إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر منبر رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم
اعلم ان المنبر النبوي عمل من طرفاء الغابة في سنة ثمان من الهجرة، وقيل في
سنة سبع، وأن امرأة أنصارية من بنى ساعدة، أمرت غلامها حسنا ويقال إبراهيم،
فصنعه، وقيل: بل هي امرأة من الأنصار، وقيل: بل صنعه
__________
[ () ] وأبى الغوث القرعى، وعمرو بن شعيب، ونافع مولى ابن عمر، وحمران مولى
العبلات، وعطاء بن أبى رباح وخلق.
وعنه عثمان ابنه، وشعيبة إبراهيم بن طهمان، وعبد الرحمن بن إسحاق بن أسيد
الخراساني، وداود بن أبى هند، ومعمر، وابن جريح، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن
يزيد، وجابر، والضحاك بن عبد الرحمن بن أبى حوشب، وشعيب بن زريق، وعمر بن
المثنى، والقاسم بن أبى بزة بن عاصم الكلبي، ومالك بن أنس، وهشام بن سعد
المدني، وآخرون.
قال ابن معين: ثقة وقال ابن أبى حاتم عن أبيه: ثقة صدوق. قلت: يحنج به؟
قال:
نعم وقال النسائي ليس به بأس، وقال الدارقطنيّ ثقة في نفسه إلا أنه لم يلق
ابن عباس وقال أبو داود: ولم يدرك ابن عباس ولم يره. وقال حجاج بن محمد عن
شعيبة ثنا عطاء الخراساني وكان نسيا وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر كان
يحيى الليل وعن عطاء قال أوثق أعمالى في نفس نشر العلم قال ابنه عثمان بن
عطاء مات سنة خمس وثلاثين ومائه وقال أبو نعيم الحافظ كان مولده سنة (50) .
(تهذيب التهذيب) : 7/ 190، ترجمة رقم (395) .
(10/95)
غلام العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه واسمه صباح [ (1) ] ويقال: كلاب [ (2) ] .
وفي رواية: فأرسله إلى أثلة في الغابة، فقطعها، ثم عملها درجتين ومجلسا، ثم
جاء بالمنبر فوضعه موضعه.
وقيل كان المنبر من أثلة قريب المسجد، وقيل: إنما عمله تميم الداريّ [ (3)
] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقيل: عمله غلام سعيد بن العاص، واسمه
ناقول [ (4) ] وقيل: عمله غلام لرجل من بنى مخزوم، ويقال: إنما عمله يا قوم
باني الكعبة لقريش [ (5) ] .
__________
[ (1) ] هو صباح، مولى العباس بن عبد المطلب، روى عمر بن شبة، من طريق صالح
بن ابى الأخضر، عن عمر بن عبد العزيز، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
استعمل صباحا مولى العباس بن عبد المطلب، فأعطاه عمالته.
وقرأت في المبهمات لابن بشكوال قال: قرأت بخط ابن حبان قال: ذكر عبد اللَّه
بن حسين الأندلسى في كتابه في الرجال عن عمر بن عبد العزيز أن المنبر عمله
صباح مولى العباس (الإصابة) : 3/ 404- 405، ترجمة رقم (4035) .
[ (2) ] هو كلاب، مولى العباس بن عبد المطلب.
ذكر ابن سعد، وأخرج بسند فيه الواقدي، عن أبى هريرة، قال: كان رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن
القيام قد شق عليّ، فقال تميم الداريّ ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع
بالشام؟ فشاور النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المسلمين في ذلك، فرأوا أن
يتخذه. فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس،
فقال: مره أن يعمله، فأرسله إلى أثله بالغابة فقطعها وعمل منها درجتين
ومقعدا، ثم جاء فوضعه في موضعه اليوم، فقام عليه، وقال: منبري على ترعة من
ترع الجنة. (الإصابة) 5/ 616- 617 ترجمة رقم (7445) .
[ (3) ] سبقت له ترجمة وافية في (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 9/ 38، فصل في
ذكر من حدث عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (5) ] القباطي: نوع من القماش.
(10/96)
وكان صلى اللَّه عليه وسلّم يجلس على
المنبر، ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولى أبو بكر رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه، قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما
ولى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه
على الأرض إذا قعد، فلما ولى عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فعل ذلك
ستة سنين من خلافته، ثم علا إلى موضع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وكسا
المنبر قبطية، وكان أول من كساه، فسرقتها امرأة، فأتى بها، فقال لها: سرقت؟
قولي: لا، فاعترفت، فقطعها، وكساه معاوية ابن [أبى] سفيان بعد عثمان رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه لما حج، ثم كساه عبد اللَّه بن الزبير رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنهما، فسرقتها امرأة، فقطعها كما قطع عثمان رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه وكساه الخلفاء من بعده.
وكان طول المنبر ذراعان في السماء وثلاثة أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول
صدره، وهو مسند النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ذراع وطول رمانتى المنبر
اللتين كان يمسكهما بيديه الكريمتين إذا جلس شبر وإصبعان، وعدد درجاته ثلاث
بالمقعد، وفيه خمسة أعواد من جوانبه الثلاثة.
فلما كان في خلافة معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، زاد مروان ابن
الحكم وهو على المدينة في المنبر من أسفله ست درجات، ورفعوه عليها، فصار
المنبر تسع درجات بالمجلس، فصار طوله بعد الزيادة أربعة أذرع، ومن أسفل
عتبته إلى أعلاه تسعة أذرع وشبر.
ثم تعاقب المنبر النبوي على طول الزمان، فجدده بعض خلائف بنى العباس منبرا،
واتخذ من بقايا أعواد المنبر النبوي أمساطا للتبرك بها، فلم يزل المنبر
المجدد حتى أحرق ليلة حريق المسجد أول ليلة من شهر رمضان سنة أربع وخمسين
وستمائة، فبعث المظفر يوسف صاحب اليمن منبرا في سنة ست وستين، فخطب عليه
مائة واثنتان وثلاثون سنة إلى أن بعث الظاهر برقوق من مصر منبرا في سنة سبع
وتسعين وسبعمائة.
[خرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب
بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللَّه القارئ القرشي الإسكندراني، حدثنا أبو
حازم بن دينار، قال: إن رجالا أبو سهل رضى اللَّه
(10/97)
تبارك وتعالى عنه، كانت تسعة، بعضها من
جريد، مطين بالطين، وسقفها من جريد، وبعضها من حجارة مرصوصة بعضها على بعض،
مسقفة بالجريد أيضا [ (1) ]] .
وخرج البخاري في (الأدب المفرد) من [طريق] حديث ابن السائب قال: سمعت الحسن
يقول: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، في خلافة عثمان
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأتناول سقفها بيدي.
وخرج من طريق عبد اللَّه قال: أنبأنا داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من
جريد النخل، مغشى من خارج مسوح الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة، قال:
باب البيت نحوا من ست أذرع أو سبع أذرع.
وأحرز البيت الداخل عشر أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والتسع، ووقفت عند باب
عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فإذا هو مستقبل المغرب.
ومن طريق إبراهيم بن المنذر، حدثنا محمد بن أبى فديك عن محمد بن هلال، أنه
رأى حجر أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من جريد بمسوح الشعر، فسألته عن
بيت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فقال: كان بابه مواجه الشام،
فقلت:
مصراعا كان أو مصراعين؟ قال: كان بابا واحدا، فلت: من أي شيء؟ قال عن عرعر.
ومن طريق مالك بن إسماعيل- وقد امتاروا في المنبر مم عوده؟ - فسألوه عن
ذلك، فقال: واللَّه إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم صنع، وأول يوم
جلس إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، أرسل رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم إلى فلانة- امرأة قد سماها سهل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها-
مري غلامك النجار أن يعمل أعوادا أجلس عليهم إذا كلمت الناس، فأمرته بعملها
من طرفاء الغاية ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فأمرها فوضعت هاهنا، ثم رأيت رسول اللَّه
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين لذا بالأصل ولم أجد له معنى ولا توجيها فيما بين
يدي من مراجع، رغم إشارة المؤلف إلى تخريج كل من البخاري ومسلم وأبى داود
والنسائي لهذا الحديث، ولعله خطأ من الناسخ، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
(10/98)
صلى اللَّه عليه وسلّم صلى عليها وكبر
عليها ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس
فقال أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي.
ذكره البخاري [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] في كتاب الجمعة وترجم عليه البخاري
باب الخطبة على المنبر، وترجم عليه أبو داود باب اتخاذ المنبر، وترجم عليه
النسائي باب الصلاة على المنبر [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 504، كتاب الجمعة، باب (26) الخطبة على المنبر،
وقال أنس رضى اللَّه تبارك وعنه: خطب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على
المنبر.
قوله: «باب الخطبة على المنبر» أي مشروعيتها، ولم يقيدها بالجمعة
ليتناولها، ويتناول غيرها.
قوله: «وقال أنس: خطب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر» هذا طرف من
حديث أورده المصنف في الاعتصام، وفي الفتن مطولا، وفيه قصة عبد اللَّه بن
حذافة، ومن حديثه أيضا في الاستسقاء في قصة الّذي قال: «هلك المال» .
قوله: «امتروا» من المماراة، وهي المجادلة، وقال الكرماني: من الامتراء،
وهو الشك، ويؤيد الأول قوله في رواية عبد العزيز بن أبى حازم عن أبيه عند
مسلم «أن تماروا» فإن معناه تجادلوا، قال الراغب: الامتراء والمماراة
المجادلة، ومنه فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وقال أيضا:
المرية التردد في الشيء، ومنه فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ.
وقوله: (واللَّه إني لأعرف مما هو) فيه القسم على الشيء لإرادة تأكيده
للسامع، وفي قوله: «ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه «زيادة على
السؤال، لكن فائدته إعلامهم بقوة معرفته بما سألوه عنه، وقد تقدم في باب
الصلاة على المنبر أن سهلا قال: «ما بقي أحد أعلم به منى» .
قوله: (أرسل إلخ) هو شرح الجواب.
قوله: (إلى فلانة امرأة من الأنصار) في رواية أبى غسان عن أبى حازم «امرأة
من المهاجرين» كما سيأتي في الهبة، وهو وهم من أبى غسان لإطباق أصحاب أبى
حازم على قولهم: «من الأنصار» ، وكذا قال أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات
النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات
النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في «باب الصلاة على المنبر» في أوائل
الصلاة.
(10/99)
__________
[ () ] وقوله: (مري غلامك النجار) سماه عباس بن سهل عن أبيه فيما أخرجه
قاسم بن أصبغ وأبو سعد في «شرف المصطفى» جميعا من طريق يحيى بن بكير عن ابن
لهيعة حدثني عمارة ابن غزية عنه ولفظه «كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم يخطب إلى خشبة. فلما كثر الناس قيل له: لو كنت جعلت منبرا. قال وكان
بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون فذكر الحديث،
وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعيد الأنصاري عن ابن عباس نحو هذا السياق
ولكن لم يسمه، وفي الطبراني من طريق أبى عبد اللَّه الغفاريّ «سمعت سهل بن
سعد يقول: كنت جالسا مع خال لي من الأنصار. فقال له النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم أخرج إلى الغابة وأتنى من خشبها فاعمل لي منبرا»
الحديث. وجاء في صانع المنبر أقوال أخر:
أحدهما: اسمه إبراهيم أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبى نضرة عن جابر،
وفي إسناده العلاء من مسلمة الرواس وهو متروك.
ثانيها: باقول بموحدة وقاف مضمومة رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف منقطع.
ووصله أبو نعيم في (المعرفة) لكن قال باقوم آخره ميم وإسناده ضعيف أيضا.
ثالثها: صباح بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة وآخره مهملة أيضا ذكره ابن
بشكوال بإسناد شديد الانقطاع.
