إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

 [المجلد الثامن]

[تتمة الفصل في طب رسول اللَّه]
بِسْمِ اللَّهِ الرّحمنِ الرَّحيمِ

ليس فيما حرّم شفاء
خرّج مسلم من حديث شعبة، عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل، عن أبيه وائل الحضرميّ، أن طارق بن سويد الجعفي، سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الخمر فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء، ولكنه داء [ (1) ] . [أخرجه الترمذي من هذه الطريق وقال: إنها ليست بدواء، ولكنها داء] .
وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرّجه أبو داود، ولفظه: عن علقمة بن وائل، عن أبيه قال: ذكر طارق ابن سويد، أو سويد بن طارق، سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الخمر، فنهاه، ثم سأله فنهاه، فقال له: يا نبي اللَّه! إنها دواء، فقال: لا، ولكنها داء [ (3) ] .
وله من حديث إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبى عمران الأنصاري، عن أم الدرداء [عن أبى الدرداء] رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 162- 163، كتاب الأشربة، باب (3) تحريم التداوي بالخمر وبيان أنها ليست بدواء، حديث رقم (1984) ، قال الإمام النووي: هذا دليل على تحريم اتخاذ الخمر، وفيه التصريح بأنها ليست بدواء فيحرم التداوي بها لأنها ليست بدواء- فكأنه يتناولها بلا سبب، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، أنه يحرم التداوي بها، وكذا يحرم شربها للعطش، وأما إذا غصّ بلقمة، ولم يجد ما يسيغها به إلا خمرا، فيلزمه الإساغة بها، لأن حصول الشفاء بها حينئذ مقطوع به، بخلاف التداوي- واللَّه تعالى أعلم، (شرح النووي) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 339، كتاب الطب، باب (8) ما جاء في كراهية التداوي بالمسكر، حديث رقم (2046) ، وما بين الحاصرتين مستدرك من هامش الأصل (ج) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 4/ 304- 306، كتاب الطب، باب (11) في الأدوية المكروهة، حديث رقم (3873) .

(8/3)


تداووا بحرام [ (1) ] .

السُّعوط [ (2) ]
خرّج البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم، وأعطى الحجام أجره، واستعط. لفظهما فيه سواء [ (3) ] .
وللبخاريّ من حديث [ابن عيينة قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3874) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1157، كتاب الطب، باب (27) النهى أن يتداوى بالخمر، حديث رقم (3500) ، عن طارق بن سويد من غير شك، ولم يذكر أباه.
وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 37، كتاب الطب، باب (12) في الخمر يتداوى به والسّكر، حديث رقم (23481) ، وفيه: «إنها داء وليست بدواء» .
وحديث رقم (23482) ، وفيه: «إن اللَّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
وحديث رقم (23488) من حديث الزهري عن عائشة، وفيه «من تداوى بالخمر فلا شفاه اللَّه» .
[ (2) ] السّعوط، والنّشوق والنشوع في الأنف، سعطه الدواء يسعطه ويسعطه سعطا، والضم أعلى، والصاد في كل ذلك لغة عن اللحياني. (لسان العرب) : 7/ 314.
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 182، كتاب الطب، باب (9) السعوط، حديث رقم (5691) . قوله:
«، استعط» أي استعمل السعوط، وهو أن يستلقي على ظهره، ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه، ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب، ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس. (فتح الباري) ، وأخرجه مسلم في السلام، حديث رقم (76) .
وأخرجه كل من أبى داود في (السنن) : 4/ 200، كتاب الطب- باب (8) في السعوط، حديث رقم (3867) مختصرا.
والترمذي في (السنن) : 4/ 430، كتاب الطب، باب (9) ما جاء في السعوط، حديث رقم (2047) ، (2048) بسياقة أتم.

(8/4)


عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية: يستعط به العذرة، ويلدّ به من ذات الجنب [ (1) ] ،
ودخلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بابن لي لم يأكل الطعام، فبال عليه، فدعا بماء، فرشّ عليه [ (2) ] .
وفي لفظ لهما: عن أم قيس قالت: دخلت بابن لي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد أعلقت عنه من العذرة، فقال: [علام] [ (3) ] تدغرن أولاد كن بهذا العلاق؟
عليكنّ بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية، منها: ذات الجنب يسعط من العذرة، ويلدّ من ذات الجنب.
فسمعت الزهري يقول: بين لنا اثنين، ولم يبين لنا خمسة، [قال على بن المديني] [ (4) ] : قلن لسفيان: فإن معمرا يقول: أعلقت عليه.. قال: لم يحفظ، إنما قال: أعلقت عنه، حفظته من في الزهري [ (4) ] .
ووصف سفيان: الغلام يحنك بالأصبع، وأدخل سفيان في حنكه، يعنى دفع حنكه بإصبعه، ولم يقل: أعلقوا عليه شيئا. ذكره البخاري في باب اللدود، ولم يذكر فيه دخولها عليه بالابن الّذي لم يأكل الطعام. وقد ذكره
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 183، كتاب الطب، باب (10) السعوط بالقسط الهندي والبحري، حديث رقم (5692) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (5693)
[ (3) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (4) ] زيادة للسياق من (الأصلين) .
(فتح الباري) : 10/ 204- 205، كتاب الطب، باب (21) اللدود، حديث رقم (5713) ، وتمامه: «ووصف سفيان الغلام يحنك بالإصبع، وأدخل سفيان من حنكه إنما رفع حنكه بإصبعه، ولم يقل أعلقوا عنه شيئا.
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب السلام، باب (28) التداوي بالعود الهندي، وهو الكست، حديث رقم (87) .
واللّدود: هو الدواء الّذي يصب في أحد جانبي فم المريض.

(8/5)


في الّذي قبله، والطريق واحدة، وكرره البخاري في مواضع [ (1) ] .
وأخرجه مسلم من طرق، في بعضها: عليكن بهذا العود الهندي، يعنى الكست، يريد: القسط [ (2) ]
، ولأبى بكر بن أبى شيبة، من حديث الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر رضى اللَّه عنه، قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أم سلمة، وعندها صبي [يندر] منخراه دما، فقال: ما هذا؟ قالوا: به العذرة، فقال: علام تدغرن أولادكن؟ إنما يكفى إحداكن أن تأخذ قسطا هنديا فتحه بماء سبع مرات، ثم توجره إياه، قال: ففعلوه، فبرأ [ (3) ] .

ذات الجنب [ (4) ]
خرّج الترمذي من حديث معاذ بن هشام، قال: حدثني أبى، عن قتادة، عن أبى عبد اللَّه، عن زيد بن أرقم رضى اللَّه عنه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينعت الزيت والورس من ذات الجنب [قال قتادة: يلدّه ويلدّه من الجانب الّذي
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 451، كتاب السلام، باب (28) التداوي بالعود الهندي، وهو الكست، حديث رقم (2214) مختصرا، والحديث السابق سياقته أتم.
قال الإمام النووي: فمعنى تدغرن أولادكن أنها تغمز حلق الولد بإصبعها، فترفع ذلك الموضع وتكبسه.
وأما العلاق فيفتح العين، وهو مصدر أعلقت عنه، ومعناه أزلت عنه العلوق، وهي الآفة والداهية، والإعلاق هو معالجة عذرة الصبى، وهي وجع حلقه.
[ (3) ] (المصنف) : 5/ 32، كتاب الطب، باب (4) ما رخص فيه من الأدوية، حديث رقم (23427) .
[ (4) ] ذات الجنب اسم يقع على الشوصة، وعلى السل، وعلى كل مرض يضجعه على جنبه، ويختلف الدواء فيها، وتفصيله آخره هذا الباب.

(8/6)


يشتكيه] [ (1) ] . قال أبو عيسى: هذا حديث [حسن] [ (1) ] صحيح، وأبو عبد اللَّه اسمه ميمون، هو شيخ بصرى [ (2) ] .
ومن حديث شعبة، عن خالد الحذاء، أخبرنا ميمون أبو عبد اللَّه قال:
سمعت زيد بن أرقم قال: أمرنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت [ (3) ] ، قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 355، كتاب الطب، باب (28) ما جاء في دواء ذات الجنب، حديث رقم (2078) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2079) ، وأخرجه النسائي في (الكبرى) ، في الطب، وابن ماجة في (السنن) : 2/ 1148، كتاب الطب، باب (17) دواء ذات الجنب، حديث رقم (3467) ، وحديث رقم (3468) .
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 224- 225، كتاب الطب، حديث رقم (7443) وقال:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : صحيح، وحديث رقم (7444) ، وقد سكت عنه الذهبي في (التلخيص) ، وحديث رقم (7445) ، وقال عنه الذهبي في (التخليص) : أسنده معمر عن الزهري، قلت: وميمون أبو عبد اللَّه البصري ضعيف.
قال العلامة ابن القيم: وذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي. فالحقيقي: ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع.
وغير الحقيقي: ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية، تحتقن بين الصّفاقات، فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي، إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود، وفي الحقيقي ناخس.
قال صاحب (القانون) : قد يعرض في الجنب، والصّفاقات، والعضل التي في الصدر، والأضلاع، ونواحيها أورام مؤذية جدا موجعة، تسمى شوصة وبرساما، وذات الجنب.
وقد تكون أيضا أو جاعا في هذه الأعضاء ليست من ورم، ولكن من رياح غليظة، فيظن أنها من هذه العلة، ولا تكون منها.
قال: واعلم أن كلّ وجع في الجنب قد يسمى ذات الجنب اشتقاقا من مكان الألم، لأن معنى ذات الجنب: صاحبة الجنب، والغرض به هاهنا وجع الجنب، فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان نسب إليه، وعليه حمل كلام بقراط في قوله: إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام.

(8/7)


صحيح، [لا نعرفه إلا من حديث ميمون عن زيد بن أرقم. وقد روى زيد ابن أرقم عن ميمون غير واحد من هذا الحديث] [ (1) ] وذات الجنب: السل.
__________
[ () ] قيل: المراد به كل من به وجع جنب، أو وجع رئة من سوء مزاج، أو من أخلاط غليظة، أو لذاعة من غير ورم ولا حمى.
ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض: وهي الحمى والسعال، والوجع الناخس، وضيق النفس، والنبض والمنشارى، [وهذا الوصف ينطبق على الوجع الصدرى، نتيجة التهابات الرئة، ويعالج الآن بالأدوية المضادة للميكروبات، مثل أقراص السلفا، وحقن البنسلين، قاله الدكتور الأزهري] .
والعلاج الموجود في الحديث ليس هو لهذا القسم، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة، فإن القسط البحري- وهو العود الهندي على ما جاء مفسرا في أحاديث أخر- صنف من القسط إذا دقّ ناعما، وخلط بالزيت المسخن، ودلك به مكان الريح المذكور أو لعق، كان دواء موافقا لذلك، نافعا له، محللا لمادته مذهبا لها، مقويا للأعضاء الباطنة، مفتحا للسّدد، والعود المذكور في منافعه كذلك.
قال المسبّحي عيسى بن يحيى الجرجاني أبو سهل [طبيب حكيم، توفى سنة (390) هـ، وله من العمر (40) سنة] : العود حار يابس، قابض يحبس البطن، ويقوى الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح، ويفتح السّدد، نافع من ذات الجنب، ويذهب فضل الرطوبة، والعود المذكور جيد للدماغ.
قال: ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضا إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية، لا سيما في وقت انحطاط العلة، واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 81- 83، فصل في هديه صلّى اللَّه عليه وسلّم في علاج ذات الجنب مختصرا.
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .

(8/8)


الكحل
خرّج أبو داود من حديث زهير قال: أخبرنا عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: البسوا من ثيابكم البياض، فإنّها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الأثمد، يجلو البصر، وينبت الشعر [ (1) ] .
وخرّجه قاسم بن أصبغ، وابن أيمن من حديث أبى عوانة، عن عبد الرحمن بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خير أكحالكم الأثمد، فإنه يجلي البصر، وينبت الشعر.
وللترمذي من حديث عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن خير ما تداويتم به اللدود، والسّعوط، والحجامة، والمشي، وخير ما اكتحلتم به الأثمد، فإنه [يجلو] البصر، وينبت الشعر،
وكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكحلة يكتحل بها عند النوم، ثلاثا في كل عين. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث عباد
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 209- 210، كتاب الطب، باب (14) في الأمر بالكحل، حديث رقم (3878) ، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1156، كتاب الطب، باب (25) الكل بالإثمد، حديث رقم (3495) ، والإثمد هو الكحل الأسود، ويقال: إنه معرّب، قال ابن البيطار في (المنهاج) : هو الكحل الأصفهاني، ويؤيده قول بعضهم: ومعادنه بالشرق، وفي (القاموس) : حجر للكحل.
وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 36، كتاب الطب، باب (10) في الإثمد، من أمر به عند النوم، حديث رقم (23475) : «عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يشدّ البصر، وينبت الشعر» .
وحديث رقم (23476) : «خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر وينبت الشعر» .

