إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع [فصل في ذكر من رجمه رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم من النساء المسلمات]
فخرج مسلم [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] من حديث بريدة: ... فجاءت الغامدية
فقالت: يا رسول اللَّه، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان من الغد،
قالت: يا رسول اللَّه! لم تردني؟ لعلك تردني كما رددت ما عزا، فو اللَّه
إني لحبلى، قال: «إما لا، فاذهبي حتى تلدي» ، فلما ولدت، أتته بالصبي في
خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته
أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي اللَّه قد فطمته، وقد أكل
الطعام، فدفع الصبى إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر إلى صدرها، وأمر
الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه
خالد، فسبها، فسمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سبه إياها فقال:
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 211- 214، كتاب الحدود، باب (5) من اعترف
على نفسه بالزنى، حديث رقم (1695) ، وقال المنذري: وفي إسناده: بشير بن
المهاجر الفنوىّ الكوفيّ، وليس له في (صحيح مسلم) سوى هذا الحديث، وقد وثقه
يحى بن معين، وقال الإمام أحمد: منكر الحديث، يجيء بالعجائب. ولا عيب على
مسلم في إخراج هذا الحديث فإنه أتى به في الطبقة الثانية، بعد ما ساق طرق
حديث ماعز، وأتى به آخرا، ليبين اطلاعه على طرق الحديث، واللَّه تبارك
وتعالى أعلم. (معالم السنن) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 589، كتاب الحدود، باب (25) المرأة التي أمر
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم برجمها من جهينة، حديث رقم (4442) .
وقال بعضهم: يحتمل أن تكونا امرأتين، إحداهما وجد لولدها كفيل وقبلها،
والأخرى:
لم يوجد لولدها كفيل أو لم يقبل، فوجب إمهالها حتى يستغنى عنها لئلا يهلك
بهلاكها. (المرجع السابق) .
قال الإمام النووي:
قوله (قال إما فاذهبي حتى تلدي)
هو بكسر الهمزة من إما وتشديد الميم وبالامالة ومعناه إذا أبيت أن تسترى
على نفسك وتتوبي وترجعى عن قولك فاذهبي حتى تلدي فترجمين بعد ذلك وقد سبق
شرح هذه اللفظ مبسوطا.
(10/20)
«مهلا يا خالد! فو الّذي نفسي بيده، لقد
تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها، فصلى عليها، ودفنت.
وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] .... أن رجلا قال له: أنشدك باللَّه
إلا قضيت بيننا بكتاب اللَّه، فقام خصمه، وكان أفقه منه فقال: صدق، اقض
بيننا
__________
[ () ] قوله (فتنضح الدم على وجه خالد) روى بالحاء المهملة وبالمعجمة
والأكثرون على المهملة ومعناه ترشش وانصب.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)
فيه أن المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات وذلك لكثرة مطالبات الناس
له وظلاماتهم عنده وتكرر ذلك منه انتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها
وصرفها في غير وجهها وفيه أن توبة الزاني لا تسقط عنه حد الزنا وكذا حكم حد
السرقة والشرب هذا أصح القولين في مذهبنا حد المحاربة بلا خلاف عندنا وعند
ابن عباس وغيره لا تسقط.
قوله (ثم أمر بها فصلى عليه ثم دفنت) وفي الرواية الثانية أمر بها النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم فرجمت، ثم صلى عليه فقال له عمر: تصلى عليها يا نبي
اللَّه وقد زنت، أما الرواية الثانية فصريحة في أن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم صلى عليها وأما الرواية الأولى فقال القاضي عياض رضي اللَّه تبارك
وتعالى عنه: هي بفتح الصاد واللام عند جماهير رواة صحيح مسلم قال: وعند
الطبري بضم الصاد قال وكذا في رواية ابن أبى شيبة، وأبى داود قال: وفي
رواية لأبى داود، ثم أمرهم أن يصلوا عليها قال القاضي: ولم يذكر مسلم صلاته
صلى اللَّه عليه وسلّم على ماعز وقد ذكرها البخاري.
