إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر بعثة رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم
اعلم أن الناس قد اختلفوا في بعثة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فأنكرها قوم وأقرّ بها قوم، ثم اختلف المعترفون بها فجوزها البراهمة وجعلوا
العقل كافيا، وأنكر قوم كون الشرائع من عند اللَّه، وأنكر اليهود والنصارى
والمجوس رسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم واعترف بعضهم برسالته إلى العرب
فقط، ولكل فريق منهم شبهة زينها الشيطان لأوليائه من قدمائهم، وتبعهم
مقلدوهم.
(4/136)
فأمّا شبهة منكري التكليف
فقالوا: التكليف باطل، فالبعثة باطلة، أما الأولى: فلأن أفعال العباد
مخلوقة للَّه تعالى، فلا تكون مقدورة لهم، فلا يكلفون بها.
وأما الثانية: فلأنه لا فائدة في البعثة إلا توجيه التكاليف على الخلق،
فإذا كان المقصود باطلا كان المتبع أولى بالبطلان.
وأجيب: أولا: بأن أفعالهم لا تخلو عن قدرتهم واختيارهم كما يعدد في مسألة
خلق الأفعال، ولذلك يقولون: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
وإنما يلزم من عدم القدرة من جعل الخلق نفس المخلوق، وهم المعتزلة.
وأجيب: ثانيا: بمنع انحصار فائدة البعثة في توحيد التكليف كما سيأتي عند
ذكر جواز بعثة الرسل.
وأما شبهة البراهمة
فقالوا: كل ما كان حسنا فعلناه، وكل ما كان قبيحا تركناه، وما لا ندرك حسنه
ولا قبحه فإن كنا مضطرين أو محتاجين إليه اكتفينا بالقدر الرافع للضرورة
والحاجة، وإن لم يكن بنا حاجة إليه امتنعنا منه احترازا من الخطر.
وأجيب: بعد تسليم أن العقل كاف في التعريف، لكن لم لا يجوز أن يكون فائدة
البعثة تأكيد ذلك التعريف، ولهذا السبب أكثر اللَّه تعالى من الدلائل على
التوحيد، مع أن الواحد منها كاف.
(4/137)
وأما شبهة منكري كون الشرائع من عند اللَّه
قالوا: نرى الشرائع من عند اللَّه مشتملة على أشياء لا فائدة فيها، فإن
الصلاة والصوم والحج أفعال لا منفعة فيها للمعبود، وهي مصادر متاعب في حق
العابد، فكان ذلك عبثا بل سفها، وذلك لا يليق بالحكيم، فوجب أن لا تكون هذه
الشرائع من عند اللَّه تعالى، وإنما هي مكر من القدماء.
وأجيب: بمنع أنها خالية عن الحكمة والمنفعة، ولا يلزم من عدم اطلاعكم على
الحكمة عدمها.
وأما شبهة اليهود
فهي أن موسى عليه السلام لما بلّغ شرعه إلى أمته لا يخلو في تبليغه من أحد
ثلاثة أمور: إما أن يكون قد بين أنه دائم، أو بين أنه مؤقت، أو لا هذا ولا
هذا.
والثاني باطل، لأنه لو بيّن أنه منقطع وشرح ذلك لأمته لكان معلوما عندهم
على سبيل التواتر، ولو كان نقل متواترا كأصل دينه ولم يمكنهم إخفاؤه، لأن
ما علم تواترا لا يمكن إنكاره، ومعلوم أن اليهود متفقون في مشارق الأرض
ومغاربها على إنكاره.
والثالث: باطل أيضا، لأنه لو كان كذلك لوجب أن لا يجب بمقتضى شرعة موسى من
الأعمال إلا مرة واحدة، لأن مقتضى الأمر المطلق الفعل مرة واحدة لا
التكرار.
وبالإجماع هذا باطل، وإذا بين لأمته أن شرعه دائم وجب أن يكون دائما، وإلا
لزم نسبته إلى الكذب وزوال البينة عن جميع الشرائع.
وأجيب: بجواز أنه بيّن أنه منقطع محدود، وكان ذلك معلوما بالتواتر من دينه،
إلا أن قومه هلكوا بالكلية في بخت نصّر، وصار الباقي أقل من عدد التواتر،
ولا جرم انقطع هذا النقل، وسنقيم الأدلة بالحجج الواضحة على صحة دين
الإسلام وصدق محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
(4/138)
وأما بعثة الرسل هل
هي جائزة أو واجبة؟
فاعلم أن المؤمنين بالرسل اختلفوا: هل البعثة جائزة أو واجبة؟ فقال عامة
المتكلمين بعثة الرسل جائزة، وعند المحققين أنها واجبة، ولا يعنون أنها تجب
على اللَّه تعالى بإيجاب أحد ولا بإيجابه على نفسه، بل يعنون أنها متأكدة
الوجود لأنها من مقتضيات الحكمة، فيكون عدمها من باب السفه، وهو محال على
الحكيم، وهذا كما أن علم اللَّه وجوده يجب لكون عدمه يوجب الجهل، وهو محال
على العليم.
ودليل الجواز أن ورود التكليف بالإيجاب والحظر والإطلاق والمنع ممن له
الملك في مماليكه ليس مما يأباه العقل أو ندفعه الدلائل، فله أن يتصرف في
كل شخص من أشخاص بني آدم بأي شيء شاء من وجوه التصرف، منعا كان أو إطلاقا،
حظرا كان أو إيجابا، ثم يعلمهم ذلك إما بتخليق العلم فيهم أو بتخصيص بعض
عباده بالعلم من جنسهم أو من خلاف جنسهم، بإفهام صحيح أو بوحي صريح.
ودليل الواجب أن في بعثة الأنبياء من الفوائد والحكم ما لا يفى:
فمنها: تأكيد دليل العقل بدليل النقل، ومنها قطع عذر المكلف على ما قال
اللَّه تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ [ (1) ] ، وقال: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ
قَبْلِهِ لَقالُوا [ (2) ] .
ومنها: أن اللَّه عز وجل خلق الخلق محتاجين إلى الغذاء للبقاء، وإلى الدواء
للسقام ولحفظ الصحة وإزالة العلل العارضة، وخلق السموم القاتلة، والعقل لا
يقف عليها، والتجربة لا تفي بمعرفتها إلا بعد الأدواء، ومع ذلك فيها خطر،
وفي بعثة الأنبياء معرفة طبائعها من غير خطر.
ومنها: لو فوض كيفية العبادة إلى الخلق لجاز أن تأتي كل طائفة بوضع خاص، ثم
أخذوا يتعصبون لها، فيقضي إلى الفتن.
ومنها: أن ما يفعله الإنسان بمقتضى عقله يكون كالفعل المعتاد، والمعتاد لا
يكون عبادة بخلاف ما يفعله امتثالا فإنه يكون محض العبادة، ولذلك ورد الأمر
بالأفعال الغريبة كالحج، والمقادير التي لا تفعل في غير ذلك.
__________
[ (1) ] النساء: 165.
[ (2) ] طه: 134، وتمامها لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا
رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى.
(4/139)
وأما الأدلة على صحة دين الإسلام وصدق
نبينا محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
فأحدهما:
أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم ادعى النبوة وظهرت المعجزة على وفق دعواه،
وكل من كان كذلك كان رسول اللَّه حقا، فمحمد رسول اللَّه حقا، أما دعواه
النبوة فمتواترة أيضا لو لم يدّع النبوة لما كان لنزاع الخصم فائدة، وأما
ظهور المعجزة فلأنه أتى بالقرآن وهذا متواتر أيضا.
وأما أن القرآن معجزة فلأنه تحدى البلغاء، بل الجن والإنس بمعارضته على
أبلغ الوجوه فقال: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ (1) ] ، ثم زاد في التحدي فقال:
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [ (2) ] ، ثم بالغ فقال:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] ، وعجزوا عن معارضته وإلا لم
يقابلوه، لأنه المعارضة أسهل.
وأما أن كل من أتى بالمعجزة كان صادقا فلا نعلم يقينا أن اللَّه تعالى سامع
لدعواه، وأن ما ظهر على يده خارج عن مقدور البشر، فإذا ادّعى الرسالة ثم
قال: إلهي، إن كنت صادقا في دعواي الرسالة فأفلق البحر وشق القمر أو غير
ذلك مما لا يقدر عليه إلا اللَّه عز وجل ففعل ذلك عقيب سؤاله فعلمنا
بالضرورة أنّه صدّقه في دعواه.
كما أنّا نقطع بأن رجلا لو قال لقوم: أنا رسول فلان الملك إليكم، ودليل
صدقي أنه يخرق على عادته الفلانية لأجلي، مثل أن يقوم عن سريره أو ينزل عن
مركبه فيمشي لأجلي، أو ينزع تاجه فيجعله على رأسي، فوجد ذلك من الملك دلّ
على صدق مدعي الرسالة.
واعترض عليه بوجوه: أحدهما: لم لا يجوز إظهار المعجزة على يد المتنبئ؟
وأجيب: بأنه لا فائدة فيه إلا تكليف اللَّه الخلق بما يخبرهم الكاذب به،
ولا شك أنه تعالى قادر على أن يكلفهم بذلك على يد صادق، فعدوله عن تكليف
الخلق على يد رسول من عنده إلى تكليفهم على يد الكذاب خال عن الحكمة
بالضرورة.
__________
[ (1) ] الإسراء: 88.
[ (2) ] هود: 13.
[ (3) ] البقرة: 23.
(4/140)
وأجاب بعضهم بأن في إظهار المعجزة على يد
الكاذب إضلال [الخلق] وترك [مصلحتهم] ، ورد هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لو فرض جواز إظهار المعجزة على يد المتنبئ لم يكن فيه إضلال
الخلق بل هدايتهم، لأن إظهار المعجزة والحالة هذه تكون أمرا لهم بما جاءهم
به المتنبئ، وأمر اللَّه هداية لا إضلال.
والثاني: أن إضلال الخلق وترك [مصلحتهم] إنما لا يجوز إذا لم يكن فيه حكمة،
وعدم الحكمة غير معلوم.
الاعتراض الثاني: أن المعجزة تشتبه بالسحر، فلا تدل على الصدق، ورد بالفرق
بأن التعليم يدخل السحر دون المعجزة.
وبأن المعجز هو الّذي لا يأتي أحد من المبارزين والمنازعين بمثله، [إما]
لأنه ليس في قوته وإما بمنع اللَّه له عزّ وجلّ، والسحر ليس كذلك.
وبأن السحر لا يكون إلا باقتراح المقترحين، بل بحسب ما يعرفه الساحر بخلاف
معجزات الأنبياء.
وبأن آثار المعجزات حقيقية، كشبع الجماعة من الطعام اليسير، وريهم بالماء
القليل، والتزود منها للمستقبل من الزمان، بخلاف السحر فإنه تخييلات لا
تروج إلا في أوقات مخصوصة وأمكنة مخصوصة، على أن أحدا من العقلاء لم يجوز
انتهاء السحر إلى الموتى، وقلب العصا ثعبانا، وفلق البحر، وشق القمر،
وإبراء الأكمه والأبرص ونحوها، ولهم اعتراضات كلها [افتراضات] [ (1) ]
بنوها على نفي الفاعل المختار، فلذلك أعرضت عنها.
__________
[ (1) ] هذه الكلمة لم أجد لها توجيها في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب
السياق.
(4/141)
الحجة الثانية
محمد صلّى اللَّه عليه وسلم إما ملك ما حق أو نبي صادق، ولكنه ليس ملكا
ماحقا، فهو نبي صادق، وإنما قلنا: إما ملك أو نبي لأنه لا قائل بقول ثالث،
إذ الخصم وهو اليهود والنصارى- خزاهم اللَّه- يزعمون أن رب العالمين- تعالى
عن قولهم- أرسل ملكا ظالما فادعى النبوة وكذب على اللَّه، ومكث زمنا طويلا
يقول: أمرني بكذا ونهاني عن كذا، ويستبيح دماء أولياء اللَّه وأبنائه
وأحبائه، والرب تعالى يظهره ويؤيده، ويقيم الأدلة والمعجزات على صدقه،
ويقبل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه، ويقيم دولته على الظهور والزيادة، ويذل
أعداؤه أكثر من ثماني مائة سنة، وهذا منهم غاية القدح في الرب- تعالى عن
قولهم-.
