إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

النوع الرابع: ما اختص به صلى اللَّه عليه وسلّم من الفضائل والكرامات وهو قسمان:

القسم الأول: المتعلق بالنكاح وفيه المسائل

المسألة الأولى: أزواجه صلى اللَّه عليه وسلّم اللاتي توفى عنهن محرمات على غيره أبدا
قال اللَّه تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [ (1) ] .
يقول تعالى: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول اللَّه. وما يصح لكم ذلك وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، لأنهن أمهاتكم، ولا يحل للرجل أن يتزوج أمه.
قال ابن وهب، عن ابن زيد، قال: ربما بلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أن الرجل يقول: لو أن النبي توفى، تزوجت فلانة من بعده، قال: فكان ذلك يؤذى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فنزل القرآن: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
يقول: إن ذلكم رسول اللَّه، ونكاحكم أزواجه من بعده عند اللَّه عظيم الإثم.
وروى إسماعيل بن إسحاق، من طريق معمر، عن قتادة، أن رجلا قال: لو قبض رسول اللَّه، تزوجت عائشة! فأنزل اللَّه تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الآية. ونزلت: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الأحزاب: 53.
[ (2) ] الأحزاب: 6.

(10/257)


ونقل أبو نصر عبد الرحيم القشيري، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: قال رجل من سادات قريش، من العشرة الذين كانوا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: على حرام نفسه لو توفى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمتي.
قال ابن عطية: روى أنها نزلت بسبب بعض الصحابة، قال: لو مات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لتزوجت عائشة، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فنادى به هكذا كنى عنه ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ببعض الصحابة.
وحكى مكي عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيد اللَّه، وكذا حكى النحاس عن معمر. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح عن طلحة.
وروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أم سلمة بعد أبى سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟
واللَّه لو مات لأحلنا السهام على نسائه، فنزلت الآية في هذا، فحرم اللَّه نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات، وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه، وتنبيها على علو مرتبته.
قال القاضي: وأزواجه صلى اللَّه عليه وسلّم اللاتي مات عنهن- لا يحل لأحد نكاحهن ومن استحل ذلك كافرا، لقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
وقد قيل: إن اللَّه تعالى إنما منع من التزويج بأزواج نبيه، لأنهن أزواجه في الجنة، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها، كما تقدم عن حذيفة.
وذكر القضاعي أن ذلك مما خص به صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء وأمته، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها.
وقيل: إنما منع من نكاحهن، لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم حي، ولهذا حكى الماوردي وجها: أنهن لا تجب عليهنّ عدة الوفاة، وفيمن فارقها في الحياة كالمستعيذة، والتي وجد بكشحها بياضا، ثلاثة أوجه:
أحدها: تحرمن أيضا، وهو المنصوص من الشافعيّ في (أحكام القرآن) لشمول الآية، والبعدية في قوله تعالى: من بعده عند هذا القائل لا تختص بما بعد الموت، بل هو أعم منه، فيكون التقدير: من بعد نكاحه.

(10/258)


قال بعضهم: وحرمن لوجوب محبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فإن من العادة أن زوج المرأة يكره زوجها الأول، قال في (الروضة) : وهذا أرجح، وقال ابن الصلاح: إنه أشبه بظاهر القرآن، وهو ظاهر بنص الشافعيّ.
قال: وقيل: إن وجه التفضيل يعنى الثالث أصح، وعبارة القضاعي تقتضي هذا الوجه أيضا، فإنه أطلق أن تساءه صلى اللَّه عليه وسلّم حرمن على غيره، وجعل ذلك من خصائه دون غيره من الأنبياء.
وثانيها: لا يحرمن لإعراض النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عنها، وانقطاع الاعتناء بها، لأن في ذلك إضرارا بها، والبعدية على هذا مخصوصة بما بعد الموت.
وثالثها: تحرم المدخول بها فقط، وبه قال القاضي أبو حامد، وذكر الشيخ أبو حامد أنه الصحيح، وقال الرافعي في (الشرح الصغير) : إنه الأظهر، وصححه الماوردي، والغزالي أيضا، وقال الإمام: إنه الأعدل، وجزم به صاحب (الحاوي الصغير) ، ودليله ما روى داود عن عامر الشعبي به، أن بنى اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مات وقد ملك قتيلة ابنة الأشعث، ولم يجامعها، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل بعد ذلك، فشق على أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه مشقة شديدة، فقال له عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا خليقة رسول اللَّه! إنها ليست من نسائه، إنه لم يخبرها رسول اللَّه، ولم يحجبها، وقد برأه اللَّه تعالى منها بالردة التي ارتدتها مع قومها. قال: فاطمأن أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وسكن.
وخرج الحاكم في (المستدرك) [ (1) ] ، عن أبى عبيدة، ومعمر بن المثنى، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج حين قدم عليه وفد كندة، قتيلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، في سنة عشرة، ثم اشتكى في النصف من صفر، ثم قبض يوم الإثنين، ليومين مضيا من شهر ربيع الأول، ولم تكن قدمت عليه، ولا دخل بها، ووقت بعضهم وقت تزويجه إياها، فزعم أنه تزوجها قبل وفاته
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 40، كتاب معرفة الصحابة، ذكر قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، حديث رقم (6817) ، قال الذهبي في (التلخيص) : قتيلة أخت الأشعث بن قيس. قال أبو عبيدة: نزوجها بنى اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم ذكر الحديث.