(8/9)


ابن منصور [ (1) ] .
وخرّجه ابن أيمن بهذا السند، ولفظه: عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم الكحل الأثمد، [يجلو] البصر، وينبت الشعر.
قال: [وكانت] لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكحلة، فإذا أراد أن ينام، كحل في كل عين ثلاثا [ (2) ] .
قلت: وقد ذكر عباد بن منصور هذا، الحافظ أبو أحمد، عبد اللَّه بن عدىّ في كتابه (الكامل) ، فيما لخصته منه، فقال: عباد بن منصور الناجي، أبو سلمة، بصرى، قاضى البصرة، قال ابن المديني: قلت ليحيى ابن معين: فعبّاد بن منصور، كان تغيّر؟ قال: لا أدرى، إلّا أنّا حين رأيناه كان لا يحفظ، ولم أر يحيى يرضاه. وقال معاذ بن معاذ: كان قدريا [ (3) ] .
وقال عباد بن معين: عباد بن منصور، وعباد بن كثير [ (4) ] ، وعباد بن راشد [ (5) ] ، ليس حديثهم بشيء، ولكنه يكتب. ومرة قال: عباد بن منصور
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 206، كتاب اللباس، باب (23) في الاكتحال حديث رقم (1757) بسياقة أخرى مختصرة.
وأخرجه الترمذي في (الشمائل) : 64، باب (7) ما جاء في كحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن جابر بن عبد اللَّه، حديث رقم (52) : «عليكم بالإثمد عند النوم..» ،
وعن ابن عباس، حديث رقم (53) : «إن خير أكحالكم الإثمد..» ،
وكلاهما حديث صحيح.
[ (2) ]
أخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 237 كتاب الطب، باب (11) كم يكتحل في كل عين، حديث رقم (23477) عن أنس: «أنه كان يكتحل ثلاثة في كل عين» ، وحديث رقم (23480) ، عن ابن عباس قال: «كان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مكحلة يكتحل منها ثلاثا في كل عين» .
[ (3) ] (الكامل لابن عدىّ) : 4/ 338- 340، ترجمة رقم (200/ 1167) ، لينه بعضهم، وضعّفه بعضهم، وقال بعضهم: لا بأس به.
[ (4) ] (المرجع السابق) : ترجمة رقم (198/ 1165) عباد بن كثير الثقفي البصري، ضعفه ابن معين، وقال: كان صالحا، وقال النسائي: متروك، وكذا قال غيرهما من شيوخ النقاد، وترجمة رقم (199/ 1166) عباد بن كثير قيس الرمليّ، وثقه ابن معين، وابن أبى شيبة، وقال البخاري: فيه نظر، وضعفه أبو زرعة، وقال النسائي: ليس بثقة.
[ (5) ] (المرجع السابق) : ترجمة رقم (201/ 1168) ، عباد بن راشد التميمي، مولاهم البصري، البزاز، ضعفوه، وقال الجوزجاني عن أحمد: شيخ صدوق ثقة.

(8/10)


ضعيف الحديث، وقال النسائي: ضعيف. قال ابن عدىّ: وهو في جملة من يكتب حديثه. انتهى.
[عبّاد هذا، ولى قضاء البصرة، أيام خرج إبراهيم بن عبد اللَّه بن حسن ابن حسن] [ (1) ] ، وقد حدث عن القاسم بن محمد، وعكرمة، وأبى رجاء العطاردي، وعطاء، وأيوب، وجماعة، ويحيى القطّان، وأبو داود، وروح بن عبادة، وخلق، وقال يحيى القطان: ثقة، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأى أخطأ فيه- يعنى القدر- وقال أبو داود: ولى قضاء البصرة خمس مرات، وليس بذاك، وقالوا: تغيّر، مات سنة اثنتين ومائة.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(8/11)


الحبة السوداء
خرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] ، من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضى اللَّه عنه أخبرهما أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: [إن] في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام،
قال ابن شهاب: والسام: الموت، والحبة السوداء: الشّونيز. لم يقل مسلم: قال ابن شهاب.
وخرّجه النسائي ولفظه: عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام، والسام: الموت [ (3) ] .
وخرّج البخاري من حديث إسرائيل، عن منصور، عن خالد بن سعيد قال: خرجنا ومعنا غالب بن أبحر، فمرض في الطريق، فقدمنا المدينة وهو مريض، فعاده ابن أبى عتيق، فقال لنا: عليكم بهذه الحبيبة [السوداء] [ (4) ] ، فخذوا منها خمسا أو سبعا، فاسحقوها، ثم قطروها في أنفه بقطرات زيت في هذا الجانب وفي هذا الجانب، فإن عائشة رضى اللَّه عنها حدثتني أنها سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن هذه الحبة السوداء، شفاء من كل داء، إلا من السام، قلت: وما السام؟ قال: الموت [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 176، كتاب الطب، باب (7) الحبة السوداء، حديث رقم (5688) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 452، كتاب السلام، باب (29) التداوي بالحبة السوداء، حديث رقم (2251) .
[ (3) ] لم أجده في (المجتبى) ، ولعله في (الكبرى) .
[ (4) ] في (الأصلين) : «السويداء» على التصغير.
[ (5) ] (فتح الباري) : 10/ 176، كتاب الطب، باب (7) الحبة السوداء، حديث رقم (5687) .
قال العلامة ابن القيم: والشونيز حار يابس في الثالثة، مذهب للنفخ، مخرج لحب القرع، نافع من البرص، وحمى الرّبع [هي التي تنوب كل رابع يوم] ، والبلغمية، مفتح للسدد، ومحلل للرياح،

(8/12)


__________
[ () ] مجفف لبلة المعدة ورطوبتها.
وإن دقّ وعجن بالعسل، وشرب بالماء الحار أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة، ويدرّ البول، والحيض، واللبن، إذا أديم. شربه أياما.
وإذا سخّن بالخل، وطلى على البطن، قتل حب القرع، فإن عجن بماء الحنظل الرطب، أو المطبوخ، كان فعله في إخراج الدود أقوى، ويجلو ويقطع، ويحلل، ويشفى من الزكام البارد إذا دقّ وصيّر في خرقه، واشتمّ دائما، أذهبه.
ودهنه نافع لداء الحية، ومن الثآليل والخيلان [وهي الشامات والبثور السوداء ينبت حولها الشعر غالبا، ويغلب على شامة الخد، وقد ورد في صفة المسيح عليه السلام أنه كان كثير خيلان الوجه] .
وإذا شرب منه مثقال بماء نفع من البهر وضيق النّفس، والضّماد به ينفع من الصداع البارد، وإذا نقع منه سبع حبات عددا في لبن امرأة، وسعط به صاحب اليرقان، نفعه نفعا بليغا.
وإذا طبخ بخلّ، وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان عن برد، وإذا استعط به مسحوقا، قلع البثور والجرب المتقرح، وحلل الأورام البلغمية المزمنة، والأورام الصلبة، وينفع من اللّقوة إذا تسعّط بدهنه.
وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال، نفع من لسع الرّتيلاء [أنواع من الهوام، كالذباب والعنكبوت، والجمع روتيلاوات] ، وإن سحق ناعما وخلط بدهن الحبة الخضراء، وقطر منه في الأذن ثلاث قطرات نفع من البرد العارض فيها والريح والسّدد.
وإن قلى، ثم دقّ ناعما، ثم نقع في زيت، وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع، نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير.
وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن، أو دهن الحناء، وطلى به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها بالخل، نفعها وأزال القروح.
وإذا سحق بخل، وطلى به البرص والبهق الأسود، والحزاز الغليظ، نفعها وأبرأها. [الحزاز- بفتح الحاء-: داء يظهر في الجسد فينقشر ويتسع، وهو أيضا القشرة التي تتساقط من الرأس كالنخالة] .
وإذا سحق ناعما، واستفّ منه كل يوم درهمين بماء بارد، من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ من الماء، نفعه نفعا بليغا، وأمن على نفسه من الهلاك.
وإذا استعط بدهنه، نفع من الفالج والكزاز، وقطع موادهما، وإذا دخّن به، طرد الهوام، [الكزّاز:
داء من شدة البرد، أو الرعدة منها] .
وإذا أذيب الأنزروت بماء، ولطخ على داخل الحلقة، ثم ذر عليها الشونيز، كان من الذروات الجيدة العجيبة النفع من البواسير. (زاد المعاد) : 4/ 298- 300.

(8/13)


السنا
خرّج الترمذي من حديث عبد الحميد بن جعفر قال: حدثني عتبة بن عبد اللَّه، عن أسماء بنت عميس [رضى اللَّه عنها قالت:] إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سألها: بم تستمشين؟ قالت: بالشّبرم، قال: حار، حار، وقال: ثم استمشيت بالسنا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو أن شيئا كان فيه شفاء من الموت لكان في السنا.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وخرّج الحاكم من حديث ابن جريج، عن سعيد بن عقبة الزرقيّ، عن رعة بن عبد اللَّه بن زياد، أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، حدّثه عن أسماء بنت عميس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل عليها ذات يوم عندها شبرم تدقه، فقال: ما تصنعين بهذا؟ قالت: نسقيه فلانا؟ قالت: يشربه فلان، فقال: لو أن شيئا يدفع الموت، أو ينفع الموت، نفع السنا.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وله شاهد من حديث البصريين، عن أسماء بنت عميس [رضى اللَّه عنها] ، فذكر حديث عبد الحميد بن جعفر.
وللنّسائىّ من حديث محمد بن عمارة، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبى طلحة، عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثلاث فيهن شفاء من كل داء إلا السام: [السنا] والسنوت، قال محمد: ونسيت الثالثة، قالوا: يا رسول اللَّه! هذا السّنا قد عرفناه، فما السنوت؟ قال: لو شاء اللَّه لعرفكموه.
والسنوت [ (1) ] : الرّب، وقيل: العسل، وقيل: الكمون
__________
[ (1) ] قال العلّامة ابن القيم: وفيه سبعة أقوال، أحدهما: أنه العسل، الثاني: أنه ربّ عكّة السمن يخرج

(8/14)


يمانية، وقيل: هو نبت شبيه بالكمون، وقيل: الرّازيانج، وقيل: الشّبت [ (1) ] ، وقوله:
هم السّمن بالسّنوت لا السّمن فيهم ... وهم يسقون جارهم أن يقرّدا
فسّره يعقوب بأنه الكمون، وفسّره ابن الأعرابي بأنه نبت شبيه بالكمون، والسّنوت: لغة فيه. ذكر ذلك ابن سيده [ (2) ] .
__________
[ () ] خططا سوداء على السمن، الثالث: أنه حبّ يشبه الكمون، وليس بكمون، الرابع: الكمون الكرماني، الخامس أنه الشّبت، السادس: أنه التّمر، السابع: أنه الرّازيانج. (زاد المعاد) : 4/ 320.
[ (1) ] الشّبتّ: نبات من فضيلة الخيميات يشبه الشمر، وهو من التوابل.
[ (2) ] راجع التعليق السابق والّذي قبله.

(8/15)


التّلبينة [ (1) ] والحساء
خرّج البخاري ومسلم، من حديث عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها، أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت، ثم صنع ثريد، فصبّت التلبينة عليها، ثم قالت: كلن منها، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: التلبينة مجمّة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن. ذكره البخاري في كتاب الأطعمة [ (2) ] ، وفي الطب [ (3) ] ، ولفظه: كانت تأمر بالتلبين للمريض وللمحزون على الهالك، وكانت تقول إني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن التلبينة تجمّ فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن.
__________
[ (1) ] التّلبينة- بفتح المثناة، وسكون اللام، وكسر الموحدة، بعدها تحتانية ساكنة ثم نون-: طعام يتخذ من دقيق أو نخالة وربما جعل فيها عسل، سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض والرقة، والنافع منه ما كان رقيقا نضيحا لا غليظا نيئا. (فتح الباري) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 387، كتاب الأطعمة، باب (24) التلبينة، حديث رقم (5417) .
قوله: «مجمة» بفتح الجيم والميم الثقيلة أي مكان الاستراحة، ورويت بضم الميم، أي مريحة.
(المرجع السابق) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 179- 180، كتاب الطب، باب (8) التلبينة للمريض، حديث رقم (5689) ، وحديث رقم (5690) ، من حديث على بن مسهر، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها كانت تأمرنا بالتلبينة وتقول: هو البغيض النافع.
والبغيض: بوزن عظيم، من البغض، أي يبغضه المريض مع كونه ينفعه كسائر الأدوية.
قال الموفق البغدادي: إن شئت معرفة منافع التلبينة، فاعرف منافع ماء الشعير، ولا سيما إذا كان نخالة، فإنه يجلو، وينفذ بسرعة، ويغذى غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا، وأنمى للحرارة الغريزية.

(8/16)


وخرّج الترمذي من حديث محمد بن السائب بن بركة، عن أمه، عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أخذ أهله الوعك، أمر بالحساء فصنع، ثم أسرهم فحسوا منه، وكان يقول: إنه ليرتق [ (1) ] فؤاد المريض، ويسرو [ (2) ] عن فؤاد السقيم، كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها [ (3) ] . هذا لفظ الترمذي.
وقال النسائي: وفؤاد المريض، وقال: كما يسرو أحدكم الوسخ بالماء عن وجهه [ (4) ] . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد رواه ابن المبارك عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] .
__________
[ () ] قال: والمراد بالفؤاد في الحديث رأس المعدة، فإن فؤاد الحزين يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء، والحساء يرطبها ويغذيها ويقويها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض.
لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مرارى، أو بلغمى، أو صديدى، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة.
قال: وسماه البغيض النافع، لأن المريض يعافه، وهو نافع له، قال: ولا شيء أنفع من الحساء لمن يغلب عليه في غذائه الشعير، وأما من يغلب على غذائه الحنطة، فالأولى به في مرضه حساء الشعير.
(فتح الباري) .
[ (1) ] يرتق: يشد ويرخى، والمراد هنا الشد، لأن الحزن يرخى القلب.
[ (2) ] يسرو: بمعنى يكشف ويجلو.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 336، كتاب الطب، باب (3) ما جاء ما يطعم المريض، حديث رقم (2039) .
[ (4) ] (النسائي في الكبرى) : الطب، باب الدواء بالتلبينة.
[ (5) ] ثم قال: حدثنا بذلك الحسين بن محمد، حدثنا به أبو إسحاق الطالقانيّ عن ابن المبارك.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1140، كتاب الطب، باب (5) التلبينة، حديث رقم (3445) ، وفيه: «إنه ليرتو فؤاد الحزين، ويسر عن فؤاد السقيم» ،
وحديث رقم (3446) من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «عليكم بالبغيض النافع التلبينة»
يعنى الحساء، قالت: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار، حتى ينتهى أحد طرفيه، يعنى: يبرأ أو يموت.