ونحن نقول: إن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم كان نبيا صادقا مؤيدا من اللَّه
تعالى، فقام ناموسه بالتأييد الإلهي. وإنما قلنا: أنه ليس ملكا بل نبي صادق
لأنا علمنا بالاستقراء التام والتواتر القاطع أن ملكا من ملوك الدنيا لم
يبق ناموسه بعده بل سيفنى بموته، وإنما تبقى نواميس الأنبياء بعدهم، ثم
رأينا ناموس محمد صلّى اللَّه عليه وسلم باقيا بعده زيادة عن ثماني مائة
سنة، فعلمنا أنه من الأنبياء لا من الملوك.
(4/142)
الحجة الثالثة
نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لازمة لنبوة من قبله من الأنبياء جميعهم،
ثم قد وجد الملزوم الّذي هو نبوة الأنبياء قبله، فيجب أن يوجد اللازم وهو
نبوته، وإنما قلنا: إن نبوته لازمة لنبوة من قبله لأنا أجمعنا وإياكم على
أن المقتضى لنبوتهم إرادة اللَّه تعالى، والدليل عليها ظهور المعجز.
لكن إرادة اللَّه تعالى خفية عن البشر، لا سبيل إلى معرفتها، فبقي الطريق
إلى ثبوت النبوة منحصرا في ظهور المعجز، والعجز مشترك بينه وبينهم بما
حققناه، وإنما قلنا: إن وجود الملزوم موجب لوجود اللازم للقطع بأن ملزوما
لا لازم له محال الوجود.
(4/143)
الحجة الرابعة
محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أقرّ اليهود والنصارى في شريعته بالجزية مع
علمه بأنهم يكذبونه ويقدحون في صدقه، وما كان ذلك منه إلا مراعاة لحرمة
كتابهم وأنبيائهم، إنما علم أنهم وإن تصرّفوا فيها بالتبديل والتحريف،
فإنّهم لم يحرفوا الجميع، وإنما حرفوا ما كان تحريفه مهما عندهم، فهم على
بقايا من شرائعهم، فراعاهم لذلك وجعل عقوبة كفرهم إيقاع الجزية والصّغار
عليهم.
ومن المعلوم أنه لو كان ملكا محضا لا نبوة له لأخلى الأرض منهم على تكذيبهم
له وعدم طاعتهم، لأن هذا من شأن الملوك لا يستبقون من خشوا عاقبته، خصوصا
ولم يكن يخفى عليه أنه جنس الملتين يبقى بعده، ويتطرق منهما تشكيك أمته
بالشبهات والترهات، وذلك مما يضعف الناموس الملوكي.
فلما تركهم بالجزية دل ذلك على أنه مأمور فيهم من اللَّه تعالى بما لا تصبر
عليه نفوس البشر، ولا يتجه على هذه الحجة إلا أن يقال: لعله تركهم ليستنبط
له من تركهم هذه الشبهة وليحب الناس العدل وأخلاق النبوة.
لكن الجواب: أنه لو كان قصده ذلك لكان ذلك يحصل له بأن يقف، عنهم في حياته
فقط ولا كان يوصي بهم كما أوصى بأمته حتى قال: أنا بريء ممن وافاني يوم
القيامة ولذمي عليه مظلمة، وقال: لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فلولا أنه
مأمور فيهم من اللَّه تعالى لما أبقاهم، ولو كان ملكا محضا يحب الرئاسة
وإقامة الناموس لكان استبقاهم حال حياته وسكت عن الوصية فيهم بعد موته، حتى
كان المسلمون أخلوا منهم الأرض.
(4/144)
الحجة الخامسة
أنه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا
تكذبوهم، وقولوا:
آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم.
الحديث [ (1) ] ، وإنما قال ذلك لأنه علم أنهم حرفوا بعض كتبهم لا كلها،
فمنع تصديقهم خشية أن يكون ما قالوه مما حرّفوه.
ومن تكذيبهم خشية أن يكون [ما قالوه] [ (2) ] مما لم يحرفوه، فالأول في
غاية الحزم والثاني في غاية العدل، ولو لم يكن نبيا مأمورا فيهم بذلك كما
في القرآن: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [
(3) ] ، لأغري الناس بتكذيب [كل ما] [ (4) ] عندهم، وكان ذلك أتم لناموسه،
وأذل لأعدائه، لأنا علمنا بالاستقراء من ملوك الدنيا أجمعين أن أحدا منهم
لم يترك من آثار من قبله من الملوك ما يحذر منه على ملكه إلا عجزا.
__________
[ (1) ]
(ميزان الاعتدال) : 3/ 470، ترجمة رقم (7197) ، محمد بن إسحاق بن يسار،
وقال في آخرها: فهذا إذن نبوي في جواز سماع ما تأثرونه في الجملة كما سمع
منهم ما ينقلونه من الطب، ولا حجة في شيء من ذلك، إنما الحجة في الكتاب
والسنة، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 124، حديث رقم (16774) : عن
أبي نملة الأنصاري أخبره: أنه بينما هو جالس عند رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم جاءه رجل من اليهود فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّه أعلم، قال اليهودي: أنا أشهد
أنها تتكلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا حدثكم أهل الكتاب
فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا باللَّه وكتبه ورسله فإن كان حقا لم
تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (3) ] النجم: 3- 4.
[ (4) ] زيادة يقتضيها السياق.
(4/145)
الحجة السادسة
تختص [بالنصارى] [ (1) ] وتقريرها أنكم زعمتم أن المسيح هو اللَّه أو ابن
اللَّه، وأنه ظهر إلى العالم لينقذ أهل الإثم من إثمهم وخطاياهم وفداهم
بنفسه، ثم بعد ذلك صعد إلى أبيه فهو جالس عن يمينه، فإن كان هذا حقا فقد
كان يجب عليه وينبغي له أن يقول لأبيه حين ظهر محمد صلّى اللَّه عليه وسلم
بدعوته: أهلك هذا ولا تدعه يفتن الناس ويضلهم، حتى إذا احتاج أن أنزل إليهم
واستنقذهم من فتنته، وأقتل وأصلب مرة ثانية، لأن عندكم أن المسيح كامل
العلم والقدرة ولا يخفي عنه شيء في ملكه أو ملك أبيه. فبالضرورة أنه علم
بظهور محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فسكوته عن الإنكار والتغيير بحضرة أبيه
توجب إما التقصير والرضى بالضلال، والراضي بالضلال ضال، أو أن محمدا صلّى
اللَّه عليه وسلم على طريق الرّشد والكمال، وقد خيرناكم بين الأمرين، ولا
واسطة بين القسمين، فاختاروا لآلهتكم ما شئتم.
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
(4/146)
الحجة السابعة
جرت عادة اللَّه تعالى في خلقه أن يتداركهم على كل فترة برسول يرشدهم إلى
الهدى، ويصدهم عن الردى، ولا خلاف أن العرب في جاهليتها عند أوان ظهور محمد
صلّى اللَّه عليه وسلم كانت أحوج الخلق إلى ذلك، لما كانت عليه من الظلم
والبغي والغارات والبغي بغير حق، وسبي الحريم وظلم الغريم، فالعناية
الإلهية يستحيل منها عادة إهمالهم على ذلك من غير معلم يرشدهم ويسددهم، وما
رأينا [أحدا] ظهر بناموس قمع تلك الجاهلية وما كانت عليه من المنكرات إلا
محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فدل على أنه النبي المبعوث فيها، وإذا ثبتت
نبوته بهذا الطريق إلى العرب فالنبي لا يكذب،
وقد صح عنه بالتواتر أنه قال: بعثت إلى الناس كافة، وبعثت إلى الأحمر
والأسود [ (1) ] ،
وبهذا يظهر تغفيل من سلّم من اليهود أنه أرسل إلى العرب خاصة، لا إلى
غيرهم.
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذا الحديث وشرحه.
(4/147)
الحجة الثامنة
لا خلاف عند كل عاقل أن محمّدا صلّى اللَّه عليه وسلم كان من أعلى الناس
همة، وأوفرهم حكمة، ولولا ذلك ما انتظم له أمر هذا الناموس [هكذا] [ (1) ]
بعد مدة طويلة، مع أنه عند الخصم دعي لا حجة معه، ولا خلاف أن من كان بهذه
المثابة من علو الهمة ووفور الحكمة، وهمته تعلو إلى تقدير منصب دائم ورئاسة
باقية، فإنه يحتاط بنتاج فكره حتى لا يتوجه عليه ما يفسد حاله ويبخس مآله.
ومن المعلوم عند كل حكيم فطن لبيب أن الكذب ينكشف ويستحيل رونقه، ويعود
تدبيره تدميرا، خصوصا والمسيح إله النصارى- بزعمهم- يقول: ما من مكتوم إلا
سيعلن، ولا خفي إلا سيظهر. فلو لم يكن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم على
يقين من صدق نفسه لما أقدم على دعواه خشية أن ينكشف أمره في تضاعيف
الأزمان، فيعود عليه سوء الذكر مدى الدهر.
وكلامنا في عالي الهمة وافر الحكمة يخشى معرة المآل كما يخشى معرة الحال،
ولا يرد علينا من يؤسس رئاسة في حياته بما أمكنه من كذبه وترهاته، ثم لا
يبالي ما كان بعد مماته، فإنه ذلك في غاية الخساسة، ويحصل مقصوده برئاسة
الملك دون دعوى هذه الرئاسة.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(4/148)
الحجة التاسعة
لو لم يكن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم صادقا لكان المسيح كاذبا، لكن
المسيح ليس بكاذب، فمحمد صادق، [و] [ (1) ] بيان الملازمة أن المسيح عليه
السلام قال في الإنجيل: ما من خفي إلا سيظهر، ولا مكتوما إلا سيعلن.
وهذه نكتة في سياق النفي فتقتضي العموم، وإن كل خفي لا بد أن سيظهر بعد صدق
محمد صلّى اللَّه عليه وسلم في دعواه، إما إن كان ظاهرا أو خفيا، فإن كان
ظاهرا كان يجب أن لا يتابعه أحد، وإن تابعه لرهبة أو رغبة فبالظاهر دون
الباطن، حتى إذا زالت رغبته أو رهبته بزوال رجع عنه، لأن عاقلا لا يختار
الباطل على الحق، ولا الكذب على الصدق، فكيف بهذا الجمع الكثير والجم
الغفير في أقطار الأرض يختارون ذلك؟ هذا محال.
وإن كان خفيا وجب أن يظهر، لا سيما مع دهاء العرب وذكائهم وفطنتهم وصحة
طبعهم وفصاحتهم، فقد كان فيهم الكهنة والمنجمون، والزيارج [ (2) ]
والمتطيرون، وأكثرهم يصيبون ولا يخطئون، وأذكياؤهم كثير لا يحصرهم عدد، وقد
كانوا يستخرجون بأذهانهم ما يشبه السحر كما هو معروف في أخبارهم، وكفاهم أن
ابن المقفع فيلسوف الفرس شهد لهم بالفضيلة على الفرس والروم وسائر الأمم،
فمن المحال عادة أن يخفى عليهم أمر محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لو كان
باطلا.
فدل على أنهم ما هرعوا إليه مع كونه أول الإسلام كان في نفر قليل مستضعف
إلا وقد علموا صدقه، فصح قولنا: لو لم يكن محمد صادقا لكان المسيح كاذبا،
فبالاتفاق منا ومنكم، ولو تورعنا في صدقه لما وافقنا، لأنّا نحن أحق به
منكم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) «الزجازج» ولعل الصواب ما أثبتناه، والزيارج: ضرب من السحر.
(4/149)
الحجة العاشرة
من نظر في دين الإسلام فإنه يجده معظما لعيسى وموسى وغيرهما من الرسل، بحيث
أن من سب أحدا منهم أو [انتقصه] [ (1) ] قتل، ونرى اليهود [ينتقصون] [ (1)
] من المسيح، وهم [والنصارى] ينتقصون محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم.
