إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع [فصل في ذكر أخذ القرآن ورؤية رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم بالقلوب حتى دخل كثير من العقلاء في الإسلام في أول
ملاقاتهم له]
خرج أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا منجاب ابن
الحرث، أخبرنا علي بن مسهر، عن الأجلح عن الذّيال بن حرملة، عن جابر ابن
عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم
بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الّذي قد فرق جماعتنا، وشتت
أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه فلينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا
غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد!
أنت خير أم عبد اللَّه؟ فسكت، ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت [رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم قال: أنت خير أم هاشم؟ فسكت رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (1) ] فقال: وإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد
عبدوا الآلهة التي عبتها. وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك،
ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وفضحتنا
في العرب، حتى طار في العرب أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، واللَّه
ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى [نتفانى]
[ (2) ] ، أيها الرجل! إن كان إنما بك الباءة [ (3) ] فاختر أي نساء قريش
فلنزوجك عشرا، وإن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فرغت؟ قال، نعم، فقال رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ
فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً
وَنَذِيراً [ (4) ] ، حتى قرأ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ
صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك
غير هذا؟ قال: لا،
فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ فقال: ما تركت شيئا أرى
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] الباءة: القدرة على الزواج.
[ (4) ] فصلت: 1- 13 بما فيها المحذوف.
(4/341)
أنكم تكلمونه إلا وقد كلمته، قالوا: فهل
أجابك؟ قال نعم، قال: لا والّذي نصبها بنية [ (1) ] ، ما فهمت شيئا مما
قال، غير أنه قال: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ
وَثَمُودَ، قالوا: ويلك! يكلمك رجل بالعربية لا تدري ما قال؟
قال: لا واللَّه ما فهمت شيئا مما قال، غير ذكر الصاعقة [ (2) ] .
وخرجه البيهقي من حديث محمد بن فضيل قال: حدثنا الأجلح عن الذّيال ابن
حرملة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر
علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلمه ثم
أتانا من أمره، فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهّان والشعراء، وعلمت
من ذلك علما، وما يخفى عليّ إن كان كذلك، فأتاه.
فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد! أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟
أنت خير أم عبد اللَّه؟ فلم يجبه، قال: فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟
فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسا ما بقيت، وإن كان
الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال
جمعنا لك من أموالنا ما تستغني بها أنت وعقبك من بعدك، ورسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم ساكت لا يتكلم.
فلما فرغ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ
فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فقرأ حتى بلغ:
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ،
فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس
عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، واللَّه ما نرى عتبة إلا وقد صبأ إلى
محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا إليه، فأتوه
فقال أبو جهل: واللَّه يا عتبة ما حسبنا إلا
__________
[ (1) ] يقسم بالكعبة.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) 1/ 230- 231، حديث رقم (182) ، وأخرجه السيوطي في
(الخصائص الكبرى) : 1/ 283 وقال: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه برقم (18409)
، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 202- 204.
وقال في (مجمع الزوائد) : 6/ 120 رواه أبو يعلي، وفيه الأجلح الكندي وثقه
ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات.
(4/342)
أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت
بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم باللَّه لا
يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته، فقص
عليهم القصة، فأجابني بشيء واللَّه ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ حتى بلغ:
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، فأمسكت
بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت
أن ينزل بكم العذاب [ (1) ] .
وخرجه من حديث ابن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زيادة مولى بني
هاشم، عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة [ (2) ]- وكان سيدا
حكيما- قال: ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم جالس في المسجد وحده، يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض
عليه أمورا لعله يقبل منا بعضها، ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام
عتبة ابن ربيعة حتى جلس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فذكر
الحديث فيما قال له عتبة، وفيما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك،
حتى إذا فرغ [عتبة قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
أفرأيت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع منّي، قال: أفعل] [ (3) ] قال
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا، فمضى رسول اللَّه يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت
لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم إلى السجدة [ (4) ] فسجد فيها، ثم قال: سمعت يا أبا
الوليد؟ قال: سمعت، قال: فأنت وذاك.
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد
بغير الوجه الّذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال:
__________
[ (1) ] انظر التعليق السابق.
[ (2) ] عتبة بن ربيعة (2 هـ 624 م) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] وهي قوله تعالى في ذات السورة: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا
يَسْأَمُونَ، آية: 38 فصلت.
(4/343)
ورائي أني واللَّه سمعت قولا ما سمعت بمثله
قط، واللَّه ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني
واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو اللَّه
ليكونن لقوله الّذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر
على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك
واللَّه يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم، ثم
ذكر شعرا يمدح به عتبة فيما قال [ (1) ] .
وله من حديث المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر قال:
لما قرأ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على عتبة بن ربيعة: حم* تَنْزِيلٌ
مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم، أطيعوني في هذا
اليوم واعصوني فيما بعده، فو اللَّه لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت
أذناي قط كلاما مثله، وما دريت ما أردّ عليه [ (2) ] .
وله من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري قال:
حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم
مجلسا ليستمع فيه وكلا لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا
أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا
تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية فإذا كل رجل منهم في مجلسه، فباتوا يستمعون
له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما
قالوا أول مرة ثم انصرفوا.
فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا
طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود،
وتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 204- 205.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 205- 206.
(4/344)
حتى [أتى] [ (1) ] أبا سفيان في بيته قال:
أخبرني يا أبا حنظلة، أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا
ثعلبة، واللَّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، فقال الأخنس:
وأنا والّذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى [أتى] [ (1) ] أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا
الحكم، ما رأيت فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن [وبنو]
عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا
تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء،
فمتى تدرك هذه؟ واللَّه لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس [بن
شريق] [ (1) ] .
وله من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن المغيرة بن شعبة قال: إن أول
يوم عرفت رسول اللَّه، أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقّة مكة، إذ
لقينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال لأبي جهل: يا أبا الحكم،
هلمّ إلى اللَّه وإلى رسوله أدعوك إلى اللَّه، قال: يا محمد! هل أنت منته
عن سب آلهتنا؟ هل تريد أن نشهد إلا أن قد بلّغت، فنحن نشهد أن قد بلغت، فو
اللَّه لو أني أعلم أن ما تقول حقا ما اتبعتك، فانصرف رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم وأقبل عليّ فقال: واللَّه إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن
بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فقالوا: فينا الندوة، فقلنا:
نعم، قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، فقلنا نعم، ثم
أطعمنا، حتى إذا تحاكّت الركب قالوا: منا نبيّ، واللَّه لا أفعل [ (2) ] .
ولأبي نعيم من حديث سعيد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد
بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر
من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد
حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا
__________
[ (1) ] زيادات من (دلائل البيهقي) : 2/ 206- 207.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 207.
(4/345)
بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا،
ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه [بعضا] [ (1) ] ، قالوا:
فأنت يا عبد شمس، قم وأقم لنا رأيا نقل به، فقال: بل أنتم تقولوا وأسمع،
قالوا: نقول: إنه كاهن، قال: فما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة
الكهان ولا سجعهم، قالوا: فنقول: إنه مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا
الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا بتخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول إنه
شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه، وقريضه، ومقبوضة
ومبسوطه، فما هو بالشاعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا
[السحرة] [ (1) ] وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، فقالوا: فما نقول يا عبد
شمس؟ قال: واللَّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وما
أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن يقولوا:
هو ساحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، [وبين المرء] [ (2) ]
وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 232- 233، حديث رقم (183) ، وقال في آخره:
[رواه يونس ابن بكير عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس] ،
ولولا ذلك لكان الحديث مرسلا، حيث قد وصله أبو نعيم بذلك. وأخرجه أيضا
البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 200- 201، وزاد فيه: [فجعلوا يجلسون للناس
حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم من أمره،
فأنزل اللَّه عز وجل في الوليد بن المغيرة، وذلك من قوله: ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً- إلى قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ] ، [الآيات (11- 26) من
سورة المدثر،] .
[وأنزل اللَّه عز وجل في النفر الذين كانوا معه، ويصنعون له القول في رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيما جاء به من عند اللَّه: الَّذِينَ
جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ* فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،
أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لمن
لقوا من الناس قال وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.] ، [الآيتان (20- 21) من سورة
الحجر] .
وأخرجه أيضا ابن إسحاق في (السيرة) و (سيرة ابن هشام) : 2/ 105- 106. ذكر
ابن إسحاق قول اللَّه تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. الآيات
التي نزلت في الوليد، وفيها تهديد ووعيد شديد، لأن معنى: ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ أي دعني وإياه، فسترى ما أصنع به، كما قال:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ. (المرجع السابق) .
وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) 2/ 550، كتاب التفسير، تفسير سورة
المدثر، حديث رقم (3872/ 1009) ، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد على
شرط البخاري ولم يخرجاه.
(4/346)
وله من حديث سفيان بن عمرو عن عكرمة، أن
الوليد بن المغيرة قال: قد سمعت الشعر رجزه وقريضه ومخمّسه، فما سمعت مثل
هذا الكلام يعني القرآن- ما هو بشعر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن
له لنورا، وإن له لفرعا، وإنه يعلو ولا [يعلى] [ (1) ] .
وللبيهقي من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب السجستاني، عن عكرمة عن ابن
عباس رضي اللَّه عنه، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم
إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا
لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا تبلغ قومك أنك منكر له أو كاره له، قال: وماذا أقول؟
فو اللَّه ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيدة مني،
ولا بأشعار الجن مني، واللَّه ما يشبه الّذي يقول شيئا من هذا، واللَّه إن
لقوله الّذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله،
وإنه ليعلو وما [يعلى] ، وإنه ليحطم ما تحته.
فقال: واللَّه لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه،
فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، أي يأثره عن غيره، فنزلت فيه: ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً [ (2) ] . قال البيهقي: هكذا حدثنا موصولا.
وفي حديث حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال له: اقرأ عليّ، فقرأ عليه: إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى
وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ (3) ] ، قال: أعد، فأعاد النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم، فقال: [أي الوليد] :
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) : 1/ 234- 235، حديث رقم (186) ،
وقد انفرد به أبو نعيم وهو حديث مرسل، وهو بعض حديث ابن عباس الّذي أخرجه
الحاكم في (المستدرك) :
2/ 550، حديث رقم (3872/ 1009) في كتاب التفسير/ تفسير سورة المدثر.
[ (2) ] المدثر: 11.
[ (3) ] النحل: 90.
(4/347)
واللَّه إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة،
وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. قال: وكذلك رواه معمر
عن عباد بن منصور، عن عكرمة مرسلا، ورواه أيضا معتمر بن سليمان عن أبيه،
فذكره أتم من ذلك مرسلا، وكل ذلك يؤكد بعضه بعضا.
وله من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق [قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن
ابن عباس] [ (1) ] ، أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش- وكان ذا سنّ
فيهم- وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر
صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد
قول بعضكم بعضا.
