إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع [المجلد
العاشر]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
فصل في ذكر من كان من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بمنزله صاحب
الشرطة من الأمير [ (1) ]
خرج البخاري في كتاب الأحكام من حديث محمد بن عبد اللَّه الأنصاري، قال:
حدثني أبى عن ثمامة، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: إن
قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بمنزلة
صاحب الشرطة من الأمير، ذكره في باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه
دون الإمام الّذي فوقه [ (2) ] .
وخرجه الترمذي [ (3) ] في كتاب المناقب بهذا السند، ولفظه عن أنس رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان قيس بن سعد، من النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. قال الأنصاري: يعنى مما يلي من أموره.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الأنصاري [حدثنا
محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن عبد اللَّه الأنصاري نحوه، ولم يذكر فيه قول
الأنصاري] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الشرطة في السلطان: من العلامة والإعداد، ورجل شرطي وشرطي: منسوب
إلى الشرطة، والجمع شرط، سموا بذلك لأنهم أعدوا لذلك وأعلموا أنفسهم
بعلامات. وقيل: هم أول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت. (لسان العرب) : 7/
330.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 167، كتاب الأحكام، باب (12) الحاكم يحكم
بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الّذي فوقه، حديث رقم (7155) .
قال الحافظ في (الفتح) : وفي الحديث تشبيه ما مضى بما حدث بعده، لأن صاحب
الشرطة لم يكن موجودا في العهد النبوي عند أحد من العمال، وإنما حدث في
دولة بنى أمية، فأراد أنس تقريب حال قيس عند السامعين فشبهه بما يعهدونه.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 647- 648، كتاب المناقب، باب (52) في مناقب قيس
بن سعد بن عبادة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3850) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
(10/3)
وخرج الحاكم من حديث محمد بن إسحاق
الصغاني، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبى، قال: سمعت منصور بن
زاذان يحدث عن ميمون بن أبى شبيب عن قيس بن سعد بن عبادة [قال] : إن أباه
دفعه إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يخدمه، قال: فأتى على النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم، وقد صليت ركعتين، فضربني برجله، فقال: ألا أدلك على باب
من أبواب الجنة؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه
العلى العظيم، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [ (1)
] .
وكان القصد في ذكره في هذا الموضع أن الوالد له مباح يخدم ولده، ثم للموهوب
له الخدمة أن يستخدم منه، ثم يعرف من فضل قيس بن سعد، أنه خدم النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم حتى صار منه بمنزلة صاحب الشرطة.
وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاريّ، الخزرجىّ، أبو الفضل أحد
كرام الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وأحد الفضلاء الجلة، وأحد دهاة
العرب، وأهل الرأى، والمكيدة في الحروب، مع النجدة والسخاء [والشجاعة] [
(2) ] .
وكان شريف قومه غير مدافع هو وأبوه وجده [كذلك] ، وصحب رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم هو، وأبوه، وأخوه سعيد بن سعد بن عبادة، ثم صحب عليّ ابن
أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وشهد معه الجمل، وصفين، والنهروان
هو قومه، وولاه مصر، ثم صرفه، وتوفى بالمدينة سنه ستين أو تسع وخمسين [ (3)
] .
وقد ذكرته ذكرا مبسوطا في كتاب (عقد جواهر الأسفاط فيمن ملك مصر الفسطاط) [
(4) ] ، وذكرته أيضا في (التاريخ الكبير المقفى) [ (5) ] فانظره.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 323، حديث رقم (7787) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (الإصابة) .
[ (3) ] سبقت له ترجمة مطولة.
[ (4) ] من مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.
[ (5) ] له أخبار في (المقفى الكبير) للمقريزي: 2/ 421، 5/ 530.
(10/4)
فصل في ذكر من كان
يقيم الحدود بين يدي
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ومن كان يضرب الرقاب ذكر القاضي أبو بكر
بن العربيّ [ (1) ] ، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جعل إقامة
الحدود لجماعة منهم: على بن أبى طالب، ومحمد بن مسلمة الأنصاريّ، رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
وقال الواقدي في وقعة بدر: وأقبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
بالأسرى حتى إذا كان بعرق الظبية، وقيل: بالصفراء، أمر عاصم بن ثابت بن أبى
الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبى معيط، وكان أسره عبد اللَّه بن سلمة بن
مالك العجلانىّ، جمح به فرسه فأخذه، فأخذ عقبة يقول: يا ويلى! علام أقتل يا
معشر قريش من بين من هاهنا؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
لعداوتك للَّه ورسوله.
قال: يا محمد منك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت
عليهم مننت على، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يا محمد! من للصبية؟.
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: النار قدمه يا عاصم، فاضرب عنقه!