[واعلم] [ (1) ] أن المسلمين أهل حق لا يشوبه تحامل، وأن اليهود والنصارى
أهل عناد وتجاهل، فإن قالت اليهود: إنما غضضنا [ (2) ] من المسيح ومحمد
لأنهما كاذبان، قلنا: فالذي يثبت به صدق موسى عليه السلام قد أتى المسيح
بما هو أعظم منه، فمقتضى التصديق مشترك، فإما أن تصدقوا الاثنين أو
تكذبوهما، أما الفرق فهوى وتحامل.
وإن قالت [النصارى] [ (1) ] إنما انتقصنا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم لأنه
ليس بصادق، قلنا:
يلزمكم مقالة اليهود في أنهم إنما انتقصوا المسيح لأنه ليس بصادق، فإن
قالوا: اليهود كفار عاندوا، قلنا: كذلك أنتم بالنسبة إلى [من] [ (1) ]
ينتقص محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم.
فإن قيل: اليهود عاندوا بعد قيام الحجة بإظهار المعجز، ونحن لم يأتنا محمد
بمعجز، قلنا: قد جاءكم بمعجزات سبق تقريرها، ولكن عاندتم أو جهلتم، ولهذا
سمي اللَّه تعالى اليهود الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [ (3) ] والنصارى الضالين
[ (3) ] ، لأن تكذيب اليهود عناد، وتكذيب النصارى يغلب عليه الجهل، ولو
أعطيتم النظر حقه لوفقتم ورشدتم، فثبت بثبوت هذه الأدلة أن محمد بن عبد
اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم المكيّ الهاشمي صلّى اللَّه عليه وسلم [رسول]
[ (1) ] حق ونبي صدق.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] غضضنا: أنقصنا.
[ (3) ] آخر سورة الفاتحة.
(4/150)
وأما تقرير نسخ
الملة المحمدية لسائر الملل
فإنا نقول: أكبر خصومنا في ذلك اليهود، فلنجعل كلامنا معهم فنقول: إن من
أعظم تلاعب الشيطان باليهود إصرارهم على الكفر بمحمد صلّى اللَّه عليه
وسلم، وحجرهم على اللَّه تعالى في نسخ الشرائع، فحجروا عليه سبحانه أن يفعل
ما يشاء ويحكم ما يريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية تراسا لهم في جحد
نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم وقرروا ذلك أن النسخ يستلزم البداء [ (1) ] ،
وذلك يقتضي الجهل بعواقب الأمور، وهو على اللَّه تعالى محال، وردّ بمنع
لزوم البداء من النسخ، وإنما هو بحسب اختلاف مصالح الخلق متعلقا ذلك كله
بالعلم الأزلي- كما يأتي تقريره-.
__________
[ (1) ] «البداء» في اللغة: مصدر الفعل الثلاثي الماضي «بدا» بمعنى ظهر،
يقال: بدا الشيء يبدو، إذا ظهر، فهو باد. أورده ابن فارس في (معجم مقاييس
اللغة) : 212. ونقله الأزهري في (تهذيب اللغة) :
4/ 202 عن الليث. وحكاه الزبيدي في (تاج العروس) ، وقد نصّ الفيومي على نفس
المعنى في (المصباح المنير) : 1/ 55 إلا أنه قال: ويتعدى بالهمزة، فيقال:
أبديته، وبدا الشيء يبدو بدوا وبدوّا [بضم الباء والدال وتشديد الواو]
وبداء وبدا- الأخيرة عن سيبويه- ظهر، وأبديته أنا، أظهرته.
وتدور بقية معاجم اللغة حول نفس المعنى الّذي أثبته هؤلاء بأن كلمة «بداء»
تعني الظهور، ودلّلوا على ذلك باشتقاقات لغوية، تشير إلى المعنى المذكور.
وإذا أرادت العرب أن ترفع من قيمة الرجل، فهي تصفه بأنه ذو «بدوات» أي ذو
آراء تظهر له، فيختار بعضها ويسقط بعضا، ويبدو أن الدلالة تشير إلى تطور
فكر المرء في مواقفه إزاء موارد الحياة العامة التي تخضع دائما للتغيير
والتباين. يقول أبو دريد: قولهم أبو البدوات، معناه: أبو الآراء التي تظهر
له، واحدها: بدأة. وفي القرآن الكريم ورد المعنى إحدى وثلاثين مرة، موزعا
على ستة عشرة سورة، يفيد معنى الظهور حسب مدلولات الآيات.
أما «البداء» في الاصطلاح: فقد انسحب على الأمور الممكنة التي تقع في عالم
«التكوّن» والتي تمتاز بظاهرة «التغيّر» بحيث تبدو هذه الأمور ثابتة أولا،
كأنها تسير وفق سنّة واحدة، ولكن سرعان ما يظهر فيها «التبدّل» ، ولهذا
اتخذت الحال التي تجري بمقتضاها هذه الحوادث صفة «البداء» ، بحيث يظهر منها
خلاف ما كانت عليه أولا.
ومن هنا ظهرت مشكلة في غاية التعقيد في تطور الجانب الاصطلاحي للكلمة، فمن
المتعارف عليه أن الحياة تسير وفق عناية إلهية تامة، وإن اللَّه لا يجوز
عليه التّغيّر أو التبدّل، وهو أمر ثابت لكل من تكلم على الظاهرة نفسها،
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد يلمس أن هناك تغييرا ملموسا يحدث في دائرة
معينة، فهناك تغيّر واضح تسلك بمقتضاه بعض حوادث عالم التكون، ولهذا يتطلب
الأمر حلا للمشكلة القائمة بين عدم تغيّر الموقف الإلهي من جانب، وطبيعة
التغير الملموس في حوادث عالم التكوين المشمول بالإرادة الإلهية من جانب
آخر.
(4/151)
ولنا في جواز النسخ أنه إما بيان أنها مدة
الحكم أو رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي، وكلاهما لا يلزم منه محال فوجب
القول بجوازه، ولأن الشرع للأديان كالطبيب للأبدان، فجاز أن ينهي اليوم عن
ما أمر به أمس، كما يصف الطبيب اليوم للمريض ما نهاه عنه أمس، وذلك بحسب
المصالح أو إرادة المكلّف- وهو الشارع- ولأنه قد وقع في التوراة في عدة
صور، فالقول بجوازه لازم.
هذا، وقد أكذبهم اللَّه تعالى في نص التوراة، كما أكذبهم القرآن بقوله:
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ
إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ
فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَمَنِ
افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ* قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ (1) ] .
فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم في إبطال النسخ، فإنه سبحانه أخبر أن الطعام
كله كان حلالا قبل إنزال التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه، ومعلوم
أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الّذي كان حلالا
لهم إنما هو بإحلال اللَّه لهم على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين
نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، وهي التي كانت
حلالا لبني إسرائيل، وهذا محض النسخ.
__________
[ () ] وقد تبلور عن هذا الموقف اتجاهات ثلاثة حددت من خلالها طبيعة اللفظة
في جانبها الاصطلاحي:
الاتجاه الأول: هذا الاتجاه الّذي يجعل التغيّر في المعلوم دون العلم،
فالعلم الإلهي ثابت أزلا وأبدا، وأما التغيّر الملموس فهو في طبيعة
المعلوم، وإن هذا التغيّر معلوم به أزلها.
الاتجاه الثاني: هذا الاتجاه يرى حدوث التغيّر في ذات العلم لا في ذات
المعلوم، أي على عكس الاتجاه الأول، إلا أن هذا الاتجاه يستخدم ظاهرة
التأويل في العلم نفسه.
الاتجاه الثالث: وهذا الاتجاه يذهب إلى أن البداء هو تغيير في العلم دون
تأويل لطبيعة العلم، ولكن من هو الّذي يتغيّر علمه؟ وهل التغيّر هنا
بالنسبة للخالق أو للمخلوقين؟ يرى هذا الاتجاه أن العلم المتغيّر ليس علم
الخالق، بل هو ما دونه.
ولمن أراد الاستزادة في هذا الموضوع بشكل تفصيليّ موسّع فليرجع إلى: (نظرية
البداء عند صدر الدين الشيرازي) (979- 1050 هـ) وأما النسخ فسيأتي الكلام
عنه إن شاء اللَّه تعالى في فصل (الناسخ والمنسوخ) .
[ (1) ] آل عمران: 93- 95.
(4/152)
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْراةُ متعلق بقوله: كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، أي كان حلالا
لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك، ثم قال تعالى:
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، هل تجدون
فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوراة؟ أم تجدون فيها تحريم ما
خصه بالتحريم وهو لحوم الإبل وألبانها خاصة، وإذا كان إنما حرم هذا وحده
وكان ما سواه حلالا له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرا من المحلل ظهر كذبكم
وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر على اللَّه تعالى نسخها، ثم يقال
لهم: أتعرفون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا؟
وهم لا ينكرون أن قبل التوراة شريعة، فيقال لهم: فهل رفعت التوراة شيئا من
أحكام تلك الشرائع المتقدمة؟ فقد جاهروا بالكذب.
وإن قالوا: رفعت بعض الشرائع المتقدمة فقد أقروا بالنسخ، ويقال لهم: أليس
اللَّه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نهاه عنه؟ وهذا نسخ، أليس أن الأرض
لما قسمت بين الأسباط كان غربيّ الشريعة لتسعة أسباط ونصف سبط، وشرقيّه
لسبطين ونصف سبط؟ فذلك من قبل الجميع وقسم الجميع، وهذا نسخ، أو ما تزوج
إبراهيم بأخته لأبيه فمنع التوراة منه، وتزوج عمران بعمته، وجمع يعقوب بين
الأختين وقد منع التوراة منه، وهذا نسخ.
ويقال لهم أيضا: هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام؟ فإن
قالوا: نعم، قيل لهم: أليس في التوراة أن من مسّ عظم ميت أو وطئ قبرا أو
حضر ميتا عند موته فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد
البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها؟ ولا يمكنهم إنكار ذلك! فيقال لهم:
فهل أنتم اليوم على ذلك؟.
فإن قالوا: لا نقدر عليه، قيل لهم: فلم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت
طاهرا يصلح للصلاة، والّذي في كتابكم خلافه؟ فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب
الطهارة- وهي رماد البقرة-، وعدمنا الإمام المستغفر، قيل لهم: فهل أغناكم
عدمه عن فعله أو لم يغنكم؟.
(4/153)
فإن قالوا أغنانا عدمه عن فعله قيل لهم: قد
تبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر، وكذلك يتبدل الحكم
الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر بنسخه لمصلحة النسخ، فإنكم إن
بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء قد يكون
مصلحة في وقت دون وقت، وفي شريعة دون أخرى، كما كان تزوج الأخ بالأخت مصلحة
في شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مفسدة في سائر الشرائع، وكذلك إباحة
العمل يوم السبت، كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله، ومفسدة
في شريعة آدم عليه السلام، وأمثال ذلك ذلك كثيرة.
وبالجملة فالتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئة اللَّه الّذي لا يسأل عما
يفعل، فإن قالوا: لا نستغني في الطهارة عن الطهور الّذي كان عليه أسلافنا،
فقد أقروا بأنهم الأنجاس أبدا، ولا سبيل لهم إلى حصول الطهارة، فإن أقروا
بذلك قيل لهم:
فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا
تخرجون فيه عن الحدّ بحيث أن أحدكم إذا لمس ثوبه ثوب المرأة تجنبتموه مع
ثوبه؟.
فإن قالوا: كل ذلك من أحكام التوراة، قيل لهم: أليس في التوراة أن ذلك يراد
به الطهارة؟ فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم، والنجاسة التي أنتم عليها
لا ترتفع بالغسل فهي إذا أشد من نجاسة الحيض، ثم إنكم ترون أن الحائض طاهرا
إذا كانت من غير ملّتكم ولا تنجسون من لمسها ولا الثوب الّذي لمسته، فتخصيص
هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة منه شيء، وهذا الفصل ممّا يحتاج إليه.