فقالوا: أنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقوم به، فقال: بل أنتم،
فقولوا أسمع، فقالوا: نقول كاهن، فقال ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو
بزمزمة الكاهن وسحره، فقالوا: نقول مجنون، فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا
الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا مخالجته ولا وسوسته، قال: فنقول شاعر،
قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه، ومقبوضة ومبسوطه،
فما هو بالشعر، قال: فنقول ساحر، فما هو بساحر، قد رأينا السّحار وسحرهم،
فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: ما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: واللَّه إن
لقوله حلاوة، إن أصله لمغدق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا
إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فيقولوا: ساحر يفرق
بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وبين [زوجه] ، وبين
المرء وبين عشيرته، فيتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا
الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم من أمره، فأنزل اللَّه
تعالى في الوليد ابن المغيرة [من] قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً
إلى قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وأنزل اللَّه في النفر الذين كانوا معه
ويطيعون له القول في رسول اللَّه فيما جاء به من هدي اللَّه: الَّذِينَ
جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، أي أصنافا، فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ، أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم لمن أتوا من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) : 2/ 198- 199، باب اعتراف مشركي
قريش بما في كتاب اللَّه تعالى من الإعجاز، وأنه لا يشبه شيئا من لغاتهم،
مع كونهم من أهل اللغة وأرباب اللسان.
(4/348)
الناس قال: وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها [ (1)
] .
وله من حديث يونس عن ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة عن ابن عباس
قال: قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن
قصيّ فقال: يا معشر قريش، واللَّه لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد
كان فيكم محمد غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى
إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا واللَّه ما
هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: شاعر، لا واللَّه ما هو
بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها، هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم:
مجنون، ولا واللَّه ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا
وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش! انظروا في شأنكم، فإنه واللَّه لقد نزل
بكم أمر عظيم، وكان النضر من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم وينصب له العداوة [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث عبد [الأعلى] [وهو أبو همام [ (3) ]] قال: حدثنا داود عن
عمرو بن سعيد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه: أن ضمادا قدم
مكة، وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة
يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل اللَّه يشفيه على
يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن اللَّه يشفي
علي يدي من شاء، فهل لك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن الحمد
للَّه، نحمده ونستعينه، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما
بعد، قال: فقال:
أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
ثلاث مرات، قال:
فقال: [لقد] [ (3) ] سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت
مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، فقال: هات يدك
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 201.
[ (2) ] المرجع السابق: 201- 202.
[ (3) ] زيادة من (صحيح مسلم) .
(4/349)
أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال:
وعلى قومي،
قال فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سريّة فمروا بقومه، فقال صاحب
السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت مطهرة،
فقال:
ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثنا محمد بن سليط عن أبيه عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن
العدوي قال: قال ضماد: قدمت مكة معتمرا، فجلست مجلسا فيه أبو جهل، وعتبة بن
ربيعة، وأمية بن خلف، فقال أبو جهل: هذا الرجل الّذي فرق جماعتنا، وسفّه
أحلامنا، وضلل من مات منا، وعاب آلهتنا، فقال أمية: الرجل مجنون غير شك،
قال ضماد: فوقعت في نفسي كلمته وقلت: إني رجل أعالج من هذه الريح، فقمت من
ذلك المجلس وأطلب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم أصادفه ذلك اليوم،
حتى كان الغد فجئته فوجدته جالسا خلف المقام يصلي، فجلست حتى فرغ، ثم جلست
إليه فقلت: يا ابن عبد المطلب! فأقبل عليّ فقال: ما تشاء؟ فقلت: إني أعالج
من الريح، فإن أحببت عالجتك، ولا يكثرن ما بك، فقد عالجت من كان به أشدّ
مما بك فبرأ، وسمعت قومك يذكرون فيك خصالا سيئة، من تسفيه أحلامهم، وتفريق
جماعتهم، وتضليل من مات منهم، وعبت آلهتهم، فقلت: ما فعل هذا إلا رجل به
جنه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: الحمد للَّه أحمده،
وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا
هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله، قال ضماد:
فسمعت كلاما لم أسمع كلاما قط أحسن منه، فأستعيده الكلام فأعاد عليّ، فقلت:
إلى ما تدعو؟ قال: إلى أن تؤمن باللَّه وحده لا شريك له، وتخلع الأوثان من
رقبتك، وتشهد أني رسول اللَّه، فقلت: فماذا إليّ إن فعلت؟ قال: لك الجنة،
قلت: فإنّي أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأخلع الأوثان من
رقبتي، وأبرأ منها، وأشهد أنك عبد اللَّه ورسوله، فأقمت مع رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم علمت سورا كثيرة من القرآن،
ثم رجعت إلى قومي، قال عبد اللَّه بن عبد الرحمن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 405- 406، كتاب الجمعة باب (13) تخفيف
الصلاة والخطبة، حديث رقم 46- (868) ، (دلائل البيهقي) : 2/ 223- 224، باب
إسلام ضماد وما ظهر له فيما سمع من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من آثار
النبوة.
(4/350)
العدوي: فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في سرية، فأصابوا عشرين بعيرا بموضع
كذا، واستاقوها، وبلغ علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنهم قوم ضماد، فقال:
ردوها إليهم، فردّت.
وخرج البخاري ومسلم من حديث مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير ابن مطعم،
عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ بالطور في
المغرب [ (1) ]- وقال البخاري: قرأ في المغرب بالطور- ترجم عليه: باب الجهر
في المغرب.
وخرجه مسلم من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان.
ومن حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس. ومن حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر،
كلهم عن الزهري بهذا الإسناد مثله. وخرجه البخاري في كتاب التفسير [ (2) ]
من حديث الحميدي، حدثنا سفيان، حدثوني عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم
عن أبيه، سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما
بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ*
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ* أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [ (3) ] ، كاد
قلبي أن يطير، قال سفيان: فأما أنا فإنما سمعت الزهري يحدث عن محمد بن جبير
بن مطعم عن أبيه، سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور،
لم أسمعه الّذي قالوا لي.
وخرج في كتاب المغازي في غزوة بدر، من حديث عبد الرزاق، حدثنا معمر عن
الزهري، عن محمد بن جبير عن أبيه قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي، وذكره في كتاب
الجهاد في باب فكاك الأسير، من حديث عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن
محمد بن جبير عن أبيه- وكان جاء في أسارى بدر- قال: سمعت النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 315، كتاب الأذان، باب (99) الجهر في المغرب،
حديث رقم (765) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 776، كتاب التفسير، باب (1) ، حديث رقم (4854) ،
7/ 410، كتاب المغازي: باب (12) ، حديث رقم (4023) ، 6/ 206، كتاب الجهاد
والسير، باب (172) فداء المشركين، حديث رقم (3050) .
[ (3) ] الطور: 35- 37.
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 410، كتاب المغازي، باب (12) حديث رقم (4023) .
(4/351)
قال أبو عمر بن عبد البر- وقد ذكر حديث
مالك-: وفي هذا الحديث شيء سقط من رواية ابن شهاب، وهو شيء حسن من الفقه،
وذلك أن جبير ابن مطعم سمع هذا الحديث من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو
كافر، وحدث به وهو مسلم.
قال: وقد روى هذه القصة فيه عن مالك عن علي بن الربيع بن الركين، وإبراهيم
بن علي التميمي المقرئ، جميعا عن مالك عن الزهري، عن محمد بن جبير ابن مطعم
عن أبيه قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في فداء أسارى بدر، فسمعته
يقرأ في المغرب بالطور، ولم أسلم يومئذ، فكأنما صدع قلبي، وقال لو كان مطعم
حيا وكلمني في أسارى بدر لتركتهم له، ولم نتابع هذان على سياقه هذا الحديث
بهذا اللفظ عن مالك.
وقد رواه كذلك عن ابن شهاب، أسامة بن زيد الليثي وغيره، روى ابن وهيب عن
أسامة بن زيد عن ابن شهاب أسامة بن زيد الليثي وغيره: روى ابن وهب عن أسامة
بن زيد عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، أنه جاء في فداء
أسرى بدر قال: فوافقت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في صلاة
المغرب بالطور وكتاب مسطور، فأخذني من قراءته كالكرب، فكان ذلك أول ما سمعت
من أمر الإسلام.
وذكر من طريق قاسم بن أصبغ حديث سفيان بن عيينة قال: سمعت الزهري يحدث عن
محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ
في المغرب بالطور، قال سفيان: قال سمعته يقول: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ قال: فكاد يطير قلبي.
قال: ورواه يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب، فجعل موضع المغرب العتمة، إلا
أنه من رواية ابن لهيعة، فذكر حديث أسد بن موسى قال: حدثنا ابن لهيعة قال:
حدثنا يزيد بن أبي حبيب، أن ابن شهاب كتب إليه قال: حدثني محمد ابن جبير بن
مطعم عن أبيه قال: قدمت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في فداء أسارى
بدر، فسمعته يقرأ في العتمة بالطور.
ورواه سفيان بن حسين- على الشك- في العتمة أو المغرب، فذكر حديث أبي عبيد
قال: حدثنا هيثم، أخبرنا سفيان بن حسين عن الزهري، قال هيثم: ولا
(4/352)
أظني إلا وقد
سمعته من الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أتيت رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر، فوافقته وهو يصلي بأصحابه
المغرب، أو العشاء، فسمعته وهو يقول أو يقرأ- وقد خرج صوته من المسجد-
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [ (1) ] ، قال: فكأنما
صدع قلبي، فلما فرغ من صلاته كلمته في أسارى بدر فقال: شيخك أو الشيخ لو
كان أتانا فيهم شفعناه، يعني أباه المطعم بن عدي.
قال أبو عبيد: قال هيثم وغيره: كانت له عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم يدا، قال ابن عبد البر: كانت يد المطعم بن عدي عند رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم في شأن الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم، وهو أيضا
أجار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين قدم من الطائف من دعاء ثقيف، أجاره
هو ومن كان معه يومئذ.
وخرج أبو نعيم من حديث أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن
عباس عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما: لما أمر اللَّه نبيه أن يعرض
نفسه على قبائل العرب، خرج إلى [منى] وأنا معه وأبو بكر رجلا نسّابة [ (2)
] ، فوقف على منازلهم، فسلم عليهم فردوا السلام، وكان في القوم مفروق بن
عمرو، وهاني بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب
القوم إلى أبي بكر مفروق، وكان مفروق قد غلب عليهم بيانا ولسانا، فالتفت
إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو يا أخا قريش؟
فتقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجلس، وقام أبو بكر رضي اللَّه
عنه يظله بثوبه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة أن لا
إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأني رسول اللَّه، وأن تؤووني وتمنعوني
وتنصروني، حتى أؤدي عن اللَّه الّذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر
اللَّه، فكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، واللَّه هو الغني الحميد،
قال له: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى
قوله: وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] الطور: 7- 8.
[ (2) ] نسّابة: عالم بالأنساب.
[ (3) ] الأنعام: 151- 153 [آيات الوصايا العشر] .
(4/353)
فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا
قريش؟ فو اللَّه ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه،
فتلا عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [ (1) ] الآية، فقال له مفروق: دعوت واللَّه يا
قريشيّ إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا
عليك، وقال هانئ بن قبيصة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك، وقال
المثنى ابن حارثة: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك، وأعجبني ما تكلمت به.
ثم قال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أرأيتم أن تلبثوا إلا يسيرا
حتى يمنحكم اللَّه تعالى بلادهم وأموالهم- يعني أرض فارس وأنهار كسرى-
ويفرشكم بناتهم، أتسبحون اللَّه وتقدسونه؟ قال له النعمان بن شريك: وأي ذلك
لك يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إِنَّا
أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللَّهِ
بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [ (2) ] ، الآية. ثم نهض قابضا على يد أبي
بكر رضي اللَّه عنه، ولما سمع أكثم بن صيفي قول اللَّه سبحانه وتعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [ (3) ] ، استجاب
للإسلام أول ما قرئ عليه القرآن، وقال: إنه يأمر بمكارم الأخلاق [ (4) ] .
