إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

فصل في [ذكر موازاة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي عليه السلام]
وقد أتى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك، فإن قريشا لما كذبوه وبالغوا في أذاه وإهانته، دعا عليهم، فاستجاب ربه دعاءه فيهم وقبله، كما خرجه عبد الرزاق، أخبرنا إسرائيل عن إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع قريش ينظرون، فقال قائل منهم: ألا ترون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلائها، حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟
فانطلق أشقاهم فجاء به، حتى إذا سجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساجدا، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي اللَّه عنها- وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ساجدا حتى نحّت عنه، وأقبلت عليهم تسبّهم.
فلما قضى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم صلاته استقبل الكعبة فقال: اللَّهمّ عليك بقريش، ثم سماهم فقال: اللَّهمّ عليك بعمرو بن هشام، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد، قال عبد اللَّه: والّذي توفّى نفسه، لقد رأيتهم صرعى يسحبون إلى القليب قليب بدر، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ أتبع أهل هذا القليب لعنة:
وسيأتي هذا بطرقه.
فانظر لمشابهة هذا الخبر ما أوتيه نوح من إجابة دعائه في هلاك قومه، وتأمل ما ميز اللَّه تعالى به محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك، فإن نوحا عليه السلام لما امتلأ غيظا من أذى المكذبين له، وعيل صبره، ابتهل إلى ربه تعالى يسأله أن ينصره، فقال: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [ (1) ] ، فهطلت السماء بماء منهمر، فكانت دعوته دعوة انتقام وانتصار.
__________
[ (1) ] القمر: 10.

(4/183)


ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم دعا ربه لما قحطت الأرض فهطلت السماء بدعائه بما منهمر، أغاث اللَّه به العباد والبلاد، فكانت دعوته رحمة وغوثا للأنام، كما كان صلّى اللَّه عليه وسلم رحمة للعالمين وسيأتي خبر استسقائه بطرقه.
وقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم ليلا ونهارا، فلم يؤمن به إلا دون المائة، ما بين رجل وامرأة [ (1) ] ، وهم الذين ركبوا معه السفينة، ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم كانت مدة دعائه الناس عشرين سنة، فآمن به أمم لا يحصون، ودانت له جبابرة [الأرض] ، خافت ملوكها ككسرى ملك فارس، وقيصر ملك الروم، والنجاشيّ ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وإقبال اليمن وملوك البحرين، وحضر موت، وهجر، وعمان، وغيرهم.
ودانت له بحمل الإتاوة والجزية: أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأكيدر، ودومة، لما أيده اللَّه تعالى به من الرعب الّذي ينزله بقلوب أعدائه، حتى فتح الفتوح الجليلة، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجا، فأتوا طائعين راغبين، مصدقين له، مؤمنين بما جاء به، فأي كرامة أعظم، وأي منزلة أرفع من هذا؟
وقد خصّ نوحا عليه السلام بأن نحلة اسما من أسمائه تعالى فقال: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [ (2) ] ، وخصّ محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم باسمين من أسمائه الحسنى، جمعهما له، ولم يشركه فيهما [ (3) ] أحد، قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (4) ] .
هذا مع ما خصه به تعالى من مزيد التشريف والتكريم، حيث خاطبه بصفة من صفات الرفعة والشرف، تقوم مقام الكنية، إذا يقول تعالى مخاطبا له صلّى اللَّه عليه وسلم في كتابه العزيز: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [ (5) ] ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [ (6) ] ، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (7) ] ،
__________
[ (1) ] قال تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] .
[ (2) ] الإسراء: 3.
[ (3) ] هما: رءوف، رحيم.
[ (4) ] التوبة: 128.
[ (5) ] الأنفال: 64، 65، 70، التوبة: 73، الأحزاب: 1، 28، 45، 50، 59، الممتحنة:
12، الطلاق: 1، التحريم: 1، 9.
[ (6) ] المائدة: 41، 67.
[ (7) ] المدثر: 1.

(4/184)


يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [ (1) ] .
ولم يخاطب سبحانه غيره من الرسل إلا باسمه، فقال تعالى: يا آدَمُ [ (2) ] ، يا نُوحُ [ (3) ] ، يا إِبْراهِيمُ [ (4) ] ، يا مُوسى [ (5) ] ، يا يَحْيى [ (6) ] ، يا داوُدُ [ (7) ] ، يا عِيسى [ (8) ] ، وكل ذي عقل سليم يرى أن الخطاب للرجل بكنية أجل وأعظم من دعائه وخطابه به [من] [ (9) ] ندائه باسمه.
ولما رماه صلّى اللَّه عليه وسلم المشركون بما رموا به من قبله من رسل اللَّه تعالى منذ عهد نوح فقالوا: مجنون، وساحر، وشاعر، ونحو ذلك من افترائهم الّذي نزه اللَّه عنه رسله عليهم السلام، احتمل صلّى اللَّه عليه وسلم أذاهم، وصبر على تكذيبهم له، ثقة منه بأن اللَّه تعالى تولى نصرته، وأنه وليه وظهيره، ولم يسلك مسلك من تقدمه من الرسل، في انتصارهم لأنفسهم، كقول نوح لما قال له قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (10) ] ، فقال مجيبا عن نفسه: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ [ (11) ] ، وكقول هود لما قال له قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [ (12) ] فقال دفعا عن نفسه: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ [ (13) ] ، [و] [ (14) ] كما قال [فرعون] [ (15) ] لموسى: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [ (16) ] ، فنصر نفسه بنفسه فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [ (17) ] ، ولما قال المشركون لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم: أَإِنَّا لَتارِكُوا [ (18) ] آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [ (19) ] ، وقالوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [ (20) ] ، سكت صلّى اللَّه عليه وسلم صابرا محتسبا.
فتولى اللَّه تعالى نصرته بوحي يتلى على مر الأيام إذا يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ
__________
[ (1) ] المزمل: 1.
[ (2) ] البقرة: 33، 35، الأعراف: 19، طه: 117.
[ (3) ] هود: 46، 48.
[ (4) ] هود: 76، الصافات: 104.
[ (5) ] طه: 11، 17، 19، 36، 40، 83، النمل: 9، 10، القصص: 30، 31.
[ (6) ] مريم: 12.
[ (7) ] ص: 26.
[ (8) ] آل عمران: 55، المائدة: 110، 116.
[ (9) ] زيادة للسياق.
[ (10) ] الأعراف: 60.
[ (11) ] الأعراف: 61.
[ (12) ] الأعراف: 66.
[ (13) ] الأعراف: 67.
[ (14) ] زيادة للسياق.
[ (15) ] زيادة للسياق.
[ (16) ] الإسراء: 101.
[ (17) ] الإسراء: 102.
[ (18) ] في (خ) : «لتاركوا» .
[ (19) ] الصافات: 36.
[ (20) ] الحجر: 6.

(4/185)


وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (1) ] ، وإذ يقول اللَّه تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [ (2) ] ، وكذلك لما قالت قريش: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [ (3) ] ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [ (4) ] ، أعرض عنهم امتثالا لأمر ربه تعالى، إذ قال: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [ (5) ] ، فأنزل اللَّه تعالى براءته من ذلك، ودافع عنه ونصره، إذ يقول سبحانه: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ (6) ] ، وإذ يقول: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [ (7) ] ، في آيات أخر، ولهذا المعنى مزيد بيان فيما يأتي.
__________
[ (1) ] يس: 69.
[ (2) ] القلم: 2.
[ (3) ] النحل: 103.
[ (4) ] الفرقان: 4، وفي (خ) . «وقالوا إن هذا» .
[ (5) ] النجم: 29.
[ (6) ] الفرقان: 6.
[ (7) ] الشعراء: 193.

(4/186)


وأما إبراهيم عليه السلام
فإن اللَّه تعالى اختصه بمقام الخلّة، فقال تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [ (1) ] ، وكسّر عليه السلام أصنام قومه التي كانت آلهتم التي يعبدونها من دون اللَّه غضبا لربه تعالى، وحجبه من نمروذ بحجب ثلاثة، وقصم عليه السلام نمروذ ببرهان نبوته فبهته، وبنى عليه السلام البيت.
وقد آتى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم ذلك كله بمزيد شرف وأجل تكريم، فالخلة مقامه صلّى اللَّه عليه وسلم، فيها أكمل مقام،
ثبت من طرق عديدة عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل اللَّه.
وقد ثبت في صحيح مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة، ومن طريق أبي مالك عن ربعي بن خراش، عن حذيفة قالا: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يجمع اللَّه الناس فيقوم المؤمنون حتى يزلف لهم الجنة، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى أبيكم إبراهيم خليل اللَّه، قال: فيقول إبراهيم عليه السلام: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الّذي كلمه اللَّه تكليما، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة اللَّه وروحه، فيقول عيسى عليه السلام: لست [بصاحب] [ (2) ] ذلك، فيأتون محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم فيقوم، فيؤذن له [ (3) ] ...
وهذا يدل على أنه صلّى اللَّه عليه وسلم أعطى [أعلى من] مقام الخلة، لأنه رفع له الحجاب، وكشف له الغطاء، ولو كان خليلا من وراء وراء، لاعتذر كما اعتذر إبراهيم عليه السلام، فإذا منصب المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم هو [الأعلى] ، من مفهوم قول إبراهيم عليه السلام: إنما كنت خليلا من وراء وراء ولم يشفع، فدلّ [على] أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء، مع الكشف والعيان، وقرب المكانة من حضرة القدس لا المكان، وذلك مقام المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] النساء: 125.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] سبق تخريجه وشرحه.

(4/187)


وقد تقدم في بعض طرق الإسراء، أنه صلّى اللَّه عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى قيل له: اسأل، فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا، إلى أن قال له ربه عز وجلّ: قد اتخذتك حبيبا،
ولذلك كسّر الأصنام، فإن الّذي أعطاه اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك، أفضل مما أعطاه إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلم رمى هبل من [أعلى] الكعبة، وأشار يوم فتح مكة إلى ثلاثمائة وستين صنما فوقعت وكسرت بأسرها بمحضر أهل نصرها، وذلك بإشارته صلّى اللَّه عليه وسلم بقضيب ليس مما يكسر مثله عادة، وكان كسر إبراهيم عليه السلام للأصنام بمعول يكسر مثله عادة.
وكان كسره عليه السلام لتلك الأصنام التي كسرها بمعوله عند غيبة قومه عن أصنامهم، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم إنما كسرها وقريش الحماة الأبطال، تراها وهي تتساقط على وجوهها، وقد كانوا أمس يرونها آلهة تجلب لهم النفع وتردّ عنهم الضّرّ، فما انتطح في كسرها عنزان، ولا نطق بنصرها ذو لسان.
قال عبد اللَّه بن عمر العمري، عن نافع [عن ابن] عمر رضي اللَّه [عنهما] قال: وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم فتح مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما قد ألزمها الشيطان بالرصاص والنحاس، فكان كلما دنا منها مخصرته، تهوى من غير أن يمسها ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [ (1) ]
فتساقط لوجوهها، ثم أمر بهن فأخرجن إلى المسبل.
وقد حجب اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم عمن أرادوا قتله بخمسة حجب: ثلاثة منها في قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ (2) ] ، وواحد في قوله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [ (3) ] ، والخامس في قوله تعالى:
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [ (4) ] ، ويتبين لك معنى كون هذه الحجب إذا نظرت في الهجرة النبويّة، ومكر الذين كفروا به صلّى اللَّه عليه وسلم وخروجه من منزله وهم قيام يريدونه فلم يروه.
__________
[ (1) ] الإسراء: 81.
[ (2) ] يس: 9.
[ (3) ] الإسراء: 45.
[ (4) ] يس: 8.

(4/188)


وقد قصم صلّى اللَّه عليه وسلم ببرهان نبوته الّذي أتاه مكذبا بالبعث بعد الموت- وهو أبي ابن خلف- وقد حمل عظاما باليا، وفركه ثم قال: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ فأنزل اللَّه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [ (1) ] ، فانصرف عدو اللَّه مبهورا.
كما بهت الّذي كفر- وهو نمروذ- إذ يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [ (2) ] .
وقد اختلف في هذا القائل، فقال مجاهد وقتادة: هو أبي بن خلف، وقال سعيد بن جبير [عن ابن] [ (3) ] عباس: هو العاص بن وائل، وصححه الحاكم، وروى [عن أبيه] عباس: أنه عبد اللَّه بن أبي [ابن] [ (4) ] سلول.
وإبراهيم عليه السلام، وإن كان له في بناية البيت الحرام شرفا يميز به على من عداه، فإن أعظم ما في البيت: الحجر الأسود، وقد أعطى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك، فإن قريشا لما بنت البيت في جاهليتها، اختلفت فيمن يضع الحجر، حتى أشير عليهم بتحكيم أول من يطلع عليهم، فطلع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحكموه، فوضع الحجر في رداء، وأمر كل قبيلة أن ترفع منه شيئا، ثم وضعه صلّى اللَّه عليه وسلم بيده، كما تقدم ذلك بطرقه.
ثم انظر قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [ (5) ] ، يظهر لك أن الخليل عليه السلام كان وصوله بواسطة، وأين ذلك من قوله تعالى في حق محمد صلّى اللَّه عليه وسلم: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [ (6) ] .
وانظر قوله تعالى عن الخليل [عليه السلام] : وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [ (7) ] ، تجد بينه وبين قوله تعالى لنبينا محمد [صلّى اللَّه عليه وسلم] :
__________
[ (1) ] يس: 79.
[ (2) ] البقرة: 258.
[ (3) ] ، (4) زيادة للسياق.
[ (5) ] الأنعام: 75.
[ (6) ] النجم: 8- 10.
[ (7) ] الشعراء: 82.

(4/189)


لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [ (1) ] بونا كبيرا: ذلك طمع في المغفرة، وهذا غفر له بيقين.
وكذا قوله [تعالى عن الخليل عليه السلام] [ (2) ] : وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [ (3) ] ، مع قوله [تعالى عن نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (2) ] : يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [ (4) ] ، تجده ابتدأ محمدا [صلّى اللَّه عليه وسلم] بالبشارة قبل السؤال.
وكذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [ (5) ] والخليل قال: حَسْبِيَ اللَّهُ [ (6) ] ، تجد بين المقامين بونا كبيرا.
وكذلك قول الخليل: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [ (7) ] ، مع قوله تعالى لمحمد [صلّى اللَّه عليه وسلم] : وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (8) ] ، يظهر لك شرف مقامه، لأنه أعطي بلا سؤال.
[وكذا] [ (9) ] قول الخليل: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [ (10) ] ، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم قيل له: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (11) ] وفي ذلك تنبيه على علوّ مقام المصطفى ورفيع مكانته صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأما الذبيح: فإن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم حصل له من شق صدره المقدس ما هو من جنس ما أوتيه الذبيح، فإن الذبيح إسماعيل عليه السلام، صبر على مقدمات الذبح:
شد وثاقه، وتله للجبين، وإهواء أبيه بالمدية إلى منحره، [فوفى] [ (12) ] بما وعد به من قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [ (13) ] .
وكان لنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك أوفى مقام من الصبر وأجلّ، لأن الّذي حصل من الذبيح إنما هو الصبر على مقدمات الذبح فقط، والمصطفى [صلّى اللَّه عليه وسلم صبر] [ (14) ] على شق صدره، واستخراج قلبه، ثم شقه، ثم استخراج العلقة، ثم غسله، ثم إطباقه، ثم وضعه، ثم إحاطة صدره.
__________
[ (1) ] الفتح: 2.
[ (2) ] زيادة للبيان.
[ (3) ] الشعراء: 87.
[ (4) ] التحريم: 8.
[ (5) ] الأنفال.
[ (6) ] الزمر: 38.
[ (7) ] الشعراء: 84.
[ (8) ] الشرح: 4.
[ (9) ] زيادة للسياق.
[ (10) ] إبراهيم: 35.
[ (11) ] الأحزاب: 33.
[ (12) ] زيادة للسياق.
[ (13) ] الصافات: 102.
[ (14) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/190)


وأين الصبر على مقدمات جز المنحر بالمدية، من الصبر على شق الصدر وإخراج القلب وشقه، فإن صبر الذبيح إنما كان على ما أصابه من صورة القتل لا على فعله، وصبر المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم إنما كان على مقاتل عدوه، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، وأدل دليل على مقاساته صلّى اللَّه عليه وسلم الألم في شق صدره قوله: فأقبل وهو ممتقع اللون أو منتقع اللون، ومعناه أنه صار كلون النقع، وهو الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، هذا يدل على غاية المشقة، فكان ابتلاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم بشق الصدر وما معه أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر عنه باعتبارين:
أحدهما: أنه ابتلي بذلك فصبر عليه وهو طفل صغير منفرد عن أمه ويتيم من أبيه.
والآخر: مقاساة حقيقة الشق للصدر والقلب، وغاية ما ابتلى به الذبيح التعريض بذبحه وبين المقامين في الصبر بون بعيد فتأمله.
وأمر آخر: وهو أن الذبيح توطنت نفسه على ما انتابه بقوله أبيه: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [ (1) ] ، والرسول صلّى اللَّه عليه وسلم فجئه ذلك البلاء العظيم على غفلة، فإنه أختطف من الأطفال وفعل به ما فعل، وأين حال من هو مع أبيه وقد أنذره بما يفعل به، ممن يختطفه من لا يعرفه، وينزل به ذلك البلاء العظيم، فإن البغتة أشد على النفس، والفجاءة أقوى رعبا.
__________
[ (1) ] الصافات: 102.

(4/191)


وأما هود عليه السلام
فإن اللَّه تعالى نصره على قومه الذين عادوه إذ كذبوه بالريح العقيم، وقد أعطى اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم أفضل من ذلك، فانتصر من أعدائه بالريح يوم الخندق، قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (1) ] ، فكانت ريح هود ريح سخط وانتقام: ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [ (2) ] ، وريح محمد صلّى اللَّه عليه وسلم ريح رحمة، قال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (3) ] ، وقال حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه [عنهما] [ (4) ] ، قال: لما كان يوم الأحزاب، انطلقت الجنوب إلى الشمال، فقالت: انطلقي بنا ننصر محمدا رسول اللَّه، فقالت الشمال للجنوب: إن الحرة لا تسري بليل، فأرسل اللَّه عليهم الصّبا، فذلك قوله تعالى: [فَأَرْسَلْنا] [ (4) ] عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (5) ] .
__________
[ (1) ] الأحزاب: 9.
[ (2) ] الذاريات: 42.
[ (3) ] الأحزاب: 9.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] الأحزاب: 9.

(4/192)


وأما صالح عليه السلام
فإن اللَّه تعالى أخرج له ناقة لتكون حجة له على قومه، وآية لنبوته، لها شرب ولقومه شرب يوم معلوم، وقد أعطى اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك ما لم يؤت صالحا، وذلك أن ناقة صالح عليه السلام لم تكلمه ولا شهدت له بالنّبوّة، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم أتاه البعير الناد شاكيا إليه ما همّ به صاحبه من نحره.
خرج أبو بكر بن أبي شيبة من طريق إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبيري عن جابر رضي اللَّه عنه قال: سرنا ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بين أظهرنا كأن على رءوسنا الطير، فأتاه جمل ناد، حتى إذا كان بين السماطين خرّ ساجدا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: من صاحب هذا الجمل؟ فإذا فتية من الأنصار قالوا: هو لنا يا رسول اللَّه، قال فما شأنه؟ قالوا: سقينا عليه منذ عشرين سنة وكانت به مشيخة، فأردنا أن ننحره فنقسمه بين علمائنا فانفلت منا، قال:
تبيعونه؟ قالوا: لا، بل هو لك يا رسول اللَّه، قال: أما فأحسنوا إليه حتى يأتي أجله.
وسيأتي هذا الحديث بطرقه إن شاء اللَّه تعالى.

(4/193)


وأما إدريس عليه السلام
فإن اللَّه تعالى قال في حقه: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا، والعلوّ من الأمور النسبية، فتارة يكون علوّ مكان، وتارة وتارة يكون علوّ مكانة، فعلوّ المكان:
مقام إدريس عليه السلام، وهو على ما روى الفلك الرابع، رفعه اللَّه إليه.
وأما علو المكانة: فهو الّذي خص اللَّه تعالى به المقام المحمدي، قال تعالى:
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [ (1) ] ، فهو سبحانه وتعالى [منّزه] عن المكان لا عن المكانة، وعلو المكانة أجلّ من علو [المكان] [ (2) ] ، وقد خصّ اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من علو المكانة بما لم ينله أحد غيره، قال تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (3) ] ، فرفع اللَّه تعالى ذكره صلّى اللَّه عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا صاحب صلاة إلا ينادي: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، فقرن تعالى اسمه الكريم باسمه صلّى اللَّه عليه وسلم في توحيده والشهادة بربوبيته، في مشارق الأرض ومغاربها، وجعل ذلك مفتاحا للصلوات المفروضات.
روى [عن] [ (4) ] ابن لهيعة، عن دراج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (5) ] قال: قال لي جبريل عليه السلام: قال اللَّه: إذا ذكرت ذكرت معي.
وقال عثمان بن عطاء الزهري، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما فرغت مما أمرني اللَّه به من أمر السموات والأرض قلت: يا رب، إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد كرّمته، جعلت إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي؟ قال: أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله؟ أن لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرءون ظاهرا، ولم أعطها أمة، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي (لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم) .
__________
[ (1) ] محمد: 35.
[ (2) ] زيادة للبيان.
[ (3) ] الشرح: 4.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] الشرح: 4.

(4/194)


وأما يعقوب عليه السلام
فإن اللَّه تعالى قال: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [ (1) ] ، فكانت الأسباط من سلالة يعقوب ومريم ابنة عمران من ذريته، والهداة منه كانوا، فعظم من الخير نصيبه، حتى قال تعالى في أولاده: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ [ (2) ] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ [ (3) ] .
وقد أعطى اللَّه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من الخير أوفر الحظّ وأرفع الذكر، وأجزل النصيب، فجعل ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين، وجعل من ذريته الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة،
روي عن محمد بن حجادة عن عمران بن كثير عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: حسبك من نساء العالمين أربع: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم.
وجاء من عدة طرق عن ابن عباس وأبي سعيد الخدريّ مرفوعا: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.
وعن الشعبي عن أبي جحيفة عن علي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجنة غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد، فتمر وعليها ريطتان خضراوان.
وقال حفص بن غياث عن العرزميّ عن عطاء عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة [نادى] [ (4) ] مناد من وراء الحجب: يا أيها الناس غضوا أبصاركم ونكسوا، فإن فاطمة بنت محمد تجوز الصراط إلى الجنة [ (5) ] .
__________
[ (1) ] العنكبوت: 27.
[ (2) ] الجاثية: 16- 17.
[ (3) ] السجدة: 23- 24.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 605، باب غضّ البصر حين اجتياز فاطمة على الصراط، حديث رقم (550) .

(4/195)


وقال بشر بن إبراهيم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إنما سميت فاطمة لأن اللَّه فطم من أحبها من النار.
وقال علي بن عمر بن علي: إن اللَّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك- وقال عمر ابن غياث عن عاصم عن عبد اللَّه يرفعه: أن فاطمة أحصنت فرجها، فحرمها اللَّه وذريتها على النار.

(4/196)


وأما ذرية يعقوب عليه السلام الذين هم بنو إسرائيل
فإن اللَّه تعالى سخط عليهم بسوء أعمالهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، وأنزل فيهم الكتاب، وجعل منهم القردة والخنازير، وقطعهم في الأرض أمما، وجعل الذين اتبعوا الحق فوقهم إلى يوم القيامة، فبان بهذا أن الّذي آتاه اللَّه تعالى من الخير لنبيا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أجل وأعظم مما أوتيه يعقوب عليه السلام، وكذلك تميز نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم على يعقوب في محنته، وذلك أن كلا منهما ابتلى بفقد ولده.
فأما يعقوب فإنه حزن على فقد يوسف حتى كاد يكون حرضا من الحزن، فإن حزنه كان حزن إيلاف ومضض واشتياق ووجد، بدليل قوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [ (1) ] ، فأصابه بفقد ولد واحد من جملة اثنى عشر ولدا هذا الأسف، ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم فجع بوحيده من الدنيا، وقرّة عينه في حياته، فلم يجزع بل صبر واحتسب، ووفى بصدق الاختيار، مسلّما إلى ما سبقت به الأقدار،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلم وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون.
فكان سلوكه صلّى اللَّه عليه وسلم في ذلك وفي جميع أحواله منهج الرضا عن اللَّه تعالى، والاستسلام له فيما يقضي ويحكم، ولم يتأسف، بل رضى واستسلم، ففاق صبره صلّى اللَّه عليه وسلم على صبر يعقوب عليه السلام، لفضل قوته وعلو مقداره ومكانته صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] يوسف: 84.

(4/197)


وأما يوسف عليه السلام
فإنه فاق في الحسن على جميع الخلق، وقد بلغ نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك ما لا غاية فوقه، وذلك أن يوسف عليه السلام قد ثبت أنه أوتي شطر الحسن، فزعم زاعم أنه عليه السلام اختص بالشطر من الحسن، واشترك الناس جميعا في [الشطر] الآخر، وليس كذلك، بل إنما أوتي شطر الحسن الّذي أوتيه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم بلغ الغاية، وهو عليه السلام بلغ شطر الغاية، بدليل ما خرجه الترمذي من طريق قتادة، عن أنس رضي اللَّه عنه قال: ما بعث اللَّه نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصّوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا.
ويؤيد ذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلم وصف بأنه كالشمس الطالعة، وكالقمر ليلة البدر، وأحسن من القمر، ووجهه كأن مذهبة يستنير كاستنارة القمر، وكان عرقه صلّى اللَّه عليه وسلم له رائحة كرائحة المسك الإذخر، وقد تقدم ذلك بطرقه.
وقد قاسي يوسف عليه السلام مرارة الغربة، وامتحن بمفارقة أبويه، والخروج عن وطنه، وكان الّذي قاسي نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك أعظم، فإنه اغترب وفارق أهله وولده، وعشيرته وأحبته، كما هاجر من حرم اللَّه وأمنه، حيث مسقط رأسه مضطرا لا مختارا، فاستقبل البيت مستعبرا متلهفا حزينا، وقال: إني أعلم أنك أحب البلاد إلى اللَّه، ولولا أني أخرجت منك ما [خرجت] [ (1) ] ، وخرج ليتأوّلها، فلما بلغ الجحفة أنزل اللَّه عليه: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [ (2) ] وأراه اللَّه تعالى رؤيا أزال بها الحزن عنه، كما أري يوسف عليه السلام رؤيا صدق تأويلها.
قال تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ [ (3) ] ، فدخل صلّى اللَّه عليه وسلم مكة آمنا، وصدق وعد اللَّه له، كما جاء تعالى بأبوي يوسف تأويلا لرؤياه من قبل.
وقد ابتلى يوسف عليه السلام بالسجن توقيا للمعصية، إذ قال: رب
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] القصص: 85.
[ (3) ] الفتح: 27.

(4/198)


السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [ (1) ] ، وكذلك ابتلى نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بالسجن في الشّعب وضيق عليه فيه أشد الضيق مدة ثلاث سنين، حتى صنع اللَّه بكيد أضعف خلقه وتسليطها على صحيفة مكر قريش التي عقدوها في قطيعته صلّى اللَّه عليه وسلم، فكان لنبينا من ذلك ما لم يكن ليوسف عليه السلام، لأن يوسف كانت محنته بالسجن من أجل أن امرأة العزيز دعته إلى نفسها فاستعصم، وكانت محنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالإلجاء إلى الشّعب قطيعة من ذوي رحمه، لأنه دعاهم إلى توحيد اللَّه تعالى، وترك عبادتهم الأصنام، وشتان بين هذين المقامين من البون.
وعلّم اللَّه يوسف من تأويل الأحاديث- يعني عبارة الرؤيا- ولم يقص تعالى عنه سوى تعبير ثلاث منامات، ونقل عن نبينا من ذلك شيء كثير جدا، مما رآه ومما عبّره لغيره فجاء كفلق الصبح.
ومكن تعالى ليوسف في الأرض- يعني أرض مصر خاصة- ونبينا مكّن اللَّه له ولأمته في الأرض كلها، وملك يوسف أهل مصر في زمن الغلاء، وقد ملك نبينا [صلّى اللَّه عليه وسلم] يوم الفتح جلة العرب وصناديد الحجاز وسمّاهم الطلقاء، فأحرز صلّى اللَّه عليه وسلم خصائص يوسف عليه السلام وزاد عليها، ولهذا ترقى عليه ليلة الإسراء ما شاء اللَّه.
__________
[ (1) ] يوسف: 33.

(4/199)


وأما موسى عليه السلام
فإن اللَّه تعالى أيده بالعصا، واليد البيضاء، وتفجير الماء من الحجر، وقال تعالى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [ (1) ] ، ومقام المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم في المناجاة أرفع، فإن موسى عليه السلام، إنما سمع الكلام والمناجاة على الطور، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم سمع الكلام وقد أسرى به، والملأ الأعلى فضله على الأرض.
فأما العصي الخشب الموات فإنّها تصير بإذن اللَّه تعالى ثعبانا تتلقف إفك سحرة فرعون، ثم تعود إلى معناها، وخاصتها من مآرب موسى عليه السلام، وقد أتى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم أعجب من ذلك، فإنه أشار بقضيب في يده يوم الفتح إلى الأصنام المشدودة بالرصاص شدا محكما إلى الكعبة فيما حولها، وعدتها ثلاثمائة وستون صنما، فكان إذا أشار إليها بالقضيب وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [ (2) ] سقط الصنم وتكسر جذاذا، فكانت عصا موسى مسلطة على آلة آل فرعون، وقضيب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم سلّط على ما اتخذته قريش آلهة، وأين التسليط على الآلة، من التسلط على الآلهة؟
وأيضا فإن اللَّه تعالى قال عن موسى عليه السلام: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [ (3) ] فسلط عصاه على ذلك التخيل، وقضيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تسلط على أمر حقيقي، وأين الخيال من الحقيقة؟
وقد حنّ لنبينا [محمد] [ (4) ] صلّى اللَّه عليه وسلم الجذع اليابس، وخار، وهذا أعجب من حالات عصا موسى عليه السلام، فإن موسى إنما جعل النّبات حيوانا غير ناطق، ونبينا [محمد] [ (4) ] صلّى اللَّه عليه وسلم جعل النبات حيوانا ناطقا، فشارك موسى في قلب الأعيان على وجه أتم، لأن الناطق أتم من غير الناطق، وأبلغ في الأعجوبة إجابة الأشجار واجتماعها لدعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما دعاها، ورجوعها إلى أمكنتها بعد أن أمرها.
وكان من معجزات موسى عليه السلام، أن يضرب بعصاه الحجر فينفجر منها اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط الاثنا عشر، وقد أيد اللَّه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك
__________
[ (1) ] مريم: 52.
[ (2) ] الإسراء: 81.
[ (3) ] طه: 66.
[ (4) ] زيادة للسياق.

(4/200)


بأعجب وأبدع وأغرب، فإنه بعث سهما ليوضع في عين كانت تبض بماء قليل، فلما وضع السهم فيها استخرج الماء بإذن اللَّه تعالى من تخوم الأرض، وصارت معينا غرس عليها جنان، واشتق منها أنهار.
ونبع الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم، وهذا أعجب من العجب، فإن نبع الماء من الحجر لم يزل معهودا مشهورا في العالم، بخلاف نبع الماء من بين أنامل ركبت من عظم ولحم ودم، فإن هذا لم يعط قط مثله إلا لنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فإنه كان يفرج بين أصابعه في مخضب فينبع من بين أصابعه الماء، فيشرب منها الناس ويستقون، وهم يعاينون ماء عذبا جاريا، يروي الأعداد الكثيرة من النّاس والخيل والإبل، ويملئون منه قربهم وأدواتهم، كما سيرد بطرقه إن شاء اللَّه.

(4/201)


وأما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق وجازه بأصحابه
فقد ورد أن بين السماء والأرض بحرا مكفوفا، تكون بحار الأرض بالنسبة إليه كالقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط، فعلى هذا يكون ذلك البحر قد انفلق لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم حتى جاوزه ليلة الإسراء، وذلك أعظم وأفخم من انفلاق بحر القلزم لموسى عليه السلام.
وقد أوتي نظير ما أوتى موسى من ذلك: أن العلاء بن الحضرميّ رضي اللَّه عنه، لما كان بالبحرين واضطر إلى عبور البحر، فعبر هو ومن معه من المسلمين، ولم يبتل لهم ثوب ببركة اتباعهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، كما سيأتي ذكره إن شاء اللَّه بطرقه.
وأما بياض يد موسى عليه السلام من غير سوء- وهو النور- فنظيره لنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أنه نور ينقل في الأصلاب، كما مرّ أنه كان نورا في جبهة أبيه عبد اللَّه ابن عبد المطلب.
ولما بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسيّ يدعو قومه إلى الإسلام، دعي له فسطع نور بين عينيه فقال: يا رسول اللَّه! أخاف أن يقولوا مثله؟ فتحول النور إلى رأس سوطه، وكان كأنه شمعة [مضيئة] [ (1) ] آية للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، فكانت كاليد البيضاء، وصارت كعصا موسى التي ذكر في الأخبار أنها كانت تضيء.
وأما تفجير الماء من يده صلّى اللَّه عليه وسلم فهو بياض معنوي، فأيّ يد بيضاء أغنى غناء وأبيض ماء من يد كان البحر في الإحسان دونها، والسحب تضاهي معينها؟
وقد ذكر أيضا أن عصا موسى عليه السلام هزم بها الألوف من قوم فرعون، وقد أتى اللَّه تعالى نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أعجب من ذلك،
إذ تناول يوم حنين كفا من تراب أو حصى، ورمى به في وجوه هوازن، وقال: شاهت الوجوه،
فلم يبق أحد منهم إلا أصاب عينه شيء من ذلك، وولوا منهزمين.
وكان من كرامة موسى المناجاة، ولكنها عن ميعاد واستعداد، وكرامة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم بالمناجاة كانت على سبيل المفاجأة، بدليل
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: (بينا أنا) [ (2) ] .
وأما
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] بداية كثير من الأحاديث النبويّة.

(4/202)


قوله: فرج سقف بيتي، ولا أبلغ في المناجاة من ذلك، فقد حمل عنه صلّى اللَّه عليه وسلم ألم الانتظار كما حمل عنه ألم الاعتذار في قول موسى عليه السلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [ (1) ] . ولا شك أن في منحه هاتين الكرامتين مزيد اختصاص وأجل كرامة.
وقد أتى موسى إلى فرعون بالعذاب الأليم، من الجراد والقمل والضفادع والدم، فقد أرسل اللَّه سبحانه على قريش بتكذيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الدخان، فكان آية بينة، ونعمة بالغة، قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ [ (2) ] . ودعا رسول اللَّه على قريش فابتلوا بالسنين، وسيأتي ذلك إن شاء اللَّه بطرقه.
وقد أنزل اللَّه تعالى على موسى وقومه المن والسلوى، وظلل عليهم الغمام، وقد أتى اللَّه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أعظم من ذلك، فإن المن والسلوى رزق رزقهم اللَّه كفاهم به السعي والاكتساب له، وقد أحل اللَّه لنبينا وأمته الغنائم التي [كانت] [ (3) ] محرمة على من قبلهم، وجعلها منة باقية لهم إلى يوم القيامة، وأي قدر للمنّ والسلوى في جنب غنائم كسرى وقيصر، والجلالقة والقوط والقبط وغيرهم ممن غنم المسلمون أموالهم وديارهم، وسبوا نساءهم وذراريهم، ومع هذا كله فإن اللَّه تعالى أعطى أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم من جنس ما أعطى موسى وقومه من ذلك، فقذف لهم البحر لما كانوا مع أبي عبيدة في سرية- وقد أصابتهم المجاعة- حوتا يقال له: العنبر، أكلوا منه، وائتدموه نصف شهر بلا سعي ولا طلب.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلم يشبع النّفر الكثير من الطعام القليل واللبن اليسير، حتى يصيرون شباعا رواء. وكان موسى عليه السلام تنقلب له عصاه ثعبانا تتلقف ما صنعت السحرة، حتى استغاث فرعون بموسى وأخيه رهبة منه وفرقا. وقد أعطى نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أخت هذه الآية بعينها، [وهي] [ (4) ] أن جعل أبا جهل فرعون هذه الأمة احتمل حجرا، وأقبل يريد أن يرضخ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة، وقد عدت قريش ينتظرون ما يصنع، فلما سجد صلّى اللَّه عليه وسلم، احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه،
__________
[ (1) ] طه: 84.
[ (2) ] الدخان: 10- 11.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق.

(4/203)


حتى إذا دنا منه رجع مبهوتا منتقعا لونه من [هول] ما قد يبست يداه على حجره، فلما سأله قومه ما له قال: لما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل. لا واللَّه ما رأيت مثل هامته ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.
وقد اختار موسى عليه السلام سبعين رجلا من قومه لينفذوا معه إلى ربه تعالى، فلما صاروا في البرية غلب عليه- عليه السلام- روح القرب، فأسرع إلى ربه وترك قومه، فقال له تعالى:
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى * قالَ هُمْ [أُولاءِ] [ (1) ] عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [ (2) ] ، فعبّر عليه السلام عن قصده في العجلة بطلب رضى اللَّه تعالى.
ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، أعظم اللَّه شأنه في آيتين، أعلمه فيهما رضاه عنه، وأعطاه سؤله ومناه من غير سؤال منه في ذلك ولا رغبة تقدمت منه، فقال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [ (3) ] ، وقال تعالى:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [ (4) ] ، فمنحه اللَّه رضاه، وأعطاه مناه، في جميع ما يهواه ويتمناه، وغيره من الأنبياء سألوا وطلبوا رضا مولاهم، ومع ذلك فقد خصه اللَّه تعالى مع الرضا بالرحمة والرأفة، فقال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [ (5) ] ، وكان رقيق القلب صلّى اللَّه عليه وسلم فأمر اللَّه تعالى موسى بالملاينة لفرعون لما كان عليه من الغلظة، فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [ (6) ] ، فذكر تعالى الملاينة، وأمر محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم بضدّ ذلك فقال تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [ (7) ] ، لما خصّه به من الرحمة والرأفة واللين، كما قال تعالى: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (8) ] .
وقد أكرم اللَّه تعالى موسى بأن قال له: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [ (9) ] ، قال بعضهم: أحببت إليك عبادتي. وقال آخر: جعل اللَّه بين عينيه نورا لا ينظر إليه أحد إلا أحبه. وقيل: أسكنت بين عينيك ملاحة تسبى بها من رأيته. وقد أوتي نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من نظائر هذه الكرامة أشياء منها: أن اللَّه تعالى أقسم بالضحى والليل إذا سجى، أنه ما ودعه وما قلاه.
__________
[ (1) ] تكملة سياق الآية.
[ (2) ] طه: 83- 84.
[ (3) ] البقرة: 144.
[ (4) ] الضحى: 5.
[ (5) ] آل عمران: 159.
[ (6) ] طه: 44.
[ (7) ] التوبة: 73، التحريم: 9.
[ (8) ] التوبة: 128.
[ (9) ] طه: 39.