فافرض أن يهوديا رام مناظرتك أو رمت مناظرته فإنك لم تعلم حقيقة ما هو عليه
وما تبطل به قوله من كتابه، وإلا تسلط عليك وتوجهت الملامة من اللَّه
ورسوله إليك، فإن قال بعض اليهود: التوراة قد حظرت أمورا كانت مباحة من قبل
ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الّذي ننكره ونمنع منه هو ما أوجب إباحة
محظور، لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة
بتحريمة كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها، فإذا جاء من إباحة علمنا بإباحته
المفسدة أنه غير نبي، بخلاف تحريم ما كان مباحا، فإنا نكون متعبدين بتحريمه
وشريعتكم وردت بإباحة أشياء كثيرة مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرمه
اللَّه لما فيه من المفسدة قيل له:
(4/154)
لا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيّر
الإباحة بالتحريم أو التحريم بالإباحة، والشبهة التي عرضت في أحد الموضعين،
هي بعينها في الموضع الآخر، فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته،
إذ لو كانت هناك مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته، فإذا حرمته الشريعة
الأخرى وجبت قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته في
الشريعة الأولى هي المصلحة، فإن تضمن إباحة المحرم في الشريعة الآخرة إباحة
المفسدة- وحاش للَّه- تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح،
وكلاهما باطل قطعا.
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم تقدمه يستبيحه،
فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا، وهذه
الشبهة هي التي ردت بها اليهود نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، هي بعينها
التي رد بها أسلافهم نبوة المسيح عليه السلام، لا تقر بنبوة من غير
التوراة.
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى عليه السلام بالنّبوّة، وقد جاء بتغيير بعض
الشرائع [التي] تقدمته، فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد صلوات اللَّه عليهما
قدح في موسى، فلا [تكون] في نبوتهما بقادح إلا ومثله في نبوة موسى سواء،
كما أنكم لا تثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد صلّى
اللَّه عليه وسلم، فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس
برسول، أو يكون المسيح رسولا ومحمد ليس برسول.
ويقال لليهود أيضا: لا تحلوا المحرم، إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته بحيث
لم يعهد في زمان من الأزمنة إباحته، وإما أن يكون تحريمه لما يتضمنه من
المفسدة في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال، وإن كان الأول
لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان،
من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء صلّى اللَّه عليه وسلم.
وإن كان الثاني، ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصلحة، وإنما يختلف
باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حراما من ملة دون ملة،
ووقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل عليهم
السلام، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك.
(4/155)
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان حراما على
نوح وإبراهيم وسائر النبيين، وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح
وغيرها، لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة،
وإذا كان اللَّه تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ويبتلى
عباده بما شاء، ويحكم ولا يحكم عليه، فما الّذي يحمل عليه ويمنعه أن يأمر
أمة بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهي أمة أخرى عنه، أو يحرم على أمة شيئا
ويبيحه لأمة أخرى، بل أي شيء يمنعه تعالى؟.
ذلك بقوله: ما ننسخ من آية أو [ننساها] [ (1) ] نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها
أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ (2)
] ، فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ
ما يشاء ويثبت ما يشاء، كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء
ويثبت، فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت ما يشاء، فمن
أكفر الكفر وأظلم الظلم أن يعارض الرسول الّذي جاء بالبينات والهدى، ويدفع
نبوته ويجحد رسالته بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله، أو
بتحريم بعض ما كان مباحا لهم، ومن العجب أن اليهود تحجر على اللَّه تعالى
أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وفي توراتهم أن اللَّه- تعالى عن قولهم- يأسف
على خلقه الإنسان لأفكارهم الخبيثة، فخلقه أن يبيدهم فأبادهم.
ثم لما أرسل الطوفان أسف وندم وقال: ما عدت أهلك الخلق به مرة أخرى، فمن
يندم ويتأسف كيف يمتنع عليه البداء على قولهم؟ وهم قد تركوا شريعة موسى
عليه السلام في أكثر ما هم عليه، وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم،
فمن ذلك: أنهم يقولون في صلواتهم ما هذه ترجمته: اللَّهمّ اضرب ببوق عظيم
لعتقنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع شتات
قومة إسرائيل.
ويقولون كل يوم ما ترجمته: أردد حكامنا كالأولين، وسيرتنا كالابتداء، وابن
أورشليم قرية قدسك وعزنا ببناها، سبحانك يا باني يورشليم. فهذه أقوالهم في
صلواتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك،
ولكنها فصول لفقت بعد زوال دولتهم.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وهي رواية ورش عن نافع.
[ (2) ] البقرة: 106.
(4/156)
وكذلك صيامهم: كصوم احتراق بيت المقدس،
وصوم كدليا وصوم صلب هامان، ليس شيء منها في التوراة، ولا صامها موسى ولا
يوشع، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت عندهم وضعها- كما بينته في موضعه من كتاب
(المواعظ والاعتبار) [ (1) ] .
وهذا مع أنه في التوراة ما ترجمته: لا [تزيدوا] على الأمر الّذي أنا موصيكم
به شيئا ولا تنقصوا منه شيئا. وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا، وهم
مجمعون على تعطيلها وإلغائها، فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة،
أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد علمائهم وأحبارهم، وعلى
التّقادير الثلاث فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ.
ثم من العجب أن أكثر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها،
إنما يستندون فيها إلى قول علمائهم وآرائهم، وقد اتفقوا على تعطيل رجم
الزاني- وهو نص التوراة- ومن مذهبهم: أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار
حلالا، وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه!!.
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الرب تعالى
أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم، فأشبهوا إبليس
في أنه تكبر في أن يسجد لآدم، ورأى ذلك نقيصة له، ثم رضى أن يكون قوادا لكل
عاص وفاسق من أولاد آدم.
وأشبهوا أيضا [عبّاد] الأصنام في أنهم أنفوا أن يكون النبي المرسل من
اللَّه تعالى إليهم بشرا ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرا نحتوه
بأيديهم، وأشبهوا أيضا النصارى فإنّهم نزهوا [بطارقتهم] عن الولد والصاحبة،
ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى اللَّه رب العالمين سبحانه وتعالى.
ولم يبق لليهود إلا أن يقولوا: إن موسى عليه السلام نص على دوام شريعته
وتأبدها ما دامت السموات والأرض، وهو يقتضي أن لا ناسخ لها، فأحد الأمرين
لازم: إما كذب خبر موسى، أو بطلان شرع من بعده.
__________
[ (1) ] كتاب (المواعظ والاعتبار) أحد مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.
(4/157)
وأجيب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن هذا من
موضوعات ابن الراونديّ وضعه لليهود فتمسكوا به، وهذا جواب ضعيف، لأن النص
[عنده] موجود في التوراة، ولا حاجة لهم إلى وضع ابن الراونديّ.
الثاني: القدح في تواتر هذا الخبر بأن بخت نصّر لما فتح بيت المقدس حرق
التوراة وقتل اليهود حتى أفناهم إلا يسيرا منهم لا تحصل التوراة بخبره،
فصار هذا الخبر آحادا لا يقبل في العمليات.
وهذا الجواب قريب غير أنه ليس بشاف لأنهم يدّعون أن تواتره تواتر التوراة
جميعا ويمنعون ما ذكر من سبب انقطاع التواتر بأن بخت نصّر أسر نحو عشرة
آلاف من بني إسرائيل منهم أربعة آلاف من أولاد الأنبياء مثل دانيال ونحوه،
وكلهم يحفظ التوراة عن ظهر قلب، وهم منازعون في تصحيح هذه الدعوى، ولا معول
لهم في تصحيحها إلا على أنقال [ (1) ] موجودة في كتب لا يقدرون من تصحيحها
إلا على مجرد الدعوى.
وهب أن ما ادعوه كما قالوا، فقد وقع بهم بعد ذلك عدة ملوك منهم ملك مصر،
واستبعدهم سبع سنين ونصب الأوثان والأصنام في محاريبهم ببيت المقدس، فأمر
غابيوس قيصر ملك الروم أن تنصب أصنامه هو في محاريب اليهود ومعابدهم،
فنصبت، وأحاطت باليهود بلايا كثيرة ووقع فيهم الاختلاف حتى كان بعضهم يقتل
بعضا في الأسواق.
وفرّ ملكهم أعربماس بن أسربلوس من هردوس من القدس إلى رومية، وأخبر قيصر
بما هم عليه من الشر، فبعث عسكرا كثيفا قتل منهم وأسر ملا يحصى كثرة، ونقل
أكثرهم إلى أنطاكية ورومية وخربت القدس، ثم بعث قيصر قائدا على جيش كبير
لتخريب القدس وقتل جميع اليهود وقد عمروا القدس فحصرهم سنة وخرّب معاملات
اليهود وقتلهم ثم سار عنهم، وقدم طيطش فحصر القدس سنتين حتى مات أكثر أهلها
جوعا، ووقع بينهم مع ذلك الاختلاف فاقتتلوا وهم محصورون حتى فنى أكثرهم، ثم
أخذهم طيطش عنوة وقتل من اليهود ما يجل عن الوصف، حتى
__________
[ (1) ] أنقال ونقول: جمع نقل.
(4/158)
أن عدد من مات منهم في الحصار ألف ألف
ومائة ألف.
وخرّب المدينة والهيكل وأحرق الجميع بالنار، وسار معه منهم نحو مائة ألف
نفس، فأفنى الجميع بأنواع القتل، ولم يبق أحد منهم في بيت المقدس، واشتد
الأمر على من بقي منهم برومية ونحوها، حتى لم يكن أحد منهم يظهر إلا قتل،
وتراجع منهم أناس إلى بيت المقدس فبعث إليهم ملك الروم جيشا قتل معظمهم،
ولم يبق منهم إلا من فرّ.
ثم في سنة سبع وأربعين وأربع مائة للإسكندر أخرب ملك الروم ما بقي بالقدس
من العمارة، وقتل عامة من به من يهود، و [بنى] عمودا على باب مدينة القدس
ونقش عليه: هذه مدينة إلياء، ويعرف اليوم موضع هذا العمود بمحراب داود.
ثم عمّر القدس فقدم إليها عدة من اليهود فبعث إليهم ملك الروم عسكرا حصرهم
حتى مات أكثرهم جوعا، ثم أخذ المدينة وقتل معظم اليهود، وخرّبها حتى بقيت
صحراء.
وتبع اليهود فاستأصل شأفتهم وأنزل اليونان بالقدس وذلك بعد تخريب طيطش
بثلاث وخمسين سنة. ثم جمع اليهود رجل منهم فبعث ملك الروم جيشا فقتلوا
أكثرهم.
وفي سنة خمس وعشرون وخمسمائة للإسكندر وقعت حروب بين اليهود والسّامرة قتل
فيها من الفريقيين ما يجل عن الوصف، وفي قسطنطين الأكبر أمر أن لا يسكن
يهودي الفرس وأدخل الجميع في دين النصرانية، ثم امتحنهم يوم [الفصح] بأكل
الخنزير فلم يأكلوه فقتلهم عن آخرهم.
وما برحت ملوك النصارى بقتلهم أبرح قتل إلى أن كانت أيام هرقل وقد ظهر دين
الإسلام فأوقع باليهود في سائر مملكته ببلاد الشام وأرض مصر وإفريقية
وقسطنطينية وأعمالها، وقتل جميعهم حتى لم يبق منهم إلا من اختفى أو فرّ.
وقد أفردت في محن اليهود وما أنزل اللَّه بهم من البلاء الّذي تأذّن في
كتابه العزيز أن يكون عليهم إلى يوم القيامة جزاء جمعته من كتبهم وكتب
النصارى، ليكون أعظم حجة عليهم، فليت شعري، أي تواتر يبقى مع هذه الرزايا
المجيحة، والدواهي المبيرة، والمحن التي لا تبقي ولا تذر، إلا أن القوم
بهت، وأكثر أصحابنا من الفقهاء
(4/159)
والمحدثين، والنظار والمتكلمين، لا يلمون
بأخبار اليهود، فينصبون الكلام معهم جدلا، وإلا فاليهود إذا نوظروا بما في
كتبهم من محنهم تبين لمناظرهم أنه ليس معهم خبر يصح، فكيف يدعى فيه
التواتر؟ ومع ذلك ففي توراتهم نصوص كثيرة وردت مؤبدة، ثم تبين أن المراد
بها التوقيت بمدة مقدرة، كقوله: إذا خربت صور لا تعمر أبدا، ثم عمرت بعد
خمسين عاما.