وخرج الحرث بن أبي أسامة من حديث داود بن المحبّر، حدثنا أبو الأشهب عن
الحسن عن قيس بن عاصم المنقري، أنه قدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم،
فلما رآه قال:
هذا سيد ذي وبر، قال: فسلمت عليه فقلت: يا رسول اللَّه، المال الّذي لا
ينفقه [علي منه في ضيف أضافه] [ (5) ] أو عيال وإن كثروا؟ قال: نعم، المال
الأربعون، فإن كثر فستون، ويل لأصحاب المئين، ويل لأصحاب المئين، إلا من
أدى حق اللَّه في رسلها ونجدتها، وأطرق فحلها وأفقر ظهرها، وحمل على ظهرها
ومنح
__________
[ (1) ] النحل: 7- 8.
[ (2) ] الأحزاب: 45- 46.
[ (3) ] النحل: 90.
[ (4) ] حديث أبان بن عبد اللَّه البجلي في عرض رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم نفسه على قبائل العرب، وقصة مفروق ابن عمرو وأصحابه، ذكره
البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 422- 427، أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/
282- 288، حديث رقم (214) ، ذكره أبو نعيم مطولا، وقال ابن حجر:
وأخرجه الحاكم، والبيهقي في (الدلائل) بإسناد حسن.
[ (5) ] كذا في (خ) ، ولا يخفى اضطراب السياق.
(4/354)
عزيزها، ونحر سمينها، وأطعم القانع
والمعتر، فقلت: يا رسول اللَّه! ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها، ثم قال: يا
قيس، أما لك أحب إليك أم مولاك؟ قال: قلت: بل مالي، قال: فإنما لك من مالك
ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت، وما بقي فلوارثك، قلت:
واللَّه يا نبي اللَّه، لئن بقيت لأدعن عددها قليلا.
قال الحسن: ففعل رحمه اللَّه. قال أبو نعيم: رواه زناد الجصاص عن الحسن
مثله.
وخرج أبو نعيم من حديث السّدي، عن أبي مالك عن ابن عباس رضي اللَّه عنه
قال: قدم [ (1) ] ملوك حضرموت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، بنو
وليعة حمد ومخوس ومشرح وأبضعة، وأختهم العمردة، وفيهم الأشعث بن قيس- وهو
أصغرهم- فقالوا: أبيت اللعن [ (2) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم: لست ملكا، أنا محمد بن عبد اللَّه، قالوا: لا نسميك باسمك، قال: لكن
اللَّه سماني، وأنا أبو [القاسم] [ (3) ] ، قالوا: يا أبا القاسم، إنا قد
خبأنا لك خبئا [ (4) ] فما هو؟ وكانوا قد خبئوا [لرسول اللَّه] [ (5) ] عين
جرادة في حميت [ (6) ] سمن- فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: سبحان
اللَّه! إنما يفعل ذلك بالكاهن [ (7) ] ، وإن الكاهن والكهانة والتكهن في
النار، فقالوا:
كيف نعلم أنك رسول اللَّه؟ فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كفا من
حصباء فقال: هذا يشهد أني رسول اللَّه، فسبح الحصباء في يده وقالوا: نشهد
أنك رسول اللَّه، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن اللَّه بعثني
بالحق، وأنزل علي كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أثقل في
الميزان من الجبل العظيم، وفي الليلة الظلماء في مثل نور الشهاب.
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «وفد» .
[ (2) ] أبيت اللعن: يدخل به على الملوك. قال النابغة الذبيانيّ:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتمّ منها وأنصب
[ (3) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (4) ] في (خ) : «خبيئا» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وبها جاء
التنزيل، قال تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النمل: 25] .
[ (5) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (6) ] الحميت: إناء للسمن أو الزيت.
[ (7) ] في المرجع السابق: «إنما يفعل ذلك الكهان» .
(4/355)
قالوا: فأسمعنا منه، فتلا رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [ (1) ] حتى بلغ وَرَبُّ
الْمَشارِقِ [ (1) ] ، ثم سكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وسكن
روعه، فما يتحرك منه شيء، ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنا نراك تبكي!
أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ قال: إن خشيتي منه أبكتني، بعثني على صراط
مستقيم في مثل حد السيف، إن زغت عنه هلكت، ثم تلا: وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [ (2) ] إلى آخر الآية [ (3)
] . واللَّه يؤتي فضله من يشاء.
__________
[ (1) ] الصافات: 1- 5، وفي (خ) ، «المشارق والمغارب» وهو خطأ من الناسخ.
[ (2) ] الإسراء: 86.
[ (3) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) 1/ 237- 238، حديث رقم (190) ،
والسيوطي في (الخصائص) : 2/ 305 عنه، وفيه الحكم بن ظهير متروك.
(4/356)
إسلام الطفيل بن
عمرو الدوسيّ
[ (1) ] وروى إبراهيم بن سعيد عن محمد بن إسحاق، وروى الواقدي أيضا من حديث
عبد اللَّه بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون الدوسيّ- وله حلف في قريش-
قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على ما يرى من قومه يبذل لهم
النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة [مما] [ (2) ] هم فيه، وجعلت قريش حين منعه
اللَّه منهم يحذرونه الناس، ومن قدم عليهم من العرب.
وكان الطفيل بن عمرو الدوسيّ يحدث أنه قدم مكة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم بها، ومشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا
لبيبا، فقالوا له:
يا طفيل! إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الّذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وفرق
جماعتنا، وإنما قوله كالسّحرة، يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين
أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا،
فلا تكلمنه ولا تسمع منه، قالوا: فو اللَّه ما زالوا بي حتى أجمعت على أن
لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا [
(3) ] ، فرقا أن يبلغني من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال: فغدوت المسجد، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يصلي عند
الكعبة، قال:
فقمت قريبا منه، فأبى إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا قال:
فقلت في نفسي: وا ثكل أمي، واللَّه إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليّ الحسن
من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الّذي
يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، قال: فمكثت حتى انصرف رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى بيته، فأتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت
عليه، فقلت: يا محمد! إن قومك قالوا لي: كذا وكذا، فو اللَّه ما برحوا
يخوفوننى أمرك حتى سددت أذني
__________
[ (1) ] هو الطّفيل بن عمرو الدوسيّ، صاحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم،
كان سيدا مطاعا من أشراف العرب، ودوس بطن من الأزد، وكان الطفيل يلقب ذا
النور، أسلم قبل الهجرة بمكة. له ترجمة مطولة في: (سير أعلام النبلاء) : 1/
344- 347، ترجمة رقم (75) ، (طبقات ابن سعد) : 4/ 237، (طبقات خليفة) : 13/
224، (تاريخ خليفة) : 111، (الجرح والتعديل) : 4/ 489.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] الكرسف: القطن.
(4/357)
بكرسف لأن لا أسمع قولك، ثم أبي اللَّه أن
يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا فاعرض عليّ أمرك، قال: فعرض عليّ الإسلام، وتلا
علي القرآن، قال: فو اللَّه ما سمعت قولا قط أحسن ولا أمرا أعدل منه.
قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي اللَّه، إني امرؤ مطاع في
قومي، وأنا راجع إليهم داعيهم إلى الإسلام، فادع اللَّه أن يجعل لي آية تكن
لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللَّهمّ اجعل له آية،
فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع نور بين عيني
مثل المصباح، فقلت:
اللَّهمّ في غير وجهي، فإنّي أخشى أن يظنوا أنها مثله وقعت في وجهي لفراقي
دينهم.
قال: فتحول، فوقع في رأس سوطي، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي
كالقنديل المعلق، وأنا أنهبط إليهم من الثنية، حتى جئتهم وأصبحت فيهم، فلما
نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت: إليك عني [يا أبت] [ (1) ] ، فلست
منك ولست مني، قال: ولم أي بني؟ قال: قلت أسلمت وتابعت دين محمد، قال:
فديني دينك، واغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.
قال: ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عني، فلست منك ولست مني [قالت] [ (2)
] لم؟ بأبي أنت وأمي، قال: قلت: فرق بين وبينك الإسلام، أسلمت وتابعت دين
محمد، قالت: فديني دينك، فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا عليّ،
ثم
جئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة فقلت: يا نبي اللَّه! إنه قد
غلبني على دوس الزنا [ (3) ] ، فادع اللَّه عليهم، فقال: اللَّهمّ اهد
دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وأرفق بهم،
فرجعت فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم إلى المدينة، وقضى بدرا وأحدا والخندق، ثم قدمت على رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمن أسلم من قومي، ورسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «قد غلبني دوس فادع اللَّه عليهم»
.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 238- 240، حديث رقم (191) ، (طبقات ابن سعد)
: 4/ 237- 240، (سيرة ابن هشام) : 2/ 226- 229.
(4/358)
وقال هشام بن محمد، عن أبيه محمد بن السائب
الكلبي: وطفيل بن ذي النون بن طريف بن العاص، وفد إلى النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم فقال: نبي اللَّه! إن دوسا قد غلب عليها الزنا فادع اللَّه
عليهم، فقال: اللَّهمّ اهد دوسا، فقال: يا رسول اللَّه، ابعثني إليهم ففعل،
فقال: اجعل لي آية يهدون بها، فقال: اللَّهمّ نوّر له،
فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب، أخاف أن يقولوا: مثله، [فحوّله] [ (1) ]
إلى طرف سوطه، وكان يضيء في الليلة الظلماء، فقال يا رسول اللَّه، اجعلنا
ميمنتك، واجعل شعارنا مبرور بفعله، فشعار الأزد اليوم كلها مبرور. ثم قتل
يوم اليمامة، وقتل ابنه عمرو بن الطفيل يوم اليرموك [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الحميد
ابن صالح، حدثنا محمد بن أبان، عن إسحاق بن عبد اللَّه، عن أبان بن صالح،
عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: سألت عمر بن الخطاب رضي اللَّه
عنه لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، وخرجت بعده
بثلاثة أيام، فإذا فلان بن فلان بن فلان المخزومي، فقلت له: أرغبت عن دين
آبائك واتبعت دين محمد؟ قال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني،
قلت: من هو؟ قال: أختك وختنك [ (3) ] ، قال: فانطلقت فوجدت الباب مغلقا
وسمعت همهمة، قال: ففتح لي الباب، فدخلت فقلت: ما هذا أسمع عندكم؟
قالوا: ما سمعت شيئا، فما زال الكلام بيني وبينهم حتى أخذت برأس ختني،
فضربته ضربة وأدميته، فقامت إليّ أختي فأخذت برأسي فقالت: قد كان ذلك على
رغم أنفك، فاستحييت [ (4) ] حين رأيت الدم، فجلست وقلت: أروني هذا الكتاب،
فقالت أختي: إنه لا يمسه إلا المطهرون، فإن كنت صادقا فقم فاغتسل، قال:
فقمت واغتسلت وجئت فجلست، فأخرجوا إلي صحيفة فيها: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [قلت: أسماء طاهرة طيبة [ (5) ]] ، طه* ما
أَنْزَلْنا عَلَيْكَ
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 288.
[ (3) ] الختن: زوج الأخت.
[ (4) ] في (خ) : «فاستخبئته» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (أبي نعيم) : «قلت: أما ظاهره طيب» .
