الحجاج والعمار أكثر من أهل بيت المقدس، فأشبه مكة بامرأة عاقر لم تلد، لأنه لم يكن فيها قبل نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم إلا إسماعيل وحده، ولم ينزل بها كتاب، ولا يجوز أن يكون أراد بالعاقر بيت المقدس لأنه بيت الأنبياء ومهبط الوحي، ولا يشبه بالعاقر من النساء.
وفي كتاب شعيا أيضا من ذكر مكة: قد أقسمت بنفسي كقسمي أيام نوح ألا أغرق الأرض بالطوفان كذلك أقسمت أن لا أسخط عليك ولا أرفضك، وأن الجبال تزول، والقلاع تنحط، ونعمتي عليك لا تزول، ثم قال: يا مسكينة يا مضطهدة، ها أنا ذا بان، بالحسن حجارتك ومزينك بالجوهر، ومكلل باللؤلؤ سقفك، وبالزبرجد أبوابك، وتبعدين من الظلم ولا تخافين، ومن الضعف لا تضعفي، وكل سلاح يصنع لا يعمل فيك، وكل لسان ولغة يقوم معك بالخصومة تفلحين معها.
ثم قال: وسيسميك اللَّه اسما جديدا- يريد أنه سمى المسجد الحرام وكان قبل ذلك يسمى الكعبة- فقومي فأشرقي، فإنه قد دنا نورك ووقار اللَّه عليك، انظري بعينك حولك، فإنهم مجتمعون، يأتوك بنوك وبناتك عدوا، فحينئذ تسرين

(3/392)


ويخاف قدرك ويتبع قلبك، وكل غنم قيدار مجتمع إليك، وسادات نباوث يخدمونك (ونباوث هو ابن إسماعيل، وقيدار أبو النبي صلى اللَّه عليه وسلّم هو أخو نباوث) .
ثم قال: وتفتح أبوابك دائما الليل والنهار لا تغلق، وتتخذونك قبلة، وتدعون بعد ذلك مدينة الرب (أي بيت اللَّه تعالى) .
وقال أيضا: ارفعي إلى ما حولك بصرك تبتهجين وتفرحين من أجل أنه تميل إليك ذخائر البحر، ويحج إليك عساكر الأمم حتى تعمرك قطر الإبل الموبلة، وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك، وتساق إليك كباش مدين، ويأتيك أهل سبإ، ويسير إليك بأغنام قاذار، ويخدمك رجالات نباوث (يعني سدنة البيت، أنهم من ولد نباوث بن إسماعيل) . قال ابن قتيبة:
***

(3/393)


وذكر شعيا طريق مكة فقال:
عن اللَّه عز وجل: أني أعطي البادية كرامة وبها الكرمان، ولبنان وكرمان الشام وبيت المقدس، يعني أريد الكرامة التي كانت هناك بالوحي وظهور الأنبياء للبادية بالحج وبالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، ويشق في البادية مياه وسواقي أرض الفلاة، ويكون الفيافي والأماكن العطاش ينابيع ومياها، ويصير هناك محجة فطريق الحريم لا يمر به أنجاس الأمم، والجاهل به لا يصل هناك، ولا يكون به سباع ولا أسد، ويكون هناك ممر المخلصين.
وفي كتاب حزقيل أنه ذكر معاصي بني إسرائيل وشبههم بكرمة فقال: ما تلبث تلك الكرمة أن قلعت بالسخطة، ورمى بها على الأرض فأحرقت السمائم ثمارها، فعند ذلك عرشها في البدو، وفي الأرض المهملة العطش، فخرجت من أغصانها الفاضلة نار أكلت ثمار تلك حتى لم يوجد فيها عصى قوية ولا قضيب.
قال ابن قتيبة: وذكر الحرم في كتاب شعيا فقال: إن الذئب والحمل فيه يرعيان معا، وكذلك جميع السباع لا تؤذي ولا تفسد في كل حرمي، ثم ترى بذلك الوحش إذا خرجت من الحرم عاودت الذعر وهربت من السباع، وكان السبع في الطلب والحرص في الصيد كما كان قبل دخوله الحرم.
قال: وذكر أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وذكر يوم بدر فقال شعيا وذكر قصة العرب ويوم بدر: ويدوسون الأمم كدياس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب ويهزمون، ثم قال: ينهزمون بين يدي سيوف مسلولة، وقسيّ موتورة، ومن شدة الملحمة.
قال ابن قتيبة: فهذا ما في كتب اللَّه المتقدمة الباقية في أيدي أهل الكتاب، يتلونه ولا يجحدون ظاهره، ما خلا اسم نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فإنّهم لا يسمحون بالإقرار به تصريحا، ولن يخفى ذلك عنهم، لأن اسم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالسريانية عندهم مشفح، ومشفح هو محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون شفحا لإلاهيا إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد للَّه.