وقد اختلف العلماء في الصلاة على المرجوم فكرهها مالك وأحمد للإمام ولأهل
الفضل دون باقي الناس ويصلى عليه غير الامام وأهل الفضل وغيرهم والخلاف بين
الشافعيّ ومالك إنما هو في الامام وأهل الفضل وأما غيرهم فاتفقا على أنه
يصلى وبه قال جماهير العلماء قالوا فيصلي على الفساق والمقتولين في الحدود
والمحاربة وغيرهم وقال الزهري: لا يصلى أحد على المرجوم وقاتل نفسه وقال
قتادة: لا يصلى على ولد الزنا واحتج الجمهور بهذا الحديث وفيه دلالة
للشافعي أن الامام وأهل الفضل يصلون على المرجوم كما يصلى عليه غيرهم وأجاب
أصحاب مالك عنه بجوابين:
أحدهما: أنهم ضعفوا رواية الصلاة لكون أكثر الرواة لم يذكروها.
والثاني: تأولوها على أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أمر بالصلاة أو دعا فسمى
صلاة على مقتضاها في اللغة.
(10/21)
بكتاب اللَّه وائذن لي، فقال: «قل، قال: إن
ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته. فافتديت منه بمائة شاة وخادم، وإني
سألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة
هذا الرجم، فقال: والّذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللَّه: المائة
والخادم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأغد يا أنيس على امرأة
هذا فاسألها، فإن اعترفت فارجمها» فاعترفت، فرجمها.
[فصل في ذكر من رجمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من أهل الكتاب]
فخرج البخاري ومسلم: أن اليهود جاءوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم» ؟ قال نفضحهم ويجلدون،
فقال عبد اللَّه بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة، فنشروها،
فوضع أحدهم يده على آيه الرجم، فقرأ
__________
[ () ] وهذان الجوابان فاسدان أما الأول فإن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح
وزيادة الثقة الشرعية إلى ارتكابه وليس هنا شيء من ذلك فوجب حمله على ظاهره
واللَّه أعلم.
[ () ] (1) أخرجه البخاري في المحاربين: باب الاعتراف بالزنا، وباب البكران
يجلدان وينفيان، وباب من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبا، وباب إذا رمى
امرأته أو امرأة غيره بالزنى عند الحاكم، وباب هل يأمر الإمام رجلا فيضرب
الحد غائبا عنه، وفي الوكالة: باب الوكالة في الحدود، وفي الشهادات: باب
شهادة القاذف، والسارق، والزاني، وفي الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور
فالصلح مردود، وفي الشروط: باب الشروط التي لا تعمل في الحدود، وفي الأيمان
والنذور: باب كيف كان يمين النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. وفي الأحكام: باب
هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر في الأمور، وفي خبر الواحد: باب ما
جاء في إجازة خبر الواحد، وفي الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] وأخرجه مسلم (1697) ، (1698) ، ومالك في (الموطأ) : 2/ 822.
والترمذي (1433) ، وأبو داود (4445) ، والنسائي: 8/ 240- 241، وابن ماجة:
(2549) ، والدارميّ:
2/ 177، كلهم من حديث أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنيّ رضي اللَّه تبارك
وتعالى عنهما، والعسيف: الأجير.
(10/22)
ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد اللَّه بن
سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، إن
فيها الرجم، فأمر بهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فرجما [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في المحاربين: باب أحكام أهل الذمة، وباب الرجم في
البلاط، وفي الجنائز. باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، وفي
الأنبياء: باب قول اللَّه تعالى:
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وفي تفسير سورة آل عمران: باب
قول اللَّه تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ وفي الاعتصام: باب ما ذكر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وحض على
اتفاق أهل العلم، وفي التوحيد: باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب
اللَّه تعالى بالعربية وغيرها. قال الخطابي في (معالم السنن) : فيه من
الفقه: ثبوت أنكحة أهل الكتاب، إذا ثبتت أنكحتهم ثبت طلاقهم وظهارهم
وإيلاؤهم.
وفيه دليل على أن نكاح أهل الكتاب يوجب التحصين، إذ لا رجم على المحصن. ولو
أن مسلما تزوج يهودية أو نصرانية ودخل بها ثم زنا كان عليه الرجم وهو قول
الزهري، وإليه ذهب الشافعيّ.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الكتابية لا تحصن المسلم، وتأول بعضهم معنى الحديث
على أنه إنما رجمهما بحكم التوراة، ولم يحملهما على أحكام الإسلام وشرائطه.