(4/204)


ومنها أنه تعالى افترض على خلقه اعتقاد محبته صلّى اللَّه عليه وسلم حتى جعل ذلك منهاجا إلى طاعته تعالى، ومفتاحا للقربة إليه، وسبيلا إلى الفوز بغفرانه ورحمته. قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ (1) ] ، وقال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [ (2) ] ، وكيف لا يكون معظما مفضلا على جميع أنبياء اللَّه ورسله، وقد أقسم تعالى بحياته فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ (3) ] .
قال أبو نعيم: حدثنا سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن جندب قال:
«اشتكى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل اللَّه تعالى: وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [ (4) ] ، أي لم أتركك ولم أبغضك، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [ (5) ] .
وقال عبد اللَّه بن أحمد: حدثني هارون قال: حدثنا جعفر، حدثنا ثابت قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: موسى صفيّ اللَّه وأنا حبيب اللَّه.
__________
[ (1) ] آل عمران: 31.
[ (2) ] النور: 54.
[ (3) ] الحجر: 72.
[ (4) ] الضحى: 1- 3.
[ (5) ] الضحى: 4- 5.

(4/205)


وأما هارون عليه السلام
فإن اللَّه تعالى وصفه بفصاحة اللسان فقال: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً [ (1) ] ، وقد علم أن لغة العرب أفصح اللغات، ولنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم من الفصاحة ما يعرف من مارس كلامه، أنه أوتي فيها [أعلى] مقام، لم يصل إليه أحد من قبله وقد شارك هارون مع ذلك فيما ناله من بني إسرائيل، فإنه لما خلف موسى عليه السلام فيهم عند ما توجه لميقات ربه، افترقوا وتحزّبوا ونقضوا العهد، واستضعفوه وهمّوا بقتله، وعبدوا العجل فلم يقبل توبتهم حتى قتلوا بعضهم بعضا، كما قصّ اللَّه تعالى ذلك في كتابه العزيز [ (2) ] ، فلقى نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم نظير ذلك من بني قريظة والنضير وقينقاع، فإنّهم نقضوا العهد وحزّبوا الأحزاب، وجمعوا وحشدوا، وأظهروا له العداوة بعد ما هموا بإلقاء الرحى عليه، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه، فقام صلّى اللَّه عليه وسلم بحربهم، وقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، وقسم أموالهم، فكان نظير استضعافهم لهارون استضعافهم للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الأحزاب، حتى لقد قال قائلهم: محمد يخندق على نفسه وأصحابه، ولا يستطيع أحدهم الخروج إلى الغائط، وهو يعدهم بملك كسرى وقيصر، فكان المسلمون كما قال تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [ (3) ] ، حتى أيده اللَّه بجنوده، وجعل العاقبة له على اليهود والأحزاب، كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب [ (4) ] .
__________
[ (1) ] القصص: 34.
[ (2) ] في سورتي الأعراف وطه.
[ (3) ] الأحزاب: 10.
[ (4) ] راجع أبواب المغازي.

(4/206)


وأما داود عليه السلام
فخصه اللَّه تعالى بتسبيح الجبال معه، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [ (1) ] ، وقال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ (2) ] ، فسخر اللَّه تعالى الجبال والطير له بالتسبيح، وقد أعطى اللَّه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك من جنسه وزيادة، فسبّح الحصا في كفه، وفي يد من صدّقه واتبعه رفعة لشأنه وشأن مصدقيه، وقد سخرت الطير والبهائم العظيمة كالإبل والسباع العادية الضارية لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم، كسجود البعير الشارد له، والذئب الّذي نطق بنبوته، وقد همهم الأسد لسفينة مولاه لما مرّ به ودله على الطريق، وأخذ الطائر خفه صلّى اللَّه عليه وسلم وارتفع به ثم ألقاه، فخرج منه أسود سالخ!! وقد أوردت ذلك كله بطرقه.
وألين لداود عليه السلام الحديد، حتى سرد منه الدروع السوابغ، وقد لانت الحجارة وصمّ الصخور للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، فعادت له غارا استتر به من المشركين يوم أحد [و] [ (3) ] ، مال برأسه إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم، فليّن اللَّه تعالى له الجبل حتى أدخل [رأسه] [ (3) ] ، وهذا أعجب، لأن الحديد تلينه النار، ولم نر النار تلين الحجر.
قال أبو نعيم: وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس، وكذلك في بعض شعاب مكة حجر أصم استروح صلّى اللَّه عليه وسلم في صلاته إليه، فلان له الحجر حتى أثّر فيه بذراعيه وساعديه، قال أبو نعيم: وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه، ولانت الصخرة ببيت المقدس ليله أسري به كهيئة العجين، فربط [بها] [ (3) ] دابته البراق، ويلمسونه الناس إلى يومنا هذا باق. قاله أبو نعيم.
وكان داود عليه السلام حسن الصوت، بحيث بات عدة ممن سمعه وهو يقرأ الزبور على ذكر، وقد شبه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري رضي اللَّه تعالى
__________
[ (1) ] سبأ: 10.
[ (2) ] ص: 17- 19.
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/207)


عنه بمزامير داود، فقال: لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود، هذا، وما بلغ أبو موسى الحد، فإنه قال: لو علمت أنك تسمع لحبرته تحبيرا، فدل على أنه كان يقدر أن يتلو بنجي من ذلك.
وأما الموت من موعظة داود عليه السلام، فإن القوة في الأمة المحمدية أعظم منها في بني إسرائيل، فلهذا تفاوت حالها عند سماع الموعظة وعند تركها، ولذلك لم يمت داود لأنه كان قويا وهو الواعظ. وقد قال بعض الأمة المحمدية: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا [أعلى] [ (1) ] ما بقوة مقامه.
وأمر آخر، وهو أن خلقا من هذه الأمة ماتوا في مجالس الوعظ كما هو معروف في كتب الأخبار، وقد تقرر أن كل كرامة لولي في علم أو عمل، فهي بالنسبة إليه كرامة، وإلى الرسول معجزة، وقد جاء في الحديث: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/208)


وأما سليمان عليه السلام
فإن اللَّه تعالى وهب له ملكا لا ينبغي لأحد من [بعده] [ (1) ] ، وقد أعطى اللَّه نبيّنا صلّى اللَّه عليه وسلم خزائن الأرض، فأباها وردّها اختيارا للنقل من الدنيا، واستصغارا لها بحذافيرها، وآثر مرتبته ورفعته عند ربه تعالى على ما يغني، ورضي بالقوت اليسير، فكان له من ذلك أعظم ما لسليمان لعلوّ مقامه.
وقد سخر اللَّه تعالى لسليمان الريح، فسارت به في بلاد اللَّه، وكان غدوّها شهرا ورواحها شهرا، فأعطى اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم أعظم من ذلك فأكثر، لأنه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وخرج به في ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، فدخل السموات سماء سماء، ورأى عجائبها ووقف على الجنة والنار، وعرض عليه أعمال أمته صلّى اللَّه عليه وسلم، وصلّى بالأنبياء وبملائكة السموات، وخرق الحجب، ودلى له الرفرف الأخضر، وأوحى إليه ربه تعالى ما أوحى، وأعطاه خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، وعهد إليه أن يظهر دينه على الأديان، حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها إلا دينه، أو يؤدون إليه وإلى أهل دينه الجزية عن صغار، وفرض عليه الصلوات الخمس.
ولقي موسى عليه السلام وما له [من] [ (1) ] مراجعة ربه في التخفيف عن أمته، وهذا كله في ليلة واحدة، فأيما أعجب وأكثر من هذا، أو الريح غدوها شهر ورواحها شهر، ومع ذلك فإن الصّبا سخّرت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم وكانت من جملة أجناده، ولهذا قال: نصرت بالصّبا، ومع ذلك فإن سليمان سأل ذلك فقال: رَبِّ [اغْفِرْ لِي وَ] [ (2) ] هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ (3) ] ، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم حباه اللَّه تعالى بذلك من غير تعرض منه له، وأين مقام من [يعطي] [ (1) ] حسب سؤاله، من مقام من تأتيه المنح الإلهية مخطوبا لها ومسئولا بها؟
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] زيادة للسياق لتصويب النّص.
[ (3) ] ص: 35.

(4/209)


وقد خص اللَّه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم بأن جعل الرعب يسير بين يديه مسيرة شهر، وأين غدو الريح بسليمان شهرا من تقدم الرعب بين يدي المصطفى شهرا، وقد سخر اللَّه تعالى لسليمان الجن، لكنها كانت تعتاص عليه حتى يصفدها ويعذبها بالأعمال الشاقة وغيرها، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أتته الجن راغبة فيه، طائعة له، معظّمة لشأنه، مصدقة بما جاءه من ربه، مؤمنة به، متبعة له، ضارعة خاضعة، مستمدة مستمنحة منه زادها ومأكلها، فجعل لها كل روثة تصيبها تعود علفا لدوابها، وكل عظم يعود طعاما لها.
وسخرت له صلّى اللَّه عليه وسلم عظماء الجن وأشرافها التسعة، الذين قال تعالى فيهم: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [ (1) ] ، وقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [ (2) ] ، وأقبلت إليه صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة الجن الألوف منها مبايعين له على الصوم والصلاة والنصح للمسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على اللَّه شططا.
فشملت بعثته ورسالته الإنس والجن، وهم لا يحصون عددا، وأين ما أعطيه سليمان من هذا، وما قدر ملكه في جنب هذا الأمر العظيم، وأين تصفيد سليمان الجن من أسر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم العفريت من الجن لما تفلّت عليه، وأين المقام السليماني من المقام المحمدي، فإن سليمان كانت تخدمه الجن، ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم كانت الملائكة المقربون أعوانه، يقاتلون أعداءه بين يديه، ويدفعون عنه من يريده بسوء، وقد قبض أبو أسيد على الغول لما خالفته إلى سيره بسوق نمرة، حتى علمته آية الكرسي، وقبض أيضا أبو أيوب الأنصاري على الغول، وأسر معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه جنّيّا من جن نصيبين، وصارع عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه الجن لما التقيا على الماء، ومع هذا فقد ضرب جبريل عليه السلام بجناحه لما توفي النجاشي بالحبشة الجبال، حتى قام المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم هو وأصحابه فصلّى عليه وهو صلّى اللَّه عليه وسلم ينظر إليه من المدينة.
وكذلك لما توفي معاوية بن معاوية، ضرب جبريل بجناحه، ورفع له صلّى اللَّه عليه وسلم
__________
[ (1) ] الأحقاف: 29.
[ (2) ] الجن: 1- 2.

(4/210)


جنازة معاوية حتى نظر إليه وصلّى عليه، وأين تسخير سليمان عليه السلام الجن يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [ (1) ] ، من تسخير اللَّه سبحانه جبريل الروح الأمين، الرسول الكريم، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [ (2) ] ، لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم حين نزل على قريش يقاتل يوم بدر، فكان عمل الجن المردة والقردة الكفرة الفسقة لسليمان في أمور الدنيا، وعمل الملائكة المقربين الكرام البررة لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم من غير استقصاء، قال تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [ (3) ] ، وقال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [ (4) ] ، ولم يؤيد اللَّه تعالى نبيا قبل محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بالملائكة تقاتل معه كما قاتلت يوم بدر كفاحا كقتال الناس.
قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [ (5) ] ، فلما نزلت الملائكة يوم بدر للقتال،
قال صلّى اللَّه عليه وسلم لأبي بكر رضي اللَّه عنه وهو معه في العريش: أبشر يا أبا بكر، أتاك اللَّه بالنصر، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه ...
إلى غير ذلك مما قد أوردته بطرقه في أبوابه.
وقد كان سليمان عليه السلام يفهم كلام الطير كما في قصة الهدهد، ويفهم كلام النملة، قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [ (6) ] ، وقال تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ [ (7) ] ، وقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [ (8) ] ، وقد أعطى نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك بزيادات، فكلمته البهائم والسباع، وحنّ له الجذع، ورغا له البعير، وكلمته الشجر، وسبّح الحصا في كفه، وسلم عليه الحجر والشجر، وأقر الذئب بنبوته، [ونطقت] [ (9) ] له ذراع الشاة المسمومة، وسخر الطير لطاعته، وشكت إليه الظبية، وكلمه الضّب، وقد أوردت ذلك كله بطرقه.
__________
[ (1) ] سبأ: 13.
[ (2) ] التكوير: 20.
[ (3) ] آل عمران: 124.
[ (4) ] الأنفال: 9.
[ (5) ] الأنفال: 12.
[ (6) ] النمل: 20.
[ (7) ] النمل: 18.
[ (8) ] النمل: 16.
[ (9) ] زيادة للسياق.

(4/211)


وأما يحيى بن زكريا عليهما السلام
فإنه أوتي الحكم صبيا، وكان يبكي من غير ذنب، ويواصل الصيام، وقد أعطى اللَّه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أفضل من هذا، فإن يحيى لم يكن في قوم يعبدون الأوثان والأصنام من دون اللَّه، ولا كان في عصر الجاهلية، بل كان في بني إسرائيل أهل الكتاب، وبيت النبوة، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم كان في عصر الجاهلية، ما جاءهم قبله من نذير، يعبدون الأوثان والأصنام والطواغيت، فأوتي من بينهم الفهم والحكم صبيا بين حزب الشيطان وعبدة الأوثان، فلم يرغب لهم في صنم قط، ولا شهد معهم عيدا، ولم يسمع منه كذب قط، وكانوا يعدونه صدوقا أمينا حليما رءوفا، وكان يواصل الأسبوع صوما ويقول: إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني، وكان يبكي حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وقد أثنى اللَّه تعالى على يحيى فقال:
وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [ (1) ] ، والحصور الّذي لا يأتي النساء، وذلك أن يحيى كان نبيا ولم يكن مبعوثا إلى قومه، وكان منفردا [بمراعاة] [ (2) ] ، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم كان رسولا إلى كافة الناس ليقودهم [ويقربهم] [ (3) ] إلى اللَّه تعالى، قولا وفعلا، [فأقام] [ (4) ] اللَّه تعالى به الأحوال المختلفة، والمقامات الغالبة المتفاوتة في تصرفاته، ليقتدي الخلق كلهم بأفعاله وأوصافه.
فاقتدى به الصديقون في حالاتهم، والشهداء في مراتبهم، والصالحون في اختلاف أحوالهم، ليأخذ العالي والداني والمتوسط من أفعاله قسطا وحظا، إذ النكاح من أعظم حظوظ النفس وأبلغ الشهوات، فأمر به صلّى اللَّه عليه وسلم وحث عليه لما جبل اللَّه تعالى عليه النفوس البشرية من توقان النفس وهيج الشهوة المطبوع عليها النفس.
وأباح ذلك ليتحصّنوا به من السفاح، فشاركوه صلّى اللَّه عليه وسلم في ظاهره، وشملهم الاسم معه، وانفرد صلّى اللَّه عليه وسلم عن مساواته معهم،
فقال: تزوجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم،
فإذا غلب عليه وعلى قلبه ما أفرده ألحق به من
قوله: وجعلت قرة عيني
__________
[ (1) ] آل عمران: 39.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (4) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(4/212)


في الصلاة،
[و] [ (1) ]
تلطف صلّى اللَّه عليه وسلم في مرضاتهن فقال لعائشة: ائذني لي أتعبد في هذه الليلة،
فقالت: إني لأحب قربك، وهواك أحب إليّ.
فقام إلى مصلاه إلى الصباح راكعا وساجدا باكيا، وربما خرج إلى البقيع فتعبد فيه وزار أهله، وربما قام ليلة ثانية إلى الصباح يرددها، فكانت نسبته عن أحكام البشرية ودواعي النفس ممحوة عند انشقاق صدره، لما حشوه بالإيمان والحكمة الّذي وزن أمته فرجحهم، هذا مع ما أنزل اللَّه تعالى من السكينة عليه وعلى قلبه المقدس صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(4/213)


وأما عيسى عليه السلام
فإن اللَّه تعالى خصه بإرسال الروح الأمين إلى أمه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[ (1) ] ، ليهب لها غلاما زكيا، فحملت به، وأنه نطق في المهد، وقد أعطى اللَّه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم ضروبا من هذه الآيات، فبشرت به أمه آمنة وهي حامل به، وظهرت لها الآيات عند وضعها كما تقدم ذكره، وقد قال تعالى عن عيسى: وَرَحْمَةً مِنَّا [ (2) ] .
ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم وصفه اللَّه بأعم الرحمة وأكملها، فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (3) ] ، فمن صدقه وآمن به فاز برحمته في الدارين، ومن لم يصدقه أمن في حياته مما عوقب به المكذبون للرسل من الأمم من الخسف والمسخ والقذف، [وأنقذ] [ (4) ] اللَّه ببعثته من آمن من الضلال، وانتعشوا بالإيمان من الدمار، وأمنوا به من البوار، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [ (5) ] ، وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [ (6) ] ، فكان صلّى اللَّه عليه وسلم رحمة مهداة. وقال تعالى عن عيسى. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [ (7) ] وقد أوتي نبينا ما يجانس ذلك وأكثر منه وأفضل.
قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [ (8) ] ، وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [ (9) ] ، وقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [ (10) ] يعني القرآن شرف لك ولهم، وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [ (11) ] ، ويقول تعالى للأنبياء: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [ (12) ] ، إلى غير ذلك من الآيات، وكان عيسى يخلق من الطين كهيئة الطير
__________
[ (1) ] مريم: 17.
[ (2) ] مريم: 21.
[ (3) ] الأنبياء: 107.
[ (4) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (5) ] آل عمران: 164.
[ (6) ] الأحزاب: 45.
[ (7) ] آل عمران: 48.
[ (8) ] الحجر: 87.
[ (9) ] النحل: 44.
[ (10) ] الزخرف: 44.
[ (11) ] سبأ: 28.
[ (12) ] إبراهيم: 41.

(4/214)


فيكون طيرا بإذن اللَّه، وكان لنبينا [صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (1) ] نظير ذلك.
فإن عكاشة انقطع سيفه يوم بدر، فدفع له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قضيبا من حطب، قال: قاتل بهذا، فعادل سيفا في يده شديد المتن أبيض الحديدة طويل القامة فقاتل به، حتى فتح اللَّه على المسلمين، ثم لم يزل يشهد به المشاهد إلى أيام الردّة.
فالمعنى الّذي أمكن به نبينا أن تصير الخشبة حديدا يبقى على الأيام، هو المعنى الّذي خلق به عيسى من الطين كهيئة الطير، بل ذلك أعظم وأبدع، فإنه لم يعهد قط أن الحديد يخرج من الخشب، وقد عهد أن الحيوان يتكون من الطين.
وأيضا فإن هذا الحديد القاطع الّذي تولد من الخشب بقي أعواما كثيرة، ولم ينقل أن الطير الّذي خلقه عيسى من الطين بقي لذلك، ومع هذا فقد سمع التسبيح من الحجارة الصم في يد نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم، وشهدت الأشجار والأحجار له بالنّبوّة، واجتمعت الأشجار والتزمت ثم افترقت عن أمره لها، وكل هذا يجانس إحياء الموتى، وطيران الطيور من الطين كهيئة الطير.
وقد كان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص، ولنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك، فقد ردّ عين قتادة بعد ما ندرت وسالت على خده، ونفث في عيني رجل قد ابيضتا فأبصر، وبصق في عين رفاعة بن رافع وقد فقئت عينه بسهم فلم يؤده منها شيء، وتفل في عين على رضي اللَّه عنه وهو أرمد فبرئ من ساعته وما اشتكى عينيه بعد، ومسح صلّى اللَّه عليه وسلم بيده على عدة من المصابين والمرضى فبرءوا.
وقد كان عيسى يحي الموتى بإذن اللَّه، ولنبينا من هذا المعنى ما هو أعجب وأغرب، فقد أحيا شاة جابر، وأحيا اللَّه تعالى لامرأة ولدها ببركته، [وكلمته] [ (2) ] صلّى اللَّه عليه وسلم ذراع الشاة [المسمومة] [ (2) ] ، وتكليم الذراع أغرب، لأن حياة العضو المبان وتكليمه أعجب من حياة الذات الكاملة، لأن الحياة عهدت منها، وقد تكلم جماعة بعد الموت بخلاف العضو من الحيوان، لا سيما بعد طبخه بالنار.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/215)


وقد كان عيسى يخبر بالغيوب، وينبئ قومه بما يأكلون في بيوتهم ويدخرونه، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم له في هذا المقام الّذي لا فوقه: فإن عيسى إنما كان يخبر بما كان من وراء جدار، ونبينا كان يخبر بما كان منه بمسيرة شهر وأكثر، كإخباره بموت النجاشي، وبقتل زيد وجعفر وابن رواحة في مؤتة،
وكان يأتيه السائل ليسأله عن شيء فيقول له: إن شئت أخبرتك بما جئت تسأل عنه أو تسأل فأخبرك؟ فيقول:
لا، بل أخبرني فيخبره بما في نفسه.
وأخبر عمير بن وهب الجمحي بما تواطأ عليه هو وصفوان بن أمية لما قعدا بمكة في الحجر في الفتك به صلّى اللَّه عليه وسلم بعد مصاب أهل بدر.
وأخبر عمه العباس لما أسر ببدر وأراد أن يفاديه فقال: ليس لي مال، فقال:
أين مالك الّذي أودعته أم الفضل لما أردت الخروج وعهدت إليها فيه؟
وبعث عليا والزبير إلى سارة، وقد حملت كتاب حاطب إلى أهل مكة فأخرجاه منها، وقال لعبد اللَّه بن أنيس لما بعثه إلى الهذلي بوادي عرفة: إذا رأيته هبته، وأطلعه اللَّه في منصرفه من تبوك على موضع ناقته وقد ضلت.
وأخبر بموت كسرى في وقت قتله، وأخبر صلّى اللَّه عليه وسلم بأشياء قبل كونها فوقعت كما قال، وبشّر بما يجري على أمته بعد موته، فكان مثل ما وعد به، فمما أخبر بكونه:
قول اللَّه تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [ (1) ] ، فكفاه اللَّه ووفاه ما وعده من نصره، وأباد المستهزءين.
وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [ (2) ] ، فكان كما وعده اللَّه، غلبوا وقتلوا، ويحشرون إلى النار.
وقوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [ (3) ] ، فكان كما وعده.
__________
[ (1) ] البقرة: 137.
[ (2) ] آل عمران: 12.
[ (3) ] آل عمران: 139.

(4/216)


وقوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [ (1) ] ، فهزم اللَّه المشركين يوم بدر.
وقوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [ (2) ] ، وقواه بلا مال ولا عشيرة، حتى ملكت أمته المشرق والمغرب.
وقوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ [ (3) ] ، فدخلوا مكة آمنين.
وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [ (4) ] ، فكان كذلك.
وقوله تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [ (5) ] فلعلمه بكونه ووقوعه، حدّد الوقت فقال: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (6) ] ، وأكده بقوله: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [ (7) ] .
وقوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (8) ] ، يعني فتح مكة، يبشر بفتح مكة لعظم قدرها مثل كونه، وبدخول الناس في دينه أفواجا، فكان [كذلك] [ (9) ] .
وقدمت وفود العرب بإسلام قومهم وانقيادهم لدينه، فلم يمت صلّى اللَّه عليه وسلم حتى طبق الإسلام اليمن إلى شجر العمان وأقصى نجد العراق، بعد تمكنه بالحجاز، وبسط رواقه بالغور مجرى حكم الرسول على أهل مكة والطائف وعمان والبحرين واليمن واليمامة.
وقوله تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [ (10) ] ، يعني:
العجم وفارس، لقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [ (11) ] ، يعني فارس والروم، وكان كذلك ملكها اللَّه أمته صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [ (12) ] ،
__________
[ (1) ] الأنفال: 7.
[ (2) ] الحج: 40.
[ (3) ] الحج: 59.
[ (4) ] النور: 55.
[ (5) ] الروم: 1- 3.
[ (6) ] الروم: 3- 4.
[ (7) ] الروم: 6.
[ (8) ] النصر: 1.
[ (9) ] زيادة للسياق.
[ (10) ] الفتح: 21.
[ (11) ] الأحزاب: 27.
[ (12) ] الفتح: 16.

(4/217)


هم أهل فارس والروم، وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة فقاتلهم أبو بكر ثم عمر رضي اللَّه عنهما.
ولم يختلف أحد من أهل القبلة في أن المخلفين من الأعراب لم يدعوا إلى شيء من الحروب بعد توليهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى دعوا في زمن أبي بكر إلى قتال أصحاب مسيلمة، ووعد صلّى اللَّه عليه وسلم بفتح بيضاء المدائن وأخذ كنوز كسرى،
وقال لعديّ بن حاتم: لا يمنعنك ما ترى بأصحابي من الخصاصة، فليوشكن أن تخرج الظعينة من الحيرة بغير جوار، فأبصر ذلك عدي بعينه.
وتزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بأم حبيبة، وأسلم أبوها أبو سفيان، فزالت العداوة وآلت إلى مودة وصلة، وأطلعه اللَّه تعالى على ما أكنه في الصدور، وأضمر به القلوب، فقال تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [ (1) ] .
وقال: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [ (2) ] ، يعني من بعث محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [ (3) ] ، فأعلم اللَّه نبيه بذلك، وقال: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [ (4) ] .
وقال تعالى: وَيُحِبُّونَ [أَنْ يُحْمَدُوا] [ (5) ] بِما لَمْ يَفْعَلُوا [ (6) ] ، وذلك أن اليهود كتموا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما سألهم عنه، وأخبروه بغير الحق، وأوهموه صدقهم ليستحمدوه بذلك، فأعلمه اللَّه بخبرهم.
وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [ (7) ] ، وذلك أن اليهود قالوا: لإخوانهم المنافقين في السير يوم الخندق: على ما تقتلون أنفسكم؟ [هلم] [ (8) ] إلينا، ما ترجون من محمد؟ واللَّه ما تجدون عنده خيرا.
__________
[ (1) ] المائدة: 13.
[ (2) ] البقرة: 76.
[ (3) ] البقرة: 76.
[ (4) ] البقرة: 77.
[ (5) ] زيادة لتصويب الآية الكريمة.
[ (6) ] آل عمران: 88.
[ (7) ] الأحزاب: 18.
[ (8) ] زيادة للسياق.

(4/218)


وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ [ (1) ] ذلك بأنهم قالوا لبني قريظة والنضير:
سنطيعكم في بعض الأمر، فأخرج اللَّه أسرارهم لنبيه. ونظائر ذلك مما أطلع اللَّه عليه نبيه مما أسرّه اليهود والمنافقون في القرآن كثير.
وهذا مما لا يجوز أن يكون وقوعه بطريق الاتفاق، ولا هو مما لا تصل قدر البشر إلى معرفته، فلم يبق إلا أن يكون أطلع اللَّه نبيه عليه، مما أسره اليهود والمنافقون وأعلمه به، وأين إعلام المسيح أصحابه بما يأكلون، وإخباره لهم بما [يدخرون] [ (2) ] ، من إعلام الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم هذه الحوادث العظيمة، والغيوب البديعة قبل كونها؟
قال الحافظ أبو نعيم: ووجه الدلالة في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بالغيوب على صدق نبوته، وثبوت رسالته، أن مولده ومنشأه في قوم أميين، لم يتعاظموا علما بالنجوم، ولا حكما بالطوالع والكواكب، حسب ما يستنبطه المنجمون، ولا عرف هو بطلب شيء من ذلك في بلده ولا في أسفاره، وكانت الكهانة بطلت بمبعثه، ولم يكن له علم بالغيوب، إلا بوحي يأتيه به جبريل عن اللَّه تعالى.
ولو كان في قومه وبلده المنجمون والمستنبطون وهو لم يخالطهم، ولا عرف بالأخذ عنهم، وأخبر ما أخبر به من الغيوب لكان ذلك دلالة على نبوته ومعجزة له إذا أخفى ذلك على عشيرته وخلطائه لمفارقة تلك العادات، وليس بجائز أن يكون إخباره مأخوذا عن الشياطين مع ما جاء به من سبّهم ولعنهم، فثبت بهذا أن الإخبار فيما أخبر به من الغيوب عن اللَّه تعالى.
وأما ما اعترض به بعض الملاحدة والكفرة بأنه لم يأت بآية قاطعة محتجا بقوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [ (3) ] ، وما أشبهه من الآي، فكيف وقد ورد القرآن بقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
__________
[ (1) ] محمد: 25- 26.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الإسراء: 59.

(4/219)


[ (1) ] ، وقوله: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [ (2) ] ، وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] ثم قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [ (4) ] الآية، وقال لليهود فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً [ (5) ] .
وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [ (6) ] الآية، وقال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [ (7) ] ، وقال: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [ (8) ] ، وقال: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى [ (9) ] ، وقال:
الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (10) ] ، وما في معناه من الآي.
وإنما منعوا الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بأن تأتهم الملائكة عيانا فيقولون: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ (11) ] ، فأنزل اللَّه تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [ (12) ] ، وقولهم:
لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذير* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [ (13) ] ، وما في معناه.
وأنزل اللَّه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ (14) ] ، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يعرفهم إنما الآيات عند اللَّه، ولا يرسلها إلا بما يعلم فيه الصلاح، وأن شهوات الكفار والجهال لا نهاية لها، وفيما أنزله من الكتاب المبني على الغيوب كفاية مع ما كان اللَّه تعالى يظهره عليه من الآيات سفرا وحضرا.
__________
[ (1) ] القمر: 1.
[ (2) ] الجن: 9.
[ (3) ] البقرة: 23.
[ (4) ] البقرة: 24.
[ (5) ] الجمعة: 6- 7.
[ (6) ] النور: 55.
[ (7) ] الأنفال: 9.
[ (8) ] الشعراء: 197.
[ (9) ] طه: 133.
[ (10) ] الروم: 1- 4.
[ (11) ] الحجر: 7.
[ (12) ] الحجر: 8.
[ (13) ] الفرقان: 7- 8.
[ (14) ] العنكبوت: 51.

(4/220)


واستفاضت الأخبار به بنقل الأمناء العدول من جهات كثيرة مختلفة، يستحيل فيها على مضي السنين وتطاول المدة، واختلاف همم النقلة ودواعيهم [التواطؤ] [ (1) ] عليها، فحصلت بحمد اللَّه الدلائل خاصا وعاما.
والقرآن هو الحجة الباقية بقاء الدهر، التي عجزت العرب مع خصاصتهم وبلاغتهم عن معارضته، مع ما يرجعون إليه من العقول الراجحة، [والافهام] [ (2) ] الكاملة، فليس يخلو تركهم معارضته من أحد أمرين: إما عجزا عنها أو قدرة عليها، فإن كان عجزا فهو ما يقوله، وإن كانوا قادرين على معارضته فلم يعارضوا لصرفة، صرفهم اللَّه عنها، فهي أيضا معجزة، كما لو أن مدعيا ادّعى النبوّة فقال:
[آيتي] [ (3) ] أنكم لو أردتم الكلام يومكم هذا لم يمكنكم، فلم يمكنهم الكلام، كان ذلك معجزة له، وآية للصرف التي صرفهم اللَّه عن النطق والكلام، وقد كان أمره صلّى اللَّه عليه وسلم في الانتفاء عن علم الغيب، و [براءته] [ (4) ] من ادعائه ظاهرا منتشرا، وأنه لا يعلم منه إلا ما علمه اللَّه وأنبأه.
وذكر من حديث مسدد قال: أخبرنا بشر بن المفضل، أخبرنا خالد بن ذكوان، حدّثتنا الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدخل عليّ صبيحة بني بي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلن جويرات لنا يضربن بالدف من أمامي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في الغد؟ فقال: دعي هذه وقولي [الّذي] [ (5) ] كنت تقولين.
ومن حديث إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مرّ بناس من الأنصار في عرس لهن يتغنين:
وأهدى لها [كبشا] [ (6) ] تبجح في المربد ... وزوجك في النادي يعلم ما في غد
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يعلم ما في غد إلا اللَّه عزّ وجلّ،
فكانوا أنصاره وأعوانه،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] زيادة للسياق.

(4/221)


فمدحهم اللَّه بذلك في كتابه، فقد كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عدة حواريين، منهم الزبير.
وقال: لكل نبي حواري، وحواري الزبير،
على أن حواري عيسى كان مبلغهم في طاعته أن قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [ (1) ] ؟
وكان لحواري رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في خلوص الطاعة وصحة النية وحسن المؤازرة، ومجاهدة النفوس في نصر نبيهم، وتبجيلهم وتعظيمهم له، ومعرفتهم بجلالته ما تقدم ذكره، وسيأتي إن شاء اللَّه، لأن اللَّه تعالى امتحن قلوبهم للتقوى، فكانوا لا يحدّون النظر إليه إعظاما له، ولا يرفعون أصواتهم عليه إجلالا له، ولا يتنخم نخامة إلا ابتدروها يتمسحون بها، ولا سقطت شعرة إلا تنافسوا فيها، حتى إن معاوية أوصى أن يدفن معه شعر من شعر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وشرب عبد اللَّه بن الزبير محجمة من دمه، وكان إذا حضر من [جفاة] الأعراب من لا يوقره استأذنوه في قتله، وقد ذكرت ذلك كله بطرقه.
وقد كان عيسى عليه السلام كثير السياحة، جوابا للقفار والبراري فقد كان لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك ما هو أعظم وأفخم، فإنه ساح في الأرض بأصحابه مجاهدا أعداء اللَّه، فاستنقذ في عشر سنين ما لا يعدّ من حاضر وباد، وافتتح القبائل الكثيرة، فأين سياحة عيسى ليخلو بعبادة ربه، من سياحة محمد المبعوث بالسيف المصلت على أعداء اللَّه لإقامة دين اللَّه؟ فكان لا يداري لغيره بالكلام، ويجاهد في اللَّه ولا ينام إلا على دم، ولا يستقر إلا متجهزا لقتال الأعداء، أو باعثا إليهم سرية في إقامة الدين وإعلاء الدعوة وإبلاغ الرسالة صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقد كان عيسى زاهدا يتقنّع من دنياه باليسير، ويرضيه منها القليل، فخرج من الدنيا كفافا لا له ولا عليه، وقد كان لنبينا من مقام الزهد ما لا فوقه، فإنه كانت له ثلاث عشرة زوجة سوى سراريه، فما رفعت مائدته قط وعليها طعام، ولا شبع من خبزين ثلاث ليال متتابعة، وكان يربط الحجر على بطنه.
__________
[ (1) ] المائدة: 112.

(4/222)


وكان لباسه الصوف، وفراشه إهاب شاة، ووسادته من أدم، حشوها ليف، فيأتي عليه الشهران والثلاثة فلا توقد في بيته نار لمصباح، وتوفي ودرعه مرهونة، ولم يترك صفراء ولا بيضاء، هذا وقد عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض، ووطئت له البلاد، ومنح الغنائم الكثيرة، فقسمها حتى أنه فرّق في يوم واحد ثلاثمائة ألف، وأعطى جماعة كل رجل مائتين من الإبل، وأعطى ما بين جبلين من الغنم،
وكان يأتيه السائل فيقول: والّذي بعثني بالحق ما أمس في آل محمد صاع من شعير ولا من تمر،
وكان يقول: أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت تضرعت، وإذا شبعت حمدت.
وقد كان عيسى يتقلب في حياطة اللَّه له، ومدافعته عنه المكر والغوائل بحيث كان يمسي ويصبح آمنا ساكن النفس، قال تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ [ (1) ] الآية.
وكذلك نبينا عصمه اللَّه، فقال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ (2) ] ، فكان يبرز وحده في سواد الليل وبالأسحار إلى البقيع والأودية، ومعه اليهود أعداؤه المجاهرون بعداوته في بلد واحد، فلم يصلوا منه إلى أي شيء، وهو يقتلهم ويسبي ذراريهم ونساءهم.
ودفع اللَّه تعالى عنه كيد قريش وهو بمكة، وأنبت على الغار له شجرة وأقام الحمام فعشش عليه، والعنكبوت فنسج على بابه، وقد رفع اللَّه عيسى إلى السماء، ولنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك [أعلى] [ (3) ] مقام فإنه عرض عليه عند وفاته البقاء فاختار ما عند اللَّه وقربه تعالى على البقاء في الدنيا، فقبضه اللَّه تعالى ورفع روحه، ولو اختار البقاء، لكان كعيسى والخضر وإلياس عند اللَّه في سماواته، وفي عالمه في أرضه، لأن عيسى عليه السلام مقيم في السماء والخضر وإلياس يتجولان في السموات والأرض على ما قيل.
ومع هذا فإن جماعة من أمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم رفعوا كما رفع المسيح، وذلك أعجب،
__________
[ (1) ] المائدة: 110.
[ (2) ] المائدة: 67.
[ (3) ] زيادة للسياق.

(4/223)


فرفع اللَّه عامر بن فهيرة والناس ينظرون، ودفن العلاء بن الحضرميّ لما مات في خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه بأرض اليمن في أرض العدو، فخافوا أن ينبش قبره ويستخرج، فذهبوا يطلبونه لينقل من أرض العدو في يومهم الّذي دفنوه فيه، فلم يقدروا عليه ولا دروا أين ذهب به.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أخبرنا جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن الزهري قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيب وأنا أتخوف العين، فرقيت فيها فحللت خبيبا، فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد، ثم التفت فلم أر خبيبا، كأنما ابتلعته الأرض، فما رئي خبيب إلى الساعة، قال أبو بكر بن أبي شيبة: وقد كان جعفر بن عون قال: عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه عن جدة.

(4/224)


أمّا القرآن الكريم
فقال ابن الأنباري: سمي قرآنا لأنه جمع السور وضمّها من قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[ (1) ] ، أي إذا [ألّفنا] منه شيئا فاعمل به.
وقيل: سمي قرآنا لأن القارئ يلقنه من فيه من قولهم: ما قرأت هذه الناقة علي قط، أي ما رمت. وقال أبو زيد: قرئت القرآن فهو مقريء. وقال اللحياني:
قرأت القرآن قرءا مثل قرعا، وقراءة وقرآنا وهو الاسم.
وقال ابن دريد: من قال قران (بلا همز) جعله من قريت الشيء بعضه إلى بعض، فالقرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم ووصفان له لأنه يقرأ ويكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بوصف النكرة فهو الوصف، وإن شئت قلت: هما يجريان مجرى واحد كالعباس وابن العباس، فهو في الحالين اسم العلم.
فالقرآن الكريم حجة على الملحدين، وبيان للموحدين، قائم بالحلال المنزل، والحرام المفصل، وفصل بين الحق والباطل، يرجع إليه العالم والجاهل، وإمام تقام به الفروض والنوافل، وسراج لا يخبو ضياؤه، ومصباح لا يخمد ذكاؤه، وشهاب لا يطفأ نوره، وبحر لا يدرك غوره، ومعجز لا يزال يظفر رموزه، ومعقل يمنع من الهلكة والبوار، ومرشد يدل على طريق الجنة والنار، وهاد يدل على المكارم، وزاجر يصد عن المحارم.
ظاهره أنيق، وباطنه عميق، وهو حبل اللَّه الممدود، وعهده المعهود، وصراطه المستقيم، وحجته الكبرى، ومحجته الوسطى، وهو الواضح سبيله، الراشد دليله، الّذي من استضاء بصباحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنه زلّ وهوى.
وفضائل القرآن لا تستقصي في ألف قرآن، حجة اللَّه ووعده ووعيده، به
__________
[ (1) ] القيامة: 18.