(3/394)


فإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد، لأن الصفات التي أقروا أنها هي وفاق لأحواله وزمانه ومخرجه ومبعثه وشرعته فليدلونا على من له هذه الصفات، ومن خرت الأمم بين يديه وانقادت لطاعته، واستجابت لدعوته، ومن صاحب الجمل الّذي هلكت بابل وأصنامها به، وأن هذه الأمة من ولد قيدار بن إسماعيل الذين ينادون من رءوس الجبال بالتلبية والأذان، والذين نشروا تسبيحه في البر والبحر، هيهات أن يجدوا ذلك إلا في محمد وأمته.
قال ابن قتيبة: ولو لم تكن هذه الأخبار في كتبهم بدليل قوله تعالى الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [ (1) ] ، وقوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ (2) ] ، وقوله: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [ (3) ] ، وقوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [ (4) ] ، وكيف جاز لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يحتج عليهم بما ليس عندهم ويقول: من علامة نبوتي أنكم تجدوني مكتوبا عندكم، ولا تجدونه وقد كان عيبا أن يدعوهم بما ينفرهم، ولما أيقن الحال عبد اللَّه بن سلام ومن أسلم أسلموا.
وقد ذكر يوحنا الإلهي الّذي كتب الإنجيل في كتاب اسمه الأبو علمسيس نبينا محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم وسماه: ماما ديوس، ومعنى ماما بالعبرية ميم، ومعنى ديوس ح م د، وقال ابن الجوزي: وما زال أهل الكتاب يعرفون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بصفاته ويقرون به ويعدون بظهوره، ويوصون أهاليهم بالايمان به، فلما ظهر آمن عقلاؤهم، وحمل الحسد آخرين على العناد كحيي بن أخطب، وأبو عامر الراهب، وأمية بن أبي الصلت، وقد أسلم جماعة من علماء متأخري أهل الكتاب، وصنفوا كتبا يذكرون فيها صفاته التي في التوراة والإنجيل، فالعجب ممن يتيقن وجود الحق ثم يحمله الحسد على الرضا بالخلود في النار.
***
__________
[ (1) ] 157: الأعراف.
[ (2) ] 70- 71: آل عمران.
[ (3) ] 146: البقرة.
[ (4) ] 43: الرعد.

(3/395)


وأما سماع الأخبار بنبوّته من الجنّ وأجواف الأصنام ومن الكهّان
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث عبيد اللَّه بن عمرو بن محمد بن عقيل عن جابر رضي اللَّه عنه قال: أول خبر قدم المدينة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع فجاء في صورة طائر فوقع على حائط [ (1) ] دارها فقالت:
انزل بخبرنا وبخبرك، قال: إنه بعث بمكة نبي منع منا القرار وحرم علينا الزنا [ (2) ] .
وخرج من حديث الزهري عن علي بن الحسين قال: إن أول خبر قدم المدينة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من امرأة تدعى فاطمة بنت النعمان النجارية كان لها تابع فجاءها ذات يوم فقام على الجدار، فقالت: انزل، قال: لا، قد بعث الرسول الّذي حرم الزنا.
ومن حديث أشعث بن شعبة عن أرطاة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول:
كانت امرأة بالمدينة يغشاها جان، فكان يتكلم ويسمعون صوته، قال: فغاب [ (3) ] فلبث ما لبث فلم يأتها ولم يختلف إليها، فلما كان بعد إذ هو يطلع من كوة فنظرت إليه فقالت: يا ابن لوذان! ما كانت لك عادة تطلع من الكوة فما بالك؟ فقال:
إنه خرج نبي بمكة وإني سمعت ما جاء به فإذا هو يحرم الزنا، فعليك السلام [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «الحائط لهم» ، «ألا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك وتخبرنا ونخبرك؟ قال لها:
إنه قد بعث نبيّ بمكة حرم الزنا ومنع منا القرار» .
[ (2) ] المرجع السابق: 1/ 107، حديث رقم (56) ، أخرجه ابن سعد في (الطبقات) : 1/ 189، وأحمد، والطبراني في الأوسط، والبيهقي، كلهم عن جابر، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 8/ 243: ورجاله وثقوا.
[ (3) ] ف (خ) : «فغاب بعد» .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 107، حديث رقم (57) ، قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 285:
أخرجه أبو نعيم عن أرطاة بن المنذر

