إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر من حدّث عنه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبر عن رب العزة جلت قدرته،
بما أوحى إليه من الكتاب والحكمة، فالكتاب هو القرآن الكريم، والحكمة سنة
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وروى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم عن ربه عز وجل أحاديث كثيرة، ورأى جبريل عليه السلام على صورته التي
خلق عليها مرتين، ونزل عليه بالقرآن عن اللَّه تعالى على قلبه الكريم، ورأى
صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الإسراء خازن الجنة وخازن النار، وشيعه من كل
سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، وتلقاه المقربون من الأخرى، وأتاه
صلّى اللَّه عليه وسلّم ملك الجبال يوم قرن الثعالب برسالة من اللَّه فقال:
إن شاء أن يطبق عليهم الأخشبين، فقال: بل استأنى بهم، ونزل عليه ملك يبشره
بالفاتحة، وبالآيتين من آخر سورة البقرة، وأتاه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو
يجمع الأقباض، وجبريل عليه السلام عن يمينه ملك، فبلغه سلام ربه، وأخبره عن
اللَّه بتصويب ما أشار به الحباب بن المنذر، واجتمع ليلة الإسراء
بالأنبياء، ورآهم على مراتبهم، فرأى إبراهيم، وإدريس، وموسى، وعيسى، ويحيى،
ويوسف، وهارون، وآدم، وسلموا عليه، ورحبوا به وحدثه إبراهيم عليه السلام،
بحديث رواه عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحدث صلّى اللَّه عليه وسلّم عن
تميم الداريّ بقصة الدجال، وحدث صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قس بن ساعدة،
بما سمعه يقول بسوق عكاظ.
فأما ما أخبر به صلّى اللَّه عليه وسلّم عن رب العزة جلت قدرته
فقد قدمت فيما سلف اختلاف أئمة الإسلام في رؤيته صلّى اللَّه عليه وسلّم
للَّه عز وجل، وفي سماعه كلام اللَّه تعالى وخطابه له ليلة الإسراء فأغنى
عن إعادته.
فالكتاب العزيز الّذي هو القرآن العظيم، المعجز المبين، وحبل اللَّه
المتين، فإنه علم على صدق نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم، اقترن بدعوته، ولم
يزل أيام حياته، ودام في أمته بعد وفاته وهو كما وصفه به من أنزله فقال جل
من قائل:
(9/38)
إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ [ (1) ] ، وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [
(2) ] ، وقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ (3) ] ،
وقال: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [ (4) ] وقال: وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [
(5) ] ، وقال: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ* فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ
بَرَرَةٍ [ (6) ] ، وقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ (7) ] فإن اللَّه جل جلاله
أنزل هذا القرآن الكريم، على وصف مباين لأوصاف كلام البشر، لأنه منظوم وليس
منثور ونظمه ليس كنظم الرسائل، ولا نظم الخطب، ولا نظم الأشعار، ولا هو
كسجع الكهان.
وأعلم سبحانه وتعالى أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله، ثم أمره صلّى اللَّه
عليه وسلّم أن يتحداهم على الإتيان به إن ادعوا أنهم قادرون عليه، أو ظنوه،
فقال تبارك وتعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [
(8) ] ثم أنقصهم تسعا، فقال:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (9) ] ، وكان امتناع قريش من ذلك،
دلالة على صدقه، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان من
الموافق له، والمخالف عليه، غير مدفوع عن الحصانة والمتانة، ورصانة العقل،
وقوة الرأى.
__________
[ (1) ] فصلت: 41، 42.
[ (2) ] الواقعة: 77، 78، 79، 80.
[ (3) ] البروج: 21، 22.
[ (4) ] آل عمران: 62.
[ (5) ] الأنعام: 155.
[ (6) ] عبس: 11- 16.
[ (7) ] الإسراء: 88.
[ (8) ] هود: 13.
[ (9) ] البقرة: 23.
(9/39)
ومعلوم أن من كان بهذه المنزلة، وهو مع ذلك
قد انتصب لدعوة الناس إلى دينه، لم يجز بوجه من الوجوه أن يقول للناس:
ائتوا بسورة من مثل ما جئتكم به من القرآن، ولن تستطيعوا أن تأتوا بذلك،
فإن أتيتم به فأنا كاذب، وهو يعلم من نفسه أن القرآن لم ينزل عليه، ولا
يأمن أن يكون في قومه من يعارضه، وأنه إن عارضه أحد بطلت دعوته.
فكان هذا دليل قاطع، على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يقل للعرب: ائتوا
بمثله إن استطعتموه، ولن تستطيعوه، إلا وهو واثق متحقق أنهم لا يستطيعونه،
ولا يجوز أن يكون هذا اليقين وقع له إلا من قبل ربه الّذي أوحى إليه به،
حتى إنه وثق بخبره، ويؤيد ذلك
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لهم: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ.
وطالت النظرة والمهلة لهم في ذلك، ووقائعه لهم تتواتر، ومحاربته لهم لا
تزال: فيقتل صناديدهم، ويسبى ذراريهم، ونساءهم، ويأخذ أموالهم بالقوة، فلم
يتعرض أحد لمعارضته، ولو قدروا عليها، لافتدوا بها أنفسهم، وأولادهم،
وأهاليهم، وأموالهم، ولكان الأمر في ذلك قريبا سهلا عليهم، إذ هم أهل
اللسن، والفصاحة، والشعر، والخطابة.
فلما لم يأتوا بذلك، ولا ادعوه صح أنهم كانوا عاجزين عنه، وفي ظهور عجزهم
بيان أنه في العجز مثلهم، إذ كان بشرا مثلهم، لسانه لسانهم وعاداته
عاداتهم، وطباعه طباعهم، وزمانه زمانهم، وإذ كان كذلك، وقد جاء بالقرآن،
وجب القطع بأنه من عند اللَّه تعالى، لا من عنده صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فإن أورد ملحد أسجاع مسيلمة، قيل له: إنما كان الّذي جاء به مسيلمة، لا
[يعدو] أن يكون إلا مجالا، أو سرقة، أو كأسجاع الكهان، وأراجيز العرب، وقد
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما هو أحسن لفظا، وأقوم معنى،
وأبين فائدة، من أسجاع مسيلمة، ومع ذلك فلم تقل له العرب: يا محمد، أما أنت
تتحدانا على الإتيان بمثل [القرآن] ، وتزعم أن الإنس والجن لو اجتمعوا على
أن يأتوا بمثله لم يقدروا عليه، ثم قد جئت بمثله، فما هو إلا مفترى، إنه
ليس من عند اللَّه، وذلك
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
(9/40)
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
تاللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
[اللَّهمّ] إن العيش عيش الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: تعس عبد الدينار والدرهم، وعبد الخميصة، إن
أعطى منها رضى، وإن لم يعط سخط، نفس وانتكس، وإن شيك فلا انتكش.
فلم يدع أحد من العرب أن شيئا من هذا يشبه القرآن، ولا أن فيه كسر لقوله،
وكان عرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على العرب هذا الكلام، الّذي
أعجزهم عن الإتيان بمثله، أعجب في الآية، وأوضح في الدلالة، من إحياء عيسى
عليه السّلام الموتى، وإبرائه الأكمه والأبرص، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم
أتى أهل البلاغة، وأرباب الفصاحة، ورؤساء البيان، والمتقدمين في اللسن
بكلام مفهوم المعنى عندهم، فكان عجزهم عن الإتيان بمثله أعجز من عجز شاهد
المسيح، وعجز عن إحياء الموتى لأنهم لم يكونوا يطيقون إحياء الموتى، وإبراء
الأكمه والأبرص، ولا يتعاطون علمه، بخلاف قريش فإنّها كانت تتعاطى الكلام
الفصيح، والبلاغة والخطابة فدل [على] أن العجز عن إتيانهم بمثل القرآن،
إنما كان معجزة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتؤيد صدق رسالته،
وصحة نبوته.
وهذا برهان واضح وحجة قاطعة لمن وفقه اللَّه، ومع ذلك ففي القرآن الكريم
وجهان آخران في الإعجاز:
أحدهما: ما تضمنه من الإخبار عن المغيبات، كقوله تعالى:
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ (1) ] وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ [ (2) ] وقوله في الروم:
__________
[ (1) ] الفتح: 28.
[ (2) ] النور: 55.
(9/41)
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (1) ] ونحوها من الآيات التي وعد
اللَّه فيها بالفتوح في زمن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعده،
وكان كما أخبر، ومعلوم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يعلم النجوم ولا
الكهانة، ولا يجالس أهلها.