ومنها إذا خدم العبد سبع سنين أعتق، فإن لم يقبل العتق استخدم أبدا، ثم أمر
بعتقه بعد مدة معينة سبعين سنة، فإذا جاز في هذه النصوص المؤبدة أن يراد
بها التوقيت فلم لا يجوز في نص موسى على تأييد شريعته بتقدير صحته؟ وإلا
فما الفرق؟.
فإن قيل: إذا جاز أن يكون نصّ موسى المؤبد مؤقتا حتى جاز نسخ شرعته، جاز أن
يكون نص محمد صلّى اللَّه عليه وسلم على تأبيد شريعته مؤقتا فيجوز نسخها
بعده بغيره، وأنتم أيها المسلمون تأبون ذلك؟.
قلنا: لا يلزم ذلك، والفرق بين النّصّين أن كتاب موسى الّذي بيدكم الآن قد
بينا أنه غير متواتر، بخلاف كتاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم الّذي هو
القرآن، فتواتره عندنا وعندكم غير خاف على علمائكم.
ونشترك معكم فنقول: قد ورد في توراتكم نصوص بلفظ التأبيد والمراد بها
التوقيت كما بينا طرفا منها، بخلاف القرآن فإنه لم يرد بذلك، فلم يرد مثله
في نصه- بحمد اللَّه- وها هو قد طبق الأرض، واجتهدتهم أنتم وغيركم في نقضه،
فلم تطيقوا ذلك، فإن اللَّه قد حفظه من التحريف والتبديل والتغيير فيه
بزيادة أو نقصان، بخلاف توراتكم، وها أنا أبين حقيقة توراتكم وأنها ليست
بالتوراة التي أنزلها اللَّه على موسى عليه السلام واللَّه المعين الموفق.
(4/160)
وأمّا أنّ التّوراة التي هي الآن بأيدي
اليهود ليست التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى عليه السلام
فاعلم أن توراة اليهود: بيد اليهود نسخة، وبيد السامرية نسخة، وبيد النصارى
نسخة، والنّسخ الثلاث مختلفة في كثير من الأمور غير متوافقة، وكل فرقة تحيل
التحريف على غيرها، فالتغيير لازم، ويظهر عند التأمل أن التوراة التي
بأيديهم الآن في مشارق الأرض ومغاربها قد زيد فيها وغيرت ألفاظ منها وبدلت،
وليست هي التوراة التي أنزلت على موسى، لأن موسى عليه السلام صان التوراة
عن بني إسرائيل خوفا من اختلافهم من بعده في تأويلها المؤدي إلى تفرقهم
أحزابا وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوي.
والدليل على ذلك قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [ (1)
] ، قيل:
حرفوه بالتبديل، وقيل: بالتأويل، والحق: أنهم حرفوه بالأمرين، ولعل اختلاف
العبارتين في قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ومِنْ بَعْدِ
مَواضِعِهِ [ (2) ] إشارة إلى ذلك، ويشبه أن تحريفه من بعد مواضعه
بالتبديل، وعن مواضعه بالتأويل، لأن التبديل أخص التحريفين، ومن بعد مواضعه
أخص العبارتين، فيجعل الأخص للأخص عملا بموجب المناسبة.
وقد قال في التوراة: وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى الأئمة من بني لاوي
وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين والبيت
المقدس كانت موقوفة عليهم، ولم يبذل موسى عليه السلام من التوراة إلا نصف
سورة، وهي التي قال فيها: وكتب موسى هذه السورة وعلمها بني إسرائيل- هذا نص
التوراة عندهم.
قال: وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل، وفيها: قال اللَّه:
لأن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم، وهذه السورة مشتملة على ذم
طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، ويخرب
ديارهم، ويشتتون في البلاد.
__________
[ (1) ] المائدة: 13.
[ (2) ] المائدة: 41.
(4/161)
فهذه السورة تكون متداولة في أفواههم
كالشاهد عليهم، الموقف لهم على صحة ما قيل لهم، فلما نصت التوراة على أن
هذه السورة لا تنسي من أفواه أولادهم دلّ على أن غيرها من السور ليس [كذلك]
. وأنه يجوز أن ينسي من أفواههم.
وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يعط بني إسرائيل من التوراة إلا هذه
السورة، وأما التوراة نفسها فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها
عن سواهم.
وهؤلاء الأئمة الهارونيون الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها قتلهم
بخت نصّر يوم فتح بيت المقدس، وحرق التوراة والمزامير كما حرقها نردوش
اليوناني لما استولى على القدس.
ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم ولا سنّة بل كان كل أحد من الهارونيين يحفظ
فصلا من التوراة، فلما رأى عزرا أن القوم قد احترق هيكلهم، وزالت دولتهم،
ورفع كتابهم، جمع من مخطوطاته ومن الفصول التي تحفظها الكهنة ما اجتمعت منه
هذه التوراة التي بأيديهم، وذلك بعد حين من السنين، ولذلك بالغوا في تعظيم
عزرا هذا غاية المبالغة، وزعموا أن النور الآن يظهر على قبره- وهو على
بطائح العراق- لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم، وغلا بعضهم فيه حتى قالوا: هو
ابن اللَّه، ولذلك نسب اللَّه تعالى ذلك إلى اليهود بقوله: وَقالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [ (1) ] نسبة إلى جنسهم لا إلى كل فرد
منهم.
فهذه التوراة التي بأيديهم في الحقيقة كتاب عزير، وفيها من التوراة التي
أنزلها اللَّه على موسى، وأول دليل على أنها ليست التوراة التي أنزلها
اللَّه أنه قال في آخرها:
وتوفي هناك موسى عبد اللَّه في أرض موآب بقول الرب، ودفنه في الوادي في
عربات موآب [ (2) ] ، ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم، وكان قد أتى على
موسى يوم
__________
[ (1) ] التوبة: 30.
[ (2) ] موآب أرض للموآبيين، ويقابلها اليوم القسم الشرقي من البحر الميت
لمملكة الأردن اليوم، وكان طولها 50 ميلا وعرضها 20 ميلا، وتنقسم إلى
قسمين: 1- أرض موآب، وهي ما وقع شرقي البحر الميت وتسمى أيضا بلاد موآب، 2-
عربات موآب، وهي ما كان في وادي الأردن مقابل أريحا.
(قاموس الكتاب المقدس) : 827- 828.
(4/162)
توفى مائة وعشرون سنة، ولم يضعف بصره، ولم
يتسخ وجهه، [وبكى] على موسى بنو إسرائيل ثلاثين يوما في عربة موآب [ (1) ]
.
فلما تمت أيام حزنهم على موسى امتلأ يوشع بن نون من روح الحكمة، لأن موسى
كان قد وضع يده على رأسه في حياته، وكان بنو إسرائيل يطيعونه ويعملون
بأمره، كما أمر الرب موسى.
ولم يقم أيضا نبي في بني إسرائيل مثل موسى الّذي عرفه الرب وجها قبل وجهه،
وعمل جميع الآيات التي أمره اللَّه أن يعملها بأرض مصر لفرعون، وجميع عبيده
وكل أرضه، وأكمل كل البيداء العزيزة مع المنظر العظيم الّذي عاين بنو
إسرائيل من فعال موسى.
هذا نص التوراة! فتأملوا يا عقلاء بني آدم هذا الفصل، هل يجوز أن يكون
منزلا من عند اللَّه على موسى؟ أو هو أخبار مخبر منهم عما جرى بعد وفاة
موسى، تجدوه حكايتهم لما جرى، وقد أوردت هذا على حبر من أحبار يهود فانقطع
ولم يجر جوابا.
ثم إن هذه التوراة تداولتها أمة قد مزّقها اللَّه كل ممزّق، وشتت شملها،
وقطّعها في الأرض أمما- أي فرقا متباينين في الأقطار جميعا- فقلّ أرض لا
يكون فيها منهم شرذمة، وتأذّن ربك أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم
سوء العذاب، وهذا حالهم، وهم في كل مكان تحت الصّغار والذّل، سواء كان أهل
الأرض مسلمين أو نصارى.
__________
[ (1) ] انظر هامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
(4/163)
فلحقها ثلاثة أمور [ (1) ] :
أحدها: الزيادة والنقصان، والثاني: اختلاف الترجمة، والثالث: اختلاف
التأويل والتفسير، ففيها: بالحبشة نهرا يقال له: جيحون محيط بجبالها، وليس
بالحبشة نهر يقال له: جيحون أو جيحان، بل النهران أحدهما في أقصى بلاد
العجم، والآخر ينزل من جبال الروم وينصب في بحر الروم، فالواقع والرواية
متناقضان، والغلط في كتاب اللَّه ممتنع، فالتوراة مغيّرة.
ومنها: أن نوحا أخبر أن حاما يكون عبدا لأخويه، ثم ذكروا أن نمروذ بن كنعان
من أولاد حام كان ملكا جبارا، وهو أول ملك ضرب المثل بشدته وشجاعته، وأن
مصر وقبطها من أولاده وأنهم استعبدوا بني إسرائيل مائتين من السنين، وهم من
بني سام، وهذا تناقض.
ومنها: أن إسحاق قال لولده عيص: قد صيرت يعقوب عليك سلطانا، وجعلت كل اخوته
له عبيدا، ثم ذكر أن يعقوب لما انصرف من عند أخواله لقي عيص وسجد له سبع
سجدات، وأسجد أهله له، وخاطبه يعقوب بالعبودية، وأهدى إليه، وهذا تناقض.
ومنها: أن يعقوب قال عند وفاته: لا ينقطع من يهود القضيب ولا من نسله قائد،
وقد انقطع القضيب والقائد من نسله مرة ست مرات وسنتين، ومرة سبعا وسبعين
سنة، وهذه المرة الثالثة، وما اجتمع بعدها شملهم، ولا يجتمع لقوله تعالى:
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [ (2) ] ، والمراد القدرة والسلطة.
وعن لوط أنه خرج من المدينة وسكن كهف الجبل ومعه ابنتاه، فقالت الصغرى
للكبرى: قد شاخ أبونا فارقدي بنا معه لنأخذ منه نسلا، فرقدت معه الكبرى ثم
الصغرى- وهو سكران- ثم فعلتا ذلك في الليلة الثانية وحملتا منه
__________
[ (1) ] كذا في (خ) .
[ (2) ] المائدة: 64.
(4/164)
بولدين! فهل يستجير أحد من الناس [أن يصدق]
أن يوقع نبيا كريما في مثل هذه الفاحشة العظيمة في آخر عمره ثم يذيعها عنه،
ويجعل ذلك وحيا يتلى في المحاريب آلافا من السنين في أقطار الأرض؟ فهذا ما
لا يجوّزه أحد له عقل.
(4/165)
ومنها أن اللَّه تجلى لموسى في سيناء
وقال له بعض كلام كثير: أدخل يدك في [حجرتك] وأخرجها مبروصة كالثلج! وهذا
من النمط الأول، واللَّه لم يتجل لموسى، وإنما أمره أن يدخل يده في جيبه،
وأخبره أنها تخرج بيضاء من غير سوء، أي برص.
ومنها: أن هارون هو الّذي صاغ لهم العجل حتى عبدوه، وهذا إن لم يكن من
افترائهم فهو اسم للسامري لا أخو موسى.
ومنها: أن اللَّه رأى كثرة فساد الآدميين في الأرض فندم على خلقهم وقال
كلاما في آخره: وإني نادم على خلقهم جدا! تعالى اللَّه وتنزه عن ذلك.