(8/17)


__________
[ () ] وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) 5/ 38، كتاب الطب، باب (13) في التلبينة، حديث رقم (23491) .
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 227، كتاب الطب، حديث رقم (7454) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : هكذا رواه المعافى بن سليمان عنه، ورواه زيد بن الحباب، عن فليح، عن أم مبشر بدل أم المنذر، قال: صحيح.
وحديث رقم (7455) ، وقال في (التلخيص) : أيمن هو ابن نايله، صحيح.
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب السلام، باب (30) التلبينة مجمة لفؤاد المريض، حديث رقم (2216) .
قال العلامة ابن القيم: التلبين: هو الحساء الرقيق الّذي هو في قوام اللبن- ومن اشتق اسمه، قال الهروي: سميت تلبينة لشبهها باللبن، لبياضها ورقتها، وهذا الغذاء هو النافع للعليل، وهو الرقيق النضيح، لا الغليظ النيئ.
وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة، فاعرف فضل ماء الشعير، بل هي ماء الشعير لهم، فإنّها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته، والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صحاحا، والتلبينة تطبخ منه مطحونا، وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن.
وقد تقدم أن للعادات تأثيرا في الانتفاع بالأدوية والأغذية، وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا لا صحاحا، وهو أكثر تغذية، وأقوى فعلا، وأعظم جلاء، وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحا ليكون أرق وألطف، فلا يشقل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها، وثقل ماء الشعير المطحون عليها.
والمقصود: أن ماء الشعير مطبوخا صحاحا ينفذ سريعا، ويجلو جلاء ظاهرا، ويغذى غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر، وتلميسه لسطوح المعدة أوفق.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فيها مجمّة لفؤاد المريض» ، يروى بوجهين: بفتح الميم والجيم، وبضم الميم وكسر الجيم، والأول أشهر، ومعناه: أنها مريحة له، أي تريحه وتسكنه من الإجمام وهو الراحة.
وقوله: «تذهب ببعض الحزن» ، هذا- واللَّه تعالى أعلم- لأن الغم والحزن يبرّدان المزاج، ويضعفان الحرارة الغريزية، لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الّذي هو منشؤها، وهذا الحساء يقوى الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها، فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن.
وقد يقال- وهو أقرب-: إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة، فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية، واللَّه تعالى أعلم.. (زاد المعاد) : 4/ 120- 121.

(8/18)


اغتسال المريض
خرّج البخاري من حديث معمر ويونس، قال الزهري: أخبرنى عبيد اللَّه ابن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، أن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: لما ثقل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واشتد وجعه، استأذن أزواجه في أن يمرّض في بيتي، فأذن له، فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، بين عباس وآخر، قال عبيد اللَّه:
فأخبرت ابن عباس بما قالت عائشة [رضى اللَّه عنها] فقال: هل تدري من الرجل الآخر الّذي لم تسمّ عائشة؟ قلت: لا، قال: هو على بن أبى طالب [رضى اللَّه عنه] ،
قالت عائشة [رضى اللَّه عنها] : فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما دخل بيتها واشتدّ وجعه: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أو كيتهنّ، لعلى أعهد إلى الناس،
قالت: فأجلسناه في مخضب لحفصة، طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب، حتى جعل يشير إلينا أن قد فعلتنّ، قالت: وخرج إلى الناس، فصلى بهم وخطبهم.
ذكره البخاري في الطب [ (1) ] ، وفي آخر كتاب المغازي [ (2) ] ، وقال في آخره:
حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن.. الحديث بمثله. وذكره في كتاب الطهارة [ (2) ] وانتهى إلى قوله: ثم خرج إلى الناس وقال: حتى طفق يشير إلينا
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 8/ 178، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، حديث رقم (4442) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 400، كتاب الوضوء، باب (45) الغسل والوضوء في المخضب والقدح والحجارة، حديث رقم (198) .
قوله: «لما ثقل صلّى اللَّه عليه وسلّم» أي في وجعه. وفي رواية معمر عن الزهري أن ذلك كان في بيت ميمونة رضى اللَّه عنها.
واختلفوا في الرجلين فقيل: «على والعباس» ، وقيل: «أسامة والفضل» ، وقيل: «الفضل

(8/19)


أن قد فعلتن، وخرّجه مسلم [ (1) ] ، وانتهى منه إلى قوله: هو عليّ.
__________
[ () ] وثوبان» ، وقيل «بريرة ونوبة» ، وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد، فيتعدد من اتكأ عليه، وهو أولى من قول من قال: تناوبوا في صلاة واحدة.
قوله: «من سبع قرب» ، قيل: الحكمة من هذا العدد أن له خاصيته في دفع ضرر السم والسحر، وتمسّك به بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا، إنما هو لدفع السمية التي في ريقة.
وقد ثبت حديث «من تصبح بسبع تمرات من عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» ،
وللنسائى في قراءة الفاتحة على المصاب سبع مرات، وسنده صحيح، وفي صحيح مسلم: القول لمن به وجع: «أعوذ بعزة اللَّه وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات» ، وفي النسائي: «من قال عند مريض لم يحضر أجله: أسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات» (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 379، كتاب الصلاة، باب (21) استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلى بالناس، وأن من صلّى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه، ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام، وحديث رقم (90) ، وقال في آخره: قال عبيد اللَّه: فدخلت على عبد اللَّه بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: هات، فعرضت حديثها عليه، فما أنكر منه شيئا، غير أنه قال:
أسمّت لك الرجل الّذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو على. وتكرر ذلك في آخر الحديث رقم (91) ، (92) ، باختلاف يسير في اللفظ.
وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 7/ 173- 174، باب ما جاء في استئذانه صلّى اللَّه عليه وسلّم أزواجه في أن يمرّض في بيت عائشة رضى اللَّه عنها، ثم ما جاء في اغتساله وخروجه إلى الناس، وصلاته بهم، وخطبته إياهم ونعيه نفسه إليهم، وإشارته إلى أمنّ الناس عليه في صحبته، وفي ص 189- 191، باب ما جاء في آخر صلاة صلاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، من أولها إلى آخرها.
وتفسير موقف السيدة عائشة رضى اللَّه عنها وتشددها في عدم ذكر الرجل الآخر، وهو الإمام على ابن أبى طالب كرم اللَّه وجهه، يكمن فيما نقله الدكتور عبد المعطى قلعجي محقق (دلائل النبوة للبيهقي) ، حيث نقل من كتاب (عائشة والسياسة) للأستاذ سعيد الأفغاني [ص 76- 82] مختصرا:
«لنرجع ثلاثين سنة قبل أن بويع لعلى بالخلافة، فسنجد ثمة نقطة التحول التي فرضت على عائشة اتجاهها الّذي اتجهته مع على رضى اللَّه عنه ولم تستطع الإفلات منه، ولا من عاطفتها العنيفة التي لم تخفف تتابع الأيام والسنين من حدتها، فلنمعن في هذه الأمور التاليات:
1- لم تجتمع أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على شيء اجتماعهن على الغيرة الشديدة من السيدة عائشة رضى اللَّه عنها، لما خصها به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من محبة، إذ حلّت من قلبه المنزلة التي لا تسامى، والغيرة بين

(8/20)


وخرّجه النسائي من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في وجعه الّذي قبض فيه: صبّوا عليّ سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلّى أعهد إلى الناس، فأجلسناه في مخضب لحفصة، فما زلنا نصب عليه، حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتنّ. وخرّجه من طريق سويد بن نصر قال: أنبأنا عبد اللَّه بن المبارك، عن معمر ويونس، ... كما تقدم أولا [ (1) ] .
__________
[ () ] الضرائر أمر فطري مألوف، قلّ أن تتنزه عنه امرأة، وكان عليّ وزوجه السيّدة فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يحاولان حمله صلّى اللَّه عليه وسلّم على التخفيف من حبه لعائشة، ويسفران لبقية أزواجه بما يرضيهن، ويغضب عائشة، وأظن أن مثل هذه السفارة مما لا تغفره أنثى البتة.
2- موقف على من عائشة في حادث الإفك.
3- إشارات عارضة استخرجتها من مواطنها، لأنها عظيمة الدلالة على رأى عائشة رضى اللَّه عنها في عليّ رضى اللَّه عنه، وعاطفتها نحوه.
الأولى:
فقد رواها عطاء بن يسار، قال: جاء رجل فوقع في عليّ وعمار رضى اللَّه عنهما عند عائشة فقالت: أما عليّ فلست قائلة لك فيه شيئا، وأما عمار رضى اللَّه عنه فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما. [أخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 163، حديث رقم (24299) ] .
الثانية: نبّه إليها داهية بنى هاشم: عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنه، روى عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: «لما اشتد بالرسول وجعه دعا نساءه فاستأذنهن أن يمرّض في بيتي. فأذن له، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن العباس، ورجل آخر تخط قدماه الأرض، عاصبا رأسه حتى دخل بيتي» .
قال راوي الحديث: فحدّثت بهذا الحديث عبد اللَّه بن عباس فقال: هل تدري من الرجل الآخر؟
قلت: لا، قال: على بن أبى طالب، ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع.
حتى بعد انقضاء حرب الجمل، وانتهاء الأمر بينهما على خير وتبادل ثناء، لم يزل ما بنفسها نحوه، فقد ذكروا أنه لما انتهى إلى عائشة قتل عليّ، قالت متمثلة:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
[ (1) ] (سنن النسائي) : 4/ 435- 436، كتاب الإمامة، باب (40) الائتمام بالإمام يصلى قاعدا، حديث رقم (833) بسياقة أخرى، ولعلّ السياقة التي أوردها المقريزي من (الكبرى) .

(8/21)


وللبخاريّ من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء. ذكره في كتاب الطب [ (1) ] ، وخرّجه مسلم [ (2) ] ، وخرّجا من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد اللَّه قال:
أخبرنى نافع، عن ابن عمر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء [ (3) ] .
وفي لفظ لمسلم: إن شدة الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء [ (4) ] .
ولهما من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبيه، عن [عبد اللَّه بن رفاعة قال:] أخبرنى رافع بن خديج قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: الحمى من فيح جهنم، فأبردوها عنكم بالماء [ (5) ] . ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق [ (6) ] ، وخرّجه النسائي أيضا [ (7) ] .
وللترمذي من حديث روح بن عبادة قال: أخبرنا مرزوق أبو عبد اللَّه الشامي، أخبرنا سعيد- رجل من أهل الشام- أخبرنا ثوبان، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا أصاب أحدكم الحمى، فإن الحمى قطعة من النار، فليطفئها
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 214، كتاب الطب، باب (28) الحمى من فيح جهنم، حديث رقم (5723) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 447، كتاب السلام، باب (26) لكل داء دواء واستحباب التداوي، حديث رقم (79) عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما، حديث رقم (80) عن زيد عن أبيه عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (78) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق (بدون رقم) ، وأخرجه البخاري في كتاب الطب، باب (28) الحمى من فيح جهنم، حديث رقم (5725) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 449، كتاب السلام، باب (26) لكل داء دواء واستحباب التداوي، حديث رقم (84) وفيه: «من فور جهنم» .
[ (6) ] (فتح الباري) : 6/ 406- 407، كتاب بدء الخلق، باب (10) صفة النار وأنها مخلوقة، حديث رقم (3262) ، (3263) ، (3264) ، من طرق وبسياقات مختلفة.
[ (7) ] في الطب من (الكبرى) .

(8/22)


عنه بالماء، فليستنقع نهرا جارا، ليستقبل جريه الماء، فيقول: بسم اللَّه، اللَّهمّ اشف عبدك، وصدّق رسولك، بعد صلاة الصبح، قبل طلوع الشمس، فليغتمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع، فإنّها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن اللَّه.
قال أبو عيسى هذا حديث غريب [ (1) ] .
وللحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس [رضى اللَّه عنه] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا حمّ أحدكم فليشن الماء البارد ثلاث ليال [من السحر]
قال: هذا حديث صحيح [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 357- 358، كتاب الطب، باب (33) بدون ترجمة، حديث رقم (2084) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 223، كتاب الطب، حديث رقم (7438) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق، منه، وقال في آخره: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على الأسانيد في أن الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء. وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.

(8/23)


اجتناب المجذوم
[ (1) ]
خرّج البخاري من حديث عفّان قال: [حدثني سليم بن حيّان] ، حدثني سعيد بن ميناء [قال:] سمعت أبا هريرة رضى اللَّه عنه يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الجذام- بضم الجيم وتخفيف المعجمة-: هو علة رديئة، تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فتفسد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتآكل. قال ابن سيده: سمى بذلك لتجذّم الأصابع وتقطعها.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 195، كتاب الطب، باب (19) الجذام، حديث رقم (5707) ، و «عفان» هو ابن مسلم الصفّار، وهو من شيوخ البخاري، لكن أكثر ما يخرّج عنه بواسطة، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر، وقد جزم أبو نعيم أنه أخرجه عنه بلا رواية، وعلى طريقة ابن الصلاح يكون موصولا، وقد وصله أبو نعيم من طريق أبى داود الطيالسي، وأبى قتيبة مسلم بن قتيبة، كلاهما عن سليم بن حيان، شيخ عفان فيه.
وأخرجه أيضا من طريق عمرو بن مرزوق، عن سليم، لكن موقوفا، ولم يستخرجه الإسماعيلي، وقد وصله ابن خزيمة أيضا.
قوله: «وفر من المجذوم كما تفر من الأسد» ، لم أقف عليه من حديث أبى هريرة إلا من هذا الوجه، ومن وجه آخر عند أبى نعيم في الطب، لكنه معلول. وأخرج ابن خزيمة في (كتاب التوكل) له شاهد من حديث عائشة، ولفظه: «لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد» .
وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه، قال: «كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا قد بايعناك فارجع» ، حديث رقم (2231) .
قال عياض: اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم
عن جابر «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أكل مع مجذوم وقال: ثقة باللَّه وتوكلا عليه» .
قال: فذهب عمر رضى اللَّه عنه وجماعة من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ. وممن قال بذلك: عيسى بن دينار من المالكية، قال: والصحيح الّذي عليه الأكثر، ويتعين المصير إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز.