والثاني: ما اشتمل عليه من قصص الأولين، من غير أن يعلم ذلك من أحد من
علماء أهل الكتاب، ومعلوم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أميا، لا يقرأ
كتابا، ولا يخطه، ولا يجالس أهل الكتاب، ليأخذ عنهم، ولما زعم بعض مشركي
قريش أن ما يعلمه بشر، ردّ اللَّه تعالى عليه قوله، فقال سبحانه: لِسانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ
[ (2) ] ، وذلك أنه كان لابن الحضرميّ غلامان نصرانيان، يقرءان كتابا لهما
بالعبرانية، وبالرومية، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتيهما
فيحدثهما، ويعلمهما، فقال المشركون: إنما يتعلم محمد منهما، فأنزل اللَّه
تعالى هذه الآية.
وإذا تقرر ذلك، فاعلم أن أعظم المعجزات، وأشرفها، وأوضحها دلالة، القرآن
الكريم، لأن الخوارق في الغالب، تقع مغايرة للوحى الّذي يتلقاه النبي،
وتأتى المعجزة شاهدة به، والقرآن بنفسه هو الوحي [المدعى] ، وهو الخارق
المعجز فدلالته في عينه، ولا نفتقر إلى دليل أجنبى عنه، كسائر الخوارق مع
الوحي، فهو أوضح دلالة، لاتحاد الدليل والمدلول فيه.
وهذا معنى ما خرجه البخاري ومسلم، من حديث الليث، عن سعيد بن أبى سعيد
المقبري، عن أبيه، عن أبى هريرة، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطى من
الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الّذي [أوتيته] وحيا أوحى اللَّه
إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الروم: 3- 4.
[ (2) ] النحل: 103.
[ (3) ]
رواه البخاري في فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، وفي
الاعتصام، باب قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،: بعثت بجوامع
الكلم، ومسلم في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه
وسلّم حديث رقم (152) ، (جامع الأصول) : 8/ 533، حديث رقم (6333) .
(9/42)
يشير صلّى اللَّه عليه وسلّم، إلى أن
المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الموضوع، وقوة الدلالة، وهي كونها نفس
الوحي، كان المصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدق المؤمن، وهم التابع
والأمة. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
ويدلك هذا، على أن القرآن من بين الكتب [الإلهية] ، إنما تلقاه رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلا كما هو، بكلماته وتراكيبه، بخلاف التوراة
والإنجيل، وغيرهما من الكتب الإلهية، فإن الأنبياء عليهم السلام يتلقونها
في حال الوحي، معاني يعبرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية، بكلامهم
المعتاد لهم، ولذلك لم يكن فيها إعجاز، واختص الإعجاز بالقرآن الكريم.
وكان تلقى الأنبياء لكتبهم، مثل ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
يتلقى المعاني التي يسندها إذا حدث بها إلى اللَّه تعالى، ويشهد لتلقيه
صلّى اللَّه عليه وسلّم القرآن متلوا قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا
قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[ (1) ] ، أي محمد لا تحرك بالقرآن لسانك عجلان، خائفا أن يفوتك، ويزول
حفظه عن قلبك، إن علينا أن نجمعه في نفسك، حتى تقرأه بلسانك، فإذا أنزلناه
عليك فاستمع قراءته ثم علينا أن نحفظه، ونبينه بلسانك.
خرج البخاري ومسلم من حديث أبى عوانة، موسى بن أبى عائشة، عن سعيد بن
الجبير، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى [عنهما] في قوله عز وجل: لا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
، قال: [كان] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعالج من التنزيل شدة،
كان يحرك شفتيه، فأنزل اللَّه عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
، قال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه، فإذا قرأناه فاتبع قراءته، قال: فاستمع،
وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم كما قرأه. ذكره مسلم [ (2) ] في كتاب الصلاة،
__________
[ (1) ] القيامة: 16- 18.
[ (2) ] (فتح الباري) ،: 13/ 611، كتاب التوحيد، باب رقم 43 [بدون ترجمة] ،
حديث رقم (7524) ، وزاد عليه بعد قوله: يحرك به شفتيه فقال ابن عباس:
أحركهما لك كما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحركهما؟ فقال
سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه.
(9/43)
وذكره البخاري في كتاب التوحيد، في باب قول
اللَّه عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
، وذكره في أول كتابه، [وذكره في] التفسير، في فضائل القرآن، ولفظه: كان
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل جبريل بالوحي، كان يحرك به
لسانه وشفتيه، فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل اللَّه [عز وجل] الآية
التي في: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[ (1) ] ، قال: علينا أن نجمعه في صدرك وقراءته، فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[ (2) ] ، فإذا أنزلناه فاستمع ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [ (3) ] ،
علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا
أتاه جبريل [عليه السلام] يقرئه القرآن؟ فإذا ذهب قرأه كما وعده اللَّه [عز
وجل] . أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [ (4) ] ، توعد [ (5) ] .
فقد تبين أن سبب نزول الآية، ما كان يقع له صلّى اللَّه عليه وسلّم من
بدارة إلى تدارس الآية، خشية من النسيان، وحرصا على حفظ ذلك المتلو المنزل،
فتكفل اللَّه عز وجل له بحفظه، يقول [تبارك وتعالى] : إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (6) ] ، هذا هو معنى
الحفظ الّذي اختص به القرآن، لا قيل غير ذلك، فإنه بمعزل عن المراد.
وفي القرآن الكريم آيات عديدة، تشهد بأنه نزل قرآنا، متلوا، معجزا بسورة
منه، وهذا القرآن العظيم، أعظم معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
ولم يكن في معجزاته- مع كثرتها- أعظم منه ومن ائتلاف العرب على دعوته، كما
__________
[ (1) ] القيامة: 16- 17.
[ (2) ] القيامة: 18.
[ (3) ] القيامة: 19.
[ (4) ] القيامة: 34.
[ (5) ] زيادة للسياق من (البخاري) ، (فتح الباري) : 8/ 882، كتاب التفسير
باب رقم 2 [بدون ترجمة] ، حديث رقم (4929) .
[ (6) ] الحجر: 9.
(9/44)
قال [تبارك] وتعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما [أَلَّفْتَ] بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ
اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ (1) ] .
فاعلم هذا، وتذكره، تجده صحيحا، وكما قررت لك، وتأمل ما يشهد لك به، من
ارتفاع رتبته على الأنبياء، وعلو مقامه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] الأنفال: 63.
(9/45)
وأما الأحاديث [الإلهية] [ (1) ]
__________
[ (1) ] وتسمى أيضا [الأحاديث القدسية] ، والحديث القدسي: هو ما رواه رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ربه تبارك تعالى على غير النسق القرآني،
ونظمه، وإعجازه، ولكنه في نظمه وأسلوبه بسائر الحديث النبوي أشبه، وهو يعد
في جملة السنة النبويّة لكون راويه هو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وله صيغ متعددة يعرف بها.
صيغة الحديث القدسي: أكثر الصيغ التي يعرف بها الحديث القدسي وأشهرها ما
كان صريحا في بيان هذه النسبة، مثل قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم: «وقال اللَّه» أو «يقول اللَّه:» أو «قال ربكم: «أو يقول ربكم» أو
«أوحى اللَّه» أو ما أشبه ذلك من الصيغ التي تثبت القول للرب تبارك وتعالى
عن طريق إسناد فعل القول أو ما يؤدى معناه إسنادا صريحا إليه، وهناك صيغ
أخرى يعرف بها الحديث القدسي عن طريق الدلالة،
منها: ما رواه ابن حبان في صحيحه، عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم: يؤتى بالموت يوم القيامة فيوثق على الصراط، فيقال: يا
أهل الجنة، فينطلقوا خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الّذي هم فيه، ثم
يقال: يا أهل النار، فينطلقوا فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الّذي هم
فيه، فيقال: هل تعرفون ذلك؟ فيقولون: نعم ربنا، فيقال: هذا الموت فيؤمر به
فيذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كليهما: خلود ولا موت فيه أبدا.
ففي هذا الحديث يقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فيقال» هكذا على
من لم يسم فاعله، فلم يحدد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الّذي
نادى أهل الجنة وأهل النار فسألهم جميعا عن الموت قائلا لهم: «هل تعرفون
ذلك؟ «فلم نعرف هل هو الحق تبارك وتعالى؟ أم هو ملك من ملائكته؟ حتى ورد في
الحديث جواب أهل الجنة وأهل النار لهذا السائل قائلين: «نعم ربنا» فدل
جوابهم هذا على أن الّذي خاطبهم بالنداء والسؤال هو المولى عز وجل، فعرفنا
حينئذ أن الحديث قدسي بهذه الدلالة.
مكان الحديث القدسي: الحديث القدسي مبثوث في مدونات السنة ومصنفاتها
المختلفة من مسانيد وسنن، ومعاجم وجوامع وغيرها، لا يتميز دون سائر
أحاديثها في باب مستقل، أو موضع محدد.