ومنها: أن اللَّه- سبحانه وتعالى علوا كبيرا- تصارع مع يعقوب فضرب به يعقوب
الأرض، ومنها: أن يهوذا بن يعقوب زوج ابنه الأكبر من امرأة يقال لها: يا
مارا، فكان يأتيها مستدبرا فغضب اللَّه من فعله فأماته، فزوج يهوذا ولده
الآخر بها، فكان إذا دخل بها أمنى على الأرض، علما بأن [ولدها] كان أول
أولاده مدعوا باسم أخيه ومنسوبا إلى أخيه، فكره اللَّه ذلك من فعله فأماته،
فأمر بها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر شيلا ولده ويتم عقله، ثم
ماتت زوجة يهوذا وذهب إلى منزل له ليجز غنمه.
فلما أخبرت يامارا ولبست زي الزواني وجلست له على طريقه، فلما مر بها خالها
زانية فراودها عن نفسها فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدي ورمى عندها عصاه
وخاتمه، فدخل بها فعلقت منه، ومن ولده هذا داود النبي! فانظر كيف اشتمل هذا
الافتراء القبيح على طامتين عظيمتين، إحداهما: أم يهوذا هذا أحد الأسباط
الاثني عشر، وقد أثنى اللَّه تعالى عليهم، وذكرهم مع كرام الرسل، فقال
اللَّه تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما
أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
[ (1) ] ، وقوله تعالى:
__________
[ (1) ] البقرة: 136.
(4/166)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما
أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [
(1) ] ، فكيف يجوز أن يخبر اللَّه تعالى عن من أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليه
وأخبر أنه أوحى إليه بأنه زنى ثم يفضحه أشد الفضيحة بأن يجعل الخبر عنه
بزنائه وحيا يتلى آلافا من السنين؟ هذا ما لا يشك من له [أدنى] تأمل بأنه
إفك مفترى.
والثاني: أنهم جعلوا داود عليه السلام ابن زنا، كما جعلوا المسيح [ابن]
مريم- رسول اللَّه وكلمته- ابن زنا! ثم كفاهم ذلك حتى نسبوه إلى التوراة،
وليس هذا ببدع من شأنهم فقد نسبوا إلى اللَّه العلي الكبير عظائم منها: أنه
استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض! فأنزل اللَّه تكذيبهم على
لسان رسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلم في قوله [تعالى] : وَلَقَدْ
خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ (2) ] .
فقد تبين أن التوراة وقع فيها التحريف والتبديل، والزيادة والنقص في عدة
مواضع.
__________
[ (1) ] النساء: 163.
[ (2) ] ق: 38.
(4/167)
وهذه نبذة من مقتضيات غضب اللَّه تعالى
عليهم
واعلم أن مقتضيات غضب اللَّه على اليهود كثيرة:
* منها أن اللَّه تعالى فلق البحر لأسلافهم، وأغرق فرعون عدوّهم، وأنجاهم،
فما جفّت أقدامهم حتى قالوا لموسى عليه السلام: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما
لَهُمْ آلِهَةٌ [ (1) ] .
* ومنها أن موسى عليه السلام لما ذهب لميقات ربه، لم يمهلوه حتى عبدوا
العجل المصنوع بحضورهم.
* ومنها أنهم مع مشاهدتهم الآيات والعجائب، كانوا يهمون برجم موسى وهارون-
عليهما السلام- في كثير من الأوقات، والوحي بين أظهرهم.
* ومنها أن موسى لما ندبهم إلى الجهاد قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (2) ] .
* ومنها أنهم آذوا موسى بأنواع الأذى، حتى قالوا: أنه آدر [ (3) ] ،
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [ (4) ] .
* ومنها أن هارون لما مات قالوا لموسى: أنت الّذي قتلته وغيبته، فرفعت
الملائكة تابوته بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتا.
* ومنها أنهم آثروا العودة إلى مصر ليشبعوا من أكل اللحم والبصل، والقثاء
والعدس [ (5) ] ، هكذا عندهم، والّذي حكاه عنهم- وهو أصدق القائلين- أنهم
آثروا ذلك على المن والسلوى.
__________
[ (1) ] الأعراف: 138.
[ (2) ] المائدة: 124.
[ (3) ] الأدرة، بالضم: نفخة في الخصية، ورجل آدر: بيّن الأدرة، ومنها
الحديث: إن بني إسرائيل كانوا يقولون إن موسى آدر، من أجل أنه كان يغتسل
وحده، وفيه نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ
اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب: 69] .
[ (4) ] الأحزاب: 69.
[ (5) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ
عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها
[البقرة: 61] .
(4/168)
* ومنها انهماكهم على الزنا وموسى بين
أظهرهم، وعدوهم بإزائهم حتى ضعفوا عنهم، ولم يظفروا بهم كما هو معروف
عندهم.
* ومنها أن يوشع تزوج زانية مشهورة بالزنا، وأن داود زنا بالمرأة، أو زنا
وابنه سليمان منها وأن أمنون بن داود افتضّ أخته من أبيه فقتله شقيقها،
وأنه أخذ سراري أبيه داود وفسق بهن، وأن سليمان بن داود بنى لنسائه بيوت
الأوثان وأباح لهن عبادتها.
* ومنها عبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون عليه السلام.
* ومنها تحايلهم على صيد الحيتان يوم السبت، حتى مسخوا قردة خاسئين، واقتدى
بهم إلى الآن خلفهم في الوفود ليلة السبت، وغير ذلك من الأعمال المحرمة
عليهم في السبت.
* ومنها قتلهم كل يوم سبعين نبيا ثم يقيمون سوقهم كأنهم جزور وأغنام.
* ومنها قتلهم يحيى بن زكريا ونشرهم أباه زكريا بالمنشار.
* ومنها اتفاقهم على تغيير كثير من أحكام التوراة.
* ومنها رميهم لوطا عليه السلام بأنه زنا بابنتيه وهو سكران.
* ومنها رميهم يوسف عليه السلام بأنه حل سراويله وجلس من امرأة العزيز مجلس
القابلة من المرأة، فقام وهرب، وهذا لعمري لو رآه أفسق الناس وأفجرهم لقام
عن المرأة ولم يقض وطرا.
* ومنها طاعتهم للخارج على ولد سليمان بن [داود] [ (1) ] ، لما وضع لهم
كبشين من ذهب فعكفت جماعتهم على عبادتها إلى أن جرت حروب بينهم وبين
المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان، قتل منهم في معركة واحدة ألوف مؤلفة-
كما ذكر في كتاب (المواعظ والاعتبار) [ (2) ] ، وفي كتاب (عقد جواهر
الأسفاط) [ (2) ] .
ثم هم مع ذلك يزرون على أهل الإسلام ويقولون: أنها ترى أكثر الفواحش تقع في
المسلمين، إلا ممن هو أعلم وأفقه في دينكم، كالزنا واللواط، والخيانة
والحسد، والقتل والغدر، والتكبر والخيلاء، وقلة الورع، وقلة اليقين، وقلة
الرحمة والمروءة والحمية، وكثرة الهلع، والتكالب على الدنيا، والكسل في
الحسنات، وهذا الحال يكذب لسان المقال.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] من مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.
(4/169)
فيقال لهم: ألا تستحيون من يقين المسلمين
الموحدين بذنوبهم؟ أو لا تستحي ذرية قتلة الأنبياء من يقين المجاهدين
لأعداء اللَّه وذريتهم؟ فأين ذريته من سيوف آبائهم تقطر من دماء أنبياء
اللَّه إلى ذرية من سيوفهم تقطر من دماء أعداء اللَّه الذين كفروا باللَّه
وأشركوا به؟.
أولا يستحي من يقول لربه في صلاته: انتبه! كم تنام! استيقظ من رقدتك أن
يعير من يقول في صلاته: أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، من
همزه ونفخه ونفثه، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ (1) ] فيا اللَّه،
لو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصا والرمال، والتراب والأنفاس، ما بلغت قتل
نبي واحد، ولا بلغت قول اليهود: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ
[ (2) ] ، وقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِما قالُوا [ (3) ] ، وقولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [ (4) ]
، وقولهم: إن اللَّه بكى على الطوفان حتى رقد من البكاء وعادته الملائكة!،
وقولهم:
إنه تعالى عضّ على أنامله على ذلك، وقولهم: أنه ندم على خلق البشر، وشقّ
عليه لما رأى من معاصيهم وظلمهم.
وأعظم من هذا كله نسبة هذه العظائم إلى التوراة التي أنزلها اللَّه تعالى
على كليمه، وفيها هدى ونور، فو الّذي تقوم السماء بأمره، لو بلغت ذنوب
المسلمين ما بلغت، ما كانت في جنب ذلك إلا كقطرة في بحر، أو ذرة في قفر.
واللَّه الموفق بمنه.
__________
[ (1) ] الآيات من أول سورة الفاتحة.
[ (2) ] آل عمران: 181.
[ (3) ] المائدة: 64.
[ (4) ] التوبة: 30.
(4/170)
بحث تاريخي عن
الأناجيل التي بين يدي النصارى
إن النصارى كلهم: أريوسييهم، وملكانييهم، ونسطورييهم، ويعقوبييهم،
ومارونييهم، ويونانييهم، لا يختلفون في أن الأناجيل أربعة، ألفها أربعة
رجال في أزمان مختلفة.
فأولها: ألّفه متّى [ (1) ] اليوناني تلميذ المسيح عليه السلام، بعد ثماني
سنين من رفع المسيح، وكتبه بالسريانية في بلد يهوذا بالشام، وهو نحو ثمان
وعشرين ورقة بخط متوسط.
__________
[ (1) ] متّى: من الاسم العبري «مثتيا» ، الّذي معناه «عطية يهوه» وهو أحد
الاثني عشر رسولا، وكاتب الإنجيل الأول المنسوب إليه.
وكان متّى في الأصل جابيا في كفر ناحوم، ودعي من موضع وظيفته، وكانت وظيفة
الجباية محتقرة بين اليهود، إلا أنها أفادت متى خبرة بمعرفة الأشغال، ولم
يذكر شيء من أتعابه في العهد الجديد إلا أنه كان من جملة الذين اجتمعوا في
العلية بعد صعود المسيح، وزعم يوسيبيوس أنه بشر اليهود، ويرجّح أن مؤلف هذا
الإنجيل هو متى نفسه، وذلك للأسباب الآتية:
1- يذكر لوقا أن متى صنع للسيد المسيح وليمة كبيرة في أول عهده بالتلمذة،
أما متى فيذكرها بكل اختصار تواضعا.
2- الشواهد والبينات الواضحة من نهج الكتابة بأن المؤلف يهودي متنصّر.
3- لا يعقل أن إنجيلا (خطيرا) كهذا هو في مقدمة الأناجيل، ينسب إلى شخص
مجهول، وبالأحرى أن ينسب إلى أحد تلاميذ المسيح.
4- يذكر بابياس- في القرن الثاني الميلادي- أن متى قد جمع أقوال المسيح.
5- من المسلم به أن الجابي عادة يحتفظ بالسجلات، لأن هذا من أهم واجباته
لتقديم الحسابات، وكذلك فإن هذا الإنجيليّ قد احتفظ بأقوال المسيح بكل دقة.
ويرجع أن هذا الإنجيل كتب في فلسطين لأجل المؤمنين من بين اليهود الذين
اعتنقوا الديانة المسيحية.
واختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل الأصلية، فذهب بعضهم إلى أنه كتب أولا
في العبرانية، أو الأرامية التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام.
وذهب آخرون إلى أنه كتب في اليونانية كما هو الآن. أما الرأي الأول فمستند
إلى شهادة الكنيسة القديمة، فإن آباء الكنيسة قالوا: أنه ترجم إلى
اليونانية ويستشهدون بهذه الترجمة، فإذا سلمنا بهذا الرأى، التزمنا بأن
نسلم بأن متى نفسه ترجم إنجيله، أو أمر بترجمته.
أما الرأي بأن متى نفسه ترجم إنجيله العبراني، فيفسّر سبب استشهاد الآباء
بالإنجيل اليوناني نفسه، فإن متى يوافق مرقس ولوقا في العظات، ويختلف عنهما
أكثر ما يكون في القصة، ثم إن الآيات المقتطفة في العظات، هي من الترجمة
السبعينية، وفي بقية القصة هي ترجمات من العبرانية.