(8/24)


__________
[ () ] هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان:
أحدهما: سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفى العدوي وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك، مثل حديث الباب، فأعلوه بالشذوذ وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها «أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى، وقال: فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحى، وينام على فراشي» ، وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه، فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفى العدوي كثيرة شهيرة، بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، وقد أخرجه ابن ماجة وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى رفعه: «كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين» ، أخرجه أبو نعيم في الطب، وسنده واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري: «أن عمر رضى اللَّه عنه قالك لمعيقيب: اجلس منى قيد رمح» ، ومن طريق خارجة بن زيد، كان عمر رضى اللَّه عنه يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الّذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك: أن طريق الترجيح لا يصر إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى.
الفريق الثاني: سلكوا في الترجيح عكس ذلك المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه، إما لشكه فيه، وإما لثبوت عكسه عنده، قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج، وأكثر طرقا، فالمصير إليها أولى. قالوا:
وأما حديث جابر: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كل ثقة باللَّه وتوكلا عليه»
ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي، وبيّن الاختلاف فيه على راويه، ورجح وقفه على عمر رضى اللَّه عنه، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، والجواب أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبى هريرة فصح عن عائشة، وابن عمر، وسعد بن أبى وقاص، وجابر، وغيرهم، فلا معنى لكونه معلولا، واللَّه أعلم.
وفي طريق الجمع مسالك أخر:
أحدها: نفى العدوي جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن، السليم من الآفة، تعظم مصيبته، وتزداد حسرته، ونحوه حديث: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء «لا عدوى» كان المخاطب بذلك من قوى يقينه وصحّ توكله، بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوي، كما يستطيع أن يدفع التّطيّر الّذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوى اليقين لا يتأثر به، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة.

(8/25)


__________
[ () ] ثالثها: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إثبات العدوي في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفى العدوي، قال: فيكون معنى قوله: «لا عدوى» أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلا، قال: فكأنه قال: لا يعدى شيء شيئا إلا ما تقدم تبيينى له أن فيه العدوي، وقد حكمي ذلك ابن بطال.
رابعها: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوي في شيء، بل هو لأمر طبيعي، وهو انتقال الداء من جسد لجسد، بواسطة الملامسة، والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة فقال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته، ومحادثته، ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم، لا على طريق العدوي، بل على طريق التأثر بالرائحة، لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يورد ممرض على مصح» ، لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها، وصل إليها بالماء الّذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به. قال: وأما قوله: «لا عدوى» فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر اللَّه.
خامسها: أن المراد بنفي العدوي أن شيئا لا يعدى بطبعه، نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدى بطبعها، من غير إضافة إلى اللَّه تعالى، فأبطل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن اللَّه هو الّذي يمرض ويشفى، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى اللَّه تعالى العادة بأنها تفضى إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل اللَّه هو الّذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقاها فأثرت.
قال البيهقي- بعد أن أورد قول الشافعيّ رضى اللَّه عنه ما نصه-: الجذام والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يعدى الزوج كثيرا، وهو داء مانع للجماع، لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به، ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم أو أبرص، أنه قلما يسلم، وإن سلم أدرك نسله.
سادسها: العمل بنفي العدوي أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة، لئلا يحدث للمخالط بشيء من ذلك، فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوي التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: «لا يورد ممرض على مصح» إثبات العدوي، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير اللَّه تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوي، فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه. قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شر ما حمل عليه الحديث، لأن فيه إثبات العدوي التي نفاها الشرع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته.
قال الشيخ أبو محمد بن أبى جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما فيه خير.

(8/26)


ولعبد الرزاق من حديث معمر، عن أيوب وخالد، عن أبى قلابة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فرّوا من المجذوم فراركم من الأسد. وفي رواية له: فروا من الأجذم كما تفرون من الأسد.
ولمسلم من حديث يعلى بن عطاء، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال:
كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنّا قد بايعناك، فارجع [ (1) ] . وخرّجه النسائي.
ولأبى بكر بن أبى شيبة من حديث وكيع، عن عبد اللَّه بن سعيد، عن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] ، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تدنوا النظر إلى المجذومين [ (2) ] .
وخرّجه أبو بشر الدولابي، من حديث عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن محمد بن عبد اللَّه، عن أمه فاطمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: نهانا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نديم النظر إلى المجذومين، قال: لا تديموا إليهم
__________
[ () ] قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا، لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة اللَّه تعالى وتقديره، كما قال تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فمن كان قوى اليقين فله أن يتابعه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فعله ولا يضره شيء، ومن وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في الفرار، لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.
واستدل بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح، إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء، واختلف في أمة الأجذم: هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟ واختلف العلماء في المجذومين إذا كثروا، هل يمنعون من المساجد والمجامع؟ وهل يتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع، ولا في شهود الجمعة (فتح الباري) : 10/ 196- 200 مختصرا.
[ (1) ] راجع التعليق السابق والتالي والّذي بعده.
[ (2) ] راجع التعليق السابق والتالي والّذي بعده.

(8/27)


النظر [ (1) ] .
ولأبى داود من حديث يونس بن محمد، عن مفضل بن فضالة، عن حبيب بن الشهيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر [رضى اللَّه عنه] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ بيد مجذوم، فوضعها معه في القصعة وقال: كل ثقة باللَّه [عزّ وجلّ] وتوكلا عليه [ (2) ] .
وأخرجه الترمذي بهذا السند، ولفظه: أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة [ثم] قال: كل بسم اللَّه، ثقة باللَّه وتوكلا عليه [ (3) ] .
قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد، عن المفضل ابن فضالة.
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق والتالي والّذي بعده.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 239، كتاب الطب، باب (24) في الطيرة، حديث رقم (3925) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 234، كتاب الأطعمة، باب (19) ما جاء في الأكل مع المجذوم، حديث رقم (817) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1172، كتاب الطب، باب (44) الجذام، حديث رقم (3542) ، وحديث رقم (3543) : أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، وحديث رقم (3544) : كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ارجع فقد بايعناك» .
قال الحافظ ابن حجر في خاتمة كتاب الطب: اشتمل كتاب الطب من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وثمانية عشر حديثا، المعلق منها ثمانية عشر طريقا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى خمسة وثمانون طريقا، والخالص ثلاثة وثلاثون، وافقه مسلم على تخريجها، سوى حديث أبى هريرة في نزول الداء والشفاء، وحديث ابن عباس: الشفاء في ثلاث، وحديث عائشة في الحبة السوداء، وحديث أبى هريرة «فر من المجذوم» ، وحديث أنس «رخص لأهل بيت في الرقية» ، وحديث أنس «اشف وأنت الشافي» ، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة عشر أثرا، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (فتح الباري) : 10/ 309 آخر كتاب الطب.

(8/28)


والمفضّل بن فضالة هذا: شيخ بصريّ [ (1) ] ، المفضّل بن فضالة: شيخ آخر مصرى [ (2) ] أوثق من هذا وأشهر. وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب ابن الشهيد عن ابن بريدة، أن ابن عمر أخذ بيد مجذوم، وحديث شعبة أثبت عندي وأصحّ. ذكره في الأطعمة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو المفضّل بن فضالة بن أبى أمية القرشيّ، أبو مالك البصري، أخو مبارك بن فضالة مولى آل الخطاب. قال الدوري عن ابن معين: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال الآجري عن أبى داود: بلغني عن عليّ أنه قال: في حديثه نكارة، وقال الترمذي: شيخ بصرى، والمصري أوثق منه وأشهر. وقال النسائي ليس بالقوى، وذكره ابن حبان في (الثقات) : له في السنن حديثه عن حبيب عن ابن المندر، عن جابر: أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيد مجذوم فوضعه معه في القصعة ... الحديث. وزعم بعضهم أنه أخو الفرج بن فضالة وليس بشيء. قال الحافظ ابن حجر: هذا قول ابن حبان. قال ابن عدي: لم أر له أنكر من هذا، يعنى حديث جابر. (تهذيب التهذيب) : 10/ 244، ترجمة رقم (492) مختصرا.
[ (2) ] هو المفضّل بن فضالة بن عبيد بن ثمامة بن مزيد بن نوف الرعينيّ ثم القتباني أبو معاوية المصري قاضيها، قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال الدوري عن ابن معين: رجل صدوق، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم وابن خراش: صدوق في الحديث، وقال ابن يونس: ولى القضاء بمصر مرتين، وكان من أهل الفضل والدين، ثقة في الحديث، من أهل الورع.
ذكره أحمد بن شعيب. يوما وأنا حاضر فأحسن الثناء عليه ووثقه، وقال: سمعت قتيبة بن سعيد يذكر عنه فضلا، وقال الآجري عن أبى داود: كان مجاب الدعوة.
ولد سنة سبع ومائة، وقال البخاري: مات في شوال سنة إحدى وثمانين. قال الحافظ ابن حجر:
وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل مصر، وقال: كان منكر الحديث. قال عيسى بن حماد: كان مجاب الدعوة، طويل القيام مع ضعف بدنه. (المرجع السابق) :
ترجمة رقم (493) مختصرا.
وذكر أيضا: المفضّل بن فضالة بن المفضل بن فضالة حفيد الّذي قبله، روى عن أبيه عن جده، ذكره ابن حبان في (الثقات) ، وابن يونس في تاريخه وقال: مات سنة أثنيت وخمسين ومائتين (المرجع السابق) : ترجمة رقم (494) .
وذكر أيضا: المفضّل بن فضالة النّسوى أبو الحسن، روى عن إبراهيم بن الهيثم البلدي، وعنه أبو أحمد بن عدي. هو والّذي قبله متأخران، لا يشتبهان بمن قبلهم. (المرجع السابق) : ترجمة رقم (495) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 234، عقب الحديث رقم (1817) .

(8/29)


وذكر الحاكم حديث يونس عن الفضل كما تقدم، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 152، كتاب الأطعمة، حديث رقم (7196) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.

(8/30)


وأما عرق النَّسا
[ (1) ]
فخرج الحاكم من حديث الوليد بن مسلم، حدثنا هشام بن حسان، [قال] : حدثني أنس بن سيرين [قال:] حدثني أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شفاء عرق النّسا: ألية شاة عربية تذاب، ثم تجزّأ ثلاثة أجزاء، فتشرب في ثلاثة أيام. قال: هذا حديث صحيح [على شرط الشيخين ولم يخرجاه] وقد رواه المعتمر بن سليمان، عن هشام بن حسان، بزيادة في المتن [ (2) ] .
فذكره ولفظه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وصف من عرق النسا ألية شاة عربىّ، ليست بصغيرة، ولا كبيرة، تذاب، ثم تقسم على ثلاثة أجزاء، فيشرب كل يوم جزء على ريق النفس.
قال أنس: وقد وصفت ذلك لثلاثمائة، كلهم يعافيه اللَّه تعالى [ (3) ] .
وقد رواه حبيب بن الشهيد، عن أنس بن سيرين، فذكره [ (4) ] ، ثم قال:
__________
[ (1) ] عرق النّسا: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدته، زاد نزوله، وتهزل معه الرجل والفخذ. (زاد المعاد) : 4/ 71- 72، فصل في هديه صلّى اللَّه عليه وسلّم في علاج عرق النّسا.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 229، كتاب الطب، حديث رقم (7459) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (7460) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (7461) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1147، كتاب الطب، باب (14) دواء عرق النّساء، حديث رقم (3463) ، وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات، والألية: ما ركب العجز وتدلى من شحم ولحم.
وأخرجه الحاكم أيضا في (المستدرك) : 4/ 452، كتاب الطب، حديث رقم (8247) ،

(8/31)


__________
[ () ] من حديث هشام بن حسان، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وصف لهم في عرق النسا أن يأخذوا إليه كبش ليس بعظيم ولا صغير فيداف، ثم يجزأ على ثلاثة أجزاء، فيشرب كل يوم جزءا، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : على شرط البخاري ومسلم.
قال العلامة ابن القيم: وهذا الحديث فيه معنى لغويّ، ومعنى طبىّ، فأما المعنى اللغويّ: فدليل على جواز تسمية هذا المرض بعرق النّسا خلافا لمن منع هذه التسمية، وقال: النّسا هو العرق نفسه فيكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وهو ممتنع.
وجواب هذا القائل من وجهين، أحدهما: أن العرق أعم من النّسا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص، نحو: كل الدراهم أو بعضها.
الثاني: أن النسا: هو المرض الحالّ بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله وموضعه.
قيل: وسمّى بذلك لأن ألمه ينسى ما سواه من وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهى إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي، فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبي: فقد تقدم أن كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نوعان:
أحدهما: عام بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال.
والثاني: خاص بحسب هذه الأمور أو بعضها، وهذا من هذا القسم، فإن هذا خطاب للعرب، وأهل الحجاز، ومن جاورهم، ولا سيما أعراب البوادي، فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال، والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج والإخراج.
وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشاة الأعرابية لقلة فضولها، وصغر مقدارها، ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها، لأنها ترعى أعشاب البرّ الحارة، كالشيح، والقيصوم، ونحوهما، وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذية بها، ويكسبها مزاجا ألطف منها، ولا سيما الألية.
وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم، ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن، وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة، وعليه أطباء الهند.
وأما الروم واليونان فيعتنون بالمركّبة، وهم متفقون كلهم على أن من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء، فإن عجز فبالمفرد، فإن عجز، فبما كان أقلّ تركيبا.
وقد تقدم أنّ غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة، فالأدوية البسيطة تناسبها،

(8/32)


هذه الأسانيد كلها صحيحة، وقد أعضله حماد بن سلمة عن أنس بن سيرين فقال: عن أخيه معبد، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، والقول عندنا [فيه] قول المعتمر بن سليمان، والوليد بن مسلم.
__________
[ () ] وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب. وأما الأمراض المركبة فغالبا ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها، فاختيرت لها الأدوية المركبة، واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 72- 73، فصل في هديه صلّى اللَّه عليه وسلّم في علاج عرق النّسا.
وقد أثبت محقق (زاد المعاد) تعريف الدكتور عادل الأزهري لعرق النّسا، حيث قال: هو مرض يصيب النساء والرجال على السواء وآلامه مفرطة، تبتدئ غالبا في أسفل العمود الفقرى، ويمتد الألم إلى إحدى الأليتين، ثم إلى الجزء اخلفى من الفخذ، وأحيانا حتى الكعب، وينتج غالبا من انفصال غضروفى بأسفل العمود الفقرى، أو التهاب روماتزمى بالعصب الإنسى، وعلاجه الأساسي الراحة التامة على الظهر، لمدة خمسة عشر يوما على الأقل مع إعطاء مهدئات للألم مثل الأسبرين ... والحجامات الجافة، والكيّ أحيانا، يساعدان على علاجه. (زاد المعاد) : 4/ 73 هامش.