أهم المؤلفات في الحديث القدسي:
* كتاب (مشكاة الأنوار فيما روى عن اللَّه سبحانه من الأخبار) للشيخ محيي
الدين بن عربي.
* كتاب (الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية) للشيخ محمد المدني.
(9/46)
وهي التي يرويها رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم، عن اللَّه تبارك وتعالى، فهي كثيرة، كحديث: [يا عبادي] كلكم
جائع إلا من أطعمته.. الحديث أخرجه مسلم [ (1) ] ، وله أشباه عديدة، وقد
أفرد العلماء فيها مصنفات فجمع زاهر بن طاهر فيها مصنفا، وكتب الحافظ
الضياء فيها كتابا، ولعلى بن بليان فيها مجلد، يحتوي على نحو مائة حديث،
وقد تقدم رؤية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جبريل عليه السّلام،
على صورته التي خلقها اللَّه عليها، وكيف تلقى عنه القرآن الكريم، الّذي
نزل على قلبه المقدس، وتقدم أيضا رؤية خازن الجنة وخازن النار، وتشييع
ملائكة السموات، وتلقيهم له.
__________
[ () ] * كتاب (الأحاديث القدسية) إعداد لجنة القرآن والحديث بالمجلس
الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
[ (1) ]
ونحوه في (سنن الترمذي) : 4/ 556، 567، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع،
باب (48) بدون ترجمة، حديث رقم (2495) ولفظه: «حدثنا هناد، حدثنا أبو
الأحوص عن ليث عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبى ذر قال: قال
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يقول اللَّه تعالى: يا عبادي كلكم ضال
إلا من هديته فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم،
وكلكم مذنب إلا من عافيت، فمن علم منكم أنى ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني
غفرت له ولا أبالى، ولو أن، أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم،
اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي، ما نقص ذلك من ملكي شيئا ... (الحديث)
. وأخرجه ابن ماجة في (السنن) :
2/ 1422- كتاب الزهد، باب (30) ذكر الذنوب، حديث رقم (4257) ، (صحيح
الأحاديث القدسية) : 174، فصل في النهى عن الظلم، باب (7) حديث إني حرمت
الظلم على نفسي رقم (167) ،
والمقصود من هذا المثل هو التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه، فإن البحر من
أعظم المرئيات عيانا.
(9/47)
وأما الحكمة، وهي سنة رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم
فقال الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن إدريس الشافعيّ- رحمه اللَّه ورضى
عنه-: قد وضع اللَّه [عز وجل] رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من [دينه] ،
وفرضه، وكتابه، الموضع الّذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علما لدينه بما افترض
من طاعته، وحرم معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن من الإيمان برسوله، مع
الإيمان به، فقال: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (1) ] ، وقال: إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (2) ] ، فجعل
كمال ابتداء الإيمان الّذي ما سواه، تبع له الإيمان باللَّه، ثم برسوله.
قال الشافعيّ: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد في قوله عز
وجل: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (3) ] قال: لا أذكر إلا ذكرت، أشهد أن لا
إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه. قال: وفرض اللَّه على الناس
اتباع وحيه وسنن رسوله، فقال في كتابه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [يَتْلُوا]
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (4) ] مع
آي سواها، ذكر فيهن الكتاب والحكمة.
قال الشافعيّ: فذكر اللَّه الكتاب والقرآن، وذكر الحكمة، فسمعت ممن أرضى من
أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ (5) ] ، فقال: بعض أهل العلم [أولو] الأمر:
هم أمراء سرايا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: فإن تنازعتم في
__________
[ (1) ] النساء: 136.
[ (2) ] النور: 62.
[ (3) ] الشرح: 4.
[ (4) ] آل عمران: 164.
[ (5) ] النساء: 59.
(9/48)
شيء، يعنى اختلفتم في شيء، يعنى- واللَّه
أعلم- هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعته، فردوه للَّه والرسول، يعنى- واللَّه
أعلم- إلى ما قاله اللَّه والرسول.
ثم ساق الكلام إلى أن قال: فأعلمهم أن طاعة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم طاعته، فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] .
واحتج أيضا في فرض اتباع أمره بقوله عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ [ (2) ] وقوله: [وَ] ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما
نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ (3) ] ، وغيرها من الآيات التي دلت على
اتباع أمره، ولزوم طاعته.
قال: وكان فرضه جل ثناءه على من عاين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
بعده إلى يوم القيامة واحدا، من أن على كل طاعته، لم يكن أحد غاب عن رؤية
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم إلا بالخبر عنه، والخبر عنه خبران:
خبر عامة عن عامة: عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بجمل ما فرض
اللَّه سبحانه من العبادات، يأتوا به بألسنتهم وأفعالهم، ويؤتوه من أنفسهم
وأموالهم، وهذا ما لا يسع جهله، وما يكاد أهل العلم والعوام أن يستووا فيه
لأن كلا كلفه، كعدد الصلاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وتحريم الفواحش، وأن
للَّه عليهم حقا في أموالهم، وما كان في معنى هذا.
وخبر خاصة: في خاص الأحكام، لم يأت أكثره كما جاء الأول، لم يكلفه العامة
وكلف علم ذلك من فيه الكفاية للقيام به دون العامة، وهذا مثل ما يكون بينهم
في الصلاة من سهو يجب به سجود السهو أو لا يجب، وما يفسد الحج، و [ما] لا
يفسده، وما يجب به الفدية، وما لا يجب فيما لا يفعل، وغير
__________
[ (1) ] النساء: 5.
[ (2) ] النور: 63.
[ (3) ] الحشر: 7.
(9/49)
ذلك. وهو الّذي على العلماء فيه عندنا،
قبول خبر الصادق على صدقه، ولا يسعهم رده، بفرض اللَّه طاعة نبيه.
قال: ولولا ثبوت الحجة بالخبر، لما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم: ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب
مبلغ أوعى من سامع، فلما ندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى
استماع مقالته وأدائها، أمر أن يؤديها، والأمر واحد، دل على أنه لا يأمر أن
يؤدى عنه إلا ما تقوم الحجة به على من أدى إليه.
قال: سفيان بن عيينة: أخبرنى سالم أبو النصر، أنه سمع عبيد اللَّه ابن أبى
رافع، يخبر عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا ألفين
أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمرى، مما أمرت به أو نهيت عنه،
يقول: لا أدرى، ما وجدنا في كتاب اللَّه اتبعنا [ (1) ] .
والحجج في تثبيت خبر الواحد كثيرة، وفيما احتج به الإمام الشافعيّ رحمه
اللَّه [و] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على ذلك كفاية.
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 5/ 12، كتاب السنة، باب (6) في لزوم السنة، حديث
رقم (4605) ، (سنن الترمذي) : 5/ 36- 37، كتاب العلم، باب (9) ما جاء فيمن
روى حديثا، وهو يرى أنه كذب، حديث رقم (2663) ، وقال أبو عيسى: هذا حديث
حسن صحيح، وروى بعضهم عن سفيان عن ابن المنكدر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم مرسلا، وسالم ابن لأبى النضير عن عبيد اللَّه بن أبى رافع عن
أبيه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان ابن عيينة إذا روى هذا
الحديث على الانفراد بين حديث ابن المنكدر من حديث سالم ابن أبى النضر،
وإذا جمعهما روى هكذا، وأبو رافع مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
اسمه أسلم.
(9/50)
وأما مجيء الجبال إلى رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم
فخرج البخاري في كتاب بدء الخلق، في باب ذكر الملائكة، من حديث ابن وهب
قال: أخبرنى يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير، أن عائشة رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنها، حدثته أنها قالت: يا رسول اللَّه! هل أتى عليك
يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم،
يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما
أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت
رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال:
إن اللَّه قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال،
لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، وسلم على، ثم قال: يا محمد! إن
اللَّه عز وجل قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك
لتأمرنى بأمرك، فما شئت [ (1) ] ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد
اللَّه وحده لا يشرك به شيئا [ (2) ] ، وذكر طرفا من هذا الحديث في كتاب
التوحيد [ (3) ] ، وخرجه مسلم أيضا [ (4) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين ليس في (البخاري) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 384، كتاب بدء الخلق، باب (7) بدون ترجمة، حديث
رقم (3231) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 13/ 460، كتاب التوحيد، باب (9) بدون ترجمة، حديث
رقم (7389) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 396- 397، كتاب الجهاد والسير، باب (39)
ما لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أذى المنافقين، حديث رقم
(111) .