(4/225)


يعلم الجاهل، ويعمل به العامل، وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي، بشير الثواب ونذير العقاب، وشفاء الصدور وجلاء الأمور، ومن فضائله أنه يقرأ دائما ويكتب، ويمل ولا يمل، يتجدد على الابتذال، ويزكو على الإنفاق.
والقرآن حجة اللَّه على خلقه لما اشتمل عليه من حجج التوحيد والنبوات، وغير ذلك، وهو برهان لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم، على رسالته، إذ القرآن معجز، فهو برهان على صدق من جاء به، وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فالقرآن من حيث هو حجة، حجة للَّه ولرسوله، يسمى برهانا، ومن حيث هو مرشد الخلق إلى مصالح معاشهم ومعادهم، كاشف عنهم العمى، قائد لهم إلى الهدى يسمى نورا.
والقرآن أعظم معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأشرفها وأوضحها دلالة، لأن المعجزات تقع في الغالب مغايرة للوحي [المدعي] [ (1) ] ، وهو الخارق المعجز، فدلالته في عينه، ولا يفتقر إلى دليل أجنبي عنه كسائر الخوارق مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه.
واعلم أن المعجزات على قسمين.
أحدهما: ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
والثاني: ما تواردت الأخبار بصحته وحصوله، واستفاضت بثبوته ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة، ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقا [كثيرا] وجما غفيرا، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا، وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن الأمة لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف، والسلف عن سلفه، إلى أن يتصل ذلك برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والمعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلة والمعجزات.
والرسول صلّى اللَّه عليه وسلم أخذه عن جبريل عليه السلام، عن رب العزة جلّت قدرته،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(4/226)


فنقل القرآن الكريم في الأصل رسولان كريمان معصومان من الزيادة والنقصان، ونقله إلينا بعدهما أهل التواتر، الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه ويسمعونه لكثرة العدد، فلذلك وقع لنا العلم الضروريّ بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ومن وجود ظهور القرآن على يديه، وتحديه به، ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان التي لم يرها، كالبصرة والعراق وخراسان والهند، ونحو ذلك من الأخبار الكثيرة المتواترة.
ولنورد هنا وجه إعجاز القرآن، وكيفية نزوله، والمدة التي أنزل فيها، وجمعه، والأحرف التي أنزل عليها، فالقرآن معجزة نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومعجزة كل نبي انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل والتغيير، كالتوراة والإنجيل.

(4/227)


أمّا إعجاز القرآن الكريم
فقد اختلف فيه، هل هو من جهة البلاغة أو الصرفة؟ ثم اختلف القائلون بأنه من جهة البلاغة، فقال قوم: الإعجاز باعتبار أسلوب البلاغة، وقال آخرون:
بل بشرف البلاغة.
والفرق بين الأسلوب والشرف، أن الأسلوب هو النمط الخارج عن الأنماط المألوفة عندهم، كالخطابة، والمناظرة، والقصيد، والرجز، والخصومة، والرقي، والعوذ.
وشرف البلاغة يدخل منه المعنى الّذي هو سبق الكلام له، ومن ذهب إلى هذا جعل وجوه الإعجاز عشرة:
أحدها: النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء، ولذلك قال اللَّه تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (1) ] .
وفي صحيح مسلم: أن أنيسا أخا أبا ذر رضي اللَّه عنه قال لأبي ذر: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن اللَّه أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر [و] كاهن [و] ساحر، - وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على [إقراض] الشعر فلم يلتئم على [قول] [ (2) ] أحد بعدي أنه شعر، واللَّه إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.
[وكذلك] [ (2) ] أخبر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر، لما قرأ عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: حم [ (3) ] فصّلت، فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان والفصاحة والبلاغة بأنه ما سمع مثل القرآن قط، كان في هذا القول مقرا بإعجاز
__________
[ (1) ] يس: 69.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] فصّلت: 1.

(4/228)


القرآن له ولغرمانة من المتحققين بالفصاحة، والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.
ثانيها: غرابة الأسلوب العجيب، والاتّساق الغريب، الخارج عن أعارض النظم، وقوانين النثر، وأسجاع الخطب، وأنماط الأراجيز.
ثالثها: حسن التركيب، وبديع ترتيب الألفاظ، وعذوبة مساقها وجزالتها، وفخامتها وفصل خطابها.
وهذه الوجوه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة، لازمة بكل سورة، بكل آية، وبهذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز، فكل سورة تنفرد بهذه الثلاث من غير أن يضاف إليها أمر إلا من الوجوه العشرة، فهذه سورة الكوثر، بثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، قد تضمنت الإخبار عن معنيين:
أحدهما: الإخبار عن الكوثر، وهذا يدلك على أن المصدقين به أكثر من أتباع الرسل.
والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد، فأهلك اللَّه ماله وولده وانقطع نسله.
رابعها: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منهم الاتفاق بل جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف في موضعه.
خامسها: الإخبار عن الأمور التي تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمّيّ ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه [ (1) ] ، فأخبرنا بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الحالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدوه به من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر [ (2) ] ، وحال ذي
__________
[ (1) ] إشارة إلى قوله تعالى في سورة العنكبوت: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ آية: (48) .
[ (2) ] شأن موسى والخضر عليهما السلام: راجع سورة الكهف: 60- 82.

(4/229)


القرنين، فجاءهم وهو أمّيّ من أمّة أميّة، ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته، فتحققوا صدقه.
وهذا دليل على صحة نبوته، وتقريره أن محمدا قد أخبر بغيب لم يحضره، ولم يخبره به مخبر سوى اللَّه تعالى، وكل من أخبر بغيب [كذلك] [ (1) ] فهو نبي صادق، فمحمد نبيّ صادق.
أما الأول فلأنه أخبرهم بما كان ولم يحضره قطعا، ولم يخبره به سوى اللَّه، إذ لم يكن كاتبا ولا مؤرخا، ولا خالط أحدا ممن هو كذلك حتى يخبره.
وأما [الثاني] [ (2) ] فلأن من كان [كذلك] [ (3) ] يعلم قطعا أنه علم ذلك الغيب بوحي، وكل من أوحي إليه الوحي الحقيقي فهو نبي.
قال القاضي أبو الطيب: ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم، إنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.
سادسها: الوفاء بالوعد المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد اللَّه تعالى، وهي تنقسم إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيد بشرط لقوله وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ (4) ] ، ووَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [ (5) ] ووَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [ (6) ] وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [ (7) ] ، وشبه ذلك.
سابعها: الإخبار عن المغيبات في المستقبل، التي لا يطلع عليها إلا بوحي، فمن ذلك: ما وعد اللَّه نبيه أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ (8) ] ، ففعل ذلك، فكان
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] الطلاق: 3.
[ (5) ] التغابن: 11.
[ (6) ] الطلاق: 2.
[ (7) ] الأنفال: 65.
[ (8) ] التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9.

(4/230)


أبو بكر ثم عمر رضي اللَّه عنهما إذا [غزا] [ (1) ] واحد منهما بجيوشه عرّفهم ما وعد اللَّه من إظهار دينه ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا، وبرا وبحرا.
وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ (2) ] ، وقال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [ (3) ] ، وقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [ (4) ] ، وقال: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [ (5) ] ، فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا ربّ العالمين، أو من أوقفه اللَّه رب العالمين عليها، فدل على أن اللَّه تعالى قد أوقف عليها رسوله، ليكون دلالة على صدقه.
ثامنها: ما تضمنه القرآن من العلم الّذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وسائر الأحكام.
تاسعها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من أمّيّ.
عاشرها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف، قال اللَّه تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [ (6) ] ، وذلك أن الكفار لما طعنوا في القرآن وقالوا: ليس هو من عند اللَّه، وإنما هو من كلام محمد أو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [ (7) ] [ولما] [ (8) ] لم يكن لهم على ذلك برهان أكثر من التهمة المجردة، بيّن اللَّه بطلان دعواهم بهذه الملازمة المذكورة وتقديرها:
لو كان القرآن من عند غير اللَّه لوقع الاختلاف فيه، لكن لم يقع الاختلاف فيه فليس من عند غير اللَّه، فوقوع الاختلاف فيه لازم لكونه من عند غير اللَّه،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] النور: 55.
[ (3) ] الفتح: 27.
[ (4) ] الأنفال: 7.
[ (5) ] الروم: 1- 3.
[ (6) ] النساء: 82.
[ (7) ] الفرقان: 5.
[ (8) ] زيادة للسياق.

(4/231)


وقد [انتفى] [ (1) ] فيبقى ملزومه.
وقد اعترض الملاحدة على هذا بوجهين.
أحدهما: منع الملازمة، قالوا: لا نسلّم أنه لو كان من عند غير اللَّه لاختلف [فيه] [ (1) ] ، لأن كثيرا من الناس تكلموا فلم يختلف كلامهم لتحرزهم عن المتناقض فيما يقولونه، فجاز أن يكون محمد [كذلك] [ (1) ] أنشأ القرآن وتحرز من اختلافه، ولا جرم [جاء متسقا] [ (1) ] غير مختلف.
الثاني: منع انتفاء اللازم، قالوا: لا نسلم أن الاختلاف لم يقع فيه، بل فيه اختلاف كثير قد قرره الطاعنون.
والجواب عن الأول: أن مراد الكفار يعني اللَّه في قولهم: القرآن من عند غير اللَّه هو محمد، ومن أملى عليه القرآن كرحمان اليمامة ونحوه فيما زعموا، وهذان الرجلان كانا أميين، لا أنسة لهما بالكتب، ولا بدراسة الحكمة، وخلوّ كلام مثلهما عن الاختلاف.
وإن لم يكن محالا لذاته فهو محال في العادة أن أميا يأتي بمثل هذه المعاني المفحمة، في مثل هذه الألفاظ الجزلة، والجمل الكثيرة، ولا يقع الاختلاف في كلامه، وقلّ في العالم متكلم لم يستند إلى تأييد إلهي تكلم فلم يختلف كلامه، فلما رأينا هذا الكلام على قرب تناوله، وبعد مغزاة، وكثرته في نفسه غير مختلف، استدللنا بحكم العادة على أنه ليس من عند غير اللَّه.
والجواب عن الثاني: أن ما ظنه الطاعنون اختلافا في القرآن ليس اختلافا في نفس الأمر، لأن شرط الاختلاف والتناقض بين كل قضيتين، أن يتفقا في الزمان، والمكان، والموضوع، والشرط، والجزاء، والكل، والقوة، والفعل، ونحو ذلك من شروط التقابل إن وجد، وليس في القرآن قضيتان تقابلتا [كذلك] [ (1) ] ، بل لا بدّ من اختلافهما بزمان أو مكان أو غيره من الشروط.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(4/232)


نعم، فيه العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، ولا تناقض في شيء من ذلك، ولكن الطاعنون في القرآن أخطأ ظنهم لجهلهم، وقد ذكر مطاعنهم والجواب عنها جماعة من علماء الأمة، كالإمام أحمد ابن حنبل في كتاب مفرد، وأبي عبد اللَّه محمد بن [مسلم] [ (1) ] بن قتيبة في أول [كتاب] [ (1) ] (مشكل القرآن) ، وغيرهما.
وذهب النظّام وبعض القدرية وطائفة أخرى، إلى أن وجه الإعجاز هو المنع عن معارضته، والصرفة عند التحدي بمثله، وأن المنع والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن، وذلك أن اللَّه تعالى [صرف] [ (2) ] هممهم عن معارضته مع تحديهم أن يأتوا بسورة مثله بأن سلبوا العلوم التي كانوا بها يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك.
وردّ هذا المذهب بإجماع الأمة قبل حدوث هذا القول، على أن القرآن هو المعجز، فلو قلنا أن المنع والصرفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا، لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه، فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم، دلّ ذلك على أن مجرد المنع والصرفة لم يكن معجزا، واختلف [في] [ (2) ] من قال بالصرفة على قولين.
أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة عليه ولو تعرضوا له لعجزوا عنه.
الثاني: أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه.
وأنت إذا تأملت قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] وجدت فيها إثبات نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بتقرير معجزة وهو القرآن، وتقرير الدليل أن محمدا لو لم يكن صادقا في دعوى النبوة لأمكنكم أن تعارضوا معجزة وهو القرآن، ولو بسورة مثله، لكن لا يمكنكم معارضته، فيلزم أنه ليس بكاذب، فهو إذا صادق.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] البقرة: 23.

(4/233)


وقوله بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل محمد صلّى اللَّه عليه وسلم تنبيه على وجه صدقه، وهو أن صدور مثل هذا الكلام المعجز للخلق عن أمّي لا يقرأ ولا يكتب، يدل على صدقه قطعا، كما أن قلب العصا حيّة، وإحياء الموتى ممن لم يشتغل بعلم السحر ولا الطب يدل على صدقه.
وقوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا [ (1) ] : معجز معترض في هذا الاستدلال، لأنه إخبار عن غيب، فإنّهم لا يعارضون القرآن، وكان كما قال. ولقد كان هذا مما يقوي دواعيهم في تعاطيهم المعارضة، فلو قدروا عليها لفعلوها ثم يكذبوه في خبره، وقالوا:
زعمت أنّا لن نفعل، وها نحن قد فعلنا، فلما لم يعارضوه مع توفر الدواعي على المعارضة، دلّ ذلك على العجز والإعجاز، فقد تبين أن الإعجاز في القرآن بذاته، ويكون أهل البلاغة من العرب صرفوا عن معارضته.
وقد ذهب إلى هذا بعض المتأخرين فقال: الإعجاز بالأمرين، إذ لا مناقضة في الجميع، ألا ترى أن القائل بالصرف يقول: صرف اللَّه دواعي الفصحاء عن الفكر في المعارضة لا مع أفكارها؟
وقال ابن عطية: وجه الإعجاز في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه، وتوالى فصاحة ألفاظه، ووجه إعجازه أن اللَّه قد أحاط بكل شيء علما، فأحاط بالكلام كله علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته [أية] [ (2) ] لفظة تصلح أن تلي الأولى، ويتبين المعنى بعد المعنى، عم [ذلك] [ (2) ] من أول القرآن إلى آخره.
والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن، فلما جاء محمد صلّى اللَّه عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه.
والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.

(4/234)


ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة، يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم [يعطي] [ (1) ] لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامة فيبذل فيها جهده، وينقح، ثم لا يزال [كذلك] [ (1) ] وفيها مواضع للنظر والبدل، وكتاب اللَّه تعالى لو نزعت منه لفظه ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد (انتهى) .
فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تقوّله، أنزل اللَّه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [ (2) ] ، ثم أنزل تعجيزا لهم أبلغ من ذلك فقال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [ (3) ] ، فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار فقال:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (4) ] ، فأفحموا عن الجواب، وعدلوا إلى المحاربة [ (5) ] ، حتى أظهر اللَّه دينه.
ولو قدروا على المعارضة لكان أهون وأبلغ في الحجة، هذا مع كونهم أرباب البلاغة والفصاحة [والبيان] [ (6) ] ، فبلاغة القرآن في [أعلى] [ (1) ] طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإعجاز والبيان، وبها قامت الحجة على العرب، وقامت الحجة على العالم، فالعرب إذا كانوا أرباب الفصاحة [وأقاموا] [ (6) ] المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة، فإن اللَّه تعالى إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الّذي أراد إظهاره، وكان السحر في زمن موسى قد انتهى إلى غايته، [وكذلك] [ (7) ] الطب في زمن عيسى، والفصاحة في زمن محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الطور: 23- 24.
[ (3) ] هود: 13.
[ (4) ] البقرة: 23.
[ (5) ] في (خ) بعد قوله: «وعدلوا إلى المحاربة» ، وبعدها: «وآثروا» ثم كلمة غير واضحة، ثم «حربهم وأولادهم» ، ولم نجد لها توجيها، وبدونها يستقيم السياق.
[ (6) ] ما بين الحاصرتين مطموسة في (خ) ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (7) ] زيادة للسياق.

(4/235)


وقال القاضي عياض: ومعجزات نبينا أظهر من معجزات الرسل بوجهين:
أحدهما: [كثرتها] [ (1) ] ، وأنه لم يؤت نبي معجزة إلا وعند نبينا مثلها أو ما هو أبلغ منها، أما كونها كثيرة فهذا القرآن وكله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (2) ] ، أو آية في قدرها، لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] فهو أقل ما تحداهم به، وإذا كان هذا ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف، وعدد كلمات إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (2) ] عشر كلمات، فتجزأ القرآن على نسبة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (2) ] أزيد من سبعة آلاف جزء، وكل واحد منها معجز في نفسه.
ثم إعجازه بوجهين: طريق بلاغته، وطريق نظمه، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان، فتضاعف العدد من هذا الوجه، ثم فيه وجوه إعجاز أخر من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة، الجزء عن أشياء من الغيب، كل جزء منها بنفسه معجز، فتضاعف العدد كرة أخرى.
ثم وجوه الإعجاز الأخرى توجب التضعيف، هذا في حق القرآن، ولا يكاد يأخذ العدد معجزاته، ولا يحوي الحصر ماهيته. ثم الأحاديث الواردة، والأخبار الصادرة عنه صلّى اللَّه عليه وسلم في هذه الأبواب، وعما دلّ على أمره بتبليغ [نحو] [ (1) ] من هذا.
الوجه الثاني: في وضوح معجزاته صلّى اللَّه عليه وسلم، فإن معجزات الرسل كانت بقدر همم أهل زمانهم، وبحسب الفن الّذي سما فيه قرنه، ثم بين ذلك بمعنى ما تقدم ذكره، من غلبة السحر في زمان موسى، والطب في أيام عيسى، والبلاغة في العرب الذين بعث اللَّه فيهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الكوثر: 1.
[ (3) ] البقرة: 23.

(4/236)


وأما كيفية نزوله والمدة التي أنزل فيها
فإن اللَّه تعالى أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، ثم فرّقه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل، [ويوقف] [ (1) ] جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتسقت سور القرآن كما اتسقت آياته وحروفه عن محمد صلّى اللَّه عليه وسلم عن اللَّه رب العالمين، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أخذ ترتيب القرآن عن جبريل عليه السلام، يقف على مكان الآيات.
خرج النسائي [ (2) ] من حديث جرير عن منصور عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه، قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ (3) ] ، قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم كان اللَّه تبارك وتعالى ينزل على رسوله بعضه في إثر بعض، قال: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [كَذلِكَ] [ (4) ] لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وخرجه الحاكم [ (5) ] وقال: صحيح على شرطهما.
وللحاكم من حديث عبد [الأعلى] بن عبد [الأعلى] قال: حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وكان اللَّه إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، أو يحدث في الأرض منه شيئا أحدثه.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (6) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] لم أجده في (سنن النسائي) ، ولعله في الكبرى.
[ (3) ] القدر: 1.
[ (4) ] زيادة لتصويب الآية الكريمة.
[ (5) ] (المستدرك) : 2/ 242، حديث رقم (2878/ 7) ، وقال فيه: «إلى السماء الدنيا بموقع النجوم» ، والآية رقم 32 من سورة الفرقان. قال الحاكم: ... على شرطها ولم يخرجاه.
[ (6) ] المرجع السابق، حديث رقم (2877/ 6) .

(4/237)


وله من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [ (1) ] ووَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [ (2) ] ، قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (3) ] .
وله من حديث سفيان عن الأعمش، عن حسان بن حريث، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ويرتله ترتيلا. قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (4) ] .
وله من حديث عبد الوهاب بن عطاء قال، حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، وقال عز وجل: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [ (5) ] ، وقال: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [ (6) ] . قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (7) ] .
وله من حديث هيثم عن حصين عن [حكيم] [ (8) ] بن حزام، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، قال: [وتلا] [ (9) ] هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [ (10) ] . قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [ (11) ] .
__________
[ (1) ] الفرقان: 33.
[ (2) ] الإسراء: 106.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 242، حديث رقم (2879/ 8) .
[ (4) ] المرجع السابق: حديث رقم 2881/ 10، ونحوه باختلاف يسير حديث رقم (4216/ 226) ، وقال في آخره: «قال سفيان: خمس آيات ونحوها» .
[ (5) ] الفرقان: 33.
[ (6) ] الإسراء: 106.
[ (7) ] (المستدرك) : 2/ 242، حديث رقم (2879/ 8) .
[ (8) ] زيادة للبيان وفي (المستدرك) : حكيم بن جبير.
[ (9) ] زيادة للبيان.
[ (10) ] الواقعة: 75.
[ (11) ] (المستدرك) : 2/ 578، حديث رقم (3959/ 1097) .

(4/238)


وأمّا جمع القرآن الكريم فقد وقع ثلاث مرات
الأولى: عند ما أنزله اللَّه تعالى على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم فكان يمليه في كتّابه فيكتبون في العظام وغيرها، حتى اجتمعت سور القرآن وآياته.
والجمع الثاني: في خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه، جمعه من العظام وغيرها في صحف،
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي، عن ابن عبد خير، قال: قال علي رضي اللَّه عنه يرحم اللَّه أبا بكر، هو أول من جمع من اللوحين.
حدثنا قبيصة، حدثنا ابن عيينة، عن مجالد، عن الشعبيّ، عن صعصعة قال: أول من جمع من اللوحين وورّث الكلالة [ (1) ] أبو بكر رضي اللَّه عنه.
والجمع الثالث: في خلافة عثمان رضي اللَّه عنه، نسخ الصحف المذكورة وما أجمع عليه الصحابة في مصحف، وجعله خمس نسخ: أقر مصحفا بالمدينة، وبعث مصحفا إلى مكة، ومصحفا إلى الكوفة، ومصحفا إلى البصرة، ومصحفا إلى الشام، وحرّق ما عدا ذلك. فأجمع الصحابة رضي اللَّه عنهم على أن ما في مصحف عثمان رضي اللَّه عنه هو كلام اللَّه الّذي نزل به جبريل عليه السلام من رب العالمين على محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وصار كل ما يخالف المصحف العثماني لا يعتد به.
قال ابن عائذ في كتاب (المغازي) : حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد اللَّه بن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال: لما أصيب المسلمون من المهاجرين
__________
[ (1) ] الكلالة: الرجل لا والد له ولا ولد. وقيل: ما لم يكن من النسب لحما، وقيل: الورثة كلهم سوى الوالدين والأولاد، وقيل: من تكلل نسبه بنسبك كإبن العم وشبهه، وقيل: هي الإخوة لأمّ، وقيل:
هي من العصبة من ورث معه الإخوة للأمّ، وقيل: هم بنو العمّ الأباعد، وقال ابن عباس: هي اسم لما عدا الوالد.
وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سئل عن الكلالة فقال: «من مات وليس له ولد ولا والد» ،
فجعله اسم الميّت، وهو صحيح أيضا، فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا، وقيل:
اسم لكل وارث. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 4/ 373- 374.

(4/239)


والأنصار باليمامة، وقتل عامة المسلمين وفقهاؤهم، فزع أبو بكر رضي اللَّه عنه إلى القرآن فدعا به الناس، وخاف أن يهلك منه، وإنما هو في العسب والرقاع، وكان رجال قد قرءوه كله، منهم أبي بن كعب، وسالم مولى حذيفة، وكان أول من جمع القرآن في مصحف خلف [] [ (1) ] حتى يكتبه أجمع في مصحف وأشفقوا منه أن يزاد فيه أو ينقص منه، فجمعوه على رجل أبي بكر رضي اللَّه عنه وبأمره.
فلما أخرجوه للناس ولا يسمونه يومئذ المصحف، قال أبو بكر رضي اللَّه عنه:
التمسوا له اسما، فقال بعضهم. إنجيلا، فكرهوا ذلك لما ذكر اللَّه تعالى في الإنجيل، وقال بعضهم: سموه سفرا، فقالوا: اسما يدعوه اليهود كتابهم الأسفار، فقال عتبة ابن مسعود- وهو أخو عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، وكان في مهاجرة الحبشة-: إني سمعت الحبشة يدعون المصحف، فرضوا به.
فكان أبو بكر رضي اللَّه عنه أول من جمع القرآن في مصحف، وسماها المصاحف، وذكر هشام عن أبيه محمد بن السائب في كتاب. (الجامع لأنساب العرب) ومنه نقلت أن نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف بن قصي هو الّذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، وكذا ذكر الزبير بن بكار في كتاب: (نسب قريش) فقال: حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب، قال نافع بن ظريب الّذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب، وهو نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف.
وخرج النّسائي والترمذي من حديث يحيى بن سعيد، قال في رواية النسائي:
حدثنا يزيد الفارسيّ قال: قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان، وقال الترمذي حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عذي، وسهل ابن يوسف، حدثنا عوف بن أبي جميلة، حدثنا يزيد الفارسيّ، حدثنا ابن عباس قال: قلت لعثمان رضي اللَّه عنهما: ما حملكم أن عهدتم إلى الأنفال وهي من المثاني،
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين كلمة مطموسه في (خ) .

(4/240)


وإلى بَراءَةٌ [ (1) ] ، وهي من المئين [فقرنتم] بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ (2) ] ، ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي اللَّه عنه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت بَراءَةٌ [ (3) ] من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ (4) ] ، فوضعتها في السبع الطّول. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسيّ [ (5) ] . وخرّجه الحاكم [ (6) ] وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وللحاكم من حديث يحيى بن أيوب قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه عن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه قال: كنا حول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نؤلف القرآن إذ قال: طوبى للشام، فقيل له: ولم؟ قال: إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم [ (7) ] . وفي رواية: كنا عند رسول اللَّه نؤلّف القرآن وفي رواية: كنا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع [ (8) ] .
قال: هذا
__________
[ (1) ] أول سورة التوبة.
[ (2) ] أول سورة الفاتحة.
[ (3) ] أول سورة التوبة.
[ (4) ] أول سورة الفاتحة.
[ (5) ] يزيد الفارسيّ من التابعين من أهل البصرة، (تحفة الأحوذي) : 8/ 379، حديث رقم (3282) .
[ (6) ] (المستدرك) : 2/ 241، حديث رقم (2875/ 4) ، ص 260، حديث رقم (3272/ 389) .
وعن علي بن عبد اللَّه بن عباس قال: سمعت أبي يقول: سألت عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: لم لم تكتب في بَراءَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان، وبَراءَةٌ نزلت بالسيف ليس فيها أمان (المرجع السابق) ، حديث رقم (3273/ 390) .
[ (7) ] (المستدرك) : 2/ 249، حديث رقم (2900/ 29) .
[ (8) ] (المستدرك) : 2/ 249، حديث رقم (2901/ 30) .

(4/241)


حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وخرجه الإمام أحمد بهذا السّند، ولفظه: بينما نحن عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع [ (1) ] .
الحديث.
قال الحاكم: وفيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم جمع بحضرة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، والجمع الثالث هو ترتيب السور، كان في خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي اللَّه عنه [ (2) ] .
وقال الشعبي: أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه أول من جمع المصحف، وقال مجالد الشعبي عن صعصعة بن صوحان قال: أبو بكر أول من جمع المصحف،
وقال سفيان عن [من حدثه] [ (3) ] ، عن عبد خير عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال: رحم اللَّه أبا بكر، أول من جمع المصحف. وفي رواية: أول من جمع من اللوحين.
وخرج الحاكم من حديث شريك، عن عبد اللَّه بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي ذر رضي اللَّه عنه أنه قال: دخلت المسجد يوم الجمعة- والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب- فجلست قريبا من أبي بن كعب، فقرأ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سورة بَراءَةٌ [ (4) ] ، فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني. [قال وذكر] [ (5) ] الحديث [ (6) ] .
وله من حديث إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن [ابن] عباس رضي اللَّه عنه قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد، قال:
لا، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يعرض القراءة كل سنة على جبريل عليه السلام،
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 236، حديث رقم (21096) ، وحديث رقم (21097) ، كلاهما عن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 249، تعقيبا على الحديث رقم (2901/ 30) .
[ (3) ] زيادة ليستقيم السياق حيث لم أتبين اسم الراويّ.
[ (4) ] أول سورة التوبة.
[ (5) ] زيادة من (المستدرك) .
[ (6) ] (المستدرك) : 2/ 250، حديث رقم (2902/ 31) .

(4/242)


فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عرضتين، فكانت قراءة ابن مسعود آخرهن [ (1) ] . قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وفائدة الحديث ذكر عبد اللَّه بن مسعود.
وله من حديث حجاج بن المنهال [ (2) ] قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة عن الحسن، عن سمرة قال: عرض القرآن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الآخرة [ (3) ] . قال: هذا حديث صحيح، على شرط البخاري بعضه، وبعضه على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وخرج البخاري من حديث إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب عن عبيد ابن السبّاق، أن زيد بن ثابت قال، أرسل إليّ أبو بكر رضي اللَّه عنه مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحّرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر، كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال عمر: هذا واللَّه خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري لذلك، ورأيت في ذلك الّذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر رضي اللَّه عنه: إنك رجل شابّ عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فتتبّع القرآن فأجمعه، فو اللَّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن! قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: هو واللَّه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر [رضي اللَّه عنهما] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 250، حديث رقم (2903/ 32) .
[ (2) ] في (خ) : «محتاج بن منهال» ، وما أثبتناه من (المستدرك) .
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 250، حديث رقم (2904/ 33) .
[ (4) ] زيادة من رواية البخاري.

(4/243)


فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره، لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ] [ (1) ] حتى خاتمة بَراءَةٌ [ (2) ] ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللَّه تعالى، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر [رضي اللَّه عنه] [ (1) ] . ذكره في كتاب فضائل القرآن، وترجم عليه جمع القرآن [ (3) ] ، وفي كتاب الأحكام [ (4) ] ، وفي كتاب التفسير [ (5) ] ، وخرجه الترمذي في التفسير [ (6) ] .
وللبخاريّ من حديث هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم قال: وأخبرني يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة [أم المؤمنين] [ (7) ] رضي اللَّه عنها، إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت ويحك! وما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: [لعلي] [ (7) ] أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أيّه قرأت، قيل: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [ (8) ] ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له الصحف وأملت عليه-
__________
[ (1) ] زيادة من رواية البخاري.
[ (2) ] أول سورة التوبة.
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 12- 13، حديث رقم (4986) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 13/ 227، باب (37) يستحبّ للكاتب أن يكون أمينا عاقلا، حديث رقم (7191) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 8/ 437، باب (20) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ من الرأفة، حديث رقم (4679) .
[ (6) ] (تحفة الأحوذي) : 8/ 405، باب تفسير سورة التوبة، حديث رقم (3302) ، وقال في آخره:
هذا حديث حسن صحيح.
[ (7) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (8) ] القمر: 46.

(4/244)


أي السور [ (1) ] .
وله من حديث شعبة عن أبي إسحاق، سمعت عبد الرحمن بن يزيد، سمعت ابن مسعود رضي اللَّه عنه يقول في بني إسرائيل [ (2) ] ، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، أنهن من العتاق [ (3) ] الأول، وهي من تلادي [ (4) ] . وذكره في تفسير سورة بني إسرائيل [ (2) ] ، ولم يذكر فيه طه والأنبياء [ (5) ] . وذكر في تفسير سورة الأنبياء من حديث غندر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق، سمعت عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه قال: بني إسرائيل [ (2) ] ، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي [ (6) ] .
وذكر في باب تأليف القرآن من حديث الوليد قال: حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمع البراء قال: تعلمت سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الْأَعْلَى] قبل أن يقدم النبي [ (7) ] .
وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: ولقد قرأت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضعا وسبعين سورة [ (8) ] وفي رواية: واللَّه لقد قرأت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضعا وسبعين سورة [ (9) ] وصح أنه جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 46- 47، كتاب فضائل القرآن، باب رقم (6) تأليف القرآن، حديث رقم (4993) .
[ (2) ] سورة بني إسرائيل، وهي سورة الإسراء.
[ (3) ] العتاق: جمع عتيق، وهو القديم، أو هو كل ما بلغ الغاية في الجودة.
[ (4) ] التلاد: قديم الملك، أي مما حفظ قديما، ومراد ابن مسعود أنهن من أول ما تعلم من القرآن، وأن لهن فضلا لما فيهن من القصص، وأخبار الأنبياء والأمم، مختصرا من (فتح الباري) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 8/ 495، كتاب التفسير، باب (17) سورة بني إسرائيل، حديث رقم (4708) .
[ (6) ] (فتح الباري) : 8/ 556، كتاب التفسير، باب (21) سورة الأنبياء حديث رقم (4739) ، 9/ 47، كتاب فضائل القرآن، باب (6) تأليف القرآن، حديث رقم (4994) . وتأليف القرآن:
أي جمع آيات السورة الواحدة، أو جمع السور مرتبة في المصحف.
[ (7) ] (فتح الباري) : 9/ 47، كتاب فضائل القرآن، باب (6) تأليف القرآن، حديث رقم (4995) .
[ (8) ] (المستدرك) : 2/ 247- 248، حديث رقم (2896/ 25) ، (2898/ 27) .
[ (9) ] المرجع السابق، حديث رقم (2897/ 26) ، وفي (خ) : «لقد أخذت» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.

(4/245)


وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن سفيان عن السدي، عن عبد خير قال: سمعت عليا رضي اللَّه عنه يقول: [رحمة] اللَّه على أبي بكر، كان أول من جمع ما بين اللوحين. وحدثنا ابن مهدي عن سفيان به فذكره.
وللبخاريّ من حديث إبراهيم، حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي اللَّه عنه- وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق- فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث ابن هشام، فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان رضي اللَّه عنه للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصّحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق مصحفا مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق [ (1) ] .
قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، سمع زيد بن ثابت قال:
فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة [بن ثابت] [ (2) ] الأنصاري: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [ (3) ] ، فألحقناها في سورتها من المصحف [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 13، كتاب فضائل القرآن، باب (3) جمع القرآن، حديث رقم (4987) .
[ (2) ] زيادة في النسب من المرجع السابق.
[ (3) ] الأحزاب: 23.
[ (4) ] (فتح الباري) : 9/ 13، كتاب فضائل القرآن، باب (3) جمع القرآن، حديث رقم (4988) .
و (صحيح سنن الترمذي) : 3/ 260 أبواب تفسير القرآن، حديث رقم (2480- 3315) تفسير سورة التوبة.

(4/246)


وأخرجه الترمذي في التفسير بنحوه وقال: قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه [ (1) ] ، فقال: التابوت، وقال زيد:
التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال: اكتبوه التابوت، فإنه نزل بلسان قريش، قال الزهري: فأخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، أن عبد اللَّه بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل، واللَّه لقد أسلمت وإنه [ (2) ] لفي صلب رجل كافر، يريد زيد بن ثابت.
[ولذلك] [ (3) ] قال عبد اللَّه بن مسعود: يا أهل العراق، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن اللَّه يقول: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ [ (4) ] ، فالقوا [ (5) ] اللَّه بالمصاحف.
قال الزهريّ: فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة [ابن] [ (6) ] مسعود رجال من أفاضل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. قال هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث إبراهيم ابن سعد عن الزهري، لا نعرفه إلا من حديثه [ (7) ] .
وأخذ خالد بن عرفطة مصاحف ابن مسعود، فأغلى الزيت وطرحها فيه، وكان عثمان بن عفان قد [بعثه] [ (8) ] إلى الكوفة، وكانت له صحبه، وقاتل مع معاوية، فلما كانت أيام المختار بن أبي عبيد، أخذه فأغلى له زيتا وطرحه فيه.
وقال البخاري في باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: وأخبرني أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: فأمر عثمان زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد الرحمن بن
__________
[ (1) ] التابوه: قراءة في التابوت.
[ (2) ] في (خ) : «وإني» والتصويب من (صحيح سنن الترمذي) .
[ (3) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (4) ] آل عمران: 161.
[ (5) ] في (خ) : «فاتقوا» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (6) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (7) ] (تحفة الأحوذي) : 8/ 409، حديث رقم (3303) .
[ (8) ] زيادة للسياق.

(4/247)


الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم، ففعلوا. هكذا ذكره مختصرا [ (1) ] .
وذكر ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب، عن سالم وخارجة، أن أبا بكر الصديق رضي اللَّه عنه كان قد جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك، فأبى عليه حتى استعان عليه بعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ففعل، وكانت تلك الكتب عند أبي بكر، ثم كانت عند عمر حتى توفي، ثم كانت عند حفصة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأرسل إليها عثمان رضي اللَّه عنه فأبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردها إليه، فبعثت بها إليه فنسخها ثم ردّها إليها، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها.
وقيل: لما تولى مروان المدينة أرسل إلى حفصة في الصحف ليمزقها فمنعته، فلما ماتت [أعطاها] [ (2) ] عبد اللَّه أخوها فمزقها.
وقال مسعد بن سعد: أدركت الناس وقت جمع عثمان المصحف، فما رأيت المهاجرين والأنصار اختلفوا في تصويبه.
وقد روى من طريق حسن الجعني، عن زائدة، عن حجاج، عن عمير بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الّذي فعل عثمان.
ومن طريق عفان قال: حدثنا محمد بن أبان، حدثنا علقمة عن سويد [ (3) ] بن علقمة قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه يقول: واللَّه لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الّذي فعل.
وفيه قصة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 10، كتاب فضائل القرآن باب (2) نزل القرآن بلسان قريش والعرب، قُرْآناً عَرَبِيًّا- بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. حديث رقم (4984) .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] السياق مضطرب في (خ) فيما بين «علقمة وسويد» .

(4/248)


وأما الأحرف التي أنزل عليها القرآن الكريم
فقد صح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف [ (1) ] ، من رواية أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب وأبي بن كعب. وفي الباب عن عبد اللَّه بن عباس وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبي جهيم الأنصاري، وأبي بكرة، وسمرة، وغيره.
فأما حديث عمر رضي اللَّه عنه فرواه مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن عن عبد الأعلى، ورواه معمر ويونس عن عقيل وشعيب بن أبي حمزة، ومحمد بن عبد اللَّه بن مسلم- وهو ابن أخي محمد بن شهاب الزهري-، عن عروة بن الزبير، عن المسور وعبد الرحمن بن عبد القاري، جميعا عن عمر رضي اللَّه عنه [ (2) ] .
وخرج حديث مالك هذا، البخاري [ (3) ] ...
__________
[ (1) ] على سبعة أحرف: أي على سبعة أوجه، يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة سبعة. (فتح الباري) : 9/ 28 كتاب فضائل القرآن، شرح الحديث رقم (4992) :
«إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» ،
وبسط القول في القراءات السبعة، في (النشر في القراءات العشر) : 1/ 19- 54.
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 27، كتاب فضائل القرآن، باب (5) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (4991) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 28، كتاب فضائل القرآن، باب (5) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (4992) ، 5/ 92، كتاب الخصومات باب (4) كلام الخصوم بعضهم في بعض، حديث رقم (2419) ، 9/ 107، كتاب فضائل القرآن، باب (27) من لم ير بأسا أن يقول: سورة البقرة وسورة كذا وكذا، حديث رقم (5041) ، 12/ 375، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب (9) ما جاء في المتأولين، حديث رقم (6936) ، 13/ 636، كتاب التوحيد، باب (53) قول اللَّه تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، حديث رقم (7550) .

(4/249)


ومسلم [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] والنسائي [ (3) ] وغيرهم من الحفاظ، فخرجه البخاري في كتاب الخصومات عن عبد اللَّه بن يوسف، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأخرجه أبو داود عن القعنبي، وأخرجه النسائي عن محمد بن سلمة، والحرث بن مسكين عن أبي القثم عن مالك، وقد رواه مالك في الموطأ [ (4) ] عن محمد بن شهاب عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، ثم جئت به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
أرسله. ثم قال: اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثم قال لي: اقرأ، فقرأتها، فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه.
وخرج البخاري ومسلم والنسائي حديث المسور، وعبد الرحمن بن عبد القاري فقال البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، في باب ما جاء في المنافقين [ (5) ] .
وقال الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد القاري، أخبراه أنهما سمعا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 346، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، حديث رقم (270- 818) .
[ (2) ] (صحيح سنن أبي داود) : 1/ 276، باب (357) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (1308- 1475) .
[ (3) ] (سنن النسائي بشرح السيوطي) : 2/ 487- 489، باب (37) جامع ما جاء في القرآن، حديث رقم (935) ، (936) ، (937) .
[ (4) ] (شرح الزرقاني على الموطأ) : 2/ 14، كتاب الصلاة، باب (133) ما جاء في القرآن، حديث رقم (474) .
[ (5) ] سبق الإشارة إليه.