(8/33)


وأما كثرة أمراضه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج الحاكم من حديث إسرائيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال:
قلت لعائشة رضى اللَّه عنها: قد أخذت السّنن عن رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، والشعر والعربية عن العرب، فعن من أخذت الطب؟ قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان رجلا مسقاما، وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرج [ (1) ] .
وخرّجه ابن حيّان ولفظه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان [سقيما] في آخر عمره فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت له الأنعات، فكنت أعالجها، فمن ثمّ [ (2) ] .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبى معاوية قال: أخبرنا هشام بن عروة قال: كان عروة يقول لعائشة رضى اللَّه عنها: يا أمتاه! لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة رسول اللَّه، وابنة أبى بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام النّاس، أقول: ابنة أبى بكر، وكان أعلم الناس، أو من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب، كيف هو؟ ومن أين هو؟ أو ما هو؟ قال: فضربت على منكبه [و] قالت: أي عريّة، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها له فمن ثمّ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] المستدرك) : 4/ 218- 219، كتاب الطب، حديث رقم (7426) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 99، حديث رقم (23859) .

(8/34)


الحِنَّاء
[ (1) ] قال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن خالد، حدثنا قائد مولى عبيد اللَّه ابن على بن أبى رافع، عن مولاه، عن [عمته] سلمى [ (2) ] ، قالت:
كنت أخدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما كانت تصيبه قرحة، ولا نكتة، إلا وأضع
__________
[ (1) ] الحناء: بارد في الأولى، يابس في الثانية، وقوة شجر الحناء وأغصانها مركبة من قوة محللة، اكتسبتها من جوهر فيها مائي، حار باعتدال، ومن قوة قابضة اكتسبتها من جوهر فيها أرضى بارد.
ومن منافعه أنه محلّل نافع من حرق النار، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمّد به، وينفع إذا مضغ من قروح الفم والسّلاق-[بثر تخرج على أصل اللسان، وتقشر في أصول الأسنان]- العارض فيه، ويبرئ القلاع-[بثرات تكون في جلدة الفم أو اللسان]- الحادث في أفواه الصبيان، والضماد به ينفع من الأورام الحرة الملتهبة، ويفعل في الجراحات فعل دم الأخوين [مادة تجلب من الهند بهذا الاسم» ] ، وإذا خلط نوره مع الشمع المصفى، ودهن الورد، ينفع من أوجاع الجنب.
ومن خواصه: أنه إذا بدأ الجدرىّ يخرج بصبي، فخضبت أسافل رجليه بحناء، فإنه يؤمن على عينيه أن يخرج فيها شيء منه، وهذا صحيح مجرّب لا شك فيه.
وإذا جعل نوره بين طىّ ثياب الصوف طيبها، ومنع السوس عنها، وإذا نقع ورقه في ماء عذب يغمره، ثم عصر وشرب من صفوه أربعين يوما كل يوم عشرين درهما مع عشرة دراهم سكر، ويغذّى عليه بلحم الضأن الصغير، فإنه ينفع من ابتداء الجذام يخاصية فيه عجيبة.
وحكى أن رجلا تشقّقت أظافر أصابع يده، وأنه بذل لمن يبرئه مالا، فلم يجد، فوصفت له امرأة أن يشرب عشرة أيام حناء، فلم يقدم عليه، ثم نقعه بماء وشربه، فبرأ ورجعت أظافيره إلى حسنها.
والحناء إذا ألزمت به الأظفار معجونا حسّنها ونفعها، وإذا عجن بالسمن وضمّد به بقايا الأورام الحارة التي ترشح ماء أصفر، نفعها، ونفع من الجرب المتقرّح المزمن منفعة بليغة، وهو ينبت الشعر ويقويه، ويحسنه، ويقوى الرأس، وينفع من النّفّاطات، والبثور العارضة في الساقين والرجلين، وسائر البدن، (زاد المعاد) : 4/ 89- 90.
[ (2) ] سلمى: خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهي مولاة صفية بنت عبد المطلب، وهي امرأة أبى رافع مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأم بنيه، وهي التي قبلت إبراهيم بن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت قابلة بنى

(8/35)


عليها الحناء [ (1) ] .
__________
[ () ]- فاطمة، وهي التي غسّلت فاطمة مع زوجها ومع أسماء بنت عميس، وشهدت سلمى هذه، خيبر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ]
(مسند أحمد) : 7/ 616، حديث رقم (27070) ، ولفظه: «ما سمعت أحدا قط يشكو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعا في رأسه إلا قال: احتجم، ولا وجعا في رجليه إلا قال: اخضبها بالحناء، وحديث رقم (27071) ولفظه: «ما اشتكى أحد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعا في رأسه إلا قال:
احتجم، ولا اشتكى إليه أحد وجعا في رجليه إلا قال: اخضب رجليك» .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 194- 195، كتاب الطب، باب (3) في الحجامة، حديث رقم (3858) .
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 343، كتاب الطب، باب (13) ما جاء في التداوي بالحناء، حديث رقم (2054) ، ولفظه: «ما كان يكون برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرحة، ولا نكبة إلا أمرنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أضع عليها الحناء»
[والقرحة بضم القاف وفتحها] .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث قائد، وروى بعضهم هذا الحديث عن فائد، وقال: عن عبيد اللَّه بن على عن جدته سلمى، وعبيد اللَّه بن على أصحّ، ويقال: سلمى.
حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا زيد بن حباب عن فائد مولى عبيد اللَّه بن على، عن مولاه عبيد اللَّه بن على، عن جدته، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نحوه بمعناه.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1158، كتاب الطب، باب (29) الحناء، حديث رقم (3502) ، ولفظه: كان لا يصيب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قرحة ولا شوكة إلا وضع عليه الحناء» .
هذا الحديث لم يحكم عليه الترمذي بشيء من الصحة أو الحسن، أو الضعف، والظاهر أنه حديث حسن، واللَّه تعالى أعلم. (تحفة الأحوذي) : 6/ 178- 179.
قوله في رواية أبى داود: «اخضبهما» زاد البخاري في (تاريخه) «بالحناء» قاله في (فتح الودود) . وقال القاري: والحديث بإطلاقه يشمل الرجال والنساء، لكن ينبغي للرجل أن يكتفى باختضاب كفوف الرّجل، ويجتنب صبغ الأظافر، احترازا من التشبه بالنساء ما أمكن.
قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة مختصرا في الحناء، وقال الترمذي: حديث غريب إنما نعرفه من حديث فائد. هذا آخر كلامه.
وفائد هذا مولى عبيد اللَّه بن على بن أبى رافع، وقد وثقه ابن معين، وقال الإمام أحمد، وأبو حاتم الرازيّ: لا بأس به، وفي إسناده عبيد اللَّه بن على بن أبى رافع، مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال ابن معين: لا بأس به، وقال أبو يحيى الرازيّ: لا يحتج بحديثه، هذا آخر كلامه.

(8/36)


__________
[ () ] وقد أخرجه الترمذي من حديث على بن عبيد اللَّه عن جدته، وقال: وعبيد اللَّه بن على أصحّ، وقال غيره: على بن عبيد اللَّه بن أبى رافع لا يعرف بحال، ولم يذكره أحد من الأئمة في كتاب، وذكر بعده حديث عبيد اللَّه بن على بن أبى رافع هذا الّذي ذكرناه وقال: فانظر في اختلاف إسناده بغير لفظه، هل يجوز لمن يدعى السنة أو ينسب إلى العلم أن يحتجّ بهذا الحديث على هذا الحال، ويتخذه سنة وحجة في خضاب اليد والرجل؟ (عون المعبود) :
10/ 242.

(8/37)


الذريرة
[ (1) ]
خرّج الحاكم من حديث ابن جريج قال: أخبرنى عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبى حسن، حدثتني مريم بنت إياس بن البكير [ (2) ] ، صاحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن بعض أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأظنها زينب، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل عليها فقال: عندك ذريرة؟ فقالت: نعم، فدعا بها، ووضعها على بثرة [ (3) ] بين إصبعين من أصابع رجله وقال: اللَّهمّ مطفئ [الكير] ، ومكبر الصغير، اطفها عنى، فطفيت [ (4) ] . قال: هذا حديث صحيح [الإسناد ولم يخرجاه] [ (5) ] [وخرّجه الإمام أحمد، من حديث ابن جريج به مثله] [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الذريرة: فتات من قصب الطيب الّذي يجاء به من بلد الهند، يشبه قصب النّشّاب، وفي حديث عائشة رضى اللَّه عنها: طيبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لإحرامه بذريرة، قال: هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط. (لسان العرب) : 4/ 303- 304.
وقال العلامة ابن القيم: الذريرة دواء هندي يتخذ من قصب الذريرة، وهي حارة يابسة، تنفع من أورام المعدة، والكبد، والاستسقاء، وتقوى القلب لطيبها. (زاد المعاد) : 4/ 113.
[ (2) ] اختلف في صحبتها، وأبوها وأعمامها من كبار الصحابة، ولأخيها محمد رؤية.
[ (3) ] البثرة: خرّاج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة، فتسترق مكانا من الجسد تخرج منه، فهي محتاجة إلى ما ينضجها ويخرجها، والذريرة أحد ما يفعل بها ذلك، فإن فيها إنضاجا، وإخراجا، مع طيب رائحتها، مع أن فيها تبريدا للنارية التي في تلك المادة، وكذلك قال صاحب (القانون) : إنه لا أفضل لحرق النار من الذريرة بدهن الورد والخل. (زاد المعاد) : 4/ 113- 114.
[ (4) ] (المستدرك) : 4/ 230، كتاب الطب، حديث رقم (7463) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (5) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (6) ] (مسند أحمد) : 6/ 510، حديث رقم (22631) .
وهذا الحديث حديث صحيح، أخرجه ابن السنى (640) ص 237، ووقع له في سنده وهم، -

(8/38)


__________
[ () ] وقال الحافظ في (أمالى الأذكار) ، فيما نقله عنه ابن علان: حديث صحيح أخرجه النسائي في (اليوم والليلة) ، وهو حديث صحيح الإسناد كما قال أبو عبد اللَّه الحاكم، فإن رواته من رواة (الصحيحين) ، إلا مريم بنت إياس بن البكير.
وفي لفظه اختلاف يسير، ففي (المستدرك) : «اللَّهمّ مطفئ الكير ومكبر الصغير اطفها عنى» ، وفي (مسند أحمد) : بمثله، وفي (زاد المعاد) : «اللَّهمّ مصغّر الكبير ومكبّر الصغير صغّر ما بى» ، وفي (الأصلين) : «مطفئ الكير» واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(8/39)


وأمّا أنّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] سحر
فخرج البخاري من حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: سحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل من بنى زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، قالت: حتى كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم- أو ذات ليلة- وهو عندي، دعا، ودعا، ثم قال: يا عائشة! أشعرت أن اللَّه [عزّ وجلّ] أفتانى فيما استفتيته فيه، أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال:
من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة! واللَّه لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين فقلت يا رسول اللَّه! أفلا استخرجته؟ قال: لا، أما أنا فقد عافاني اللَّه، وكرهت أن أثير على الناس شرا، فأمرت بها فدفنت.
قال البخاري: تابعه أبو أسامة، وأبو ضمرة، وابن أبى الزناد، عن هشام. وقال الليث وابن عيينة، عن هشام: في مشط ومشاقة.
يقال: مشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشّط، والمشاقة: من مشاقة الكتان. ترجم عليه البخاري باب: السحر، وذكره في بدء الخلق، في باب: صفة إبليس وجنوده [ (1) ] . وفي كتاب الدعاء [ (2) ] ، وفي كتاب
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 412، كتاب بدء الخلق، باب (11) صفة إبليس وجنوده، حديث رقم (3268) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 11/ 230، كتاب الدعوات، باب (57) تكرير الدعاء، حديث رقم (6391) .

(8/40)


الأدب [ (1) ] ، بزيادة ألفاظ ونقص ألفاظ. وخرّجه مسلم من طرق، وخرّجه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 10/ 587، كتاب الأدب، باب (56) قول اللَّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وقوله: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر، حديث رقم (6063) .
قال القاضي عياض: فإن قلت: فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتّابيّ بقراءتي عليه، قال: أخبرنا حاتم بن محمد، أخبرنا أبو الحسن على بن خلف، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا البخاري [بسنده] عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: «سحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله» . وفي رواية أخرى: «حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتى النساء ولا يأتيهن» .
وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور، فكيف حال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك، وكيف جاز عليه، وهو معصوم؟
فاعلم- وفقنا اللَّه وإياك- أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة، وتذرعت به لسخف عقولها، وتلبيسها على أمثالها في التشكيك في الشرع.
وقد نزه اللَّه تعالى الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبسا، وإنما السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته.
وأما ما ورد أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه، أو شريعته، أو يقدح في صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروؤه عليه في دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فصّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان. (الشفا) : 2/ 160- 161.
والمشط: معروف، والمشاطة: هي الشعر الّذي يسقط من الرأس أو اللحية عند تسريحه، والجفّ:
وعاء طلع النخل، وهو الغشاء الّذي يكون عليه، ويطلق على الذكر والأنثى، ولذا قيده في الحديث بقوله: «طلعة ذكر» .
قال العلامة ابن القيم: ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار، والآيات، والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشدّ، كانت أبلغ في النّشرة [ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن، سميت نشرة، لأنه ينشّر بها عنه ما ضاره من الداء] .
وذلك بمنزلة التقاء جيشين، مع كل واحد منهما عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئا من اللَّه مغمورا بذكره، وله من التوجهات، والدعوات، والأذكار،

(8/41)


النسائي أيضا [ (1) ] .
وفي جامع معمر بن راشد عن الزهري، قال: سحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، [سنة] [ (2) ] ، يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو [صلّى اللَّه عليه وسلّم] لا يفعله. [وقال ابن سعد: السّحر، سينه مثلثة، والفتح أفصح] [ (3) ] (صلّى اللَّه عليه وسلّم) .
[وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني أبو مروان، عن إسحاق
__________
[ () ] والتعوذات، ورد لا يخلّ به، يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه.
وعند السحرة: أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء، والصبيان، والجهال، وأهل البوادي، ومن ضعف حظه من الدين، والتوكل، والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات والتعوذات النبويّة، وبالجملة: فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، التي يكون ميلها إلى السفليات. قالوا: والمسحور هو الّذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقا كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات.
والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها، بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها، فتجدها فارغة لا عدة معها، وفيها ميل إلى ما يناسبها، فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره. واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 126- 127.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فكرهت أن أثير على الناس شرّا» ،
معناه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ترك استخراج السحر خشية أن يثور على الناس منه شرّ، فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط السحر من أثر الضرر الناشئ عن السحر شرّ وسلك مسلك الإحسان في ترك عقوبة الجاني (فتح الباري) : 10/ 588.
وأخرجه البخاري في (الطب) باب (47) السحر، حديث رقم (5763) وفي باب (49) هل يستخرج السحر، حديث رقم (5765) ، وأخرجه مختصرا في كتاب الجزية والموادعة باب (14) هل يعفى عن الذّمىّ إذا سحر، حديث رقم (3175) .
[ (1) ] وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 40، كتاب الطب، حديث رقم (23508) مختصرا، وحديث رقم (23509) كما ذكره المقريزي من رواية البخاري.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين سقط من النسخة (ج) .