(10/259)


بشهر، وزعم آخرون أنه تزوجها في مرضه، وزعم آخرون أنه أوصى أن تخير قتيلة، فإن شاءت [أن يضرب عليها الحجاب، فتحرم على المؤمنين، ويجرى عليها ما يجرى على [ (1) ] أمهات المؤمنين، وإن شاءت أن تنكح من شاءت] فاختارت النكاح، وتزجها عكرمة بن أبى جهل بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال: لقد هممت أن أرحق عليها، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: ما هي من أمهات المؤمنين، ولا دخل بها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، ولا ضرب عليها الحجاب [وزعم بعضهم أنها ارتدت] ، فكف عنها.
وأورده أبو نعيم في كتاب (معرفة الصحابة) ، من طريق الشعبي مرسلا، واستدل به الماوردي في (الحاوي) ، فأورده كذلك.
وذكر الإمام الغزالي، والقاضي، أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فهم عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه برجمتها، فأخبر أنها لم تكن مدخولا بها، فكف عنها.
وذكر الماوردي أيضا وقال: فصار ذلك كالإجماع.
وقال القاضي أبو الطيب الطبري: أن الّذي تزوج المستعيذة المهاجر بن أبى أميه، ولم ينكر ذلك أحد، فدل ذلك على أنه إجماع.
وخرج الحاكم [ (2) ] أيضا من طريق هشام بن محمد الكلبي، قال: وحدثني أبى عن أبى صالح عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال خلف على أسماء بنت النعمان المهاجر بن أبى أميه، فأراد عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن يعاقبها فقالت: واللَّه ما ضرب على الحجاب ولا سميت بأم المؤمنين، فكف عنها.
قال مؤلفه رحمه اللَّه إنما هذه هي أسماء ابنة النعمان الجوتية.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) ، وليس في (المستدرك) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 40، آخر الحديث رقم (6816) ، وقال عنه حافظ الذهبي في (التلخيص) : سنده واه، ويروى عن زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا.

(10/260)


ذكر هشام بن محمد أنها هي المستعيذة في حديث ذكره، وفي الأمة التي يفارقها صلى اللَّه عليه وسلّم بالموت أو غيره بعد وطئها، وجهان في الرافعي وهما في (التهذيب) .
أحدهما: لا تحل لغيره، كالمنكوحه التي فارقها.
والثاني: لا تحرم، لأن مارية غير معدودة في أمهات المؤمنين والصواب أن محل الخلاف فيمن باعها صلى اللَّه عليه وسلّم لا من مات عنها.
قال الماوردي: أن من مات عنها كمارية أم ولده إبراهيم عليه السلام ثم حرم نكاحها وإن لم تسم أما للمؤمنين كالزوجات فنصفها بالرق وإن باعها فتحريمها على مشتريها وعلى سائر المسلمين وجهان كالمطلقة، ولزم في باب استبراء أم الولد بالتحريم وبالتعظيم من ذلك ثلاثة أوجه ثم الأوجه الثلاثة لغير المخيرات، وأما المخيرات فمن اختارت منهم الدنيا ففي حلها من أزواجه طريقان:
قال العراقيون يطرد الأوجه، وقطع أبو يعقوب الأبيوردي وآخرون بالحل لتحصل فائدة التخيير وهو التمكن من زينة الدنيا، وهذا ما اختاره الإمام، والغزالي وفعل الإيقاف عليه، ومن عهد ذلك فإن كانت لا تحل، ففي وجوه نفقتها من خمس الخمس وجهان:
أحدهما: يجب كما تحب نفقة اللواتي مات عنهن لتحريمهن.
والثاني: لا تجب لأنها غير واجبة في حياته فالأولى أن لا تجب بعد موته ولأنها مقطوعة العصمة بالطلاق.
***