(4/250)


اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [كذلك] ، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، فلما سلم لببته بردائه أو بردائي، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت له: كذبت، فو اللَّه إن رسول اللَّه أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرأها، فانطلقت أقوده إلى رسول اللَّه، فقلت: يا رسول اللَّه! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأها، قال رسول اللَّه: هكذا أنزلت، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اقرأ يا عمر، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، ثم قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه.
وخرجه أيضا في آخر كتاب التوحيد في باب فاقرءوا ما تيسر من القرآن [ (1) ] .
وخرجه في فضائل القرآن [ (1) ] .
وخرجه مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال:
أخبرني عروة بن الزبير أن المسوّر بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد أخبراه أنهما سمعا عمر يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، فذكره.
وخرجه أيضا من حديث إسحاق بن إبراهيم، وعبد الرحمن بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، كرواية يونس بإسناده. وخرجه النسائي من حديث يونس عن ابن شهاب بإسناد الليث.
قال الحافظ أبو عمر عبد اللَّه بن عبد البر: في رواية معمر تفسير لرواية مالك في قوله: يقرأ سورة الفرقان، لأن ظاهر السورة كلها أو جملتها، فبان في رواية معمر أن ذلك في حروف منها بقوله: على حروف كثيرة.
وقوله: يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يقرئنيها، وهذا مجمع عليه أن القرآن [وآياته كلها] [ (2) ] لا يجوز في حروفه وكلماته أن يقرأ على سبعة أحرف ولا شيء
__________
[ (1) ] سبق الإشارة إليه.
[ (2) ] زيادة للبيان.

(4/251)


منها، ولا يمكن ذلك فيها، بل لا يوجد في القرآن كلمة تحتمل أن يقرأ على سبعة أحرف إلا قليلا، مثل: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [ (1) ] وتَشابَهَ عَلَيْنا [ (2) ] وبِعَذابٍ بَئِيسٍ [ (3) ] ونحو ذلك، وذلك يسير جدا، وهذا بين واضح يغني عن الإكثار منه.
وأما حديث أبي بن كعب رضي اللَّه عنه فخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي، وقاسم بن أصبغ، وعدة من الحفاظ. فلمسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده عن أبيّ ابن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا [جميعا] [ (4) ] على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقرءا، فحسّن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية.
فلما رأى رسول اللَّه ما قد غشيني، ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنما انظر إلى اللَّه عز وجل فرقا، فقال لي: يا أبي! أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فردّ إليّ الثانية أن اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فردّ إليّ الثالثة أن اقرأه سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللَّهمّ اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم ترغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم [ (5) ] .
وله من حديث شعبة، عن الحكم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن أبيّ بن كعب، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان عند أضاة [ (6) ] بني غفار، قال: فأتاه جبريل عليه
__________
[ (1) ] المائدة: 60.
[ (2) ] البقرة: 70.
[ (3) ] الأعراف: 165.
[ (4) ] زيادة من صحيح مسلم.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 350، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، حديث رقم (273) - (820) .
[ (6) ] هي الماء المستنقع كالغدير.

(4/252)


السلام فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، قال: أسأل اللَّه عز وجل معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك.
ثم أتاه الثانية فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال:
أسأل اللَّه معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك.
ثم جاءه الثالثة فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال:
أسأل اللَّه معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك.
ثم جاءه الرابعة فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا [ (1) ] .
وخرج أبو داود [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث شعبة بنحو ذلك، وقال النسائي بعد إيراده هذا الحديث: منصور خالف الحكم في هذا الحديث، رواه عن مجاهد عن عبيد بن عمير مرسلا. وخرجه قاسم بن أصبغ من حديث أبي معمر عن عبد الوارث عن محمد بن جحاده، عن الحكم بن عيينة إلى آخره بمعناه.
وخرجه النسائي أيضا من حديث يحيى عن حميد عن أنس عن أبيّ قال: ما حاك في صدري منذ أسلمت أني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال الآخر: أقرأنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا نبيّ اللَّه، أقرأتني آية كذا وكذا، قال: نعم وقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟
قال: نعم، إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده، حتى بلغ
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) 6/ 352، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه، حديث رقم (274- 821) ، قال الإمام النووي: معناه لا يتجاوز أمتك سبعة أحرف، ولهم الخيار في السبعة، ويجب عليهم نقل السبعة إلى من بعدهم بالتخير فيها، وأنها لا تتجاوز واللَّه أعلم.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 2/ 160، باب (357) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (1478) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 2/ 490، كتاب (11) الافتتاح، باب (37) جامع ما جاء في القرآن، حديث رقم (938) .

(4/253)


سبعة أحرف، فكل حرف شاف كاف [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث شيبان عن عاصم عن زرّ بن حبيش، عن أبيّ ابن كعب قال: لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جبريل، فقال يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمّيين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الّذي لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف [ (2) ] .
قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وحذيفة بن اليمان، وأم أيوب- وهي امرأة أبي أيوب، وسمرة، وابن عباس، وأبي جهيم بن الحرث بن الصمة، وعمرو بن العاص وأبي بكرة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قد روى من غير وجه عن أبيّ بن كعب.
وقال ابن عبد البر: وأما حديث عاصم عن زرّ عن أبيّ، فاختلف على عاصم فيه، وقد جاء بيان الرجل الّذي رآه أبيّ يقرأ في رواية همام بن يحيى عن قتادة، عن يحيى بن يعمر، عن سليمان بن صرد، عن أبيّ بن كعب قال: قرأ أبيّ آية، وقرأ ابن مسعود خلافها، وقرأ رجل آخر خلافها، فأتينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: ألم تقرأ آية كذا وكذا، وكذا وكذا؟ وقال ابن مسعود: ألم تقرأ آية كذا وكذا؟
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: كلكم محسن مجمل، قال: ما كلنا أحسن ولا أجمل! قال:
فضرب صدري وقال: يا أبي، إني أقرئت القرآن فقلت: على حرف أو حرفين؟
فقال لي الملك الّذي عندي: على حرفين، فقلت: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الّذي [عندي] [ (3) ] : على ثلاثة، هكذا حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، قلت: غفورا رحيما، أو قلت: سميعا حكيما، أو قلت: عليما حكيما، أو عزيزا حكيما، أي ذلك قلت فإنه [كذلك] [ما لم تختم آية عذاب
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (940) ، قوله: «ما حاك في صدري» . أي ما أثّر، أي أثر شك في صدري، ولا وقع، وقد جاء صريحا أنه وقع في صدره يومئذ شك عصمه اللَّه تعالى منه ببركة نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 178، كتاب القراءات (47) ، باب (11) .
[ (3) ] زيادة للبيان والسياق.

(4/254)


برحمة، أو آية رحمة بعذاب] [ (1) ] .
وزاد بعضهم في هذا الحديث: ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإذا ثبتت هذه الرواية، حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء اللَّه تعالى في موضع بغيره، مما يوافق معناه أو يخالف.
وقال ابن عبد البر: أما قوله في هذا الحديث: قلت سميعا عليما أو غفورا رحيما، أو عليما حكيما، فإنما أراد به ضرب المثل للحروف التي يقرأ القرآن عليها، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا تكون في شيء معنى وضده، ولا وجه وخلاف معناه، خلاف بنفسه ومضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده، والسورة التي أنكر فيها- أي القراءة- سورة النحل.
وذكر ذلك الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن عبيد اللَّه بن عمر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب قال ... ، الحديث.
وأما
حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه، فخرجه مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أن ابن عباس حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيد فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف، قال ابن شهاب:
بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الّذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام [ (2) ] .
وأما
حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه فخرجه أبو داود وقاسم بن أصبغ من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال:
__________
[ (1) ] تكملة من (سنن أبي داود) : 2/ 160، كتاب الصلاة، باب (357) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (1477) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 348، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه، حديث رقم (272- 819) ، (سنن أبي داود) : 2/ 160 كتاب الصلاة، باب (357) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (1476) .

(4/255)


أنزل القرآن على سبعة أحرف، غفورا رحيما، عزيزا حكيما، عليما حكيما [ (1) ] ، وربما قال: سميعا بصيرا.
وخرجه قاسم بن أصبغ من حديث ابن أبي أويس قال: حدثني أخي سليمان ابن بلال عن محمد بن عجلان عن [ابن جرير] [ (2) ] ، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة [ (3) ] .
وأما
حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، فروى جرير بن عبد الحميد عن مغيرة، عن واصل ابن حبان عن عبد اللَّه بن أبي الهذيل عن أبي الأحوص عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع [ (4) ] .
وأما
حديث أبي جهيم، فخرج ابن وهب من حديث سليمان بن بلال بن يزيد بن عبد اللَّه بن حضيعة، عن بشر بن سعيد أن أبا جهيم الأنصاري رضي اللَّه عنه أخبره بأن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال: هذا تلقيتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال الآخر: لقّنتها من رسول اللَّه، فسئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عنها فقال:
إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ولا تماروا في القرآن، فإن المراء [ (5) ] فيه كفر [ (6) ] .
وأما
حديث أبي بكرة، فخرجه الطحاوي من حديث حماد قال: أخبرني علي ابن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال:
__________
[ (1) ] وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 2/ 635، مسند أبي هريرة، حديث رقم (8190) .
[ (2) ] تكملة من (كنز العمال) .
[ (3) ] (كنز العمال) : 2/ 56، حديث رقم (3102) ، وقال فيه: «ولكن لا تجمعوا» ، وقال في آخره: (ابن جرير عن أبي هريرة) .
[ (4) ] (كنز العمال) : 2/ 53، حديث رقم (3086) وقال فيه: «لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع» وقال في آخره: (طب عن ابن مسعود) .
[ (5) ] المراء: المجادلة والخصام الشديد الّذي يولد الحقد والبغضاء.
[ (6) ] (كنز العمال) : 2/ 52، حديث رقم (3082) وقال فيه: «فإنّ مراء في القرآن كفر» ، وقال في آخره: (حم عن أبي جهيم) .

(4/256)


[أتي] [ (1) ] جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف، قال: فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأه فكل شاف كاف إلا أن يخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، على نحو: هلم، ويقال: وأقبل واذهب وأسرع وعجّل [ (2) ] .
وأما
حديث سمرة، فخرج الحاكم من حديث عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد ابن سلمة، حدثنا قتادة عن الحسن، عن سمرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أنزل القرآن على ثلاثة أحرف [ (3) ] ،
قال الحاكم [ (4) ] : وهذا حديث صحيح وليس له علة.
وقد اختلف الناس في معنى ذلك اختلافا كثيرا، فقال بعضهم: هي سبعة أحرف أودعها اللَّه تعالى في كتابه، قام بها إعجازه، وقال قوم: هي زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.
وقيل: هي حلال، وحرام، وأمر، ونهي، وزجر، وخبر ما كان قبل، وخبر ما هو كائن بعد، وأمثال.
وقيل: هي وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج.
وقيل: هي أمر، ونهي، وبشير، ونذير، وإخبار، وأمثال.
وقيل: هي محكم، ومتشابه، وناسخ، ومنسوخ، وخصوص، وعموم، وقصص.
__________
[ (1) ]
في (كنز العمال) : «أتاني جبريل وميكائيل» .
[ (2) ] (كنز العمال) : 2/ 50، حديث رقم (3075) باختلاف يسير، حتى
«كلها كاف شاف» .
وقال في آخره (حم وعبد بن حميد عن أبي بن كعب) ، (حم طب عن أبي بكرة) ، (ابن الضريس عن عبادة بن الصامت) .
[ (3) ] (كنز العمال) : 2/ 53، حديث رقم (3087) ، وقال في آخره: (حم طب ك عن سمرة) .
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 243، حديث رقم (2884/ 13) ، قال الحاكم: قد احتجّ البخاري برواية الحسن عن سمرة، واحتجّ مسلم بأحاديث حماد بن سلمة، وهذا الحديث صحيح، وليس له علة.

(4/257)


وقيل: هي أمر، ونهي، وحد، وعلم، وسر، وظهر، وبطن.
وقيل: ناسخ، ومنسوخ، ووعد، ووعيد، ورجم، وتأديب، وإنذار.
وقيل: حلال، وحرام، وافتتاح، وإضمار، وفضائل، وعقوبات.
وقيل: أوامر، وزواجر، وأمثال، وأنباء، وعتب، ووعظ، وقصص.
وقيل: الحلال، والحرام، والمنصوص، والقصص، والإباحات.
وقيل: الظهر، والبطن، والفرض، والندب، والخصوص، والعموم، والأمثال.
وقيل: الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والإباحة، والإرشاد، والاعتبار.
وقيل: هي مقدم، ومؤخر، وفرائض، وحدود، ومواعظ، ومتشابه، وأمثال.
وقيل: هي تفسير، ومجمل، ومقتضى، وندب، وحتم، وأمثال.
وقيل: هي أمر حتم، وأمر ندب، ونهي حتم، ونهي ندب، وأخبار، وإباحات.
وقيل: الفرض، والنهي الحتم، والأمر الندب، والنهي المرشد، والوعد، والوعيد، والقصص.
وقيل: هي سبع جهات لا يتعداها الكلام، إذ العرب تسمي الحرف جهة.
وقيل: هي لفظ خاص أريد به العام، ولفظ يغني تنزيله عن تأويله، ولفظ لا يعلم فقهه إلا العلماء، ولفظ لا يعلم معناه إلا الراسخون في العلم.
وقيل: هي سبع لغات متفرقة لجميع العرب، فكل حرف منها لقبيلة مشهورة، وبعض الأحياء أسعد من بعض، مثل قريش، لأن القرآن أنزل بلغتها.
وقيل: هي سبع لغات: أربع منها لعجز هوازن، وثلاثة لقريش، وعجز هوازن: سعد بن بكر، وجثم بن بكر، ومضر بن معاوية.
وقيل: قال [ابن] عباس: نزل القرآن بلغة الكعبيين: كعب قريش وكعب

(4/258)


خزاعة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كانت دارهم واحدة، قال أبو عبيدة:
يعني أن خزاعة جيران قريش.
وقال صالح بن نضر بن مالك الخزاعي: مرّ بي شعبة بن الحجاج فقال لي:
يا خزاعيّ، ألا أحدثك حديثا في قومك؟ حدثنا قتادة عن أبي الأسود الدّؤليّ قال:
نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لؤيّ.
وقال قتادة عن [ابن] عباس: نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة، وذلك أن الدار واحدة، هي سبع لغات: لقريش لغة، ولليمن لغة، ولجرهم لغة، ولهوازن لغة، ولقضاعة لغة، ولتميم لغة، ولطىّ لغة.
وقيل: هي لغة الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لؤيّ ولها سبع لغات.
وقيل: هي اللغات المختلفة لأحياء العرب في معنى الواحد، مثل قولك: هلم، هات، تعال، أقبل، هاهنا، عندي، اعطف عليّ.
وقيل: هي قراءات سبعة من الصحابة هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عباس، وأبي بن كعب رضي اللَّه عنهم.
وقيل: هي ما في اللغة مثل: الهمز، والفتح، والكسر، والإمالة، والتفخيم، والمد، والقصر.
وقيل: هي تصريف، ومصادر، وعروض غريب، وسجع، ولغات مختلفة في شيء واحد، كلها لغة العرب.
وقيل: هي كلمة واحدة تعرب بسبعة أوجه حتى يكون المعنى واحدا وإن اختلف اللفظ فيها.
وقيل: هي أمهات الهجاء: الألف، والباء، والجيم، والدال، والراء، والسين، والعين، لأن عليها يدور جميع كلام العرب.
وقيل: هي أسماء الرب تعالى مثل: الغفور، الرحيم، السميع، البصير، العليم، الحكيم.

(4/259)


وقيل: هي آية في الذات، وآية تفسيرها في آية أخرى، وآية بيانها في السنة الصحيحة، وآية في وصف الأنبياء والرسل، وآية في خلق اللَّه تعالى الأشياء، وآية في وصف الجنة، وآية في وصف النار.
وقيل: هي آية في وصف الصانع سبحانه، وآية في إثبات الوحدانية للصانع تعالى، وآية في إثبات صفاته، وآية في إثبات رسله، وآية في إثبات كتبه، وآية في إثبات الإسلام، وآية في إثبات الكفر.
وقيل: هي سبع جهات من صفات الذات للَّه تعالى التي لا يقع عليها التكييف.
وقيل: هي إثبات الإيمان باللَّه ومباينة الشرك، وإثبات الأوامر ومجانبة الزواجر والثبات على الإيمان، وتحريم ما حرّم اللَّه، وطاعة رسوله.
وقيل: هي إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية، وتعظيم الألوهية، والتعبد للَّه تعالى، ومجانبة الشرك بغير اللَّه، والترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب.
وقد ذكر هذه الأقوال كلها- ما عدا القول الأول- أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ثم قال: هذه آخر خمسة وثلاثين قولا لأهل العلم واللغة في معنى
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» ،
وهي أقاويل يشبه بعضها بعضا وهي كلها محتملة وتحتمل غيرها.
قال: والّذي عندي أن لقوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف معنيين:
أحدهما: علم القراءات للقرآن، والآخر: علم تأويله بصحة البيان، فأما المعنى الّذي هو وجه [القراءات] [ (1) ] للقرآن: فإنه يؤدي إلى سبعة أحرف على ما قاله المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم:
أولها: التأنيث والتذكير: مثل قوله: لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [ (2) ] ، ولا تقبل منها، ولا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ [ (3) ] ، ولا تحل لك.
وثانيها: الجمع والوحدان: كقوله: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] البقرة: 48.
[ (3) ] الأحزاب: 52.

(4/260)


وكتبه [ (1) ] ، وو كتابه، وكقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ [ (2) ] ، وشهادتهم [ (3) ] ، وما أشبه ذلك.
وثالثها: الخفض والرفع: مثل قوله تعالى: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ (4) ] ، محفوظ، وهَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [ (5) ] ، وغير اللَّه، وما أشبه ذلك.
ورابعها: الأدوات والآلات، مثل النون إذا شددتها، والألف إذا كسرتها أو فتحتها ونصبت ما بعدها، مثل قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [ (6) ] ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ (7) ] ، وما أشبه ذلك.
وخامسها: الإعراب والتصريف: كقوله: يَعْرِشُونَ [ (8) ] ، ويَعْرِشُونَ، ويَعْكُفُونَ [ (9) ] ، ويَعْكُفُونَ، وما أشبه ذلك.
وسادسها: تغيير اللفظ واللفظ: كقوله تعالى: نُنْشِزُها [ (10) ] ، ونُنْشِزُها (بالراي والزاي) ، وما أشبه ذلك.
وسابعها: ما يدخل في اللفظ وحورته اللغة، مثل القصر والمد، والتفخيم والإمالة، والكسر والفتح، لأن هذه الأشياء عليها يدور جوامع كلام العرب، وهذا المعنى الّذي ذكرناه هو وجه القراءات للقرآن، أعني
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف.
وقال أبو عبد اللَّه محمد بن أبي الفضل عبد اللَّه المرسي، في كتاب (ري الظمآن) : وهذه الوجوه أكثرها متداخلة، ولا أدري مسندها ولا عمّن نقلت، ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر، مع أن كلها موجود في القرآن، ولا أدري معنى التخصيص، وفيها أشياء لا أفهم معناها على
__________
[ (1) ] التحريم: 12.
[ (2) ] المعارج: 32.
[ (3) ] المعارج: 33.
[ (4) ] البروج: 22.
[ (5) ] فاطر: 3.
[ (6) ] البقرة: 189.
[ (7) ] الأنفال: 17.
[ (8) ] الأعراف: 137، النحل: 68.
[ (9) ] الأعراف: 138.
[ (10) ] البقرة: 259.

(4/261)


الحقيقة، وأكثرها يعارضها حديث عمر رضي اللَّه عنه، فذكره ثم قال: وهذا يقتضي أن الحروف السبعة ليس كما ذكروا: زاجر، وآمر، وحلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، [وكذلك] [ (1) ] أكثر الوجوه التي ذكروها في معنى: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
وهذا لا يقتضي أن يخالف بعضهم بعضا فيه، لأن الخلاف لا يتصوّر فيه، فإنّهم يقرءون ما في القرآن من هذه الوجوه وهي لا [تختلف] [ (1) ] ، فكيف يخالف بعضهم بعضا؟ هذا لا أدري معناه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وقد اختلف الناس في معنى هذا الحديث اختلافا كثيرا، فقال الخليل بن أحمد: معنى قوله: سبعة أحرف: سبع قراءات، والحرف هاهنا القراءة.
وقال غيره: هي سبعة، إنما كل نحو منها جزء، ومن أجزاء القرآن خلاف [كثير في] [ (2) ] غيرها، وقد ذهبوا إلى أن كل حرف منها هو صنف من الأصناف، نحو قول اللَّه عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [ (3) ] ، وكان معنى الحرف الّذي يعبد اللَّه عليه هو صنف من الأصناف، ونوع من الأنواع التي يعبد اللَّه عليها، فمنها ما هو محمود عنده تبارك وتعالى، ومنها ما هو خلاف ذلك، فذهب هؤلاء في
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف،
إلى أنها سبعة أنحاء وأصناف منها: زاجر، وآمر، ومنها حلال، ومنها حرام، ومنها محكم، ومنها متشابه، ومنها أمثال.
واحتجوا
بحديث يرويه سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أوجه: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في «خ» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] الحج: 11.

(4/262)


حرامه، واعتبروا بأمثاله، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [ (1) ] .
وهذا حديث لا يثبت لأنه يرويه حيوة بن شريح، عن عقيل بن خالد عن سلمة هكذا، ويرويه الليث عن عقيل، عن ابن شهاب عن سلمة بن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مرسلا، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود، وابنه سلمة ليس ممن يحتج به، وهذا الحديث [مجمع] [ (2) ] على ضعفه من جهة إسناده، وقد رده قوم من أهل النظر، منهم: أحمد بن أبي عمران قال: من قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد، لأنه محال أن يكون الحرف منها حراما لا ما سواه، أو يكون حلالا لا ما سواه، لأنه يجوز أن تكون القراءة تقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله، أو أمثال كله. ذكره الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران، سمعه منه، وهو كما قال ابن أبي عمران.
قال: واحتج ابن أبي عمران بحديث أبيّ بن كعب، أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف فاستزاده حتى بلغ سبعة أحرف، الحديث.
وقال قوم: هي سبع لغات في القرآن مفرقات على لغات العرب كلها، يمنها وبرارها، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وإلى هذا ذهب أبو عبيد في تأويل هذا الحديث.
قال: ليس معناه أن يقرأ الحرف على سبعة أوجه، هذا معنى غير موجود، ولكنه عندنا أنه نزل على سبع لغات مفرقة في جميع القرآن من لغات العرب، فيكون الحرف منها بلغة قبيلة أخرى سوى الأولى، والثالثة سواهما، كذلك إلى السبعة.
قال: وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظا فيها من بعض، وذكر حديث ابن شهاب عن أنس، أن عثمان رضي اللَّه عنه قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم. وذكر
__________
[ (1) ] آل عمران: 7.
[ (2) ] زيادة للسياق.

(4/263)


حديث ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم، وذكر أخبارا قد ذكرنا أكثرها في هذا الباب.
وقال آخرون: هذه اللغات كلها السبعة، إنما تكون لمضر، واحتجوا بقوله:
نزل القرآن بلسان مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لطيّئ، ومنها لقيس، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب.
وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يحب الذين يكتبون المصاحف من مضر، وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر، وقالوا: مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن عليها، مثل كشكشة قيس، وعنعنة تميم، فأما كشكشة قيس: فإنّهم يجعلون كاف المؤنث شيئا، فيقولون في [قوله تعالى] [ (1) ] : قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [ (2) ] ، قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وأما عنعنة تميم: فيقولون في أن:
عن، فيقرءون في قوله تعالى: [فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ] [ (3) ] ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وبعضهم يبدل السين تاءا، فيقول في الناس: النات، وفي أكياس: أكيات، وهذه لغات يرغب بالقرآن عنها، ولا يحفظ عن السلف شيء منها.
وقال آخرون: أما بدل الهمزة عينا، وبدل حروف الحلق [ (4) ] بعضها من بعض، فمشهور عن الفصحاء، وقد فسروا به [العنعنة] [ (5) ] ، واحتجوا بقراءة ابن مسعود: لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [ (6) ] ، وبقول ذي الرمة:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا عنّها غير طائل
يريد «إلا أنها» .
__________
[ (1) ] زيادة للبيان والسياق.
[ (2) ] مريم: 24.
[ (3) ] المائدة: 52.
[ (4) ] حروف الحلق سبعة يجمعها قول الناظم:
همز فهاء ثم عين حاء ... مهملتين ثم غين خاء
[ (5) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (6) ] يوسف: 35.

(4/264)


وذكر من طريق أبي داود حديث هيثم عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن كعب الأنصاري، عن أبيه عن جده: أنه كان عند عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فقرأ رجل بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ، فقال عمر: من أقرأكها؟ قال: أقرأنيها ابن مسعود، فقال له عمر. حتى حين، وكتب إلى ابن مسعود: أما بعد، فإن اللَّه أنزل القرآن بلسان قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل. والسلام.
قال ابن عبد البر: ويحتمل أن يكون هذا من عمر رضي اللَّه عنه على سبيل الاختيار، لأن ما قرأ به ابن مسعود لا يجوز أن يمنع منه، وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل فجائز الاختيار فيما أنزل. واللَّه أعلم.
وقد روي عن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه مثل قول عمر هذا، أن القرآن نزل بلغة قريش بخلاف الرواية الأولى، وهذا أثبت عنه لأنه من رواية ثقات المدينة، وذكر حديث ابن شهاب عن أنس، أن حذيفة قدم على عثمان، وقول عثمان رضي اللَّه عنه: فإن اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم.
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب: معنى قول عثمان: فإنه نزل بلغة قريش، يريد معظمة وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره نزل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات وحروف بخلاف لغة قريش، وقد قال تعالى: جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [ (1) ] ، ولم يقل قرشيا، وهذا يدل على أنه منزل بجميع لسان العرب، وليس لأحد أن يقول: أنه أراد قريشا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول: أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر، لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا.
وقال ابن عبد البر: قول من قال: إن القرآن نزل بلغة قريش، معناه عندي الأغلب، واللَّه أعلم، لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القرآن من تحقيق
__________
[ (1) ] الزخرف: 3.

(4/265)


الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز.
وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، صار في عجز هوازن منها خمسة، قال أبو حاتم: عجز هوازن: ثقيف، وبنو سعد بن بكر، وبنو جثم، وبنو نضر بن معاوية. قال أبو حاتم: خصّ هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان.
قال: وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش، أدناهم من بطون مضر. قال ابن عبد البر: هو حديث لا يثبت من جهة النقل، وقد روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: أنزل القرآن على لغة هذا الحي من ولد هوازن وثقيف.
وإسناد حديث سعيد هذا غير صحيح.
وقال الكلبي في قوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف قال: خمسة منها لهوازن، وحرفان لسائر الناس، وأنكر أهل العلم [معنى] [ (1) ]
حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف:
سبع لغات، وقالوا: هذا لا [معنى] [ (1) ] له، لأنه لو كان [كذلك] [ (1) ] لم ينكر القوم في أول الأمر بعضهم على بعض، لأنه من كانت لغته شيئا قد جبل عليه وفطر لم ينكر عليه.
وفي حديث مالك عن ابن شهاب المذكور في هذا الباب، ردّ قول من قال:
سبع لغات، لأن عمر رضي اللَّه عنه قرشي عدوي، وهشام بن حكيم بن حزام قرشيّ أسديّ، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، كما محال أن [يقرئ] [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم واحدا منهما بغير ما يعرفه من لغته، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا.
وقال قوم: إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل، وتعال، وهلم. وعلى هذا أكثر أهل العلم، وذكر حديث أبي جهيم وحديث ابن مسعود، وحديث أبيّ بن كعب ثم قال: وهذا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/266)


كله يعضد قول من قال: إن معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه، نحو: هلم، وتعال، وعجل، وأسرع، وانظر، واجر، ونحو ذلك.
وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يبين لك به أن ما اخترناه هو الصواب فيه إن شاء اللَّه، وأنه أصح من قول من قال: سبع لغات متفرقات، كما قدمنا ذكره، وكما هو موجود في القرآن بإجماع من كثرة اللغات المختلفات المتفرقات فيه، حتى لو تقصيت لكثير عددها.
وللعلماء في لغات القرآن مؤلفات تشهد لما قلنا،
وذكر من طريق أبي داود حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف: غفورا رحيما، عزيزا حكيما، عليما حكيما.
ومن طريق النسائي: حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن شقير العبديّ [ (1) ] ، عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب قال: سمعت رجلا يقرأ فقلت: من أقرأك فقال: رسول اللَّه، فقال: انطلق إليه، فانطلقنا إليه فقلت: أستقرئه يا رسول اللَّه، قال: اقرأ، فقرأ، فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أحسنت، فقلت: أو لم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى، وأنت قد أحسنت، فقلت: [تقول] [ (2) ] : قد أحسنت قد أحسنت؟ قال: فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيده في صدري ثم قال: اللَّهمّ أذهب عن أبيّ الشك، قال: نقضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا، قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
يا أبي: إن ملكين أتياني فقال أحدهما: اقرأ على حرف، قال الآخر: زده، قلت:
زدني، قال: اقرأ على حرفين، قال الآخر: زده، قلت زدني، قال: اقرأ على ثلاثة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأه على خمسة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال اقرأه على ستة أحرف، قال الآخر: زده، قلت زدني، قال اقرأه على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف.
وذكر طرقا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] لم أجده فيمن روى عن سليمان بن صرد.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (3) ] سبق الإشارة إلى هذه الأحاديث.

(4/267)


ثم قال: وهذه الآثار كلها تدل على أنه لم يقرئه على سبع لغات على ما تقدم ذكرنا له، وإنما هي أوجه تتفق معانيها، وتتسع ضروب الألفاظ فيها، إلا أنه ليس منها ما يخالف معنى إلى ضده، كالرحمة بالعذاب، وشبهه.
وذكر يعقوب بن شيبة قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: أتيت المسجد فجلست إلى ناس وجلسوا إليّ، فاستقرأت رجلا منهم سورة ما هي إلا ثلاثون آية [ (1) ] وهي حم [ (2) ] ، الأحقاف، فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرأها، فقلت من أقرأك؟ قال: أقرأني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قلت: وأنا الّذي أقرأني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وما أنا بمفارقكما حتى أذهب بكما إلى رسول اللَّه، فانطلقت بهما حتى أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعنده علي رضي اللَّه عنه فقلت:
يا رسول اللَّه! إنا اختلفنا في قراءتنا، قال: فتغير وجهه حين ذكرت الاختلاف وقال: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، وقال عليّ: إن رسول اللَّه يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علّم، ولا أدري أسرّ إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما لم يسمع، أو علم الّذي كان في نفسه فتكلم به.
وكذلك رواه الأعمش وأبو بكر بن عياش وإسرائيل وحماد بن سلمة وأبان العطار، عن عاصم بإسناده ومعناه، ولم يذكر [الأعمش] [ (3) ] حماد وأبان وعليا، وقالا: رجل. وقال الأعمش في حديثه: ثم أسرّ إلي عليّ في حديثه فقال عليّ: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علمتم.
وقال أبو جعفر الطحاوي في حديث عمر وهشام بن حكيم المذكور في هذا الباب: قد علمنا أن كل واحد منهما إنما أنكر على صاحبه ألفاظا قرأها الآخر، ليس في ذلك حلال ولا حرام، ولا زجر ولا أمر، وعلمنا بقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
هكذا أنزلت، أن السبعة الأحرف التي نزل القرآن بها لا تختلف في أمر ولا نهي،
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، لكن سورة الأحقاف خمسة وثلاثون آية.
[ (2) ] أول سورة الأحقاف.
[ (3) ] هذه الكلمة مطموسة في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.

(4/268)


ولا حلال ولا حرام، وإنما هي كمثل قول الرجل للرجل: أقبل، وتعال، وادن، وهلم، ونحو هذا.
وأكثر أحاديث هذا الباب حجة لهذا المذهب، وذكر حديث أبي بكرة الّذي تقدم ذكره.
ومن طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، قال: قال الزهري: إنما هذه الأحرف السبعة هي في الأمر الواحد الّذي لا اختلاف فيه. وروي الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: إني سمعت القراءة فرأيتهم متقاربين، فاقرءوا كما علّمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول أحدكم: هلم، وتعال.
وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا [ (1) ] . للذين آمنوا أمهلونا، للذين آمنوا أخرونا، للذين آمنوا ارقبونا. وبهذا الإسناد عن أبيّ أنه كان يقرأ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [ (2) ] مروا فيه، سعوا فيه، كل هذه الحروف كان يقرأها أبيّ بن كعب، فهذا معنى الحروف المراد بها الحديث. واللَّه أعلم، إلا أن مصحف عثمان الّذي هو بأيدي الناس اليوم، هو منها حرف واحد، وعلى هذا أهل العلم، فاعلم.
وذكر ابن وهب في كتاب (الترغيب والترهيب) قال: قيل لمالك رحمه اللَّه:
[أترى] أن تقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: ذلك جائز،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا منه ما تيسر، ومثل تعلمون، ويعلمون،
وقال: مالك: لا أرى باختلافهم في مثل هذا الباب بأسا.
قال: وقد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه كانت لهم مصاحف، قال ابن وهب: وسألت مالكا رحمه اللَّه عن مصحف عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، قال: وأخبرني مالك بن أنس قال: أقرأ عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه رجلا: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ
__________
[ (1) ] الحديد: 13.
[ (2) ] البقرة: 20.

(4/269)


طَعامُ الْأَثِيمِ [ (1) ] ، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له عبد اللَّه بن مسعود: طعام الفاجر، فقلت لمالك: أترى أن تقرأ كذلك؟ قال: نعم أرى ذلك واسعا.
قال ابن عبد البر: معناه عندي أن يقرأ به في غير الصلاة، وإنما ذكرنا ذلك عن مالك تفسيرا لمعنى الحديث، وإنما لم تجز القراءة في الصلاة لأن ما عدا مصحف عثمان رضي اللَّه عنه لا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن التي نقلها الآحاد، لا يقدم أحد على القطع في رده.
وقد روى عيسى عن ابن القاسم في المصحف بقراءة ابن مسعود قال: أرى أن يمنع الإمام من تبعه، ويضرب من قرأ به، ويمنع من ذلك. وقد قال مالك:
إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود وغيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصلّ وراءه، وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك، إلا قوما شذوا لا [يتابع] [ (2) ] عليهم، منهم: الأعمش سليمان بن بهزان. وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها إلا حرف زيد ابن ثابت الّذي جمع عليه عثمان المصاحف.
وذكر من حديث محمد بن عبد اللَّه الأصبهاني المقرئ، حدثنا أبو علي الحسن ابن صافي الصفّار، أن عبد اللَّه بن سليمان قال: حدثنا أبو الظاهر قال: سألت سفيان بن عيينة عن الاختلاف في قراءة المدنيين والعراقيين، هل تدخل في السبعة الأحرف فقال: لا، وإنما السبعة الأحرف: كقولهم: أقبل، تعال، أي ذلك قلت أجزأك، قال أبو الطاهر: وقاله ابن وهب.
قال أبو بكر بن عبد اللَّه الأصبهاني المقرئ: ومعنى سفيان هذا: إن اختلاف العراقيين والمدنيين راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة، وبه قال محمد بن جرير الطبري. وقال أبو جعفر الطحاوي: كانت هذه السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القراءة على غيرها، لأنهم كانوا أميين لا يكتبون إلا القليل منهم،
__________
[ (1) ] الدخان: 43.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/270)


فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو دام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسّع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك حتى كبر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقرءوا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها.
وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد. واحتج بحديث أبي بن كعب المذكور في هذا الباب من
رواية ابن أبي ليلى عنه، قوله فيه: إن أمتي لا تطيق ذلك في الحرف والحرفين والثلاثة، حتى بلغ السبعة،
واحتج بحديث عمر مع هشام بن حكيم، واحتج بجمع أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه للقرآن في جماعة الصحابة، ثم كتاب عثمان رضي اللَّه عنه لذلك، وكلاهما عول فيه على زيد بن ثابت. فأما أبو بكر رضي اللَّه عنه فأمر زيدا بالنظر فيما جمع منه، وأما عثمان رضي اللَّه عنه فأمره بإملائه من تلك الصحف التي كتبها أبو بكر، وكانت عند حفصة رضي اللَّه عنها.
وقال بعض المتأخرين من أهل العلم بالقرآن: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة، منها ما يتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل:
أَطْهَرُ لَكُمْ [ (1) ] ، وأطهر لكم، ووَ يَضِيقُ صَدْرِي [ (2) ] ، وو يضيق صدري، ونحو هذا.
ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا يتغير صورته، مثل قوله: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [ (3) ] ، وربنا باعد بين أسفارنا.
ومنها ما يتغير معناه بالحروف واختلافها بالإعراب ولا يتغير صورته، مثل قوله: إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [ (4) ] ، وننشرها.
__________
[ (1) ] هود: 78.
[ (2) ] الشعراء: 13.
[ (3) ] سبأ: 19.
[ (4) ] البقرة: 259.