(4/359)
[الْقُرْآنَ] لِتَشْقى [ (1) ] إلى قوله:
الْأَسْماءُ الْحُسْنى [ (1) ] ، فتعظمت في صدري وقلت: من هذا أفرّت قريش؟
ثم شرح اللَّه صدري إلى الإسلام فقلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى، قال: فما في الأرض نسمة أحب إليّ من رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم، قلت: أين رسول اللَّه؟ قالت: عليك عهد اللَّه
وميثاقه أن لا تجبهه بشيء يكره؟ قلت: نعم، قالت: فإنه في دار أرقم بن أبي
الأرقم، في دار عند الصفا، فأتيت الدار وحمزة في أصحابه جلوس في الدار،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في البيت، فضربت الباب، فاستجمع القوم،
فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا:
عمر بن الخطاب، قال: افتحوا له، فإن قبل قبلنا منه، وإن أدبر قتلناه، قال:
فسمع ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ما لكم؟ قالوا: عمر بن
الخطاب، قال: فخرج رسول اللَّه فأخذ بمجامع ثيابه، ثم نتره نترة فما تمالك
أن يقع على ركبتيه في الأرض، فقال: ما أنت [بمنته يا عمر! قال: قلت: أشهد
أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال:
فكبّر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. قلت: يا رسول اللَّه، ألسنا على
الحق إن متنا أو حيينا؟ قال: بلى- والّذي نفسي بيده- إنكم لعلى الحق إن
متّم وإن حييتم،
قال: فقلت: فيم الاختفاء؟! والّذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين:
حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين [ (2) ] حتى دخلنا
المسجد، قال: فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها،
فسماني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
الفاروق، أفرق بين الحق والباطل] [ (3) ] .
[قال ابن إسحاق: حدثني عبد اللَّه بن أبي نجيح المكيّ عن أصحابه: عطاء،
ومجاهد أو عمن روى ذلك، أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه، أنه كان يقول:
كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأسرّ بها] [ (4) ]
، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة، عند دور آل عمر بن عبد
__________
[ (1) ] طه: 1- 8.
[ (2) ] كناية عن إثارة الغبار أثناء مشيهم.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم)
: 1/ 241- 243، باب إسلام عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم
(192) ، (حلية الأولياء) : 1/ 40.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سقط في (خ) ، وما أثبتناه من (سيرة ابن هشام) .
(4/360)
ابن عمران المخزومي، قال: فخرجت ليلة أريد
جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، قال: فجئتهم، فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو
أني جئت فلانا الخمار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب
منها، قال: فخرجت، فجئته فلم أجده.
قال: فقلت: لو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين، قال: فجئت المسجد
أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يصلي،
وكان إذا صلّى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين
الركنين: الركن الأسود، والركن اليماني.
قال: فقلت حين أتيته: واللَّه لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما
يقول، فقلت: لئن دنوت منه أستمع منه لأروعنّه، فجئت من قبل الحجر، فدخلت
تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم
يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب
الكعبة.
قال: فلما سمعت القرآن رقّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في
مكاني ذلك، حتى قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلاته ثم انصرف،
وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين، وكان طريقه حتى يجزع [ (1) ]
المسعى، ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب، وبين دار ابن أزهر بن عبد عوف
الزهري، ثم على دار الأخنس بن شريق، حتى يدخل بيته، وكان مسكنه صلّى اللَّه
عليه وسلم في الدار الرقطاء [ (2) ] التي كانت بيدي معاوية بن أبي سفيان.
قال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس ودار ابن
أزهر أدركته، فلما سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حسي عرفني، فظن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني [ (3) ]
ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟ قال:
قلت: لأؤمن باللَّه وبرسوله، وبما جاء به من عند اللَّه.
قال: فحمد اللَّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم قال: قد هداك
اللَّه يا عمر، ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات. ثم انصرفت عن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم، ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيته [ (4)
] .
__________
[ (1) ] يجزع: يقطع.
[ (2) ] الرقطاء: الملونة.
[ (3) ] نهمني: زجرني.
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 191- 192 فصل: ما رواه عطاء ومجاهد عن إسلام
عمر.
(4/361)
واعلم أن من أمهات شرائعه وقبولها وانقياده
له عليه السلام، من أوضح الدلائل، وتتضمن هذه القصة أيضا إسلام عمرو بن
العاص، وخالد بن الوليد، رضي اللَّه عنهما.
(4/362)
[الهجرة الأولى إلى
الحبشة]
وخرج البيهقي من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري عن أبي
بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام [المخزوميّ] [ (1) ] ، عن أم سلمة [بنت
أبي أمية بن المغيرة] [ (1) ] ، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنها
قالت: لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وإن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال
أصحابه.
فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم
أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل اللَّه لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه،
فخرجنا إليه أرسالا، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا خير دار إلى خير جار، أمنا
على ديننا ولم نخش منه ظلما.
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا، اجتمعوا على أن يبعثوا إليه فينا
فيخرجونا من بلاده، وليردونا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن
أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيئوا له
هدية على حدة، وقالوا لهم: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم،
ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم
فافعلوا.
فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدّموا إليه هديته وكلموه،
فقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم
في دينهم، فلم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن
كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل.
ثم قدّموا إلى النجاشيّ هداياه، وكانت من أحب ما يهدى إليه من مكة الأذفر [
(2) ] ، فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا: أيها الملك، إن فئة منا سفهاء
فارقوا
__________
[ (1) ] زيادة في النسب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في المرجع السابق: «الأدم» .
(4/363)
دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا
بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجئوا إلى بلادك، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم
وآباؤهم وأعمامهم وقومهم، لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا [ (1) ] وأعلم
بما عابوه عليهم.
فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عينا
[ (1) ] ، وأعلم بما عابوه عليهم، فإنّهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك،
فغضب ثم قال لعمرو: واللَّه لا أردهم إليهم حتى أدعوهم فأكلمهم وانظر ما
أمرهم، قوم لجئوا لبلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما
تقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، لم أخل ما بينهم
وبينهم، ولم أنعمهم عينا.
فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد
اللَّه بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم، فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع
القوم فقال: ماذا تقولون؟ قالوا: وماذا نقول؟ نقول: واللَّه ما نعرف وما
نحن عليه من أمر ديننا، وما جاءنا به نبينا كائن في ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه كان الّذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه عنه،
فقال له النجاشيّ: ما هذا الدين الّذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم ولم
تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟
فقال جعفر: أيها الملك، كنا قوما على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة،
ونسيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، ولا نحل
شيئا ولا نحرمه، فبعث اللَّه إلينا نبيا من أنفسنا، نعرف وفاءه وصدقه
وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد اللَّه وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن
الجوار، ونصلي للَّه ونصوم له، ولا نعبد غيره.
قال: فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ - وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا
المصاحف حوله- فقال له جعفر: نعم فقال: هلم فاتل عليّ ما جاء به، فقرأ
__________
[ (1) ] أي أبصر بهم من غيرهم.
(4/364)
عليه صدرا من كهيعص [ (1) ] ، فبكى النجاشي
حتى أخضل لحيته، وبكوا أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا الكلام
ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى عليه السلام، انطلقوا راشدين، لا
واللَّه لا أردّهم عليكم ولا أنعمكم عينا.
فخرجنا من عنده وكان أبقى الرجلين فينا: عبد اللَّه بن أبي ربيعة، فقال
عمرو ابن العاص: واللَّه لآتيه غدا بما أستأصل به خضراءهم، ولأخبرنه أنهم
يزعمون أن إلهه الّذي يعبد- عيسى ابن مريم- عبد، فقال له عبد اللَّه بن أبي
ربيعة:
لا تفعل، فإنّهم وإن كانوا خالفونا، فإن لهم رحما ولهم حق، فقال: واللَّه
لأفعلن.
فلما كان الغد، دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولا
عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عنه، فبعث إليهم ولم ينزل بنا مثلها، فقال
بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟ فقال: نقول واللَّه
الّذي قاله فيه، والّذي أمرنا به نبينا أن نقول فيه، فدخلوا عليه وعنده
بطارقته، فقال:
ما تقولون في عيسى [ابن] [ (2) ] مريم؟ فقال له جعفر: نقول: هو عبد اللَّه
ورسوله، وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عويدا بين إصبعيه فقال: ما عدا عيسى ابن
مريم ما قلت هذا العويد [ (3) ] ، فتناخرت [ (4) ] بطارقته فقال: وإن
تناخرتم [ (4) ] واللَّه، اذهبوا فأنتم سيوم- والسّيوم الآمنون- من سبكم
غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم (ثلاثا) ، ما أحب أن لي دبرا، أو أني
آذيت رجلا منكم- والدّبر بلسانهم: الذهب- فو اللَّه ما أخذ اللَّه مني
الرشوة حين ردّ عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس
فيه؟ ردّدوا عليهما هداياهما ولا حاجة لي بها واخرجا من بلادي.
__________
[ (1) ] مريم: 1.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (3) ] العويد: تصغير عود.
[ (4) ] نخر: صوّت من خياشيمه.
(4/365)
فرجعا مردودين مقبوحين، مردودا عليهما ما
جاءا به، وأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من
الحبشة ينازعه في ملكه، فو اللَّه ما علمنا حربا قط كان أشد منه فرقا من أن
يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا
ندعوا اللَّه ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائرا، فقال أصحاب رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم بعضهم لبعض: من رجل يخرج [فيحضر] [ (1) ] الوقعة
ينظر على ما تكون؟ فقال الزبير- وكان من أحدثهم سنا-: أنا، فنفخوا له قربة
جعلها في صدره، ثم خرج فسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث
التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم اللَّه ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي
عليه.
فجاءنا الزبير فجعل يليح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا، فقد أظهر اللَّه
النجاشي، فو اللَّه ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشيّ، ثم أقمنا
عنده حتى خرج من خرج منا راجعا إلى مكة، وأقام من أقام. وقد رويت قصة
الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشيّ من طرق عديدة، مطولة ومختصره [ (2) ] .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب ابن أوس،
عن حبيب قال: حدثني عمرو بن العاص، حدثه من فيه إلى أذني قال:
لما انصرفنا من الخندق جمعت رجالا من قريش يسمعون مني فقلت لهم: أترون رأيي
وتسمعون مني؟ قالوا: نعم، قلت: إني أرى أمر محمد يعلو الأمور كلها علوا
شديدا، وإني قد رأيت [رأيا] [ (3) ] ما ترون فيه؟ قالوا: ما هو؟ قلت:
أرى أن ألحق في النجاشي، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فنكون تحت
يديه أحب إلينا [من] [ (3) ] أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا على
محمد، فهم من قد [عرفتموهم] [ (3) ] ولا رأينا منهم إلا خيرا، فقالوا: إن
هذا للرأي، فقلت: فأجمعوا هدايا نهدها له- وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا
الأدم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 301- 304، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 247- 250،
حديث رقم (194) ، (حلية الأولياء) 1/ 115.
[ (3) ] زيادة للسياق.
(4/366)
قال: فجمعنا أدما كثيرا، وخرجنا حتى قدمنا
عليه، فو اللَّه إنا لعنده حتى جاء عمرو بن أمية الضمريّ- وكان رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم قد بعثه في شأن جعفر وأصحابه- قال: فدخلوا عليه ثم
خرجوا من عنده، فقلت لهم: - يعني أصحابه- هذا عمرو بن أمية الضمريّ، فلو قد
دخلت عليه، فقدمنا إليه هداياه فسألته إياه لأعطانيه نقتله، فإذا فعلت ذلك
رأت قريش أني قد أجزأت حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنا نصنع به، فقال: مرحبا بك، هل أهديت لي من
بلادك شيئا؟ قلت: نعم، أهديت لك أيها الملك أدما كثيرا، قال:
فقربته إليه فاشتهاه وأعجبه، فقلت: أيها الملك، إني رأيت رجلا خرج من عندك
الآن، هو رسول رجل هو عدو لنا فأعطنيه فأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا
وخيارنا، فغضب الملك ومد يده فضرب الأنف ضربة، ظننت أنه كاسره.