قلت: وهذا تأويل غير صحيح لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وإنما جاءه القوم مستفتين طمعا في أن
يرخص لهم في ترك الرجم ليعطلوا به حكم التوراة، فأشار عليهم رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم بما كتموه من حكم التوراة، ثم حكم عليهم بحكم
الإسلام على شرائطه الواجبة فيه، وليس يخلو الأمر فيما صنعه رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم من ذلك عن أن يكون موافقا لحكم الإسلام أو مخالفا،
فإن كان مخالفا فلا يجوز أن يحكم بالمنسوج ويترك الناسخ.
وإن كان موافقا له فهو شريعته، والحكم الموافق لشريعته لا يجوز أن يكون
مضافا إلى غيره، ولا أن يكون فيه تابعا لمن سواه.
وأخرجه مسلم في الحدود: باب (6) رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث رقم
(1699) ، ومالك في (الموطأ) : 2/ 819، والترمذي (1436) ، وأبو داود (4446)
، (4449) ، كلهم من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
قال الإمام النووي:
قوله «إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
(10/23)
__________
[ () ] قوله (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أتى يهودي ويهودية قد زنيا
إلى قوله فرجما) في هذا دليل لوجوب حد الزنا على الكافر وأنه يصح نكاحه
لأنه لا يجب الرجم إلا على محصن فلو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه ولم يرجم،
وفيه أن الكافر مخاطبون بفروع الشرع وهو الصحيح وقيل لا يخاطبون بها وقيل
أنهم مخاطبون بالنهى دون الأمر، وفيه أن الكفار إذا تحاكموا إلينا حكم
القاضي بينهم بحكم شرعنا وإذا تحاكموا إلينا حكم القاضي بينهم بحكم شرعنا
وقال مالك لا يصح إحصان الكافر قال وإنما رجمها لأنهما لم يكونا أهل ذمة
وهذا تأويل باطل لأنهما كانا من أهل العهد ولأنه رجم المرأة والنساء لا
يجوز قتلهن مطلقا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (فقال ما تجدون في التوراة)
قال العلماء: هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا معرفة الحكم منهم فإنما هو
لالزامهم بما يعتقدونه في كتابهم ولعله صلى اللَّه عليه وسلّم قد أوحى اليه
أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء أو أنه
أخبره بذلك من أسلم منهم ولهذا لم يخف ذلك عليه حين كتموه.
قوله (نسود وجوههما ونحملهما) هكذا هو في أكثر النسخ نحملهما بالحاء
واللام، وفي بعضها نجملها بالجيم وفي بعضها نحممهما بميمين وكله متقارب
فمعنى الأول نحملهما على الحمل ومعنى الثاني نجملهما جميعا على الجمل ومعنى
الثالث نسود وجوههما بالحمم بضم الحاء وفتح الميم وهو الفحم وهذا الثالث
ضعيف لأنه قال قبله نسود وجوههما فان قيل كيف رجم اليهوديان بالبينة أم
بالإقرار قلنا الظاهر أنه بالإقرار وقد جاء في سنن أبى داود وغيره أنه شهد
عليهما أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها فان صح هذا فان كان الشهود مسلمين
فظاهر وإن كانوا كفارا فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنهما أقرا بالزنا.
قال العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) : فتضمنت هذه الحكومة أن الإسلام
ليس بشرط في الإحصان، وأن الذمي يحصن بالذمية، وإلى هذا ذهب أحمد
والشافعيّ، ومن لم يقل بذلك اختلفوا في وجه هذا الحديث، فقال مالك في غير
(الموطأ) : لم يكن اليهود بأهل ذمة، والّذي في (صحيح البخاري) : أنهم أهل
ذمة، ولا شك أن هذا كان بعد العهد الّذي وقع بين النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم وبينهم ولم يكونوا إذا ذاك حربا، كيف وقد تحاكموا إليه، ورضوا بحكمه؟
وفي بعض طرق الحديث: أنهم قالوا: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه بعث
بالتخفيف وفي بعض طرقه:
أنهم دعوه إلى بيت مدارسهم، فأتاهم وحكم بينهم، فهم كانوا أهل عهد وصلح بلا
شك.