(4/271)


ومنها ما يتغير صورته ولا يتغير معناه، كقوله: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [ (1) ] ، وكالصوف المنقوش.
ومنها ما يتغير صورته ومعناه، مثل قوله: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [ (2) ] ، وو طلع منضود.
ومنها بالتقديم والتأخير، مثل: وجاءت سكرة الحق بالموت [ (3) ] ، ووَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ.
ومنها بالزيادة والنقصان، مثل: [لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً] [ (4) ] ، وتسع وتسعون نعجة أنثى.
قال ابن عبد البر: وهذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث، وفي كل وجه منها حروف كثيرة لا تحصى عددا، فمثل قوله: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [ (1) ] ، والصوف المنفوش، قراءة عمر رضي اللَّه عنه، فامضوا إلى ذكر اللَّه [ (5) ] وهو كثير. ومثل قوله: نعجة أنثى [ (6) ] ، قراءة ابن مسعود وغيره، فلا جناح عليه ألا يطوف بهما [ (7) ] ، وقراءة أبي بن كعب: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها [ (8) ] ، وهذا كثير أيضا.
وهذا يدلك على قول العلماء أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها إلا حرف واحد، وهو صورة مصحف عثمان، وما دخل فيه بما يوافق صورته من الحركات واختلاف اللفظ من سائر الحروف.
ثم ذكر أبو [عمرو] [ (9) ] عدة قراءات من الشواذ بأسانيدها وقال: وقد أجاز
__________
[ (1) ] القارعة: 5.
[ (2) ] الواقعة: 29.
[ (3) ] ق: 19.
[ (4) ] ص: 23.
[ (5) ] وهي في قراءة حفص عن عاصم: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] .
[ (6) ] زيادة على قراءة حفص عن عاصم [ص: 23] .
[ (7) ] وهي في قراءة حفص عن عاصم: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158] .
[ (8) ] وهي في قراءة حفص عن عاصم: بدون قوله: وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها [يونس: 24] .
[ (9) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/272)


مالك القراءة بهذا ومثله، وذلك محمول عند أهل العلم اليوم على القراءة في غير الصلاة على وجه التعليم، والوقوف على ما روى في ذلك من علم الخاصة.
وأما حرف زيد: فهو الّذي عليه الناس في مصاحفهم اليوم، وقراءتهم من بين سائر الحروف، لأن عثمان رضي اللَّه عنه جمع المصاحف بمحضر جمهور الصحابة. قال: وقد تقدم عن الطحاوي أن أبا بكر وعثمان رضي اللَّه عنهما عوّلا على زيد بن ثابت في ذلك، وأن الأمر عاد فيما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد، وهو الّذي عليه جماعة الفقهاء فيما يقطع عليه، وتجوز الصلاة به.
وقال القاضي أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر بن عطية: اختلف الناس في معنى هذا الحديث اختلافا شديدا، فذهب فريق من العلماء إلى أن تلك الحروف السبعة هي فيما يتفق أن يقال على سبعة أوجه فما دونه، كتعال، وأقبل، وإليّ، ونحوي، وقصدي، أقرب، وجيء، وكاللغات التي في أب، والحروف التي هي في كتاب اللَّه فيها قراءات كثيرة، وهذا قول ضعيف.
قال ابن شهاب في كتاب (مسلم) : بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الّذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام، وهذا كلام محتمل.
قال فريق من العلماء: أن المراد بالسبعة الأحرف: معاني كتاب اللَّه، وهي أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، وعبادات، وأمثال. وهذا أيضا ضعيف لأن هذه لا تسمى أحرفا، وأيضا [فالإجماع] [ (1) ] أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا في تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.
وحكى صاحب (الدلائل) عن بعض العلماء، وقد حكى نحوه القاضي أبو بكر الطيب قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة، فذكر ما تقدم،
قال: وذكر القاضي أبو بكر الطيب في معنى هذه السبعة الأحرف: حدثنا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن هذا القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: نهي، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلّوا حلاله وحرموا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(4/273)


حرامه. الحديث.
قال القاضي: فهذا تفسير منه صلّى اللَّه عليه وسلم للأحرف السبعة ولكن ليست هذه التي أجاز لهم القراءة بها على اختلافها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، ومنه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [ (1) ] ، أي على وجه وطريقة، هي شك وريب، فكذلك يعني هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك.
وذكر القاضي أيضا أن أبيّا رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: إني قرأت القرآن على حرف أو حرفين، ثم زادني الملك حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: غفور رحيم، سميع عليم، أو عليم حكيم. وكذلك ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب.
وقد أسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وذكر من كلام ابن مسعود نحو قول القاضي ابن الطيب: وهذه سبعة غير السبعة التي هي قراءات، ووسع فيها، وإنما هي سبعة أوجه أسماء اللَّه تعالى، وإذا ثبتت هذه الرواية حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، ولا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء اللَّه تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالفه.
قال القاضي: وزعم قوم أن كل كلمة تختلف القراءة بها فإنّها على سبعة أوجه، وإلا بطل معنى الحديث. قالوا: ونعرف بعض الوجوه لمجيء [الخبر به] [ (2) ] ، ولا يعرف بعضها إذ لم يأت به خبر. قال: وقال قوم: ظاهر الحديث يوجب تواجد في القرآن كلمة أو كلمتان تقرءان على سبعة أوجه، فإذا حصل ذلك تم معنى الحديث.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وقد زعم قوم أن معنى هذا الحديث أنه أنزل على سبع لغات مختلفات، وهذا باطل إلا أن يريد الوجوه المختلفة التي تستعمل في القصة الواحدة، والدليل على ذلك أن لغة عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب،
__________
[ (1) ] الحج: 11.
[ (2) ] زيادة للسياق.

(4/274)


وهشام بن حكيم وابن مسعود واحدة، وقراءتهم مختلفة، وخرجوا فيها إلى المناكرة.
فأما الأحرف التي صوّب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم القراءة بجميعها، وهي التي راجع فيها قراءته، وسهل عليه بعلمه تعالى بما هم عليه من اختلافهم في اللغات، فإنّها سبعة أوجه وسبع قراءات مختلفات بطرائق يقرأ بها على اختلافها في جميع القرآن، ومعظمه حسب ما تقتضيه القراءة.
[و] [ (1) ] العبارة في قوله: أنزل القرآن: فإنما أريد به الجميع أو المعظم، فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها، ويدل على ذلك قول الناس: حرف أبي، وحرف [ابن] [ (1) ] مسعود، ويقول في الجملة: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف من اللغات والإعراب، وتغيير الأسماء والصور، وأن ذلك متفرق في كتاب اللَّه تعالى ليس موجودا في حرف واحد وسورة واحدة يقطع على اجتماع ذلك فيها.
قال ابن عطية: انتهى ما جمعت من كلام القاضي أبي بكر، وإطلاقه البطلان على القول الّذي حكاه فيه نظر، لأن المذهب الصحيح الّذي قرره أجزاء من قوله، ونقول في الجملة: إنما فتح وترتب من جهة الاختلاف ليس بشديد التباين، حتى يجهل بعضهم ما عند بعض في الأكثر، وإنما هو أن قريشا استعملت في عبارتها شيئا، واستعملت هذيل في ذلك المعنى شيئا غيره، وسعد بن بكر غيره، والجميع كلامهم في الجملة ولغتهم.
واستدلال القاضي بأن لغة عمرو، وأبي، وهشام، وابن مسعود واحدة، فيه نظر، لأن ما استعملته قريش في عبارتها، ومنه عمر وهشام، وما استعملته الأنصار ومنهم أبي، وما استعملته هذيل ومنهم ابن مسعود قد تختلف، ومن ذلك النحو من الاختلاف هو الاختلاف في كتاب اللَّه تعالى، فليست لغتهم واحدة في كل شيء.
وأيضا فلو كانت لغتهم واحدة، بأن نفرضهم جميعا من قبيلة واحدة، لما كان اختلافهم حجة على من قال: إن القرآن أنزل على سبع لغات، لأن مناكرتهم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(4/275)


لم تكن لأن المنكر سمع ما ليس فيه لغته فأنكره، وإنما كانت لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وعساه قرأ قراءة ما ليس من لغته واستعمال قبيلته.
فقال القاضي رحمه اللَّه: إنما أبطل أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قصد في قوله: على سبعة أحرف بعدد اللغات التي تختلف بجملتها، وأن تكون سبعا متباينة لسبع قبائل، تقرأ كل قبيلة القرآن كله بحرفها، ولا تدخل عليها لغة غيرها، بل قصد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، عنده عدّ الوجوه والطرائق المختلفة في كتاب اللَّه، مرة من جهة لغة، ومرة من جهة إعراب، وغير ذلك.
ولا مرية أن هذه الوجوه إنما اختلفت لاختلاف في العبارات بين الجملة التي نزل القرآن بلسانها، وذلك يقال فيه اختلاف لغات.
وصحيح أن يقصد عليه السلام عدّ الأنحاء والوجوه التي اختلفت في القرآن بسبب اختلاف عبارات اللغات، وصحيح أن يقصد عدّ الجماهير والرءوس من الجملة التي نزل القرآن بلسانها، وهي قبائل مضر، فجعلها سبعة، وهذا القول أكثر توسعة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم لأن الأنحاء تبقى غير محصورة، فعسى أن الملك قد أقرأه بأكثر من سبعة طرائق ووجوه. قال القاضي أبو بكر في كلامه المتقدم: فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها.
قال ابن عطية: والشرط الّذي يصح به هذا القول: هو أن يروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال كثير من أهل العلم، كأبي عبيد وغيره: إن معنى الحديث أنه أنزل على سبع لغات لسبع قبائل، أتيت فيها كل لغة منها. وهذا القول المتقرر من كلام القاضي أبي بكر.
وقد ذكر بعضهم قبائل من العرب روما منهم أن يعينوا السبع التي يحسن أن تكون مراده عليه السلام، نظروا في ذلك بحسب القطر ومن جاور منشأ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. واختلفوا في التسمية، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قرشيّ واسترضع في بني سعد، ونشأ فيهم ثم ترعرع، [] [ (1) ] وهو يخالط في اللسان كنانة وهذيلا وثقيفا،
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين كلمتان غير واضحتين في (خ) .

(4/276)


وخزاعة وأسدا وضبّة وألفافها لقربهم من مكة، وتكرارهم عليها، ثم بعد هذه تميما وقيسا ومن انضاف إليهم وسط الجزيرة.
فلما بعثه اللَّه تعالى ويسّر عليه أمر الأحرف أنزل عليه القرآن بلغة هذه الجملة المذكورة، وهي التي قسمها على سبعة لها السبعة الأحرف، وهي اختلافات في العبارات حسب ما تقدم.
قال ثابت بن قيس: لو قلنا من هذه الأحرف لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة وألفافها، ومنها لقيس، لكان قد أتى على قبائل مضر في سبعة تستوعب اللغات التي نزل بها القرآن، وهذا نحو ما ذكرناه.
وهذه الجملة هي التي انتهت إليها الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدّخل، ويسّرها اللَّه لذلك، لتظهر آيات نبيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه، وسبب سلامتها: أنها في وسط جزيرة العرب في الحجاز، ونجد، وتهامة، لم تطرقها الأمم، فأما اليمن وهو جنوب الجزيرة، فأفسدت كلام عربه خلطه الحبشة والهنود، على أن أبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا العباس المبرد قد ذكرا أن عرب اليمن من القبائل التي نزل القرآن بلسانها.
قال ابن عطية: وذلك عندي إنما هو فيما استعملته عرب الحجاز من لغة اليمن، كالعرم والفتاح، فأما ما انفرد به كالرجيح، والغلوب ونحوه، فليس في كتاب اللَّه منه شيء، وأما ما [والى] [ (1) ] العراق من جزيرة العرب، وهي بلاد ربيعة وشرقيّ الجزيرة، فأفسدت لغتها مخالطة الفرس والنّبط، ونصارى الحيرة وغير ذلك، وأما الّذي يلي الشام وهو شمال الجزيرة وغيرهم فأفسدها مخالطة الروم، وكثير من بني إسرائيل، وأما غربي الجزيرة، فهو جبال سكن بعضها هذيل وغيرهم، وأكثرها غير معمور، فبقيت القبائل المذكورة سليمة اللغات، لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم.
ويقوي هذا النوع أنه لما اتسع نطاق الإسلام، وداخلت الأمم العرب وتجرد
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/277)


أهل المصرين: البصرة والكوفة لحفظ لسان العرب وكتب لغتها، لم يأخذوا إلا عن هذه القبائل الوسيطة المذكورة ومن كان معها، وتجنبوا اليمن والعراق والشام، فلم يكتب عنهم حرف واحد، ولذلك تجنبوا حواضر الحجاز: مكة والمدينة والطائف، لأن السبي والتجار من الأمم كثروا فيها وأفسدوا اللغة، وكانت هذه الحواضر في مدة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سليمة لقلة المخالطة.
فمعنى قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، أي فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها، فنزل القرآن فيعبّر عن المعنى فيه بعبارة قريش [مرة] ، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظة، ألا ترى أن «فطر» معناها عند غير قريش ابتدأ خلق الشيء وعمله، فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس رضي اللَّه عنه حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما:
أنا فطرتها، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ (1) ] ، وقال أيضا: ما كنت أدري معنى قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا [ (2) ] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك [ (3) ] .
وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وكان لا يفهم معنى قوله تعالى:
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [ (4) ] فوقف به فتى فقال: إن أبي يتخوفني حقي، فقال عمر: اللَّه أكبر، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، أي على تنقص [ (5) ] لهم.
وكذلك اتفق لقطبة بن مالك، إذ سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في الصلاة:
__________
[ (1) ] فاطر: 1.
[ (2) ] الأعراف: 89.
[ (3) ] وقال الفرّاء: أهل عمان يسمون القاضي: الفاتح. (البحر المحيط) : 5/ 115، تفسير سورة الأعراف: 89.
[ (4) ] النحل: 47.
[ (5) ] قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. وقال ابن قتيبة: يقال: خوّفته وتخوّفته، إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه، وقال الهيثم بن عديّ: هو النقص بلغة أزد شنوءة. وفي حديث لعمر أنه سأل عن التخوف، فأجابه شيخ: بأنه التنقص في لغة هذيل. (المرجع السابق) : 6/ 535، تفسير سورة النحل: 47.

(4/278)


وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ (1) ] ، ذكره مسلم [ (2) ] في باب: القراءة في صلاة الفجر. إلى غير ذلك من الأمثلة.
خرج مسلم [ (2) ] من حديث أبي عوانة، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك قال: صليت وصلّى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقرأ ق* وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ (3) ] ، حتى قرأ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ (1) ] ، قال: فجعلت أرددها ولا أدري ما قال.
فأباح اللَّه تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الّذي فيه الإعجاز وجودة الوصف، ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام: فاقرءوا بما تيسر منه بأن يكون كل أحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات، جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن، وكان معرضا أن يبدّل هذا وهذا، حتى يكون غير الّذي نزل من عند اللَّه، وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم ليوسّع بها على أمّته، فقرأ مرة لأبيّ بما عارضة به جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضة به أيضا.
وفي صحيح البخاري عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: قال: أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى بي إلى سبعة أحرف.
وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه لسورة الفرقان، وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في كل قراءة منها وقد اختلفتا: هكذا أقرأني جبريل، هل ذلك إلا أنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة.
وعلى هذا يحمل قول أنس بن مالك حين قرأ: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا [ (4) ] ، فقيل له: إنما تقرأ: وَأَقْوَمُ قِيلًا [ (4) ] ، فقال:
أصوب وأقوم واحد، فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وإلا فلو كان
__________
[ (1) ] ق: 10.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 422، كتاب الصلاة باب (35) القراءة في الصبح، حديث رقم (165- (457)) .
[ (3) ] ق: 1- 2.
[ (4) ] المزمل: 6.

(4/279)


هذا لأحد من الناس أن يضعه، لبطل معنى قول اللَّه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (1) ] ، ثم إن هذه الرواية الكثيرة لما انتشرت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وافترق الصحابة في البلدان، وجاء الخلف، وقراء القرآن كثير من غير العرب، ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه.
وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كل طائفة بما روى لها، فاختلفوا وتنازعوا حتى قال بعضهم لبعض: أنا كافر بما تقرأ به، فأشفق حذيفة بما رأى منهم.
فلما قدم حذيفة المدينة- فيما ذكر البخاري وغيره- دخل إلى عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه قبل أن يدخل بيته فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال:
[في ماذا] ؟ قال: في كتاب اللَّه، إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق ومن الحجاز، ومن الشام، فوصف له ما تقدم، وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى، قال عثمان: أفعل، فتجرد الأمر واستناب الكفاءة من العلماء الفصحاء في أن يكتبوا القرآن، ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأفصح اللغات، وقال لهم: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش.
فمعنى هذا: إذا اختلفتم فيما روي وإلّا فمحال أن يحملهم على اختلافهم من قبلهم، فكتبوا في القرآن من كل اللغات السبع، مرة من هذه، ومرة من هذه، وذلك مقيد بأن الجميع مما روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقرئ عليه، واستمر الصحابة رضي اللَّه عنهم على هذا المصحف المتخيّر، وترك ما سواه ممّا كان كتب تفسيرا ونحوه، سدا للذريعة، وتغليبا لمصلحة الألفة، وهي المصاحف التي أمر عثمان رضي اللَّه عنه أن تحرق أن تمزق.
ألا ترى أن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أبى أن يزال مصحفه؟ فترك، ولكن أبى العلماء قراءته سدا للذريعة، ولأنه روي أنه كتب فيه [سورة] [ (2) ] النساء على
__________
[ (1) ] الحجر: 9.
[ (2) ] زيادة للسياق.

(4/280)


جهة التفسير، فظنها قوم من التلاوة، فاختلط الأمر فيه، ولم يسقط مما ترك معنى من معاني القرآن، لأن المعنى جزء من الشريعة، وإنما تركت ألفاظ معانيها موجودة في الّذي أثبت.
ثم إن القراء في الأمصار تتبّعوا ما روي لهم من اختلاف لا يخالف خط المصحف المتميز، فقرءوا بذلك حسب اجتهاداتهم، فلذلك ترتب أمر القراء السبعة وغيرهم، ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة، وبها يصلي لأنها ثبتت بالإجماع.
وأما شاذ القراءات فلا يصلي به، وذلك لأنه لم يجمع الناس عليه، فأما المروي منه عن الصحابة وعن علماء التابعين، فلا نعتقد منهم إلا أنهم رووه، وأما ما يؤثر عن [غيرهم] [ (1) ] فلا يوثق به.
وقال أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد القرطبي في تفسيره: قال كثير من علمائنا:
هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست إلا هي حرف السبعة التي اتسعت القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الّذي جمع عليه عثمان رضي اللَّه عنه المصحف.
وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء، وذلك أن كل واحد منهم اختار مما روي وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى، فالتزمه طريقة ورواه، وأقرأ به فاشتهر عنه وعرف به ونسب إليه، فقيل: حرف نافع، وحرف ابن كثير ... ، ولم يمنع واحدا منهم اختيار الآخر ولا أنكره، بل سوّغه، وجوّزه، وكل واحد من هؤلاء السبعة روي عنه اختياران وأكثر، وكل صحيح.
وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة فيما رووه ورواه من القرآن، وكتبوا ذلك في مصنفات، فاستمر الإجماع على الصواب، وحصل ما وعد اللَّه تعالى به من حفظ الكتاب، وعلى هذه الأئمة المتقدمون والقضاة، والمحققون، كالقاضي أبي بكر بن الطيب، والطبري وغيرهما.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في (خ) ولعلّ ما أثبتناه يناسب السياق.

(4/281)


[الناسخ والمنسوخ]
وأما النسخ فإنه إذا أطلق يراد به شيئان:
أحدهما: بمعنى التحويل والنقل، ومنه نسخ الكتاب، وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب، فعلى هذا الوجه جميع القرآن منسوخ، لأنه نسخ من اللوح المحفوظ، وأنزل إلى بيت العزة في سماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ [نُنْسِها] [ (1) ] الآية، ومنه قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ (2) ] ، أي نأمر بنسخة وإثباته.
والثاني: يكون بمعنى الرفع والإزالة، وهو على ضربين: أحدهما: رفع الشيء وزواله، ومنه قولهم: نسخت الشمس الظل، وانتسخته: أي أزالته وذهبت به وأبطلته، [و] [ (3) ] [نسخت الريح آثار الدار، ومن هذا المعنى قوله تعالى:] [ (3) ] فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [ (4) ] ، أي يزيله بلا شيء، ولا يثبت في المصحف بدله، وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني كان ينزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم السورة فترفع ولا تتلى ولا تكتب، فعلى القسم الأول يكون بعض القرآن ناسخا، وبعضه منسوخا، وهو المراد من قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ [نُنْسِها] [ (3) ] نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [ (1) ] .
وقد اختلف في القرآن، هل نسخ منه ما ليس في مصحفنا اليوم أو لا؟ فمن قال نسخ منه شيء جعل النسخ على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما نسخ خطه وحكمه وحفظه، فنسي: يعنى رفع خطه من المصحف وليس حفظه على وجه التلاوة، ولا يقطع بصحته على اللَّه تعالى، ولا يحكم به اليوم أحد، وذلك نحو ما روي أنه كان يقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ومنها قوله: لو أن لابن آدم واديا من ذهب [لا بتغى] [ (5) ] إليه ثانيا ولو أن له ثانيا [لا بتغى] [ (5) ] إليه ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم
__________
[ (1) ] البقرة: 106.
[ (2) ] الجاثية: 29.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] الحج: 25.
[ (5) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .

(4/282)


إلا التراب ويتوب اللَّه على من تاب [ (1) ] ، ويقال: إن هذا كان في سورة ص [ (2) ] .
ومنها قوله: بلّغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا. وهذا من حديث مالك عن إسحاق عن أنس أنه قال: أنزل اللَّه في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنا ثم نسخ بعد: بلغوا قومنا ... ، وذكره.
ومنها قول عائشة رضي اللَّه عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهن مما يقرأ، إلى أشياء في مصحف أبي بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين، وغيرهم مما يطول- ذكره.
ومن هذا الباب قول من قال: أن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة أو الأعراف. روى سفيان وحماد عن عاصم، عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب كانت تقرأ سورة الأحزاب أو كانت نعدها قلت: ثلاثة وسبعين آية، قال: قط؟ لقد رأيتها وإنها لتعدل البقرة. ولقد كان فيما قرأنا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم.
وقال مسلم بن خالد، عن عمرو بن دينار قال: كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة. وروي أبو نعيم من حديث الفضل بن دكين قال: حدثنا سيف (هو ابن أبي سليمان، أو ابن سليمان) عن مجاهد قال: كانت الأحزاب مثل سورة البقرة وأطول، ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآنا. حدثنا عبد اللَّه بن الأجلح عن أبيه عن عدي بن عدي بن عميرة بن بردة عن أبيه عن جده عميرة بن بردة، أن عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه قال لأبيّ بن كعب- وهو إلى جنبه-: أو ليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللَّه: الولد للفراش وللعاهر الحجر فيما فقدنا من كتاب اللَّه؟ فقال أبي: بلى [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 146، كتاب الزكاة، باب (39) لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا، حديث رقم (119- (1050)) . وفيه ذم الحرص على الدنيا وجب المكاثرة بها، والرغبة فيها، ومعنى لا يملأ جوفه إلا التراب: أنه لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت، ويمتلئ جوفه من تراب قبره. (المرجع السابق) .
[ (2) ] ص: 1.
[ (3) ] هذه الفقرة مختصرة من (خ) لعدم وضوح بعض الكلمات.

(4/283)


الوجه الثاني: أن ينسخ خطه [ويبقى] [ (1) ] حكمه، وذلك نحو قول عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لولا أن يقول قوم: زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبتها بيدي، الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما بما قضيا من اللذة نكالا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم [ (2) ] ، لقد قرأناها على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فهذا مما نسخ ورفع خطه من المصحف، وحكمه باق في الثيب من الزنا إلى يوم القيامة إن شاء اللَّه تعالى عند أهل السنة.
ومن هذا ما رواه مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: أمرتني عائشة رضي اللَّه عنها أن أكتب لها مصحفا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [وصلاة العصر] وقوموا للَّه قانتين [ (3) ] ثم قالت: سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقد تأول قوم في قول عمر رضي اللَّه عنه: قرأنا على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أي تلوناها، والحكمة تتلى، بدليل قول اللَّه تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ
[ (4) ] ، وبين أهل العلم في هذا تنازع يطول ذكره.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من صحيح مسلم.
[ (2) ] (روائع البيان بتفسير آيات الأحكام) : 2/ 25، وقال فيه: إن اللَّه بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، يعني بها قوله تعالى: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم، فقرأناها ووعينا، ورجم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ورجمنا بعده، وأخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب اللَّه تعالى، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللَّه عزّ وجلّ في كتابه، ألا وإن الرجم حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال أو النساء وقامت البينة، أو كان حمل أو اعتراف واللَّه لولا أن يقول الناس: زاد في كتاب اللَّه لكتبتها، (تفسير التحرير والتنوير) : 18/ 194.
[ (3) ] (شرح الزرقاني على الموطأ) : 1/ 402، كتاب الصلاة، باب (83) الصلاة الوسطى، حديث رقم (311) : حدثني يحيى عن مالك، عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، فلما بلغتها آذنتها فأملت عليّ:
حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وحديث رقم (312) : وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع أنه قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ.
والآية من سورة البقرة: 238.
[ (4) ] الأحزاب: 34.

(4/284)


والوجه الثالث: أن ينسخ حكمه ويبقى خطه يتلى في المصحف، وهذا كثير نحو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [ (1) ] الآية، نسختها: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [ (2) ] الآية، وهذا من الناسخ والمنسوخ [المجمع] عليه، ومن هذا الباب: آية الوصية للأقارب، وآية التخفيف في القتال، وهو نسخ الثبات لعشرة بالثبات لاثنين، وهو نسخ الأثقل إلى الأخف، وعكسه: نسخ الأخف إلى الأثقل، كنسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل، كصدقة النجوى [ (3) ] ، والصلاة إلى بيت المقدس لم تكن في القرآن، وإنما كانت في السنة.
ومنه أيضا: آية الممتحنة، وهي قوله تعالى: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [ (4) ] ، فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لقريش، وقد أبت طائفة أن يكون شيء من القرآن إلا ما بين الوحي مصحف عثمان رضي اللَّه عنه، واحتجوا بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (5) ] ، وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان بن عفان، وهو الّذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا، هو القرآن المحفوظ الّذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، ولا تحل الصلاة لمسلم إلا بما فيه. قالوا: قوله في حديث عائشة: والصلاة الوسطى وصلاة العصر، ليس في شيء من معنى الناسخ والمنسوخ [ (6) ] ، وإنما هو من معنى السبعة الأحرف التي أنزل اللَّه القرآن عليها، نحو قراءة عمر، وابن مسعود: فامضوا إلى ذكر اللَّه، وقراءة ابن مسعود: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وقراءة أبي وابن عباس:
وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين [ (7) ] ، وقراءة ابن مسعود وابن عباس:
__________
[ (1) ] البقرة: 240.
[ (2) ] البقرة: 234.
[ (3) ] المجادلة: 8، 10، 12.
[ (4) ] الممتحنة: 10.
[ (5) ] الحجر: 9.
[ (6) ] قوله: «سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم» : قال الباجي: يحتمل أنها سمعتها على أنها قرآن ثم نسخت كما في حديث البراء، فلعل عائشة لم تعلم بنسخها، أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمه وبقي رسمه، ويحتمل أنه ذكرها صلّى اللَّه عليه وسلم على أنها من غير القرآن لتأكيد فضيلتها، فظنتها قرآنا فأرادت إثباتها في المصحف لذلك، أو أنها اعتقدت جواز إثبات غير القرآن معه، على ما روي عن أبي وغيره من الصحابة، أنهم جوزوا إثبات القنوت وبعض التفسير في المصحف وإن لم يعتقدوه قرآنا. (الزرقاني على الموطأ) : 2/ 403.
[ (7) ] وهي في قراءة حفص: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف: 80] .

(4/285)


فلما خرّ تبينت الإنس أن لو كانت الجن يعلمون الغيب [ (1) ] ، ونحو ذلك من القراءات المضافة إلى الأحرف السبعة.
قالوا: فكل ما روي من القراءات في الآثار عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أو عن أحد من الصحابة مما يخالف مصحف عثمان لا يقطع بشيء من ذلك على اللَّه، ولكن ذلك في الأحكام يجري في العمل مجرى خبر الواحد، وإنما حلّ مصحف عثمان هذا المحل لإجماع الصحابة وسائر الأمة عليه، ولم يجمعوا على ما سواه، وبيان ذلك أن من أنكر شيئا مما في مصحف عثمان كفر، ومن أنكر أن يكون التسليم من الصلاة، أو قراءة أم القرآن، أو تكبيرة الإحرام فرضا لم يكفر [] [ (2) ] ، فإن بان له في الحجة وإلا عذر إذا قام له دليله، وإن لم يقم له على ما [ادعى] [ (3) ] ، دليل محتمل هجر ويدع، وكذلك ما جاء من الآيات المضافات إلى القرآن في الآثار. فقف على هذا الأصل فإنه أصل عظيم في معناه، واللَّه الموفق لا رب سواه.
وصلى اللَّه على سيدنا محمد وسلم.
__________
[ (1) ] وهي في قراءة حفص: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ [سبأ: 14] .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين كلمة مطموسة في (خ) .
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/286)


[القراءات التي يقرأ بها القرآن]
وأما القراءات التي يقرأ بها القرآن، فإن الّذي استقر عليه العمل، أنها ثلاثة أقسام: متواترة، ومشهورة، وشاذة، فالقراءات المتواترة: هي القراءات السبع وما يفرع منها، وهي التي نقلت عن الأئمة القراء السبعة. والقراءات المشهورة: هي قراءة يعقوب ويزيد القاري وابن محيصن. والقراءات الشاذة: ما نقلت بطريق الآحاد، وفيها للناس مقالات سنورد منها ما تيسر إن شاء اللَّه تعالى، وقد عني جماعة من الصحابة رضي اللَّه عنهم بجمع القرآن وحفظه كله، حتى عرفوا به، فجمع القرآن منهم مع كثرتهم اثنا عشر رجلا، وهم: أمير المؤمنين أبو عمرو، وأبو عبد اللَّه عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقرأ عليه المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، ويقال: قرأ عليه ابن عامر، وليس بشيء، إنما قرأ علي المغيرة عنه.
وأمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، رضي اللَّه عنه، جمع القرآن بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال الشعبي: لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء الأربعة إلا عثمان.
وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم قال: ما أقرأني أحد حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي، وكان قد قرأ على عليّ رضي اللَّه عنه، فكنت أرجع من عنده، فأعرض على زرّ وكان زرّ قد قرأ على عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، وهذا يرد على الشعبي قوله، إلا أن يريد: لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء الأربعة إلا عثمان، أي في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فإنه صحيح.
وقال علي بن رباح: جمع القرآن في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعة: علي، وعثمان، وأبي بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود.
وقال حماد بن زيد: أخبرنا أيوب عن [ابن] سيرين قال: مات أبو بكر رضي اللَّه عنه ولم يختم القرآن.
وقال ابن علية، عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي: قبض أبو بكر وعمر وعلي، رضي اللَّه عنهم ولم يجمعوا القرآن.

(4/287)


وقال يحيى بن آدم: قلت لأبي بكر بن عياش: إن عليا لم يقرأ القرآن؟ قال:
أبطل من قال هذا.
وروي عن عاصم بن أبي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحدا كان أقرأ من علي رضي اللَّه عنه، وقال ابن سرين: يزعمون أن عليا كتب القرآن على تنزيله، فلو أصيب ذلك الكتاب لكان فيه علم كثير.
وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن أبي النجار أبو المنذر الأنصاري رضي اللَّه عنه أقرأ الأمة، عرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم القرآن، وأخذ عنه القراءة عبد اللَّه بن عباس، وأبو هريرة، وعبد اللَّه بن السائب، وعبد اللَّه بن عياش بن أبي ربيعة، وأبو عبد الرحمن السلميّ.
وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأقرأه، وكان يقول: حفظت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبعين سورة، قرأ عليه علقمة، ومسروق، والأسود، وزرّ بن حبيش، وأبو عبد الرحمن السّلمي.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأ قراءة ابن أم عبد،
قال: استقرءوا القرآن من أربعة:
عبد اللَّه بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب.
وقال عبد اللَّه بن مسعود: ولقد [كان] أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أقرأهم لكتاب اللَّه، وقال ابن الأنباري: الشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل:
أن عبد اللَّه بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال بعض الأئمة: مات قبل أن يختم القرآن كله.
قال يحيى بن آدم عن أبي بكر، عن أبي إسحاق قال: قال عبد اللَّه بن مسعود:
قرأت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثنتين وسبعين سورة، أو ثلاثا وسبعين سورة، وقرأت عليه من البقرة إلى: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [ (1) ] .
قال أبو إسحاق: وتعلم عبد اللَّه بقية القرآن من مجمع بن جارية الأنصاري، وقال زكريا عن أبي إسحاق عن معديكرب قال: أتيت عبد اللَّه ليعلمني:
طسم [ (2) ] المبين، فقال: لست أقرأها، وأمرني أن آتي [] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] البقرة: 222.
[ (2) ] أول سورة القصص.
[ (3) ] بياض في (خ) .

(4/288)


وقال زهير عن أبي إسحاق قال: سألت الأسود ما كان عبد اللَّه يصنع في سورة الأعراف فقال: ما كان يعلمها حتى قدم الكوفة.
وقال أبو عثمان سعيد بن عيسى صاحب الجيش: سمعت يزيد بن هارون يقول:
المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران، من زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر باللَّه العظيم، فقيل له: يقول عبد اللَّه بن مسعود فيهما، فقال: لا خلاف بين المسلمين في أن عبد اللَّه بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله.
وزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري، جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وجمعه في مصحف لأبي بكر رضي اللَّه عنه، ثم تولى كتابة مصحف عثمان رضي اللَّه عنه، الّذي بعث به عثمان نسخا إلى الأمصار، وقرأ عليه أبو هريرة، وعبد اللَّه بن عباس في قول.
وقال سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: افتخر الحيان- الأوس والخزرج- فقالت الأوس: منا عسيل الملائكة حنظلة بن الراهب، ومنا من حمت له الدبر، ومنا من اهتز لموته عرش الرحمن- سعد بن معاذ-، ومنّا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين- خزيمة بن ثابت، فقال الخزرج: منا الأربعة الذين جمعوا القرآن- لم يجمعه غيرهم- زيد، وأبو زيد، ومعاذ، وأبي، رضي اللَّه عنهم.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر- يعني الواقدي- حدثني الضحاك ابن عثمان عن الزهري قال: قال ثعلبة بن أبي مالك: سمعت عثمان رضي اللَّه عنه يقول:
من يعذرني من ابن مسعود؟ أغضب إذ لم أوّله نسخ القرآن، فهلا غضب علي أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما وهما عزلاه عن ذلك ووليا زيدا فاتبعت أمرهما؟
وقال الشعبي: غلب زيد الناس على القرآن والفرائض.
وقال داود بن أبي هند عن الشعبي: لم يجمع القرآن في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غير ستة، كلهم من الأنصار: زيد بن ثابت، وأبو زيد الأنصاري، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، ونسي السادس، فرواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، فسمى السادس، سعد بن عبيد، وزاد آخر، وهو مجمع بن جارية، فقال:
قرأ أيضا القرآن إلا سورة أو سورتين أو ثلاثا.

(4/289)


وقال أبو عمر البزار حفص بن سليمان بن المغيرة، عن عاصم بن أبي النجود، وعطاء بن السائب، ومحمد بن أيوب الثقفي، وابن أبي ليلى، عن عبد الرحمن السلمي أنه قال: كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، والمهاجرين، والأنصار رضي اللَّه عنهم جميعا واحدة. وأبو موسى الأشعري رضي اللَّه عنه حفظ القرآن والعلم، قرأ عليه أبو رجاء العطاردي، وحطان الرقاش.
قال مسلم بن إبراهيم: حدثنا قرة عن أبي رجاء قال: كان أبو موسى يطوف علينا في هذا المسجد- مسجد البصرة- فيقعدنا خلفا فيقرئنا القرآن، فكأني انظر إليه بين ثوبين له أبيضين، وعنه أخذت هذه السورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (1) ] ، وكانت أول سورة أنزلها اللَّه عزّ وجلّ على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأبو الدرداء رضي اللَّه عنه قرأ القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يقال أن عبد اللَّه بن عامر قرأ عليه. قال سويد بن عبد العزيز: كان أبو الدرداء إذا صلّى الغداة في جامع دمشق، اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفا، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فيسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفا على عشرة، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر.
وعن مسلم بن مشكم قال: قال لي أبو الدرداء: أعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم ألفا وستمائة ونيفا، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائما، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء، فهؤلاء الذين روى الحفاظ أنهم حفظوا القرآن في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخذ عنهم القرآن عرضا، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة.
وقد جمع القرآن من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غير من سمينا، وهم: معاذ بن جبل، وأبو زيد، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد اللَّه بن عمر، وعقبة بن عامر، ولكن لم يتصل بنا قراءتهم.
وقال ابن الكلبي: وقيس بن سكن بن قيس بن زيد بن حزام، [يكنى] أبا زيد، وقتل يوم [جسر أبي عبيد] [ (2) ] ، وهو أحد القراء الذين جمعوا القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] أول سورة العلق.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في (خ) ، وأثبتناه من (الإصابة) : 5/ 471 ترجمة قيس بن السكن رقم (7186) .

(4/290)


وبعد هؤلاء طبقة ثانية عرضوا القرآن على بعض المذكورين، وهم: أبو هريرة، وعبد اللَّه بن عباس، وقرأ على أبي بن كعب، وقرأ عليه مجاهد، وسعيد ابن جبير، والأعرج، وعكرمة بن خالد، وسليمان بن منية شيخ عاصم الجحدري، وأبو جعفر وغيرهم. قال ابن عباس: جمعت المفصل على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعبد اللَّه بن السائب بن أبي السائب، صيفي بن عائذ بن عمر بن مخزوم المخزومي، قارئ أهل مكة، له صحبة، قرأ على أبي بن كعب، وعرض عليه القرآن مجاهد، وعبد اللَّه بن كثير فيما قيل، والمغيرة بن شهاب المخزومي قرأ على أمير المؤمنين عثمان رضي اللَّه عنه، وقرأ عليه عبد اللَّه بن عامر، وكان يقرئ أهل الشام في أيام معاوية، ولا يكاد يعرف إلا من قراءة ابن عامر عليه.
وحطان بن عبد العزيز بن المغيرة بن ربيعة بن عمر بن مخزوم الرقاشيّ- ويقال السدوس البصري- قرأ على أبي موسى الأشعري، وقرأ عليه الحسن البصري وعلقمة ابن قيس بن عبد اللَّه النّخعيّ، أبو شبل، قرأ على ابن مسعود، قرأ عليه يحيى ابن وثاب، وعبيد بن نضلة، وأبو إسحاق، وطائفة.
وأبو عبد الرحمن السلمي واسمه: عبد اللَّه بن حبيب، عرض على عثمان، وعليّ وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب.
وأخد القراءة عنه عرضا: عاصم بن أبي النجود، ويحيى بن وثاب، وعطاء ابن السائب، وعبد اللَّه بن عيس بن أبي ليلى، ومحمد بن أيوب أبو عون الثقفي، وعامر الشعبي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعرض عليه الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم، وأقرأ الناس بالمسجد الأعظم بالكوفة أربعين سنة.
وعبد اللَّه بن عياش بن ربيعة المخزومي أبو الحرث، قرأ على أبي بن كعب، وقرأ عليه مولاه أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ويزيد بن رومان، وشيبة بن نصاح، ومسلم بن جندب وغيرهم، وكان أقرأ أهل المدينة في زمانه.
وأبو رجاء العطاردي، واسمه: عمران بن تيم البصري، أخذ القراءة عرضا عن عبد اللَّه بن عباس، وتلقن القرآن من أبي موسى الأشعري، وقرأ عليه أبو الأشهب العطاردي.

(4/291)


وأبو الأسود الدؤلي، واسمه: ظالم بن عمر، وقرأ على عليّ بن أبي طالب، وأبو العالية رفيع بن مهران الرباحيّ، قرأ على أبيّ بن كعب، أخذ القراءة عليه عرضا، وعرض على زيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عباس، ويقال قرأه على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
قرأ عليه شعيب بن الحبحاب، والربيع بن أنس، وسليمان بن مهران الأعمش، ويقال: قرأ عليه أبو عمر، فهؤلاء الذين دارت عليهم أسانيد القراءات العشرة، ممن أدرك حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
ثم بعد هؤلاء طبقة ثالثة من التابعين، ثم بعدهم [تابعو] التابعين، ثم من بعدهم قرنا بعد قرن، وكانت المدن التي سكنها هؤلاء القراء الذين أخذ عنهم القراءات: المدينة النبويّة، ومكة، والبصرة، ودمشق، والشام، والكوفة.