قال فلو انشقت الأرض عند ذلك لدخلت فيها، فقلت: أيها الملك، واللَّه لو
ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رجلا لتقتله، رسول رجل
يأتيه الناموس الأكبر الّذي يأتي موسى، فقلت: أو كذلك هو؟ قال:
نعم، ثم قال: أطعني واتبعه، فو اللَّه إنه لعلى الحق، وليظهر على من خالفه
كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، فقلت له: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال
نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام.
ثم خرجت من عنده وقد مال رأيي إلى غيره، فلقيت خالد بن الوليد فقلت:
أين يا أبا سليمان؟ قال: واللَّه لقد استقام الميسم، إن الرجل لعلى الحق
وأنا أذهب فأسلم، قلت: وأنا أيضا، قال: فقدمنا المدينة فأتينا رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم، فتقدم خالد فأسلم وبايع، وتقدمت أنا فقلت: وأنا
أبايع، وذكرت ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما أستأخر، فقال: بايع، فإن الإسلام
يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها، فبايعته.
ولأبي نعيم من طريق إسحاق بن راهويه قال: حدثنا النضر بن شميل، حدثنا ابن
عون، عن عمير بن إسحاق قال: استأذن جعفر بن أبي طالب رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم
(4/367)
فقال ائذن لي أرضا أعبد اللَّه فيها لا
أخاف أحدا، فأذن له فأتى النجاشيّ، قال عمير: فحدثني عمرو بن العاص قال:
لما رأيت مكانه حسدته فقلت: لأستقبلن لهذا وأصحابه، فأتيت النجاشي فقلت: إن
بأرضك رجلا ابن عمه بأرضنا، وإنه يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إن
لم تصله وأصحابه لم أقطع إليك هذه النطفة أنا ولا أحد من أصحابي أبدا، قال:
أدعه، قلت إنه لا يجيء فأرسل معي رسولا، فانتهينا إلى الباب فنادينا، فقلت:
اندب لعمرو بن العاص، ونادى هو خلفي، ائذن لحرب اللَّه، فسمع صوته فأذن له
من قبل، فدخل هو وأصحابه، ثم أذن لي فجلست، فذكر أين كان مقعده من السرير،
قال: فذهبت حتى قعدت بين يديه وجعلته خلفي، وجعلت بين كل رجلين من أصحابه
رجلا من أصحابي، فقال النجاشي: بحروا، قال عمير: أي تكلموا.
فقلت: إن بأرضك رجلا ابن عمه بأرضنا، ويزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد،
وإنك إن لم تقتله وأصحابه لم يقطع إليك هذه النطفة، أنا ولا أحد من أصحابي
أبدا، فقال جعفر: صدق، هو ابن عمي وأنا على دينه، فصاح وقال:
أوه! حتى قلت: ما لابن الحبشة لا يتكلم؟ وقال: أناموس مثل ناموس موسى؟
فقال: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ قال: نقول: هو روح اللَّه وكلمته، فتناول
شيئا من الأرض وقال: ما أخطأ في أمره مثل هذا، واللَّه أولى بملكي
لأتبعنكم، وقال: ما أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبدا، أنت
آمن في أرضي، فمن ضربك قتلته، ومن سبّك غرّمته، ثم قال لآذنه: متى استأذنك
هذا فأذن له إلا أن أكون عند أهلي فأخبره أني عند أهلي، فإن أبي فأذن له.
قال: فتفرقنا، ولم يكن أحد ألقاه خاليا أحب إليّ من جعفر، فاستقبلني في
طريق مرة، فنظرت خلفه فلم أر أحدا، ونظرت خلفي فلم أر أحدا، فدنوت منه فقلت
له: أتعلم أني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؟
قال قد هداك اللَّه فاثبت، وتركني وذهب، وأتيت أصحابي فكأنما شهدوه معي،
فأخذوا قطيفة أو ثوبا فجعلوه عليّ حتى غموني فيها، فجعلت أخرج رأسي من
(4/368)
هذه الناحية مرة، ومن هذه الناحية مرة، حتى
أفلتّ وما علي قشره، قال: فمررت بحبشيّة فأخذت متاعها فجعلته على عورتي،
فقالت: كذا وكذا، فقلت: كذا وكذا، قال: فأتيت جعفر فقال ما لك؟ فقلت: أخذ
مني كل شيء حتى ما ترك عليّ قشرة، فأتيت حبشية فأخذت متاعها فجعلته على
عورتي، قال: فانطلق، فانطلقت معه حتى انتهينا إلى باب الملك، فقال جعفر
لآذنه: استأذن لي، فقال:
إنه عند أهله، قال: استأذن لي، فأذن له، فقال: إن عمرا تابعني على ديني،
فقال: كلا، فقال بلى، فقال لإنسان: اذهب معه، فإن فعل فلا يقولن شيئا إلا
كتبته، قال: فجاء فقال: نعم، قال: فجعلت أقول ويكتب كل شيء حتى القدح، قال:
ولو شئت أن آخذ من أموالهم إلى أموالي لفعلت [ (1) ] .
__________
[ (1) ] لم أجد هذا الخبر فيما بين يدي من كتب السيرة، وعلامات الوضع لائحة
فيه.
(4/369)
[إسلام أبي ذر]
وأما إسلام أبي ذر رضي اللَّه عنه، فخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن
بن مهدي قال: حدثنا المثنى بن سعيد، عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي اللَّه
عنه قال: لما بلغ أبا ذرّ مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، قال
لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي هذا الرجل الّذي يزعم أنه يأتيه الخبر
من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله
ثم رجع إلى أبي ذر فقال:
رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني فيما
أردت، فتزوّد وحمل شنة [ (1) ] له فيها ماء حتى قدم مكة.
فأتى المسجد فالتمس النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل
عنه حتى أدركه- يعني الليل- فاضجع فرآه عليّ رضي اللَّه عنه فعرف أنه غريب،
فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته
وزاده إلى المسجد، فظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى
أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليّ فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟
فأقامه فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم
الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه عليّ معه ثم قال له: أما تحدثني ما الّذي أقدمك
هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت، ففعل.
فأخبره فقال: فإنه حق وهو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فإذا أصبحت
فاتبعني، فإنّي إن رأيت شيئا أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت
فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فقال: والّذي نفسي بيده
لأصرخن بها بين ظهرانيهم.
__________
[ (1) ] الشّنّ بفتح الشين: القربة البالية.
(4/370)
فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته:
أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، وثار القوم فضربوه حتى
أضجعوه، فأتى العباس، فأكب عليهم وقال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار،
وأن طريق تجاركم إلى الشام عليهم؟
فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد بمثلها وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس
فأنقذه. هذا لفظ مسلم [ (1) ] .
ولفظ البخاري قريب منه، قال فيه: الّذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من
السماء، وقال: فأطلق الأخ. وقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله؟ ترجم عليه.
إسلام أبي ذر [ (2) ] . وذكره مسلم في المناقب.
وخرج البخاري في صدر كتاب المناقب [ (3) ] ، من حديث أبي قتيبة مسلم بن
قتيبة قال: حدثني المثنى بن سعيد القصير قال: حدثني أبو جمرة قال: قال لنا
ابن عباس رضي اللَّه عنه: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى، قال:
قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي،
فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع،
فقلت: ما عندك؟ فقال واللَّه لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر،
فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا
أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد.
قال: فمر بي عليّ رضي اللَّه عنه فقال: كأنّ الرجل غريب؟ قال: نعم، قال
فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره، فلما
أصبح غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء.
قال: فمر بي عليّ فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قلت: لا، قال:
__________
[ (1) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) : 16/ 265، كتاب فضائل الصحابة، باب (28)
من فضائل أبي ذرّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (1313) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 18/ 219، كتاب مناقب الأنصار، باب (33) إسلام أبي
ذرّ الغفاريّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3861) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 681، كتاب المناقب، باب (10) قصة إسلام أبي ذرّ
الغفاريّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3522) .
(4/371)
انطلق معي، قال: فقال: ما أمرك وما أقدمك
هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإنّي أفعل، قال: قلت
له: بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم
يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه، فقال: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه
فاتبعني، أدخل حيث أدخل، فإنّي إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط
كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه على النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليّ فأسلمت
مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك
ظهورنا فأقبل، فقلت: والّذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم.
فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال: يا معشر قريش! إني أشهد أن لا إله إلا
اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابيء،
فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكبّ علي ثم أقبل عليهم، فقال: ويلكم!
تقتلون رجلا من غفار، ومتجركم وممركم على غفار؟ فأقلعوا عني، فلما أصبحت
الغد رجعت فقلت مثلما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابيء، فصنع بي
مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكبّ عليّ وقال مثل مقالته بالأمس،
فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه اللَّه.
وخرج مسلم في كتاب المناقب من حديث سليمان بن المغيرة، قال: حدثنا حميد بن
هلال عن عبد اللَّه بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار،
وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال
لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك
خالف إليهم أنيس، فجاء خالنا فنثا [ (1) ] علينا الّذي قيل له، فقلت له:
أمّا ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك في ما بعد، فقربنا صرمتنا
فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة
مكة، فناخر أنيس عن صرمتنا [ (2) ] وعن مثلها، فأتينا الكاهن فخيّر أنيسا،
فأتانا
__________
[ (1) ] نثا: أشاع وأفشى.
[ (2) ] الصّرمة بكسر الصاد: القطعة من الإبل أو الغنم.
(4/372)
أنيس بصرمتنا [ (1) ] ومثلها معها.
قال: وقد صلّيت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
بثلاث سنين فقلت:
لمن؟ قال: للَّه تعالى، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي
عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء [ (2) ] حتى تعلوني الشمس،
فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث [ (3) ]
عليّ ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن اللَّه
أرسله! قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر- وكان أنيس أحد
الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو قولهم، ولقد وضعت قوله على
أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، واللَّه إنه لصادق وإنهم
لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فتضعّفت [ (4) ]
رجلا منهم فقلت: أين هذا الّذي تدعونه الصابيء؟ فأشار إلى فقال: الصابيء!!
فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظمه حتى خررت مغشيا عليّ، قال: فارتفعت
حين ارتفعت كأني نصب [ (5) ] أحمر، قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت
من مائها، ولقد لبثت بابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا
ماء زمزم، فسمنت حتى تكسّرت عكن [ (6) ] بطني، وما وجدت على كبدي سخفة [
(7) ] جوع، قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء [ (8) ]
__________
[ (1) ] الصّرمة بكسر الصاد: القطعة من الإبل أو الغنم.
[ (2) ] الخفاء: غثاء السيل.
[ (3) ] راث عليّ: أبطأ عليّ.
[ (4) ] تضعّفت: نظرت إلى أضعفهم فسألته، لأن الضعيف مأمون الغائلة غالبا.
[ (5) ] نصب أحمر: يعني من كثرة الدماء، وهو الحجر الّذي كانت الجاهلية
تنصبه وتذبح عنده فيحمّر بالدم.
قال تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] .
[ (6) ] يعني انثنت وتكسرت لكثرة السمن وانطوت.
[ (7) ] سخفة الجوع بفتح السين وضمها وإسكان الخاء: رقة الجوع وضعفه
وهزاله.
[ (8) ] قمراء: مقمرة طالع قمرها.