(10/24)
فصل في ذكر من قطع رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] وأبو داود [ (3) ] من حديث ابن شهاب عن
عروة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: إن قريشا أهمهم شأن
المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم؟ فقالوا: ومن
__________
[ () ] قال الزهري في حديثه: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إِنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم منهم.
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 103- 104، كتاب الحدود، باب (12) كراهة الشفاعة
في الحد إذا رفع إلى السلطان حديث رقم (6788) ، وفي هذا الحديث من الفوائد
منع الشفاعة في الحدود.
وفيه قبول توبة السارق. ومنقبة لأسامة. وفيه ما يدل على أن فاطمة عليها
السلام عند أبيها في أعظم المنازل. وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من
وجب عليه ولو كان ولدا أو قريبا أو كبير القدر والتشديد في ذلك والإنكار
على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه وفيه جواز ضرب المثل بالكبير
القدر بالمبالغة في الزجر عن الفعل ومراتب ذلك مختلفة، ويؤخذ منه جواز
الإخبار عن امر مقدر يفيد القطع بأمر محقق. وفيه أن من حلف على أمر لا
يتحقق أنه يفعله أو لا يفعله لا يحنث كمن قال لمن خاصم أخاه: واللَّه لو
كنت حاضرا لهشمت أنفك. وفيه جواز التوجع لمن أقيم عليه الحد بعد إقامته
عليه وقد حكى ابن الكلبي في قصة أم عمرو بن سفيان أن امرأة أسيد بن حضير
آوتها بعد أن قطعت وصنعت لها طعاما وأن أسيدا ذكر ذلك للنّبيّ صلى اللَّه
عليه وسلّم كالمنكر على امرأته،
فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: رحمتها رحمها اللَّه.
وفيه الاعتبار بأحوال ما مضى من الأمم، ولا سيما من خالف أمر الشرع، وتمسك
به بعض من قال: أن شرع من قبلنا شرع لنا لأن فيه إشارة تحذير من فعل من
الشيء الّذي جر الهلاك إلى الذين من قبلنا لئلا يهلك كما هلكوا، وفيه نظر،
وإنما يتم إن لو لم يرد قطع السارق في شرعنا، وأما اللفظ العام فلا دلالة
فيه على المدعى أصلا.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 198- 199، كتاب الحدود، باب (2) قطع
السارق الشريف وغيره، والنهى عن الشفاعة في الحدود، حديث رقم (1688) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 4/ 537- 538، كتاب الحدود، باب (4) في الحد يشفع
فيه، حديث رقم (4373) .
(10/25)
يجترئ عليه إلا أسامة رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه؟ حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فكلمه أسامة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه، فقال: رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتشفع في حد من
حدود اللَّه تعالى؟ ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس: إنما أهلك الذين قبلكم
أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه
الحد، وأيم اللَّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
وفي رواية لمسلم إنما هلك الذين من قبلكم.
ولم يقل البخاري وأبو داود والنسائي: أيها الناس.
وخرجه البخاري في كتاب الحدود بهذا الإسناد ونحوه وقال فيه: ثم قام فخطب
فقال: أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم. وقال في آخره: لقطع محمد يدها.
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرنى يونس بن يزيد عن ابن شهاب
قال: أخبرنى عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
عنها: أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم في غزوة الفتح، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فأتى بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم فكلمه فيها أسامة بن زيد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فتلوّن وجه
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أتشفع في حد من حدود اللَّه
تعالى؟ فقال له أسامة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: استغفر لي يا رسول
اللَّه، فلما كان العشي قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فاختطب
فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم
أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه
الحد، وإني والّذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر
بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
قال يونس: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنها: فحسنت توبتها بعد وتزوجت وكانت تأتى بعد ذلك فأرفع حاجتها
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 199- 200، كتاب الحدود باب (2) قطع
السارق الشريف وغيره والنهى عن الشفاعة في الحدود، حديث رقم (9) .
(10/26)
إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. ذكره في
غزوة الفتح من حديث يونس عن الزهري بنحو حديث مسلم أو قريبا منه.