(10/261)


المسألة الثانية: أزواجه صلى اللَّه عليه وسلّم أمهات المؤمنين
قال اللَّه تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ قال سعيد عن قتادة ليعظم بذلك حقهن، وفي قراءة أبى بن كعب بمصحفه: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم.
وقال ابن زيد: محرمات عليهم، وقال الشافعيّ في (المختصر) :
أمهاتهم في معنى دون معنى، وذلك أنه لا يحل نكاحهن بحال ولم تحرم بناته لو كن له لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم زوج بناته وهن أخوات المؤمنين وذكر نحوه في (الأم) .
وقال القرطبي في (التفسير) : شرف اللَّه تعالى أزواج نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال وحجبهن رضى اللَّه عنهن بخلاف الأمهات وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، وقد عد القضاعي هذه مما اختص به دون الأنبياء، وقد خولف في ذلك. وأزواجه أمهات المؤمنين سواء من ماتت تحته أو مات عنها وهي تحته.
وأعلم أن الأمومة ثلاثة أقسام مختلفة الأحكام: وهي أمومة الأولاد، ويثبت فيها جميع أحكام الأمومة، وأمومة أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لا تثبت إلا تحريم النكاح، وأمومة الرضاع وهي متوسطة بينهما. فإذا تقرر هذا فهنا أمور قد اختلف فيها، وهي: هل يجوز النظر إليهن؟ فيه وجهان أحدهما: هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن، والثاني: إن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظا لحق الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم فيهن وكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن، ولأن عائشة كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أم كلثوم أن ترضعه ليصير ابن أخيها من الرضاعة فيصير محرما يستبيح النظر.
والمشهور المنع وبه جزم الرافعي، والأدلة على تحريم النظر إليهن كثيرة شهيرة منها قصة عائشة في أفلح أخى أبى القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب فأبت أن تأذن له فلما جاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أخبرته بالذي صنعت فأمرنى أن على أنزله، لم يقل البخاري على وخرجاه من طرق.

(10/262)


ومنها أحاديث نزول الحجاب، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ولا يثبت حكم الأمومة في جواز الخلوة والمسافرة، ولا في النفقة والميراث، وهل يقال بناتهن أخوات المؤمنين؟ نص الشافعيّ رحمه اللَّه في (المختصر) على جوازه، وحكى الرافعي وجها أن اسم الإخوة يطلق على بناتهن واسم الخؤوله يطلق على إخوتهن، وأخواتهن، لثبوت اسم الأمومة لهن وإن لم يوجب ذلك تحريم النكاح كما أن المسلمات كلهن أخوات المسلمين في الإسلام، ولا يوجب ذلك تحريم النكاح.
قال: وهذا ظاهر لفظ (المختصر) يشير إلى قوله: زوج بناته «وهن أخوات المؤمنين» ، لكن أكثر الأصحاب كما قال الماوردي: غلطوه فيه لأنه قال الشافعيّ في (أحكام القرآن) : وما زوج بناته وهن غير أخوات المؤمنين، وقيل: إن الكاتب حذف لفظة غير، وقيل: ما قاله المازني فيه صحيح وتقديره: قد زوج بناته أي زوجهن وهن أخوات المؤمنين وجزم القاضي يتخطئه المازني ومنع آخرون من ذلك بدليل أنه لا يحرم على المؤمنين التزوج ببناتهن أو أخواتهن وقد زوج صلى اللَّه عليه وسلّم بناته من المؤمنين، فزوج عثمان، وعليا، ونكح الزبير أختا لعائشة، ونكح عبد الرحمن بن عوف حمنة أخت زينب، وكذا لا يقال آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات المؤمنين بل يقتصر على ما ورد من ثبوت حكم الأمومة لهن في بعض الأحكام.
وهل يقال في إخوانهن أخوال المؤمنين؟ فيه نزاع في معاوية أنطلق عليه خال المؤمنين؟ فحكى القاضي حسين الخلاف في جواز تسميته خال المؤمنين، وحكى الرافعي وجها أن اسم الخؤوله ينطلق على إخوانهن وأخواتهن.
وذكر البيهقي من طريق شبابة، قال حدثني خارجة بن مصعب بن الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس في هذه الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً قال: كانت المودة التي جعل اللَّه بينهم