(3/396)


ومن حديث الواقدي قال: حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: قال عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه: خرجنا في عير إلي الشام قبل [ (1) ] مبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما كنا بأفواه الشام وبها كاهنة، فتعرضنا لها فقالت: أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت: ألا تدخل؟ فقال: لا سبيل إلى ذلك، خرج أحمد بمكة [ (2) ] يدعو إلى اللَّه [ (3) ] .
قال الواقدي: وحدثني محمد بن عبد اللَّه عن الزهري قال: كان الوحي يسمع، فلما كان الإسلام منعوا، وكانت امرأة من بني أسد يقال لها سعيدة، لها تابع من الجن، فلما رأى الوحي لا يستطاع أتاها فدخل في صدرها يصيح فذهب عقلها، فجعل يقول من صدرها: وضع العناق [ (4) ] ، ورفع الرفاق [ (5) ] ، وجاء أمر لا يطاق، أحمد حرم الزنا.
قال الواقدي: وحدثنا أبو داود سليمان بن سالم عن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي، أن رجلا مر على مجلس بالمدينة فيه عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه فنظر إليه فقال: أكاهن أنت؟ قال: يا أمير المؤمنين! هدي بالإسلام كل جاهل، ودفع بالحق كل باطل، وأقيم بالقرآن كل مائل، وغني بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم كل عائل، فقال عمر: متى عهدك بها؟ - يعني صاحبته- قال: قبيل الإسلام، أتتني فصرخت: يا سلام يا سلام، الحق المبين والخير الدائم، خير حلم النائم، اللَّه أكبر.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين! أنا أحدثك مثل هذا، واللَّه إنا لنسير في «دويّة» [ (6) ] ملساء لا يسمع فيها إلا الصدى، إذ نظرنا فإذا راكب مقبل أسرع
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «قبل أن يبعث» .
[ (2) ] في المرجع السابق: «خرج أحمد، وجاء أمر لا يطاق، ثم انصرفت فرجعت إلى مكة، فوجدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد خرج بمكة يدعو إلى اللَّه عزّ وجلّ» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 1/ 108، حديث رقم (58) ، قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 258:
أخرجه أبو نعيم، وفيه الواقدي، وهو متروك.
[ (4) ] العناق: الكذب الفاحش. (القاموس المحيط) : 10/ 276.
[ (5) ] الرفاق: النزع إلى الهوى (المرجع السابق) : 10/ 119.
[ (6) ] في (خ) : «دواية» . والدوية مؤنث الدّوّ، وهو الفلاة الواسعة، أو المستوية من الأرض. (المرجع السابق) : 14/ 276.

(3/397)