ولا بد أن هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أورشليم، وذهب بعض القدماء إلى أنه
كتب في السنة الثامنة بعد الصعود، وآخرون إلى أنه كتب في الخامسة عشرة،
ويظن (البعض) أن إنجيلنا الحالي
(4/171)
والثاني: [ (1) ] ألفه مارقس الهاروني،
ويقال له: مرقس [ (2) ] ، وهو من السبعين، وهو تلميذ شمعون بن يونا، بعد
اثنتي عشرة سنة من رفع المسيح، وكتبه باليونانية في بلد إيطاليا من بلاد
الروم، وهي أنطاكية، ويقال: كتبه بمدينة رومية، وزعموا أن شمعون هذا هو
الّذي ألّفه، ثم محا اسمه من أوله، ونسبه إلى تلميذه مارقس، وهو نحو أربع
عشرة ورقة بخط متوسط.
__________
[ () ] كتب بين سنة 60 وسنة 65 م، وأن إنجيل مرقس ولوقا كتبا في تلك المدة
نفسها (قاموس الكتاب المقدس) : 832- 833.
[ (1) ] في (خ) : «الآخر» .
[ (2) ] مرقس: اسم لاتيني، معناه مطرقة، وهو ابن امرأة تقيّة من أورشليم،
كانت أختا لبرنابا، وهي التي كان الرسل والمسيحيون الأولون يجتمعون مرارا
في دارها للصلاة. وقيل: أنه آمن بواسطة إنذار بطرس الرسول لأنه كان يدعوه
ابنا له، وكان مرافقا لبولس وبرنابا في سفرهما الأول للتبشير، حتى وصل إلى
برجة، ففارقهما هناك، ورجع إلى أورشليم، ولذلك أبى بولس أن يقبله رفيقا له
في سفره الثاني، فانطلق مع برنابا إلى قبرس، وكان حينئذ في أنطاكية، ويحتمل
أنه كان قد أرسل إلى هناك من أورشليم من قبل الرسل، غير أنه تصالح مع بولس
فيما بعد، وصار رفيقا له، وكان يمدحه بأنه كان نافعا، وأخيرا صحب تيماثاوس
إلى رومية وكتب الإنجيل المدعو باسمه.
وقيل: إن بطرس أرسله إلى مصر ليبشر فيها باسم يسوع المسيح، وكانت أتعابه
ناجحة في ليبية، ومرموريكا، وبنتا بوليس، ثم عاد إلى الاسكندرية وهاج عليه
فيها اضطهادات شديدة من جمهور الوثنيين في موسم عيد إله لهم يسمى سيرابيس.
ثم مات لشدة ما أنهكه من آلام العذابات الكثيرة، بعد أن حبس ليلة. (مرشد
الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) 2/ 216.
وإنجيل مرقس هو الثاني من ترتيب الأناجيل الأربعة، مع أن هذا لا يعني
بالضرورة أنه كتب بعد إنجيل متى. وهو أقصر الأناجيل الأربعة، والمادة التي
يقدمها مرقس في إنجيله يقدمها في تفصيل كثير.
فيتقدم قصة حياة المسيح، وأعماله ... بسرعة، وفي تصوير رائع، وفي مناظر
متعاقبة، الواحد تلو الآخر، وتسير هذه المناظر في ترتيب تاريخي متسلسل،
ويوجه مرقس عناية خاصة إلى ما عمله المسيح، أكثر مما يوجهه إلى تعليم
المسيح.
وكان الاعتقاد السائد في أواخر القرن الأول الميلادي، أن هذا الإنجيل كتب
في روما، ووجّه إلى المسيحيين الرومانيين ... وقد ذكر إيريليوس أحد آباء
الكنيسة الأولين، أن مرقس كتب البشارة التي تحمل اسمه قائلا: «بعد أن نادى
بطرس وبولس بالإنجيل في روما، بعد انتقالهم- أو خروجهما- سلم لنا مرقس
كتابة مضمون ما نادى به بطرس» .
وإذا كان الأمر كذلك، فربما كتب هذا الإنجيل بين عام 65 وعام 68 م، ويلاحظ
أن الجزء الأخير من الإنجيل- وهو ص 16: 9- 20- وجد في بعض المخطوطات
القديمة، ولم يوجد في (بعضها) الآخر، مثل المخطوطة السينائية، ومخطوطة
الفاتيكان، ولكن يجب أن لا يغرب عن بالنا أن حوادث الظهور الواردة في هذه
الأعداد، وكذلك أقوال المسيح المقام المذكورة فيها حقائق دامغة يؤيدها
ورودها في الأناجيل الأخرى. (قاموس الكتاب المقدس) : 853- 855 باختصار.
(4/172)
والثالث: ألفه لوقا [ (1) ]- الطبيب
الأنطاكي، تلميذ شمعون المذكور- وكتبه باليونانية في بلد [] [ (2) ] وهي
الاسكندرية بعد تأليف مارقس، وهو نحو إنجيل متى.
والرابع: ألفه يوحنا ابن زبدي [ (3) ] تلميذ المسيح بعد رفعه بثلاثين سنة،
وكتبه باليونانية في بلد آسية، وهو نحو أربع وعشرين ورقة، ويوحنا هذا هو
الّذي ترجم إنجيل متى من العبرانية إلى اليونانية.
__________
[ (1) ] لوقا: اسم لاتيني ربما كان اختصار «لوقانوس» أو «لوكيوس» وهو صديق
بولس ورفيقه، وقد اشترك معه في إرسال التحية والسلام إلى أهل كولوسي، حيث
وصفه بالقول «الطبيب الحبيب» .
وقيل: إن لوقا البشير كان يهوديا دخيلا من أنطاكية، وزعم بعضهم أنه كان من
تلاميذ المسيح السبعين، وليس ذلك بصحيح كما يظهر من مقدمة إنجيله، وكان هذا
الرجل صاحبا أمينا لبولس الرسول في أسفاره الكثيرة، وإتعابه وآلامه، كما
يتضح من سفر أعمال الرسل، وكانت صناعته الطب.
وقيل: إن لوقا استشهد في حكم نيرون الملك الروماني، وهو لا يبعد عن الصواب،
لأنه كان غالبا مصاحبا لبولس الّذي قضى نحبه هناك.
وهناك رأي آخر يقول: على أن زمن موته وكيفيته لا يعرف أحد منها شيئا، إلا
أن هناك تقليدا يذكر أنه مات في بثينية في سن متقدمة، وبثينيّة مقاطعة في
الشمال الغربي من آسيا الصغرى، يحدّها شرقا يافلاغونيا، وشمالا البحر
الأسود، وجنوبا فريجية وغلاطية، وغربا بحر مرمرة.
وإنجيل لوقا هو الإنجيل الثالث، وقد وجّه إلى شخص شريف يدعى ثاوفيلس، يرجح
أنه أحد المسيحيين من أصل أممي، وكل الدلائل تشير إلى أن هذه البشارة كتبت
حوالي عام 60 ميلادي. (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) : 2/ 216،
(قاموس الكتاب المقدس) : 822- 823.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين كلمة غير واضحة في (خ) ، وما بعدها فسّرها.
[ (3) ] هو يوحنا ابن زبدي، أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، وهو المعروف
بيوحنا الحبيب، وقد كان في البداية يعمل صيادا للسمك، ويبدو أنه لم يكن
صيادا بسيطا، بل كان على قدر من اليسار، إذا ذكر عنه أنه عند ما دعاه السيد
المسيح ترك السفينة والشّباك والأجراء.
كتب يوحنا هذا الإنجيل بعد كتابة البشائر الثلاثة الأولى بزمن طويل،
والغالب أنه كتب بعد سنة 90 ميلادية، أي بعد رفع السيد المسيح بحوالي 60
عاما، وكانت المسيحية في ذلك الوقت قد بدأت في الانتشار، وبدأت أيضا تقاسي
ليس من اضطهاد اليهود فقط، بل أيضا من اضطهاد الدولة الرومانية.
وقد كانت اللغة اليونانية هي السائدة في ذلك العصر، وهي لغة المثقفين في كل
البلاد، وكان كثير من اليونانيين قد آمنوا بالمسيح، والآخرون يريدون أن
يعرفوا هذه الديانة، ولذلك كتب يوحنا إنجيله باللغة اليونانية ليسهل على
الجميع قراءته ... ولم يتعرض يوحنا لذكر نسب السيد المسيح لأنه كتب إنجيله
لليونانيين، ولا شك أنه كان صعبا على الفكر اليوناني أن يتقبل مسألة
الأنساب التي كان اليهود يهتمون بها جدا.
(دراسات في الكتاب المقدس) : 1/ إنجيل يوحنا، 6- 11.
(4/173)
وعدة هذه الأناجيل الأربعة تسعة آلاف
واثنان وستون آية، وليس أحد من النصارى يزعم أن هذه الأناجيل الأربعة منزلة
من عند اللَّه على المسيح، ولا أن المسيح أتى بها، بل كلهم يرى فيها ما
قلنا.
ولا يستريب عالم في أن التبديل والتحريف تطرق إلى لفظها وإلى معناها، وهذه
الأناجيل الأربعة يخالف بعضها بعضا ومتناقضة، كما ذكر فيها قصة صلب عيسى،
وكيف تكون في الإنجيل الّذي أنزل اللَّه على المسيح قصة صلبه وما جرى له،
وأنه أصابه كذا وكذا، وصلب يوم كذا وكذا، وقام من القبر، وغير ذلك مما هو
من كلام شيوخ النصارى.
والإنجيل على قولهم نزل على المسيح قبل صلبه بزعمهم، وغايته أن يكون من
كلام الحواريين ثلاثة أناجيل، وسمّوا الجميع إنجيلا وفيها ذكر القول
ونقيضه، فمنها أنه قال: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق غير مقبولة، ولكن
غيري يشهد لي.
وقال في موضع آخر: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين جئت،
وإلى أين أذهب. ومنها أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال: جزعت نفسي
الآن فماذا أقول يا أبتاه، سلمني من هذا الموقف.
ومنها أنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحا عظيما وقال: يا إلهي! لم
أسلمتني؟ فكيف تجمع هذا مع قولهم: إنه هو الّذي اختار نفسه إلى اليهود
يصلبوه ويقتلوه، رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا، وأخرج بذلك
آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وجميع الأنبياء عليهم السلام، من جهنم بالحيلة
التي دبرها على إبليس.
وكيف يبتلى إله العالم بذلك، وكيف يسأل السلامة منه، وهو الّذي اختاره
ورضيه، وكيف يشتد صياحه ويقول: يا إلهي! لم اسلمتني؟ وهو الّذي أسلم نفسه،
وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه، وإنزال صاعقة على الصليب وأهله؟
أم كان ربا عاجزا مقهورا مع اليهود؟ جلّ اللَّه عن قولهم.
ولو أتينا بما حرفوه في الإنجيل لأتينا به أو غالبة، غير أن اللَّه تعالى
صرفهم عن بضع وثلاثين موضعا فيها بشارات بنبينا محمد صلّى اللَّه عليه
وسلم، وإنما إليه ليكون حجة عليهم.
(4/174)
ولهم إنجيل خامس يسمى إنجيل الصبوة، فيه
الأشياء التي صدرت من المسيح عليه السلام في حال طفولته، وهو يحكي عن بطرس
عن مريم عليها السلام، وفيه زيادات ونقصان، وذكر فيه قدوم المسيح وأمه،
ويوسف النجار إلى صعيد مصر ثم عودتهم إلى الناصرة.
فقد تبين أن الإنجيل إنما نقله أربعة رجال، منهم اثنان [فقط] [ (1) ] من
أصحاب المسيح بل من التابعين لهم، ولا جرم لما نقل هذا الكتاب بلفظ الآحاد
وقع فيه الغلط. واللَّه الموفق للصواب وإليه المرجع [والمآب] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(4/175)
[المعجزة في رأي
المتكلمين]
وأما المعجزة، فإنّها على طريقة المتكلمين أمر يظهر بخلاف العادة في دار
التكليف، لإظهار صدق [مدعي النبوة] ، مع نكول من يتحدى به عن معارضته
بمثله، وقيد بدار التكليف، لأن ما كان في الآخرة من خلاف العادة لا يكون
معجزة، وبإظهار صدق مدّعى النبوة احترازا عما يظهر على يد الولي والمتألّه،
إذ في ظهور إخلاف العادة على يد المتأله جائز دون المتنبي، والفرق أن ظهوره
على يد المتنبي يوجب انسداد باب معرفة النبي، وأما ظهوره على يد المتأله
[لا يوجب] [ (1) ] انسداد باب معرفة الإله، لأن كل عاقل يعرف أن الآدمي
لاشتماله على أمارات القصور، لا يكون إلها، ولو رئي منه [أيّ خارق] [ (1) ]
للعادة.