(9/51)
وأما إنزال الملك
يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة
فخرج مسلم من حديث عبد اللَّه بن عباس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى
اللَّه تبارك وتعالى [عنها] قال: بينما جبريل عليه السّلام قاعدا عند رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب
من السماء فتح اليوم، ولم يفتح قط إلا اليوم! فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك
نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم! فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتها، لم
يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، [لم] تقرأ بحرف منها
الا أعطيته [ (1) ] .
وأما الملك الّذي نزل بتصويب الحباب
ففي مغازي الأموي، عن أبيه قال: وزعم الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
يجمع الأقباض وجبريل عن يمينه، إذ أتاه ملك من الملائكة، قال: يا محمد، إن
اللَّه يقرأ عليك السلام، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هو
السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، فقال الملك: إن اللَّه يقول لك: إن
الأمر الّذي أمرك به الحباب ابن المنذر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم: يا جبريل! هل تعرف هذا؟ قال: ما كل أهل السماء أعرف، وإنه لصادق،
وما هو بشيطان [ (2) ] .
وإسناد هذا الحديث ليس بذاك، وقد خالف فيه
محمد بن عمر الواقدي فقال: حدثني ابن أبى حبيبة، عن داود بن الحصين، عن
عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: نزل جبريل على رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 339، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب
(43) فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، حديث رقم (806) .
[ (2) ] قال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 3/ 327، قال الأموي:
حدثنا أبى قال: وزعم الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس به، والكلبي وهو مدلس.
(9/52)
فقال: الرأى ما أشار به حباب، فقال رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا حباب! أشرت بالرأي،
فنهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ففعل كل ذلك [ (1) ] .
وأما اجتماعه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنبياء ورؤيتهم في ليلة الإسراء
فقد مضى ذكر ذلك مجودا فراجعه [ (2) ] .
وأما حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن إبراهيم عليه السّلام
فخرج الترمذي من حديث القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بى، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك منى
السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء وأنها قيعان، وأن غراسها
سبحان اللَّه، والحمد اللَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر.
قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجهة [ (3) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه ابن عمر،
عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبى أيوب الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة أسرى به مر على إبراهيم
عليه السلام، فقال من معك يا جبريل؟ قال: هذا محمد، قال له إبراهيم: مر
أمتك
__________
[ (1) ] أخرجه الواقدي في (المغازي) : 1/ 54، وفي إسناده داود بن الحصين
وهو ضعيف، فضلا عن أن روايته عن عكرمة منكرة، كما صرح بذلك الحفاظ كعليّ بن
المديني وابن معين، انظر (تهذيب التهذيب) : 3/ 157.
[ (2) ] راجع (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 1/ فصل في الإسراء برسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 476، كتاب الدعوات باب 59 [بدون ترجمة] (3462)
وفيه عبد الرحمن ابن إسحاق بن سعد الحارث، قال فيه أحمد: ليس بشيء، منكر
الحديث، وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف، ليس بشيء، وقال البخاري: فيه نظر،
وكذا ضعفه النسائي.
(9/53)
فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة،
وأرضها واسعة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه [ (1)
] .
وخرج ابن حبان في صحيحه، من حديث حيوة بن شريح قال: أخبرنى أبو صخر، أن عبد
اللَّه بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، أخبره عن سالم بن
عبد اللَّه بن عمر قال: حدثني أيوب صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة اسرى به، مر على
إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، فقال لجبريل عليه السّلام،: من معك يا
جبريل؟ فقال جبريل: هذا محمد، فقال: مر أمتك أن يكثروا غراس الجنة، فإن
تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
لإبراهيم: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه [ (2) ] .
[[و] إبراهيم خليل الرحمن، أبو الضيفان] ، وهو الأب الثالث، أب الآباء،
وعمود العالم، وإمام الحنفاء، الّذي اتخذه اللَّه تعالى خليلا، وجعل النبوة
والكتاب في ذريته، وشيخ الأنبياء ابن [آذر] ، ويقال: [آذر] بن تارح ابن
نوحود بن مسروغ بن رعوا بن فالغ بن عيبر، ويقال: عابر بن شالخ بن أرفخشاذ
بن سام بن نوح [ (3) ] ، صلوات اللَّه وسلامه عليه، كان آباؤه في
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 3948.
[ (2) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 101، كتاب الرقاق، باب (8)
الأذكار، ذكر البيان بأن المرء كلما كثر تبريه من الحول والقوة إلا ببارئه
كثر غراسه في الجنة، حديث رقم (821) ، وفيه عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن
عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، وثقة ابن حبان، وأبو صخر وهو حميد بن زياد
وهو متكلم فيه من قبل حفظه، وما بين الحاصرتين سقط من (ج) .
[ (3) ] وتمام النسب: ابن نوح بن لامخ بن مثوشالح بن حنوح- وهو إدريس- بن
يارذ بن ماهللئيل بن قنن بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السّلام، وعلى سائر
الأنبياء والمرسلين. (المقفى الكبير) :
1/ 13.
قال العلامة المقريزي رحمه اللَّه: هذه الأسماء كلها ليست بعربية، وقد خبط
في ضبطها كثير من نقلة الأخبار لبعدهم عن معرفة العبرانية، والصواب في ذلك
ما وقع في التوراة، إذ هذه الأسماء ليست مما يدخله النسخ والتبديل، وهي
هناك كما أوردته لك هنا.
(9/54)
__________
[ () ] وأزيدك أيضا بيانا بضبطها بالحروف، فإنّها إنما كتبت في التوراة
بالقلم العبرانىّ، وقد منّ اللَّه بعد معرفتها بالقلم العبرانىّ أن يسّر
ضبطها بالحروف العربية.
فإبراهيم، كان اسمه «أبرام» بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وضم الراء
المهملة، ثم ألف بعدها ميم، ومعنى ذلك تقريبا: رفيع القدر «فسماه اللَّه
تعالى: أبروهام: وصار معناه: أبو جمهور الأحزاب. وعرّبته العرب فقالت:
إبراهيم: بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وكسر الهاء
ثم ياء آخر الحروف ساكنة بعدها ميم.
وقالت أيضا «إبراهام» بفتح الهاء، وبهما جاء تنزيل العزيز الحكيم في القرآن
المجيد.
وسمع أيضا «إبرهم» . قال عبد المطلب بن عبد مناف بن أساف: نحن آل اللَّه في
بلدته، لم يزل ذاك على عهد إبرهم.
وتارح، بفتح التاء المثناة من فوق ثم ألف ساكنة بعدها راء مهملة مفتوحة ثم
حاء مهملة.
ونوحور، بضم النون وسكون الواو وضمّ الحاء المهملة، وبعدها واو ثم راء
مهملة.
وسروغ، بفتح السين المهملة وضم الراء المهملة، ثم واو ساكنة بعدها غين
معجمة.
ورعو، بضم الراء والعين المهملتين ثم واو.
وفالغ، بفاء مفتوحة بعدها ألف ثم لام مفتوحة وغين معجمة. وهذه الفاء ليست
في اللغة. وبعضهم يقول: فالج بالجيم، وهذه الفاء بين الفاء والباء الموحدة.
وعيبر، بكسر العين المهملة وسكون الباء اخر الحروف وفتح الباء الموحدة ومن
نقلة الأخبار من يقول: «عابر بفتح العين» . وأصله ما ذكرت.
وشالح، بفتح الشين المعجمة واللام وسكون الحاء المهملة.
وأرفخشاذ، بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة، وفتح الفاء وسكون الخاء
المعجمة وفتح الشين، ثم ألف بعدها ذال معجمة. وهذه الفاء أيضا بين الفاء
والباء الموحدة.
وسام، أصله بشين معجمة، وعرّب فقيل: بسين مهملة مفتوحة، ثم ألف بعدها ميم،
وكثيرا ما تكون الشين المعجمة في العبرانية سينا مهملة في اللسان العربيّ.
ولامخ، بفتح اللام والميم وبعدها خاء معجمة.
ومثوشالح، بفتح الميم وضم المثلثة وسكون الواو وفتح الشين المعجمة بعدها
ألف ساكنة ثم لام مفتوحة ثم حاء مهملة كأن بعدها ألفا.
وحنوخ، بحاء مهملة مفتوحة ونون مضمومة بعدها واو ساكنة، ثم خاء معجمة.
(9/55)
السريانيين، يقال: ابن الكنعانيين، وولد
[عليه السّلام] بكوثى، وقيل: ولد بهرمزجرد، ثم انتقل إلى كوثى من أرض بابل،
وأمه [عليه الصلاة والسلام] يونا بنت كرنيا بن كوثى، من بنى أرفخشاذ بن
سام، ويقال: بل اسمها أبيونا وأنها من ولد أفرام بن أرغوا بن فالغ بن عابر
بن أرفخشاذ.