من الفرس حتى كان منا على قدر ما يسمعنا صوته، قال: يا أحمد، يا أحمد، اللَّه أعلى وأمجد، أتاك ما وعدك من الخير يا أحمد، ثم ضرب راحلته حتى أتى من ورائنا، فقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: الحمد للَّه الّذي هدانا بالإسلام وأكرمنا.
فقال رجل من الأنصار: أنا أحدثك يا أمير المؤمنين مثل هذا وأعجب، قال عمر: حدّث، قال: انطلقت أنا وصاحبان لي نريد الشام حتى إذا كنا بقفرة من الأرض نزلنا بها، فبينا نحن كذلك لحقنا راكب وكنا أربعة قد أصابنا سغب [ (1) ] شديد فالتفت فإذا أنا بظبية عضباء [ (2) ] ترتع قريبا مني، فوثبت إليها، فقال الرجل الّذي لحقنا: خلّ سبيلها لا أبا لك، واللَّه لقد رأيتها ونحن نسلك هذه الطرق ونحن عشرة أو أكثر من ذلك فيختطف بعضنا فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فما هاج بها أحد فأبيت وقلت: لا لعمر اللَّه لا أخلها، فارتحلنا وقد شددتها حتى إذا ذهب سدف [ (3) ] من الليل إذا هاتف يقول:
يا أيها الركب السراع الأربعه ... خلوا سبيل النافر المفزعة
خلوا عن العضباء في الوادي سعه ... لا تذبحن الظبية المروّعه
فيها لأيتام صغار منفعة
قال: فخليت سبيلها ثم انطلقنا حتى أتينا الشام، فقضينا حوائجنا ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الّذي كنا فيه هتف هاتف من خلفنا:
إياك لا تعجل وخذها من ثقه ... فإن شر السير سير الحقحقة [ (4) ]
قد لاح نجم فأضاء مشرقه ... يخرج من ظلماء ضوق [ (5) ] موبقة [ (6) ]
ذاك رسول مفلح من صدّقه ... اللَّه أعلا أمره وحققه
__________
[ (1) ] السّغب: الجوع الشديد، وفي التنزيل: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد: 14] .
[ (2) ] قال الزمخشريّ: هو منقول من قولهم: ناقة عضباء: أي قصيرة اليد.
[ (3) ] السدف: ظلمة الليل، وهو بعد الجنح. (القاموس المحيط) : 19/ 146.
[ (4) ] الحقحقة: سير الليل في أوله، وقد نهي عنه (المرجع السابق) : 10/ 58.
[ (5) ] ضوق من الضيقة، وهي منزلة للقمر، وهو مكان نحس على ما تزعم العرب (المرجع السابق) :
10/ 209.
[ (6) ] موبقة: مهلكة: (المرجع السابق) : 10/ 370.

(3/398)


وله من حديث القسم بن محمد بن بكر عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها:
أنها كانت تحدث عن عمر بن الخطاب، ومن حديث محمد بن عمران بن موسى ابن طلحة، عن أبيه طلحة قال: كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه يحدث قال: كنت جالسا مع أبي جهل وشيبة بن ربيعة، فقام أبو جهل فقال: يا معشر قريش! إن محمدا قد شتم آلهتكم وسفه أحلامكم وزعم أنه من مضى من آبائكم يتهافتون في النار تهافت الحمير، ألا ومن قتل محمدا فله عليّ مائة ناقة حمراء وسوداء، وألف أوقية من فضة.
قال عمر فقمت فقلت: يا أبا الحكم، الضمان صحيح؟ قال: نعم، عاجل غير آجل، قال عمر: فقلت: واللات والعزى؟ قال أبو جهل: نعم يا عمر فأخذ أبو جهل بيدي فأدخلني الكعبة، فأشهد عليّ هبل- وكان هبل عظيم أصنامهم- وكانوا إذا أرادوا سفرا أو حربا أو سلما أو نكاحا، لم يفعلوا حتى حتى يأتوا هبل فيستأمروا، فأشهد عليه هبل وتلك الأصنام. قال عمر: فخرجت متقلدا السيف متنكبا [ (1) ] كنانتي أريد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فمررت على عجل وهم يريدون قتله، فقمت انظر إليهم فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح بلسان فصيح، يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه! فقلت إن هذا لشأن! ما يراد بهذا إلا لحالي، ثم مررت بغنم فإذا هاتف [يهتف وهو يقول] [ (2) ] :
يا أيها الناس ذوو [ (3) ] الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام
ومسندو [ (4) ] الحكم إلى الأصنام ... فكلكم أراه كالنعام
أما ترون ما أرى أمامي ... من ساطع يجلو لذي الظلام
أكرمه الرحمن من إمام ... قد جاء بعد الكفر بالإسلام
__________
[ (1) ] في (خ) : «كانتي» ، والكنانة: بالكسر كنانة السهام، جعبة من جلد. (ترتيب القاموس) :
4/ 91.
[ (2) ] السياق مضطرب في (خ) ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] في (خ) : «ذوي» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.
[ (4) ] في (خ) : «ومسند» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.