وقيد بإظهار صدقه لأنه لو ظهر لإظهار كذبه لا يكون معجزة، كما لو ادعى
المتنبي أن معجزتي نطق هذه الشجرة فأنطقها اللَّه تعالى بتكذيبه لا تكون
معجزة، وقيد بنكول من يتحدى به عن معارضته، لأنها تخرج عند المعارضة عن
الدلالة، ووجه دلالة المعجزة ما سبق من العلم، فإن اللَّه سامع لدعواه، وأن
ما ظهر على يده لا يقدر عليه إلا اللَّه ... إلى آخره.
وقال بعضهم: المعجز هو الأمر الممكن الخارق للعادة المقرون بالتحدي الخالي
عن المعارض، وقال آخر: المعجزة فعل يظهر على يد من يدعي النبوة بخلاف
العادة في زمان التكليف موافقا لدعواه، وهو يدعو الخلق إلى معارضته
ويتحداهم أن يأتوا بمثله فيعجزون عنه، فيتبين به صدق من ظهر على يده.
وقال آخر: المعجزة أفعال تعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة، وليست من
جنس مقدور العباد، وإنما تقع في غير محل قدرتهم. وللناس في كيفية وقوعها
ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف:
فقال المتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار: هي واقعة بقدرة اللَّه
[تعالى] [ (1) ]
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(4/176)
لا بفعل النبي، وإن كانت أفعال العباد عند
المعتزلة صادرة عنهم، إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم، وليس للنّبيّ
فيها عند الجميع إلا التحدي بها بإذن اللَّه، وهو أن يستدل بها النبي قبل
وقوعها على صدقة في مدعاه، فتنزل منزلة القول الصريح من اللَّه بأنه صادق،
وتكون دلالتها على الصدق قطعية، فالمعجزة الدالة مجموع الخارق والتحدي،
ولذلك كان التحدي جزءا منها، والتحدي هو الفارق بينهما وبين الكرامة
والسحر، إذ لا حاجة إلى التصديق، ولا وجود للتحدي، إلا أن وجد اتفاقا.
وإن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة، فإنما هي على
الولاية، وهي غير النبوة، ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحاق وغيره وقوع
الخوارق كرامة فرارا من الالتباس بالنّبوّة عند التحدي بالولاية.
ومنع المعتزلة أيضا من وقوع الكرامة، لأن الخوارق عندهم ليست من أفعال
العباد، وأفعالهم لهم معادة، ولا خارق.
وعند الحكماء: أن الخارق من فعل النبي، ولو كان في غير محل القدرة، وبنوا
ذلك على مذهبهم في الإنجاب الذاتي، ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف على
الشروط والأسباب الحادثة، مستندة أخيرا إلى الواجب بالذات [الفاعل] [ (1) ]
لا بالاختيار، وأن النفس النبويّة عندهم لها خواص ذاتية، منها:
صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين، والنبي عندهم مجبول
على التصريف في الأكوان، متى توجه إليها واستجمع لها بما جعل اللَّه له من
ذلك.
والخارق عندهم يقع للنّبيّ، كان التحدي أو لم يكن، وهو شاهد بصدقة من حيث
دلالته على تصرف النبي في الأكوان، الّذي هو من خواص النفس النبويّة عندهم،
لا تنزل منزلة القول الصريح بالتصديق، فلذلك لا تكون دلالتها قطعية كما هي
عند المتكلمين، ولا يكون التحدي جزءا من المعجزة، ولم يصبح فارقا لها عن
السحر والكرامة.
وفارقها عندهم عن السحر: أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال
الشر، ولا يلم الشر بخوارقه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(4/177)
والساحر أفعاله كلها شر، وفي مقاصد الشر،
وفارقها عن الكرامة: أن خوارق النبي مخصوصة كصعود السماء، والنفوذ في
الأجسام الكثيفة، وإحياء الموتى، وتكليم الملائكة، والطيران في الهواء.
وخوارق الولي دون ذلك، كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل، ونحو ذلك
مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء، ويأتي النبي بمثل خوارقه، ولا يقدر هو على
مثل خوارق الأنبياء. وقد قرر ذلك المتصوفة، فيما كتبوه في طريقهم وفعلوه عن
مواجدهم.
(4/178)
[الآية]
وأما الآية: فإنّها العلامة، والمعجبة، والخارقة للعادة، فهي أعم من
المعجزة، لأن من شرط المعجزة التحدي بها، بخلاف الآية، فقد لا يتحدى بها،
بل تظهر خارقة للعادة على يد النبي، وإن لم يتحد بها في الحال، فعلى هذا
يقال لما تقدم من ذلك البعثة النبويّة، بل وجوده عليه السلام آية، ولا تقال
له: معجزة، إلا بنوع من المجاز بنا، على أن المعجزة بمعنى الخارقة في
الجملة، ولذلك لما وقع من ذلك بعد وفاته عليه السلام آية، لأن الآية تشمل
المعجزة وغيرها.
وقد تغلغل بنا الكلام في هذه المهمات، وفيها فوائد تعود بخير لمن وفقه
اللَّه إلى سواء السبيل، وهذا حين أشرع في إيراد ما أمكن من معجزات رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأقول:
اعلم أن معجزات الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم كثيرة جدا، وقد ذكر بعض أهل
العلم أن أعلام نبوته تبلغ ألفا [ (1) ] ، وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ
[ (2) ] : والنبي إذا عظم قدره عظمت أسماؤه، وأما معجزاته فقد بينا في
كتاب- (الأصول والإملاء لأنوار الفجر) [ (3) ] ألف معجزة جمعناها للنّبيّ
صلّى اللَّه عليه وسلم، منها ما هو في القرآن قد تواتر، ومنها ما نقل
آحادا، ومجموعها خرق للعادة على يديه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وكانت صورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهيئته وسمته وشمائله، تدل
العقلاء على صدقه، ولهذا قال عبد اللَّه بن سلام: فلما رأيت وجهه عرفت أنه
ليس بوجه كذاب، ولذا كان من سمع كلامه، ورأى آدابه، لم يدخله شك، وقد كان
في صغر سنه وبدء [ (4) ] أمره، يعرف بالأمانة والصدق وجميل الأخلاق، كما
تقدم ذكره.
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 5/ 499- 500.
[ (2) ] هو محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه بن أحمد، شيخ القاضي
عياض (468- 543 هـ) .
[ (3) ] من مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.
[ (4) ] في (خ) : «وبدو» .
(4/179)
وما أحسن فهم قيصر ملك الروم حيث يقول: ما
كان ليترك الكذب على الخلق ويكذب على اللَّه. ومع ذلك فقد أيده اللَّه
تعالى بالآيات المعجزات، وما يمتنع عن قدر المخلوقين من براهين النبوة
وأعلامها، كسجود الإبل له، وتسليم الصخور عليه، وسعي الأشجار إليه، وكلام
الذئاب إياه، وحنين الخشب الموات إلى قربه، وانشقاق القمر حتى رئي الجبل
بين فلقتيه، وإخباره بالأمور قبل وقوعها، إلى غير ذلك مما سنورده إن شاء
اللَّه من الأحاديث التي تولّاها أهل العدالة والصدق على روايتها، خلفا عن
سلف، حتى ينتهي إلى من عاين المعجزات وشاهدها.
فجرت عندنا لذلك معجزات رسول الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم مجرى ما شاهدناه
ورأيناه، لتوفر دواعي الكافة ننقلها، وكان من أجل أعلام نبوته صلّى اللَّه
عليه وسلم ما قصم به أعداءه في حياته، وأبقاه اللَّه حجة على معاندي الحق
بعد وفاته، وهو القرآن الّذي تحدى العرب بأن يعارضوه في سورة أو سور
فعجزوا.
وذلك أن اللَّه تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى قوم جل علمهم السحر،
أعطاه من جنس ما يدعون الحذق به: إلقاء العصا حتى تصير ثعبانا، وإخراجه يده
من جيبه بيضاء من غير برص، فعارضوا ذلك بسحرهم فبطل عليهم، ولم يصلوا به
إلى إقامة الحجة على موسى.
ولما بعث بعيسى عليه السلام إلى قوم عظم عملهم الطب، أعطاه من جنس ما يدعون
الحذق به: إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، فانقطعوا عن مقاومته.
ولما بعث محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم إلى العرب، كان جل علمهم الشعر
والسجع والرجز والنثر، والافتنان في القول، أعطاه من جنس ما يدعون الحذق
به، القرآن، وقال لهم صلّى اللَّه عليه وسلم بلسان الإشارة: أنتم أرباب
الفصاحة والبيان، وأعلم الناس بأفانين المنطق، وأجناس القول: شعره وسجعه،
ورجزه ونثره، فعارضوني بمثل سورة من القرآن الّذي نزل بألفاظكم، موفقا
للسانكم، لا يخالف لغتكم، ولا يخرج عن معنى
(4/180)
من كلامكم، فرموه بحزوق شعرهم، ومؤلف
سجعهم، وبديع نثرهم، فما أحاطوا به تشبيها، ولا قاربوه تأليفا، حتى إنهم
جعلوا يستروحون إلى أن يقولوا لصغارهم وأغبيائهم: هذا القرآن شعر! وتقول
طائفة أخرى: هو سحر! ليعذروا في تأخرهم عن الجواب والمعارضة.
هذا وقد علموا بأنه مخالف للسحر، ومباين للشعر، كما سنورده إن شاء اللَّه
بالأسانيد، فهم ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يزل يقرعهم ويوبخهم
بانقطاعهم وعجزهم، فيقرأ عليهم قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [ (1) ] ، وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا
مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [ (2) ] ،
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [ (3) ] ، وقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً [ (4) ] .
وهم يألمون لما يسمعون من التوبيخ، وقلقون لما يعلمون من وقوع الحجة بهم
عند الاعتراف بالعجز، فلما أبوا إلا عناد الحق، دعاهم ذلك إلى القتال، ولو
وصلوا إلى أن يعارضوا لخصموا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم وظهروا عليه،
واستغنوا عن قتاله، فلما صبروا للحروب وبذل النفوس، والجلاء عن الديار،
وذهاب الأموال والأولاد، كان في ذلك أعظم دليل وأوضح برهان على إعجاز
القرآن للعالمين، وامتناعه عن قدر المخلوقين.
__________
[ (1) ] يونس: 38.
[ (2) ] هود: 13.
[ (3) ] البقرة: 23.
[ (4) ] الإسراء: 88.
(4/181)
تنبيه وإرشاد لأهل
التوفيق والرشاد
اعلم أن اللَّه جلت قدرته، خص كل نبي من أنبيائه، ورسول من رسله، بما شاء
من فضله، وأيدهم بمعجزات تدل على صدقهم فيما ادعوه من رسالة ربهم، وما من
فضيلة كانت لنبي، أو معجزة أيد اللَّه تعالى بها رسولا من رسله، إلا وقد
أعطى سبحانه نبيه ورسوله محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مثلها وشبهها، ونحوا
منها وأفضل وأجلّ منها، يعرف ذلك من منحه اللَّه تعالى العلم، وورثه
التوفيق في الفهم، فكان أول الأنبياء بعثه اللَّه تعالى إلى أهل الأرض، نوح
عليه السلام، وكانت آيته التي أوتيها، شفاء غيظه، وإجابة دعوته، في تعجيل
نقمة اللَّه تعالى لمن كذبه، حتى هلك من على وجه الأرض من صامت وناطق، إلا
من آمن به وركب معه السفينة.
(4/182)
|