وكان أبوه [ (1) ] على أصنام الملك نمروذ، ولسانهم السريانية، وبينه عليه
السّلام، وبين نوح [عليه السّلام] عشرة قرون، وولد ولأبيه من العمر سبعون
سنة، وخرج به أبوه بعد ما تزوج بسارة، ومعه لوط فسكن حران، وبها [مات]
أبوه.
وكان قد أراه اللَّه تعالى ملكوت السموات والأرض، وكاد أصنام قومه [ (2) ]
، وحاجهم
__________
[ () ] ويرذ، ويقال يارذ- بياء آخر الحروف مفتوحة إذا أشبعت الفتحة صار كأن
بعدها ألفا ثم راء مهملة مفتوحة بعدها ذال معجمة.
وماهللئيل، بميم مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثم هاء مفتوحة ولام مفتوحة أيضا،
ثم لام أخرى ساكنة بعدها ألف مهموزة مكسورة كأنما بعدها ياء آخر الحروف
ساكنة، ثم لام ثلاثة.
وقنن، بقاف مكسورة كأن بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، ثم نون مضمومة كأن
بعدها واو ساكنة، ثم نون أخرى.
وأنوش، بفتح الهمزة وضم النون وسكون الواو ثم شين معجمة.
(المقفى الكبير) : 1/ 13- 15، ترجمة إبراهيم الخليل عليه السّلام، ترجمة
رقم (1) .
[ (1) ] عن مجاهد قال: آزر صنم، ليس بأبيه، وفي التوراة: «إبراهيم بن تارح»
. وهذا قول مردود، فقد قال تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ
أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ [الأنعام: 74] ، وهذا هو الحق. وقال بعضهم: آزر هو تارح، وأحدهما
اسم، والآخر لقب، وليس ببعيد. (المرجع السابق) .
[ (2) ] أخذ إبراهيم قدوما وأتاها ليلا وكسرها وعلّق القدوم على عنق صنم
الشمس وهو أكبرها- حيث قد كانوا سموها بأسماء الكواكب- فلما رأوها قالوا:
مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء: 59] ، قال رجل منهم: سمعت إبراهيم
يذكرها، فأتوا إبراهيم فقالوا: من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال لهم:
سلوا كبيرهم هذا إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء: 63] . (المرجع السابق)
.
(9/56)
في إثبات اللَّه تعالى [ (1) ] ، فألقوه في
النار، فصارت بردا
__________
[ (1) ] عن كعب الأحبار قال: رأى إبراهيم عليه السلام قوما يأتون نمروذ
الجبار فيصيبون منه طعاما، فانطلق معهم، فكان مرّ بالنمروذ رجل قال له: «من
ربك؟» قال: «أنت ربى» ، وسجد له إعظاما له، فأعطاه حاجته، حتى مرّ به
إبراهيم فقال: من ربك؟ قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال: أَنَا
أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ
مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
[البقرة: 258] ، وخرج إبراهيم ولم يعطه شيئا، فعمد إبراهيم إلى تراب فملأ
به وعاءه ودخل به منزله، وأمر أهله أن لا يحلوه، ووضع رأسه فنام، فحلت
امرأته الوعاء فإذا هو أجود دقيق رأت. (المرجع السابق) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني أبو الأحوص بن عبد اللَّه قال: خرج قوم إبراهيم
إلى عيد لهم فمروا عليه فقالوا: يا إبراهيم، ألا تخرج معنا؟ قال: إِنِّي
سَقِيمٌ [الصافات: 89] . وقد كان قبل ذلك قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: 57] . فسمعه
إنسان منهم فلما خرجوا إلى عيدهم انطلق إلى أهله فأخذ طعاما ثم انطلق إلى
آلهتهم فقربه إليهم فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ*
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات: 91- 93] فكسرها إلا
كبيرا لهم، ثم ربط في يده الفأس الّذي كسر به آلهتهم.
فجاهرهم عند ذلك وقال: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ [الصافات: 95] ،
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا
يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
[الأنبياء: 66- 67] . (المرجع السابق) .
عن عكرمة في قوله تعالى قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى
إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 96] أن نار الدنيا كلها لم ينتفع بها أحد من أهلها،
فلما أخرج اللَّه تبارك وتعالى إبراهيم عليه السّلام من النار زاده اللَّه
في حسنه وجماله سبعين ضعفا.
وعن على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كانت البغال تتناسل،
وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لحرق إبراهيم عليه السّلام فدعا عليها،
فقطع اللَّه نسلها.
وكانت الضفادع مساكنها القفار فجعلت تطفئ النار عن إبراهيم عليه السّلام
فدعا لها فأنزلها اللَّه الماء، وكانت الأوزاغ تنفث عليه النار فلعنها
فصارت ملعونة، فمن قتل منها أجر. (المرجع السابق) .
وعن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لما ألقى بإبراهيم عليه
السّلام في النار قال: حسبي اللَّه ونعم الوكيل. (المرجع السابق) .
(9/57)
__________
[ () ] وقال الزبير بن بكار: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة قال: لما رأى
الناس أن إبراهيم عليه السلام لا تحرقه النار قالوا: ما هو إلا عرق الندى
وما نعرفه، ألا ترى ما تضره النار ولا تحرقه؟
فسمى عرق الندى. (المرجع السابق) .
وقال مقاتل: أول من اتخذ المنجنيق نمروذ، وذلك أن إبليس جاءهم لما لم
يستطيعوا أن يدنوا من النار التي أضرمها لرمي إبراهيم عليه السّلام فيها،
فقال: أنا أدلكم، فاتخذ لهم المنجنيق، صنعه له رجل من الأكراد يقال له:
هبون. وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف اللَّه به الأرض، وجيء بإبراهيم عليه
السّلام فخلعوا ثيابه وشدوا رباطه، فوضع في المنجنيق، فبكت السموات،
والأرض، والجبال، والشمس، والقمر، والعرش، والكرسي، والسحاب، والريح،
والملائكة، كل يقول: يا رب عبدك إبراهيم بالنار يحرق، فائذن لنا في نصرته،
فقالت النار وبكت: يا رب سخرتني لبني أدم، وعبدك يحرق بى عليه السّلام.
فأوحى اللَّه إليهم أن عبدي إياي عبد، وفي جنبي أوذى، إن دعاني أجبته، وإن
استنصركم فانصروه. فلما رمى استقبله جبريل عليه السّلام بين المنجنيق
والنار فقال: السلام عليك يا إبراهيم، أنا جبريل، ألك حاجة؟ فقال: أما إليك
فلا، حاجتي إلى اللَّه ربى. (المرجع السابق) .
قال اللَّه تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ
[الأنبياء: 69] ، فلو لم يخلط بالسلام لآذاه البرد، ودخل جبريل معه
وإسرائيل، وأنبت اللَّه تعالى حوله روضة خضراء، وبسط له بساط من درنوك
[بسط] الجنة، وأتى بقميص من حلل جنة عدن فألبسه، وأجرى عليه الرزق غدوة
وعشيا. (المرجع السابق) .
قال وهب: فلما رأوا الآية الباهرة، آمن منهم بشر كثير فأتى الجمع إلى نمروذ
فقالوا: إن إبراهيم قد استمال الناس، وقد صبأ إليه خلق كثير، فجمع نمروذ
وزحف، يريد إبراهيم ومن معه، فأوحى اللَّه إلى إبراهيم: أرحل بمن معك، فرفع
بامرأته سارة وجميع من آمن به حتى بلغ مدين، فنزل، ونمروذ سائر بجموعه
خلفه، فأرسل اللَّه عليهم جندا من البعوض فأعمى أعين الدواب، ودخل خياشيم
الرجال حتى ماتوا، وأبقى اللَّه نمروذ، وقد دخلت خيشومه بعوضة فسكنت دماغه
حتى كان أحب الناس إليه من ضرب رأسه ليكف عنه أكل البعوض. ثم هلك بعد ذلك.
(المرجع السابق) .
(9/58)
وسلاما [ (1) ] فخرج عليه الصلاة والسلام
عند ذلك بزوجته سارة، ومعه لوط إلى حران، فأقام بها خمس سنين ثم مضى منها
وعمره خمس وسبعون، فهاجر إلى ربه [ (2) ] .
فلما عبر الفرات من حران، غير اللَّه تعالى لسانه، وتكلم بالعبرانية، وسار
حتى نزل أرض القدس، ومعه مواشيه، وزوجته، ولوط، فبنى عند صخرة بيت المقدس
مذبحا، يقرب فيه قرابينه للَّه تعالى.