رابعها: قبيصة أو قبيصة المخزومي مولاهم ذكره عمر بن شبة في (الصحابة)
بإسناد مرسل.
خامسها: كلاب مولى العباس كما سيأتي.
سادسها:
تميم الداريّ رواه داود مختصرا والحسن بن سفيان والبيهقي من طريق أبى عاصم
عن عبد العزيز بن أبى رواد «عن نافع عن ابن عمر أن تميما الداريّ قال لرسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما كثر لحمه: ألا نتخذ لك منبرا يحمل عظماك؟
قال: بلى فاتخذ له منبر
أ «الحديث وإسناده جيد، وسيأتي ذكره في علامات النبوة فإن البخاري أشار
إليه ثم،
روى ابن سعد في (الطبقات) من حديث أبى هريرة» أن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم كان يخطب وهو مستند إلى جذع فقال: إن القيام قد شق على فقال له تميم
الداريّ: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم المسلمين في ذلك فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن
لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمل
«الحديث رجاله ثقات إلا الواقدي. سابعها: ميناء، ذكره ابن بشكوال عن الزبير
بن بكار: «حدثني إسماعيل» هو ابن أبى أويس عن أبيه، قال: عمل
(10/100)
__________
[ () ] المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بنى سلمة- أو من بنى ساعدة أو
امرأة لرجل منهم- يقال له ميناء» .
وهذا يحتمل أن يعود الضمير فيه على الأقرب، فيكون ميناء اسم زوج المرأة،
وهو بخلاف ما حكيناه في «باب الصلاة على المنبر والسطوح» ، عن ابن التين،
أن المنبر عمله غلام سعد بن عبادة، وجوزنا أن تكون المرأة زوج سعد وليس في
جميع هذه الروايات التي سمى فيها البخاري شيء قوى السند إلا حديث ابن عمر،
وليس فيه لتصريح بأن الّذي اتخذ المنبر تميم الداريّ، وقد تبين من رواية
ابن سعد أن تميما لم يعلمه.
وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال: هو ميمون، لكون الإسناد من طريق سهل بن
سعد أيضا، وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدا أن يجمع
بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة. وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في
عمله، فيمنع منه قوله في كثير من الروايات السابقة: ولم يكن بالمدينة إلا
نجار واحد «إلا ان كان يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته،
والبقية أعوانه. واللَّه تعالى أعلم.
ووقع عند الترمذي وابن خزيمة وصححاه من طريق عكرمة بن عمار عن إسحاق بن أبى
طلحة، عن أنس: «كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقوم يوم الجمعة فيسند
ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب، فجاء إليه رومي فقال: ألا أصنع لك
منبرا؟ «الحديث. ولم يسمه فيحتمل أن يكون المراد بالرومي تميم الداريّ لأنه
كان كثير السفر إلى أرض الروم.
وقد عرف مما تقدم سبب عمل المنبر، وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة
السابعة، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه وكان قدوم العباس بعد الفتح في
آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع.
وجزم ابن النجار بأن عمله كان في سنة ثمان، وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث
الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت: «فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن
يقتتلوا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى
سكتوا «فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى.
وحكى بعض أهل السير أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يخطب على منبر من طين
قيل أن يتخذ المنبر الّذي من خشب، ويعكر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه
كان يستند إلى الجذع إذا خطب، ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده
مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله
(10/101)
__________
[ () ] وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بين بكار في (أخبار المدينة) بإسناده
إلى حميد بن عبد الرحمن ابن عوف قال: «بعث معاوية إلى مروان- وهو عامله على
المدينة- أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان
فخطب وقال: إنما أمرنى أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا، وكان ثلاث
درجات فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم» . ورواه من وجه آخر قال:
فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم وقال: «فزاد فيه ست درجات وقال: إنما زدت في
حين كثر الناس «قال ابن النجار وغيره: استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى
أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب
اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا فأزيل
منبر المظفر، فلم يزل ذلك إلى هذا العصر فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين
وثمانمائة منبرا جديدا، وكان أرسل في سنة في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا
إلى مكة أيضا، شكر اللَّه له صالح عمله آمين.
قوله: (فعملها من طرفاء الغابة) في رواية سفيان عن أبى حازم «من أثلة
الغابة» كما تقدم في أوائل الصلاة، ولا مغايرة بينهما فإن الأثل هو الطرفاء
وقيل يشبه الطرفاء وهو أعظم منه، والغابة بالمعجمة وتخفيف الموحدة موضع من
عوالي المدينة جهة الشام، وهي اسم قرية بالبحرين أيضا، وأصلها كل شجرة
ملتف.
قوله: (فأرسلت) أي المرأة تعلم بأنه فرغ.
قوله: (فأمر بها فوضعت) أنث لإرادة الأعواد والدرجات، ففي رواية مسلم من
طريق عبد العزيز بن أبى حازم «فعمل له هذه الدرجات الثلاث» .
قوله: (ثم رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلى عليها) أي على
الأعواد، وكانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر.
قوله: (وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى) لم يذكر القيام
بعد الركوع في هذه الرواية وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبيرة، وقد تبين
ذلك في رواية سفيان عن أبى حازم ولفظه «كبر فقرأ» وركع ثم رفع رأسه ثم رجع
القهقرى» والقهقرى بالقصر المشي إلى خلف.
والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة، وفي رواية هشام بن سعد عن أبى
حازم عند الطبراني «فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر
«فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة.
(10/102)
__________
[ () ] قوله: (في أصل المنبر) أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه.
قوله: (ثم عاد) زاد مسلم من رواية عبد العزيز حتى فرغ من صلاته.
قوله: (ولتعلموا) بكسر اللام وفتح المثناة وتشديد اللام أي لتتعلموا، وعرف
منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا
صلى على الأرض ويستفاد منه أن من فعل شيئا يخالف العادة أن يبين حكمته
لأصحابه.
وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره. وفيه جواز قصد
تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا
الكثير إن تفرق، وقد تقدم البحث فيه وكذا في جواز ارتفاع الإمام في «باب
الصلاة في السطوح» وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب
والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد إما شكرا وإما
تبركا.
وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر، وإن
كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض.
وتعقبه الزين بن المنير بأن هذا خارج عن مقصود الترجمة ولأنه إخبار عن شيء
أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الراشدين فهو سنة متبعة، وإن كان من
غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة.
قلت: ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة، أشار بها إلى أن هذا التفصيل غير
مستحب، ولعل مراد من استحبه أن الأصل أن لا يرتفع الإمام عن المأمومين.
ولا يلزم من مشروعية ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم ثم لمن ولى الخلافة
أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين
وتعليمهم بعض أمور الدين. واللَّه الموفق.
(فتح الباري) : 2/ 504- 508، باب (26) الخطبة على المنبر، حديث رقم (917) ،
باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 1/ 651- 652، كتاب الصلاة، باب (221) في اتخاذ
المنبر، حديث رقم (1080) .
قال الخطابي في (معالم السنن) : الغابة: موضع قريب من المدينة من عواليها
من ناحية الشام. والطرفاء: شجر من شجر البادية واحدها طرفة بفتح الطاء مثل
قصبة وقصباء.
قلت: الغابة الفيضة وجمعها غابات وغاب. ومنه قولهم ليث غاب قال الشاعر:
(10/103)
وألفاظهم في هذا الحديث قريبة جدا، ولم
يذكر مسلم له لفظا، بل أحاله على حديث عبد العزيز بن أبى حازم، عن ابنه،
قال: إن نفرا جاءوا إلى سهل ابن سعد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قد
تماروا في المنبر، من أي عود هو؟ فقال: أما واللَّه إني لأعرف ما عوده، ومن
عمله. ورأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أول يوم جلس عليه.
قال: فقيل له: يا أبا عباس! فحدثنا. قال: أرسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم إلى امرأة- قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ- انظري غلامك النجار
يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها، فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فوضعت بهذا الموضع، فهي من طرفاء الغابة، وقد
رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قام فكبر، وكبر الناس، ورآه وهو
على المنبر، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من
آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال:
يا أيها الناس، إنما صنعت هذا المنبر لتأتموا بى، ولتصلوا بصلاتي.
وذكره البخاري في كتاب البيوع [ (1) ] ، من حديث قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد
العزيز بن أبى حازم، عن أبى حازم بنحو أو قريب مما تقدم.
__________
[ () ]
وكنا كالحريق أصاب غابا ... فتخبو ساعة وتهب ساعا.
وفيه من الفقه: جواز أن يكون مقام الإمام أرفع من مقام المأموم إذا كان ذلك
لأمر يعلمه الناس ليقتدوا به، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة وإنما
نزل القهقرى لئلا يولى الكعبة قفاه.
فإما إذا قرأ الإمام السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فإنه إذا أراد النزول لم
يقهقر ونزل مقبلا على الناس بوجهه حتى يسجد وقد فعله عمر بن الخطاب.
وعند الشافعيّ أنه إن أحب أن يفعله فعل. فإن لم يفعله أجزأه، وقال أصحاب
الرأى:
ينزل ويسجد، وقال مالك: لا ينزل ولا يسجد ويمضى في خطبته.
[ (3) ] (النسائي) : 2/ 390- 391، كتاب المساجد، باب (45) الصلاة على
المنبر، حديث رقم (738) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 400، كتاب البيوع، باب (32) النجار حديث رقم
(2094) .
(10/104)
وذكره بهذا الإسناد في كتاب الصلاة [ (1) ]
مختصرا، في باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد.
وذكره في كتاب الهبة [ (2) ] من حديث أبى غسان قال: حدثني أبو حازم، عن سهل
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أرسل
إلى امرأة من المهاجرين- وكان لها غلام نجار- قال: مري عبدك فليعمل لنا
أعواد المنبر، فأمرت عبدها، فذهب، فقطع من الطرفاء [ (3) ] ، فصنع له
منبرا، فلما قضاه، أرسلت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قد قضاه، قال
صلى اللَّه عليه وسلّم: أرسلوا به إليّ فجاءوا به،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) 1/ 715، كتاب الصلاة، باب (64) الاستعانة بالنجار
والصناع في أعواد المنبر والمسجد، حديث رقم (448) .
[ (2) ]
(فتح الباري) : 5/ 250، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (3) من
استوهب من أصحابه شيئا، وقال أبو سعيد، وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم:
«اضربوا لي معكم سهما» حديث رقم (2596) .
قوله: «باب من استوهب من أصحابه شيئا» أي سواء كان عينا أو منفعة جاز، أي
بغير كراهية في ذلك إذا كان يعلم طيب أنفسهم.
قوله: «وقال أبو سعيد» هو الخدريّ.
قوله: «اضربوا لي معكم سهما» هو طرف من حديث الرقية وقد تقدم بتمامه مشروحا
في كتاب الإجارة.
قوله: «حدثنا أبو غسان» هو محمد بن مطرف، وسهل هو ابن سعد، وتقدم الحديث
مشروحا في كتاب الجمعة، وفيه استيهابه من المرأة منفعة غلامها، وقد سبق ما
نقل في تسمية كل منهما. وأغرب الكرماني هنا فزعم أن اسم المرأة مينا وهو
وهم، وإنما قيل ذلك في اسم النجار كما تقدم وأن قول أبى غسان في هذه
الرواية إن المرأة من المهاجرين وهم، ويحتمل أن تكون أنصارية حالفت مهاجريا
وتزوجت به أو العكس، وقد ساقه ابن بطال في هذا الموضع بلفظ «امرأة من
الأنصار» والّذي في النسخ التي وقفت عليها من البخاري ما وصفته.
[ (3) ] الطرفاء: نخل لبني عامر بن حنيفة باليمامة، وإياها عنت بقولها:
هل زاد طرفاء القصب ... بالقرب مما احتسب؟
(معجم البلدان) : 4/ 35 موضع رقم (7906) .