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة
عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كانت امرأة
__________
[ (1) ] ن (مسلم بشرح النووي) : 11/ 200، كتاب الحدود، باب (2) قطع السارق
الشريف وغيره والنهى عن الشفاعة في الحدود، حديث رقم (10) ، ذكر مسلم رضى
اللَّه عنه في الباب أحاديث النهى عن الشفاعة في الحدود، وأن ذلك هو سبب
هلاك بنى إسرائيل وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه
إلى الإمام لهذه الأحاديث، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه، فأما قبل بلوغه إلى
الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر
وأذى للناس، فإن كان، لم يشفع فيه، وأما المعاصي التي لا حد فيها وواجبها
التعزير فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا، لأنها أهون،
ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى ونحوه.
قوله «ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم» هو
بكسر الحاء أي محبوبه، ومعنى يجترئ: يتجاسر عليه بطريق الإدلال، وفي هذا
منقبة ظاهرة لأسامة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأيم اللَّه لو أن فاطمة»
فيه دليل لجواز الحلف من غير استحلاف وهو مستحب إذا كان فيه تفخيم لأمر
مطلوب كما في الحديث وقد كثرت نظائره.
قوله: «كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه» قال العلماء: المراد أنها
قطعت بسرقة، وإنما ذكرت العارية تعريفا لها ووصفا لها، لا أنها سبب القطع.
وقد ذكر مسلم هذا الحديث في سائر الطرق المصرحة بأنها سرقت وقطعت بسبب
السرقة، فيتعين حمل هذه الرواية على ذلك جمعا بين الروايات، فإنّها قضية
واحدة، مع أن جماعة من الأئمة قالوا: هذه الرواية شاذة، فإنّها مخالفة
لجماهير الرواة والشاذة لا يعمل بها، قال العلماء: وإنما لم يذكر السرقة في
هذه الرواية لأن المقصود منها عند الراويّ ذكر منع الشفاعة في الحدود، لا
الإخبار عن السرقة.
قال جماهير العلماء وفقهاء الأمصار: لا قطع على من جحد العارية، وتأولوا
هذا الحديث بنحو ما ذكرته، وقال أحمد وإسحاق: يجب القطع في ذلك. (شرح
النووي) .
(10/27)
مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم، أن تقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه، فكلموه فكلم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فيها. ثم
ذكر نحو حديث الليث ويونس.
قال المؤلف، هذه المرأة التي سرقت وقطعت يدها التي كانت تستعير المتاع
وتجحده، وهي فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد اللَّه بن عمرو ابن
مخزوم، وهي بنت أخى أبى سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل كان زوج أم سلمة
قبل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قتل أبوها كافرا يوم بدر، قتله حمزة بن
عبد المطلب، ووهم من زعم أن له صحبة.
وقيل: هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد، وهي بنت عمر المذكورة، أخرجه عبد
الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرنى بشر بن تيم أنها أم عمرو بن سفيان بن عبد
الأسد.
وخرج أبو داود [ (1) ] من حديث عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: إن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع
وتجحده فأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بها فقطعت يدها، [وقص نحو حديث
الليث، قال:
فقطع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يدها] .
ومن حديث يونس عن ابن شهاب قال: كان عروة يحدث أن عائشة رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنها، قالت: استعارت امرأة- تعنى حليا- على ألسنة أناس يعرفون ولا
تعرف هي، حليا فباعته، فأخذت ثمنه، فأتي بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم فأمر بقطع يدها، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد، وقال فيها رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ما قال [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 538- 539، كتاب الحدود باب (4) في الحد يشفع
فيه حديث رقم (4374) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4396) .
(10/28)
وخرج النسائي [ (1) ] من حديث عبد اللَّه
بن المبارك عن حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة عن أبى
المنذر مولى أبى ذر، عن أبى أمية المخزوميّ قال: أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم أتى بلص اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم: ما إخالك سرقت؟ قال: بلى، قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: اذهبوا به فاقطعوه ثم جيئوا به، فقطعوه ثم جاءوا به
فقال له: قل أستغفر اللَّه وأتوب إليه، فقال: استغفر اللَّه وأتوب إليه،
قال: اللَّهمّ تب عليه.
ترجم عليه باب تلقين السارق.