ثم قدم مصر لغلاء نزل [بأرض] القدس، فكان أمر سارة مع الملك ما كان [ (3) ]
وأخذ منها هاجر، ثم خرج [عليه الصلاة والسلام] من مصر، بعد ما أقام بها
ثلاثة أشهر، فنزل خارج غزة، وقد كثر ماله، وابتنى بئر سبع، وجعلها سبيلا،
وفرق أموالا في وجوه البر، وكان عليه الصلاة والسلام نصيف من كل مزية، وأمر
ابن أخيه لوطا أن يتحول عنه، فسار عنه لوط إلى أرض القدس، ونزل سدوم، ونزل
إبراهيم عليه الصلاة والسلام حبرون، التي تعرف اليوم ببلد الخليل.
وولد له عليه الصلاة والسلام بعد عشر سنين من سكناه إسماعيل عليه السلام من
هاجر، وعمره ست وثمانون سنة، [ثم اختتن وله تسع وتسعين سنة] [ (4) ] وفي
الصحيح أنه اختتن وعمره ثمانون سنة، وولد له إسحاق
__________
[ (1) ] قال العلامة المقريزي: وكان من خبر إبراهيم عليه السّلام مع طوطيس
بن ماليا فرعون إبراهيم، أنه عليه الصلاة والسلام قدم إلى مصر بزوجته سارة،
فعند ما رآها الحرس الموكلون بأبواب مدينة منف عجبوا من حسنها، فرفعوا
خبرها إلى طوطيس، فأمر وزيره فأحضر إبراهيم عليه السّلام وسأله عنها وبعث
بها إلى طوطيس، فأكرمها وكف عنها طوطيس، وجفت يده لما مدها إليها حتى دعت
اللَّه سبحانه وتعالى فخلصها، وهابها طوطيس بعد ذلك وبعث بها إلى ابنته
حوريا فأكرمتها وأعادتها إلى إبراهيم عليه السّلام، ووهبتها هاجر أم
إسماعيل. (المقفى الكبير) : 4/ 36.
[ (2) ] هكذا ورد في التوراة وهو خلاف لما في الصحيح.
[ (3) ] (فتح الباري) : 11/ 104، كتاب الاستئذان، باب (51) ، الختان بعد
الكبر ونتف الإبط، حديث رقم (6298) .
[ (4) ] قال تعالى: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا مريم: 41.
(9/59)
[عليهما السلام] وهو ابن مائة سنة من سارة،
وأنزل ابنه إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر بمكة، وقد وعده اللَّه [تبارك و]
تعالى أن يجعل منه ومن إسحاق [عليهما السلام] شعوبا كبارا.
وامتحنه اللَّه [عز وجل] بذبح ولده، فبادر لطاعة ربه، وأراد ذبحه، ففداه
اللَّه [تعالى] بذبح عظيم، وماتت سارة، فتزوج بعدها قطورا، فولدت له عليه
السلام ستة أولاد، ثم مات عليه السلام، وعمره مائة وخمس وسبعون سنة، فدفن
حيث قبره الآن من قرية حبرون، مع زوجته سارة.
ويقال: معنى إبراهيم بالسريانية، أب رحيم، وقد سماه اللَّه تعالى إماما [
(1) ] [وحليما [ (2) ] ، وأواها، ومنيبا وصديقا [ (3) ]] وأمّة، وقانتا،
وحنيفا [ (4) ] ، فالأمة: هو القدوة، المعلم للخير. والقانت: المطيع للَّه،
الملازم لطاعته.
والحنيف: المقبل على اللَّه، المعرض عما سواه. وقد اتفق أهل الملة على
تعظيمه، وتوليته، [و] محبته، وكان خير بنيه، وسيد ولد آدم، محمد صلّى
اللَّه عليه وسلّم، يجله، ويعظمه، ويبجله، ويحترمه.
ففي صحيح مسلم من حديث المختار بن فلفل، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه، قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا خير
البرية، فقال ذاك إبراهيم [ (5) ] ،
وسماه شيخه، فإنه لما دخل الكعبة، وجد
__________
[ (1) ] قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً البقرة: 124.
[ (2) ] قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ هود: 75.
[ (3) ] قال تعالى: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا مريم: 41.
[ (4) ] قال تعالى: أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً النحل: 120.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 130، كتاب الفضائل، باب (41) من فضائل
إبراهيم الخليل عليه السلام، حديث رقم (2369) .
قال العلماء: إنما قال هذا تواضعا واحتراما لإبراهيم لخلقه وأبوّته، وإلا
فنبينا أفضل، كما
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم،
ولم يقصد به الافتخار ولا التطاول على من تقدمه، بل قاله بيانا لما أمر
ببيانه وتبليغه، ولهذا
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولا فخر،
لينفى ما قد يتطرق إلى بعض الأفهام السخيفة.
(المرجع السابق) . -
(9/60)
المشركين قد صوروا فيها صورة إبراهيم
وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال قائلهم: سبحان اللَّه! لقد علموا أن
شيخنا لم يكن يستقسم بالأزلام، ولم يأمر اللَّه [تبارك وتعالى] رسوله صلّى
اللَّه عليه وسلّم أن يتبع ملة أحد من الأنبياء، غير إبراهيم عليه السّلام،
وأمر أمته بذلك.
وأخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم، أن إبراهيم عليه السّلام، أول من [يكسي] يوم
القيامة، وكان أشبه الخلق به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو عليه
[الصلاة] والسّلام أول من [أقرى] الضيف، وأول من اختتن، وأول من رأى الشيب،
وقد شهد اللَّه [تبارك و] تعالى له، أنه وفّى ما أمر به، يعنى وفّى جميع ما
أمر به من تبليغ الرسالة، وفّى جميع شرائع الإسلام، وجعله [تبارك] تعالى
إماما للخلائق يأتمون به.
وكان كما قيل: قلبه للرحمن، وولده للقربان، وبدنه للنيران، وماله للضيفان،
وبه سنّ اللَّه الهدايا والضحايا، وهو الّذي للأمة مناظر المشركين،
والمبطلين، وكسر حجتهم، وهو أذن في الناس بالحج، لما فرغ من بناء الكعبة
البيت الحرام، فكل من حجه واعتمره، كان لإبراهيم مزيد الثواب، بعدد الحجاج
والمعتمرين إلى يوم القيامة، وقد ذكرت له سيرة في (التاريخ الكبير المقفى)
[ (1) ] ، صلى اللَّه عليه وعلى نبينا وسلم.
__________
[ () ] وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب من سورة لم يكن، حديث رقم
(3349) .
وأبو داود في كتاب السنة باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة
والسّلام، حديث رقم (4672) ، (جامع الأصول) : 8/ 512، كتاب الفضائل في فضل
جماعة من الأنبياء، حديث رقم (6306) ، (مسند أحمد) : 4/ 19، حديث رقم
(12415) من مسند أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (1) ] (المقفى للمقريزي) : 1/ 13، 4/ 36.
(9/61)
وأما حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم عن تميم الداريّ [ (1) ]
__________
[ (1) ] هو تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار
بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم بن عدي، ينسب إلى الدار، وهو بطن من لخم،
يكنى أبا رقية [بابنة له تسمى رقية] لم يولد له غيرها.
كان نصرانيا، وكان إسلامه في سنة تسع من الهجرة، وكان يسكن المدينة ثم
انتقل منها إلى الشام بعد قتل عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وروى عنه عبد اللَّه بن وهب، وسليم بن عامر، وشرحبيل بن مسلم، وقبيصة بن
ذؤيب، وعطاء بن يزيد الليثي.
روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، يذكر الدجال في خطبته، وقال فيها: حدثني تميم الداريّ، وذكر خبر
الجساسة وقصة الدجال. وهذا أولى مما يخرجه المحدثون في رواية الكبار عن
الصغار.
قال أبو نعيم: كان راهب أهل فلسطين، وعالم أهل فلسطين، وهو أول من أسرج
السراج في المسجد. رواه الطبراني من حديث أبى هريرة، وأول من قصّ: وذلك في
عهد عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. رواه إسحاق بن راهويه، وابن أبى
شيبة.
كان كثير التهجد، قام ليلة بآية حتى أصبح، وهي أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما
يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] ، رواه البغوي في (الجعديات) بإسناد صحيح إلى
مسروق.