(4/373)
إضحيان [ (1) ] ، إذ ضرب على أسمختهم [ (2)
] ، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إسافا ونائلة [قال: فأتتا
عليّ في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى، قال: فما تناهتا [ (3) ] عن
قولهما، قال: فأتتا عليّ فقلت: هن مثل الخشبة [ (4) ] غير أني لا أكني] [
(5) ] فانطلقنا تولولان وتقولان: لو كان هنا أحد من أنفارنا، قال:
فاستقبلهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر رضي اللَّه عنه
وهما هابطان عن الخيل، قالا:
ما لكم؟ قالتا: الصابيء بين الكعبة وأستارها، قالا: ما قال لكما؟ قالتا:
إنه قال كلمة تملأ الفم، قال: فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى
استلم الحجر، وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلّى فلما قضى صلاته
قال أبو ذرّ: وكنت أنا أول من حيّاه بتحية الإسلام، فقلت: السلام عليك يا
رسول اللَّه، فقال: وعليك ورحمة اللَّه، ثم قال: من أنت؟ قال: قلت: أنا من
غفار، قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كره أن انتميت
إلى غفار، فذهبت آخذ بيده فقد عني صاحبه- وكان أعلم به مني- ثم رفع رأسه
فقال: متى كنت هاهنا؟ قال:
[قلت] : كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قال:
قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على
كبدي سخفة جوع، قال: إنها مباركة، إنها طعام طعم، فقال أبو بكر رضي اللَّه
عنه: ائذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
وأبو بكر، فانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف،
وكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم، فقال: إنه قد وجّهت إلي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب،
فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى اللَّه أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم، فأتيت أنيسا
فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت
__________
[ (1) ] إضحيان بكسر الهمزة والحاء: مضيئة، ويقال: ليلة أضحيان، وأضحيانة،
وضحياء، ويوم ضحيان.
[ (2) ] أسمختهم: جمع سماخ، وهو الخرق الّذي في الأذن يفضي إلى الرأس،
يقال: صماخ وسماخ، وبالصاد أفصح، والمراد بأصمختهم هنا آذانهم أي ناموا،
قال تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ [الكهف: 11] أي أنمناهم.
[ (3) ] ما تناهتا: ما انتهتا.
[ (4) ] كناية عن الفرج والذكر، وأراد بذلك سب إساف ونائلة، وغيظ الكفار
بذلك.
[ (5) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) ، وصوبناه من (صحيح مسلم) .
(4/374)
أني قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن
دينك فإنّي قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما،
فإنّي أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم، وكان
يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاريّ وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول اللَّه
المدينة أسلمنا، فقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المدينة فأسلم
نصفهم الباقي، وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول اللَّه: إخوتنا نسلم على ما
أسلموا عليه فأسلموا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: غفار غفر
اللَّه لها، وأسلم سالمها اللَّه [ (1) ] .
وخرجه أيضا [من حديث] حميد بن هلال بهذا الإسناد، وزاد بعد قوله: فاكفني
حتى أذهب فأنظر قال نعم، وكن على حذر من أهل مكة فإنّهم قد شنفوا له
وتجهموا [ (2) ] .
وله أيضا من حديث سليمان بن المغيرة قال: حدثنا حميد عن عبد اللَّه بن
الصامت قال: قال أبو زناد: يا ابن أخي صليت سنين قبل مبعث النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم، قال: قلت: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني اللَّه، واقتصّ
الحديث بنحو حديث سليمان بن المغيرة، وقال في الحديث: فتنافرا إلى رجل من
الكهان. قال:
فلم يزل أخي أنيس يمدحه ويثني عليه حتى غلبه، قال: فأخذنا صرمته فضممناها
إلى صرمتنا.
وقال أيضا في حديثه: قال: فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فطاف بالبيت
وصلى ركعتين خلف المقام، قال: فأتيته فإنّي لأول الناس حيّاه بتحية
الإسلام، قال: قلت:
السلام عليك يا رسول اللَّه، قال: وعليك السلام من أنت؟ وفي حديثه أيضا
فقال:
منذ كم أنت هاهنا قال: قلت: منذ خمس عشرة.
وفيه: فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ألحقني بضيافته الليلة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 253- 256، حديث رقم (197) ، (مسلم بشرح
النووي) :
16/ 260، كتاب الفضائل، باب (28) من فضائل أبي ذر رضي اللَّه عنه، حديث رقم
(132) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : ص 264.
[ (3) ] (المرجع السابق) : ص 264.
(4/375)
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن يحيى [ (1) ]
قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سألوه عن
الروح، فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ (2) ] ، قالوا:
نحن لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة فيها حكم اللَّه، ومن
أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، قال: فنزلت قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ
مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً
[ (3) ] .
وله من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مكة، عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن مشركي قريش بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن
أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم
صفته، وأخبروهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا
من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ووصفا لهم أمره ببعض قوله، فقالت لهم أحبار
يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل
فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان
من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض
ومغاربها وما كان نبؤه؟
وسلوه عن الروح ما هو؟
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش! قد جئناكم
بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، وأخبروهم
بها، فجاءوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: يا محمد! أخبرنا،
فسألوه عن
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : وهو يحيى بن زكريا بن أبي
زائدة، خالد بن ميمون بن فيروز الهمدانيّ الوداعي مولاهم أبو سعيد الكوفي
(تهذيب التهذيب) : 11/ 183.
[ (2) ] الإسراء: 85.
[ (3) ] الكهف: 109، (دلائل البيهقي) : 2/ 269، باب ذكر أسولتهم رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، (تحفة الأحوذي) : 8/ 456- 458، أبواب
تفسير القرآن، سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3349) ، وقال الترمذي في آخره:
هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(4/376)
ما أمروهم به، فقال لهم رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن [ (1) ] ، فانصرفوا
عنه، فمكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث اللَّه
إليه في ذلك وحيا، ولم يأته جبريل [عليه السلام] حتى أرجف أهل مكة وقالوا:
وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة يوما، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا فيها بشيء
مما سألناه عنه، حتى أحزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مكث الوحي
عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبريل من اللَّه عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على
حزنه، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، كذا يقول تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ (2) ] .
قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم افتتح السورة
فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [ (3) ]
، يعني محمدا، إنك لرسول اللَّه نبي تحقيقا لما سألوه من نبوته، وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً [ (3) ] أي معتدلا لا اختلاف فيه،
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [ (4) ] قال: عاجل عقوبة في
الدنيا وعذاب في الآخرة، أي من عند ربك الّذي بعثك رسولا [ (5) ] .
قال البيهقي: كذا في هذه الرواية أنهم سألوا عن الروح أيضا، وحديث ابن
مسعود يدل على أن سؤال اليهود عن الروح ونزول الآية فيه كان بالمدينة [ (6)
] .
__________
[ (1) ] لم يستثن: لم يقل: إلا أن يشاء اللَّه.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 269- 270.
[ (3) ] الكهف: 1- 2.
[ (4) ] الكهف: 2.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 271، (سيرة ابن هشام) : 2/ 139 وما بعدها،
فصل [قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام] .
[ (6) ] حديث عبد اللَّه بن مسعود: أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة
باب (3) ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لا
تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث رقم (7297)
، (فتح الباري) : 13/ 330، وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم،
باب (4) سؤال اليهود النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن الروح وقوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، حديث رقم (2794) ، (مسلم بشرح النووي) : 17/
143.
(4/377)
[ذكر إسلام عمرو بن عبسة السّلمي وما أخبره
أهل الكتاب من بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم]
وخرج أبو نعيم من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن عمرو السّيباني، عن أبي
سلام الدمشقيّ، وعمرو بن عبد اللَّه الشيبانيّ، أنهما سمعا أبا أمامة
الباهليّ يحدّث عمرو بن عبسه السّلمي قال: رغبت عن [عبادة] [ (1) ] آلهة
قومي في الجاهلية ورأيت أنها الباطل، يعبدون الحجارة [ (2) ] والحجارة لا
تضر ولا تنفع، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين فقال:
يخرج رجل من مكة فيرغب عن آلهة قومه [ويدعوهم] [ (3) ] إلى غيرها، وهو يأتي
بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتبعه، فلم يكن لي همّ إلا مكة آتيها فأسأل: هل
حدث فيها أمر؟ فيقولون: لا، فأنصرف إلى أهلي- وأهلي من الطريق غير بعيد-
فأعترض الركبان خارجين من مكة فأسألهم: هل حدث فيها خبر أو أمر؟
فيقولون: لا، فإنّي لقاعد على الطريق [إذ] مرّ بي ركب فقلت: من أين جئت؟
قال: من مكة، قلت: هل حدث فيها خبر؟ قال: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه ودعا
إلى غيرها، قلت: صاحبي الّذي أريد.
فشددت راحلتي فجئت منزلي الّذي كنت أنزل فيه، فسألت عنه فوجدته مستخفيا
بشأنه، ووجدت قريشا عليه جرآء [ (4) ] ، فتلطفت له حتى دخلت عليه فسلمت
عليه
وقلت له: ما أنت؟ قال: نبي اللَّه، قلت: وما نبي اللَّه؟ قال:
رسول اللَّه، قلت: ومن أرسلك؟ قال: اللَّه تعالى، قلت: وبماذا أرسلك؟
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «الحجارة لا تضر..» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «يدعو إلى غيرها» .
[ (4) ] جرآء: جمع جريء.
(4/378)
قال: أن توصل الأرحام، وتحقن الدماء، وتأمن
السبيل، وتكسّر الأوثان، وتعبد اللَّه لا تشرك به شيئا، قال: قلت: نعم ما
أرسلك به، أشهدك أني قد آمنت بك وصدقت، أفأمكث معك، أم ماذا ترى؟ قال: قد
ترى كراهة الناس لما جئت به، فامكث في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا
فاتبعني.
فلما سمعت به خرج إلى المدينة سرت حتى قدمت عليه ثم قلت: يا نبي اللَّه!
أتعرفني؟ قال: نعم، أنت السّلميّ الّذي جئتني بمكة، فقلت لي: كذا وكذا،
وقلت لك: كذا وكذا، فقمت من ذلك المجلس فعرفت أنه لا يكون الدهر أفرغ منه
في ذلك المجلس فقلت: يا نبي اللَّه! أي الساعات أسمع للدعاء؟ قال: جوف
الليل الآخر والصلاة مشهودة متقبلة [ (1) ] [حتى تخرج الشمس] [ (2) ] .
وله من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبد اللَّه بن العلاء قال: حدثني
أبو سلام الأسود، عن عمرو بن عبسة قال: ألقي في روعي أن عبادة الأوثان
باطل، وأن الناس في جاهلية، فقال لي قائل: إن رجلا بمكة يقول نحوا مما
تقول، يقول:
إنه رسول اللَّه.
قال: فقدمت مكة فسألت عن رسول اللَّه فقيل لي: لا تلقاه إلا ليلا عند
الكعبة، فمكثت له بين الكعبة وأستارها، إذ سمعت حسّه وتهليله فخرجت إليه
فقلت ما أنت؟ قال: رسول اللَّه، قلت: اللَّه أرسلك؟ قال: نعم، قلت: بماذا؟
قال: بأن يعبد اللَّه ولا يشرك به شيئا، وتكسر الأوثان وتحقن الدماء وتوصل
الأرحام، قلت: أبايعك عليه؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته، فلقد رأيتني وأنا
في تلك الحال وأنا ريع الإسلام فقلت: من تبعك على هذا الأمر؟ قال: حرّ
وعبد، قلت: أقيم معك؟ قال: بل ألحق بقومك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 257، باب ذكر إسلام عمرو بن عبسة السلمي،
وما أخبره أهل الكتاب من بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (198)
، وأخرجه أيضا من طرق مختلفة: ابن سعد في (الطبقات) : 4/ 217، ابن عبد البر
في (الاستيعاب) : 3/ 1192، ترجمة رقم (1937) ، والحاكم في (المستدرك) : 3/
714- 715، حديث رقم (6584/ 2182) ، وقال في آخره:
هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (خ) فقط.