(10/105)
فاحتمله النبي صلى اللَّه عليه وسلّم،
فوضعه حيث ترون. ترجم عليه باب من استوهب من أصحابه شيئا.
وخرج أبو داود [ (1) ] من حديث أبى عاصم، عن أبى روّاد عن نافع، عن ابن عمر
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لما بدّن
قال: له تميم الداريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ألا أتخذ لك منبرا يا
رسول اللَّه يجمع أو يحمل عظامك؟ قال صلى اللَّه عليه وسلّم: بلى، فاتخذ له
صلى اللَّه عليه وسلّم منبرا مرقاتين.
خرج البخاري [ (2) ] في كتاب البيوع، في باب النجار، من حديث خلاد قال:
حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: «إن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول
اللَّه! ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال صلى اللَّه
عليه وسلّم: إن شئت.
فعملت له المنبر. فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على
المنبر الّذي صنع فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها، حتى كادت أن تنشق،
فنزل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين
الصبى الّذي يسكت حتى استقرت.
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: بكت على ما كانت تسمع من الذكر» .
وذكره في كتاب علامات النبوة في الإسلام [ (3) ] وفي كتاب الجمعة [ (4) ]
كما ستأتي طرقه إن شاء اللَّه تعالى في ذكر المعجزات.
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 1/ 653، كتاب الصلاة، باب (221) في اتخاذ المنبر،
حديث رقم (1081) ، قوله «بدّن» قال: أبو عبيد روى للتخفيف، إنما هو
بالتشديد، أي كبر وأسنّ، وهو بالتخفيف: البدانة وكثرة اللحم، ولم يكن النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم سمينا.
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 400، كتاب البيوع، باب (32) النجار حديث رقم
(2095) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 746- 747، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة
في الإسلام، حديث رقم (2583- 2584) .
قوله: «كصوت العشار» بكسر المهملة بعدها معجمه خفيفة جمع عشراء، تقدم شرحه
في الجمعة، والعشراء الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر، ووقع في
رواية عبد الواحد بن أيمن «فصاحت النخلة صياح الصبى» وفي حديث أبى الزبير
عن جابر عن النسائي في (الكبير) «اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج»
انتهى. والخلوج بفتح الخاء
(10/106)
وقد اختلف في اسم هذا النجار، فقيل: مينا،
وقيل: ناقول مولى العاص بن أمية، وقيل: ميمون، وقيل: صباح غلام العباس بن
عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقيل: بل عمله غلام قبيصة
المخزومي، وقيل: عمله غلام سعد بن عبادة، وقيل: غلام امرأة من الأنصار.
وكان عمله في سنة سبع بعد عوده من خيبر، وقيل: عمله سنة ثمان، وقال ابن
زبالة: وكان المنبر من أثلة كانت قريبا من المسجد، والّذي زاد في درجة
معاوية بن أبى سفيان.
قال سفيان بن حمزة: قال كثير: فأخبرني الوليد بن رباح، قال:
كسفت الشمس يوم زاد معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في المنبر، حتى
رئيت النجوم.
__________
[ () ] المعجمة وضم اللام الخفيفة وآخره جيم الناقة التي انتزع منها ولدها،
وفي حديث أنس عن ابن خزيمة «فحنت الخشبة حنين الوالد» وفي روايته الأخرى عن
الدارميّ وابن ماجة «فلما خار الجذع حتى تصدع وانشق» وفي حديثه «فأخذ أبى
بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد فلم يزل عنده حتى بلى وعاد رفاتا» . وهذا
لا يتنافى ما تقدم من أنه دفن، لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف
فأخذه أبى بن كعب،
وفي حديث بريدة عن الدارميّ أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال له: «اختر
أن أغرسك في المكان الّذي كنت فيه فتكون كما كنت- يعنى قبل أن تصير جذعا-
وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك
أولياء اللَّه، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: اختار أن أغرسه في الجنة»
.
قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف،
ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف. وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد
يخلق اللَّه لها إدراكا كالحيوان بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لقول من
يحمل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ على ظاهره.
وقد نقل ابن أبى حاتم في (مناقب الشافعيّ) عن أبيه عن عمرو بن سواد عن
الشافعيّ قال: ما أعطى اللَّه نبيا ما أعطى محمدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء
الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك. (فتح
الباري) .
[ (4) ] سبق تخريجه.
(10/107)
وذكر الواقدي وغيره: أنه لما كانت سنة
خمسين، أمر معاوية بن أبى سفيان بحمل المنبر إلى الشام، وقال: لا يترك هو
وعصا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة [ (1) ] .
وهم قبله [ (2) ] عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فطلب العصا- يعنى
العنزة وهي عند سعد القرظ، فلما حرك المنبر ليخرج من موضعه كسفت الشمس حتى
رئيت النجوم بادية، فأعظم الناس ذلك، فترك المنبر على حاله.
وقيل: بل أتاه جابر بن عبد اللَّه، وأبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنهما، فقالا له: يا أمير المؤمنين! لا يصلح أن تخرج منبر رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم من موضع وضعه فيه، ولا تنقل عصاه إلى الشام. فترك
المنبر، وزاد فيه ست درجات، واعتذر مما صنع [ (3) ] .
وذكر ابن زبالة، من حديث عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه
قال: بعث معاوية بن [أبى] سفيان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، إلى مروان بن
الحكم، عامله على المدينة، يأمره أن يحمل إليه منبر النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم عن ما وضعه، فأمر به أن يقلع، فأظلمت المدينة، وأصابتهم ريح شديدة،
فخرج مروان، فخطب فقال: يا أهل المدينة! إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث
إلى منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليزيله! وأمير المؤمنين أعلم
باللَّه من أن يغير منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن ما وضعه
عليه، إنما أمرنى أن أكرمه وأرفعه، ودعا نجارا- وكان ثلاث درجات- فزاد فيه
الزيادة التي هو عليها اليوم، ووضعه موضعه، وكان من طرفاء الغابة [ (4) ] .
وعن عبد اللَّه بن زياد، عن ابن فطن، قال: قلع مروان بن الحكم منبر النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم، وكان درجتين والمجلس، وأراد أن يبعث به إلى معاوية،
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ) : 3/ 463- 464، ذكر إرادة معاوية نقل المنبر
إلى المدينة [في أحداث سنة خمسين] .
[ (2) ] كذا في (الأصل) وفي (المرجع السابق) : «قتله» .
[ (3) ] (الكامل في التاريخ) : 3/ 463- 464، ذكر إرادة معاوية نقل المنبر
إلى المدينة [في أحداث سنة خمسين] .
[ (4) ] المرجع السابق.
(10/108)
فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم! فزاد فيه ست
درجات، وخطب الناس فقال:
إني إنما رفعته حين كثر الناس، ولما ولى عبد الملك بن مروان الخلافة، همّ
بنقل المنبر، فقال له قبيصة بن ذؤيب: أذكرك اللَّه أن تفعل، إن معاوية حركه
فكسفت الشمس!
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من حلف على منبري كاذبا فليتبوَّأ
مقعده من النار [ (1) ] ،
وهو مقطع الحقوق بينهم بالمدينة، فتركه عبد الملك.
فلما ولى الخلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وحجّ، همّ بذلك، فأرسل
سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال:
كلم صاحبك لا يتعرض لذلك، فكلمه، فتركه.
ثم لما كانت خلافة سليمان بن عبد الملك، وحجّ، أخبره عمر بن عبد العزيز رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه بما كان من عبد الملك، ومن الوليد، فقال: ما كنت
أحب أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا، ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا؟
أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد
إليه فنحمله، هذا ما لا يصلح [ (2) ] .
فلما حج أمير المؤمنين محمد المهدي في سنة ستين ومائة، قال لمالك ابن أنس:
إني أريد أن أعيد منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى حاله التي
كان عليها، فقال له مالك: إنه من طرفاء، وقد سمّر إلى هذه العيدان [وثبت] ،
فمتى نزعته خفت أن يتهافت وتهلك، ولا أرى أن تعيده، فانصرف رأى المهدي عن
تغييره [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (موطأ مالك) : 515، ما جاء في الحنث على منبر النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم، حديث رقم (1406) من حديث جابر بن عبد اللَّه الأنصاري.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] قال ابن جرير الطبري: وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها-
فيما ذكر- مالا عظيما، وفي أهل المدينة كذلك، فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك
السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلاثمائة
ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله وفرق من الثياب مائة
ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم،
وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم فنزعت،
وأراد أن ينقص منبر رسول اللَّه
(10/109)
فصل في ذكر من كان يؤذن لرسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن الأذان والتأذين: النداء إلى الصلاة والمئذنة موضع الأذان، وهي
المنارة، والصومعة.
وقد كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أربعة من أصحابه يؤذنون: اثنان
منهم بمسجده، وواحد بمسجد قباء، وواحد بمكة.
فالمؤذنان بمسجده صلى اللَّه عليه وسلّم: بلال بن رباح [ (1) ] وابن أم
مكتوم [ (2) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما. والّذي يؤذن بقباء سعد القرظ
[ (3) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ومؤذن مكة أبو محذورة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنهم.
__________
[ () ] صلى اللَّه عليه وسلّم فيعيده إلى ما كان عليه، ويلغى منه ما كان
معاوية زاد فيه، فذكر عن مالك عن أنس أنه شاور في ذلك، فقيل له: إن
المسامير قد سلكت في الخشب الّذي أحدثه معاوية، وفي الخشب الأول وهو عتيق،
فلا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن يتكسّر، فتركه المهدي.
(تاريخ الطبري) : 8/ 133.
[ (1) ] هو بلال بن رباح الحبشي المؤذن، وهو بلال بن حمامة، وهي أمه اشتراه
أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأذن له، وشهد معه جميع المشاهد، وآخى النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين أبى عبيده بن الجراح، ثم خرج بلال بعد
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مجاهدا إلى أن مات بالشام.
قال أبو نعيم: كان ترب أبى بكر، وكان خازن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم وروى أبو إسحاق الجوزجاني في تاريخه، من طريق منصور، عن مجاهد، قال:
قال عمار: كل قد قال: ما أرادوا- يعنى المشركين- غير بلال.
ومناقبه كثيرة مشهورة، قال ابن إسحاق: كان لبعض بنى جمح مولد من مولد بهم،
واسم أمه حمامة. وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره
في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: لا يزال على ذلك
حتى يموت أو يكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك: أحد أحد. فمر به أبو بكر
فاشتراه منه يعبد له أسود جلد.
(10/110)
__________
[ () ] قال البخاري: مات بالشام زمن عمر. وقال ابن بكير: مات في طاعون
عمواس. وقال عمرو بن على: مات سنة عشرين. وقال بن زبر: مات بداريا، وفي
المعرفة لابن مندة أنسه دين يحلب. (الاصابة) : 1/ 326- 327 ترجمة رقم (736)
.
[ (2) ] هو عمرو بن أم مكتوم القرشي. ويقال اسمه عبد اللَّه. وعمرو أكثر
وهو ابن قيس بن زائدة ابن الأصم.
ومنهم من قال عمرو بن زائدة، لم يذكر قيسا، ومنهم من قال قيس: بدل زائدة.
وقال ابن حبان: من قال ابن زائدة نسبة لجده، ويقال: كان اسمه الحصين فسماه
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد: أهل المدينة يقولون اسمه عبد اللَّه، وأهل العراق يقولون
اسمه عمرو، قال: واتفقوا على نسبه، وأنه ابن قيس بن زائدة بن الأصم. وفي
هذا الاتفاق نظر فقد تقدم ما يخالفه كما ترى، وتقدم ما يخالفه أيضا.
قلت: نسبه كذلك ابن مندة، وتبعه أبو نعيم، وحكى في اسمه أيضا عبد اللَّه بن
عمرو.