(8/42)


ابن عبد اللَّه، عن عمر بن الحكم قال: لما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الحديبيّة في ذي الحجة ودخل الحرم، جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة، ممن يظهر الإسلام، وهو منافق، إلى لبيد بن الأعصم اليهودي، وكان حليفا في بنى زريق، وكان ساحرا، قد علمت ذلك يهود، أنه أعلمهم بالسحر وبالسموم، فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحر منّا، وقد سحرنا محمدا فسحره منا الرجال والنساء، فلم نصنع شيئا، وأنت ترى أثره فينا، وخلافه ديننا، ومن قتل منا وأجلى، ونحن نجعل لك [على ذلك] جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكوه، فجعلوا له ثلاثة دنانير، على أن يسحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .
[فعمد إلى مشط، وما يمشط [من الرأس] من الشعر، فعقد فيه عقدا، أو تفل فيه تفلا، وجعله في جب طلعة ذكر، ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة البئر، فوجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمرا أنكره، حتى يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وأنكر بصره حتى دله اللَّه عليه، فدعا جبير بن إياس الزّرقيّ، وقد شهد بدرا، فدله على موضع في بئر ذروان، تحت أرعوفة البئر، فخرج جبير حتى استخرجه ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم،
فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقد دلني اللَّه على سحرك، وأخبرنى ما صنعت، قال: حبّ الدنانير يا أبا القاسم] [ (1) ] .
[قال إسحاق بن عبد اللَّه: فأخبرت عبد الرحمن بن كعب بن مالك بهذا الحديث فقال: إنما سحره بنات أعصم- أخوات لبيد- وكنّ أسحر من لبيد وأخبث، وكان لبيد هو الّذي ذهب به، فأدخله تحت أرعوفة البئر، فلما عقدوا تلك العقد، أنكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك الساعة بصره، ودسّ بنات
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 2/ 197- 199، ذكر من قال: إن اليهود سحرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.

(8/43)


أعصم إحداهن، فدخلت على عائشة رضى اللَّه عنها، فخبرتها عائشة، أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بصره، ثم خرجت إلى أخواتها، وإلى لبيد، فأخبرتهم، فقالت إحداهن: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يكن غير ذلك، فسوف يدلّهه هذا السحر حتى يذهب عقله، فيكون بما نال من قومنا وأهل ديننا، فدله اللَّه عليه] [ (1) ] .
قال الحارث بن قيس: يا رسول اللَّه! ألا نهوّر البئر؟ فأعرض عنه [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] فهوّرها الحارث بن قيس وأصحابه، وكان يستعذب منها. قال:
وحفروا بئرا أخرى، فأعانهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حفرها، حين هوّروا الأخرى التي سحر فيها، حتى أنبطوا ماءها، ثم تهوّرت بعد. ويقال: إن الّذي استخرج السحر بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قيس بن محصن] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 2/ 197- 199، ذكر من قال إن اليهود سحرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وهذه الفقرات سقطت من النسخة (ج) .

(8/44)


وأما أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم سمّ
فخرّج البخاري في الطب [ (1) ] ، وفي الجزية والموادعة [ (2) ] ، من حديث الليث قال: حدثني سعيد عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: لما فتحت خيبر، أهديت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شاة فيها سمّ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود، فجمعوا له، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقىّ عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] : من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان [فقال كذبتم، أبوكم فلان] فقالوا: صدقت وبررت، فقال: هل أنتم صادقىّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أهل النار؟
قالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم: اخسئوا فيها، واللَّه لا نخلفكم فيها أبدا، ثم قال لهم: هل أنتم صادقىّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سمّا؟ قالوا: نعم، قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: إن كنت كاذبا، نستريح منك، وإن كنت نبيا، لم يضرك.
وللبخاريّ من حديث شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه قال:] إن يهودية أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، بشاة مسمومة، فأكل
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 300، كتاب الطب، باب (55) ما يذكر في سمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (5777) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 334، كتاب الجزية والموادعة، باب (7) ، إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ حديث رقم (3169) .

(8/45)


منها، فجيء بها، [فقيل:] ألا نقتلها؟ قال: لا، [قال:] فما زلت أعرفها في لهوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ذكره البخاري في كتاب الهبة، في باب: قبول الهدية من المشركين [ (1) ] .
ولمسلم بهذا السند: أن امرأة يهودية أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشاة مسمومة فأكل [منها] ، فجيء بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسألها عن ذلك فقالت:
أردت لأقتلك! قال: ما كان اللَّه ليسلطك على ذاك، أو قال: عليّ، قالوا:
ألا نقتلها؟ قال: لا،
قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
وقال البخاري في آخر المغازي، في أول باب مرض النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 287، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (28) قبول الهدية من المشركين، حديث رقم (2617) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 429، كتاب السلام، باب (18) السم، حديث رقم (2190) ، «اللهوات» : جمع لهات- بفتح اللام- وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك، وقيل: اللحمات اللواتي في سقف أقضى الفم.
وقوله: «ما زلت أعرفها» أي العلامة، كأنه بقي للسم علامة وأثر من سواد أو غيره.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما كان اللَّه ليسلطك على ذاك. أو قال: عليّ» ، فيه بيان عصمته صلّى اللَّه عليه وسلّم من الناس كلهم، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وهي معجزة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، في سلامته من السم المهلك لغيره، وفي إعلام اللَّه تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منها له، فقد جاء في غير مسلم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن الذراع تخبرني أنها مسمومة، وهي المرأة اليهودية الفاعلة للسم اسمها زينب بنت الحارث، أخت مرحب اليهودي، وهي امرأة سلام بن مشكم.
وقصة الشاة المسمومة رواها كل من:
ابن سعد في (الطبقات) : 2/ 200- 203، ذكر ما سمّ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
والحافظ البيهقي في (دلائل النبوة) : 7/ 172، باب ما جاء في إشارته إلى عائشة رضى اللَّه عنها في ابتداء مرضه بما يشبه النعي، ثم إخباره إياها بحضور أجله وما في حديثها من أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم توفى شهيدا.
وأبو داود في (السنن) : 4/ 647، كتاب الديات، باب (6) فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟ حديث رقم (4508) ، (4509) ، (4510) ، (4511) ، (4512) ، (4513) ، (4514) ، من طرق مختلفة، وبسياقات مختلفة، بعضها مختصرا وبعضها مطولا.

(8/46)


وقال يونس عن الزهرىّ: قال عروة: قالت عائشة [رضى اللَّه عنها] : كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول في مرضه الّذي مات فيه: يا عائشة! ما [أزال] أجد ألم الطعام الّذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 165، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، حديث رقم (4428) . قوله: «ما أزال أجد ألم الطعام» أي أحسّ الألم في جوفي بسبب الطعام. وقال الداوديّ:
المراد أنه نقص من لذة ذوقه. وقوله: «أوان» بالفتح على الظرفية.
قال أهل اللغة: الأبهر عرق مستبطن متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه، وقال الخطّابى: يقال إن القلب متصل به (فتح الباري) .
قال القاضي عياض: واختلف [أهل] الآثار والعلماء: هل قتلها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أم لا؟ فوقع في صحيح مسلم أنهم «قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا» ومثله عن أبى هريرة، وجابر، وعن جابر من رواية أبى سلمة أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتلها، وفي رواية ابن عباس أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم دفعها إلى أولياء بشر بن البراء بن معرور، وكان أكل منها فمات بها فقتلوها، وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتلها.
قال القاضي: ووجه الجمع بين هذه الروايات والأقاويل، أنه لم يقتلها أولا حين أطلع على اسمها، وقيل له: فقال: لا.
فلما مات بشر بن البراء من ذلك [السم] سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصا، فيصحّ قوله: لم يقتلها أي في الحال، ويصحّ قولهم: قتلها، أي بعد ذلك، واللَّه تعالى أعلم (مسلم بشرح النووي) : 14/ 429- 430.

(8/47)


وأما أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم رقى
فخرّج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرنى يونس عن ابن شهاب [قال] : أخبرنى نافع بن جبير بن مطعم، عن عثمان بن أبى العاص الثقفي، أنه شكا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ضع يدك على الّذي تألم من جسدك وقل: باسم اللَّه ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ باللَّه وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر [ (1) ] .
وخرّجه الترمذي من حديث مالك، عن يزيد بن [خصيفة] ، عن عمر ابن عبد اللَّه بن كعب السلمي، أن نافع بن جبير بن معطم، أخبره عن عثمان بن أبى العاص أنه قال: أتانى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبى وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: امسح بيمينك سبع مرات وقل: أعوذ بعزة اللَّه وقدرته من شرّ ما أجد، قال: ففعلت، فأذهب اللَّه ما كان بى، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرّجه أبو داود بهذا الإسناد، أنه أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال عثمان: وبى وجع قد كان يهلكني.. الحديث [ (3) ] .
وخرّجه الحاكم من حديث المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) 14/ 439- 440، كتاب السلام، باب (24) استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، حديث رقم (67) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 355- 356، كتاب الطب، باب (29) بدون ترجمة، حديث رقم (2080) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 4/ 217- 218، كتاب الطب، باب (19) كيف الرقى؟ حديث رقم (3891) .

(8/48)


ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: كان النبي [عليه السلام] إذا عاد المريض، جلس عند رأسه ثم قال سبع مرات: أسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، فإن كان في أجله تأخير عوفي من وجعه ذلك. قال:
هذا حديث صحيح [ (1) ] ، وذكر له عدة طرق.
وخرّجه البخاري أيضا في الأدب المفرد به مثله.
ولأبى داود من حديث الليث، عن زياد بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبى الدرداء قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: من اشتكى منكم شيئا أو [اشتكاه] أخ له فليقل: ربّنا الّذي في السماء، تقدّس اسمك، أمرك في السماء والأرض، [كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض] ، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع، فيبرأ [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(المستدرك) : 4/ 461- 462، كتاب الرقى والتمائم، حديث رقم (8282) ، ولفظه: «من عاد مريضا لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل اللَّه العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك، إلا عافاه اللَّه من ذلك المرض»
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، بعد أن اتفقا على حديث المنهال بن عمرو بإسناده، كان يعوذ الحسن والحسين.
وأخرج ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1163، كتاب الطب، باب (36) ما عوّذ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما عوّذ به، حديث رقم (3522) ، ولفظه: «قدمت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبى وجع كاد يبطلني، فقال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم اللَّه، أعوذ بعزة اللَّه وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات» فقلت ذلك، فشفاني اللَّه.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 218، كتاب الطب، باب (19) كيف الرقى، حديث رقم (3892) ، الحوب: الإثم، ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: 3] (معالم السنن) ] .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 34- 35، حديث رقم (23437) من مسند فضالة بن عبيد الأنصاري، ولفظه، قال: «علمني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رقية أن أرقى بها من بدا لي، قال لي: قل ربنا اللَّه الّذي في السموات، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، اللَّهمّ كما أمرك في السماء فاجعل

(8/49)


وللبخاريّ ومسلم وأبى داود، من حديث سفيان، حدثني عبد ربه بن سعيد بن عمرة، عن عائشة رضى اللَّه عنها [قالت] إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول للمريض: بسم اللَّه تربة أرضنا، وريقه بعضنا، يشفى سقيمنا. اللفظ للبخاريّ وفي لفظ له: قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول في الرقية: تربة أرضنا، وريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا. ذكرهما في باب: رقية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
ولفظ مسلم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كان به قرحة أو جرح، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبّابته بالأرض ثم رفعها، بسم اللَّه تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا [ (2) ] . وفي لفظ: ليشفى [ (3) ] .
ولفظ أبى داود: قالت كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول للإنسان إذا اشتكى: يقول بريقه، ثم قال: به في التراب تربة أرضنا، بريقة بعضنا، ليشفى سقيمنا، بإذن ربنا [ (4) ] .
__________
[ () ] رحمتك علينا في الأرض، اللَّهمّ رب الطيبين اغفر لنا حوبنا وذنوبنا وخطايانا، ونزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على ما بفلان من شكوى، فيبرأ، قال: وقل ذلك ثلاثا ثم تعوذ بالمعوذتين ثلاث مرات» .
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 253، كتاب الطب، باب (38) رقية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (5745) ، (5746) .
[ (2) ] ، (3) (مسلم بشرح النووي) : 14/ 434، كتاب السلام، باب (21) ، استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، حديث رقم (54) .
[ (4) ]
(سنن أبى داود) : 4/ 219- 220، كتاب الطب، باب (كيف الرقى) ، حديث رقم (3895) ، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1163، كتاب الطب، باب (36) ما عوذ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما عوذ به، حديث رقم (3521) ، ولفظه: عن عائشة رضى اللَّه عنها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مما يقول للمريض ببزاقه إصبعه: «بسم اللَّه، تربة أرضنا، بريقه بعضنا، ليشفى سقيمنا بإذن ربنا» .
أي كان يأخذ من ريقه على إصبعه شيئا ثم يضعها على التراب فيعلق به منه شيء، فيمسح بها على الموضع الجريح، «تربة أرضنا» أي هذه تربة أرضنا «بريقة بعضنا» يدل على أنه كان يتفل عند الرقية.