(10/263)


تزوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أم حبيبة بنت أبى سفيان، فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين [ (1) ] .
قال البيهقي: كذا في رواية الكلبي وذهب علماؤنا إلى أن هذا الحكم لا يتعدى أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فهن أمهات المؤمنين في التحريم ولا يتعدى هذا التحريم إلى إخوتهن، ولا إلى إخوانهن، ولا إلى بناتهن، ومنع قوم من جواز تسمية معاوية خال المؤمنين بأن هذا أمر مبتدع لم يطلقه عليه إلا الغلاة في موالاته حتى إنهم زعموا أنه دعي بذلك في عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وبالغوا في الإفك حتى نسبوه إلى انه من قول الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم وليس لذلك أصل، ولا عرف إطلاق ذلك في عصر الصحابة، والتابعين، فقد قتل محمد بن أبى بكر ولم يشنع أعداء معاوية إذ ذاك بأنه قتل خال المؤمنين، وثار عبد اللَّه بن الزبير بمكة على سويد بن معاوية ولم [يكثرت] بأنه ابن خالة المؤمنين، ولا دعاه به أحد من الصحابة، ولم يدع عبد اللَّه بن عمر بخال المؤمنين، ولا قيل قط لعبد الرحمن بن أبى بكر خال المؤمنين، ولا يمترى عامه أهل العلم في أن منزلة عائشة وحفصة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كانت أعظم من منزلة أم حبيبة بنت أبى سفيان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ومع ذلك فلم يدع أحد من إخوتها بخال المؤمنين، فكيف يطلق على معاوية بن أبى سفيان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه خال المؤمنين؟ ومنزلته ومنزلة أبيه من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم دون منزلة عبد اللَّه بن عمر ومكانة عبد اللَّه من العلم والورع والسابقة مكانة، وهذه عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها تقول وقد قالت لها امرأة يا أمه: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم فعلمتنا بذلك معنى الأمومة تحريم نكاحهن وكذا لم ينقل أن
__________
[ (1) ] قال القسطلاني: ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين. ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات ولا إخوانهن ولا أخواتهن أخوال وخالات. قال البغوي: كن أمهات المؤمنين دون النساء، وروى ذلك عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها. ولفظها كما في البيضاوي: لسنا أمهات النساء، وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول: أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال. (المواهب اللدنية) : 2/ 73- 74، فصل في ذكر أزواجه وسراريه المطهرات.

(10/264)


أحدا قال لأسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما خالة المؤمنين، فقد قال الواحدي في تفسير قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في حرمة نكاحهن وهذه الأمومة تعود إلى حرمة نكاحهن لا غير، ألا ترى أنه لا يحل رؤيتهن، ولا يريد المؤمنين، ولا يردنهن، وليست كالأمهات في النفقة، والميراث، وفي (النكت) للماوردى: يعنى من مات عنها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أزواجه هن كالأمهات في شيئين.
أحدهما: تعظيم حقهن.
والثاني: تحريم نكاحهن، ولسنا كالأمهات في النفقة والميراث وهل كن أمهات المؤمنين من الرجال دون النساء؟ صححوا المنع، وهو قول عائشة.
وخرج البيهقي من طريق أبى عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها ان امرأة قالت لها يا أمه فقالت: لست لك بأم إنما أنا أم لرجالكم وهذا جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم، وهذا تفريغ أن الجمع المذكر السالم هل يدخل فيه النساء [ (1) ] وهي مسأله منفردة في الأصول.
لكن وقع في (الرسالة) للإمام الشافعيّ في ترجمة ما نزل من القرآن عام الظاهر قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [ (2) ] وقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [ (3) ] فإنه قال رحمه اللَّه في آخر الكلام وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة على البالغين العاقلين خص من لم يبلغ ومن بلغ، ولم يعقل، وخص الحيض في أيام حيضتهن فهذا يقتضي أنهن دخلن، وإلا لم يخرج من لم ينحصر وجب الاختصاص أن فائدة أمومتهن في حق الرجال منقوله في حق النساء.
__________
[ (1) ] خوطبت امرأة نوح وامرأة لوط بقوله تعالى: وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، والدَّاخِلِينَ جمع مذكر سالم [التحريم: 10] وخوطبت مريم ابنة عمران عليها السلام بقوله تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ والقانتين جمع مذكر سلم. [التحريم: 12] .
[ (2) ] البقرة: 183.
[ (3) ] النساء: 103.