(4/379)
فاقدم عليّ.
قال: فرجعت إلى قومي فمكثت فيهم حتى إذا سمعت بمهاجره إلى المدينة قدمت
عليه، فسلمت فردّ عليّ، فقلت: أتعرفني يا رسول اللَّه؟ قال: نعم، أنت
السلمي القادم عليّ بمكة.
(4/380)
تنبيه مفيد
كتب أبو بكر بن فهد الهاشمي سوى القرآن معجزات شهيرات، وآيات على صدق
نبوّته بينات، وجدت منه صلّى اللَّه عليه وسلم في مواطن مختلفة، وأحوال
متغايرة، بلغ مجموعها التواتر الّذي يورث علما ضروريا، كشجاعة عمر بن
الخطاب رضي اللَّه عنه، وجود حاتم الطائي، ومع ذلك فهذا القرآن الكريم
بأيدينا، نتلوه بألسنتنا، ونحفظه في صدورنا، لا نرتاب فيه، معجزة قائمة
أبدا، ينادي على منار التحدي:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ [ (1) ] ، ثم إذعان الملوك للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم مع ضعف
حاله وعدم ماله، وإقرار أهل الكتاب بصفته، واجتماع العرب [بأسرها] [ (2) ]
على نصرته وموالاته، بعد تنافرها وتقاطعها، وتدابرها في ذات نفسها، وشدة
محاربتها له، ومبالغتها في عداوته، من أكبر الدلالة على صدقة صلّى اللَّه
عليه وسلم، ومن أراد أن يعلم كيفية نقل الكافة الّذي لا يجوز فيه الغلط،
ولا يمكن فيه الكذب، ولا يدخله الخلل ولا الخطأ بوجه من الوجوه البتة.
فينظر كيف نقل القرآن الكريم، وكيف نقلت أحوال رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم، وأعلامه التي ذكرت في القرآن، من الرمية التي رماها، وإنذاره
بالغيوب، ودعائه اليهود إلى تمني الموت، ودعائه النصارى إلى المباهلة،
ودعائه جميع مشركي العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وتوبيخهم بالعجز،
وتوبيخ اليهود بأنهم لا يتمنوا الموت، علما منه صلّى اللَّه عليه وسلم
بأنهم عاجزون عن ذلك، ممنوعون عن النطق به.
وقصة رمي أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، فإن هذا نقله اليماني، وهو عدوّ مضر
الذين هم رهط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأهله، ونقله المضري
واليماني، وهم كلهم أعداء متضادون متنافرون.
__________
[ (1) ] البقرة: 23.
[ (2) ] زيادة للسياق.
(4/381)
ومع ذلك فإن كل من في الأرض ما بين أقصى
السند إلى أقاصي خراسان، إلى ثغور الديلم والجزيرة والشام، إلى منتهى بلاد
الأندلس، إلى سواحل البربر إلى بلاد السودان، وما بين ذلك من الأمم، كلهم
ينقلون القرآن كما هو، ولم يكن ممنوعا ولا مكتوما عن أحد.
وكل من ذكرناه كانوا أعداء متباينين، وأحزابا متجانبين، وقوما لقاحا لا ملك
عليهم لأحد عليهم، فانقادوا لظهور الحق، وآمنوا برسوله صلّى اللَّه عليه
وسلم وهم لا يخافون منه، كباذان الملك بصنعاء اليمن، وحيفر وعياذ ابني
الجلندي، والملكين بعمان، والنجاشي ملك الحبشة، وصاروا إخوة كبني أب وأم،
وانحل كل من أمكنه منهم عن ملكه، وأرسله إلى ولاة رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم، طوعا، كذي الكلاع وذي ظليم، وذي روذ، وذي مران وغيرهم من ملوك
اليمن، وملك عمان والبحرين، وشهر بن باذام، إلا من لا يمكنه ذلك خوف قومه
كالنجاشي، وهذا أمر مشهور منقول بنقل الكواف، وأذعن سائر من ذكرنا بغلبة
سيوف الحق، دون مال أعطاه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا ملك منّى به من نصره،
بل حضّهم بأجمعهم على الصبر، وأنذر بالأثرة عليهم أنصاره.
ولم يكن إسلام الأنصار الذين هم الأوس والخزرج، وإسلام أكثر أهل مكة، وأهل
البحرين، إلا لما بهرهم من المعجزات، وهو صلّى اللَّه عليه وسلم حينئذ مطرد
مشرد، لا ملك له، ولا عوان، لا يقرأ ولا يكتب، قد نشأ في بلاد الجهل، بينما
لا مال له، بل كان يرعى غنم قومه على قراريط يتقوت بها، فعلمه اللَّه تعالى
الحكمة دون توسط معلم، ولا تدرج يتعلم، وعصمه من كل ما أراد على كثرة
أعدائه، دون حرس ولا ستور ولا أعوان، وحماة الدنيا وزينتها، واختار تعالى
له أرفع الدرجات من الدعاء إلى ربه وإلى دينه فقط.
فهذه هي الحقائق المشهورة، لا ما تدعيه النصارى فيما بأيديهم من الإنجيل
أنه منقول بنقل الكواف، وأن الملوك دخلت في دينهم اختيارا فإن الأمر بخلاف
ذلك، وبيانه أن الإنجيل ما هو إلا كتاب كتبه أربعة: اثنان من الحواريين
(4/382)
بزعمهم، وهما متى ويوحنا، واثنان من
التلامذة، وهما [لوقا] [ (1) ] الطبيب تلميذ شمعون الصفا، والآخر مارقس
تلميذ شمعون أيضا، وزعموا أن أناجيلهم الأربعة منقولة عن هؤلاء الأربعة
بنقل الكواف.
وزعموا أيضا أن كتابها عندهم معصومون، وأنهم أجلّ من الأنبياء، وفي صدر
إنجيل متى نسب المسيح عليه السلام، وقد ساقه رجلا رجلا، حتى وقف على يوسف
النجار، فذكر نيفا وخمسين اسما، فأخرج نسبه إلى الملوك من ولد صيعام ابن
سليمان بن داود عليهما السلام، وبعد صدر من إنجيل لوقا هذا النسب بعينه
بأسماء غير تلك الأسماء، وذكر نحو أربعين اسما فقط، وأخرج نسبه إلى ماثان
بن داود عليهما السلام.
ومثل هذا من التناقض الفاحش لا يقع من قوم معصومين، وإنما يقع من الآحاد
الذين يجوز عليهم الغلط والنسيان وتعمد الكذب، وما كان منقولا كهذا فلا
يتدين به عاقل في توحيده، ولا فيما يوجب يقين العلم، وإنما يؤخذ بمثل هذا
فيما جرى مجرى الشهادات التي تعيد العلم دون العمل.
وأول ملك تنصر قسطنطين بعد أزيد من مائتي عام وستين عاما شمسية من رفع
المسيح عليه السلام، فأي آية رأى وشاهد بعد هذه المدة الطويلة، وقد علم كل
ذي بصر بالأخبار سبب [تنصره] [ (1) ] ، وهو أن أمه كانت نصرانية بنت
نصراني، تزوجها أبوه فولدت له قسطنطين وربته على دينها، وقد علم كل ذي عقل
قوة تأثير النشأة فيمن نشأ على دين من الأديان، وما استطاع إظهار النصرانية
حتى دخل على رومة مسيرة شهر ونصف، وبني [برنطية] [ (2) ] فغرقت
بالقسطنطينية، ثم أكره الناس على النصرانية بالسيف [والعصا] [ (1) ] ، وكان
من عهوده المحفوظة ألا يولي أحدا من الناس ولاية من الولايات إلا من تنصّر،
والناس سراع إلى الدنيا، نافرين عما يؤذيهم.
ولكن هذا من دعوى النصارى مناف إلى ما يدّعونه من أنهم بعد هذه المدة
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] كذا في (خ) ولم أجد لها توجيها ولعلها «بزنطية» .
(4/383)
الطويلة، وبعد خراب بيت المقدس مرة بعد
مرة، وبقائه خرابا لا ساكن فيه أزيد من مائتي عام وسبعين عاما، وجدوا الشوك
الّذي وضع على رأس المسيح عليه السلام، ووجدوا المسامير التي ضربت في يده،
والدم الّذي طار من جسده، والخشبة التي صلب عليها بزعمهم.
فلا يدري العاقل ممن العجب؟ أممن اخترع مثل هذه الكذبة، وتجاسر على الحديث
بها؟ أم ممن قبلها وصدق بها ودان باعتقادها؟ فيا ليت شعري، كيف بقي ذلك
الشوك وذلك الدم وتلك المسامير والخشبة طول تلك المدة؟ وأهل ذلك مطرودون
مقتولون بالسيف والرجم بالحجارة والإحراق بالنار لقتل من تستّر بالزندقة في
زماننا.
ومع ذلك فإن تلك المدينة خراب منذ عشرات الأعوام لم يسكنها أحد إلا السباع
والوحش، وقد شوهد ملوك جلة لهم أعوان وأتباع وأولاد، وشيع وأقارب صلبوا،
فما مضت إلا مدة يسيرة حتى لم يبق لأخشابهم التي صلبوا عليها أثر، فكيف
بأمر لا طالب له، وبدول قد انقطعت، وبلاد قد أقفرت وخلت، ونسيت أخبارها.
وأما ديانة اليهود: فإنه لم تصف نيّات بني إسرائيل- وموسى عليه السلام حيّ
بن أظهرهم- وما زالوا مائلين إلى عبادة الأوثان، وتكذيب شريعتهم كلهم بعد
وفاته عليه السلام، إلى انقطاع دولتهم، فكيف أن [يذعن] [ (1) ] لهم غيرهم؟
ولا خلاف بين اليهود والنصارى وسائر الملل كلها في أن بني إسرائيل كانوا في
مصر في أشد عذاب يمكن أن يكون من قبل أولادهم، وتسخيرهم في عمل الطوب،
والضرب العظيم، والذل الّذي لا يصبر عليه كلب مطلق، فأتاهم موسى عليه
السلام يدعوهم إلى فراق هذا الأسر الّذي قتل النفوس أخف منه، وإلى الحرية
والملك والغلبة والأمن، ومن المعلوم أن من كان في أقل من تلك الحال فإنه
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(4/384)
يسارع إلى كل من طمع على يديه بفرح، وأن
يستجيب إلى كل ما دعي إليه، وإن أكثر من في هذا البلاء يستجيز عبادة من
أخرجه منه إلى العز والحرمة، ومع هذا فقد كان بنو إسرائيل أهل عسكر مجتمع،
يمكن منهم التواطؤ.
وأما عيسى عليه السلام فما اتبعه إلا نحو اثني عشر رجلا معروفين ونساء
قليل، وعدد لا يبلغ المائة، وكانوا مع هذه القلة مشردين غير ظاهرين، ولا
يقوم بمثل هذا ضرورة يقين العلم.