(4/292)


[التابعون بالمدينة المنوّرة من القراء]
فأما التابعون بالمدينة الذين كثرت عنايتهم بقراءة القرآن والعلم بقراءاته: فسعيد ابن المسيب [ (1) ] ، وأبان بن عثمان [ (2) ] ، وعروة بن الزبير [ (3) ] ، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر [ (4) ] ، وسليمان بن يسار [ (5) ] ، ومحمد بن كعب القرظي [ (6) ] .
__________
[ (1) ] هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، سيد التابعين، ولد لسنتين مضتا- وقيل لأربع- من خلافة عمر، ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة. مات سنة أربع وتسعين وقيل: ثلاث وتسعين. له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) :
4/ 74، ترجمة رقم (145) ، (طبقات الحفاظ) : 25، ترجمة رقم (37) ، (تذكرة الحفاظ) : 1/ 54، (طبقات ابن سعد) : 5/ 88.
[ (2) ] هو أبان بن عثمان بن عفان، الإمام الفقيه، الأمير، أبو سعد بن أمير المؤمنين أبي عمرو الأموي، المدنيّ.
سمع أباه، وزيد بن ثابت، حدّث عنه الزهريّ، وأبو الزناد، وجماعة وله أحاديث قليلة، ووفادة على عبد الملك. قال ابن سعد: ثقة، له أحاديث عن أبيه، توفي سنة خمس ومائة. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 5/ 151، (تاريخ البخاري) : 1/ 450، (المعارف) : 201، (الجرح والتعديل) :
القسم الأول من المجلد الأول 295، (تهذيب الأسماء واللغات) : القسم الأول من الجزء الأول 97، (شذرات الذهب) ، 1/ 131، (سير أعلام النبلاء) ، 4/ 351، ترجمة رقم (133) .
[ (3) ] هو عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أبو عبد اللَّه المدني، فقيه عالم، كثير الحديث، صالح، لم يدخل في شيء من الفتن. قال هشام: ما تعلمنا جزءا من ألف جزء من أحاديثه، وهو أحد الفقهاء السبعة.
وقال الزهريّ: أربعة من قريش وجدتهم بحورا: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه. وقال ابن عيينة: إن أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة، القاسم ابن محمد، وعروة، وعمرة بنت عبد الرحمن، ولد سنة ثلاث أو تسع وعشرين، ومات سنة إحدى وتسعين أو بعدها، على خلاف بين أهل التاريخ. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ) : 29 ترجمة رقم (49) ، (طبقات ابن سعد) : 5/ 132، (شذرات الذهب) : 1/ 103، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 421.
[ (4) ] هو سالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب أبو عمر، أو أبو عبد اللَّه، أو أبو عبيد اللَّه المدني الفقيه، أشبه ولد أبيه به، أحد الفقهاء السبعة، من أفضل زمانه، مات في ذي القعدة أو الحجة سنة ستة ومائة أو سبع أو ثمان. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ) : 40 ترجمة رقم (75) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 207، (حلية الأولياء) : 2/ 193، (شذرات الذهب) : 1/ 133، (طبقات ابن سعد) : 5/ 144، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 457.
[ (5) ] هو سليمان بن يسار أبو أيوب، أو أبو عبد الرحمن، أو أبو عبد اللَّه، من فقهاء المدينة وعلمائهم وصلحائهم، كثير الحديث، مات سنة سبع ومائة. له ترجمة في (طبقات الحفاظ) : 1/ 91، (طبقات ابن سعد) 5/ 130، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 444.
[ (6) ] هو محمد بن كعب القرظيّ، وقال ابن سعد: محمد بن كعب بن حيّان بن سليم، الإمام العلامة الصادق أبو حمزة، وقيل: أبو عبد القرظيّ المدنيّ، من حلفاء الأوس، وكان أبوه كعب من سبي بني قريظة،

(4/293)


ودونهم في الرتبة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع [ (1) ] ، وشيبة بن نصاح [ (2) ] ، وعمر بن عبد العزيز [ (3) ] ، ومعاذ بن الحرث القاري [ (4) ] ، وعبد اللَّه بن عياش [ (5) ] ،
__________
[ () ] سكن الكوفة، ثم المدينة، كان من أوعية العلم، ثقة، مدني تابعي، رجل صالح، عالم بالقرآن.
له ترجمة في: (طبقات خليفة) : 264، (التاريخ الكبير) : 1/ 216، (الجرح والتعديل) :
8/ 67، (حلية الأولياء) : 3/ 212، (شذرات الذهب) : 1/ 136.
[ (1) ] هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ، مولى عبد اللَّه بن عياش، ويعرف أبو جعفر المذكور بالمدني، أخذ القراءة عرضا عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه. قال سليمان بن مسلم: أخبرني أبو جعفر يزيد بن القعقاع أنه كان يقرئ الناس في مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل الحرة، وكانت الحرة على رأس ثلاث وستين سنة من مقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المدينة، وقال نافع بن أبي نعيم: لما غسّل أبو جعفر يزيد ابن القعقاع القارئ بعد وفاته، نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك أحد ممن حضره أنه نور القرآن. مات سنة ثمان وعشرون ومائة، له ترجمة في: (المعارف) : 528، (ميزان الاعتدال) : 4/ 511، (تاريخ خليفة) : 614، (شذرات الذهب) : 1/ 176، (وفيات الأعيان) : 6/ 274- 276.
[ (2) ] هو شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي المدني القارئ، مولى أم سلمة، أتي به إليها وهو صغير فمسحت رأسه وكان ختن يزيد بن القعقاع، قال الدراوَرْديّ: كان قاضيا بالمدينة، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الواقدي: كان ثقة قليل الحديث: مات زمن مروان ابن محمد سنة ثلاثين ومائة. له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 4/ 330، ترجمة رقم (644) ، (الثقات لابن حبان) : 4/ 368.
[ (3) ] هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقا، أبو حفص القرشيّ الأموي، المدني، ثم المصري، مات سنة إحدى ومائة له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) :
5/ 114- 148، ترجمة رقم (48) ، (سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم) ، (سيرة عمر بن عبد العزيز للآجري) ، (تاريخ الخلفاء) : 228، (شذرات الذهب) : 1/ 119.
[ (4) ] هو معاذ بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاريّ النجاريّ، أخو عوف، ورافع، ورفاعة، وأمهم عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك النجار. كان شهد بدرا، وشهد العقبتين جميعا، وآخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بينه وبين معمر بن الحارث الجمحيّ، أحد البدريين، ومات معاذ بعد مقتل عثمان، وله عقب. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 2/ 491، (طبقات خليفة) : 90، (تاريخ خليفة) : 202، (شذرات الذهب) : 1/ 71، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 358، ترجمة رقم (72) .
[ (5) ] هو عبد اللَّه بن عياش بن عباس، الإمام العالم الصدوق، أبو حفص القتباني المصريّ، حدّث عن عبد الرحمن بن هرمز عن الأعرج، وأبي عشّاشة المعافري، ويزيد بن أبي حبيب، ووالده، وجماعة.
وعنه ابن وهب، وزيد بن الحباب، وأبو عبد الرحمن المقرئ وآخرون، احتج به مسلم والنسائي، توفي سنة سبعين ومائة. له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 5/ 151، (المعارف) : 539،

(4/294)


ومسلم بن جندب [ (1) ] ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج [ (2) ] ، ومحمد بن شهاب الزهري [ (3) ] ، وزيد بن أسلم [ (4) ] ، وأبو الزناد [ (5) ] .
__________
[ () ] (الجرح والتعديل) : 5/ 126، (خلاصة تذهيب الكمال) : 209، (تهذيب التهذيب) : 5/ 307، ترجمة رقم (603) .
[ (1) ] هو مسلم بن جندب الهذلي أبو عبد اللَّه القاضي. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات سنة ست ومائة. وقال ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة: مات في خلافة هشام، وكان يقضي بغير رزق. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، وقال ابن مجاهد: كان من فصحاء الناس، وكان معلم عمر بن عبد العزيز، وكان عمر يثني عليه وعلى فصاحته بالقرآن، له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 10/ 112، ترجمة رقم (224) ، (ثقات ابن حبان) : 5/ 393.
[ (2) ] هو الأعرج عبد الرحمن بن هرمز أبو داود المدني، كثير الحديث، وقال ابن المديني: أعلى أصحاب أبي هريرة سعيد بن المسيب، وبعده أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو صالح السمان، وابن سيرين، قيل: فالأعرج، قال: ثقة، وهو دون هؤلاء، مات سنة سبع عشرة ومائة. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 45، ترجمة رقم (87) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 305، (شذرات الذهب) : 1/ 153، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 69 ترجمة رقم (25) ، (مرآة الجنان) :
1/ 350.
[ (3) ] هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهري المدني، أحد الأعلام. قال ابن منجويه: رأى عشرة من الصحابة، وكان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقا لمتون الأخبار، فقيها فاضلا. وقال الليث: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب ولا أكثر علما منه. مات سنة أربع وعشرين ومائة. له ترجمة في: (شذرات الذهب) : 2/ 122، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 326.
[ (4) ] هو الإمام الحجة القدوة أبو عبد اللَّه، العدوي، العمري، المدني، الفقيه. حدث عن والده أسلم مولى عمر، وعن عبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وسلمة بن الأكوع، وأنس بن مالك، وعن عطاء بن يسار، وعلي بن الحسين، وابن المسيب، وخلق، حدث عنه مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وخلق كثير. وكان له حلقة للعلم في مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وهو من العلماء العاملين. وفاته في ذي الحجة من سنة ست وثلاثين ومائة، ظهر لزيد من المسند أكثر من مائتي حديث.
له ترجمة في: (طبقات خليفة) : 263، (التاريخ الكبير) : 3/ 287، (التاريخ الصغير) : 2/ 32، (الجرح والتعديل) : 3/ 554، (حلية الأولياء) : 3/ 221، (شذرات الذهب) : 1/ 194، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 316- 317 ترجمة رقم (153) .
[ (5) ] هو عبد اللَّه بن ذكوان، الإمام الفقيه، الحافظ المفتي، أبو عبد الرحمن القرشي المدني، ويلقب بأبي الزناد، مولده في نحو سنة خمس وستين في حياة ابن عباس، وثقه أحمد وابن معين، وقال الذهبي:
انعقد الإجماع على أن أبا الزناد ثقة رضي. مات لسبع عشر خلت من رمضان، وهو ابن ست وستين سنة، في سنة ثلاثين ومائة. له ترجمة في: (طبقات خليفة) : 259، (التاريخ الكبير) : 5/ 83، (التاريخ الصغير) : 2/ 72، (الجرح والتعديل) : 5/ 49، (ميزان الاعتدال) : 2/ 418، (شذرات الذهب) : 1/ 182، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 445، ترجمة رقم (199) .

(4/295)


وأخذ هؤلاء عن نافع أبو عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم، مولى جعونة ابن شعوب الليثي، أبو رويم، على الأشهر، إمام أهل المدينة في القراءات، وأحد الأئمة قراء السبعة، قرأ على سبعين من تابعي أهل المدينة، فيهم من سمينا، وأقرأ الناس [سنة عشرين ومائة] [ (1) ] فقرأ عليه الإمام مالك بن أنس وقال: قراءة نافع سنّة، وقرأ عليه إسماعيل بن جعفر، وعيسى بن وردان الحذاء، وقالون، وورش [وإسحاق بن محمد المسيبي] وقال: تركت من قراءة أبي جعفر سبعين حرفا، وفي رواية: قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألفت هذه القراءة. وتوفي سنة تسع وستين ومائة على الأشهر [قبل مالك بعشر سنين] [ (1) ] ، وعلى قراءته تعول أهل المدينة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان من كتب التراجم.
[ (2) ] له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 8/ 87، (ميزان الاعتدال) : 4/ 242، (شذرات الذهب) :
1/ 270، (سراج القارئ) : 9.

(4/296)


[التابعون بمكة المشرّفة من القراء]
أما التابعون بمكة الذين اعتنوا بعلم القراءات حتى فاقوا أقرانهم، فعطاء بن أبي رباح [ (1) ] ، ومجاهد بن جبير [ (2) ] ، وسعيد بن جبير [ (3) ] ، وعكرمة [ (4) ] ، ...
__________
[ (1) ] هو عطاء بن أبي رباح، مفتي الحرم، أبو محمد القرشي، مولاهم المكيّ، نشأ بمكة، ولد في خلافة عثمان، حدّث عن عائشة، وأم سلمة، وأم هاني، وأبي هريرة، وابن عباس، وطائفة، كان من أوعية العلم، حدّث عنه الزهري، وقتادة، والأعمش، وأمم سواهم، مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة أو خمس وعشرة. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 5/ 467، (طبقات خليفة) : 280، (تاريخ البخاري) : 6/ 463، (التاريخ الصغير) : 1/ 277، (الجرح والتعديل) : 6/ 330، (وفيات الأعيان) : 3/ 261، (ميزان الاعتدال) : 3/ 70، (شذرات الذهب) :
1/ 147، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 78.
[ (2) ] هو مجاهد بن جبير، الإمام، شيخ القراء والمفسرين، أبو الحجاج المكيّ، الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، ويقال: مولى عبد اللَّه بن السائب القارئ. روي عن ابن عباس، فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه، وعن أبي هريرة، وعائشة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمرو، وابن عمر، وعدة. قال يحيى بن معين وطائفة: مجاهد ثقة. مات وهو ساجد سنة ثنتين ومائة، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 5/ 466، (طبقات خليفة) : ت 2535، (تاريخ البخاري) : 7/ 411، (المعارف) : 444، (حلية الأولياء) :
3/ 279، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 83، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 42 ت (81) ، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 449، ترجمة رقم (175) .
[ (3) ] هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي أبو محمد أو أبو عبد اللَّه الكوفي، كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعنيه، وقال عمرو بن ميمون عن أبيه:
لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. قتله الحجاج- لعنه اللَّه- في شعبان سنة اثنتين وتسعين، وهو ابن تسع وأربعين سنة. له ترجمة في (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 38 ترجمة رقم (71) ، (حلية الأولياء) : 4/ 272، (شذرات الذهب) : 1/ 108، (طبقات ابن سعد) : 6/ 178، (المعارف) : 445، (وفيات الأعيان) : 1/ 204، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 321.
[ (4) ] هو العلامة، الحافظ، المفسر، أبو عبد اللَّه، القرشيّ، مولاهم، المدني، البربري الأصل، مكيّ، تابعيّ، ثقة، كان من أهل العلم، قال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة، مات عكرمة بالمدينة سنة أربعة ومائة، وقيل: غير ذلك. له ترجمة مطولة في: (سير أعلام النبلاء) :
5/ 12- 36، ترجمة رقم (9) ، (طبقات ابن سعد) : 5/ 287، (طبقات خليفة) : 280، (التاريخ الصغير) : 1/ 257، 258، (حلية الأولياء) : 3/ 326، 346، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 340، (وفيات الأعيان) : 3/ 265، (ميزان الاعتدال) : 3/ 93، (شذرات الذهب) : 1/ 130، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 43، ترجمة رقم (85) .

(4/297)


وعبيد بن عمير [ (1) ] ، وعبد الرحمن بن [أبزي] [ (2) ] ، وعبد اللَّه بن أبي مليكة [ (3) ] .
وأخذ عن هؤلاء القراءات بمكة: عبد اللَّه بن كثير [ (4) ] ، وحميد بن قيس [ (5) ]
__________
[ (1) ] هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي الجندعي المكيّ، الواعظ المفسّر، قاضي أهل مكة، ولد في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وحدّث عن أبيه، وعن عمر بن الخطاب، وعلي، وأبي ذرّ، وعائشة، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس. حدث عنه: ابنه عبد اللَّه بن عبيد، وأبو الزبير، وجماعة، وكان من ثقات التابعين وأئمتهم بمكة، توفي سنة أربع وسبعين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 156، (طبقات ابن سعد) : 5/ 463، (طبقات خليفة) : ت (2524) ، (تاريخ البخاري) : 5/ 455، (المعارف) : 434، (الجرح والتعديل) : 2/ 409، (حلية الأولياء) : 3/ 266، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 22، ترجمة رقم (28) .
[ (2) ] هو عبد الرحمن بن أبزي الخزاعي، له صحبة ورواية، وفقه وعلم، وهو مولى نافع بن عبد الحارث، كان نافع مولاه استنابه على مكة حين تلقى عمر بن الخطاب إلى عسفان، فقال له: من استخلفت على أهل الوادي؟ يعني مكة، قال، ابن أبزي، قال: ومن ابن أبزي، قال: إنه عالم بالفرائض، قارئ لكتاب اللَّه،
قال: أما إن نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن هذا القرآن يرفع اللَّه به أقواما ويضع به آخرين،
عاش إلى سنة نيف وسبعين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 3/ 201- 203، ترجمة رقم (43) ، (طبقات ابن سعد) : 5/ 462، (طبقات خليفة) : ت (677) ، (945) ، (2527) ، (التاريخ الكبير) : 5/ 245، (الجرح والتعديل) : 5/ 209، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 293.
[ (3) ] هو عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي مليكة بن عبد اللَّه بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. أمه ميمونة بنت الوليد بن أبي حسين بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، واسم أبي مليكة: زهير ولم يكن لعبد اللَّه بن عبيد اللَّه عقب. نافع ابن عمر قال: قال لي ابن أبي مليكة، وسمع أناسا يستثقلون قراءة قرائهم فقال: قد كنت أقوم بسورة الملائكة في ركعة واحدة فما شكا ذلك أحد. قال محمد ابن عمر: وكان ابن أبي مليكة يقوم بالناس في شهر رمضان بمكة بعد عبد اللَّه بن السائب. وتوفي عبد اللَّه ابن أبي مليكة بمكة سنة سبع عشرة ومائة، وكان قد روى عن ابن عباس، وعائشة، وابن الزبير، وعقبة ابن الحارث، وكان ثقة كثير الحديث. (طبقات ابن سعد) : 5/ 472- 473.
[ (4) ] هو عبد اللَّه بن كثير بن عمر بن عبد اللَّه بن زاذان بن فيروزان، بن هرمز، الإمام العلم، مقرئ مكة، وأحد القراء السبعة أبو معبد الكناني الداريّ المكيّ مولى عمرو بن علقمة الكناني، وقيل: يكنى أبا عباد، وقيل: أبا بكر، فارسيّ الأصل. قرأ على مجاهد ودرباس مولى ابن عباس، وقد حدّث عن ابن الزبير وأبي المنهال عبد الرحمن بن مطعم وغيرهم. وهو قليل الحديث. روى عنه أيوب وابن جريج وآخرون. وثّقه علي بن المديني وغيره، ولد بمكة سنة (48) ومات سنة عشرين ومائة. له ترجمة في:
(طبقات خليفة) : 2282، (التاريخ الكبير) : 5/ 181، (التاريخ الصغير) : 1/ 304، 305، (الجرح والتعديل) : 5/ 144، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 318- 322، ترجمة رقم (155) .
[ (5) ] هو حميد بن قيس الأعرج المكيّ أبو صفوان القارئ الأسدي مولاهم، وقيل: مولى عفراء. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان قارئ أهل مكة، وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه فقال:
هو ثقة وقال الدوري وغيره عن ابن معين: حميد بن قيس الأعرج ثقة. قال ابن حبان:

(4/298)


ومحمد بن عبد الرحمن بن محيصن [ (1) ] ، وشبل بن عباد [ (2) ] ، وأخذ عن هؤلاء إسماعيل ابن عبد اللَّه بن قسطنطين، وعليه قرأ الإمام الشافعيّ-[رحمة] اللَّه عليه- القرآن، فصار مرجع [قراءة] أهل مكة إلى عبد اللَّه بن كثير بن المطلب، إلى معبد مولى عمرو بن علقمة الكناني، الداريّ المكيّ، إمام أهل مكة في القراءات، وأحد الأئمة السبعة، قرأ عليه عبد اللَّه بن السائب المخزومي، وعلي مجاهد ودرباس، مولى عبد اللَّه بن عباس، وتصدر للإفتاء، وصار إمام أهل مكة في ضبط القرآن، قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء، وشبل بن عباد، ومعروف بن مشكان، وإسماعيل ابن قسطنطين، وطائفة. وتوفي سنة عشرين ومائة، وقيل: سنة اثنتين وعشرين.
__________
[ () ] مات سنة (130) ، وقال ابن سعد: توفي في خلافة أبي العباس. له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) :
5/ 486، (ثقات ابن حبان) : 6/ 189.
[ (1) ] هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي المكيّ المقرئ، قارئ أهل مكة مع ابن كثير، ولكن قراءته شاذة، فيها ما ينكر وسنده غريب، وقد اختلف في اسمه على عدة أقوال. قرأ على مجاهد، وسعيد بن جبير، ودرباس مولى ابن عباس، وعنه ابن جريج، وشبل بن عباد، وعبد اللَّه بن المؤمل المخزومي، وهشيم، وابن عيينة وآخرون، وقرأ عليه أبو عمرو بن العلاء، وشبل، وعيسى بن عمر.
توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة. له ترجمة في: (الوافي بالوفيات) : 3/ 223، (تاريخ الإسلام) :
4/ 220- 221 (شذرات الذهب) : 1/ 162.
[ (2) ] هو شبل بن عباد المكيّ، روى عن عمرو بن دينار وقيس بن سعد، وعبد اللَّه بن كثير، وابن أبي نجيح. روى عنه ابن عيينة، وابن المبارك، وأبو أسامة، وأبو نعيم. وشبل بن عباد المكيّ ثقة، مات سنة ثمان وأربعين ومائة. له ترجمة في: (الجرح والتعديل) : 4/ 380، ترجمة رقم (1659) ، (ثقات ابن حبان) : 8/ 312، (تهذيب التهذيب) : 4/ 268، ترجمة رقم (532) .

(4/299)


[التابعون بالبصرة من القراء]
وأما التابعون بالبصرة الذين اعتنوا بالقراءات، واجتهدوا في تعلم الأحرف، فهم: أبو رجاء العطاردي [ (1) ] ، والحسن بن أبي الحسن [ (2) ] ، وأبو العالية [ (3) ] ، وغيرهم.
__________
[ (1) ] هو أبو رجاء العطاردي، الإمام الكبير، شيخ الإسلام، عمران بن ملحان التميمي البصري، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حدّث عن عمر، وعليّ، وعمران بن حصين، وعبد اللَّه بن عباس، وسمرة بن جندب، وأبي موسى الأشعري، وتلقن عليه القرآن، ثم عرضه على ابن عباس، وهو أسنّ من ابن عباس، قرأ عليه أبو الأشهب العطاردي وغيره، وحدث عنه أيوب، وابن عون، وخلق كثير. قال ابن عبد البر وغيره: مات أبو رجاء سنة خمس ومائة. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 7/ 138، (طبقات خليفة) : ت 1564، (تاريخ البخاري) : 6/ 410، (المعارف) : 427، (الجرح والتعديل) : 3/ 303، (حلية الأولياء) : 2/ 304، (الاستيعاب) : 4/ 1657، ت 2949، (طبقات الحفاظ للسيوطي) :
32، ت 55، (شذرات الذهب) : 1/ 130، (تهذيب التهذيب) : 8/ 124، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 253- 257، ترجمة رقم (93) .
[ (2) ] هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت، وقيل: جابر بن عبد اللَّه، وقيل: أبو اليسر، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، قال أبو بردة: أدركت الصحابة فما رأيت أحدا أشبه بهم من الحسن. وقال خالد بن رباح الهذلي: سئل أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، فقيل له في ذلك، فقال: إنه سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا، وقال سليمان التيمي:
الحسن شيخ أهل البصرة، مات في رجب سنة عشر ومائة، له ترجمة مطولة في: (طبقات ابن سعد) :
7/ 128، (تهذيب التهذيب) : 2/ 231- 236، ترجمة رقم (488) ، (حلية الأولياء) :
2/ 131، (شذرات الذهب) : 1/ 136، (ميزان الاعتدال) : 1/ 527، (وفيات الأعيان) : 2/ 69- 73، ترجمة رقم (156) .
[ (3) ] هو أبو العالية رفيع بن مهران، الإمام المقرئ، الحافظ المفسّر، أبو العالية الرياحيّ البصري، أحد الأعلام، أدرك زمان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو شاب، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق، ودخل عليه، وسمع من عمر، وعلي، وأبيّ، وأبي ذرّ، وابن مسعود، وعائشة، وأبي موسى، وأبي أيوب، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعدّة. وحفظ القرآن، وقرأه على أبيّ بن كعب، وتصدر لإفادة العلم، مات أبو العالية في شوال سنة تسعين، وقال البخاري وغيره: مات سنة ثلاث وتسعين. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 29 ت (49) ، (شذرات الذهب) : 1/ 102، (طبقات ابن سعد) :
7/ 112- 117، (اللباب في تهذيب الأنساب) : 1/ 483، (الزهد للإمام أحمد) : 302، (طبقات خليفة) : ت (1634) ، (تاريخ البخاري) : 3/ 326، (تهذيب الأسماء واللغات) :
2/ 251، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 207- 213، ت (85) .

(4/300)


وأخذ عنهم جماعة مثل: قتادة [ (1) ] ، وجابر بن زيد [ (2) ] ، [وهو] أبو الشعثاء [ (3) ] في آخرين.
وأخذ عن هذه الطبقة: أبو عمرو بن العلاء [ (4) ] ، وأيوب السّختياني [ (5) ] ،
__________
[ (1) ] هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب الأكمه، أحد الأعلام. روى عن أنس، وعبد اللَّه بن سرجس، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وخلق. وعنه أبو حنيفة وأيوب، وشعبة، ومسعر، والأوزاعي، وحماد بن سلمة، وأبو عوانة، وخلق. قال سعيد بن المسيب: ما أتاني عراقيّ أحفظ من قتادة. وقال أحمد: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لم يسمع شيئا إلا حفظه، وكان من العلماء، ولد سنة ستين، ومات سنة سبع عشرة ومائة. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 54، ت (104) ، (طبقات ابن سعد) : 7/ 229، (طبقات خليفة) 213، (تاريخ الخليفة) : 332 و 348، (التاريخ الكبير) : 7/ 185، (التاريخ الصغير) : 1/ 282، (المعارف) : 462، (الجرح والتعديل) : 7/ 133، (جمهرة الأنساب) : 318، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 57، (وفيات الأعيان) : 4/ 85- 86، (تهذيب التهذيب) :
8/ 315، (ميزان الاعتدال) : 3/ 385، (شذرات الذهب) : 1/ 153، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 269- 283، ترجمة رقم (132) .
[ (2) ] هو جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي الجوفيّ. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما من كتاب اللَّه. وقال الزيات: سألت ابن عباس عن شيء فقال: تسألوني وفيكم جابر بن زيد، وهو أحد العلماء؟ مات سنة ثلاث وتسعين، أو ثلاث ومائة أو أربع ومائة. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 35، ت (65) ، (تهذيب التهذيب) : 2/ 38، (شذرات الذهب) : 1/ 101، (طبقات ابن سعد) : 7/ 130، (اللباب) : 1/ 254، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 481- 483، ت (184) .
[ (3) ] في (خ) : «وأبو الشعثاء» .
[ (4) ] هو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان التميمي، ثم المازني البصري، شيخ القراء والعربية، وأمه من بني حنيفة. اختلف في اسمه على أقوال: أشهرها زبّان، وقيل العريان، مولده في نحو سنة سبعين، وكان من أشراف العرب، ومن أهل السنة، قال يحيي بن معين: ثقة. توفي في سنة أربع وخمسين ومائة، وقيل سنة سبع وخمسين ومائة. له ترجمة في: (تاريخ البخاري) : 9/ 55، (وفيات الأعيان) : 1/ 466- 470، (فوات الوفيات) : 1/ 231، (تهذيب التهذيب) : 12/ 197، (طبقات القراء لابن الجزري) : 1/ 288، (سير أعلام النبلاء) : 6/ 407- 410، ترجمة رقم (167) .
[ (5) ] أيوب السّختياني، الإمام الحافظ، سيد العلماء، أبو بكر بن أبي تميمة كيسان العنزي، عداده في صغار التابعين، سمع من أبي بريد عمرو بن سلمة الجرميّ، وأبي عثمان النهدي، وسعيد بن جبير، وخلق سواهم. حدّث عنه الزهري وقتادة- وهم من شيوخه- وشعبة، وسفيان، ومالك، وأمم سواهم.
مولده عام توفي ابن عباس سنة ثمان وستين، قال محمد بن سعد: كان أيوب ثقة، ثبتا في الحديث، جامعا، كثير العلم، حجّة، عدلا، وقال الذهبي: إليه المنتهى في الإتقان. توفي سنة إحدى

(4/301)


وعمرو بن عبيد [ (1) ] ، ورجع أهل البصرة إلى حاتم سهل بن محمد السجستاني [ (2) ] ، غير أن الاعتماد في القراءة على أبي عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحويّ البصري، واسمه على الأصح: زبان بن العلاء بن عمار، وأخذ القراءة عن أهل الحجاز وأهل البصرة، فعرض بمكة على مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة بن خالد وابن كثير، وقيل: أنه قرأ على أبي العالية ولم يصح، وقيل: أنه عرض بالمدينة على أبي جعفر يزيد بن القعقاع، وعلى يزيد بن رومان، وشيبة بن نصاح، وعرض بالبصرة على يحيى بن يعمر، ونصر ابن عاصم، والحسن البصري وغيرهم.
قرأ عليه خلق كثير منهم: يحيى بن المبارك اليزيدي، وعبد الوارث بن سعيد السوري، وعبد اللَّه بن المبارك، وجماعات. وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالبصرة، وكان قد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة مما استحسنه وتختار العرب، وما بلغة من لغة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب اللَّه تعالى. قال يونس: لو كان ينبغي لأحد أن يؤخذ قوله كله، لكان ينبغي أن يؤخذ قول أبي عمرو، ولكن ليس من أحد إلا وأنت تأخذ من قوله وتترك. وأخافه الحجاج، فاستتر لأن عمه كان عاملا له فهرب، فطلب الحجاج أبا عمرو فاختفى وقال: ما رأيت أعلم مني. مات سنة أربع وخمسين ومائة.
__________
[ () ] وثلاثين ومائة بالبصرة، زمن الطاعون، وله ثلاث وستون سنة، وآخر من روي حديثه عاليا: أبو الحسن ابن البخاري. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 6/ 15- 26، ترجمة رقم (15) ، (طبقات ابن سعد) : 7/ 246، (حلية الأولياء) : 3/ 2- 14، (تهذيب التهذيب) : 1/ 397، (شذرات الذهب) : 1/ 181، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 59، ترجمة رقم (115) .
[ (1) ] هو عمرو بن عبيد الزاهد، العابد، القدريّ، كبير المعتزلة وأولهم، أبو عثمان البصري، وعنه الحمادان وابن عيينة وآخرون. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن المبارك: دعا إلى القدر فتركوه. اغترّ بزهده وإخلاصه، وأغفل بدعته. مات بطريق مكة سنة ثلاث. وقيل سنة أربع وأربعين ومائة. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 6/ 104- 106، ترجمة رقم (27) ، (ثقات ابن حبان) : 3/ 147، (تاريخ بغداد) : 12/ 166- 188، ترجمة رقم (6652) ، (وفيات الأعيان) : 3/ 460- 462، (ميزان الاعتدال) : 3/ 273، (البداية والنهاية) : 8/ 19، 10/ 131- 133، (تهذيب التهذيب) : 8/ 30، (شذرات الذهب) : 1/ 210.
[ (2) ] هو أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشميّ السّجستاني النحويّ اللغوي المقرئ، نزيل

(4/302)


[التابعون بالشام من القراء]
وأما التابعون بالشام الذين عنوا بالقراءات ومعرفة اللغات، فمنهم: المغيرة بن أبي شهاب [ (1) ] ، ويعلي بن شداد بن أوس [ (2) ] ، وميمون بن مهران [ (3) ] ، وشهر بن حوشب [ (4) ] ، وأخذ عنهم القراءات عبد اللَّه بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة، أبي عمران على الأصح، أدرك [صحبة] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقرأ على معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، ومعاوية بن أبي سفيان، ووائلة بن الأصبغ، وقرأ على المغيرة بن أبي شهاب
__________
[ () ] البصرة وعالمها، كان إماما في علوم الآداب، وعنه أخذ علماء عصره. قال المبرّد: سمعته يقول:
قرأت كتاب سيبويه على الأخفش مرتين، وكان كثير الرواية عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة والأصمعي، عالما باللغة والشعر، وكان صالحا عفيفا، يتصدق كل يوم بدينار، ويختم القرآن في كل أسبوع، وكانت وفاته في المحرم، وقيل رجب ما بين سنة ثمان وأربعين وخمس وخمسين ومائتين، على خلاف بين أهل التواريخ. له ترجمة في: (وفيات الأعيان) : 2/ 430- 433، ترجمة رقم (282) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 257، (شذرات الذهب) : 2/ 121.
[ (1) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (2) ] هو يعلي بن شداد بن أوس، شيخ مستور محلّه الصدق، بعض الأئمة توقف في الاحتجاج بخبره، يروي عن أبيه شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، حدث عنه سليمان بن يسير، وأبو سنان عيسى بن سنان، وجماعة، وقد وثق. له ترجمة في: (ميزان الاعتدال) : 4/ 457 ترجمة رقم (9835) .
[ (3) ] هو ميمون بن مهران، الإمام الحجة، عالم الجزيرة ومفتيها، أبو أيوب الجزري الرّقي، أعتقته امرأة من بني نصر بن معاوية بالكوفة فنشأ بها، ثم سكن الرّقة. حدّث عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعدة. روى عنه ابنه عمرو، وحميد الطويل، وسليمان الأعمش، وخلق سواهم، كان ولى خراج الجزيرة وقضاءها، وكان من العابدين، قال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث، وقال العجليّ والنسائي: ميمون ثقة.
توفي سنة سبع عشر ومائة، له ترجمة في (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 175، ترجمة رقم (654) ، (حلية الأولياء) : 4/ 82- 97، ترجمة رقم (251) ، (شذرات الذهب) : 1/ 154، (تهذيب التهذيب) : 10/ 349، ترجمة رقم (703) ، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 46.
[ (4) ] هو شهر بن حوشب، أبو سعيد الأشعري الشامي، مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية، كان من كبار علماء التابعين، حدّث عن مولاته أسماء، وعن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو، وأم سلمة، وأبي سعيد الخدريّ، وعدة، حدّث عنه: قتادة، ومعاوية بن مرة، وعبد الحميد بن بهرام، توفي سنة مائة، وقيل: غير ذلك. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 372- 378، ترجمة رقم (151) ، (طبقات ابن سعد) : 7/ 449، (طبقات خليفة) :
ترجمة رقم (2931) ، (تاريخ البخاري) : 4/ 258، (المعارف) : 448، (حلية الأولياء) :
6/ 59، (شذرات الذهب) : 1/ 119.

(4/303)


صاحب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، وقيل: عرض على عثمان، وقرأ على فضالة بن عبيد، وروى عنه القراءة عرضا يحيى بن الحرث الذّماريّ.
مات سنة ثمان وعشر ومائة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] له ترجمة مستوفاة في: (طبقات القراء) ، 1/ 423، (طبقات خليفة) : 235، (التاريخ الصغير) : 1/ 100، 164، (ميزان الاعتدال) : 2/ 499، (تهذيب التهذيب) : 5/ 240، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 292- 293، ترجمة رقم (138) .