وروى البغوي في (الصحابة) قصة مع عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فيها
كرامة واضحة لتميم، وتعظيم كثير من عمر له، موجزها، عن معاوية بن حرمل قال:
قدمت على عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، تائب
من قبل أن يقدر عليّ، فقال: من أنت؟ قلت: معاوية بن حرمل صهر مسيلمة، قال:
اذهب فانزل على خير أهل المدينة، قال:
فنزلت على تميم الداريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فبينا نحن نتحدث إذ
خرجت نار بالحرة، فجاء عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إلى تميم، فقال: يا
تميم، فخرج، فقال: وما أنا؟ وما تخشى أن يبلغ من أمرى؟ فصغر نفسه، ثم قام
فحاشها حتى أدخلها الباب الّذي خرجت منه، ثم اقتحم في أثرها، ثم خرج فلم
تضر. له ترجمة في: (مسند أحمد) : 4/ 102، (طبقات ابن سعد) :
7/ 408 (طبقات خليفة) : 70، 305، (تاريخ خليفة) : 341، (التاريخ الكبير) :
2/ 150- 151، (المعارف 102، 168 (الجرح والتعديل) : 2/ 440، (الإستيعاب) :
2/ 58، (تهذيب
(9/62)
فخرج مسلم من حديث الحسين بن ذكوان قال:
حدثنا ابن بريدة قال:
حدثني عامر بن شرحبيل الشعبي، شعب همدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس- أخت
الضحاك بن قيس، وكانت من المهاجرات الأول، - فقال: حدثيني حديثا سمعته من
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لا [تسنديه] إلى أحد غيره، فقالت: لئن
شئت لأفعلن، فقال [لها] : أجل حدثيني، فقالت: نكحت ابن المغيرة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه وهو من خيار شباب قريش يومئذ، فأصيب في أول الجهاد مع
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما تأيمت خطبنى عبد الرحمن بن عوف
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في نفر من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وخطبنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على مولاه أسامة بن زيد رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكنت قد حدثت
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من أحبنى فليحب أسامة، فلما
كلمني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت: أمرى بيدك، فأنكحنى من
شئت، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: انتقلي إلى أم شريك رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنها- وأم شريك امرأة غنية من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل
اللَّه، ينزل عليها الضيفان-[فقلت: سأفعل، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا
تفعلي، إن أم شريك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها ينزل عليها الضيفان] فإنّي
أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك ما
تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمك، عبد اللَّه بن عمرو بن أم مكتوم رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو رجل من بنى فهر قريش، وهو من البطن الّذي هي
منه، فانتقلت إليه، فلما انقضت عدتى، سمعت المنادي- منادى رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم- ينادى: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكنت في صف النساء الّذي يلي ظهور القوم،
فلما قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاته، جلس على المنبر وهو
يضحك، فقال:
ليلتزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ فقالوا: اللَّه ورسوله
أعلم، قال: إني واللَّه ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميما
الداريّ كان رجلا نصرانيا، فجاء وبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الّذي
أحدثكم عن مسيح الدجال.
__________
[ () ] التهذيب) : 1/ 511، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 442: 448، (ضوء الساري
في معرفة خبر تميم الداريّ للمقريزي) : 38 وما بعدها، قصة الجساسة والدجال.
(9/63)
حدثني أنه ركب في سفينة بحرية، مع ثلاثين
رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم [أرفأوا] إلى جزيرة
في البحر، حيث مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة،
فلقيتهم دابة أهلب، كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره، من كثرة الشعر،
فقالوا:
ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، فقالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم،
انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال:
لما سمّت لنا رجلا، فرقنا منها أن تكون شيطانا، فانطلقنا سراعا حتى أتينا
الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى
عنقه، ما بين ركبتيه بالحديد إلى كعبيه، قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قدرتم
على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة
بحرية فصادفنا البحر حين [اغتلم] ، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأنا الى
جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب، كثير
الشعر، لا ندري ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا:
ويلك! ما أنت؟ فقال: الجساسة، فقلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعبروا إلى هذا
الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعا، وفزعنا
منها، ولم نأمن أن تكون شيطانا.
قال: أخبرونى عن نخل بيسان، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال:
أسألكم عن نخلها، هل يثمر؟ فقلنا له: نعم، قال: أما إنه توشك ألا يثمر،
قال: أخبرونى عن بحيرة طبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟
قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب.
قال: أخبرونى عن عين زغر؟ قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال:
هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة
الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبرونى عن نبي الأميين ما فعل؟
[قالوا] : أخرج من مكة، ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال:
كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم:
قد كان ذلك؟ قلنا له: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم
عنى: إني أنا المسيح [الدجال] ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج
فأسير في الأرض، فلا أدع قريه إلا هبطتها في أربعين
(9/64)
ليلة، إلا مكة وطيبة، فهما محرمتان عليّ
كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده
السيف مصلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها.
قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وطعن [أو طنّ] بمخصرته في
المنبر:
هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، يعنى المدينة، ألا هل كنت أحدثكم ذاك؟
فقال الناس: نعم، فإنه أعجبنى حديث تميم، أنه وافق الّذي كنت أحدثكم عنه،
وعن المدينة، ومكة، إلا أنه في بحر الشام، أو نحو اليمن، لا بل من قبل
المشرق، ما هو من قبل المشرق وما هو من قبل المغرب، ما هو، وأومأ بيده إلى
المشرق،
قالت: فحفظت هذا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكر له عدة طرق،
تدور على الشعبي [ (1) ] .
__________
[ (1) ] مسلم: (18/ 291- 297) ، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قصة
الجساسة، باب (24) ، (حديث رقم 119، 120، 121، 122، 123) ، وهذا الحديث
معدود في مناقب تميم الداريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، لأن النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم روى هذه القصة وهي من باب رواية الفاضل عن المفضول،
والمتبوع عن تابعه، وفيها دليل على قبول خبر الواحد.
[والجساسة- بفتح الجيم وتشديد السين المهملة الأولى- سميت بذلك لأنها تتجسس
الأخبار للدجال] .
[وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنها
دابة الأرض المذكورة في القرآن] ، في قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ
النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ النمل: (82) .
[وفاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان
ابن محارب بن فهر القرشية الفهرية، إحدى المهاجرات الأول الجميلات العاقلات
النبيلات، كانت عند أبى عمرو بن حفص [بن عمرو] بن المغيرة بن عبد اللَّه بن
عمر بن مخزوم المخزومي القرشي، واسمه: عبد الحميد، وقيل: اسمه كنيته. طلقها
لما بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع على بن أبى طالب، رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه، حين وجهه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
أميرا على اليمن، وبعث إليها تطليقة، وهي بقية طلاقها، ثم مات هناك مع على
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فتأيمت- أي صارت أيّما- وهي [التي] لا زوج
لها، فخطبها معاوية، وأبو جهم بن حذيفة، فاستشارت النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم فيهما، فأشار عليها بأسامة بن زيد، فتزوجته] . -
(9/65)
__________
[ () ] [وذكر البخاري في (التاريخ) أنه عاش إلى خلافة عمر، رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه] .
[وقولها: «فأصيب» ، وليس معناه أنه قتل في الجهاد مع النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم، وتأيمت بذلك، بل إنما تأيمت بطلاقه البائن، ويكون معنى فأصيب
[بجراحة أو أصيب] في ماله أو نحو ذلك، وأرادت عد فضائله، فابتدأت بكونه خير
شباب قريش، ثم ذكرت الباقي] .
[وقوله: «وأم شريك من الأنصار» أنكر هذا بعضهم وقال: إنما هي قريشة، وهي من
بنى عامر بن لؤيّ، واسمها غزية، وقيل: غزيلة. وذهب آخرون إلى أنهما ثنتان:
قريشة وأنصارية، فالقرشية العامرية هي: أم شريك غزية بنت دودان بن عوف بن
عمرو بن عامر بن رواحة بن حجر. ويقال: حجير بن عبد معيص بن عامر بن لؤيّ
[وقيل: هي أم شريك بنت عوف بن جابر بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر
ابن لؤيّ] وهي التي وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، على خلاف
في ذلك قد ذكرته في كتاب (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال
والحفدة والمتاع) ، [عند ذكر أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] ،
قال محققه: راجع (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: الجزء السادس.
وأما أم شريك الأنصارية فمن بنى النجار، ولم يذكرها ابن عبد البر، وإنما
روى الحاكم في (المستدرك) عن طريق محمد بن إسحاق: حدثنا أبو الأشعث، حدثنا
زهير بن العلاء، حدثنا سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة قال: وتزوج رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم أم شريك الأنصارية من بنى النجار قال: «إني أحب أن
أتزوج في الأنصار» ، ثم قال: «إني أكره غيرتهن» فلم يدخل بها.