فقدمه عاصم، فضرب عنقه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: بئس الرجل
كنت، واللَّه ما علمت كافرا باللَّه، وبرسوله، وكتابه، مؤذيا لنبيه منك،
فأحمد اللَّه الّذي هو
__________
[ (1) ] هو محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه بن أحمد المعروف بابن
العربيّ المعافري الإشبيلي المالكي، يكنى أبا بكر. كان مولده ليلة الخميس
لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة. حج في موسم سنة تسع
وثمانين، وسمع بمكة من أبى على الحسين بن على الطبري وغيره من العلماء
والأدباء، فدرس عندهم الفقه والأصول، وقيد الحديث، واتسع في الرواية، وأتقن
مسائل الخلاف، والأصول، والأحكام، على أئمة هذا الشأن. توفى في ربيع الأول
سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، منصرفه من مراكش، وحمل ميتا إلى مدينة فاس،
ودفن بها. (أحكام القرآن) لابن العربيّ، المقدمة.
(10/5)
قتلك، وأقر عيني منك [ (1) ]
[قيل: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أمر به فصلب، وكان أول مصلوب
في الإسلام] [ (2) ] .
[قال ابن الكلبي: كان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين،
فوقع على أمة للخم يهودية من أهل صفورية يقال لها: ترنا، وكان لها زوج من
أهل صفورية يهودي، فولدت له ذكوان فادعاه أمية واستخلفه وكناه أبا عمرو، ثم
قدم به مكة، فلذلك
قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لعقبة يوم أمر بقتله: إنما أنت يهودي من
أهل صفورية،
ولاه عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على صدقات بنى تغلب، وولاه عثمان
الكوفة بعد سعد بن أبى وقاص وكان أبو عزة عمرو بن عبد اللَّه الجمحيّ قد من
عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر، وكان فقيرا ذا عيال
وحاجة، وكان في الأسارى فقال: إني فقير ذو عيال وحاجة، قد عرفتها، فامنن
عليّ، فمن عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] .
[فقال له صفوان ابن أمية: يا أبا عزة! إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فاخرج
معنا، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ، فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: فأعنا
بنفسك، فلك اللَّه عليّ إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع
بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فخرج أبو عزة في تهامة، ويدعو بنى
كنانة ويقول:
إيها بنى عبد مناة الرزام [ (3) ] ... أنتم حماة وأبوكم حام
[لا تعدونى نصركم بعد العام ... لا تسلموني لا يحل إسلام] [ (4) ]
ثم سار مع قريش فأسر، ولم يؤسر غيره من قريش، فقال: يا محمد إنما خرجت
كرها، ولي بنات فامنن عليّ، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أين
ما
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 113- 114.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين ليس في (المغازي) .
[ (3) ] الرزام: من يثبتون في مكانهم لا يبرحونه، يذكرهم أنهم ثابتون في
الحرب.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (الأصل) وأثبتناه من (سيرة ابن
هشام) : 4/ 6
(10/6)
أعطيتنى من العهد والميثاق [لا واللَّه لا
تمسح عارضيك تقول: سخرت بمحمد مرتين] [ (1) ] ... شهد مرتين.
وفي رواية أنه قال له: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، يا عاصم [بن ثابت]
قدمه، فاضرب عنقه، فقدمه عاصم، فضرب عنقه،
وحمل رأسه إلى المدينة في رمح، فكان أول رأس حمل في الإسلام، وقيل:
بل رأس كعب بن الأشرف أول رأس حمل في الإسلام [ (2) ] .
وذكر الواقدي أن حضير الكتائب [ (3) ] جاء بنى عمرو بن عوف فكلم سويد بن
الصامت بن خالد بن عطية [ (4) ] بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف ابن مالك،
بن الأوس [ (5) ] ، وخوات بن جبير [ (6) ] ، وأبا لبابة بن عبد المنذر [
(7) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين استدراك من (سنن البيهقي) : 9/ 65، (مغازي
الواقدي) : 1/ 309
[ (2) ] قاله ابن سعد في (الطبقات) : 2/ 33، سرية قتل كعب بن الأشرف.
[ (3) ] هو حضير الكتائب بن سماك، سيد الأوس يوم بعاث، وقتل يومئذ، وابنه
أسيد بن الحضير، بدريّ، عقبىّ، نقيب، لا عقب له، رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه. (جمهرة أنساب العرب) : 339.
[ (4) ] كذا في (جمهرة أنساب العرب) ، وفي (الإصابة) : ابن عقبة.
[ (5) ] لقي سويد بن الصامت بن الأوس النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بسوق ذي
المجاز من مكة في حجة حجها سويد على ما كانوا يحجون عليه في الجاهلية، وذلك
في أول مبعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، ودعائه إلى اللَّه عز وجل، فدعاه
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام، فلم يرد عليه سويد شيئا،
ولم يظهر له قبول ما دعاه إليه، وقال له: لا أبعد ما جئت به، ثم انصرف إلى
قومه بالمدينة، فيزعم قومه أنه مات مسلما وهو شيخ كبير، قتلته الخزرج في
وقعة كانت بين الأوس والخزرج، وذلك قبل بعاث.