(4/304)


[التابعون بالكوفة من القراء]
وأما التابعون بالكوفة، الذين اجتهدوا في علم القراءات، فجماعة منهم:
علقمة بن قيس [ (1) ] ، والربيع بن خثيم [ (2) ] ، ومسروق بن الأجدع [ (3) ] ، والأسود بن يزيد [ (4) ] ، ...
__________
[ (1) ] هو علقمة بن قيس بن عبد اللَّه بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهل، وقيل: ابن كهيل بن بكر ابن عوف، ويقال: ابن المنتشر بن النخع، النخعي، الكوفي، فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، عم الأسود بن يزيد، وأخيه عبد الرحمن، وخال فقيه العراق إبراهيم النخعي، ولد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين، وتصدى للإمامة والفتيا بعد عليّ وابن مسعود، وكان طلبته يسألونه ويتفقهون به والصحابة متوافرون. مات علقمة في خلافة يزيد سنة إحدى وستين، وقيل غير ذلك. وقد عاش تسعين سنة. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 53- 61، ترجمة رقم (14) ، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1054) ، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 20، ترجمة رقم (24) ، (تاريخ البخاري) : 7/ 41، (المعارف) : 431، (الجرح والتعديل) : 3/ 404، (حلية الأولياء) :
2/ 98، (تاريخ بغداد) : 12/ 296، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 324، (مرآة الجنان) : 1/ 137، (شذرات الذهب) : 1/ 70.
[ (2) ] هو الربيع بن خثيم بن عائذ، الإمام القدوة العابد، أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد الأعلام. أدرك زمان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وأرسل عنه، وروى عن عبد اللَّه بن مسعود، وأبي أيوب الأنصاري، وعمرو ابن ميمون، وهو قليل الرواية إلا أنه كبير الشأن، حدث عنه الشعبي وآخرون، وكان يعد من عقلاء الرجال، توفي قبل سنة خمس وستين. له ترجمة في (طبقات ابن سعد) : 6/ 118، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم 992، (تاريخ البخاري) : 3/ 269، (المعارف) : 497، (الجرح والتعديل) : 2/ 459، (حلية الأولياء) : 2/ 105، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 258- 262، ترجمة رقم (95) ، (تهذيب التهذيب) : 3/ 210.
[ (3) ] هو مسروق بن الأجدع، الإمام القدوة، العلم، أبو عائشة الوداعيّ، الهمدانيّ، الكوفي، وهو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد اللَّه بن مرة بن سليمان بن معمر، ويقال: سلامان ابن معمر بن الحارث بن سعد بن عبد اللَّه بن وداعة بن عمر بن ناشح بن دافع بن مالك بن جشم ابن حاشد بن جشم بن حيوان بن نوف بن همدان. وعداده في كبار التابعين وفي المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، مات سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة ثلاث وستين، له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 63- 69، ترجمة رقم (17) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 76، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1066) ، (تاريخ البخاري) : 8/ 35، (المعارف) : 432، (الجرح والتعديل) : 4/ 396، (حلية الأولياء) : 2/ 95، (تاريخ بغداد) : 13/ 232، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 88، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 21، ترجمة رقم (206) .
[ (4) ] هو الأسود بن يزيد بن قيس، الإمام، القدوة، أبو عمرو النخعيّ الكوفيّ، وقيل: يكنى أبا عبد الرحمن

(4/305)


وأبو وائل شقيق بن سلمة [ (1) ] ، وعامر بن شراحبيل الشعبي [ (2) ] ، وأبو عبد الرحمن السّلمي [ (3) ] ،
__________
[ () ] وهو أخو عبد الرحمن بن يزيد، ووالد عبد الرحمن بن الأسود، وابن أخي علقمة بن قيس، وخال إبراهيم النخعي، فهؤلاء أهل بيت من رءوس العلم والعمل. وكان الأسود مخضرما، أدرك الجاهلية والإسلام. وحدّث عن معاذ بن جبل، وبلال، وابن مسعود، وعائشة، وحذيفة بن اليمان، وطائفة سواهم. حدّث عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي وآخرون، وهو نظير مسروق في الجلالة، والعلم، والثقة، والسنّ، يضرب بعبادتهما المثل. نقل العلماء في وفاة الأسود أقوالا أرجحها سنة خمس وسبعين. له ترجمة في: (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1255) ، (تاريخ البخاري) : 1/ 449، (المعارف) : 432، (الجرح والتعديل) : 1/ 291، (حلية الأولياء) : 2/ 102، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 122، (تهذيب التهذيب) : 1/ 299، (شذرات الذهب) : 1/ 82، (الاستيعاب) : 1/ 92، ترجمة رقم (53) ، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 22، ترجمة رقم (29) .
[ (1) ] هو شقيق بن سلمة، الإمام الكبير شيخ الكوفة، أبو وائل الأسديّ، أسد خزيمة الكوفي، مخضرم أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما رآه. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: أبو وائل ثقة، لا يسأل عن مثله.
مات سنة اثنتين وثمانين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 161- 166، ترجمة رقم (59) ، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1114) ، (تاريخ البخاري) : 4/ 245، (المعارف) : 449، (الجرح والتعديل) : 2/ 371، (حلية الأولياء) : 4/ 101، (الاستيعاب) : ترجمة رقم (1201) ، (تاريخ بغداد) : 9/ 268، (تهذيب الأسماء واللغات) :
1/ 247، (وفيات الأعيان) : 2/ 476، ترجمة رقم (296) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 317، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 28، ترجمة رقم (44) .
[ (2) ] هو الشعبي عامر بن شراحبيل بن عبد بن ذي كبار- وذو كبار: قيل من أقيال اليمن- الإمام العلامة، أبو عمرو الهمدانيّ ثم الشعبي، ويقال: هو عامر بن عبد اللَّه، وكانت أمه من سبى جلولاء. مولده في إمرة عمر بن الخطاب لستّ سنين خلت منها، وقيل: ولد سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة ثمان وعشرين، رأى عليا رضي اللَّه تعالى عنه وصلّى خلفه، وسمع من عدة من كبراء الصحابة. قال ابن عيينة: علماء الناس ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. وقال الواقدي: مات سنة خمس ومائة عن سبع وسبعين سنة، له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 247، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1144) ، (تاريخ البخاري) : 6/ 450، (المعارف) :
449، (الجرح والتعديل) : 3/ 322، (حلية الأولياء) : 4/ 310، (تاريخ بغداد) : 12/ 227، (وفيات الأعيان) : 3/ 12، ترجمة رقم (317) ، (اللباب) : 2/ 21، (تهذيب التهذيب) :
5/ 57، (شذرات الذهب) : 1/ 26، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 40، ترجمة رقم (74) .
[ (3) ] هو أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة، الإمام العلم، عبد اللَّه بن حبيب بن ربيّعة الكوفي، من أولاد الصحابة، مولده في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. قرأ القرآن وجوّده ومهر فيه، وعرض على عثمان، وعلى عليّ، وابن مسعود، وقد كان ثبتا في القراءة، وفي الحديث، حديثه مخرّج في الكتب الستة، توفي سنة أربع وسبعين، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 27، ترجمة رقم (41)

(4/306)


وزر بن حبيش [ (1) ] ، وأخذ عنهم طبقة دونهم: كإبراهيم النخعي [ (2) ] ، وسماك بن حرب [ (3) ] ،
__________
[ () ] (تهذيب التهذيب) : 5/ 161، (طبقات ابن سعد) : 6/ 172، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1102) ، (تاريخ البخاري) : 5/ 72، (المعارف) : 528، (الجرح والتعديل) : 2/ 37، (حلية الأولياء) : 4/ 191، (تاريخ بغداد) : 9/ 430، (تهذيب التهذيب) : 5/ 161 ترجمة رقم (317) ، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 267- 272، ترجمة رقم (97) .
[ (1) ] هو زرّ بن حبيش بن حباشة بن أوس، الإمام القدوة، مقرئ الكوفة مع السّلمي، أبو مريم الأسدي الكوفي، ويكنى أيضا أبا مطرف، أدرك أيام الجاهلية، وقرأ على ابن مسعود وعليّ، وتصدّر للإقراء، فقرأ عليه يحيى بن وثاب، وأبو إسحاق والأعمش، وغيرهم وحدّثوا عنه. قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وقال عاصم: من أعرب الناس، كان ابن مسعود يسأله عن العربية، مات سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وله ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 166- 170، ترجمة رقم (60) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 104، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (983) ، (تاريخ البخاري) :
3/ 447، (المعارف) : 427، (الجرح والتعديل) : 2/ 622، (حلية الأولياء) : 4/ 181، (الاستيعاب) : ترجمة رقم (869) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 196، (تهذيب التهذيب) : 3/ 277، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 26، ترجمة رقم (39) ، (شذرات الذهب) : 1/ 91.
[ (2) ] هو إبراهيم النّخعيّ، الإمام الحافظ، فقيه العراق، أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود ابن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن سعد بن مالك النخعي، اليماني ثم الكوفي، أحد الأعلام، وهو ابن مليكة أخت الأسود بن يزيد، ولم نجد له سماعا من الصحابة المتأخرين الذين كانوا معه بالكوفة، وكان بصيرا بعلم ابن مسعود، واسع الرواية، فقيه النفس، كبير الشأن، كثير المحاسن، كان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانهما، وكان رجلا صالحا، متوقيا، قليل التكلف وهو مختف من الحجاج، مات سنة ست وتسعين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 520- 529، ترجمة رقم (213) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 270، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1140) ، (تاريخ البخاري) : 1/ 333، (المعارف) : 463، (الجرح والتعديل) : 1/ 144، (حلية الأولياء) : 4/ 219، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 104، (وفيات الأعيان) : 1/ 25، (تهذيب التهذيب) : 1/ 110، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 36: ترجمة رقم (68) .
[ (3) ] هو سماك بن حرب بن أوس بن خالد بن نزار بن معاوية بن حارثة، الحافظ، الإمام الكبير، أبو المغيرة الذهلي، البكري الكوفي، أخو محمد وإبراهيم، له نحو مائتي حديث، وقال النسائي: ليس به بأس، وفي حديثه شيء، وقال عبد الرحمن بن خراش: في حديثه لين، وقال آخر، كان فصيحا مفوها، يزين الحديث منطقه. مات سنة ثلاث وعشرين ومائة. له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) :
4/ 204، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 245- 248، ترجمة رقم (109) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 323، (طبقات خليفة) : 161، (تاريخ خليفة) : 363، (التاريخ الكبير) : 4/ 173، (الجرح والتعديل) : 4/ 279، (المجروحين والضعفاء) : 2/ 249، (ميزان

(4/307)


وطلحة بن مصرف [ (1) ] ، وأبي إسحاق السبيعي [ (2) ] في آخرين.
وعنهم أخذ عاصم بن أبي النجود [ (3) ] ، ويحيى بن وثاب [ (4) ] ، وأبان بن تغلب [ (5) ]
__________
[ () ] (الاعتدال) : 2/ 232، (الثقات) : 3/ 103، (خلاصة تذهيب الكمال) : 155، (شذرات الذهب) : 1/ 161.
[ (1) ] هو طلحة بن مصرّف بن عمرو بن كعب، الإمام الحافظ المقرئ، المجوّد، شيخ الإسلام، أبو محمد اليامي الهمدانيّ الكوفي، تلا على يحيى بن وثّاب وغيره، وحدث عن أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، ومرّة الطيب، وزيد بن وهب، ومجاهد، وخيثمة بن عبد الرحمن، وذرّ الهمدانيّ، وأبي صالح السمان وطائفة. حدّث عنه ابنه محمد بن طلحة، ومنصور، والأعمش، وشعبة، وخلق كثير، توفي طلحة في آخر سنة اثنتي عشرة ومائة، له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 9/ 308، (طبقات خليفة) : 162، (التاريخ الكبير) :
4/ 346، (التاريخ الصغير) : 1/ 271، (الجرح والتعديل) : 4/ 473، (حلية الأولياء) : 5/ 14، (تهذيب التهذيب) : 5/ 23، (خلاصة تذهيب الكمال) : 180، (شذرات الذهب) : 1/ 145، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 191- 192، ترجمة رقم (70) .
[ (2) ] هو أبو إسحاق السبيعي، عمرو بن عبد اللَّه بن ذي يحمد، وقيل: عمرو بن عبد اللَّه بن على الهمدانيّ الكوفي الحافظ، شيخ الكوفة وعالمها ومحدثها، كان رحمه اللَّه من العلماء العاملين، ومن جلة التابعين، قال: ولدت لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ورأيت علي بن أبي طالب يخطب، كان طلّابة للعلم، كبير القدر، وهو ثقة حجة بلا نزاع، وقد كبر وتغير حفظه تغيّر السّنّ، ولم يختلط، وحديثه محتج به في دواوين الإسلام. قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: ثقة. توفي أبو إسحاق في سنة سبع وعشرين ومائة. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 313، - 315، (طبقات خليفة) : 162، (التاريخ الكبير) : 6/ 347، (التاريخ الصغير) : 1/ 326، (الجرح والتعديل) : 6/ 242- 243، (ميزان الاعتدال) : 3/ 270، (تهذيب التهذيب) : 8/ 56، (خلاصة تذهيب الكمال) : 291، (شذرات الذهب) : 1/ 174، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 50، ترجمة رقم (97) .
[ (3) ] له ترجمة في: (طبقات خليفة) : 159، (التاريخ الكبير) : 6/ 487، (التاريخ الصغير) : 912، (الجرح والتعديل) : 6/ 340، (وفيات الأعيان) : 3/ 9، (ميزان الاعتدال) : 2/ 357، (تهذيب التهذيب) : 5/ 35، (خلاصة تذهيب الكمال) : 182، (سراج القارئ المبتدي) : 11.
[ (4) ] هو يحيى بن وثّاب الإمام القدوة، المقرئ الفقيه، شيخ القراء، الأسديّ الكاهلي، مولاهم الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، وتلا على أصحاب عليّ وابن مسعود، حتى صار أقرأ أهل زمانه. حدّث عن ابن عباس، وابن عمر، وروى مرسلا عن عائشة، وأبي هريرة وابن مسعود، قرأ عليه الأعمش وطائفة، وحدّث عنه عاصم، وقتادة، والأعمش، وعدة. قال العجليّ: هو تابعيّ ثقة، مقرئ يؤمّ قومه. مات سنة ثلاث ومائة. له ترجمة في (طبقات ابن سعد) : 6/ 299، (طبقات خليفة) ترجمة رقم 1116، (تاريخ البخاري) : 8/ 308، (المعارف) : 529، (الجرح والتعديل) : 4/ 193، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 159، (تهذيب التهذيب) : 11/ 258، (شذرات الذهب) : 1/ 125.
[ (5) ] هو أبان بن تغلب، الإمام المقرئ أبو سعد، وقيل: أبو أمية الرّبعيّ، الكوفيّ، الشّيعيّ، لم يعدّ في التابعين، حدّث عنه عدد كثير، وهو صدوق في نفسه، عالم كبير، وبدعته خفيفة، لا يتعرض للكبار، وحديثه يكون

(4/308)


ومنصور بن المعتمر [ (1) ] ، وسليمان بن مهران الأعمش [ (2) ] ، وعنهم أخذ القراءات بالكوفة: حمزة، والكسائي، فصار مرجع علم القراءات بالكوفة إلى ثلاثة منهم هم: عاصم، وحمزة، والكسائي.
فأما عاصم بن أبي النجود [ (3) ]- واسمه بهدلة على الصحيح- فإنه أسديّ بالولاء، مولى بني جذيمة بن مالك بن نضر بن معين بن أسد، [يكنى] أبا بكر، قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وتصدر للإقراء، فقرأ عليه خلق كثير، منهم الأعمش، والمفضل بن محمد الضبي، وحماد بن شعيب، وأبو بكر بن عياش، وحفص بن سليمان، ونعيم بن ميسرة، وانتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة، بعد شيخه أبي عبد الرحمن السلمي، وذلك لما مات أبو عبد
__________
[ () ] نحو المائة، لم يخرج له البخاري، توفي سنة إحدى وأربعين ومائة. له ترجمة في: (طبقات خليفة) :
(166) ، (تاريخ البخاري) : 1/ 453، (الجرح والتعديل) : 2/ 396، (الكامل في التاريخ) : 5/ 508، (الوافي بالوفيات) : 5/ 330، (تهذيب التهذيب) : 1/ 81، (خلاصة تذهيب الكمال) : 14- 15، (سير أعلام النبلاء) : 6/ 308.
[ (1) ] هو منصور بن المعتمر، الحافظ الثبت القدوة، أبو عتاب السّلمي الكوفي أحد الأعلام، قال أبو عبيد القاسم ابن سلام: هو من بني بهثة بن سليم، من رهط العباس بن مرداس السّلميّ. كان من أوعية العلم، صاحب إتقان وتألّه وخير، حدّث عنه خلق كثير، منهم شعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة. مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة. له ترجمة في (طبقات ابن سعد) : 6/ 2337، (طبقات خليفة) : 164، (تاريخ خليفة) : 404، (التاريخ الكبير) : 7/ 346، (الجرح والتعديل) : 8/ 177، (حلية الأولياء) : 5/ 40، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 114- 115، (خلاصة تذهيب الكمال) : 388، (شذرات الذهب) : 1/ 189، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 402.
[ (2) ] هو سليمان بن مهران الأعمش، الإمام شيخ الإسلام، شيخ المقرءين والمحدثين، أبو محمد الأسدي، الكاهلي، مولاهم الكوفي الحافظ، أصله من نواحي الري، ولد في سنة إحدى وستين، فقد رأى أنس بن مالك وحكى عنه، وروى عنه، وعن عبد اللَّه بن أبي أوفى، وهو علامة الإسلام، كان صاحب ليل وتعبّد، عزيز النفس، قنوعا. وعن ابن عيينة: سبق الأعمش الناس بأربع: كان أقرأهم للقرآن، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وذكر خصلة أخرى. قال ابن معين: ثقة، وقال النّسائي: ثقة ثبت. مات الأعمش سنة سبع وأربعين ومائة وقيل: سنة ثمان وأربعين. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 342، (تاريخ خليفة) :
232، 424، (طبقات خليفة) : 164، (التاريخ الصغير) : 2/ 91، (الجرح والتعديل) : 4/ 146، (حلية الأولياء) : 5/ 46، (تاريخ بغداد) : 9/ 3، (الكامل في التاريخ) : 5/ 589، (وفيات الأعيان) : 2/ 400- 403، (ميزان الاعتدال) : 2/ 224، (تهذيب التهذيب) : 4/ 195، (خلاصة تذهيب الكمال) : 155، (شذرات الذهب) : 1/ 220- 223.
[ (3) ] انظر هامش رقم (3) بالصفحة السابقة.

(4/309)


الرحمن، جلس عاصم يقرئ الناس، قال أبو عمرو حفص بن سليمان الدوري:
قال لي عاصم: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها، فهي القراءة التي [أقرئت] [ (1) ] بها على أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وما كان من القراءة التي أقرأت بها أبا بكر بن عياش، فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال: قال شهر بن عطية: في مسجدنا رجلان، أحدهما أقرأ الناس بقراءة عبد اللَّه بن مسعود، والآخر أقرأ الناس بقراءة زيد بن ثابت، فالذي أقرأ الناس بقراءة ابن مسعود: الأعمش، والّذي هو أقرأ الناس بقراءة زيد: هو عاصم بن أبي النجود.
وقال أبو عمر البزار حفص بن سليمان، عن عاصم بن أبي النجود، وعطاء ابن السائب، وشهر بن أيوب الثقفي، وابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السلميّ:
أنه قرأ عامة القرآن على عثمان بن عفان، وكان عثمان والي أمر الأمة، فقال: إنك تشغلني عن النظر في أمور الناس، فامض إلى زيد بن ثابت فإنه فارغ لهذا الأمر، يجلس فيه للناس فاقرأ عليه، فإن قراءتي وقراءته واحدة، ليس بيني وبينه فيها خلاف، فمضيت إلى زيد فقرأت عليه.
وكنت ألقى عليّ بن أبي طالب فأسأله فيخبرني ويقول لي: عليك بزيد بن ثابت،
فأقمت على زيد ثلاث عشرة سنة أقرأ عليه فيها القرآن.
قال أبو عمر البزار: وكان عطاء بن السائب، ومحمد بن أيوب الثقفي، وابن أبي ليلى يذكرون لعاصم في القراءة، ويعترفون بتقدمه عليهم، وإذا غيّر شيئا قبلوه وأخذوه عنه. توفي عاصم آخر سنة سبع، وقيل أول سنة ثمان وعشرين ومائة.
وأما حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل، أبو عمارة الكوفي الزيات [ (2) ] ، مولى آل عكرمة بن زنجي التميمي، كوفي، فإنه قرأ القرآن عرضا على الأعمش، وحمران ابن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومنصور، وأبي إسحاق وغيرهم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 358، (التاريخ الكبير) :
3/ 52، (المعارف) : 529، (الجرح والتعديل) : 3/ 209- 210، (وفيات الأعيان) : 2/ 216، (ميزان الاعتدال) : 1/ 605- 606، (تهذيب التهذيب) : 3/ 24، (خلاصة تذهيب الكمال) : 93، (شذرات الذهب) : 1/ 240، (سراج القارئ المبتدي) : 12، (سير أعلام النبلاء) : 7/ 90- 92.

(4/310)


وقرأ أيضا على طلحة بن مطرف، وجعفر بن محمد الصادق، وتصدّر للإقراء مدة، وقرأ عليه عدد كثير منهم: الكسائي، وسليم بن عيسى، وهما أجل الصحابة، وقرأ عليه عبد الرحمن بن أبي حماد، وعائذ بن أبي عائذ، والحسن بن عطية في آخرين.
وكان إماما حجة قيما بكتاب اللَّه، له عدة فضائل، وصار [أعظم] [ (1) ] أهل الكوفة إلى قراءته. وقال: ما قرأت حرفا إلا بأثر، وقال عبد اللَّه بن موسى: قرأ حمزة على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على علقمة بن قيس، وقرأ علقمة على عبد اللَّه بن مسعود، وقرأ عبد اللَّه بن مسعود على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقال خلف بن هشام عن سليم: قرأ حمزة على الأعمش وابن أبي ليلى، فما كان من قراءة الأعمش فهي عن ابن مسعود، وما كان عن ابن أبي ليلى فهي عن علي بن أبي طالب.
وقال هارون بن حاتم: حدثنا الكسائي قال: قلت لحمزة: على من قرأت؟
قال: على ابن أبي ليلى وحمران بن أعين، قلت: فحمران على من قرأ؟ قال: [قرأ على] [ (1) ] عبيد بن نضلة، وقرأ عبيد على علقمة عن ابن مسعود، وقرأ ابن أبي ليلى على المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب.
وقال عبد اللَّه بن موسى والحسن بن عطية وغيرهما: قرأنا على حمزة، وقرأ حمزة على حمران بن أعين، وعلي بن أبي ليلى، والأعمش، وأبي إسحاق، فأما حمران فقرأ على يحيى بن وثاب، وأما الأعمش فقرأ على زر وزيد بن وهب، والمنهال ابن عمرو، وقرأ زر على عبد اللَّه بن مسعود. وقال الأعمش: قرأ يحيى بن وثاب على علقمة، والأسود وعبيد بن فضيلة، ومسروق وعبيدة، وكان الأعمش يقول: يحيى أقرأ الناس، قالوا: قرأ الأعمش على إبراهيم النخعي، فأما أبو إسحاق، فقرأ على أصحاب علي وابن مسعود، وأما ابن أبي ليلى فقرأ على الشعبي، وجاءت أخبار تؤذن بقراءته على الأعمش أيضا، ثم جاءت أخبار بخلاف ذلك، قال محمد بن يحيى الأزدي: قلت لداود:
قرأ حمزة على الأعمش؟ قال: من أين قرأ عليه؟ إنما سأله عن حروف.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(4/311)


وقال أحمد بن جبير: حدثنا حجاج بن محمد، قلت لحمزة، قرأت على الأعمش؟ قال: لا، ولكني سألته عن هذه الحروف حرفا حرفا. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني عدة من أهل العلم، عن حمزة أنه قرأ على حمران، وكانت هذه الحروف التي يرويها حمزة عن الأعمش، إنما أخذها [من] [ (1) ] الأعمش أخذا، ولم يبلغنا أنه قرأ عليه القرآن من أول النهار إلى آخره. وقال يوسف بن موسى: قلت لجرير بن عبد الحميد: كيف أخذتم هذه الحروف عن الأعمش؟
قال: كان إذا جاء شهر رمضان، جاء أبو حيان التميمي، وحمزة الزيات، مع كل واحد منهما مصحف، فيمسكان على الأعمش، ويقرأ فيسمعون قراءته، فأخذنا الحروف من قراءته. توفي حمزة آخر سنة ست وخمسين ومائة على الصحيح، فرأى أعرابي كثرة الناس على جنازته فقال: ما رأيت أرفع لخسيس من عمل صالح.
وأما علي بن حمزة بن عبد اللَّه بن مهران بن فيروز الكسائي [ (2) ] ، أبو الحسن الأسدي مولاهم، أحد الأعلام، فإنه قرأ القرآن وجوّده على حمزة الزيات، وعيسى ابن عمر الهمذاني، وقرأ على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، واختار لنفسه قراءة، ورحل إلى البصرة، وأخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وأخذ الحروف أيضا عن أبي بكر بن عياش وغيره، وقرأ عليه أبو عمرو الدوري، وأبو الحرث الليثي، ونصير ابن يوسف الرازيّ، وقتيبة بن مهران الأصبهاني، وأبو عبيدة القاسم بن سلام، وخلائق، وانتهت إليه الإمامة في القراءة والعربية، وكان يتخير القراءات، وأخذ من قراءة حمزة وترك. ومات في سنة تسع وثمانين ومائة.
فهؤلاء الأئمة القراء السبعة [ (3) ] ، هم الذين اشتهرت بالآفاق قراءتهم، واعتمد
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 6/ 268، (التاريخ الصغير) : 2/ 247، (المعارف) : 545، (الجرح والتعديل) : 6/ 182، (تاريخ بغداد) : 11/ 403، (وفيات الأعيان) : 3/ 3995، (مرآة الجنان) : 1/ 421، (تهذيب التهذيب) : 7/ 275 (شذرات الذهب) : 1/ 321، (سراج القارئ المبتدي) : 12، (معجم مصنفي الكتب العربية) : 345، (سير أعلام النبلاء) : 9/ 131- 134، ترجمة رقم (44) .
[ (3) ] جمعهم الإمام العالم أبو محمد قاسم بن فيرة بن أبي القاسم، خلف بن أحمد الرعينيّ الشاطبي، في قصيدته اللامية المنظومة من الضرب الثاني من بحر الطويل، المسماة (حرز الأماني ووجه التهاني) ،

(4/312)


عليها الناس في صلاتهم وتلاوتهم، وردّوا ما عداها من القرآن، وكفّروا من زاد فيها حرفا أو أسقط منها حرفا متعمدا لذلك، لأنها تواترت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعلم كل أحد أنها صحت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ () ] المشهورة (بمتن الشاطبية) ، وهي أسهل ما يتوصل به إلى علم القراءات من التصانيف والمنظومات، وعدة أبياتها كما يقول ناظمها:
وقد وفّق اللَّه الكريم بمنّه ... لإكمالها حسناء ميمونة الجلا
وأبياتها ألف تزيد ثلاثة ... ومع مائة سبعين زهرا وكمّلا
يقول رحمه اللَّه عن القراء السبعة:
جزى اللَّه بالخيرات عنّا أئمّة ... لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا
فمنهم بدور سبعة قد توسّطت ... سماء العلاء والعدل زهرا وكمّلا
لها شهب عنها استنارت فنوّرت ... سواد الدّجى حتى تفرّق وانجلى
وسوف تراهم واحدا بعد واحد ... مع اثنين من أصحابه متمثّلا
تخيرهم نقادهم كلّ بارع ... وليس على قرآنه متأكّلا
فأما الكريم السّرّ في الطيب نافع ... فذاك الّذي اختار المدينة منزلا
وقالون عيسى ثم عثمان ورشهم ... بصحبته المجد الرّفيع تأثّلا
ومكّة عبد اللَّه فيها مقامه ... هو ابن كثير كاثر القوم معتلا
وروى أحمد البزّي له ومحمد ... على سند وهو الملقّب قنبلا
وأمّا الإمام المازنيّ صريحهم ... أبو عمرو البصريّ فوالده العلا
أفاض على يحيي اليزيديّ سيبه ... فأصبح بالعذب الفرات معلّلا
أبو عمر الدّوريّ وصالحهم أبو ... شعيب هو السّوسيّ عنه تقبّلا
وأمّا دمشق الشام دار ابن عامر ... فتلك بعبد اللَّه طابت محلّلا
هشام وعبد اللَّه وهو انتسابه ... لذكوان بالإسناد عنه تنقّلا
وبالكوفة الغراء منهم ثلاثة ... أذاعوا فقد ضاعت شذا وقرنفلا
فأمّا أبو بكر وعاصم اسمه ... فشعبة راويه المبرّز أفضلا
وذاك ابن عيّاش أبو بكر الرّضا ... وحفص وبالإتقان كان مفضّلا
وحمزة ما أزكاه من متورّع ... إماما صبورا للقران مرتّلا
روى خلف عنه وخلّاد الّذي ... رواه سليم متقنا ومحصّلا
وأما عليّ فالكسائيّ نعته ... لما كان في الإحرام فيه تسربلا
روى ليثهم عنه أبو الحارث الرضا ... وحفص هو الدّوريّ وفي الذّكر قد خلا
أبو عمرهم واليحصبيّ ابن عامر ... صريح وباقيهم أحاط به الولا
لهم طرق يهدي بها كلّ طارق ... ولا طارق يخشى بها متمحّلا
ومتن الشاطبية هذا، له شروح كثيرة، أحسنها الشرح المعروف باسم (سراج القارئ المبتدئ، وتذكار المقرئ المنتهي) للإمام أبي القاسم على بن عثمان بن محمد بن أحمد بن الحسن، القاصح، العذري، البغدادي، من علماء القرن الثامن الهجريّ، وقد أشرف على طبعه ومراجعته فضيلة الشيخ علي محمد الضباع شيخ المقارئ المصرية الأسبق.

(4/313)


قال حسين بن علي الجعفي: حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: قراءتنا التي جمع عثمان رضي اللَّه عنه الناس عليها، هي على العرضة الآخرة. وقال إسماعيل بن عياش، عن شعيب بن دينار، وعن محمد ابن المنكدر قال: القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول. وقال أبو الزناد عن خارجة ابن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت قال: القراءة سنّة من السنن فاقرءوا القرآن كما أقرأتموه: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [ (1) ] فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [ (2) ] .
وقال ابن وهب عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن عروة بن الزبير، قال: القراءة سنة يأخذها آخر عن أول.
وقال سفيان عن حصين، قال: سمعت أبا عبد اللَّه السلمي يقول: كنت أقرئ الحسن والحسين فمر بي أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأنا أقرئهما: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (3) ] ، فقال لي: يا عبد اللَّه بن حبيب، قلت: لبيك، قال: أقرئهما: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (3) ] بفتح التاء، واللَّه الموفق للصواب.
__________
[ (1) ] طه: 63.
[ (2) ] المنافقون: 10.
[ (3) ] الأحزاب: 40.

(4/314)


[القراءات المشهورة]
وأما القراءات المشهورة، فإنّها أربع قراءات غير هذه القراءات السبعة، منسوبة لثلاثة من الأئمة وهم: أبو جعفر، وابن محيصن، ويعقوب، وخلف. وقد اختلف في قراءة أبي جعفر وابن محيصن ويعقوب وخلف وشبههم، هل هي من الشواذ أم من المتواتر أم قسم ثالث؟ فذهب أبو عمر بن أبي بكر بن يونس بن الحاجب، والشيخ محيي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف بن مري النووي، وأبو عمرو عثمان ابن عبد الرحمن بن عثمان بن الصلاح، وغيرهم إلى تحريم القراءة بالشواذ، وهي عندهم ما عدا القراءات السبع.
وهذه مسألة تكلم فيها أهل الكلام والفقهاء، فتكلم أهل الكلام فيها من جهة كونها قرآنا، وأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وتكلم فيها الفقهاء من جهة أنه إن كان قرآنا صحت به الصلاة وتعليق الإيمان وغير ذلك، وإلا فلا. ولقائل أن يقول:
لا ريب أن أبا جعفر يزيد بن القعقاع أحد العشرة، وشيخ نافع، كان من سادات التابعين، وأخذ قراءته عن ابن عباس وأبي هريرة، وصلّى بعبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه، ولم يكن من هو بهذه المثابة ليقرأ كتاب اللَّه تعالى بشيء محرم قراءته، وكيف وقد تلقن القرآن بمدينة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم غضا رطبا، قبل أن تطول الأسانيد، ويدخل فيها النقلة غير الضابطين، هذا، وهم عرب آمنون من اللحن.
ولم تزل قراءة الأئمة متداولة في أمصار الإسلام، حتى اختار أبو بكر بن مجاهد هؤلاء السبعة وسمّاهم، فغلب الكسل، وقصرت الهمم على بعض الناس، وأراد اللَّه تعالى نقص العلم، فاقتصروا على السبعة، ثم اقتصروا من السبعة في هذه البلاد على السبعة المعينة، ثم اقتصروا من السبعة المعينة على الطريقة المشهورة اليوم التي ذكرناها.
وقد كان شيخ شيوخنا العلامة [جمال] [ (1) ] الدين أبو حيان رحمه اللَّه يقول: دخلت هذا البلد- يعني مصر- وغالب من فيها يظن أن السبعة ما في الشاطبية [ (2) ] فقط، حتى أخبرته بما صنف الناس في السبعة، وأن في كتبهم أشياء تخالف ما في الشاطبية فرجع عن ذلك.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموسة في (خ) ، وأثبتناها من (المقفى الكبير) : 7/ 426، ترجمة رقم (3630) .
[ (2) ] هي المنظومة التي سبق الإشارة إليها نسبة إلى الإمام الشاطبي المعروفة باسم (حرز الأماني ووجه التهاني) وقد سبق أن أشرنا إليها تفصيلا.

(4/315)


وأما ابن محيصن فلم تشتهر الرواة عنه اشتهارهم عن يعقوب، لأن يعقوب اشتهر عنه تسعة رجال، رويس، وروح، والوليد بن حسان، وأبو الوليد بن حسان، وأبو أيوب الذهبي، ومحمد بن عبد الخالق، وأبو حاتم السجستاني، وفضل بن أحمد، وأبو المهلب عامر بن عبد [الأعلى] [ (1) ] الدلالة. وأبو علي يزيد بن أحمد ابن إسحاق الحضرميّ هو ابن أخي يعقوب. وهكذا اشتهر عن كل واحد من هؤلاء الرواة عن يعقوب جماعة، فقراءته أقرب للسبعة.
وأما قتيبة بن مهران الأذاذاني الأصبهاني- صاحب الإمالة- فإن له إمالات عجيبة، من أجلها عرف بالممال، فإنه انتهت إليه رئاسة الإقراء بأصبهان، وكان رفيق الدوري، وأبي الحرث، وقرأ على الكسائي، ونقل عنه، وربما قال: حدثنا فلان عنه، فحكمه حكم محيصن وأضرابه، وإنما جرى في هؤلاء السبعة نوع مما جرى في الفقهاء الأربعة أرباب المذاهب، فقد غلب على أكثر الناس اعتقاد أن لا مذهب إلا لهؤلاء الأربعة فقط، وقياس قول هؤلاء أن يكون ما قرأه على بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، ومن بعدهم مثل الحسن البصري، والأعمش، وغيرهم، ممن يطول تعداده، ليس بقرآن، والشأن إنما هو فيما صح الاستناد به، وتواتر سليما من معرة اللحن والخطأ والتصحيف ونحو ذلك.
وليس لنا فتح باب نطعن به على سادات السلف من الصحابة والتابعين، وإن كنا نقول: أنه يحرم القراءة بالشواذ التي هي ليست من متن القرآن، ولا تواترت تواتره، وإنما يوجد في كتب القراءات والتفاسير أن فلانا قرأ بها بتلك الأسانيد المفصلة، التي لا نظم لها ولا أزمّة [ (2) ] ، وهذه بواطيل وتحرم القراءة بها، وليست من قبيل ما كنا فيه، أولا، كما سيأتي ذكره إن شاء اللَّه تعالى.
والبلية كلها غلبة الجهل، وتقليد الآباء والمشيخة، والاكتفاء بما حضر وعرف عند أهل البلد فقط، ولذلك ظن غالب الناس أن لا سبعة إلا هذه التي في الشاطبية ونحوها، كما هو ظن الغالب أن الفقهاء الأربعة ما عدا مذهبهم باطل، ويلزم القول بذلك: إبطال ديانة سفيان [الثوري] ، والأوزاعي، وعبد اللَّه بن المبارك،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] أزمّة: جمع زمام.

(4/316)


وإسحاق بن راهويه، ومن كان بالشام والأندلس على مذهب الأوزاعي، حتى اشتهر مذهب مالك وغيره، وإبطال ديانة من كان ببلاد المشرق على مذهب سفيان وغيره من الأئمة، ومن كان على مذهب أهل الحديث الذين لا يتعدونه، كأتباع داود ابن علي، ومن خالف أتباع داود في بعض المسائل، وبناء مذهبهم على وجوب الاجتهاد على من تأهّل لوجه استخراج الحكم الشرعي من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم، وأوتي أهلية النظر في الأسانيد، بمراجعته لكتب النقل وتواريخ الرواة، والنظر في التعديل والتجريح، وإن كلا عليه الاجتهاد بحسب ما بلغ من ذلك.
وأما الذين حرموا القراءة بما بالسبعة التي في المختصرات، فإنّهم كانوا في قرن السبع مائة، وما زال المسلمون يقرءون بما عدا ذلك شرقا وغربا، ينقلها خلف الأمة عن سلفها، إلى أن ضاعت من المتأخرين، وصنفت في ذلك كتب، وعللت في كتب، علم ذلك من له اطلاع على هذا الفن علم اليقين، وقد كان المسلمون يصلون خلف أصحاب هذه القراءات كالحسن البصري، ويعقوب، وطلحة بن مصرف، وابن محيصن، والأعمش، وأضرابهم، فلم ينكر ذلك أحد من فقهاء الأمصار وأئمة الإسلام من أهل الفتوى، حتى كان زمن أحمد بن محمد بن شنبوذ، فإنه في منقولاته أشياء تخالف رسم مصحف أمير المؤمنين عثمان رضي اللَّه عنه مخالفة كثيرة، وكان بينه وبين أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد شيخنا [عداوة] [ (1) ] يعرفها جهابذة أهل النقل، وكانت لابن مجاهد رئاسة وتمكن في الدولة العباسية ببغداد، وله مع ذلك شهرة عند الكافة، [فألّب] [ (2) ] على ابن شنبوذ فيمن ألب عليه، حتى جرى من ضربه وهو حاضر مجلس الوزير أبي علي بن مقلة ما جرى، وذلك بضع وعشرين وثلاثمائة، كما ذكرت في كتاب التاريخ الكبير: (المقفى) [ (3) ] وابن مجاهد، هذا الّذي قصر الناس على السبعة وصنف فيها، وإليه كانت رحلة الناس في القراءات فاشتهرت السبعة بالتمييز عن غيرها من عهده، إلى أن صارت عند الناس هي القرآن.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (3) ] كتاب (المقفى الكبير) من مؤلفات المقريزي.

(4/317)


[تحريم الصلاة بالقراءة الشاذة]
وأما تحريم الصلاة بالشاذ [من القراءات] [ (1) ] ، فهو المعروف في كتب المتقدمين [من أن علم هذه المسألة] [ (1) ] عند الفقهاء الفروعية أجدر بها، لأنها تحتاج إلى مواد: من حديث، وفقه قديم، واطلاع على عمل السلف، وتحقيق قول أئمة التفسير، ومعرفة بما صحت أسانيده من القراءات وما اختلف من ذلك، ولا ريب أن فقهاء زماننا عن هذا بمعزل إلا القليل منهم.
وأما الشواذ، فإنّها مأخوذة من: شذّ الشيء، ويشذّ شذا وشذوذا، أي ندر عن جمهوره، فسميت [القراءة] [ (1) ] شاذة لأنها فارقت ما عليه القراءات وانفردت عن ذلك، وهي على قسمين:
أحدهما: ما روى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة رضي اللَّه عنهم بإسناد صحيح.
والثاني: ما لم يصح سنده، وللناس في هذه الشواذ مذهبان:
أحدهما: أنه يقرأ في غير الصلاة.
والثاني: أنه لا يجوز أن يقال له قرآن.
فأما من جوّز تلاوته، فقد تقدم ما نقله عن ابن وهب، عن الإمام مالك رحمه اللَّه أنه قيل له: أترى أن تقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه:
«فامضوا إلى ذكر اللَّه» [ (2) ] ؟ فقال: ذلك جائز، وأنه قال: لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا، قد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى إليهم عمر رضي اللَّه عنهم كانت لهم مصاحف، وأنه قال في قراءة ابن مسعود: «طعام الفاجر» [ (2) ] ، فقلت لمالك: أترى أن تقرأ كذلك؟ قال: نعم أرى ذلك واسعا، وأن ابن عبد البر قال: معناه عندي: أن تقرأ به في غير الصلاة، لأن ما عدا مصحف عثمان رضي اللَّه عنه [لا] [ (1) ] يقطع عليه بالصحة، وإنما يجري مجرى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] صوابهما في القراءة المعتمدة: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، طَعامُ الْأَثِيمِ.

(4/318)


السنة التي نقلها بطريق الآحاد، لكنه لا يقدم أحد على القطع في ردّه، وأن ابن القثم قال في مصحف ابن مسعود: أرى أن الإمام يمنع من تبعه، ويصرف من قرأ به، ويمنع من ذلك. وقد قال مالك: إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة ممن خالف المصحف [ (1) ] لم يصلّ وراءه.
قال ابن عبد البر: وعلماء [المسلمين] [ (2) ] مجمعون على ذلك، إلا قوما شذوا، لا [يعول] [ (2) ] عليهم، منهم الأعمش سليمان بن مهران، وأما من منع أن يكون الشواذ قرآنا فإنّهم قالوا: لا ينطلق اسم القرآن إلا على ما بين دافتي مصحف عثمان رضي اللَّه عنه.
وأما آحاد القراءات فإنّها غير متواترة، ولهذا قيل لها شاذة لخروجها عما عليه الجمهور.
وقال ابن مهدي: لا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم، وقال خلاد بن يزيد الباهلي: قلت ليحيى بن عبد اللَّه بن أبي مليكة بن عبد اللَّه: إن نافعا حدثني عن أبيك عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنها كانت تقرأ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [ (3) ] وتقول: إنما هو من ولق الكذب، فقال يحيى: ما يضرك أن لا تكون سمعته عائشة؟ نافع ثقة عن أبي، وأبي ثقة عن عائشة، وما [يضرني] [ (2) ] أن قرأتها هكذا، ولو كذا وكذا، قلت: ولم أنت تزعم أنها قد قالت؟ قال:
لأنه غير قراءة الناس، ونحن لو وجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين، ما كان بيننا وبينه إلا التوبة أو نضرب عنقه، نجيء به عن الأئمة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن جبريل عن اللَّه، وتقولون أنتم: حدثنا فلان عن فلان الأعمش؟ ما أدري ماذا أن ابن مسعود قرأ غير ما بين اللوحين؟ إنما هو واللَّه ضرب العنق والتوبة.
وقال هارون بن موسى: ذكرت ذلك لأبي عمرو- يعني القراءة عن عائشة رضي اللَّه عنها- فقال: سمعت هذا قبل أن تولد ولكنا لا نأخذ به. وقال محمد ابن صالح: سمعت رجلا يقول لأبي عمرو: وكيف تقرأ: لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ [ (4) ] ؟ قال: لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ [ (4) ] ، فقال له الرجل: كيف وقد جاء عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ [ (4) ] ؟ فقال
__________
[ (1) ] يعني مصحف عثمان رضي اللَّه تعالى عنه.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (3) ] النور: 15.
[ (4) ] الفجر: 25- 26.