[و
قوله: «انتقلي إلى ابن عمك: عبد اللَّه بن عمرو بن أم مكتوم» وهو رجل من
بنى فهر- فهر قريش- وهو من البطن الّذي هي منه- ابن أم مكتوم
صفة لعبد اللَّه لا لعمرو، فإنه عبد اللَّه ابن أم مكتوم [وهي أمه فينسب
تارة إلى أبيه عمرو، وتارة ينسب إلى أمه أم مكتوم] ، فينبغي أن يكتب في
قولنا: ابن أم مكتوم بألف في «ابن» وفي قولها هذا إشكال، فإن ابن أم مكتوم
من بنى عامر بن لؤيّ، وفاطمة بنت قيس من بنى محارب بن فهر، فكيف يكون ابن
عمها، وأنها من البطن الّذي هو منه] ؟.
[وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن المراد بالبطن هاهنا: القبيلة، لا البطن
الّذي هو دون القبيلة، والمراد ابن عمها مجازا، لكونه من قبيلتها. وفيه
نظر] ! (هدى الساري) .
قال أبو الفوز محمد أمين البغدادي الشهير بالسويدي: اعلم أن العرب كلها
ترجع إلى أصلين: عدنان، وقحطان، وكان الملك في الجاهلية لقحطان حتى نقله
الإسلام إلى عدنان، ولكل واحد منهم فروع اتفقت العرب فيما نقل إلينا على أن
جعلتها ست طبقات، وكذلك عدها أهل اللغة.
(9/66)
__________
[ () ] الطبقة الاولى: الشعب بفتح الشين، وهو النسب الأبعد كعدنان مثلا،
قال الجوهري:
وهو أبو القبائل الّذي ينسبون اليه وبجمع على شعوب. قال الماوردي في
الأحكام السلطانية: وسمى شعبا لأن القبائل تتشعب منه، وذكر الزمخشريّ في
كشافه نحوه.
الطبقة الثانية: القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر. قال
الماوردي: وسميت قبيلة لتقابل الأنساب فيها، وتجمع القبيلة على قبائل وربما
سميت القبائل جماجم أيضا كما يقتضيه كلام الجوهري، حيث قال: جماجم العرب هي
القبائل التي تجمع البطون.
الطبقة الثالثة: العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش
وكنانة وتجمع على عمارات وعمائر.
الطبقة الرابعة: البطن، وهي ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبنى
مخزوم، ويجمع على بطون وأبطن.
الطبقة الخامسة: الفخذ. وهو ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم، وبنى
أمية، ويجمع على أفخاذ.
الطبقة السادسة: الفصيلة. بالصاد المهملة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ
كبني العباس وبنى عبد المطلب هكذا رتبها الماوردي رحمه اللَّه في الأحكام
السلطانية، وعلى نحو ذلك جرى الزمخشريّ في تفسيره في الكلام على قوله
تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ [الحجرات: 13] إلا أنه مثّل
الشعب بخزيمة، وللقبيلة بكنانة، وللعمارة بقريش، وللبطن بقصي، وللفخذ
بهاشم، وللفصيلة بالعباس.
وبالجملة، فالفخذ يجمع القبائل، والبطن يجمع الأفخاذ، والعمارة تجمع
البطون، والقبيلة تجمع العمائر، والشعب يجمع القبائل، وإنما يعلو بعضها على
بعض بشرطين: قدم المولد، وكثرة الولد، وليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده.
قال النووي في (تحرير التنبيه) : وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة.
قال الجوهري: وعشيرة الرجل رهطه الأدنون.
وحكى أبو عبيد، عن ابن الكلبي، عن أبيه: تقديم الشعب، ثم القبيلة، ثم
الفصيلة، ثم العمارة، ثم الفخذ، فأقام الفصيلة مقام العمارة في ذكرها بعد
القبيلة، والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ، ولم يذكر ما يخالفه
(سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) : 13- 14.
(9/67)
وأما حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم عن قسّ بن ساعدة
[يقال: عاش قس بن ساعدة ستمائة سنة، وهو أول من أخبر بالبعث من أهل
الجاهلية في غير علم، وأول من خطب بعصا، وقد ثبت قوم قسا وهم الأكثر، ونفاه
آخرون، وقالوا: لم يخلق قس وقد ذكره الشعراء] ففي سنده نظر.
وقد خرجه البيهقيّ من حديث أبو عبيد اللَّه سعيد بن عبد الرحمن [بن] حسان
القرشيّ المخزوميّ، وقد وثقه النسائىّ، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبى
حمزة الثماليّ، عن سعيد بن جبير، عن عبد اللَّه بن عباس، رضى اللَّه تبارك
وتعالى [عنهما] قال: قدم وفد أياد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فسألهم عن قس بن ساعدة الأيادي، فقالوا: هلك يا رسول اللَّه، فقال: لقد
شهدته في الموسم بعكاظ، وهو على جمل له أحمر- أو على ناقة حمراء- وهو ينادى
في الناس: اجتمعوا، واسمعوا، وعوا، واتعظوا، تنتفعوا، من عاش مات، ومن مات
فات، وكل ما هو آت آت.
أما بعد، فإن [في] السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، نجوم تمور، وبحار
تفور ولا تخور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، ونهار منبوع.
أقسم قس قسما باللَّه، لا كذبا [ولا إثما] ليتبعن هذا الأمر سخطا، ولئن كان
بعضه رضا، إن بعضه سخطا، وما هذا باللعب، وإن من وراء هذا للعجب.
أقسم قس قسما باللَّه، لا كذبا ولا إثما، إن للَّه دينا، هو أرضى له من دين
نحن عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا
فناموا؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثم أنشد قس بن ساعدة
أبيات من الشعر لم أحفظها عنه فقام أبو بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه فقال: أنا حضرت ذلك المقام، وحفظت تلك المقالة، فقال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم: ما هي؟
فقال أبو بكر: قال قس بن ساعدة في آخر كلامه:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
(9/68)
ورأيت قومي نحوها ... تمضى الأكابر
والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أنى لا محالة ... حيث صار القوم صائر
ثم أقبل صلّى اللَّه عليه وسلّم على وفد أياد فقال: هل وجد لقس بن ساعدة
وصية؟
فقالوا: نعم، وجدوا له صحيفة تحت رأسه مكتوب فيها:
يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا بزهم خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... فهم إذا أنبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعودا لحال غير حالهم ... خلقا جديدا كما من قبل قد خلقوا
منهم عراة، ومنهم [في] ثيابهم ... منها الجديد، ومنها المنهج الخلق [ (1) ]
وقد روى من طريق معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس بن مالك رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه، ومن حديث مجالد عن الشعبي، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنهما، ومن حديث على بن سليمان، عن سليمان ابن على بن عبد اللَّه بن
عباس، عن عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، [ومن حديث
الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس] ، وروى عن الحسن البصري منقطعا، وروى من
حديث سعد بن أبى وقاص، وأبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما بزيادات
ألفاظ، ونقصان ألفاظ، وفيها ما هو مختصر، وفيها ما هو مطول.
قال البيهقي: وإذا روى الحديث من أوجه، وإن كان بعضها ضعيفا، دل على أن
للحديث أصلا، واللَّه تبارك وتعالى أعلم [ (2) ] . قال [الحافظ] : إن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم روى هذه الخطبة، وهي فضيلة لأياد.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 101، باب ذكر حديث قس بن ساعدة الأيادي، هو
قس بن ساعدة ابن عمرو بن عدي بن مالك، من بنى أياد، أحد حكماء العرب، وهو
من كبار خطبائهم في الجاهلية، ويقال: إنه أول عربي خطب متوكئا على سيف أو
عصا، وأول من قال في كلامه: أما بعد، وكان يفد على قيصر الروم زائرا فيطعمه
ويكرمه، وهو معدود في المعمرين، طالت حياته، وأدركه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم قبل النبوة، ورآه في عكاظ، وسئل عنه بعد ذلك
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: يحشر أمة وحده
[ (2) ] راجع هذه الأسانيد والألفاظ في المرجع السابق.
(9/69)
وأما حديثه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أبى كبشة
فذكر الكلبي في كتاب (الرقائق) : حدثني أبى عن أبى صالح، عن ابن عباس- رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال:
حدثني أبو كبشة: أنهم لما أرادوا دفن [بلال] بن حبشية- وكان سيدا معظما-
حفروا له، فوقعوا له على باب مغلق، ففتحوه، فإذا سرير عليه رجل، وعليه ملك
عدة، وعند رأسه كتاب: أنا أبو سمر، ذو النون، مأوى المساكين، ومستفاد
الغارمين، أخذنى الموت غصبا، وقد أعيا الجابرة قبلي.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: كان ذو النون هذا، هو سيف [ذي النون] الحميري،
وأبو كبشة هذا، يقال: أنه الحوت، زوج حليمة السعدية، ظئر رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] |