قال أبو عمر: أنا شاك في إسلام سويد بن الصامت، كما شك فيه غيري، ممن ألف
في هذا الشأن قبلي، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. وكان شاعرا، محسنا، كثير
الحكم في شعره، وكان قومه يدعونه الكامل لحكمة شعره، وشرفه فيهم، له ترجمة
في (الاستيعاب) : 2/ 677، ترجمة رقم (1116) ، (الإصابة) : 3/ 305، 306،
ترجمة رقم (3822) ، (جمهرة أنساب العرب) : 327- 328، (مغازي الواقدي) : 1/
303- 304.
(10/7)
__________
[ () ] (6) هو خوات بن جبير الأنصاري، ومن حديثه: أنه حضر سوق عكاظ، فانتهى
إلى امرأة من هذيل تبيع السمن، فأخذ نحيا من أنحائها [النحى بكسر النون:
الزق الّذي يجعل فيه السمن خاصة] ، ففتحه وذاقه، ودفع فم النحى إليها،
فأخذته بإحدى يديها، وفتح الآخر وذاقه ودفع فمه إليها، فأمسكته، بيدها
الأخرى، ثم غشيها وهي لا تقدر على الدفع عن نفسها، لحفظها فم النحيين، فلما
قام عنها، قالت: لا هناك، فرفع خوات عقيرته، يقول:
وأم عيال واثاقين بكسبها ... خلجت لها جار استها خلجات
شغلت يديها إذا أردت خلاطها ... بنحيين من سمن ذوى عجرات
وأخرجته ريان ينطف رأسه ... من الرامك المخلوط بالمقرات
فكان لها الويلات من ترك نحيها ... وويل لها من شدة الطعنات
فشدت على النحيين كفى شحيحة ... على سمنها والفتك من فعلاتى
فضربت العرب بهما المثل فقالت: «أنكح من خوات» ، «وأغلم من خوات» ، «أشغل
من ذات النحيين» ، «أشح من ذات النحيين» .
والرامك: ضرب من الطيب تتضايق به المرأة، كما تتضايق بعجم الزبيب، ومن ذلك
ما قاله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين في كتابه إلى الحجاج الثقفي
يلومه لما تطاول على سيدنا أنس بن مالك: أما بعد، فإنك عبد من ثقيف طمحت بك
الأمور، فعلوت فيها وطغيت، حتى عدوت قدرك، وتجاوزت طورك، يا ابن المستفرمة
بعجم الزبيب، (الوافي) 9/ 412.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: خوات بن جبير هو صاحب النحيين- بكسر النون
وسكون المهملة تثنية نحى، وهو ظرف السمن، فقد ذكر ابن أبى خيثمة القصة من
طريق ابن سيرين، قال: كانت امرأة تبيع سمنا في الجاهلية، فدخل رجل فوجدها
خالية، فراودها، فأبت، فخرج فتنكر ورجع، فقال: هل عندك سمن طيب؟ قالت: نعم،
فحلت زقا فذاقه، فقال: أريد أطيب منه، فأمسكته وحلت آخر، فقال: أمسكيه فقد
انفلت بعيري، قالت:
اصبر حتى أوثق الأول، قال: لا، قالت: وإلا تركته من يدي يهراق، قال: فإنّي
أخاف أن لا أجد بعيري، فأمسكته بيدها الأخرى، فانقض عليها، فلما قضى حاجته
قالت له: لا هناك.
قال الواقدي: عاش خوات إلى سنة أربعين، فمات فيها وهو ابن أربع وسبعين سنة
بالمدينة، وكان ربعة من الرجال، له ترجمة في (الإصابة) : 2/ 346- 348،
ترجمة رقم
(10/8)
ويقال سهل بن حنيف [ (1) ] ، فقال:
تزورونني فأسقكم من الشراب، وأنحر لكم، وتقيمون عندي أياما، قالوا: نحن
نأتيك يوم كذا وكذا، فلما كان ذلك اليوم جاءوه، فنحر لهم جزورا، وسقاهم
الخمر، وأقاموا عنده ثلاثة أيام، حتى تغير اللحم.
__________
[ () ] (2300) ، (الاستيعاب) : 2/ 455- 457، ترجمة رقم (686) ، (مغازي
الواقدي) :
1/ 303، (جمهرة أمثال العرب) : 1/ 564، 2/ 321- 322.
[ (7) ] هو أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، مختلف في اسمه، قال موسى بن
عقبة: اسمه بشير بوزن عظيم، وقال ابن إسحاق: اسمه رفاعة، وكذا قال ابن نمير
وغيره.