(4/319)


له أبو عمرو: لقد سمعت الرجل الّذي قال سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما أخذته عنه، وتدري لم ذلك؟ لأني أتهم الواحد بالشاذ، وإذا كان على خلاف ما جاءت به العامة.
قال كاتبه: هذا الحديث خرجه الحاكم من حديث علي بن الحسن [ (1) ] بن شقيق قال: حدثنا عبد اللَّه بن المبارك، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عمن أقرأه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ، وقال [الحاكم] [ (2) ] : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، والصحابي الّذي لم يسمه قد سماه غيره، وهو مالك بن الحويرث، وهذه القراءة إنما أنكرها أبو عمر، لأنها لم تبلغه على وجه التواتر، وإن كانت تثبت عند غيره.
وقال أبو حاتم السجستاني: أول من تتبع بالبصرة من وجوه القرآن [وألّفها] [ (2) ] ، وتتبع الشاذ منها، فبحث عن إسناد: هارون بن موسى الأعور، وكان من العتيك مولى، وكان من القراء، فكره الناس ذلك وقالوا: قد أساء حين ألّفها، وذلك أن القراءة إنما يأخذها قرن وأمة عن أفواه أمة، ولا يلتفت منها إلى ما جاء من وراء وراء.
وقال الأصمعي عن هارون هذا: كان ثقة مأمونا، قال: وكنت أشتهي أن يضرب لمكان تأليفه الحروف، وكان الأصمعي لا يذكر أحدا بسوء إلا من عرف ببدعة. وقال الأصمعي: سمعت نافعا يقرأ: يَقُصُّ الْحَقَّ [ (3) ] ، فقلت له: إن أبا عمر يقرأ يقضي الحق، وقال: القضاء مع الفضل، فقال نافع: وي [ (4) ] يا أهل العراق! [تعبثون] [ (2) ] في القرآن؟. قال يزيد بن هاشم: إياكم أن تأخذوا القراءة [ (5) ] على قياس العربية، إنما أخذناها بالرواية.
وقال بعض أصحاب سليم: قلت لسليم في حرف من القرآن: من أي وجه كان كذا وكذا؟ فرفع كمه وضربني به، وغضب وقال: اتّق اللَّه، لا تأخذون في شيء من هذا، إنما يقرأ القرآن على الثقات من الرجال الذين قرءوه على الثقات.
__________
[ (1) ] في (خ) : «الحسين» ، وصوبناه من (المستدرك) .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الأنعام: 57.
[ (4) ] كلمة تعجب.
[ (5) ] في (خ) : «القرآن» . وما أثبتناه أجود للسياق.

(4/320)


وقال الكسائي: لو قرأت على قياس العربية لقرأت كبره [ (1) ] برفع الكاف، لأنه أراد عظمه، لكنني قرأت على الأثر. وقال يحيى بن آدم: أخبرنا أبو بكر بن عياش بحروف عاصم في القراءات وقال: سألته عنها حرفا حرفا، فحدثني بها ثم قال: أقرأنيها عاصم كما حدثتك بها حرفا حرفا، فتعلمتها منه بعد أن اختلفت إليه نحوا من ثلاث سنين، كل غداة في البرد والأمطار، حتى إني لأستحيي من أهل مسجد بني كاهل في الصيف والشتاء، وأعملت نفسي [فيه] [ (2) ] سنة بعد سنة، فلما قرأت عليه قال لي: احمد اللَّه فإنك قد جئت وما تحسن شيئا، فتعلمت القرآن من عاصم كما يتعلم الغلام في الكتّاب ما أحسن غير قراءته.
وقال أبو عبيد بن القاسم بن سلام: ما يروى من الحروف التي تخالف المصحف الّذي عليه الإجماع من الحروف التي تعرف أسانيدها الخاصة دون العامة، مما نقلوا فيه عن أبيّ بن كعب: «وما كان ليهلكها إلا بذنوب أهلها» ، وعن ابن عباس:
«ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج» .
ومما يحكون عن عمر رضي اللَّه عنه: أنه قرأ: «غير المغضوب عليهم وضرّ الضالين» ، مع نظائر لهذه الحروف كثيرة لم ينقلها أهل العلم، على أن الصلاة بها تحل، ولا على أنها معارض بها مصحف عثمان رضي اللَّه عنه، لأنها حروف، لو جحد جاحد ألفا من القرآن لم يكن كافرا. والقرآن الّذي جمعه عثمان بموافقة أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم له، لو أنكر بعضه منكر كان كافرا، حكمه حكم المرتد، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري- وقد ذكر ما ينقل عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنه قرأ: «والعصر* ونوائب الدهر* إن الإنسان لفي خسر»
-: قول أبي بكر بن عياش، قال لي عاصم بن أبي النجود: ما أقرأني أحد من الناس حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عبد الرحمن قرأ على عليّ رضي اللَّه عنه، وكنت أرجع من عند أبي عبد الرحمن فأعرض على زرّ بن حبيش، وزرّ بن حبيش قرأ على عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
__________
[ (1) ] النور: 11.
[ (2) ] زيادة للسياق.

(4/321)


قال ابن الأنباري: وإذا روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي رضي اللَّه عنه:
وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [ (1) ] ، كما يقرأ المسلمون جميعا بشهادة عاصم على أبي عبد الرحمن، فرواية أبي عبد الرحمن تنسخ كل رواية في القراءة عن علي، لموضع أبي عبد الرحمن بن علي، وضبطه عنه، وأنه كان يقرئ الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما،
فهذه جهة تبطل رواية من روى عن علي رضي اللَّه عنه: «والعصر* ونوائب الدهر» .
الجهة الثانية: أن عليا لما أفضت الخلافة إليه بعد عثمان رضي اللَّه عنه، وكان إمام المسلمين وقدوتهم، لو علم أن «والعصر» في مصحف عثمان الّذي أجمع عليه المسلمون تنقص «ونوائب الدهر» ، لم يستحل ترك خلل في المصحف، ونقص ألفاظ تنقص بها من ثواب القارئ حسنات، ويزول من جهتها معنى أراده اللَّه وقصد له، فترك عليّ وَالْعَصْرِ [ (2) ] في مصاحف المسلمين على ما لا يعرف غيره، هو الدليل على أن من روى: «والعصر* ونوائب الدهر» كذب أو نسي.
والجهة الثالثة: أن المسلمين أجمعوا على أن هذا هو القرآن الّذي أنزله رب العالمين على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، لا زيادة فيه ولا نقصان، فمن ادعى زيادة أو نقصانا منه فقد أبطل الإجماع، وبهّت الناس وردّ ما قد صح عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتزوّج تسع من النساء؟
حلال، وفرض اللَّه أياما فصام مع شهر رمضان، فإذا ردّ جميع هذا الإجماع، كان الإجماع على القرآن أثبت وأوكد، والبناء عليه أولى. وعليّ رضي اللَّه عنه داخل في الإجماع غير خارج منه.
وأيضا فقد كان علي يصلي بالمسلمين صلاة المغرب، وصلاة العشاء الآخرة، وصلاة الصبح، فيقرأ والناس وراءه يستمعون قراءته. فلو خالف عثمان وأبا بكر وعمر في حرف واحد أو أكثر، لسارع الناس إلى سؤاله عنه، وقبوله منه، وتغييره من المصاحف بمحضر منه، فلما سمعوا قراءته طول خلافته، فلم ينكروا حرفا ولم يغيروا مما سمعوا منه شيئا من المصحف، كان هذا هو الدليل على أن قراءة عليّ هي قراءة أبي بكر وعمر وعثمان، والحجة واضحة برواية أبي عبد الرحمن السلمي، عنه ما يوافق قراءتنا ولا يخالفها
__________
[ (1) ] العصر: 1- 2.
[ (2) ] العصر: 1.

(4/322)


فالقرآن الّذي حصّله عنه أبو عبد الرحمن، هو الّذي كان يؤم الناس به في صلاته، فيجدونه موافقا قرآن أبي بكر وعمر وعثمان وسائر المسلمين، ولو وقفوا فيه على زيادة كلمة أو نقصان لفظة، لوافقوا [عليا] [ (1) ] عليها وأثبتوها في المصاحف على قوله، وما يأمر به من رسمه لعلو درجته وارتفاع منزلته، فقد حصّلوا في كلامه المنثور ضمة في حرف وياء في كلمة، فتابعوا حكايتهما عنه، ونسبتهما إليه، فأحد الحرفين الدّهقان [ (2) ] بضم الدال، والآخر نيرز من النيروز.
قال عياش بن القدح الرياشي: حدثنا أبو عاصم عن معاذ بن العلاء- أخي أبي عمرو بن العلاء- عن أبيه عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما أصبت من فيئكم إلا هذه القارورة، أهداها إليّ الدّهقان بضم الدال، ثم أتى بيت المال فقال: خذ خذ، وأنشأ يقول:
[أفلح] [ (3) ] من كانت له قوصرّة [ (4) ] ... يأكل منها كل يوم مرة
وقال سليمان بن حرب: حدثني حماد بن مسلمة بن زيد عن التميمي قال: أهدى إلى عليّ فالوذج [ (5) ] في جام [ (6) ] يوم النيروز، فقال: ما هذا؟ قال: هذا يوم النيروز، فقال: نيرز، وأكل.
يوم بالياء، قال: فمن ضبط من لفظ عليّ وحصّل من كلامه ضمة نادرة، وياء نادرة، فهو صفيق بأن لا يغفل من قراءته كلمة تنبت، ولفظة تسقط، وحركة تغير، فمن ادعى أن ألفاظه في منثور كلامه ضبطت، وكلماته في قراءته القرآن أضيعت، فقد أخبر بمحال لا يقبله عليم، ولا يشهد بصحته حكيم.
وذكر ابن الأنباري ما ينقل عن أبي بن كعب رضي اللَّه عنه، أنه قرأ كأن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] الدّهقان، والدّهقان: التاجر، فارسىّ معرّب. (لسان العرب) : 10/ 107.
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان من المرجع السابق.
[ (4) ] القوصرّة: وعاء من قصب يرفع فيه التمر من البوادي. قال ابن الأعرابي: العرب تكني عن المرأة بالقارورة والقوصرّة قال ابن بري: وهذا الرجز ينسب إلى الإمام علي عليه السلام، وقالوا: أراد بالقوصرة المرأة، وبالأكل النكاح. (المرجع السابق) : 5/ 104.
[ (5) ] نوع من الحلوى.
[ (6) ] الجام: هو إناء من فضة، عربي صحيح، قاله ابن سيده. (اللسان) : 12/ 112.

(4/323)


لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [ (1) ] ، «وما كان اللَّه ليهلكها إلا بذنوب أهلها» ، ثم إن الحسن ابن الحيان حدثنا قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد القاسم بن نافع ابن أبي برة قال: قرأت القرآن على عكرمة بن سليمان أنه قرأ على شبل بن عباد، وإسماعيل بن عبد اللَّه بن قسطنطين، وأنهما أخبراه أنهما قرءا على عبد اللَّه بن كثير، وأن عبد اللَّه بن كثير أخبره أنه قرأ على مجاهد [وأن مجاهد] [ (2) ] أخبره أنه قرأ على عبد اللَّه بن عياش، وأن ابن عياش قرأ القرآن على أبيّ بن كعب، فقرأه ابن كثير بهذا الإسناد عن أبي بن كعب: حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [ (1) ] ، كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [ (3) ] ، فهذا الإسناد يبطل الإسناد الضعيف الّذي نقل به عن أبيّ.
وحدثنا حسن بن الحباب، حدثنا محمد بن عبد الحكم، حدثنا الشافعيّ قال:
قرأت على ابن قسطنطين، وأخبرني ابن قسطنطين أنه قرأ على ابن شبل بن عباد، وأخبر شبل بن عباد أنه قرأ على عبد اللَّه بن كثير، وأخبر ابن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عياش، وأخبر ابن عياش أنه قرأ على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ بن كعب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فهذا السند الّذي نقلته أهل العدالة والصيانة، ما يثبت ما عليه الجماعة في البناء على مصحف عثمان، ويوجب على من خالفه خلاف الرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن هذا السند متصل بالرسول، ولذا صح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمر لم يؤخذ بحديث يخالفه.
وحدثنا الحسن بن الحباب، حدثنا الطيب بن إسماعيل المقرئ، حدثنا يحيى ابن المبارك اليزيدي قال: قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء، وقرأ أبو عمرو على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عياش، وقرأ ابن عياش على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فتصحيح هذا الخبر قراءة العامة كتصحيح الخبر الّذي قبله، وكلاهما يوجب أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يقرأ: «وما كان اللَّه ليهلكها إلا بذنوب أهلها» ، فمن جحد أن هذه الزيادة أنزلها اللَّه تعالى على نبيه فليس بكافر ولا آثم.
__________
[ (1) ] يونس: 24.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الأعراف: 58.

(4/324)


وذكر ما نقل عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قرأ: «وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم» ، وأنه قرأ: «في جيدها حبل من ليف» ، ثم قال: وما نعلم أن سندا يتصل بعبد اللَّه بن مسعود في أنه قرأ ذلك، ولا يصح من هذا في مصحف مكتوب، إذا لم يصحّحه إجماع أو أسانيد معروفة الأهل، مشهورون بصحة النقل، فلو أن حديثا للرسول صلّى اللَّه عليه وسلم أورده مورد في مصحف بسند لا يعرف، لم يحكم على الرسول به، ولم يقبله عليه، فكيف يقبل على اللَّه رب العالمين أنه قال في القرآن: «من عين تجري من تحت الجحيم» ، والصحابة متفقون على إبطال ذلك، وروايتهم عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم ما يخالفه، وفيهم من أتقن القرآن من أوله إلى آخره، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيّ، فلو أسقط عثمان حرفا لعارضه الحفاظ الذين حفظوا جميع القرآن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما وافقوه كان في هذا أوضح برهان على أن جميع ما يخالف ما مع المسلمين من القرآن، من كلام الشياطين ووضع إبليس.
وما
لعبد اللَّه بن مسعود مما دخل فيه على بن أبي طالب، فذكر من طريق الحسن ابن عرفة قال: حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عبد، قال: قرأت عند عليّ أو قرئت عند على شك مجالد: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [ (1) ] ، فقال علي رضي اللَّه عنه: ما قال الطلح، أما يقرأ وطلع؟ ثم قال: وطلع نضيد، فقيل له:
يا أمير المؤمنين أتحكها من المصحف؟ فقال: لا، لا يهاج القرآن اليوم.
قال: ومعنى هذا: أنه رجع إلى ما في المصحف، وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الّذي كان فرط من قوله، فما يلحق عبد اللَّه بن مسعود نقص برجوعه عما كان يقرأ به إلى قراءة عثمان كما رجع إليها عليّ، وعثمان مشهود له بحفظ جميع القرآن وإتقانه.
قالت نائلة بنت العرائض: لما دخل المضريون على عثمان [قالوا] [ (2) ] إن شئتم فاقتلوه وإن شئتم فاتركوه، فقد كان يقرأ القرآن من أوله إلى آخره في ركعة.
وقال يحيى بن زكريا الأنصاري، عن يعلي عن عمر بن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: ما رأيت قرشيا كان أقرأ لكتاب اللَّه عزّ وجل منك يا ابن أبي طالب.
__________
[ (1) ] الواقعة: 29.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/325)


وقال يحيى بن آدم عن ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:
ما رأيت أحدا أقرأ لكتاب اللَّه عزّ وجلّ من علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ولا يجوز أن يحكم على عبد اللَّه بن مسعود بكتاب في رق، يدعي مدعي أنه مصحف عبد اللَّه، لأن الخط ليس بشاهد عدل، ما رأينا نقلة الأنساب وأصحاب الأخبار صححوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما يرى مكتوبا في صحيفة، حتى يشهد على الصحيفة عدول، فما [ينفي] [ (1) ] عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضعف مذهب، فنفيه عن رب العالمين أولى، إذ الإجماع من أهل الإسلام كافة على صحة ما بأيدينا من مصحف عثمان، وكل ما يرد أنه في مصحف ابن مسعود مما يخالف ما عليه الكافة، ليس معه إجماع ولا له شهود ورواة فهو مردود، ولإبطال إجماع الأمة له، وإن حمزة وعاصما يرويان عن عبد اللَّه بن مسعود، ما عليه جماعة من المسلمين، وإلينا على سندين [موافقين] [ (1) ] الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه إجماع الأمة.
فإن قيل: إن عبد اللَّه بن مسعود طالبه عثمان لما جمع المصحف بدفع مصحفه إليه فامتنع، ولم يكن امتناعه إلا لخلاف بين المصحفين، فكره عبد اللَّه أن يحمل مصحفه على مصحف عثمان، [فأبى] [ (1) ] إلا احتجابه والإقامة عليه وأن لا يخرجه، وقد قال خلاد القارئ، عن قيس بن الربيع عن الأعمش قال: ليس بين مصحف عبد اللَّه وبين ثابت خلاف في حلال وحرام إلا في حرفين: في سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [من] المهاجرين في سبيل اللَّه [ (2) ] ، وفي سورة الحشر: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [والمهاجرين في سبيل اللَّه] [ (3) ] .
وقد قال أبو عبيد: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عمر بن قيس، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: جاءني جاء وأنا أصلي فقال: ثكلتك أمك! أتصلي وقد أمر بكتاب اللَّه أن يمزق؟ فتحورت في صلاتي وأتيت الدار وزقت وكنت لا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الأنفال: 41، وما بين الحاصرتين وجه اختلاف القراءتين.
[ (3) ] الحشر: 7، وما بين الحاصرتين وجه اختلاف القراءتين.

(4/326)


أحبس، فرأيت أبا موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن مسعود، وحذيفة [يتقاولون] [ (1) ] ، وحذيفة يقول لعبد اللَّه بن مسعود: أعطهم، وعبد اللَّه يقول: واللَّه لا أدفعه إليهم، قرأت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضعا وسبعين سورة وأدفعه إليهم؟ واللَّه لا أدفعه إليهم.
فالامتناع الّذي كان منه للحذر الّذي حاذره من أن يحمل مصحفه على مصحف عثمان، أجيب عن هذا بأن عثمان جمع المصاحف وطالب عبد اللَّه بمصحفه بعد حصول مصحف المسلمين الّذي اجتمعت على صحته الصحابة كلهم، بعد تصحيح أبي بكر وعمر إشفاقا من أن يكون في بعضها منسوخ لم يقف صاحب المصحف [عليه] [ (1) ] لوقوفه هو وسائر المسلمين على ما يلحقه ويدخل عليه.
وكان امتناع عبد اللَّه من دفع مصحفه إشفاقا على تغيير يدخله، يخالف ما [قد] [ (1) ] رواه وأتقنه، وكان هذا الّذي حاذره زائلا ساقطا مأمونا منه، فبعد ذلك حين وقف على إتقان المصحفين، واجتماع الروايتين، قرأ وأقرأ بمثل قراءة المسلمين، على أنه قد كان [آخر] [ (1) ] من تولى زيد بن ثابت جمع المصحف وقال: أنا أحق بهذه المنزلة لتقدمي في القراءة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخذي عنه، وزيد في صلب أبيه.
ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان، على عبد اللَّه بن مسعود في جمع القرآن، وعبد اللَّه بن مسعود أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام، وأكثر سوابق، وأعظم فضائل، إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد اللَّه، إذ وعاه كله، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيّ، والّذي حفظه منه عبد اللَّه في حياة رسول اللَّه نيف وسبعون سورة، ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول، فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيّ، أولى بجمع المصحف، وأحق بالإيثار والاختيار، ولا ينبغي أن يظن بأن هذا طعنا على عبد اللَّه بن مسعود، لأن زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا تقدمته عليه، لأن أبا بكر وعمر كان زيد أحفظ [منهما] [ (1) ] للقرآن، وليس هو خير [منهما] [ (1) ] ، ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب، فحسن اختيار أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمن أسندوا إليه جمع القرآن واضح، والّذي لحق عبد اللَّه ابن مسعود من الغضب، وما أبداه من الإنكار غير معول عليه، ولا مأخوذ
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/327)


به، لأنهم كانوا يرجعون عنه إذا رضوا، وقد قال زيد بن ثابت: كنا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع، فإذا تقدم زيد في هذا ورسول اللَّه حيّ، كان أحق الناس بالجمع بعد وفاته، وما اختلف أهل العلم في أن زيدا ضم القرآن وحفظه في حياة رسول اللَّه، وأن عبد اللَّه بن مسعود قبض رسول اللَّه وهو غير حافظ لجميع القرآن، وقراءة عبد اللَّه هي قراءة زيد، لا نعلم بينهما خلافا أخل بمعنى ولا [يفسده] [ (1) ] وما يروى مما يخالف ذلك لا [يخلو] [ (1) ] من أن يكون موضوعا على جهة العناد لعثمان وبقية الصحابة، وللتشكيك [فيما] [ (1) ] قد صح من كتاب اللَّه الّذي قد [جمعه صحابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (2) ] ، ولم يحصل ما روى، أو أن يكون الحديث المتضمن له واهي السند منقطعة، لا يقوم بمثله حجة.
وذكر ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه أنه قرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت [ (3) ] ، ثم قال: رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف، فعليها العمل، والأخرى مرفوضة، تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث عنه، وأورد حديث جرير عن منصور، عن أبي وائل عن مسروق قال: لما حضر أبو بكر رضي اللَّه عنه أرسل إلى عائشة رضي اللَّه عنها، فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر
فقال لها أبو بكر رضي اللَّه عنه: ألا قلت كما قال اللَّه تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ الحديث.
وذكر ما نقل عن عمر بن الخطاب وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنهما، أنهما قرءا: فامضوا إلى ذكر اللَّه، ثم قال: إن الأمة اجتمعت على: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [ (4) ] ، برواية ذلك عن رب العالمين ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأما عبد اللَّه ابن مسعود، فما صح عنه: «فامضوا» ، لأن السند غير متصل، إذ إبراهيم النخعي
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.
[ (3) ] ق: 19، وقراءتها على رواية حفص عن عاصم: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ
[ (4) ] الجمعة: 9.

(4/328)


لم يسمع من عبد اللَّه، إنما ورد: «فامضوا [إلى ذكر اللَّه [ (1) ]] » عن عمر رضي اللَّه عنه وحده، فإذا انفرد واحد بما يخالف الأمة والجماعة كان ذلك نسيانا منه، ويدل على ذلك أن الصحف التي كتبها أبو بكر رضي اللَّه عنه ونسخ منها مصحف عثمان كانت عند عمر مكتوبا فيها فَاسْعَوْا، وهي أمامه، وهو أرضى الناس بما فيها لنفسه وللمسلمين، فلو علم وقت قوله: «فامضوا» ، أن المصحف فيها:
فَاسْعَوْا ما استجار الخلاف لها، ولرجع إلى ما فيها، لكنه غلب عليه نسيان البشر، وطبع الآدميين، وإنما كتب القرآن في المصاحف ليحفظ على الناس، ويرجع إليه الناسي، ويوقف بما فيه على غلط الغالط وتغيير المغيّر، وليس من آدمي يسلم من النسيان والغفلة.
وذكر ما نقل من قراءة عبد اللَّه بن عياش رضي اللَّه عنه: «والشمس تجري لا مستقر لها» ، ثم قال: هذا باطل مردود على من نقله، لأن أبا عمرو روى عن مجاهد عن ابن عياش، وابن كثير روى عن مجاهد عن ابن عياش: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [ (2) ] فهذان السندان عن ابن عياش اللذان [يشهد] [ (1) ] بصحتهما الإجماع ببطلان ما ورد بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة وما اتفقت عليه الأمة.
وذكر ما نقل عن ابن عباس أنه قرأ: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج» ، ثم قال أبو عمرو وابن كثير: سنديهما المنضم إليهما الإجماع عن ابن عباس لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ
[ (3) ] ، فأبطل هذان الإسنادان غيرهما، وحمل الحديث الآخر على أن ابن عباس قال: «في مواسم الحج» مفسّرا لمعنى القرآن، فحمل التفسير بعض الناقلين على أنه من القرآن فأدخله فيه غالطا أو غافلا.
وهذا بمنزلة حديث سفيان عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ: «يا حسرة للعباد» ، وبمنزلة حديث سفيان عن عمرو عن ابن عباس، أنه قرأ، «وإن عزموا السراح» ، قال: فالسراح تفسير الطلاق، غلط فيه بعض الناقلين. ومثله حديث مالك عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر رضي اللَّه عنه، أنه قرأ: «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن» ، قال: فما يحمل ذا إلا على أن ابن عمر
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] يس: 38.
[ (3) ] البقرة: 198.

(4/329)


ذكر «لقبل» تفسيرا لمعنى القرآن، فتوهم بعض من نقل الحديث أنه من القرآن فأدخله فيه، وإجماع الأمة يدل على صحة هذا التأويل.
قال: وكل ما يحتج به مما يحكى عن الأئمة من خلاف المصحف المجمع عليه لا تقوم به حجة، ولا يجوز أن يستعمل شيء منه في صلاة ولا غيرها، لأنه لا [يخلو] من أن يكون الحرف المخالف تفسيرا لمعنى القرآن، فأدخله بعض الناقلين في القرآن، بقصور علمه، أو يكون بعض الرواة لم يضبط ما نقل، ولم يصحح ما آثر، أو يكون المنقول عنه غلط كما يغلط البشر، فقرأ بحرف يقدّر أنه مثبت في المصحف فلم يصح تقديره.
وذكر ما نقل عن عكرمة عن ابن عباس أنه قرأ «أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء اللَّه [لهدى] الناس جميعا» [ (1) ] ، ثم قال هذا باطل عن ابن عباس، لأن مجاهد وسعيد ابن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس على ما في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس، يرفعه إلى أبيّ، ويبلغ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال الحسن بن عيسى المقرئ: حدثنا هارون الكوفي، حدثنا أبو العباس حسن الليثي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء: على من قرأت؟ فقال: على مجاهد وسعيد ابن جبير، والقراءة عندهم سنّة، يأخذها آخر عن أول، قال: فكل واحد من الأئمة- أئمة الأمصار- قراءته روايته، ونقل الإسناد الّذي يذكره ويفصح به.
وذكر ما نقل عن عطاء عن ابن عباس أنه قرأ: «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما» [ (2) ] ، ثم قال: هو باطل، من قرأه عامدا في صلاته فقد أفسدها، وحكى عن اللَّه تعالى ما لم ينقل بإجماع المسلمين على خلافه، واحتجاج عائشة رضي اللَّه عنها خاصة، على ما قرأته، وإبطالها مذهبه.
وذكر حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قلت لعائشة وأنا حديث السن: أرأيت قول اللَّه تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [ (2) ] ، فقد تطوف الناس بهما، وما أرى على أحد شيئا أن لا يطّوف بهما، فقالت: كلا يا بني، لو كانت كما تقول
__________
[ (1) ] الرعد: 31، وقراءة حفص: أَفَلَمْ يَيْأَسِ.
[ (2) ] البقرة: 158، وقراءة حفص: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما.

(4/330)


لكانت: «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما» ، وإنما هذه الآية في الأنصار، وكانوا يهلون لمناة [ (1) ] ، وكانت مناة على قديد [ (2) ] ، وكانوا يتحرجون من الطواف بالصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن ذلك، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [ (3) ] .
__________
[ (1) ] اسم صنم.
[ (2) ] اسم جبل.
[ (3) ] البقرة: 158.

(4/331)


[ترتيب نزول القرآن بمكة]
أول ما نزل من القرآن خمس آيات من سورة العلق بلا خلاف، كما قاله القشيريّ في أول تفسيره، قال: ثم نزل بعد ذلك ن وَالْقَلَمِ، ثم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، ثم يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ثم تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، ثم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الْأَعْلَى] ، ثم وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، ثم وَالْفَجْرِ، ثم وَالضُّحى، ثم أَلَمْ نَشْرَحْ، ثم وَالْعَصْرِ، ثم وَالْعادِياتِ، ثم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثم وَالنَّجْمِ إلى قوله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [ (1) ] ، ثم عَبَسَ، ثم إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثم وَالشَّمْسِ وَضُحاها، ثم وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، ثم وَالتِّينِ، ثم لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، ثم الْقارِعَةُ، ثم لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، ثم الهمزة، ثم وَالْمُرْسَلاتِ، ثم ق، ثم لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، ثم الطارق، ثم اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، ثم ص، ثم الأعراف، ثم الجن، ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم مريم، ثم طه، ثم الْواقِعَةُ، ثم الشعراء، ثم النمل، ثم القصص إلى قوله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ الآية [ (2) ] ، فإنّها نزلت بالجحفة، ثم بني إسرائيل غير قوله: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ [ (3) ] ، وقوله:
رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [ (4) ] ، ثم يونس، ثم الحجر، ثم الأنعام إلا قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [ (5) ] ، ثم وَالصَّافَّاتِ، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر غير قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... [ (6) ] الآية، ثم حم المؤمن [ (7) ] ، ثم حم فصّلت، ثم حم عسق [ (8) ] ، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف إلا قوله: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ
__________
[ (1) ] النجم: 33.
[ (2) ] القصص: 85.
[ (3) ] الإسراء: 76.
[ (4) ] الإسراء: 80.
[ (5) ] الأنعام: 91.
[ (6) ] الزمر: 53.
[ (7) ] سورة غافر.
[ (8) ] أول الشورى.

(4/332)


[ (1) ] ، ثم وَالذَّارِياتِ، ثم الغاشية، ثم الكهف غير قوله:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [ (2) ] ، ثم النحل غير قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ [ (3) ] ، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنون، ثم الم تَنْزِيلُ [ (4) ] ، ثم الطور، ثم تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ثم الْحَاقَّةُ، ثم سَأَلَ سائِلٌ [ (5) ] ، ثم عَمَّ يَتَساءَلُونَ [ (6) ] ، ثم إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، ثم إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، ثم الرُّومُ، فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة.

[آخر ما نزل بمكة]
وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه: آخر ما نزل بمكة العنكبوت، وقال الضحاك وعطاء: المؤمنون، وقال مجاهد: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. وقيل فيما ذكر البغوي: إن سورة المطففين، وسورة القدر، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ أنزلت بالمدينة، وقال الزمخشريّ:
المعوذتان مكيتان [ (7) ] ، وقال البغوي: مدنيتان.
__________
[ (1) ] الأحقاف: 10.
[ (2) ] الكهف: 28.
[ (3) ] النحل: 126.
[ (4) ] سورة السجدة.
[ (5) ] سورة المعارج.
[ (6) ] سورة النبأ.
[ (7) ] (الكشاف) : 4/ 243- 244.

(4/333)


[ترتيب نزول القرآن بالمدينة]
قال أبو القاسم القشيري: أول ما نزل بالمدينة «البقرة» ، ثم «الأنفال» إلا قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [ (1) ] ، ثم «آل عمران» ، ثم «الأحزاب» ، ثم «الممتحنة» ، ثم «النساء» ، ثم إِذا زُلْزِلَتِ، ثم «الحديد» ، ثم «سورة محمد» ، ثم «الرعد» ، ثم الرَّحْمنُ، ثم هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ، ثم «الطلاق» ، ثم لم يكن، ثم «الحشر» ، ثم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، ثم «النور» ، ثم «الحج» ، غير قوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلى قوله: عقيم، ثم «المنافقون» غير قوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ، ثم «المجادلة» ، ثم «الحجرات» ، ثم لِمَ تُحَرِّمُ [ (2) ] ، ثم «الصف» ، ثم «الجمعة» ، ثم «التغابن» ، ثم «الفتح» ، ثم «المائدة» ، ومنهم من يقدم المائدة على التوبة، وقرأها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع وقال:
يا أيها الناس، إن آخر القرآن نزولا سورة المائدة، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها، واختلف في وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، فعن ابن عباس، هي مدنية، وقال الباقون:
مكية. فهذه تسع وعشرون سورة [نزلت بالمدينة] [ (3) ] ، وأكثرهم على أن الفاتحة مكية، وقال مجاهد وغيره: نزلت بالمدينة.
وخرج الحاكم من حديث يحيى بن معين، حدثنا وكيع عن أبيه عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزل بالمدينة، وما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ فبمكة. ومن حديث وكيع، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال:
قرأنا المفصل حينا وحججا، ليس فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. قال الحاكم:
صحيح على شرح الشيخين [ (4) ] . ومن حديث معتمر بن سليمان، عن مثنى بن
__________
[ (1) ] الأنفال: 64.
[ (2) ] سورة التحريم.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] (المستدرك) : 3/ 20، كتاب الهجرة، حديث رقم (4296/ 40) ، وله أيضا من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنه قال: قرأنا المفصل بمكة حججا ليس فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. (المرجع السابق) : 2/ 244، حديث رقم (2889/ 18) وقال الحاكم في آخره: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(4/334)


الصباح، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا نزل جبريل فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ علم أنها سورة [ (1) ] .
قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 2/ 11، حديث رقم (4218/ 228) .
[ (2) ] زيادة من (المرجع السابق) .

(4/335)


[تتمّة مفيدة]
اختلف السلف في أي سورة من القرآن أنزلت أولا، فقيل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (1) ] ، وقيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (2) ] ،
خرج البخاري في كتاب التفسير، من حديث وكيع عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما أنزل من القرآن قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (1) ] ، قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (2) ] ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد اللَّه عن ذلك، وقلت له مثل الّذي قلت، فقال جابر:
لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثريني وصبّوا عليّ ماء باردا، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [ (1) ] .
وذكر من حديث عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: جاورت بحراء ... [ (3) ] ، فذكره.
ومن حديث عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى، سألت أبا سلمة: أي القرآن نزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت:
أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد اللَّه: أي القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت: أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، فقال: لا أخبرك إلا بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماء باردا، وأنزل عليّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.
__________
[ (1) ] أول سورة المدثر. (3) المدثر: 1- 3.
[ (2) ] أول سورة العلق.
[ (3) ] سبق شرح وتخريج هذا الحديث في باب كيف كان بدء الوحي.

(4/336)


وخرج مسلم في كتاب الإيمان، من حديث الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أيّ القرآن أنزل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت:
أو اقْرَأْ؟ قال جابر: أحدثك ما حدثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أر أحدا، ثم نوديت، فرفعت رأسي، فإذا هو علي العرش في الهواء- يعني جبريل عليه السلام- فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت: دثروني، فدثروني، فصبّوا عليّ ماء، فأنزل اللَّه عز وجل:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [ (1) ] .
وخرجه من حديث علي بن المبارك عن يحيى بهذا الإسناد، قال: فإذا هو جالس على العرش بين السماء والأرض. وثبت في الصحيحين وغيرها، من حديث يونس بن يزيد قال: أخبرني ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان [يخلو] بغار حراء فيتحنث فيه، قال: والتحنث: التعبد الليالي ذوات العدد. وقال مسلم: أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء،
فجاءه الملك فقال:
اقْرَأْ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ،
فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يرجف فؤاده، حتى دخل على خديجة. الحديث بطوله [ (2) ] .
وخرجاه من حديث ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول:
أخبرني [ (3) ] جابر بن عبد اللَّه، أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتا بين السماء والأرض، فرفعت رأسي، فإذا الملك
__________
[ (1) ] المدثر: 1- 4.
[ (2) ] سبق شرحه وتخريجه في باب كيف كان بدء الوحي.
[ (3) ] في (خ) : «أخبرنا» ، وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .

(4/337)


الّذي بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فخبئت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروه- وقال مسلم: فدثروني- فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، الحديث.
وقال سفيان بن عيينة: عن ابن إسحاق، إن أول شيء نزل من القرآن اقْرَأْ.
وقال سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أول ما نزل من القرآن:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، [ن] وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [ (1) ] ، وقال وكيع، عن مرة بن خالد، عن أبي رجاء قال: أول سورة أنزلت على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني معمر بن راشد عن الزهري، عن محمد بن عباد عن جعفر قال: سمعت بعض علمائنا يقول: كان أول ما أنزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، فهذا صدرها الّذي أنزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حراء، ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء اللَّه.
قال النووي: قوله: إن أول ما نزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ضعيف، بل باطل، والصواب: إن أول ما نزل على الإطلاق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، كما صرح به في حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وأما يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكان نزولها بعد فترة الوحي، كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر، والدلالة صريحة فيه في قوله: فإذا الملك الّذي جاءني بحراء، ثم قال: وأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ومنها قوله: ثم تتابع يعني بعد فترته، والصواب:
أن أول ما نزل [على الإطلاق] [ (2) ] : اقْرَأْ، وأول ما نزل بعد فترة الوحي:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وأما قول من قال: أول ما نزل الفاتحة، فبطلانه أظهر من أن يذكر.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة قال: أنزلت فاتحة الكتاب بالمدينة. حدثنا أبو أسامة عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد عن أبي هريرة قال: أنزلت فاتحة الكتاب بالمدينة. حدثنا أبو أسامة عن زائدة، عن منصور عن مجاهد قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أنزلت بالمدينة.
__________
[ (1) ] أول سورة القلم.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.

(4/338)


حدثنا أبو معاوية عن هشام، عن أبيه قال: ما كان من حج أو فريضة فإنه نزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والقرون والعذاب فإنه نزل بمكة.
حدثنا وكيع عن سلمة عن الضحاك: [ما كان] [ (1) ] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [نزل] [ (1) ] في المدينة. حدثنا وكيع عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة قال:
كل شيء في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنزل في المدينة، وكل شيء في القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ نزل بمكة. حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه- يعني ابن مسعود- رضي اللَّه عنه قال: قرأنا المفصّل حججا ونحن بمكة ليس فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب، عن عكرمة قال: كل سورة فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهي مدنية. حدثنا أبو أحمد عن مسعر عن النضر بن قيس، عن عروة قال: ما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ [نزل] [ (1) ] بمكة وما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [نزل] [ (1) ] بالمدينة.
حدثنا وكيع عن ابن عون قال: ذكروا عند الشعبي قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [ (2) ] ، فقيل: عبد اللَّه بن سلام، فقال: كيف يكون ابن سلام وهذه السورة مكية. حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه قال:
إني لا أعلم ما نزل من القرآن بمكة وما نزل بالمدينة، فأما ما نزل بمكة فضرب الأمثال وذكر القرون، وأمّا ما نزل بالمدينة فالفرائض والحدود والجهاد. حدثنا وكيع عن سفيان، عن ابن نجيح عن مجاهد قال: أول سورة نزلت اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، ثم ن.
حدثنا وكيع عن شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت عبيد بن عمير يقول:
أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، ثم ن. حدثنا وكيع عن قرة عن أبي رجاء قال: أخذت عن أبي موسى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وهي أول سورة أنزلت على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] الأحقاف: 10.

(4/339)


حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة: بَراءَةٌ [ (1) ] ، وآخر آية نزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ (2) ] ، حدثنا ابن نمير، حدثنا ابن شيبة، حدثنا مالك عن أبي السّفر عن البراء قال: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ (2) ] ، حدثنا وكيع عن إسماعيل عن أبي خالد عن السّديّ قال: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ (3) ] ، حدثنا ابن نمير، حدثنا مالك بن معون عن عطية العوفيّ قال: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ (3) ] ، واللَّه يفعل ما يريد.
__________
[ (1) ] أول سورة التوبة.
[ (2) ] النساء: 176.
[ (3) ] البقرة: 281.

(4/340)