قال: وقيل عمرو بن قيس بن شريح بن مالك. وقال الثعلبي في تفسيره: اسمه عبد
اللَّه ابن شريح بن مالك بن ربيعة بن قيس بن زائدة، واسم الأصم جندب بن هدم
بن رواحة بن حمير بن معيص بن عامر بن لؤيّ القرشيّ العامرىّ.
واسم أمه أم مكتوم عاتكة بنت عبد اللَّه بن عنكثة، بمهملة ونون ساكنة وبعد
الكاف مثلثة، ابن عائذ بن مخزوم، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، فإن أم
خديجة أخت قيس بن زائدة، واسمها فاطمة. أسلم قديما بمكة، وكان من المهاجرين
الأولين، قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. وقيل: بل
بعده، بعد وقعة بدر بيسير، قاله الواقدي.
والأول أصح، فقد روى من طريق أبى إسحاق عن البراء، قال: أول من أتانا
مهاجرا مصعب بن عمير، ثم قدم ابن أم مكتوم، وكان النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم يستخلفه على المدينة في عامة غزواته يصلى بالناس.
وقال الزبير بن بكار: خرج إلى القادسية، فشهد القتال، واستشهد هناك، وكان
معه اللواء حينئذ، وقيل: بل رجع إلى المدينة بعد القادسية فمات بها، ذكره
البغوي.
وقال الواقدي: بل شهدها، ورجع إلى المدينة فمات بها، ولم يسمع له بذكر بعد
عمر ابن الخطاب.
(10/111)
وقد روى أن حبان بن بحّ الصدائى [ (1) ] ،
وزياد بن الحارث الصدائى [ (2) ] ، أذن كل منهما في السفر.
__________
[ () ] روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وحديثه في كتب السنن.
روى عنه عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وأبو رزين
الأسدي وآخرون.
وقال ابن عبد البر: روى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم استحلف ابن أم مكتوم ثلاث عشرة مرة: في الأبواء، وبواط،
وذي العشيرة، وغزوته في طلب كرز بن جابر، وغزوة السويق، وغطفان. وفي غزوة
أحد، وحمراء الأسد، ونجران. وذات الرقاع، وفي خروجه في حجة الوداع، وفي
خروجه إلى بدر، ثم استخلف أبا لبابة لما رده من الطريق، قال: وأما رواية
قتادة عن أنس: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم استخلف ابن أم مكتوم فلم
[448] يبلغه ما بلغ غيره. (الإصابة) : 4/ 600- 603 ترجمة رقم (5768) .
[ (3) ] هو سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤذن مولى «عمار» أنزله المدينة،
فكان يؤذن في مسجد رسول اللَّه فولده إلى اليوم يؤذنون في مسجد رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم.
روى عن أبيه عن جده نسخة وعن أم عمار حاضنة عمار بن ياسر، وعنه ابنه عبد
الرحمن وعبد الكريم ابن أبى المخارق. قلت: قال ابن القطان لا يعرف حاله ولا
حال أبيه.
(المعارف) : 258 (تهذيب التهذيب) : 3/ 415، ترجمة رقم (891) .
[ (1) ] هو حبان، بكسر أوله على المشهور، وقيل بفتحها وهو بالموحدة، وقيل
بالتحتانية- ابن بحّ- بضم الموحدة بعدها مهملة ثقيلة.
روى حديثه البغوي، وابن أبى شيبة، والطبراني، من طريق ابن لهيعة، عن بكر بن
سوادة، عن زياد بن نعيم، عن حبان بن بحّ صاحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم. قال: أسلم قومي، فأخبرت أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جهز
إليهم جيشا فأتيته، فقلت له: إن قومي على الإسلام ... فذكر الحديث في أنه
أذن، وفي نبع الماء من بين أصابع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وفيه: لا خير
في الإمارة لرجل مسلم.
وفيه: إن الصدقة صداع في الرأس وحريق في البطن.
(10/112)
فأما بدؤ الأذان
فخرج البخاري [ (1) ] ، ومسلم [ (2) ] ، والنسائي [ (3) ] ، والترمذي [ (4)
] ، وقاسم بن أصبغ من حديث ابن جريج، قال: أخبرنى نافع مولى ابن عمر عن عبد
اللَّه
__________
[ () ] وأخرج له الطبراني من هذا الوجه حديثا آخر. وذكر ابن الأثير أنه شهد
فتح مصر، ولم أر ذلك في أصوله، وإنما قال ابن عبد البر: يعدّ فيمن نزل مصر.
(الإصابة) : 2/ 12- 13 ترجمة رقم (1557) .
[ (2) ] هو زياد بن الحارث الصدائى: بضم المهملة، وقيل زياد بن حارثة. قال
البخاري: أصح.
له حديث طويل في قصة إسلامه، وفيه من أذن فهو يقيم.
أخرجه أحمد بطولة. وأخرجه أصحاب السنن، وفي إسناده الإفريقي.
قال ابن السكن: في إسناده نظر.
قلت: وله طريق أخرى، من طريق المبارك بن فضالة، عن عبد الغفار بن ميسرة، عن
الصدائى، ولم يسمه.
وروى البارودي، من طريق عبد اللَّه بن سليمان، عن عمرو بن الحارث، عن بكر
بن سوادة، عن زياد بن نعيم، عن زياد الصدائى، فذكر طرفا من الحديث الطويل.
وقال ابن يونس: هو رجل معروف نزل مصر. (الإصابة) : 2/ 582 ترجمة رقم (2852)
.
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 99 (كتاب الأذان) باب (1) حديث رقم (604) .
(فائدتان) : (الأولى) وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة،
منها للطبراني من طريق سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه قال: لما أسرى
بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم أوحى اللَّه إليه الأذان فنزل به فعلمه به
فعلمه بلالا وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وقطنى في (الأطراق) من حديث
أنس أن جبريل أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالأذان حين فرضت الصلاة،
وإسناده ضعيف أيضا.
ولابن مردويه من حديث عائشة مرفوعا: لما أسرى بى أذن جبريل فظنت الملائكة
أنه يصلى بهم فقد منى فصليت،
وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره من حديث على قال: لما أراد اللَّه أن يعلم رسوله الأذان أتاه
جبريل بدابة يقال لها البراق فركبها فذكر الحديث وفيه: إذ خرج ملك من وراء
الحجاب فقال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، وفي آخره: ثم أخذ الملك بيده فأم
بأهل السماء
وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضا ويمكن على
(10/113)
__________
[ () ] تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون ذلك وقع بالمدينة. وأما
قول القرطبي: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه،
ففيه نظر لقوله في أوله: لما أراد اللَّه أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول
المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على معنى اللغوي وهو الإعلام ففيه
نظر أيضا. والحق أنه لا يصلح شيء من هذه الأحاديث.
وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يصلى بغير أذان منذ
فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك على
ما في حديث عبد اللَّه بن عمر ثم حديث عبد اللَّه ابن زيد انتهى. وقد حاول
السهيليّ الجمع بينهما فتكلف وتعسف، والأخذ بما صح أولى، فقال بانيا على
صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم سمعه فوق سبع سماوات وهو أقوى من الوحي، فلما تأخر الأمر بالأذان عن
فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت
فرأى الصحابي المنام فقصها فوافقت ما كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم سمعه
فقال: «إنها لرؤيا حق»
وعلم حينئذ أن مراد اللَّه بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض، وتقوى
ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطلق على لسانه، والحكمة أيضا في إعلام الناس
به على غير لسانه صلى اللَّه عليه وسلّم التنوية بقدره والرفع لذكره بلسان
غيره ليكون أقوى لأمره وأفخم لشأنه. انتهى ملخصا.
والثاني حسن بديع، يؤخذ منه عدم الاكتفاء برؤيا عبد اللَّه بن زيد حتى أضيف
عمر للتقوية التي ذكرها، لكن قد يقال: فلم لا اقتصر على عمر؟ فيمكن أن يجاب
ليصير في معنى الشهادة، وقد جاءني رواية ضعيفة سبقت ما ظاهره أن بلالا أيضا
رأى لكنها مؤولة فإن لفظة «سبقك بها بلال» فيحمل المراد بالسبق على مباشرة
التأذين برؤيا عبد اللَّه زيد.
ومما كثر السؤال عنه باشر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الأذان بنفسه، وقد
وقع عند الهيلى أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أذن في سفر وصلى بأصحابه
وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم أخرجه الترمذي من طريق
تدور على عمر بن الرماح برفعه إلى أبى هريرة وليس هو من حديث أبى هريرة
وإنما هو من حديث يعلى بن مرة، وكذا جزم النووي بأن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم أذن مرة في السفر وعزاه للترمذي وقواه، ولكن وجدناه في مسند أحمد من
الوجه الّذي أخرجه الترمذي ولفظه «فأمر بلالا فأذن» فعرف أن في رواية
الترمذي اختصارا وأن معنى قوله: «أذن» أمر بلالا به كما يقال أعطى الخليفة
العالم الفلاني ألفا، وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه آمرا به.
ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ بسند فيه مجهول عن عبد
اللَّه بن الزبير قال: أخذ الأذان من أذان إبراهيم وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ الآية قال: فأذن رسول
(10/114)
__________
[ () ] اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه
مجاهيل أن جبريل [أمر] بالأذان لآدم: أهبط من الجنة.
(الفائدة الثانية) قال الزبير بن المنبر: أعرض البخاري عن التصريح يحكم
الأذان لعدم إفصاح الآثار الواردة فيه عن حكم معين، فأثبت مشروعيته، وسلم
من الاعتراض. وقد اختلف في ذلك ومنشأ الخلاف أن مبدأ الأذان لما كان عن
مشورة أوقعها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بين أصحابه حتى استقر برؤيا كان
ذلك بالمندوبات أشبه، ثم لما واظب على تقريره ولم ينقل أنه تركه ولا أمر
بتركه ولا رخص في تركه كان ذلك بالواجبات أشبه انتهى. وسيأتي بقية الكلام
على ذلك قريبا إن شاء اللَّه تعالى.
قوله: (حدثنا عبد الوارث) هو ابن سعيد، وخالد هو الحذاء كما ثبت في رواية
كريمة، والإسناد كله يصربون.
قوله: (ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى) كذا ساقه عبد الوارث
مختصرا، ورواية عبد الوهاب الآتية في الباب الّذي بعده أوضح قليلا حيث قال:
«لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا
نارا أو يضربوا ناقوسا» وأوضح من ذلك رواية روح بن عطاء عن خالد عند أبى
الشيخ ولفظه «فقالوا لو أتتخذنا ناقوسا. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم ذلك للنصارى. فقالوا: لو اتخذنا بوقا، فقال: ذلك لليهود.
فقال: لو رفعنا نارا، فقال: ذاك للمجوس «فعلى هذا ففي رواية عبد الوارث
اختصار كأنه كان فيه: ذكروا النار والناقوس والبوق فذكروا اليهود والنصارى
والمجوس، واللف والنشر فيه معكوس، فالنار للمجوس والناقوس للنصارى والبوق
لليهود. وسيأتي في حديث ابن عمر التنصيصى على أن البوق لليهود. وقال
الكرماني: يحتمل أن تكون النار والبوق جميعا لليهود جمعا بين حديثي أنس
وابن عمر انتهى، ورواية روح تغني عن هذا الاحتمال.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 317- 319، كتاب الصلاة، باب (1) بدء
الأذان، حديث رقم (377) قال الإمام النووي: قال أهل اللغة: الأذان الإعلام
قال اللَّه تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقال تعالى:
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ويقال الأذان والتأذين والأذان. وقوله (كان المسلمون
يجتمعون فيتحينون الصلاة) قال القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى: معنى يتحينون
يقدرون حينها ليأتوا إليها فيه والحين الوقت من الزمان. قوله (فقال بعضهم
اتخذوا ناقوسا)
(10/115)
ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما،
أنه قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحينون الصلوات، وليس
ينادى بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس
النصارى، وقال بعضهم: قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه أولا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم: يا بلال، قم فناد بالصلاة.