قال ابن إسحاق: زعموا أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رد أبا لبابة والحارث
بن حاطب بعد أن خرجا معه إلى بدر، فأمّر أبا لبابة على المدينة، وضرب لهما
بسهميهما وأجرهما مع أصحاب بدر، وكذلك ذكره موسى بن عقبة في البدريين،
وقالوا: كان أحد النقباء ليلة العقبة.
يقال: مات في خلافة على، وقال خليفة بن خياط: مات بعد مقتل عثمان، ويقال:
عاش إلى بعد الخمسين، له ترجمة في (الإصابة) : 7/ 349- 350، ترجمة رقم
(10466) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 214، (الاستيعاب) : 4/ 1740، 1742، ترجمة
رقم (3149) (مغازي الواقدي) : 1/ 303.
[ (1) ] هو سهل بن حنيف بن وهب- أو واهب- بن الحكيم بن ثعلبة، بن مجدعة بن
الحارث بن عمرو بن خانس، ويقال: ابن خنساء بن عوف بن مالك بن الأوس.
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وثبت يوم
أحد، وكان بايعه يومئذ على الموت، فثبت معه حين انكشف عنه الناس، وجعل ينضح
بالنبل يومئذ عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: نبلو سهلا فإنه سهل،
ثم صحب عليا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه من حين بويع له، وإياه استخلف
عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حين خرج من المدينة إلى البصرة، ثم شهد
مع عليّ، صفين، وولاه على فارس، فأخرجه أهل فارس، فوجه عليّ زيادا، فأرضوه
وصالحوه، وأدوا الخراج.
مات سهل بن حنيف بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه عليّ وكبر ستا، وروى
عنه ابنه وجماعة معه، له ترجمة في: (الاستيعاب) : 2/ 662- 663- ترجمة رقم
(1084) ، (الإصابة) : 3/ 198- 199، ترجمة رقم (3529) ، (طبقات ابن سعد) :
3/ 39.
(10/9)
وكان سويد يومئذ شيخا كبيرا، فلما مضت
الثلاث، قالوا: ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا، فقال حضير: ما أحببتم! إن
أحببتم فأقيموا، وإن أحببتم فانصرفوا. فخرج الفتيان بسويد بحملانه حملا من
الثمل، فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريبا من بنى غصينة، وهي وجاه بنى
سالم إلى مطلع الشمس. فجلس سويد وهو يبول، وهو ممتلى سكرا، فبصر به إنسان
من الخزرج. فخرج حتى أتى المجذر بن زياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟
قال: ما هي؟ قال: سويد أعزل لا سلاح معه، ثمل، قال: فخرج المجذر ابن زياد
بالسيف صلتنا، فلما رآه الفتيان وليا، وهما أعزلان لا سلاح معهما- فذكرا
العداوة بين الأوس والخزرج- فانصرفا سريعين، وثبت الشيخ ولا حراك به- فوقف
عليه مجذر بن زياد فقال: قد أمكن اللَّه منك! فقال: ما تريد بى؟
قال: قتلك. قال: فارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ، وإذا رجعت إلى أمك فقل:
إني قتلت سويد بن الصامت، وكان قتله هيج وقعة بعاث.
فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة أسلم الحارث بن سويد
بن الصامت ومجذر بن زياد، فشهدا بدرا فجعل الحارث يطلب مجذرا ليقتله بأبيه،
فلا يقدر عليه يومئذ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه
الحارث من خلفه فضرب عنقه، فرجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى
المدينة، ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبريل عليه
السلام فأخبره أن الحارث ابن سويد قتل مجذرا غيلة، وأمره بقتله، فركب رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى قباء في اليوم الّذي أخبره جبريل، في يوم
حار، وكان ذلك يوما لا يركب فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى
قباء، إنما كانت الأيام التي يأتى فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قباء يوم السبت ويوم الاثنين، فلما دخل وسمعت الأنصار فجاءت تسلم عليه،
وأنكروا إتيانه في تلك الساعة وفي ذلك اليوم،
فجلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يتحدث ويتصفح الناس حتى طلع الحارث
بن سويد في ملحفة مورسة [ (1) ] ، فلما رآه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم دعا عويم
__________
[ (1) ] مورسة، أي مصبوغة بالورس،
وفي (ديوان حسان) : ملحفة حمراء، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم:
قتلت المجذر؟ قال: نعم يا رسول اللَّه، واللَّه ما شككت في ديني، ولكنى
رأيت قاتل أبى فحملتني الحمية، وأنا أصوم أربعة أشهر متتابعات، وأعتق
رقبتين، وأطعم عشرين ومائة
(10/10)
ابن ساعدة فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى
باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن زياد، فإنه قتله يوم أحد فأخذه عويم فقال
الحارث: دعني أكلم رسول اللَّه! فأبى عويم عليه، فجابذه يريد كلام رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ونهض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
يريد أن يركب، ودعا بحماره على باب المسجد، فجعل الحارث يقول: قد واللَّه
قتلته يا رسول اللَّه، واللَّه ما كان قتلى إياه رجوعا عن الإسلام ولا
ارتيابا فيه، ولكن حمية الشيطان وأمر وكلت فيه إلى نفسي، وإني أتوب إلى
اللَّه وإلى رسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق
رقبة، وأطعم ستين مسكينا، إني أتوب إلى اللَّه ورسوله! وجعل يمسك بركاب
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وبنو المجذر حضور لا يقول لهم رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم شيئا حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم
فاضرب عنقه! وركب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقدمه عويم على باب
المسجد فضرب عنقه.
