إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

فصل في ذكر اشتهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة قبل بعثته بالرسالة من اللَّه تعالى إلى العباد
خرج البخاري ومسلم في حديث بدء الوحي أنه صلّى اللَّه عليه وسلم لما أتاه الوحي قال لخديجة: لقد خشيت على نفسي، وأخبرها الخبر
فقالت له: كلا، أبشر! فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، فو اللَّه إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. وفي رواية لغيرهما:
إنك لتصدق الحديث، وتصل الرحم، وتؤدي الأمانة [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث ابن إسحاق عن وهب مولى الزبير، سمعت عبد اللَّه بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدأ اللَّه به رسوله من النبوة حين جاءه جبريل، فذكره وفيه: فرجع إلى خديجة فقالت: أين كنت؟ قال: قلت: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت:
أعيذك باللَّه من ذاك، ما كان اللَّه ليصنع ذلك بك مع صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلتك رحمك [ (1) ] .
وله من حديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق [ (2) ] عن محمد بن مسلم ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة
__________
[ (1) ] (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 2/ 361، فصل في ذكر بدء الوحي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكيف تراءى الملك له، وإلقاؤه الوحي إليه، وتقريره له أنه يأتيه من عند اللَّه عزّ وجلّ، وأنه قد صار يوحى إليه نبيا ورسولا إلى الناس جميعا.
[ (2) ] سنده في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا محمد بن أحمد أبو أحمد، قال: حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن شيرويه، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قالت ...

(4/106)


رضي اللَّه تعالى عنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا [بها] [ (1) ] خير جار:
النجاشيّ، آمننا على [ (2) ] ديننا، وعبدنا اللَّه لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه.
فأرسل إلى أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فدعاهم، وكان الّذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه عنه فقال له: أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القويّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث اللَّه إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللَّه لنعبده ونوحده، ونخلع ما كان يعبده نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفحش وقول الزور، وأكل ما اليتيم، وقذف المحصنة.
وأمرنا أن نعبد اللَّه ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من اللَّه، فعبدنا اللَّه وحده فلم نشرك به شيئا، فقال النجاشي: إن هذا والّذي جاء به موسى يخرج من مشكاة واحدة [ (3) ] .
ولعظم مقدار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في نفوس قومه كان هو الّذي وضع الحجر الأسود موضعه بيده لما اختلفت قريش في وضعه،
فخرج غير واحد من الأئمة
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «جاونا خير جار» .
[ (2) ] في المرجع السابق: «أمنّا» .
[ (3) ] أخرجه أبو نعيم مطوّلا في (دلائل النبوة) : 1/ 246- 250، حديث رقم (194) ، وفي (الحلية) : 1/ 115- 117 في ترجمة جعفر بن أبي طالب، ترجمة رقم (17) ، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 285- 307، باب: الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية، وما ظهر فيها من الآيات وتصديق النجاشيّ ومن تبعه من القسيسين والرهبان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والإمام أحمد في (المسند) :
1/ 332- 334، حديث رقم (1742) ، حديث جعفر بن أبي طالب وهو حديث الهجرة، وابن هشام في (السيرة) : 2/ 176- 182، فصل إرسال قريش إلى الحبشة في طلب المهاجرين إليها.

(4/107)


حديث حماد بن سلمة وقيس وسلام كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد عن عرعرة عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما بنت قريش البيت فبلغوا موضع الحجر اختلفوا في وضعه.
فقالوا: إن أول من يطلع من الباب، قال: فطلع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: قد طلع الأمين، فبسط ثوبا ووضع الحجر وسطه، وأمر بطون قريش فأخذ كل بطن منهم طرفا من الثوب، ووضعه بيده صلّى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] .
وقد روى من طرق كثيرة عن ابن جريج ومجاهد و [معمر] [ (2) ] بن سليمان، ومحمد بن جبير بن مطعم،
وقال: هبيرة بن أبي وهب المخزومي حين جعلت قريش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حكما:
لما تشاجرت قريش الأحياء في فصل خطة ... جرت طيرهم بالنحس من سعد أسعد
فلاقوا لها بالبغض بعد مودة ... وأوقدوا نارا بينهم شرّ موقد
فلما رأينا الأمر قد جد جده ... ولم يبق شيء غير سل المهند
رضينا وقلنا العدل أول طالع ... يجيء من البطحاء على غير موعد
فلم يفجئنا إلا الأمين محمد ... فقلنا رضينا بالأمين محمد
بخير قريش كلها أمسى شيمة ... وفي اليوم مع ما يحدث اللَّه في غد
فجاء بأمر لم ير الناس مثله ... أعم وأرضى في العواقب والبدي
أخذنا بأكناف الرداء وكلنا ... له حصة من رفعه قبضة اليد
فقال ارفعوا حتى إذا ما علت به ... أكف إليه قرّ في خير مسند
فكان رضانا ذاك عنه بعينه ... وأعظم به من رأى هاد ومهتد
فتلك يد منه علينا عظيمة ... يروح بها ركب العراق ويغتدي
__________
[ (1) ] قال الحافظ أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 175: ومما يدخل في هذا الباب مما خصّ اللَّه به نبيه في الجاهلية الجهلاء، أن وفقه لوضع الحجر الأسود موضعه بيده، لما اختلفت قريش في وضعه، دلالة بصحة نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد سبق تخريج وشرح هذا الحديث.
[ (2) ] في (خ) : «سليمان بن سليمان» ، وصوابه: «معمر بن سليمان النخعي أبو عبد اللَّه الرقى» ، (تهذيب التهذيب) : 10/ 223.