(8/50)


وللبخاريّ من حديث سفيان، حدثني سليمان، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة رضى اللَّه عنها، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعوّذ بعض أهله، يمسح بيده ويقول: اللَّهمّ ربّ الناس، اذهب الباس، واشفه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما. ذكره في باب رقية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وخرّجه الإمام أحمد بهذا السند، ولفظه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعود بعض أهله، يمسحه بيمينه فيقول: أذهب الباس ربّ الناس، واشف إنك أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما.
وخرّجه مسلم عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا اشتكى [منا] [ (2) ] إنسان مسحه بيمينه، ثم قال: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما، فلما مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وثقل] [ (3) ] أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع، فانتزع يده من يدي، ثم قال: اللَّهمّ اغفر لي، واجعلني مع الرفيق [الأعلى] ،
[قالت:] فذهبت
__________
[ () ] قال النووي: معنى الحديث أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب، فعلق به شيء منه، ثم يمسح الموضع العليل أو الجرح، قائلا الكلام المذكور في حالة المسح.
«ليشفى» على بناء المفعول.. متعلق بمحذوف أي قلنا هذا القول، أو صنعنا هذا الصنيع، ليشفى سقيمنا. «بإذن ربنا» متعلق بقوله: «ليشفى» .
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 253، كتاب الطب، باب (38) رقية النبي، حديث رقم (5743) ، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1163، كتاب الطب، باب (36) ما عوّذ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما عوّذ به، حديث رقم (3520) .
[ (2) ]
(مسند أحمد) : 7/ 68- 69، حديث رقم (23662) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه عنها، ثم قالت: «فلما ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مرضه الّذي مات فيه، أخذت بيده فجعلت أمسحه بها وأقولها، قالت: فنزع يده منى ثم قال: رب اغفر لي وألحقنى بالرفيق الأعلى- قال أبو معاوية- قالت:
فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه- قال ابن جعفر- إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا عاد مريضا مسحه بيده وقال: اذهب البأس رب الناس» .
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .

(8/51)


انظر، فإذا هو قد قضى، صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ]
وللبخاريّ ومسلم من حديث النضر، عن هشام بن عروة [قال:] أخبرنى أبى عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يرقى يقول: امسح الباس ربّ الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت [ (2) ] .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث يحى، عن هشام قال: حدثني أبى عن عائشة، رضى اللَّه عنها، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يرقى: امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا يكشف الكرب إلا أنت [ (3) ] .
ولمسلم من حديث عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله، نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الّذي مات فيه، جعلت أنفث عليه، وأمسحه بيد نفسه، لأنها كانت أعظم بركة من يدي [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 430، كتاب السلام، باب (19) استحباب رقية المريض، حديث رقم (46) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 253، كتاب الطب، باب (38) رقية النبي، حديث رقم (5744) ، (مسلم بشرح النووي) : 14/ 432، كتاب السلام، باب (19) استحباب رقية المريض، حديث رقم (49) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 7/ 76، حديث رقم (23714) من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه عنها.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 432، كتاب السلام، باب (20) رقية المريض بالمعوذات والنفث، حديث رقم (50) .
قوله: «نفث عليه بالمعوذات» هي بكسر الواو، والنفث: نفخ لطيف بلا ريق، فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
قال القاضي عياض: وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقى، وأجازوا فيها النفخ بلا ريق، وهذا المذهب والفرق إنما يجيء على قول ضعيف، قيل: إن النفث معه ريق، قال: وقد اختلف العلماء في النفث والتفل، فقيل: هما بمعنى، ولا يكونان إلا بريق.

(8/52)


وخرّجه البخاري وأبو داود، من حديث مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها. ذكره البخاري في كتاب فضائل القرآن [ (1) ] ، وذكره في آخر كتاب المغازي من حديث يونس، عن ابن شهاب [ (2) ] .
وفي كتاب الطب بهذا السند، ولفظه: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو اللَّه أحد وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده، قالت عائشة رضى اللَّه عنها: فلما اشتكى كان
__________
[ () ] قال أبو عبيد: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، وقيل: عكسه.
وسئلت عائشة عن نفث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه.
قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة، ولا يقصد ذلك، وقد جاء في حديث الّذي رقى بفاتحة الكتاب فجعل يجمع بزاقه ويتفل.
قال القاضي: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن، لكن قال: كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء الحسنى، وكان مالك ينفث إذا رقى نفسه، وكان يكره الرقية بالحديدة: والملح، والّذي يعقد، والّذي يكتب خاتم سليمان، والعقد عنده أشد كراهة، لما فيه من مشابهة السحر.
وفي هذا الحديث: استحباب الرقية بالقرآن، والأذكار، وإنما رقى بالمعوذات لأنهن جامعات للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلا، ففيها الاستفادة من شر ما خلق، فيدخل فيه كل شيء، ومن شر النفاثات في العقد، ومن السواحر، ومن شر الحاسدين، ومن شر الوسواس الخناس، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 14/ 431- 433.
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 76، كتاب فضائل القرآن، باب (14) فضل المعوذات، حديث رقم (5016) .
وأخرج من حديث ابن شهاب، عن عروة، عائشة رضى اللَّه عنها، حديث رقم (5017) ولفظه:
«أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات» .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 166، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، حديث رقم (4439) .

(8/53)


يأمرني أن أفعل ذلك به [ (1) ] .
وذكره في باب المرأة ترقى الرّجل، من حديث معمر عن الزهري. ولفظه:
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينفث على نفسه في مرضه الّذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن، فأمسح بيده لبركتها [ (2) ] . وذكره في باب: الرقى بالقرآن، عن معمر نحوه [ (3) ] .
وخرّج الحاكم، من حديث سفيان، عن عاصم، عن زياد بن ثويب، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعودني فقال: ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟ فقلت: بلى، بأبي وأمى، قال: بسم اللَّه أرقيك، واللَّه يشفيك، من كل داء فيك، من شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد، فرقى بها ثلاث مرات [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 257، كتاب الطب، باب (39) النفث في الرقية، حديث رقم (5748) ، قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أتى فراشه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (5751) ، وفي آخره: فسألت ابن شهاب: كيف كان ينفث؟ قال:
ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (5743) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 224، كتاب الطب، باب (19) كيف الرقى، حديث رقم (3902) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1166، كتاب الطب، باب (38) النفث في الرقية، حديث رقم (3529) .
قال في (النهاية) : النفث بالفم، وهو شبيه النفخ، وهو أقل من التفل، لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق.
[ (4) ] (المستدرك) : 3/ 590، كتاب التفسير، تفسير سورة الفلق، حديث رقم (3990) ، وسكت عنه الذهبي في (التلخيص) ، وعزاه السيوطي في (الجامع الصغير) لابن ماجة، والحاكم عن أبى هريرة وصححه، ولم يعلق عليه المناوى.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 3564، قال في (الزوائد) : في إسناده عاصم بن عبيد-

(8/54)


__________
[ () ] اللَّه بن عاصم بن عمر العمرى، وهو ضعيف.
قال العلامة ابن القيم: وفي تأثير الرقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سرّ بديع، فإن ذوات أثّرت بكيفيات نفوسها الخبيثة ... وسلاحها حماتها اللتي تلدغ بها، وهي لا تلدغ حتى تغضب، فإذا غضبت، ثار فيها السم، فتقذفه بآلتها، وقد جعل اللَّه سبحانه لكل داء دواء، ولكل شيء ضدا، ونفس الراقي تفعل في نفس المرقى، فيقع في نفسيهما فعل وانفعال، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء، فيدفعه بإذن اللَّه.
ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانيّ، والطبيعي، وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرقية، والذكر والدعاء، فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق، والهواء والنفس، كانت أتم تأثيرا وأقوى فعلا ونفوذا، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة، شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة: فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيد بكيفية نفسه وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى، كانت الرقية أتمّ، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها.
وفي النفث سر آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا يفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان، قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ، وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة، وترسل أنفاسها سهاما لها، وتمدها بالنفث والتفل الّذي معه شيء من الريق، مصاحب لكيفية مؤثرة.
والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفث على العقدة وتعقدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة، فتقابلها الروح الزكية الطيبة، بكيفية الدفع والتكلم بالرقية، وتستعين بالنفث، فأيهما قوى كان الحكم له، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتها وآلتها من جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصل في المحاربة، والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها.
ولكن من غلب عليه الحسّ لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحسّ عليه، وبعده عن عالم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود: أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة واستعانت بالنفث والتفل، قابلت ذلك الأثر الّذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته، واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 178- 180.

(8/55)


وأما أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم
فخرّج البخاري [ (1) ] ، ومسلم [ (2) ] ، وأبو داود [ (3) ] ، من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، وعطاء، عن ابن عباس رضى اللَّه [تعالى عنهما] ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم وهو محرم. ذكره البخاري في الحج والطب ومسلم في الحج.
وللبخاريّ [ (4) ] وأبى داود [ (5) ] ، من حديث أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: احتجم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو صائم. وفي لفظ للبخاريّ، أن النبي
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 185، كتاب الطب، باب (12) الحجم في السفر والإحرام، قاله ابن بحينة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (5695) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 8/ 373، كتاب الحج، باب (11) جواز الحجامة للمحرم، حديث رقم (87) ، وحديث رقم (88) ولفظه: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم بطريق وهو محرم وسط رأسه» .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 2/ 418، كتاب المناسك، باب (36) المحرم يحتجم، حديث رقم (1835) .
لا تكره الحجامة للمحرم إلا من أجل قطع الشعر، فإن احتجم في موضع لا شعر عليه فلا بأس به، وإن قطع شعرا افتدى.
وممن رخص في الحجامة للمحرم سفيان الثوري، وأصحاب الرأى، وهو قول الشافعيّ وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة لا بد منها، وكان الحسن يرى في الحجامة دما يريقه (معالم السنن) .
وأخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب (11) الحجامة للمحرم، حديث رقم (1835) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 10/ 184، كتاب الطب، باب (11) أي ساعة يحتجم، حديث رقم (5694) .
[ (5) ] (سنن أبى داود) : 2/ 773، كتاب الصوم، باب (29) الرخصة في الحجامة للصائم، حديث رقم (2372) ، قال أبو داود: رواه وهيب بن خالد، عن أيوب بإسناده مثله، وجعفر بن ربيعة، وهشام ابن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.

(8/56)


صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم. ومثله للنسائى [ (1) ] .
وفي لفظ البخاري: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم وهو محرم في رأسه، من شقيقة كانت به. ذكره في الحجامة من الشقيقة والصداع.
وله من حديث سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: الشفاء في ثلاثة: شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهى أمتى عن الكي. ذكره في كتاب الطب، في باب: الشفاء في ثلاث [ (2) ] . وذكره في باب: الحجامة من الشقيقة، من
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 5/ 212، كتاب المناسك، باب (92) الحجامة للمحرم، حديث رقم (2845) ، (2846) ، (2847) من طرق.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 189، كتاب الطب، باب (15) الحجامة من الشقيقة والصداع، حديث رقم (5701) .
قوله: «باب الحجامة من الشقيقة والصداع» أي بسببهما، والشقيقة- بشين معجمة وقافين- وزن عظيمة: وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه، وذكر أهل الطب أنه من الأمراض المزمنة، وسببه أبخرة مرتفعة، أو أخلاط حارة، أو باردة، ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذا لها أحدثت الصداع، فإن مال إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك قمة الرأس أحدث داء البيضة. وذكر الصداع بعده من ذكر العام بعد الخاص.
وأسباب الصداع كثيرة جدا: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقيء، والاستفراغ، أو السهر، أو كثرة الكلام.
ومنها ما يحدث عن الأعراض النفسانية كالهم والغم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس كضربة تصيبه، أو ورم في صفاق الدماغ، أو حمل شيء ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بلبس شيء خارج عن الاعتدال، أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد.
وأما الشقيقة بخصوصها فهي شرايين الرأس وحدها، وتختص بالموضع الأضعف من الرأس، وعلاجها بشد العصابة.
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة «أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ربما أخذته الشقيقة، فيمكث اليوم واليومين لا يخرج» وفي الوفاة النبويّة حديث ابن عباس «خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد عصب رأسه» (فتح الباري) .

(8/57)


حديث عاصم بن عمر، عن جابر بنحوه [ (1) ] . وخرّجه مسلم [ (2) ] وفيه قصة [ (3) ] .
وللنسائى من حديث المعتمر، عن حميد عن أنس، رضى اللَّه عنه قال:
إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري. وفي لفظ: خير ما تداويتم به.
وله من حديث معمر عن قتادة، عن أنس رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وثء كان به [ (4) ] .
وللترمذي من حديث همّام [ (5) ] وجرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس [رضى اللَّه عنه] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحتجم في الأخدعين
__________
[ () ] (فتح الباري) : 10/ 168، كتاب الطب، باب (3) الشفاء في ثلاث، حديث رقم (568) ، حديث رقم (5681) ، كلاهما من حديث سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما باختلاف يسير في اللفظ.
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 189، كتاب الطب، باب (15) الحجامة من الشقيقة والصداع، حديث رقم (5702) ، وفيه: «وما أحب أن أكتوى» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 442، كتاب السلام، باب (26) لكل داء دواء، واستحباب التداوي، حديث رقم (71) .
[ (3) ] وهي: عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: جاءنا جابر بن عبد اللَّه في أهلنا، ورجل يشتكي خراجا به أو جراحا، فقال ما تشتكي؟ قال خراج بى قد شق عليّ، فقال: يا غلام، ائتني بحجام، فقال له: ما تصنع بالحجام يا أبا عبد اللَّه، قال: أريد أن أعلق فيه محجما. قال: واللَّه إن الذباب ليصيبني أو يصيبني الثوب فيؤذينى ويشقّ عليّ، فلما رأى تبرمه من ذلك قال: إني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
إن كان شيء من أدويتكم ... فذكر الحديث.
[ (4) ] (سنن النسائي) : 5/ 213، كتاب المناسك، باب (93) حجامة المحرم من علة تكون به، حديث رقم (2848) ، باب (94) حجامة المحرم على ظهر القدم، حديث رقم (2849) .
«الوثء» بفتح الواو وسكون المثلثة هو وهن في الرجل دون الخلع والكسر، يقال: وثئت رجله فهي موثوءة، ووثأتها أنا، وقد تترك الهمزة (شرح السيوطي على سنن النسائي) .
[ (5) ] في (الأصلين) : «هشام» وصوبناه من (سنن الترمذي) .