ويقال: إن خبيب بن يساف، نظر إليه حين ضرب عنقه فجاء إلى النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم فأخبره، فركب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إليهم يمحص عن
هذا الأمر، فبينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على حماره، فنزل عليه
جبريل فخبره بذلك في مسيره، فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عويما
فضرب عنقه، وقال حسان بن ثابت [للحارث بن سويد ابن الصامت الأنصاري] :
يا حار في سنة من نوم أولكم ... أم كنت ويحك مغترا بجبريل
أم كنت يا ابن زياد حين تقتله ... ذي غرة في فضاء الأرض مجهول
وقلتم لن نرى واللَّه يبصركم ... وفيكم محكم الآيات والقيل
محمد والعزيز اللَّه يخبره ... بما تكنّ سريرات الأقاويل [ (1) ] .
__________
[ () ] مسكين، وأخرج ديتين، فصمت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى
استفرغ كلامه، ثم وضع رجله في الركاب وقال: يا عويم بن ساعدة، اضرب عنقه!
ومضى، فضرب عويم عنقه.
فقال حسان للحارث بن سويد بن الصامت الأنصاري: ... وذكر الأبيات.
[ (1) ] هذه الأبيات مضطربة السياق والوزن والقافية في (الأصل) ، فأثبتناها
من (ديوان حسان) :
301، قصيدة رقم (200) .
(10/11)
فصل في ذكر من أقام عليه رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم حد الزنا
قال ابن سيده: زنا الرجل يزني زنا وزناء، وكذلك المراة أيضا وزانى مزاناة
وزناء بالمد، عن اللحياني، وكذلك المرأة أيضا.
والمرأة تزانى مزاناة وزناء أي تباغى، قال اللحياني: الزنى مقصور، لغة أهل
الحجاز، قال اللَّه تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بالقصر، والنسبة إلى
المقصور زنوى، والزناء ممدود لغة بنى تميم، وفي (الصحاح) :
المد لأهل نجد، والنسبة إلى الممدود: زنائى، وزناه زنية، نسبة إلى الزنا،
وقال له: يا زانى.
وفي الحديث: ذكر قسطنطينية الزانية، يريد الزاني أهلها، كقوله تعالى:
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، أي كانت ظالمة الأهل.
وقد زانى المرأة مزاناة وزناء، وقال اللحياني: قيل لابنة الخس: ما أزناك؟
قالت: قرب الوساد وطول السواد، فكأن قوله: ما أزناك؟ ما حملك على الزنا؟
قال: ولم يسمع هذا إلا في حديث ابنة الخس.
وهو ابن زنية وزنية، والفتح أعلى، أي ابن زنا، ويقال للولد إذا كان من زنا:
هو لزنية، وقد زناه: من التزنية، أي قذفه [ (1) ] .
كانت عقوبة الزنا في صدر الإسلام، عقوبة خفيفة مؤقتة، لأن الناس كانوا
حديثي عهد بحياة الجاهلية، ومن سنة اللَّه جل وعلا في تشريع الأحكام أن
يسير بالأمة في طريق التدرج، ليكون أنجح في العلاج، وأحكم في التطبيق،
وأسهل على النفوس لتقبل شريعة اللَّه، عن رضى واطمئنان.
وقد كانت العقوبة في صدر الإسلام هي ما قصّه اللَّه تعالى علينا في سورة
النساء في قوله جل شأنه: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ
نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ
شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَ
__________
[ (1) ] (لسان العرب) : 14/ 359- 360، مختصرا.
(10/12)
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا* وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا
وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً [
(1) ] .
فكانت عقوبة المرأة: الحبس في البيت، وعدم الإذن لها بالخروج منه، وعقوبة
الرجل، التأنيب، والتوبيخ بالقول والكلام، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ
جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ (2) ] .
ويظهر أن هذه العقوبة كانت في أول الإسلام من قبيل التعزير لا من قبيل
الحد، بدليل التوقيت الّذي أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
وقد استبدلت بهذه العقوبة عقوبة أشد، هي الجلد للبكر، والرجم للزاني
المحصن، وانتهى ذلك الحكم المؤقت إلى تلك العقوبة الرادعة الزاجرة.