(4/108)


وخرج الأئمة أيضا من طريق عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (1) ] ، نادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قريش بطنا بطنا، فقال: أرأيتم لو قلت لكم إن خيلا تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك من كذب قط، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟
تبا لك سائر اليوم، فأنزل اللَّه: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ (2) ] .
ولأبي نعيم وغيره من حديث إسرائيل [ (3) ] عن أبي إسحاق عن عمير وابن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرا، فنزل على [أبي صوان] [ (4) ] أمية بن خلف- وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد- فقال أمية لسعد: انتظر حتى [إذا] [ (4) ] انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت.
فبينا سعد يطوف بالكعبة آمنا، أتاه أبو جهل- خزاه اللَّه تعالى- فقال: من هذا الّذي يطوف بالبيت أمنا؟ فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالبيت آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟ فكان بينهما، حتى قال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي.
فقال له سعد: واللَّه لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك إلى الشام، فجعل أميه يقول لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم، يسكنه، فغضب سعد وقال: دعني عنك، فإنّي سمعت محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟
قال: نعم، قال: واللَّه ما يكذب محمد.
__________
[ (1) ] الشعراء: 214.
[ (2) ] المسد: 1، تبّ: خاب وخسر.
[ (3) ] السند في (دلائل أبي نعيم) في تعليقه على الحديث رقم (116) : فمما يقارب هذا الحديث ويوافقه، ما حدثناه سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عبد اللَّه بن رجاء، قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: ...
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .

(4/109)


فلما خرجوا رجع إلى امرأته فقال: ما علمت ما قال لي أخي اليثربي؟ فأخبرها الخبر فقالت امرأة أمية: ما يدعنا محمد.
فلما جاء الصريخ وخرجوا إلى بدر، قالت له امرأته: أما تذكر ما قال لك أخوك اليثربي؟ فأراد أن لا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف أهل الوادي فسر معنا يوما أو يومين، فسار معهم فقتله اللَّه [ببدر] [ (1) ] .
ومن حديث الأعمش عن مجاهد قال: حدثني مولاي عبد اللَّه بن السائب قال:
كنت شريك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في الجاهلية، فلما قدمت المدينة قال: تعرفني؟ قلت:
نعم، كنت شريكي، فنعم الشريك لا تداري ولا تماري [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الحديث أخرجه البخاري من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق بهذا الإسناد، ومن طريق يوسف بن إسحاق عن أبي إسحاق بهذا الإسناد أيضا، (فتح الباري) : 7/ 357- 358، كتاب المغازي، باب (2) ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من يقتل ببدر، حديث رقم (3950) . وأخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) :
1/ 178- 179.
[ (2) ] قال ابن هشام في (السيرة) : السائب بن أبي السائب شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الّذي جاء
في الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «نعم الشريك السائب لا يشاري ولا يماري» ،
وكان أسلم فحسن إسلامه فيما بلغنا واللَّه تعالى أعلم (سيرة ابن هشام) : 3/ 268، وفي هامشه: وذكر فيمن قتل من المشركين: السائب بن أبي السائب، واسم أبي السائب: صيفي بن عابد، وأنكر ابن هشام أن يكون السائب قتل كافرا، قال: وقد أسلم وحسن إسلامه، وفي الموضوع اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة، واللَّه تعالى أعلم.

(4/110)