(3/399)


وبالصلاة والزكاة والصيام ... والبر والصلوات للأرحام
ويزع [ (1) ] الناس عن الآثام ... [مستعلن في البلد الحرام] [ (2) ]
فقلت: واللَّه ما أراه إلا أن يرادني، ثم مررت بهاتف الضماد [ (3) ] وهو يهتف من جوفه فقال:
ترك الضماد [ (3) ] وكان يعبد وحده ... بعد الصلاة مع النبي محمد
إن الّذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد
سيقول من عبد الضماد ومثله ... ليت الضماد [ (3) ] ومثله لم يعبد
فاصبر أبا حفص فإنك لا مردّ ... يأتيك عزّ غير عزّ بني عدي
لا تعجلن فأنت ناصر دينه ... حقا يقينا باللسان وباليد
وتظهر دين اللَّه إن كنت مسلما ... وتسطح بالسيف الصقيل المهنّد
جماجم قوم لا يزال حلومها ... عكوفا على أصنامها بالمهنّد
قال عمر: فو اللَّه لقد علمت أنه أرادني، فجئت حتى دخلت على أختي، وإذا خبّاب بن الأرتّ عندها، وزوجها سعيد بن زيد، فلما رأوني ومعي السيف
__________
[ (1) ] في (خ) : «ويزعر» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.
[ (2) ] هذا العجز من (المرجع السابق) : 17/ 117، وهي مذكورة عقب قصة أخرى في الحديث رقم (64) ، وهي: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا المنجاب قال: حدثنا أبو عامر الأسدي عن ابن خرّبوذ المكيّ عن رجل من خثعم قال: كانت العرب لا تحرّم حلالا، ولا تحلّ حراما، وكانوا يعبدون الأوثان، ويتحاكمون إليها، فبينا نحن ذات ليلة عند وثن جلوس وقد تقاضينا إليه في شيء قد وقع بيننا أن يفرق بيننا، إذ هتف هاتف وهو يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام
ومسندو الحكم إلى الأصنام ... هذا نبيّ سيد الأنام
أعدل في الحكم من الحكام ... يصدع بالنور وبالإسلام
ويزع الناس عن الآثام ... مستعلن في البلد الحرام
قال: ففزعنا وتفرقنا من عنده، وصار ذلك الشعر حديثا، حتى بلغنا أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد خرج بمكة، ثم قدم المدينة، فجئت فأسلمت.
قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 265: وأخرجه الخرائطي وابن عساكر.
[ (3) ] الضماد: كما في (القاموس) ، (أساس البلاغة) ، (اللسان) : هو أن تصادق المرأة اثنين أو ثلاثة في القحط، لتأكل عند هذا وهذا لتشبع، ولم أدر المقصود بها في سياق الباب، ولعله اسم لصنم كان يعبد من دون اللَّه قبل بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.

(3/400)


أنكروا، فقلت لهم: لا بأس عليكم، فدخلت، فقال خباب: يا عمر! ويحك أسلم، فدعوت بالماء فأسبغت الوضوء، وسألتهم عن محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: في دار أرقم بن الأرقم، فأتيتهم فضربت عليهم الباب، فخرج حمزة بن عبد المطلب، فلما رآني والسيف صاح بي- وكان رجلا عبوبا [ (1) ]- فصحت به،
فخرج إليّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما رآني ورأى ما في وجهي عرف فقال: استجيب لي فيك يا عمر! أسلم،
[فقلت] : أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، فسر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون، وكنت رابع أربعين رجلا ممن أسلم، ونزلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ (2) ] ، فقلت: يا نبي اللَّه! اخرج، فو اللَّه لا يغلبنا المشركون أبدا، فخرجنا وكبّرنا حتى طاف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ورجعت معه، فلم أزل أقاتل واحدا واحدا حتى أظهر اللَّه الدين.
وله من حديث الواقدي عن ابن ذؤيب عن مسلم عن جندب عن النضر بن سفيان الهذلي عن أبيه قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقاء ومعان عرّسنا من الليل، فإذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض:
أيها [النيام] [ (3) ] هبّوا فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد وطردت الجنّ كل مطرد، ففزعنا ونحن رفقة حزاورة [ (4) ] كلهم قد سمع بهذا، فرجعنا إلى أهلنا فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش لنبي خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد [ (5) ] .
وله من حديث خرّبوذ عن موسى بن عبد الملك بن عمير عن أبيه عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: هتف هاتف من الجن على أبي قبيس [ (6) ] بمكة فقال:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، ولعلها «عبعابا» وهي صفة للرجل إذا كان واسع الحلق والجوف، جليل الكلام.
(لسان العرب) : 1/ 575.
[ (2) ] الأنفال: 64.
[ (3) ] في (خ) : «النيا» .
[ (4) ] جمع حزوّر، وهو الغلام إذا اشتدّ وقوى. (لسان العرب) : 4/ 187.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 108، حديث رقم (59) ، قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 259:
أخرجه ابن سعد: 1/ 161، وأبو نعيم وابن عساكر.
[ (6) ] جبل بمكة.