خرج مسلم [ (3) ] ، وأبو داود [ (4) ] ، والترمذي [ (5) ] من حديث عبادة بن
الصامت رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال: كان نبي اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم إذا أنزل عليه
__________
[ (1) ] النساء: 15- 16، والمراد بالفاحشة جريمة الزنى، وسميت فاحشة لأنها
فعلة قد زادت في القبح على كثير من القبائح المنكرة، قال تعالى: وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] .
[ (2) ] النور: 2.
[ (3) ]
(مسلم بشرح النووي) : 11/ 201، كتاب الحدود، باب (3) حد الزنى، حديث رقم
(1690) ، أما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: فقد جعل اللَّه لهن سبيلا»
فإشارة إلى قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، فبين
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن هذا هو ذلك السبيل.
واختلف العلماء في هذه الآية، فقيل: هي محكمة، وهذا الحديث مفسر لها، وقيل:
هي منسوخة بالآية التي في أول سورة النور، وقيل: إن آية النور في البكرين
وهذه الآية في الثيبين.
(10/13)
__________
[ () ] وأجمع العلماء على وجود جلد الزاني البكر مائة، ورجم المحصن وهو
الثيب، ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلا ما حكى القاضي عياض وغيره
عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنّظّام وأصحابه، فإنّهم لم يقولوا بالرجم،
واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم، فقالت طائفة: يجب الجمع بينهما فيجلد ثم
يرجم، وبه قال على بن أبى طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، والحسن
البصري، وإسحاق بن راهويه، وداود، وأهل الظاهر، وبعض أصحاب الشافعيّ. وقال
جمهور العلماء: الواجب الرجم وحده، وحكى القاضي عن طائفة من أهل الحديث،
أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخا ثيبا، فإن كان شابا ثيبا اقتصر
على الرجم، وهذا مذهب باطل لا أصل له، وحجة الجمهور أن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم اقتصر على رجم الثياب في أحاديث كثيرة، منها قصة ماعز وقصة
المرأة الغامدية، وفي
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: وأغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت
فارجمها،
قالوا: وحديث الجمع بين الجلد والرجم منسوخ، فإنه كان في أول الأمر.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم في البكر: ونفى سنة ففيه حجة للشافعي،
والجمهور: أنه يجب نفيه سنة، رجلا كان أو امرأة، وقال الحسن لا يجب النفي،
وقال مالك والأوزاعي: لا نفى على النساء، وروى مثله عن عليّ رضي اللَّه
تبارك وتعالى عنه، وقالوا: لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها، وتعريض لها
للفتنة، ولهذا نهيت عن المسافرة إلا مع ذي محرم، وحجة الشافعيّ
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة.
وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي:
أحدهما: يغرب كل واحد منهما لظاهر الحديث، وبهذا قال سفيان الثوري، وأبو
ثور، وداود، وابن جرير.
والثاني: يغرب نصف سنة، لقوله تعالى فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ
وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا، وهذه الآية مخصصة لعموم الحديث، والصحيح عند
الأصوليين جواز تخصيص السنة بالكتاب، لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب
فتخصيص السنة به أولى.
والثالث: لا يغرب المملوك أصلا، وبه قال الحسن البصري، وحماد، ومالك،
وأحمد، وإسحاق،
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم في الأمة إذا زنت: فليجلدها سيدها،
ولم يذكروا النفي، لأن نفيه يضر سيده، مع أنه لا جناية من سيده، وأجاب
أصحاب الشافعيّ عن حد الأمة إذا زنت، أنه ليس
(10/14)
__________
[ () ] فيه تعرض للنفي، والآية ظاهرة في وجوب النفي فوجب العمل بها، وحمل
الحديث على موافقتها. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «البكر بالبكر والثيب بالثيب»
فليس هو على سبيل الاشتراط بل حد البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أم
بثيب، وحد الثيب الرجم سواء زنى بثيب أم ببكر، فهو شبيه بالتقييد الّذي
يخرج على الغالب.
واعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء من لم يجامع في نكاح صحيح وهو حر
بالغ، سواء كان جامع بوطء شبهة، أو نكاح فاسد، أو غيرهما، أم لا. والمراد
بالثيب، من جامع في دهره مرة من نكاح صحيح وهو بالغ، عاقل، حر، والرجل
والمرأة في هذا سواء. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وسواء في كل هذا المسلم، والكافر، والرشيد، والمحجور عليه لسفه. واللَّه
تبارك وتعالى أعلم.
[ (4) ] (سنن أبى داود) : 4/ 569- 571، كتاب الحدود، باب (23) في الرجم،
حديث رقم (4415) .