(8/58)


والكاهل [ (1) ] . وخرّجه [ابن] [ (2) ] أيمن وقال: أخبرنا أحمد بن زهير، سئل يحى عن هذا الحديث فقال: ليس بشيء.
ولأبى داود من حديث حماد، عن محمد بن عمرو، وعن أبى سلمة، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن كان في شيء مما تداويتم به خير فالحجامة [ (3) ] .
وخرّجه ابن أيمن وقال: إن كان في شيء مما تداوون.
ولأبى داود من حديث سعيد بن عبد الرحمن الجمحيّ، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من احتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين، كان شفاء من كل داء [ (4) ] .
ومن حديث أبى بكرة، بكار بن عبد العزيز قال: أخبرتنى عمتي كبشة بنت أبى [بكرة] ، أن أباها كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ [ (5) ] . [سهل وأمه مجهولان وأبو بكرة بن عبد العزيز ضعيف. وعمته كبشة مجهولة [ (6) ]] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 341- 342، كتاب الطب، باب (21) ما جاء في الحجامة، حديث رقم (2051) ، وقال في آخره: وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين. قال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن عباس ومعقل بن يسار، وهذا حديث حسن غريب.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 4/ 194، كتاب الطب، باب (3) في الحجامة، حديث رقم (3857) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : باب (5) متى يستحب الحجامة، حديث رقم (3861) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 453، حديث رقم (8254) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3862) .
[ (6) ] ما بين الحاصرتين من تعليق المقريزي رحمه اللَّه.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1152، كتاب الطب، باب (21) موضع الحجامة،

(8/59)


وخرّج الحاكم من حديث عبد الرحمن بن أبى الموالي، [قال:] حدثني أيوب بن الحسن بن على بن أبى رافع، عن جدته سلمى، قالت: ما سمعت أحدا يشكو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعا في رأسه، إلا قال: احتجم، ولا وجعا في رجليه إلا قال: اخضبهما [بالحناء] [ (1) ] قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (2) ] . وقد احتج البخاري بعبد الرحمن بن أبى الموالي.
وخرّج الحاكم من حديث أبى موسى عيسى بن عبد اللَّه الخياط، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبى سعيد الخدريّ [رضى اللَّه عنه قال:] إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: المحجمة التي في وسط الرأس من الجنون، والجذام، والنعاس، والأضراس، وكان يسميها: منقذة [ (3) ] .
قال: هذا حديث صحيح الإسناد.
ومن حديث زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى، حدثنا غزال بن محمد، عن محمد بن جحادة، عن نافع، عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] قال: [قال] نافع: قال لي ابن عمر: ابغني حجّاما لا يكون غلاما صغيرا، ولا شيخا كبيرا، فإن الدم قد تبيّغ بى، وإني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: الحجامة تزيد في العقل، وتزيد في الحفظ، فعلى اسم اللَّه احتجموا يوم [الاثنين] والثلاثاء، وما نزل جذام ولا برص إلا في ليلة
__________
[ () ] حديث رقم (3482) ، عن الأصبغ بن نباته، قال في الزوائد: في إسناده أصبغ بن نباته الحنظليّ، وهو ضعيف.
والأخدعان: عرقان في صفحتي العنق، والكاهل: ما بين كتفي العنق، وقيل: هو الكتد.
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 451- 452، كتاب الطب، حديث رقم (8246) .
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 234، كتاب الطب، حديث رقم (7478) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : عيسى في الضعفاء لابن حبان وابن عدي.

(8/60)


الأربعاء [ (1) ] .
قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات، إلا غزال بن محمد، فإنه مجهول، لا أعرفه بعدالة ولا جرح، وقد صح الحديث عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] من قوله: من غير مسند ولا متصل [ (2) ] . [فذكره عن ابن عمر ثم قال: وقد أسند هذا الحديث عطّاف بن خالد المخزومي عن نافع] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 234، كتاب الطب، حديث رقم (7479) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : غزال بن محمد مجهول.
[ (2) ] (المرجع السابق) : تعليقا على الحديث رقم (7479) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تعليق على الحديث رقم (7480) ، من (المرجع السابق) .

(8/61)


وأما الكيّ والسّعوط
فخرج مسلم من حديث الأعمش عن أبى سفيان، عن جابر قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبيّ بن كعب [رضى اللَّه عنه] ظبيا، فقطع منه عرقا [ثم كواه عليه] [ (1) ] . [وخرجه أبو داود بهذا الإسناد إلى قوله:] فقطع منه عرقا ولم يذكر الكيّ [ (2) ] .
وفي لفظ مسلم، من حديث شعبة قال: سمعت سليمان قال: سمعت أبا سفيان قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه [رضى اللَّه عنهما] قال: رمى أبى يوم الأحزاب على أكحله، قال: فكواه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
ومن حديث أبى خيثمة، عن أبى الزبير، عن جابر [رضى اللَّه عنه] قال:
رمى سعد بن معاذ في أكحله، [قال:] فحسمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده بمشقص، ثم ورمت، فحسمه الثانية [ (4) ] .
وخرّجه ابن أيمن ولفظه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كوى سعد بن معاذ مرتين [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 443، كتاب السلام، باب (26) لكل داء دواء، واستحباب التداوي، حديث رقم (73) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 197، كتاب الطب، باب (6) في قطع العرق وموضع الحجم، حديث رقم (3864) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 444، كتاب السلام، باب (26) لكل داء، واستحباب التداوي، حديث رقم (74) .
[ (4) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (75) .
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1156، كتاب الطب، باب (24) من اكتوى، حديث رقم (3494) ، ولفظه: «إن رسول اللَّه كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين» .

(8/62)


وقد وردت أحاديث في النهى عن [الكي] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] منها ما أخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 197- 200، كتاب الطب، باب (7) في الكيّ، حديث رقم (3865) ، عن عمران بن حصين قال: «نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الكي، فاكتوينا، فما أفلحن وما أنجحن» ، قال أبو داود: وكان يسمع تسليم الملائكة، فلما اكتوى انقطع عنه، فلما ترك رجع إليه.
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 341، كتاب الطب، باب (10) ما جاء في كراهية التداوي بالكي، حديث رقم (2049) ، وفيه: «فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال:
حدثنا عبد القدوس بن محمد، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين قال: نهينا عن الكي.
قال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن مسعود، وعقبة بن عامر، وابن عباس، وهذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1154- 1155، كتاب الطب، باب (23) الكي، حديث رقم (3489) ، «من اكتوى أو استرقى فقد بريء من التوكل» ، يريد أن كمال التوكل يقتضي ترك الأدوية، ومن أتى بها فقد بريء من تلك المرتبة العظيمة من التوكل.
وحديث رقم (3490) ، وهو حديث عمران بن الحصين المذكور في الباب.
وحديث رقم (3491) من حديث ابن عباس، وقال في آخره: «وأنهى أمتى عن الكي» .
قال الشيخ: إنما كوى صلّى اللَّه عليه وسلّم سعدا ليرقأ عن جرحه الدم، وخاف عليه أن ينزف فيهلك، والكي مستعمل في هذا الباب، وهو من العلاج الّذي تعرفه الخاصة وأكثر العامة، والعرب تستعمل الكي كثيرا فيما يعرض لها من الأدواء، وتقول في أمثالها: «آخر الدواء الكي» .
وأما حديث عمران بن حصين في النهى عن الكي، فقد يحتمل وجوها، أحدها: أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون: «آخر الدواء الكيّ» ، ويرون أنه يحسم الداء ويبرئة، وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك، فنهاهم عن ذلك إذا كان على ذلك الوجه.
وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على اللَّه سبحانه، وطلب الشفاء، والترجي للبرء بما يحدث اللَّه عزّ وجلّ من صنعه فيه، ويجلبه من الشفاء على أثره، فيكون الكي والدواء سببا لا علة.
وهذا أمر قد تكثر في شكوك الناس، وتخطىء فيه ظنونهم وأوهامهم، فما أكثر ما تسمعهم يقولون: لو أقام فلان بأرضه وبلده لم يهلك، ولو شرب الدواء لم يسقم، ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب، وتعليق الحوادث بها، دون تسليط القضاء عليها، وتغليب المقادير فيها، فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن، لا موجبات لها، وقد بين اللَّه جل جلاله ذلك في كتابه حيث قال:

(8/63)


[وقال ابن سعد: أخبرنا هاشم بن القاسم، حدثنا إسرائيل عن جابر، عن أبى جعفر قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يستعط بالسمسم، ويغسل رأسه بالسدر] [ (1) ] .

وأمّا الحنّاء
فخرّج الإمام أحمد من حديث قائد مولى عبد اللَّه بن على، عن أبى رافع، عن جدته سلمى [رضى اللَّه عنها] قالت: كنت أخدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما كانت تصيبه قرحة ولا نكتة، إلا أمرنى بأن أضع عليها الحناء.
وتقدم في الحجامة طرف من ذلك [ (2) ] .

وأمّا السّفرجل
فخرج البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى [بن طلحة، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد اللَّه] قال: دخلت على رسول اللَّه
__________
[ () ] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] ، وقوله تعالى حكاية عن الكفار: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 156] .
وفيه وجه آخر وهو: أن يكون معنى نهى عمران بن حصين خاصة، عن الكي في علة بعينها، لعلمه أنه لا ينجع، ألا تراه يقول: «فما أفلحنا ولا أنجحنا» ، وقد كان به الناصور، فلعله إنما نهاه عن استعمال الكي في موضعه من البدن.
والعلاج: إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورا، والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره، وليس كذلك في بعض الأعضاء، فيشبه أن يكون النهى منصرفا إلى النوع المخوف منه. واللَّه تعالى أعلم (معالم السنن) مختصرا.
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 448.
والسعوط: ما يجعل في الأنف مما يتداوى به، وقد سبق شرحه وتخريج أحاديثه في بابه.
[ (2) ] سبق تعريف الحناء والكلام عنها في الحجامة، وذكرنا ما قاله ابن القيم في (زاد المعاد) : 4/ 89- 90، عن فوائدها ومنافعها.

(8/64)


صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي يده سفرجلة، فألقاها إليّ وقال: دونكها أبا محمد، فإنّها تجمّ الفؤاد [ (1) ] .
وخرّجه الحاكم من حديث عبد الرحمن بن حماد بن مثله أو قريبا منه [وقال: هذا حديث صحيحة الإسناد] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1118، كتاب الأطعمة، باب (61) أكل الثمار، حديث رقم (3369) ، ورواته قبل طلحة: نقيب بن حاجب، وأبو سعيد، وعبد الملك الزبيري، ثلاثتهم مجاهيل.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 456، كتاب الطب، حديث رقم (8265) ، وما بين الحاصرتين ليست في (المستدرك) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) ، وفي سنده عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى بن طلحة، قال أبو حاتم، منكر الحديث، وقال ابن حبان وغيره: لا يحتج به.
ورواه النسائي من طريق آخر، وقال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في جماعة من أصحابه، وبيده سفرجلة يقلبها، فلما جلست إليه، دحا بها إليّ ثم قال: «دونكها أبا ذرّ، فإنّها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطحاء الصدر» وهو ضعيف أيضا. قال العلامة ابن القيم: وقد روى في السفرجل أحاديث أخر، هذا أمثلها ولا تصح.
والسفرجل: بارد يابس، ويختلف في ذلك باختلاف طعمه، وكله بارد قابض، جيد للمعدة، والحلو منه أقل برودة ويبسا، وأميل إلى الاعتدال، والحامض أشدّ قبضا ويبسا وبرودة، وكله يسكن العطش والقيء، ويدرّ البول، ويعقب الطبع، وينفع من قرحة الأمعاء، ونفث الدم، والهيضة، وينفع من الغيثان، ويمنع من تصاعد الأبخرة إذا استعمل بعد الطعام، وحراقة أغصانه وورقه المغسول كالتوتياء في فعلها.
وهو قبل الطعام يقبض، وبعده يلين الطبع، ويسرع بانحدار الثفل، والإكثار منه مضر بالعصب، مولد للقولنج، ويطفئ المرة الصفراء المتولدة في المعدة.
وإن شوى كان أقل لخشونته، وأخف، وإذا قوّر وسطه، ونزع حبه، وجعل فيه العسل، طيّن جرمه بالعجين وأودع الرماد الحار، نفع نفعا حسنا.
وأجود ما أكل مشويا أو مطبوخا بالعسل، وحبّه ينفع من خشونة الحلق، وقصبة الرئة، وكثير من الأمراض، ودهنه يمنع العرق، ويقوى المعدة، والمربى منه يقوى المعدة والكبد، ويشد القلب، ويطيب النفس.
ومعنى تجم الفؤاد: تريحه، وقيل: تفتحه وتوسعه من جمام الماء، وهو اتساعه وكثرته والطخاء للقلب مثل الغيم على السماء. قال أبو عبيد: الطخاء ثقل وغشي، تقول: ما في السماء طخاء، أي:
سحاب وظلمة (زاد المعاد) : 4/ 321.

(8/65)