وقال البخاري: ليس ينادى لها. وقال: بل بوقا مثل قرن اليهود ترجم عليه باب
بدء الأذان.
وخرج في باب الأذان مثنى مثنى [ (1) ] ، من حديث خالد الحذاء، عن أبى
قلابة، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما كثر الناس
قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو
__________
[ () ] قال أهل اللغة هو الّذي يضرب به النصارى لأوقات صلواتهم وجمعه
نواقيس والنقس ضرب الناقوس.
قوله (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادى
بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا وقال بعضهم قرنا
فقال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أولا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قم يا بلال فناد بالصلاة،
في هذا الحديث فوائد منها منقبة عظيمة لعمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه.
وذكر ابن جريح أخبرنى نافع مولى ابن عمر عن عبد اللَّه بن عمر أنه قال كان
المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات وليس ينادى أحد
فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل النصارى وقال بعضهم قرنا
مثل قرن اليهود فقال عمر أولا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة قال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم يا بلال قم فناد بالصلاة.
(شرح النووي) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 2/ 329، كتاب الأذان، باب (1) بدء الأذان، حديث
رقم (625) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 1/ 362- 363، أبواب الصلاة، باب (25) ما جاء في
بدء الأذان، حديث رقم (190) ، وقال هذا حديث حسن صحيح، غريب من حديث ابن
عمر.
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 105، كتاب الأذان، باب (2) - الأذان مثنى مثنى،
حديث رقم (606) .
(10/116)
يضربوا ناقوسا، فأمر بلال رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة.
وخرجه مسلم من حديث خالد أيضا بمثله، غير أنه قال: فذكروا أن يوروا نارا [
(1) ] .
وفي لفظ: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا بمثل ما تقدم، غير أنه قال:
أن يوروا نارا [ (2) ] .
وفي لفظ البخاري: عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال ذكروا النار
والناقوس فذكروا اليهود والناقوس والنصارى فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر
الإقامة ذكره في باب بدء الأذان [ (3) ] وفي باب ما ذكر عن بنى إسرائيل [
(4) ] والإسناد واحد.
وقال ابن إسحاق: فلما اطمأن [ (5) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمراء الأنصار، استحكم
أمر الإسلام، فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة، والصيام، وقامت الحدود، وفرض
الحلال والحرام وبنو الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحي من الأنصار هم
الذين تبوءوا الدار والإيمان، وقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
حين قدمها، إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها لغير دعوة، فهم
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يجعل بوقا كبوق اليهود الذين يدعون
به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب للمسلمين الصلاة.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 320، كتاب الصلاة، باب (2) الأمر بشفع
الأذان وإيتار الإقامة، حديث رقم (3) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 2/ 98، كتاب الأذان، باب (1) بدء الأذان، قوله عز
وجل: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً،
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة 58] .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 613، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (50) ما ذكر عن
بنى إسرائيل، حديث رقم (3450) .
[ (5) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 40، خير الأذان، التفكير في اتخاذ علامة
لحلول وقت الصلاة.
(10/117)
فبينا هم على ذلك رأى عبد اللَّه بن زيد بن
ثعلبة بن عبد ربه أخو بلحارث بن الخزرج النداء، فأتى رسول اللَّه فقال: يا
رسول اللَّه، إنه طاف هذه الليلة طائف، مرّ بى رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل
ناقوسا في يده، فقلت يا عبد اللَّه أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟
قال: قلت: [ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟] [ (1) ]
قال: قلت: وما هو؟ قال: تقول: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر أشهد أن لا إله إلا
اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن
محمدا رسول اللَّه، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح.
حي على الفلاح اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلا اللَّه [ (2) ] .
فلما أخبر بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: إنها لرؤيا حق، إن
شاء اللَّه تعالى فقم مع بلال فألقها عليه «فليؤذن بها» فإنه أندى [ (3) ]
صوتا منك، فلما أذن بها بلال، سمعها عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه وهو في بيته، فخرج إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يجر
رداءه، وهو يقول: يا بنى اللَّه! والّذي بعث بالحق، لقد رأيت مثل الّذي
رأى، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فلله الحمد [ (4) ] [على ذلك
[ (5) ]] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] أندى: أحسن وأبدع (المرجع السابق) [هامش] ، وقال في هامشه: فبينما
هم في ذلك- أرى عبد اللَّه بن زيد الرؤيا التي ذكر ابن إسحاق، فلما أخبر
بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- وأمره أن يلقيها على بلال، قال: يا
رسول اللَّه أنا رأيتها، وأنا كنت أحبها لنفسي، فقال: ليؤذن بلال، ولتقم
أنت الصلاة، ففي هذا من الفقه جواز أن يؤذن الرجل يقيم غيره.
[ (4) ] (المرجع السابق) .
[ (5) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق في (المرجع السابق) .
(10/118)
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث محمد بن
إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه عن
أبيه [ (1) ] .
قال ابن هشام: وذكر ابن جريح، قال: لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير الليثي
يقول: ائتمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه بالناقوس للاجتماع
للصلاة، فبينما عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يريد أن يشترى
خشبتين للناقوس إذ رأى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في المنام لا
تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة، فذهب عمر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم ليخبره بالذي رأى، وقد جاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الوحي
بذلك، فما راع عمر إلا بلال يؤذن، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
حين أخبره بذلك: قد سبقك بذلك الوحي [ (2) ] .
وقد خرجه أبو داود [ (3) ] ، وابن الجارود، والترمذي [ (4) ] ، وقال: حديث
عبد اللَّه بن زيد حديث حسن صحيح [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، وبعد هذه الفقرة في (الأصل) سطران من النسب
بسياق مضطرب لا يخدمان المعنى ولا الموضوع فأثرنا حذفهما.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 42، ثم قال في هامشه فأما الحكمة في تخصيص
الآذان برؤيا رجل من المسلمين ولم يكن عن وحي فلأن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم قد أريه ليلة الإسراء، وأسمعه مشاهدة فوق سبع سماوات وهذا أقوى
من الوحي، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة، وأرادوا إعلام الناس بوقت
الصلاة تلبث الوحي حتى رأى عبد اللَّه الرؤيا، فوافقت ما رأى رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم، فلذلك قال: إنها لرؤيا حق إن شاء اللَّه، وعلم
حينئذ أن مراد الحق بما رآه في السماء، أن يكون سنة في الأرض وقوى ذلك عنده
موافقة رؤيا عمر للأنصاريّ، مع أن السكينة تنطق على لسان عمر واقتضت الحكمة
الإلهية أن يكون الأذان على لسان غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من
المؤمنين، لما فيه من التنويه من اللَّه لعبده، والرفع لذكره، فلأن يكون
ذلك على غير لسانه أنوه به وأفخم لشأنه، وهذا معنى بين فإن اللَّه سبحانه
يقول وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فمن رفع ذكره أن أشاد به على لسان غيره، عن
(الروض الأنف) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 1/ 337- 338، كتاب الصلاة، باب (28) كيف الأذان،
حديث رقم (499) ، قال أبو داود: هكذا رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن
عبد اللَّه بن زيد، وقال فيه ابن إسحاق عن الزهري: اللَّه أكبر، اللَّه
أكبر، لم يثنيا.
(10/119)
__________
[ () ] قال الإمام الخطابي في (معالم السنن) : قلت روى هذا الحديث والقصة
بأسانيد مختلفة وهذا الإسناد أصحها.
وفيه أنه ثنى الأذان وأفرد الإقامة، وهو مذهب أكثر علماء الأمصار، وجرى به
العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر ونواحي المغرب إلى
أقصى حجر من بلاد الإسلام.
وهو قول الحسن البصري ومكحول والزهري ومالك والأوزاعي والشافعيّ وأحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
وكذلك حكاه سعد القرظ وقد كان أذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في
حياته بقباء، ثم استخلفه بلال بن رباح زمان عمر رضى اللَّه عنه، فكان يفرد
الاقامة ولم يزل ولد أبى محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون الاقامة
ويحكون عن جدهم، إلا أنه قد روى في قصة أبى محذورة الّذي علمه رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم منصرفه من حنين أن الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة
سبع عشرة كلمة، وقد رواه أبو داود في هذا الباب، إلا أنه قد روى من غير هذا
الطريق أنه أفرد الإقامة، غير أن التثنية عنه أشهر، إلا أن فيه إثبات
الترجيع فيشبه أن يكون العمل من أبى محذورة ومن ولده بعده إنما استمر على
إفراد الإقامة إما لأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أمره بذلك بعد
الأمر الأول بالتثنية وإما لأنه استمر قد بلغه أنه أمر بلالا بافراد
الاقامة فاتبعه وكان أمر الأذان ينقل من حال إلى حال ويدخله الزيادة
والنقصان وليس كل أمور الشرع ينقلها رجل واحد ولا كان وقع بيانها كلها ضربة
واحدة.
وقيل لأحمد: وكان يأخذ في هذا بأذان بلال أليس أذان أبى محذورة بعد أذان
بلال؟ فإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم فقال: أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه.
وكان سفيان الثوري وأصحاب الرأى يرون الأذان والإقامة مثنى مثنى على حديث
عبد اللَّه بن زيد من الوجه الّذي روى فيه تثنية الإقامة.
وقوله: طاف بى رجل: يريد الطيف وهو الخيال الّذي يلم بالنائم. يقال منه طاف
يطيف، ومن الطواف يطوف، ومن الإحاطة بالشيء أطاف يطيف.
وفي قوله: «ألقها على بلال فأنه أندى صوتا منك» دليل على أن من كان ارفع
صوتا كان أولى بالأذان. لأن الأذان إعلام فكل من كان الإعلام بصوته أوقع
كان به أحق وأجدر.
(10/120)
وخرج أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق
البزار من حديث محمد ابن عثمان بن مجالد، حدثنا أبى عن زياد بن المنذر، عن
محمد بن على بن الحسين، عن أبيه عن جده، عن على بن أبى طالب رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه، قال: لما أراد اللَّه تعالى أن يعلّم رسول اللَّه
الأذان، أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام بداية يقال لها البراق، فذهب
يركبها، فاستعصت، فقال لها جبريل: اسكني، فو اللَّه ما ركبك عبد أكرم على
اللَّه من محمد قال: فركبها حتى انتهى إلى الحجاب الّذي يلي الرحمن تبارك
وتعالى، قال: فبينا هو كذلك،
__________
[ () ] وقوله: ثم استأخر غير بعيد يدل على أن المستحب أن تكون الإقامة في
غير موقف الأذان. (سنن أبى داود) : 1/ 338- 339.
وأخرجه أيضا ابن ماجة في (السنن) : 1/ 232- 233، كتاب الأذان والسنة فيه
باب (1) بدء الأذان، حديث رقم (706) وزاد في أخره، قال أبو عبيد: فأخبرني
أبو بكر الحكمىّ، أن عبد اللَّه بن زيد الأنصاري قال في ذلك:
أحمد اللَّه ذا الجلال وذا الإكرام ... حمد على الأذان كثيرا
إذا أتانى به البشير من الله ... فأكرم به لدى بشيرا
في ليال وإلى بهن ثلاث ... كلما جاء زادني توقيرا
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 1/ 358- 363، باب (25) ما جاء في بدء الأذان، حديث
رقم (189) ، وقال في آخره وفي الباب ابن عمر، قال أبو عيسى: حديث عبد
اللَّه بن زيد حديث صحيح، وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد بن محمد بن
إسحاق أتم من هذا الحديث وأطول، وذكر فيه قصة الأذان مثنى مثنى والإقامة
مرة [مرة] . وعبد اللَّه بن زيد هو ابن عبد ربه، [ويقال ابن عبد رب] . ولا
نعرف له عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في
الأذان.
وعبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازني له أحاديث عن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم وهو عم عباد بن تميم.
[ (5) ] قال في هامش (المرجع السابق) : والظاهر أن هذه الرواية رواية فيها
شيء من التصرف من ابن إسحاق، ليناسب سياق السيرة، وأن أول الحديث قوله «وقد
كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين قدمها» .
وقال ابن إسحاق بعد روايته: «حدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحرث
عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه عن أبيه.
(10/121)
إذ خرج ملك من الحجاب، فقال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم يا جبريل من هذا؟ قال: والّذي بعثك بالحق أنى لأقرب
الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه.
فقال الملك: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدي،
أنا أكبر، أنا أكبر.
ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقيل له من وراء الحجاب:
صدقت، أنا لا إله إلا أنا.
فقال الملك: أشهد أن محمد رسول اللَّه، فقيل له من وراء الحجاب:
صدق عبدي أنا أرسلت محمدا.
قال الملك: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم قال الملك: اللَّه أكبر،
اللَّه أكبر، فقيل من وراء الحجاب: أنا أكبر، أنا أكبر، ثم قال: لا إله إلا
اللَّه، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا لا إله إلا أنا ثم أخذ الملك
بيد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقدمه، فأم أهل السماء، فيهم آدم
ونوح.
قال أبو جعفر، محمد بن على، عليهما السلام، يومئذ أكمل اللَّه عز وجل لمحمد
صلى اللَّه عليه وسلّم الشرف على أهل السموات والأرض.
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث نوح بن دراج، عن الأجلح، عن البهي عن سفيان بن
الليل، قال: لما كان من أمر الحسن بن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما
ومعاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ما كان، قدمت عليه المدينة، فذكر
الحديث، قال: فتذاكرنا عنده الآذان فقال [بعضنا إنما] كان بدؤ [الأذان]
رؤيا عبد اللَّه بن زيد [بن عاصم] فقال [له] الحسن رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه إن شأن الأذان أعظم من ذاك أذن جبريل عليه السلام في السماء مثنى مثنى
وعلمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مرة مرة، فعلمه رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم، فأذن به الحسن رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه حين ولى.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 187، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4798) ، وقال
الحافظ الذهبي في (التلخيص) : قال أبو داود: نوح بن دراج كذاب، وما بين
الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
(10/122)
وأما أنه كان له مؤذنان بمسجده صلى اللَّه
عليه وسلّم
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث عبيد اللَّه عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنهما قال: كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مؤذنان:
بلال، وابن أم مكتوم الأعمى.
وخرجه من طريق عبيد اللَّه [ (2) ] ، حدثنا القاسم، عن عائشة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنها مثله.
وأخرجه أيضا بأتم من هذا، ولم يذكر البخاري أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
كان له مؤذنان.
ولمسلم [ (3) ] من حديث محمد بن جعفر، حدثنا هشام عن أبيه، عن عائشة رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كان ابن أم مكتوم رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه يؤذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو أعمى.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 324، كتاب الصلاة، باب (4) استحباب اتخاذ
مؤذنين للمسجد الواحد، حديث رقم (7) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي بين رقمي (7، 8) بدون رقم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : باب (5) جواز أذان الأعمى إذا كان معه بصير،
حديث رقم (8) .
قال الإمام النووي: وفي هذا الحديث استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد
يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر عند طلوعه كما كان بلال وابن مكتوم
يفعلان قال أصحابنا فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثة وأربعة فأكثر
بحسب الحاجة وقد اتخذ عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أربعة للحاجة عند
كثرة الناس قال أصحابنا ويستحب أن لا يزاد على أربعة الا لحاجة ظاهرة. قال
أصحابنا: وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا فالمستحب أن لا يؤذنوا دفعة واحدة
بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه فإن تنازعوا في الابتداء به أقرع بينهم وإن
ضاق الوقت فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره وإن كان ضيقا
وقفوا معا وو أذنوا وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تهويش فإن أدى إلى
ذلك لم يؤذن إلا واحد فإن تنازعوا أقرع بينهم وأما الإقامة فإن أذنوا على
الترتيب فالأول أحق بها إن كان هو المؤذن الراتب أو لم يكن هناك مؤذن راتب
فان كان الأول غير المؤذن الراتب فأيهما أولى بالإقامة فيه وجهان لأصحابنا
أصحهما
(10/123)
وأما أن أبا محذورة رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه كان يؤذن بمكة
فخرج الترمذي [ (1) ] من حديث بسر بن معاذ البصري، حدثنا إبراهيم بن عبد
العزيز بن عبد الملك بن أبى محذورة، قال: أخبرنى أبى، وجدي جميعا
__________
[ () ] أن الراتب أولى لأنه منصبه ولو أقام في هذه الصور غير له ولاية
الإقامة اعتد به على المذهب الصحيح المختار الّذي عليه جمهور أصحابنا وقال
بعض أصحابنا لا يعتد به كما لو خطب بهم واحد وأم بهم غيره فلا يجوز على قول
وأما إذا أذنوا معا فإن اتفقوا على إقامة واحد وإلا فيقرع قال أصحابنا
رحمهم اللَّه ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد إلا إذا لم تحصل الكفاية
بواحد وقال بعض أصحابنا لا بأس أن يقيموا معا إذا لم يؤد إلى التهويش.
وفي باب جواز أذان الأعمى إذا كان معه بصير فيه حديث عائشة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنها «كان ابن أم مكتوم يؤذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم وهو أعمى» وقد تقدم معظم فقه الحديث في الباب قبله ومقصود الباب أن
أذان الأعمى صحيح وهو جائز بلا كراهة إذا كان معه بصير كما كان بلال وابن
أم مكتوم قال أصحابنا ويكره أن يكون الأعمى مؤذنا وحده واللَّه أعلم.
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 1/ 191 باب (26) ما جاء في الترجيع في الأذان،
حديث رقم (191) رواه الترمذي هنا مختصرا، اكتفاء بما علم من ألفاظ الأذان
بالتواتر العملي، وهو مروى مفصلا أيضا في كتب السنة.
وممن رواه مفصلا الشافعيّ في (الأم) : 1: 73 عن مسلم بن خالد عن ابن جريح
عن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبى محذورة عن عبد اللَّه بن محيريز- وكان
يتيما في حجر أبى محذورة- عن أبى محذورة، وقال ابن جريج في آخره: «فأخبرني
ذلك من أدركت من آل أبى محذورة على نحو مما أخبرنى ابن محيريز» .
ثم قال الشافعيّ: «وأدركت إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبى
محذورة يؤذن كما حكى ابن محيريز. قال الشافعيّ: وسمعته عن أبيه عن ابن
محيريز عن أبى محذورة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: معنى ما حكى ابن
جريج. قال الشافعيّ: وسمعته يقيم- وحكى الشافعيّ الإقامة مفصلة- وحسبتنى
سمعته يحكى الإقامة خبرا كما يحكى الأذان.
(10/124)
عن أبى محذورة رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه، فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أقعده، وألقى عليه الأذان حرفا
حرفا، قال إبراهيم: مثل أذاننا، قال بسر: فقلت له:
أعد عليّ، فوصف الأذان بالترجيع.
قال أبو عيسى: حديث أبى محذورة في الأذان، حديث صحيح، وقد روى من غير وجه،
وعليه العمل بمكة، وهو قول الشافعيّ.
وخرج قاسم بن أصبغ، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن، من حديث روح بن عبادة، عن
ابن جريح قال: أخبرنى عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، عن
أبى محذورة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما رجع النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم من حنين، خرجت عاشر عشرة من مكة، فطلبتهم، فسمعتهم يؤذنون
للصلاة، فقمنا نؤذن نستهزئ. فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: [لا يؤذن]
إنسان إلا حسن الصوت، فأرسل إلينا، فأذنا رجلا رجلا، فكنت آخرهم، فقال حين
أذنت: تعالى، فأجلسنى بين يديه، فمسح على ناحيتي، وبارك عليّ ثلاث مرات، ثم
قال: اذهب فأذن، قلت: كيف يا رسول اللَّه؟ فعلمني الأذان: كما يؤذنون
اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا
اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة،
حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح- الصلاة خير من النوم،
__________
[ () ] قال الشافعيّ: والأذان والإقامة كما حكيت عن آل أبى محذورة، فمن نقص
منهما شيئا أو قدم مؤخرا أعاد، حتى يأتى بما نقص وكل شيء منه في موضعه.
والحديث رواه أيضا الدار قطنى ص 86 والبيهقي 1: 393 من طريق الشافعيّ عن
مسلم ابن خالد، ورواه الطحاوي في (معاني الآثار) : 1: 78 والدارقطنيّ (86)
وابن عبد البر في (الاستيعاب) : 680 من طريق روح بن عبادة.
ورواه أحمد في (المسند) : 3: 409 عن روح بن عبادة ومحمد بن بكر كلاهما عن
ابن جريح. ورواه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطنيّ والطحاوي
والبيهقي وابن عبد البر من طريق ابن جريج عن عثمان بن السائب عن أبيه
السائب مولى أبى محذورة وعن أم عبد الملك بن أبى محذورة: أنهما سمعاه من
أبى محذورة، فذكر الحديث.
(10/125)
الصلاة خير من النوم، في الأذان من الصبح-
اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
قال: وعلمني الإقامة مرتين: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا
اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على
الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، اللَّه أكبر اللَّه
أكبر، لا إله إلا اللَّه.
قال ابن جريج: أخبرنى عثمان هذا الخبر كله عن أم عبد الملك بن أبى محذورة،
أنها سمعت ذلك من أبى محذورة.
وخرج قاسم أيضا من طريق روح عن ابن جريح، قال: أخبرنى عبد العزيز بن عبد
الملك بن عبد اللَّه بن محيريز، أخبره- وكان يتيما في حجر أبا محذورة بن
معتمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه-، قال له: خرجت في نفر، فكنا ببعض
الطريق، فأذن مؤذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالصلاة عند رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فسمعنا صوت المؤذن ونحن مسكتون، فصرخنا نحكيه
ونستهزئ به، فسمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الصوت، فأرسل إلينا،
إلى أن وقفنا بين يديه، فقال: أيكم الّذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم
كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسلهم كلهم وحبسني، ثم قال- قم فأذن بالصلاة.
فقمت، ولا شيء أكره إليّ من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ولا مما
يأمرني به، فقمت بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فألقى على
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم التأذين هو نفسه.
فقال: قل: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن
لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه،
حي الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، اللَّه أكبر،
اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطانى صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على
ناصية أبى محذورة، ثم أمالها على وجهة، ثم من بين يديه، ثم صلى على كبده،
حتى بلغت يد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سرة أبى محذورة، ثم قال:
بارك اللَّه فيك، وبارك عليك، فقلت: يا رسول اللَّه، مرني بالتأذين بمكة،
فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: قد أمرتك به.
(10/126)
وذهب كل ما كان لرسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم من كراهته، وعاد ذلك كله محبة، لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم. فقدمت على عتاب بن أسيد، عامل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
بمكة فأذنت معه بالصلاة على أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأخبرني
بذلك من أهلي، ممن أدرك أبا محذوره، على نحو ما أخبرنى عبد اللَّه بن
محيريز [ (1) ] .
ومن حديث حجاج الأعور عن ابن جريج، قال: أخبرنى عبد العزيز ابن عبد الملك
بن محذوره، أن عبد اللَّه بن محيريز أخبره أنه كان يتيما في حجر أبى محذورة
فذكر مثل الحديث الّذي رواه روح عن ابن جريج، عن عبد العزيز، إلى قوله:
فألقى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم التأذين. هو نفسه، فقال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: قل: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا
إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه،
أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي
على الفلاح، اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلا اللَّه ثم ذكر الحديث إلى
آخره [ (2) ] .