[ (5) ] (سنن الترمذي) : 4/ 32، كتاب الحدود، باب (8) ما جاء في الرجم على
الثيب، حديث رقم (1434) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا
عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، منهم: على بن أبى
طالب، وأبىّ بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود، وغيرهم، قالوا: الثيب تجلد
وترجم، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وهو قول إسحاق.
وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم منهم أبو بكر،
وعمر، وغيرهما: الثيب إنما عليه الرجم ولا يجلد، وقد روى عن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم مثل هذا في غير حديث، في قصة ماعز وغيره، أنه أمر
بالرجم، ولم يأمر أن يجلد قبل أن يرجم، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم،
وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد.
وأخرجه أيضا ابن ماجة في (السنن) : 2/ 853، كتاب الحدود، باب (7) حد الزنا،
حديث رقم (2550) .
(10/15)
الوحي كرب لذلك وتربد [ (1) ] وجهه فأنزل
اللَّه تبارك وتعالى عليه ذات يوم فلقى كذلك، فلما سرى عنه قال: خذوا عنى،
خذوا عنى، قد جعل اللَّه لهن سبيلا:
البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم.
خرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم، فاعترف بالزنى، فأعرض عنه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أبك جنون؟
قال: لا، قال: أحصنت؟ قال: نعم: فأمر به فرجم في المصلى، فلما أذلقته
الحجارة، فرّ، فأدرك، فرجم حتى مات، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
خيرا، وصلى عليه.
وفي لفظ لهما [ (4) ] : أنه قال له: أحق ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عنى؟
قال: بلغني أنك وقعت بجارية بنى فلان، فقال: نعم، قال: فشهد على نفسه أربع
شهادات، ثم دعاه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أبك جنون؟ قال، لا:
قال:
أحصنت؟ قال: نعم، ثم أمر به فرجم.
وفي لفظ لهما [ (5) ] : فلما شهد على نفسه أربع شهادات، ودعاه النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم، فقال: أبك جنون؟ قال: لا: قال أحصنت:؟ قال: نعم، قال:
اذهبوا به فارجموه.
__________
[ (1) ] كرب وتربد: أي أصبح كالمكروب، وتغيرت ملامح وجهه الشريف صلى اللَّه
عليه وسلّم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 12/ 155، كتاب الحدود، باب (25) الرجم بالمصلى،
حديث رقم (6820) ، قال: ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: فصلى عليه، سئل
أبو عبد اللَّه هل قوله: «فصلى عليه» يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له:
هل رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 204- 206، كتاب الحدود، باب (5) من اعترف
على نفسه بالزنا، حديث رقم (16) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (19) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 9/ 486، كتاب الطلاق، باب (11) الطلاق في الإغلاق
والمكره والسكران والمجنون، حديث رقم (5271) .
(10/16)
وفي لفظ للبخاريّ [ (1) ] : أن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم قال: لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت، قال: لا يا رسول
اللَّه، قال: صلى اللَّه عليه وسلّم أنكتها؟ لا يكنى، قال: نعم، فعند ذلك
أمر برجمه.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 162- 163، كتاب الحدود، باب (28) هل يقول
الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت؟ حديث رقم (6824) ، (سنن أبى داود) : 4/
597، كتاب الحدود، باب (24) رجم ماعز بن مالك، حديث رقم (4427) ، (4428) .
فتضمنت هذه الأقضية رجم الثيب، وأنه لا يرجم حتى يقر أربع مرات، وأنه إذا
أقر دون الأربع، لم يلزم بتكميل نصاب الإقرار، بل للإمام أن يعرض عنه،
ويعرض له بعدم تكميل الإقرار، وإن إقرار زائل العقل بجنون، أو سكر، ملغى لا
عبرة به، وكذلك طلاقه، وعتقه، وأيمانه، ووصيته، وجواز إقامة الحد في
المصلى، وهذا لا يناقض نهيه أن تقام الحدود في المساجد، وأن المحصن إذا زنى
بجارية، فحده الرجم، كما لو زنى بحرة.
وأن الإمام يستحب له أن يعرض للمقر بأن لا يقر، وأنه يجب استفسار المقر في
محل الإجمال، لأن اليد، والفم، والعين، لما كان استمتاعها زنى، استفسر عنه
دفعا لاحتماله، وأن الإمام لا يصرح له أن يصرح باسم الوطء الخاص به إلا عند
الحاجة إليه، كالسؤال عن الفعل، وأن الحد لا يجب على جاهل بالتحريم، لأنه
صلى اللَّه عليه وسلّم سأله عن حكم الزنى، فقال: أتيت منها حراما ما يأتى
الرجل من أهله حلالا.
وأن الحد لا يقام على الحامل، وأنها إذا ولدت الصبى، أمهلت حتى ترضعه،
وتفطمه، وأن المرأة يحفر لها دون الرجل، وأن الإمام لا يجب عليه أن يبدأ
بالرجم.