(3/401)


قبّح اللَّه رأي كعب بن فهر ... ما أرق العقول والأحلام
دينها أنها يعنّف فيها ... دين آبائها الحماة الكرام
حالف الجن حين يقضى [ (1) ] عليكم ... ورجال النخيل والآطام
يوشك الخيل أن تراها [ (2) ] تهادى ... تقتل القوم في بلاد التهام [ (3) ]
هل كريم منكم له نفس حرّ ... ما جد الوالدين والأعمام؟
ضارب ضربة تكون نكالا ... ورواحا من كربة واغتمام
قال [ابن عباس] [ (4) ] : فأصبح هذا الحديث قد شاع بمكة وأصبح [ (5) ] المشركون يتناشدونه بينهم، وهمّوا بالمؤمنين، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له: مسعر واللَّه يخزيه، قال: فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف على الجبل يقول:
نحن قتلنا مسعرا ... لما طغى واستكبرا
وسفه الحق وسنّ المنكرا ... قنّعته سيفا جروفا مبتّرا
بشتمه نبيّنا المطهّرا
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ذلكم عفريت من الجن يقال له سمحج سميته عبد اللَّه، آمن بي فأخبرني أنه في طلبه منذ أيام، فقال علي بن أبي طالب: جزاك اللَّه خيرا يا رسول اللَّه [ (6) ] .
وروى من حديث ابن شهاب وعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف سمعا كلاهما حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف قال: لما ظهر
__________
[ (1) ] في (خ) : «بصرى» .
[ (2) ] في (خ) : «تردها» .
[ (3) ] في (الخصائص) : 1/ 261: «في البلاد العظام» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] في المرجع السابق: «فأصبح» .
[ (6) ] (المرجع السابق) : 1/ 109- 110، حديث رقم (60) ، قال السيوطي في (الخصائص) :
1/ 261: ذكره أبو نعيم عن ابن عباس، ثم قال: وأخرج الفاكهي في (أخبار مكة) من حديث ابن عباس عن عامر بن ربيعة، فذكر مثله، وفيه موسى بن عبد الملك بن عمير، ضعّفه أبو حاتم، وذكره البخاري في كتاب (الضعفاء) .

(3/402)


- أي رسول اللَّه- صلى اللَّه عليه وسلّم قام رجل من الجن على أبي قبيس يقال له مسعر فقال:
قبّح اللَّه رأي كعب بن فهر ... ما أرقّ العقول والأحلاما
حالف الجن حين [يقضي] عليكم ... ورجال النخيل والآطاما
هل غلام منكم له نفس حرّ ... ما جد الوالدين والأعماما
فأصبحت قريش يتناشدونه بينهم، [فإذا رجل من الجن يقال له سمحج يقول:] [ (1) ]
نحن قتلنا مسعرا لما طغى واستكبرا ... بشتمه نبينا المطهرا
أوردته سيفا جروفا مبترا ... إنا نذود من أراد البطرا
فسماه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه.
ومن حديث ابن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال:
قال خزيم بن [ (2) ] فاتك لعمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه ألا أخبرك ببدء [ (3) ] إسلامي؟ بينا أنا في طلب نعم لي إذ جنّ الليل بأبرق العزاف [ (4) ] ، فناديت بأعلى صوتي: أعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهائه، وإذا هاتف يهتف بي:
عذ يا فتى باللَّه ذي الجلال ... والمجد والنّعماء والإفضال
[واقرأ بآيات] [ (5) ] من الأنفال ... ووحد اللَّه ولا [تبال] [ (6) ]
[قال:] [ (7) ] فرعت من ذلك روعا شديدا، فلما رجعت إلى نفسي قلت:
يا أيها الهاتف ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل
بين لنا هديت ما السبيل [ (8) ]
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق حيث أن السياق مضطرب في (خ) .
[ (2) ] في (خ) : «خزيم فاتك» ، في (المستدرك) : «خريم» .
[ (3) ] في (خ) : «بيدو» .
[ (4) ] ماء لبني أسد.
[ (5) ] في (خ) : «واقتن آيات» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] في (خ) : «تبالي» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.
[ (7) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (8) ] في المرجع السابق: «ما العويل» ، وما أثبتناه من (خ) ، وهو أجود للسياق.