وخرجه أبو داود [ (2) ] من حديث مصعب بن ثابت بن عبد اللَّه بن الزبير عن
محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: جيء بسارق إلى رسول
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 8/ 438، كتاب قطع السارق، باب (3) تلقين السارق،
حديث رقم (4892) ، قال الحافظ السندي: قوله: «ما إخالك» بكسر الهمزة هو
الشائع المشهور بين الجمهور، والفتح لغة بعض، وإن كان القياس لكونه صيغة
المتكلم من خاله كخاف بمعنى ظن.
قيل: أراد صلى اللَّه عليه وسلّم تلقين الرجوع من الاعتراف، وللإمام ذلك في
السارق إذا اعترف، ومن لا يقول به لعله ظن بالمعترف غفلة عن معنى السرقة
وأحكامها، أو لأنه استبعد اعترافه بذلك، لأنه ما وجد معه متاع. (حاشية
السندي على سنن النسائي) .
[ (2) ]
(سنن أبى داود) : 4/ 565- 567، كتاب الحدود باب (20) في السارق يسرق مرارا
حديث رقم (4410) ، قال الخطابي: هذا في بعض إسناده مقال: وقد عارض الحديث
الصحيح الّذي بإسناده، وهو أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ولا يحل دم
امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير
نفس،
والسارق ليس بواحد من الثلاثة فالوقوف عن دمه واجب.
ولا يعلم أحدا من الفقهاء يبيح دم السارق- وإن تكررت منه السرقة مرة بعد
أخرى- إلا أنه قد يخرج على مذاهب بعض الفقهاء أن يباح دمه، وهو أن يكون هذا
من المفسدين في الأرض، في أن للإمام أن يجتهد في تعزير المفسدين، ويبلغ به
ما رأى من العقوبة، وإن زاد على مقدار الحد وجوازه وإن رأى القتل قتل ويعزى
هذا الرأى إلى الإمام مالك بن أنس.
وهذا الحديث- إن كان له أصل- فهو يؤيد هذا الرأى.
(10/29)
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال:
اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللَّه! إنما سرق، فقال: اقطعوه، قال: فقطع، ثم
جيء به الثانية فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللَّه! إنما سرق فقال:
اقطعوه قال: فقطع، ثم جاء به الثالثة فقال: اقتلوه، فقالوا يا رسول اللَّه
إنما سرق فقال: اقطعوه ثم أتى به الرابعة فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول
اللَّه إنما سرق، فقال: اقطعوه، فأتى به الخامسة فقال: اقتلوه، قال جابر
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه
في بئر ورمينا عليه الحجارة.
وخرج أبو داود [ (1) ] من حديث عبد الرزاق قال: أنبأنا ابن جريح قال:
أخبرنى إسماعيل بن أمية أن نافعا مولى عبد اللَّه بن عمر حدثة أن عبد
اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما حدثهم أن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم قطع يد رجل سرق ترسا من صفّة النساء ثمنه ثلاثة دراهم.
وخرج من حديث محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: قطع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يد
رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم [ (2) ] .
__________
[ () ] وقد يدل على ذلك من نفس الحديث: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قد أمر
بقتله لما جيء به أول مرة، ثم كذا في الثانية والثالثة والرابعة، إلى أن
قتل في الخامسة.
فقد يحتمل أن يكون هذا رجل مشهورا بالفساد، ومخبورا بالشر، معلوما من أمره
أنه سيعود إلى سوء فعله، ولا ينتهى عنه حتى ينتهى خبره.
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 548، كتاب الحدود، باب (11) ما يقطع فيه
السارق، حديث رقم (4368) .
[ (2) ] (المرجع السابق) حديث رقم (4387) ، قال الخطابي: وإلى هذا ذهب أبو
حنيفة وأصحابه وجعلوه حدا فيما يقطع فيه اليد، وهو قول سفيان الثوري، وقد
روى ذلك عن ابن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
قال: وهكذا تنفيذ، وليس في موضع التحديد، لأنه إذا كان السارق مقطوعا في
ربع دينار فلأن يكون مقطوعا في دينار أولى، وكذلك إذا قطع في ثلاثة دراهم
يبلغ قيمتها ربع دينار، فهو بأن يقطع في عشرة دراهم أولى.
(10/30)
|