وأما محمد صلّى اللَّه عليه وسلم فلا يختلف أحد من أهل شرق الأرض وغربها،
في أنه أتى إلى قوم لئام، لا يقرون ملك، ولا يطيعون لأحد، ولا ينقادون
لرئيس، نشأ على هذا أجدادهم وأسلافهم، منذ ألوف من الأعوام، وقد سرى الفخر
والنخوة، والكبر والظلم، والأنفة في طباعهم، وهم أعداد عظيمة، قد [ملكوا] [
(1) ] جزيرة العرب، وهي نحو مسيرة شهرين في شهرين، فدعاهم بلا مال ولا
أتباع، بل قد خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة، ومن
الحرية إلى جري الأحكام عليهم، ومن طول الأيدي بقتل من أحبوا، أو أخذ ماله
إلى القصاص من النفس [والأعضاء] [ (1) ] ، واللطمة من أجلّ من فيهم لأقل
علج [ (2) ] دخل فيهم، وإلى إسقاط الأنفة والفخر، وإلى ضرب الظهور بالسياط
أو بالنّعال إن شربوا خمرا، أو إن قذفوا إنسانا، وإلى الرجم بالحجارة حتى
يموتوا إن زنوا.
وانقاد أكثرهم طوعا، ما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة فقط، فتبدلت به صلّى
اللَّه عليه وسلم طبائعهم من الظلم إلى العدل، ومن الجهل إلى العلم، ومن
العسف والقسوة إلى الرأفة والرحمة، وسيرة العدل العظيم الّذي لا يبلغه
أكابر الفلاسفة.
فقد رأى الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وكيف كانت
طاعة العرب لهما، كل ذلك بلا رزق جار، ولا عطاء [دائر] [ (1) ] ، ولا غلبة
ملوكية، إلا بغلبة من اللَّه تعالى على نفوسهم، وكسر لطبائعهم، كما قال
تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] العلج: الرجل من كفار العجم وغيرهم.
(4/385)
بينهم [ (1) ] ، ثم بقي صلّى اللَّه عليه
وسلم كذلك بين أظهرهم بلا حرس ولا ديوان جند ولا بيت مال، معصوما محروسا.
وهكذا نقلت أعلامه ومعجزاته بخلاف معجزات سائر الأنبياء، فإنّها لم تصح إلا
ما نقله هو صلّى اللَّه عليه وسلم، لصحة الطريق إليه، وارتفاع دواعي الكذب
والعصبية جملة عن أتباعه فيه، فلقد كان جمهورهم غريبا من غير قومه، ولا
يمنيهم بدنيا، ولا وعدهم بملك، وهذا ما لا ينكره أحد من الناس.
وأيضا
فإن ابتداء أمره صلّى اللَّه عليه وسلم أنه وقف على الصفا ونادى:
يا صباحاه ... يا صبحاه، فجاءوا يهرعون، فقالوا: ما دهمك؟ ما طرقك؟ قال:
ما تعرفونني؟ قالوا: محمد الأمين، قال: أرأيتم إن قلت لكم [إن خيلا تغير
عليكم خلف هذا الوادي] [ (2) ] ، وإن عسكرا قد غشيكم من الصبح، أكنتم
تصدقوني؟
قالوا: اللَّهمّ نعم، ما جربنا عليك كذبا قط، قال: [فإنّي نذير لكم بين يدي
عذاب شديد من اللَّه، قولوا: لا إله إلا اللَّه، واشهدوا أني رسول اللَّه،
واتبعوني يحببكم اللَّه، فإنه تعالى ناصري] [ (2) ] ، وقال لي: استخرجهم
كما استخرجوك، وابعث جيشا أبعث خمسة أمثاله، وضمن لي أنه ينصرني بقوم منكم،
وقال لي:
قاتل بمن أطاعك من عصاك، وضمن لي أن يغلب سلطاني سلطان كسرى وقيصر.
وقالت له قريش مرة: أتابعك من هؤلاء الموالي، كبلال وعمار وصهيب خير من قصي
بن كلاب وعبد مناف وهاشم بن عبد شمس؟ فقال: نعم واللَّه، لئن كانوا قليلا
ليكثرن، ولئن كانوا وضعاء ليشرفن حتى يصيروا نجوما يهتدى بهم ويقتدى،
فيقال: هذا قول فلان وذكر فلان، فلا تفاخروني بآبائكم الذين موتوا في
الجاهلية، فما يذهب الجعل بمنخره خير من آبائكم الذين موتوا فيها، فاتبعوني
أجعل لكم أنسابا، والّذي نفسي بيده، لتقسمن كنوز كسرى وقيصر، فقال له عمه
أبو طالب: أبق عليّ وعلى نفسك، وظن صلّى اللَّه عليه وسلم أنه خاذله، فقال:
يا عم!
__________
[ (1) ] الأنفال: 63.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق وحيث أن سياق هذه الفقرة مضطرب فقد
صوبناه من (البحر المحيط) :
10/ 566، تفسير سورة المسد.
(4/386)
واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في
شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه ما تركته، ثم
استعبر باكيا ثم قام، فلما ولى ناداه: أقبل يا ابن أخي، فقال: اذهب وقل ما
شئت، فو اللَّه لا أسلمتك لسوء أبدا.
هذا، وقد كان صلّى اللَّه عليه وسلم يذكر ما لقي من قومه من الجهد والشدة،
فقال لقد مكثت أياما وهذا صاحبي- يشير إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه- بضع عشر
ليلة، ما لنا طعام إلا الثريد في شعيب الجبال.
وكان عتبة بن غزوان يقول إذا ذكر البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة: لقد
مكثنا أياما ما لنا طعام إلا ورق البشام [ (1) ] ، أكلناه حتى تقرحت
أشداقنا، ولقد وجدت يوما تمرتين فجعلتهما بيني وبين سعد، وما فينا اليوم
أحد إلا وهو أمين على كورته، وكانوا يقولون فيمن وجد تمرة فقسمها بينه وبين
صاحبه: إن أسعد الرجلين من حصلت له النواة في قسميها يلوكها يومه وليلته،
وعدم القوت.
وكذا
قال صلّى اللَّه عليه وسلم: لقد رعيت غنيمات أهل مكة لهم بالقراريط،
وجاء صلّى اللَّه عليه وسلم يوما ليدخل الكعبة، فدفعه عثمان بن طلحة
العبدولي، فقال: لا تفعل يا عثمان! فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت، فقال
له: [ذلت] [ (2) ] يومئذ قريش وقلّت، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: بل كثرت
وعزّت.
ثم غزا صلّى اللَّه عليه وسلم تبوك في ثلاثين ألفا، فهذا من قبل اللَّه عزّ
وجلّ، الّذي يجعل من لا شيء كل شيء، ويجعل كل شيء مالا شيء، يجمد المائعات،
ويميع الجامدات، يجمد البحر، ثم يفجر الصخر، وما مثله صلّى اللَّه عليه
وسلم في ذلك إلا كمثل من قال: هذه الزجاجة الرقيقة السخيفة، أصك بها هذه
الجبال الصلدة الصلبة المتينة، فقرضها ونقضها، وهذه النملة الضعيفة
اللطيفة، تهزم العساكر الكثيرة المعدة [ (3) ] .
وكذا حقيقة أمره صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى قال عروة بن مسعود الثقفي
لقريش- وكان
__________
[ (1) ] شجر عطر الرائحة، ورقه يسوّد الشعر، ويستاك بقضبه. (ترتيب القاموس)
: 1/ 279.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] المعدّة: من العتاد وآله الحرب.
(4/387)
رسولهم إليه صلّى اللَّه عليه وسلم
بالحديبية-: لقد وردت على النجاشي وقيصر وكسرى، ورأيت حديثهم وأتباعهم،
[فما] [ (1) ] رأيت أطوع ولا أوقر ولا أهيب من أصحاب محمد لمحمد، [هم] [
(1) ] حوله وكأن الطير على رءوسهم، فإن أشار بأمر بادروا إليه، وإن توضأ
اقتسموا وضوءه، وإن تنخم دلكوا بالنخامة وجوههم وجلودهم، وكانوا له صلّى
اللَّه عليه وسلم بعد موته أطوع منهم في حياته، حتى لقد قال بعض أصحابه: لا
تسبوا أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فإنّهم قوم أسلموا من خوف اللَّه،
وأسلم الناس من خوف أسيافهم.
فتأمل- رحمك اللَّه- كيف استفتح صلّى اللَّه عليه وسلم دعوته وهو ضعيف وحده
بأن قال:
هذا سيكون فكان كما قال، بحيث رآه العدوّ والوليّ، وما كان مثله في ذلك إلا
مثل من قال: هذه الهباءة تعظم وتصير جبلا يغطي الأرض كلها، ثم أنذر الناس
بها في حال ضعفها، فكان كما أنذر، فعلم أن ذلك من فعل اللَّه الّذي لا يقدر
عليه سواه، ولا يفعله إلا إياه جلّت قدرته.
فإن سيرة محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه
ضرورة، وتشهد أنه رسول اللَّه، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى، وذلك
أنه صلّى اللَّه عليه وسلم نشأ في بلاد الجهل، لا يقرأ ولا يكتب، ولا خرج
عن تلك البلاد إلا مرتين: إحداهما وهو صبي مع عمه إلى أول الشام، والأخرى
أيضا إلى أول الشام، ولم يطل بها المقام، ولا فارق قومه، ثم أوطأه اللَّه
تعالى رقاب العرب فلم تتغير نفسه، ولا مالت به.
ومات صلّى اللَّه عليه وسلم ودرعه- ذات الفضول- مرهونة في أصواع [ (2) ] من
شعير، [و] [ (3) ] لم يتسبب صلّى اللَّه عليه وسلم إلى شيء من أذى اليهود-
وهم أعداؤه- ولا يعرض لذم أحد منهم وإلى ماله، بل ودا [ (4) ] الأنصاري من
عند نفسه مائة ناقة، وهو صلّى اللَّه عليه وسلم يحتاج إلى بعير واحد يتقوى
به، وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا بوجه من
الوجوه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] جمع صاع.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] ودا: دفع دية.
(4/388)
ولا يقتضي أيضا هذا ظاهر السيرة في
السياسة، فصح يقينا أنه صلّى اللَّه عليه وسلم متبع لما أمره به ربه تعالى،
وسواء كان ذلك الأمر مضرا به في ظاهر الأمر غاية الإضرار أو غير مضر به،
وهذا أحب الناس إليه، وابن عم أبيه من أخص الناس به، وهو مع ذلك زوج ابنته
التي لا ولد له غيرها، وله منها ابنان ذكران، وكل من عمه وابن عمه اللذين
هما أقرب الناس إليه، له من الفضل والسياسة والعقل وخلال الخير ما يستحق به
سياسة العالم كله، فلم يحابهما وهما من أحب الناس إليه وأشدهم [غنى] [ (1)
] عنه، إذ كان غيرهما متقدما عليهما في الفضل، وإن كان بعيد النسب عنه، بل
فوض الأمر إليه قاصدا إلى أمر الحق، واتباع ما أمر به، ولم يورث صلّى
اللَّه عليه وسلم ورثته فلسا فما فوقه، وهم أحب الناس إليه، وأطوعهم له،
وهذه أمور لمن تدبرها كافية مغنية.
قال الأعمش عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: ذكروا عند عبد
الرحمن- يعني ابن مسعود رضي اللَّه عنه- أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم
وإيمانهم، فقال عبد اللَّه: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه، والّذي لا إله
غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، [ثم قرأ] [ (1) ] : الم* ذلِكَ
الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ (2) ] إلى قوله: يُؤْمِنُونَ [بِالْغَيْبِ] [
(3) ] . قال الحاكم: فقد صح ما ذكرنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
وشريعته التي أتى بها، هي التي وضحت براهينها، واضطرت دلائلها إلى تصديقها،
والقطع على أنها الحق الّذي لا حق سواه، وأنها من اللَّه تعالى الّذي لا
دين له في العالم غيره، والحمد للَّه الّذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي
لولا أن هدانا اللَّه، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] البقرة: 1- 3.
[ (3) ] زيادة لتصويب الآية الكريمة.
(4/389)
|