قال: وأخبرنى ذلك من أدركت من أهلي، ممن أدرك أبا محذورة، على نحو مما
أخبرنى عبد اللَّه بن محيريز.
قال: وأخبرنى ابن جريج وأخبرنى عثمان بن السائب، قال: أخبرنى أبى وأم عبد
الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة، قال: فلما خرج رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم إلى حنين، خرجت عاشر عشرة، فذكر مثل الحديث الّذي حدث به روح بن
عبادة. عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب، إلى قوله: فعلمني الأذان كما
يؤذنون الآن: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن
لا إله إلا اللَّه أشهد، أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه،
حي الصلاة، حي على الصلاة حي على الفلاح، حي على الفلاح، الصلاة خير من
النوم- في الأولى من الصبح- اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
قال: وعلمني الإقامة مرتين، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا
اللَّه ثم ذكر الحديث إلى آخره، قال: أخبرنى عثمان هذا الخبر كله عن أبيه،
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث بما يغنى عن إعادتها.
[ (2) ] سبق تخريج هذه الأحاديث بما يغنى عن إعادتها.
(10/127)
وأم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى
محذورة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قلت: عثمان بن النائب، وأبوه، وابن
عبد الملك، كلهم غير معروف.
وأخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الرزاق عن أبى محذورة فذكره.
وقد خرج مسلم [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] والترمذي [ (3) ] والنسائي [ (4) ]
، وقاسم بن أصبغ، حديث أبى محذوره، من حديث مكحول عن عبد اللَّه بن محيريز،
عن أبى
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 322- 324، كتاب الصلاة، باب (3) صفة
الأذان، قال الإمام النووي في (شرح مسلم) : هكذا وقع هذا الحديث في صحيح
مسلم في أكثر الأصول في أوله اللَّه أكبر مرتين فقط ووقع هذا الحديث في
صحيح مسلم اللَّه أكبر اللَّه أكبر، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أربع مرات
قال القاضي عياض: رحمه اللَّه ووقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم أربع
مرات وكذلك اختلف في حديث عبد اللَّه بن زيد في التثنية والتربيع والمشهور
فيه التربيع وبالتربيع قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء،
وبالتثنية قال مالك واحتج بهذا الحديث وبأنه عالم أهل المدينة وهم أعرف
بالسنن، واحتج الجمهور بأن الزيادة من الثقة مقبولة وبالتربيع عمل أهل مكة
وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم.
واللَّه أعلم.
وفي هذا الحديث حجة بينة ودلالة واضحة لمذهب مالك والشافعيّ وأحمد وجمهور
العلماء أن الترجيع في الأذان ثابت مشروع وهو العود إلى الشهادتين مرتين
برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يشرع
الترجيع عملا بحديث عبد اللَّه بن زيد فأنه ليس فيه ترجيع وحجة الجمهور هذا
الصحيح والزيادة مقدمة مع أن حديث أبى محذورة هذا متأخر عن حديث عبد اللَّه
بن زيد فإن حديث أبى محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين وحديث ابن زيد في
أول الأمر وانضم إلى هذا كله أهل مكة وسائر الأمصار وباللَّه التوفيق.
واختلف أصحابنا في الترجيع هل هو ركن لا يصح الأذان إلا به أم هو سنة ليس
ركنا حتى لو تركه صح الأذان مع فوات كمال الفضيلة على وجهين والأصح عندهم
أنه سنة وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيع
وتركه والصواب إثباته واللَّه أعلم.
قوله حي على الصلاة معناه تعالوا إلى الصلاة وأقبلوا عليها قالوا وفتحت
الياء لسكونها وسكون الياء السابقة المدغمة، ومعنى حي على الفلاح هلم إلى
الفوز والنجاة وقيل إلى البقاء أي أقبلوا على سبب البقاء في الجنة والفلاح
بفتح الفاء واللام لغة في الفلاح حكاهما الجوهري وغيره ويقال: لحي على كذا
الحيعلة قال الإمام أبو منصور الأزهري: قال الخليل بن أحمد:
رحمهما اللَّه تعالى الحاء والعين لا يأتلفان في كلمة أصلية الحروف لقرب
مخرجيهما إلا أن يؤلف فعل من كلمتين مثل حي على فيقال منه حيعل واللَّه
أعلم.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 1/ 340، كتاب الصلاة، باب (28) في الأذان، حديث
رقم (500) ، وأخرجه ابن ماجة (في السنن) : 1/ 35، كتاب الأذان والسنة فيها،
باب (2) الترجيع في الأذان، حديث رقم (709) .
(10/128)
محذوره رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال:
إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم علمه هذا الأذان: اللَّه أكبر، اللَّه
أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن محمدا
رسول اللَّه، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا
رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، مرتين، حي على الصلاة، مرتين، حي
على الفلاح، مرتين، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
هذا لفظ مسلم.
ولفظ النسائي، عن أبى محذورة، قال: علمني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم الأذان، فقال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر،
إلى آخره بنحو ما قال مسلم.
وعن أبى داود [ (1) ] أن ابن محيريز حدثه أن أبا محذورة حدثه أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع
عشره كلمه، الحديث إلى آخره بمثله.
وذكر الترمذي [ (2) ] صدر متنه في كتابه، لفظه: عن أبى محذوره أن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، لم
يزد
__________
[ () ] (3) (سنن الترمذي) : 1/ 366، أبواب الصلاة، باب (26) ما جاء في
الترجيع في الأذان، حديث رقم (191) ، [والترجيع في الأذان] هو إعادة
الشهادتين بصوت عال بعد ذكرهما بصوت منخفض.
[ (4) ] (سنن النسائي) : 2/ 332، كتاب الأذان، باب (5) كيف الأذان، حديث
رقم (631) .
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 1/ 342، كتاب الصلاة، باب (28) كيف الأذان حديث
رقم (502) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 1/ 367، كتاب أبواب الصلاة، باب (26) ما جاء في
الترجيع في الأذان، حديث رقم (192) .
(10/129)
على هذا، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو
محذورة اسمه سمرة بن معمر، قد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا في الأذان.
وقد روى عن أبى محذورة، عن أبيه، عن جده، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه،
قال: قلت: يا رسول اللَّه علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسه: قال: قل:
اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ثم ترفع بها صوتك،
أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول
اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن
محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، اخفض بها صوتك، ثم ترفع
صوتك بالشهادة، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه،
أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة، حي على
الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كانت صلاة الصبح قلت: الصلاة
خير من النوم، الصلاة خير من النوم، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا
اللَّه.
وعلمني الإقامة مرتين، مرتين، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله
إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد
أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت
الصلاة اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، أسمعت؟.
قال: وكان أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها لأن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم مسح عليها
.
(10/130)
وأما أنّ سعد القرظ رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه كان مؤذن قباء
فذكر ابن المبارك عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: أخبرنى حفص عن عمر بن
سعد، أن جده سعد كان يؤذن على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لأهل
قباء، حتى استعمله عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في خلافته،
فأذن له بالمدينة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقال البلاذري: وقد روى أن عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان
يؤذن بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عند المنبر.
وقال الواقدي بإسناده: كان بلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقف على باب
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. فيقول: السلام عليك يا رسول اللَّه،
وربما قال السلام عليك بأبي أنت وأمى أنت يا رسول اللَّه، حي الصلاة حي على
الفلاح، السلام عليك يا رسول اللَّه.
قال البلاذري: وقال غيره: كان يقول: السلام عليك يا رسول اللَّه ورحمة
اللَّه وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يا رسول اللَّه.
وقال ابن زيد: لم يكن في زمان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أذان إلا
الأول، وأذان حين يقوم للصلاة، وهي الشيء الآخر، أحدثه الناس في زمن عثمان
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فلم يذكره أحد من الصحابة، فمضى به العمل.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال:
كان يؤذن بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا جلس على المنبر
يوم الجمعة، على باب المسجد، وأبى بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
ذكره أبو داود.
وروى ابن إسحاق [ (1) ] أن المرأة قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد،
وكان بلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يؤذن عليه الفجر كل غداة فيأتى
بسحر، فيجلس على البيت ينتظر عليه الفجر، فإذا رآه تمطى بسحر،
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 42 ما كان يدعو به بلال قبل الفجر.
(10/131)
فيجلس على البيت ينتظر عليه الفجر، فإذا
رآه تمطى ثم قال: اللَّهمّ أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك. قالت:
ثم يؤذن [ (1) ] .
ويروى أنه كان يؤذن على أسطوان في قبله المسجد يرقى إليها بإثبات، وكانت في
منزل عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
وروى نافع عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال كان بلال رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر رضى اللَّه
عنهما، التي تلى المسجد، قال: فكان يرقى على أثبات فيها، وكانت خارجية من
المسجد، لم تكن فيه.
وأما بلال بن رباح رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[هو] بلال بن رباح، أبو عبد اللَّه وقيل: أبو عبد الكريم، وقيل: أبو عبد
الرحمن، وقيل: عمرو، مولى أبى بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما،
اشتراه بخمس أواق، ثم أعتقه، وكان له خازنا، ولرسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم مؤذنا، وهو أول من أذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ولزم
التأذين له بالمدينة وفي أسفاره شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وامه حمامة
كانت من مولدي السراة، وكان آدم شديد الأدمة، نحيفا، طوالا، أجنى، خفيف
العارضين، وأذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حياته ثم أذن لأبى بكر
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه،
فقال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: ما منعك أن تؤذن، قال: أنى أذنت
لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى قبض وأذنت لأبى بكر حتى قبض لأنه
كان ولى نعمتي، وقد سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: يا بلال
ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل اللَّه عز وجل،
فخرج مجاهدا ويقال أنه أذن لعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إذ دخل الشام
فبكى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وغيره من المسلمين. وقال: سعيد بن
المسيب وقد ذكر بلالا، فانطلق العباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال
لسيدته: هل لك أي تبيعني عبدك قبل أن يفوتك خيره؟ قال: وما تصنع به؟
__________
[ (1) ] ثم بعد ذلك قالت: واللَّه ما علمته كان يتركها ليلة واحدة. (المرجع
السابق) .
(10/132)
إنه خبيث وأنه قال ثم لقيها فقال: مثل
مقالته، فأشتراه العباس فبعث به إلى أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
فأعتقه فكان يؤذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فلما مات النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم أراد أن يخرج إلى الشام فقال له أبو بكر رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه بل تكون عندي، فقال أن كنت أعتقتنى لنفسك فاحبسني وأن كنت
أعتقتنى للَّه عز وجل فذرني اذهب إلى اللَّه عز وجل، فقال: أذهب فذهب إلى
الشام فكان بها حتى مات.
وقال سفيان: عن إسماعيل عن قيس قال: اشترى أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه بلالا وهو مدفون بالحجارة، ومات بدمشق سنة عشرين وهو ابن ثلاث وستين
سنة، وكان ديوانه مع خثعم [ (1) ] .
[وأما] ابن أم مكتوم
اسمه عمرو، وقيل عبد اللَّه بن قيس بن زائدة بن الأصم، وهو جندب ابن هرم بن
رواحة بن حجر بن عبد بغيض بن عامر بن لؤيّ القرشي، أمه أم مكتوم عاتكة بنت
عبد اللَّه بن عنكثة بن عامر بن مخزوم، فهو ابن خال خديجة رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنها أخى أمها، وأسلم قديما، وبعثه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم من مكة إلى المدينة مع مصعب بن عمير قبل هجرته، واستخلفه على المدينة
ثلاث عشرة مرة، وشهد القادسية وما بعدها [ (2) ] .