وأنه لا يجوز سب أهل المعاصي إذا تابوا، وأنه يصلى على من قتل في حد الزنى،
وأن المقر إذا استقال في أثناء الحد، وفر، ترك ولم يتمم عليه الحد، فقيل:
لأنه رجوع. وقيل:
لأنه توبة قبل تكميل الحد، فلا يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه، هذا
اختيار شيخنا، وأن الرجل إذا أقر أنه زنى بفلانة، لم يقم عليه حد القذف مع
حد الزنى، وأن ما قبض من المال بالصلح الباطل باطل يجب رده، وأن الإمام له
أن يوكل في استيفاء الحد.
وأن الثيب لا يجمع عليه بين الجلد والرجم، لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم
يجلد ما عزا ولا الغامدية، ولم يأمر أنيسا أن يجلد المرأة التي أرسله
إليها، وهذا قول الجمهور،
وحديث عبادة: «خذوا عنى قد جعل اللَّه لهن سبيلا: الثيب بالثيب جلد مائة
والرجم» منسوخ.
فإن هذا كان في أول الأمر
(10/17)
وفي لفظ لأبى دواد: أنه شهد على نفسه أربع
مرات، كل ذلك يعرض عنه، فأقبل في الخامسة، قال: «أنكتها» ؟ قال نعم. قال:
«حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة
والرشاء في البئر؟ «قال: نعم، قال:» فهل تدري ما الزنى؟ قال: نعم. أتيت
منها حراما ما يأتى الرجل من امرأته حلالا. قال: «فما تريد بهذا القول؟
«قال:
أريد أن تطهرني، قال: فأمر به فرجم، فسمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الّذي ستر اللَّه عليه
فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة
حمار شائل برجله، فقال: «أين فلان وفلان» ؟ فقالا: نحن ذان يا رسول اللَّه،
قال:
«انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار» فقالا: يا نبي اللَّه، من يأكل من هذا؟
قال:
__________
[ () ] قبل نزول حد الزنى، ثم رجم ماعزا والغامدية، ولم يجلدهما، وهذا كان
بعد حديث عبادة بلا شك، وأما حديث جابر في (السنن) : أن رجلا زنى، فأمر به
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فجلد الحد، ثم أقر أنه محصن، فأمر به فرجم.
فقد قال جابر في الحديث نفسه: أنه لم يعلم بإحصانه، فجلد، ثم علم بإحصانه،
فرجم. رواه أبو داود.
وفيه: أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالما بالتحريم، فإن ماعزا
لم يعلم أن عقوبته القتل، ولم يسقط هذا الجهل الحد عنه.
وفيه: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالإقرار في مجلسه، وإن لم يسمعه معه
شاهدان، نص عليه أحمد، فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لم يقل لأنيس: فإن
اعترفت بحضرة شاهدين فأرجمهما وأن الحكم إذا كان حقا محضا للَّه لم يشترط
الدعوى به عند الحاكم.
وأن الحد إذا وجب على امراة، جاز للإمام أن يبعث إليها من يقيمه عليها، ولا
يحضرها، وترجم النسائي على ذلك: صونا للنساء عن مجلس الحكم.
وأن الإمام والحاكم والمفتى يجوز له الحلف على أن هذا حكم اللَّه عزّ وجل
إذا تحقق ذلك، وتيقنه بلا ريب، وأنه يجوز التوكيل في إقامة الحدود، وفيه
نظر، فإن هذا استنابة من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وتضمن تغريب المرأة
كما يغرب الرجل، لكن يغرب معها محرما إن أمكن، وإلا فلا، وقال مالك: لا
تغريب على النساء، لأنهن عورة.
(10/18)
«فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من أكل
منه، والّذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينقمس فيها. [ (1) ]
وفيه: أنه لما وجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبرونى أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم غير قاتلي [ (2) ] [فلم ننزع عنه حتى قتلناه،
فلما رجعنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأخبرنا قال: «فهلا
تركتموه وجئتونى به، ليستثبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم منه، فأما
لترك حد فلا،
قال: فعرفت وجه الحديث] [ (3) ] .
***
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 580- 581، كتاب الحدود باب (24) رجم ماعز بن
مالك، حديث رقم (4428) ، ينقمس معناه ينغمس، قال الخطابي في (معالم السنن)
: وفي أصل المنذري ينغمس بالغين وكذلك في النسخة الهندية بالغين، ونسبه
المنذري للنسائى، وقال فيه:
«أنكحتها» ؟.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 576، كتاب الحدود، باب (24) رجم ماعز بن مالك،
حديث رقم (4420) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) ، وأخرجه
الترمذي في كتاب الحدود، باب في درء الحد عن المعترف إذا رجع، حديث رقم
(1429) .
(10/19)
|