(3/403)


قال: فقال:
هذا رسول اللَّه ذو الخيرات ... يدعو إلى الخيرات والنجاة
يأمر بالصوم والصلاة ... ويزع الناس عن الهنات
قال فأتبعت راحلتي وقلت:
أرشدني رشدا بها هديت ... لا جعت يا هذا ولا عريت
ولا صبحت صاحبا مقيت ... لا يثوينّ الخير إن ثويت [ (1) ]
قال: فأتبعني وهو يقول:
صاحبك اللَّه وسلم نفسكا ... وبلغ الأهل [وسلّم] [ (2) ] رحلكا
آمن به أفلح ربي حقكا ... وانصر نبيا عزّ ربي نصركا
قال: فدخلت المدينة فاطلعت في المسجد، فخرج إليّ أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه فقال: ادخل رحمك اللَّه، قد بلغنا إسلامك، فقلت: لا أحسن الطهور فعلّمت ودخلت المسجد،
ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر كأنه البدر وهو يقول: ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى صلاة يعقلها ويحفظها إلا دخل الجنة.
فقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه لتأتيني على هذا ببينة أو لأنكلنّ بك، قال: فشهد له شيوخ [ (3) ] قريش عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه فأجاز شهادته [ (4) ] .
***
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «هديتا» ، «عريتا» ، «مقيتا» ، «ثويتا» .
[ (2) ] في (خ) : «وأدى» .
[ (3) ] في (مجمع الزوائد) : 8/ 262: «شيخ من قريش» .
[ (4) ] أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 110- 111، حديث رقم (61) ، قال في (الخصائص) :
2/ 188: أخرجه الطبراني وأبو نعيم وابن عساكر.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 720- 721، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر خريم ابن فاتك الأسدي رضي اللَّه عنه، حديث رقم (6606/ 2204) ، (6607/ 2205) ، وساق الحديث باختلاف يسير ... إلى أن قال: فإذا هاتف يهتف بي ويقول:

(3/404)


__________
[ () ]
ويحك عذ باللَّه ذي الجلال ... منزل الحرام والحلال
ووحّد اللَّه ولا تبال ... ما هو ذو الحزم من الأهوال
إذ يذكروا اللَّه على الأميال ... وفي سهول الأرض والجبال
وما وكيل الحق في سفال ... إلا التقى وصالح الأعمال
قال: فقلت:
يا أيها الداعي بما يحيل ... رشد يرى عندك أم تضليل؟
فقال:
هذا رسول اللَّه ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات
في سور بعد مفصلات ... محرمات محلات
يأمر بالصوم والصلاة ... ويزجر الناس عن الهنات
قد كنّ في الأيام منكرات
قال: فقلت من أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا مالك بن مالك، بعثني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من أرض أهل نجده، قال: فقلت: لو كان لي من يكفيني إبلي هذه لأتيته حتى أؤمن به، فقال: أنا أكفيكها حتى أؤديها إلى أهلك سالمة إن شاء اللَّه تعالى، فاعتقلت بعيرا منها ثم أتيت المدينة فوافقت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة، فقلت: يقضون صلاتهم ثم أدخل فإنّي لذاهب أنيخ راحلتي إذ
خرج أبو ذر رضي اللَّه تعالى عنه فقال: يقول لك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أدخل، فدخلت، فلما رآني قال: ما فعل الشيخ الّذي ضمن لك أن يؤدي إبلك إلى أهلك سالمة؟ أما أنه قد أدّاها إلى أهلك سالمة، قلت:
رحمه اللَّه، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أجل رحمه اللَّه،
قال خريم: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحسن إسلامه.
قال الذهبي في التخليص: «لا يصح» .

(3/405)