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (مسند أحمد) : 6/ 12- 15، (طبقات ابن سعد) : 3/ 1/
165، 208، (طبقات خليفة) : 19، 298، (تاريخ خليفة) : 99، 149، (التاريخ
الكبير) : 2/ 106، (التاريخ الصغير) : 1/ 53، (الجرح والتعديل) : 2/ 395،
(حلبة الأولياء) : 1/ 147- 151، (الاستيعاب) : 2/ 26 (تهذيب الأسماء
واللغات) : 1/ 136- 137، (تهذيب التهذيب) : 1/ 502. (الإصابة) : 1/ 273،
(كنز العمال) : 13/ 305- 308، شذرات الذهب 1/ 31.
[ (2) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 4/ 150، (المعارف) : 290 (حلية
الأولياء) : 2/ 4 (الإستيعاب) : 7/ 41، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 295-
296، (الإصابة) :
(10/133)
[وأما] أبو محذورة [الجمحيّ]
قيل اسمه أوس بن معير بن لوذان بن ربيعة بن سعد بن جمح. وقبل:
اسمه سمير بن عمير بن لوذان بن وهب بن سعد بن جمح فأمه خزاعية.
حدث عنه ابنه عبد الملك وزوجته، والأسود بن يزيد، وعبد اللَّه بن محيريز،
وابن أبى مليكة، وآخرون كان من أندى الناس صوتا وأطيبه.
قال ابن جريج: أخبرنى عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، عن
أبى محذورة، قال: لما رجع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من حنين، خرجت عاشر
عشرة من مكة نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن تستهزئ.
فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت
فأرسل إلينا، فأذنا رجلا رجلا، فكنت آخرهم، فقال حين أذنت: [تعال] ،
فأجلسنى بين يديه، فمسح على ناصيتي، وبارك على ثلاث مرات، ثم قال: «اذهب
فأذّن عند البيت الحرام» قلت: كيف يا رسول اللَّه؟ فعلمني الأولى كما
يؤذنون بها، وفي الصبح «الصلاة خير من النوم» وعلمني الإقامة مرتين مرتين.
وفيه قيل: -
أما ورب الكعبة المستورة ... وما تلا محمد من سوره
والنغمات من أبى محذوره ... لأفعلن فعلة منكوره
وتوفى بمكة سنة تسع وخمس وقيل سنة تسع وسبعين [ (1) ] ولم يهاجر.
__________
[ () ] 7/ 83 ترجمة رقم (5764) ، (شذرات الذهب) : 1/ 28، (سير أعلام
النبلاء) : 1/ 360- 365، ترجمة رقم (77) .
[ (1) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) 5/ 450، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم:
(139- 2512) ، (المحبر) : 161، (المعارف) : 306، (جمهرة أنساب العرب) :
162، 162، (المستدرك) : 3/ 514، (الاستيعاب) : 1/ 121 ترجمة رقم (116) ،
(تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 2- 266، (تهذيب التهذيب) 12/ 222، (الاصابة)
: 1/ 160
(10/134)
[وأما] سعد بن عائذ [سعد القرظ] رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه
وهو سعد بن عائذ مولى عمار بن ياسر، عرف بسعد القرظ لأنه لزم بيعه، جعله
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مؤذنا بقباء، ثم أذن لما ترك بلال
الأذان بالمسجد النبوي حتى مات فتوارث بنوه الأذان فيه [ (1) ] .
[وأما] حبان بن بحّ الصدائى
[فإنه] يعد في من نزل مصر من الصحابة، قال ابن يونس: وفد على رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم وشهد الفتح بمصر ويقال حبان، وجيان الصواب. وقال
الدار قطنى: حيان بن بح الصدائى بكسر الحاء مع باء معجمة بواحدة، له بمصر
حديث
رواه بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم، عن حيان بن بح قال: إن قومي كفروا
فأخبرت أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم جهز إليهم جيشا، فأتيته فقلت: إن
قومي
__________
[ () ] ترجمة رقم (358) ، (شذرات الذهب) : 1/ 65، (سير أعلام النبلاء) : 3/
117- 118 ترجمة رقم (24) .
[ (1) ] وروى البغوي، عن القاسم بن محمد بن عمر بن حفص بن عمر بن سعد
القرظ، عن آبائه أن سعدا اشتكى إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قلة ذات
يده، فأمره بالتجارة فخرج إلى السوق، فاشترى شيئا من قرظ فباعه فربح، فذكر
ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فأمره بلزوم ذلك وروى عن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم، أذن في حياته بمسجد قباء.
وروى عنه ابناه عمار وعمر، نقله أبو بكر من قباء إلى المسجد النبوي، فأذن
فيه بعد بلال، - وتوارث عنه بنوه الأذان.
قال خليفة: أذن سعد لأبى بكر ولعمر بعده. وروى يونس عن الزهري أن الّذي
نقله عن قباء عمر. قال أبو أحمد العسكري: عاش سعد القراظ إلى أيام الحجاج،
له ترجمة في:
(الإصابة) : 3/ 65، ترجمة رقم (3173) ، (المعارف) : 258، (تهذيب التهذيب) :
3/ 415، ترجمة رقم (891) ، (الاستيعاب) : 2/ 593- 594، ترجمة رقم (943) .
(10/135)
على الإسلام فقال: أكذلك؟ قلت: نعم واتبعته
ليلتي حتى الصباح فأذنت بالصلاة لما أصبحت، وأعطانى ماء توضأت منه، فجعل
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أصابعه في الإناء فانفجر عيونا.
فقال: من أراد منكم أن يتوضأ فليتوضّأ، فتوضأت وصليت، فأمرنى عليهم،
وأعطانى صدقاتهم، فقام رجل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
إن فلانا ظلمني، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا خير في
الإمارة لمسلم.
ثم جاء رجل يسأل صدقة، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: إن الصدقة
صداع وحريق في الرأس أو داء، فأعطيته صحيفة إمرتي وصدقنى، فقال: ما شأنك؟
فقلت: أقبلها، وقد سمعت ما سمعت؟.
رواه سعيد بن أبى مريم، عن ابن لهيعة، عن بكر بن سواد، وزياد ابن الحارث
الصدائى:
وفد على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. وشهد الفتح بمصر، وحديثه يشبه
حديث حبان بن بح.
قال ابن يونس، وقال ابن عبد البر: وهو حليف بنى الحارث بن كعب، تابع رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وأذن بين يديه، يعد في مصر وأهل المغرب. وقد
خرج له أبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
وقال ابن وهب: أخبرنى عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نعيم، أنه
سمع زياد بن الحارث الصدائى قال: أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فبايعته على الإسلام، فأخبرت أنه بعث جيشا إلى قومي، فقلت: يا رسول اللَّه!
أن رد الجيش، وأنا لك بإسلامهم وطاعتهم، فقال: اذهب فردهم، فقلت: يا رسول
اللَّه، إن راحلتي قد كلت، ولكن ابعث إليهم رجلا قال: فبعث إليهم رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم رجلا، وكتبت معه إليهم، فردهم، قال الصدائى:
فقدم وفدهم بإسلامهم، فقال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يا أخا
صداء، وإنك مطاع في قومك؟
قلت: بل اللَّه هداهم للإسلام، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
أفلا أؤمرك عليهم؟ قلت:
بلى، فكتب لي كتابا بذلك، فقلت يا رسول اللَّه بشأن صدقاتهم، نكتب لي كتابا
آخر بذلك، وكان ذلك في بعض أسفاره، فنزل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
منزلا، فأتى أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم، يقولون: أخذنا بشيء كان بيننا
وبينه في الجاهلية، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أو فعل؟
قالوا: نعم فالتفت إلى أصحابه وأنا
(10/136)
فيهم فقال: لا خير في الإمارة لرجل مؤمن،
قال الصدائى: فدخل قوله في نفسي، قال: ثم أتاه آخر، فقال: يا رسول اللَّه،
أعطنى، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من سأل الناس عن ظهر غنى
فهو صداع في الرأس وداء في البطن، فقال السائل: فأعنى من الصدقة، فقال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه لم يرض بحكم نبي ولا غيره [في
الصدقات] حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء [ (1) ] ، فإن كنت من تلك
الأجزاء أعطيتك- أو أعطيناك- حقك الصدائى: فدخل ذلك في نفسي، لأني سألته من
الصدقات وأنا غنى، ثم إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اعتشى من أول
الليل، فلزمته، وكنت قويا، وكان أصحابه ينقطعون عنه ويستأخرون، حتى لم يبق
معه أحد غيري، فلما كان أوان صلاة الصبح أمرنى فأذنت، وجعلت أقول: أقيم يا
رسول اللَّه؟ فينظر إلى ناحية المشرق ويقول: لا، حتى إذا طلع الفجر نزل
فتبرز، ثم انصرف إلى وقد تلاحق أصحابه، فقال: هل من ماء يا أخا صداء؟ قلت:
لا، إلا شيء قليل لا يكفيك، فقال: اجعله في إناء ثم ائتني به، ففعلت، نوضع
كفه في الإناء، فرأيت بين كل إصبعين من أصابعه عينا تفور، فقال: لولا أنى
أستحيى من ربى- يا أخا صداء- لسقينا واستقينا، ناد في الناس: من له حاجة في
الماء، فنادى فيهم، فأخذ من أراد منهم، ثم جاء بلال فأراد أن يقيم، فقال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم،
قال الصدائى: فأقمت، فلما قضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلاته
أتيته بالكتابين، فقلت: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، أعفنى من
هذين، فقال: وما بدا لك؟
إني سمعتك تقول: لا خير في الإمارة لرجل مؤمن، وأنا أومن ورسوله، وسمعتك
تقول للسائل: من سأل عن ظهر غنى فهو صداع في الرأس وداء في البطن، وقد
سألتك وأنا غنى، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: هو ذاك، إن شئت
فاقبل وإن شئت فدع [فقلت: أدع] فقال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
فدلني على رجل أؤمره
__________
[ (1) ] وهي الأجزاء الثمانية التي ذكرها اللَّه تبارك وتعالى في الآية رقم
(60) من سورة التوبة والتي يحدد فيها المصارف الثمانية لأموال الصدقات، وهي
قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ
وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ
وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
(10/137)
عليهم، فدللته على رجل من الوفد الذين
قدموا عليه، فأمره علينا، ثم قلنا: يا رسول اللَّه، إن لنا بئرا إذا كان
الشتاء وسعنا ماؤها فاجتمعنا عليها، وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على
مياه حولنا، وقد أسلمنا، وكل من حولنا عدوّ، فادع اللَّه لنا في بئرنا أن
يسعنا ماؤها فنجتمع عليها ولا نتفرق، قال: فدعا بسبع حصيات، فعركهن في يده
ودعا فيهن، ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيات، فإذا أتيتم البئر فألقوها واحدة
واحدة واذكروا اسم اللَّه، قال الصدائى: ففعلنا [ما قال لنا] ، فما استطعنا
بعد ذلك أن ننظر في قعرها، يعنى البئر.
هذا لفظ ابن عبد الحكم، وقد صححنا بعض أحرف فيه وزدنا بعض أحرف، من رواية
المزي المطبوعة بحاشية التهذيب، ما زدناه كتبناه بين قوسين هكذا [] .
وقوله في الحديث «اعتشى من أول الليل» : قال في النهاية: «أي سار وقت
العشاء، كما يقال: استمر وابتكر» .
وقد خرج حديث زياد بن الحرث الترمذي وقاسم بن أصبغ مختصرا، وعبد الرحمن بن
زياد بن أنعم الإفريقي [ (1) ] أبو خالد الشعبانيّ العامري، مصرى، يروى
الموضوعات عن الثقات، ويدلس عن محمد بن سعيد المصلوب. كان ابن مهدي ويحيى
لا يحدثان عن الإفريقي. قال ابن معين: هو ضعيف، قاله أبو حاتم، محمد بن
حبان.
***
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 6/ 157- 160، ترجمة رقم (358) .
(10/138)
|