(10/265)


وحكى الماوردي في (تفسيره) خلافا في كونهن أمهات المؤمنات وحكاه القرطبي أيضا في (التفسير) : فقد قال ابن العربيّ: وهو الصحيح يعنى أنهن أمهات الرجال، فقط ثم قال القرطبي لا فائدة لاختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء والّذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقهن على الرجال والنساء يدل عليه صدر الآية: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة فيكون قوله: أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ عائد على الجميع ثم إن في مصحف أبى بن كعب: «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» .
وقرأ ابن عباس: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب وأزواجه أمهاتهم وهذا كله يوهن ما رواه الشعبي عن مسروق، عن عائشة إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فسقط من جهة الاستدلال به في التخصيص وتعيينا على الأصل الّذي هو العموم الّذي يسبق إلى المفهوم واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وقد اختلف أيضا: هل يقال هو صلى اللَّه عليه وسلّم أبو الرجال جميعا؟ قال الفريابي، عن سفيان، عن طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ هذه الآية النبي أولى بالمؤمنين وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم.
قال البغوي: وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أبا الرجال والنساء جميعا، وقال الواحدي:
قال بعض أصحابنا لا يجوز أن يقال: هو أبو المؤمنين لقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [ (1) ] وقال: ونص الشافعيّ على أنه يجوز أن يقال أبو المؤمنين أي في الحرمة، ومعنى الآية ليس أحد من رجالكم ولد صلبه لذا ذكره النووي في (الروضة) [ (2) ] .
وفي القطعة التي شرحها من البخاري، وقال: (في المطلب) وفيه نظر لأن ذلك جمعه قوم، غير أن المعقول والشرع لا يرد بمثله إلا أن يراد به التنبيه على أنه تحريم.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 40.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 356، كتاب النكاح.

(10/266)


المسألة الثالثة: تفضيل زوجاته صلى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ]
هذا قال القاضي حسين في تعليقه أفضل نساء العالمين أزواجه.
ولفظ البغوي خير نساء هذه الأمة وغيرها، وهذا خلاف في مواضع.
أحدها: المفاضلة بينهن وبين مريم ابنة عمران.
والثاني: المفاضلة بين خديجة وعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
والثالث: المفاضلة بين فاطمة وأمها خديجة عليها السلام.
والرابع: المفاضلة بين فاطمة وعائشة.
أما مريم
فخرج البخاري [ (2) ] في المناقب من حديث عبدة عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: سمعت عبد اللَّه بن جعفر قال: سمعت عليا يقول:
__________
[ (1) ] في (الأصل) بعد العنوان مباشرة سطر كامل مطموس معظمه، وما بعده يغنى عنه إن شاء اللَّه تعالى، حيث مضمونه رأى ابن سيده في ذلك.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 166، كتاب مناقب الأنصار، باب (20) تزويج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خديجة وفضلها رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (3815) .
قوله: (خديجة) : هي أول من تزوجها صلى اللَّه عليه وسلّم، وهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي، تجتمع مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في قصي، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور، زوجه إياها أبوها خويلد، ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل:
عمها عمرو بن أسد ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد ذكره ابن إسحاق، وكانت قبله عند أبى هالة بن النباش بن زرارة التميمي حليف بنى عبد الدار، واختلف في اسم هالة فقيل مالك قاله الزبير، وقيل: زرارة حكاه ابن مندة، وقيل: هند جزم به العسكري، وقيل: اسمه النباش جزم به أبو عبيد، وكانت خديجة قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي. وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها إلى الشام، فرأى منه ميسرة غلامها ما رغبها في تزويجه، قال الزبير: وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، وماتت على الصحيح بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، وقيل: بثمان، وقيل: بسبع، فأقامت معه صلى اللَّه عليه وسلّم خمسا وعشرين سنة على الصحيح، وقال ابن عبد البر: أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر، وذلك بعد

(10/267)


سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة وذكره في كتاب الأنبياء أيضا [ (1) ] .
__________
[ () ] مبعث لي الصواب بعشر سنين لا جرم كانت أفضل نسائه على الراجح. وروى الفاكهي في (كتاب مكة) عن أنس: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان عند أبى طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة فقال لها: انظري ما تقول له خديجة؟ قالت نبعة:
فرأيت عجبا، وما هو إلا سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيدها فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت: بأبي وأمى، واللَّه ما أفعل هذا لشيء، ولكنى أرجو أن تكون أنت النبي الّذي ستبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الّذي يبعثك لي. قالت لها:
واللَّه لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الّذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا.
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 582، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (45) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ* ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. [آل عمران: 42- 44] ، يقال (يكفل) :
بضم. كفلها: ضمها، مخففة، ليس من كفالة الديون وشيبها، حديث رقم (3432) .
قوله: (خير نسائها مريم) :
أي نساء أهل الدنيا في زمانها وليس المراد أن مريم خير نسائها لأنه يصير كقولهم زيد أفضل إخوانه، وقد صرحوا بمنعه، فهو كما لو قيل فلان أفضل الدنيا. وقد رواه النسائي من حديث ابن عباس بلفظ «أفضل نساء أهل الجنة» فعلى هذا فالمعنى خير نساء أهل الجنة مريم، وفي رواية «خير نساء العالمين» وهو كقوله تعالى: وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ وظاهره أن مريم أفضل من جميع النساء وهذا لا يمنع عند من يقول إنها نبيه.
وأما من قال ليست بنبية فيحمله على عالمي زمانها، وبالأول جوم الزجاج وجماعة واختاره القرطبي، ويحتمل أيضا أن يراد نساء بنى إسرائيل أو نساء تلك الأمة أو فيه مضمرة والمعنى أنها من جملة النساء الفاضلات، ويدفع ذلك حديث أبى موسى المتقدم بصبغة الحصر أنه يكمل من النساء غيرها وغير آسية.

(10/268)


وخرجه مسلم [ (1) ] في المناقب من حديث أبى أسامة وابن نمير ووكيع وأبى معاوية وعبد بن سليمان كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: سمعت عبد اللَّه بن جعفر يقول سمعت عليا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بالكوفة يقول:
__________
[ () ] قوله: (وخير نسائها خديجة)
أي نساء هذه الأمة قال القاضي أبو بكر بن العربيّ:
خديجة أفضل نساء الأمة مطلقا لهذا الحديث، وقد تقدم في آخر قصة موسى أبى موسى في ذكر مريم وآسية وهو يقتضي فضلهما على غيرهما من النساء، ودل هذا الحديث على أن مريم أفضل من آسية وأن خديجة أفضل نساء هذه الأمة حيث قال: ولم يكمل من النساء، أي من نساء الأمم الماضية، إلا أن حملنا الكمال على النبوة فيكون على إطلاقه.
وعند النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس «أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية» وعند الترمذي بإسناد صحيح عن أنس «حسبك من نساء العالمين» فذكرهن.
وللحاكم من حديث حذيفة «إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتاه ملك فبشره أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 207- 208، كتاب فضائل الصحابة، باب (12) فضائل خديجة أم المؤمنين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (69) ، قال الإمام النووي:
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد وأشار وكيع إلى السماء والأرض)
أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد به جميع نساء الأرض أي كل من بين السماء والأرض من النساء والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه قال: القاضي ويحتمل أن المراد أنهما من خير نساء الأرض والصحيح الأول.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون)
يقال كمل بفتح الميم وضمها وكسرها ثلاث لغات مشهورات الكسر ضعيف قال القاضي: هذا الحديث يستدل به من يقول بنبوة النساء ونبوة آسية ومريم والجمهور على أنهما ليستا نبيتين بل هما صديقتان ووليتان من أولياء اللَّه تعالى ولفظة الكمال تطلق على تمام الشيء وتناهيه في بابه والمراد هنا التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى قال. القاضي فإن قلنا هما نبيتان فلا شك أن غيرهما لا يلحق بهما وإن قلنا وليتان لم يمتنع أن يشاركهما من هذه الأمة غيرهما. هذا كلام القاضي، وهذا الّذي نقله من القول بنبوتهما غريب ضعيف وقد نقل جماعة الإجماع على عدمها واللَّه أعلم.

(10/269)


سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول خير نسائها مريم ابنه عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد، قال أبو كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض.
وخرج الحاكم [ (1) ] من طريق علياء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل نساء العالمين خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ.
وخرج البخاري [ (2) ] في المناقب، وفي كتاب الأنبياء، وفي الأطعمة، من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة الجملي بسنده عن أبى موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا اثنين:
امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وفي بعض طرقه: كفضل عائشة بغير «إن» .
وخرجه مسلم في المناقب
وقد اختلف في نبوة مريم فإن قلنا بنبوتها فتعين تفضيلها على أمهات المؤمنين وإن قلنا: إنها لم تكن نبية فقد ثبت مما تقدم تفضيلها على من عاداها الأمر ذكر فلم يبق إلا المفاضلة بينها وبين خديجة.
قال القاضي عياض في
قوله: خير نسائها مريم خير نسائها خديجة
وأشار وكيع إلى السماء والأرض كأنه تفسير ضمير الهاء في نسائها أنه يريد الدنيا والأرض وذكره لهم يحتمل أن يريد أن كل واحدة خير نساء الأرض في وقتها أو أنهما من خير نسائهم أفضلهن وإن كانت المزايا تعد بينهما وبين غيرهما ممن هو خير النساء متفاضلة.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 650، كتاب تاريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4160) ، وقال عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 687- 688، كتاب الأطعمة، باب (25) الثريد، حديث رقم (5418) ، وأخرجه في كتاب (أحاديث الأنبياء) : باب (46) قوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إلى قوله: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 45- 48] ، حديث رقم (3433) .

(10/270)


وقوله: وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
لسرعة إسخانه والاستلذاذ به وإشباعه وتقديمه على غيره من الأطعمة التي تقوم مقامه وليس هذا نص بتفضيلها على من ذكر من مريم وآسية ويحتمل مساويها أو مثلها قال مؤلفه رحمه اللَّه: قد ثبت لمريم من الفضل ما لم يثبت لغيرها من النساء قال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أي اختارك وطهرك أي من الكفر أو من سائر الأنجاس، واصطفاك على العالمين وقال عليه السلام ولم يكمل من النساء إلا مريم وخديجة، وكان الكمال هنا هو النبوة ويؤيده أن اللَّه أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إليها كسائر الأنبياء وكلمها روح القدس وطهرها ونفخ في درعها وسماها اللَّه الصديقة. وممن قال بنبوتها ابن وهب واختاره أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن اللباء فقيه المغرب وأبو محمد بن أبى زيد وأبو المحاسن الفاسى.

وأما المفاضلة بين خديجة وعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما
ففيها ثلاثة أقوال ثالثها الوقف قال القاضي والمتولي: إن خديجة أفضل من عائشة واستدل أبو بكر بن داود لما سئل عن ذلك بأن عائشة أقرأها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل السلام على لسان محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فهي أفضل، قال فريق: بل عائشة أفضل لدوام صحبتها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم بعد النبوة وطول مدتها إلى موته
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: أريتك في المنام ثلاث ليال جائني ملك الموت في سرقة حرير فيقول هذه امرأتك فاكشف عن وجهها فإذا أنت هي
فأقول أن ذلك من عند اللَّه أمضه.
وخرجه في الصحيحين ووجه الدلالة منه
قوله هذه امرأتك
لأنها كانت حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
وقال: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك قال عائشة:
إلى غير ذلك من فضائل كثيرة وأجيب بأنه ليس كسائر فضائل عائشة ما يبلغ قوله بخير نسائها خديجة وقوله أفضل نساء العالمين خديجة فإنه صريح في بابه فتأمله من

(10/271)


انصرف علم أن لكل منهما فضائل تخصهم فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام وكانت تسلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وتثبته وتسكنه فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في اللَّه ورسوله وكانت نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة تأثيرها في أخر الإسلام فلها من الفقه في الدين وتبليغه للأمة وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها.

فمن خصائص خديجة
أن اللَّه تعالى بعث السلام إليها مع جبريل فبلغها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب وكانت أول من آمن باللَّه ورسوله من هذه الأمة وأولاده كلهم منها ما عدا إبراهيم وهذه فضائل لم تكن لامرأة سواها.

ومن خصائص عائشة
إنها كانت أحب أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ولم يتزوج بكرا غيرها وكان ينزل الوحي في بيتها دون غيرها ولما نزلت آية التخيير فخيرها فاختارت اللَّه ورسوله ما سبقت به بقية الأزواج وبرأها اللَّه مما رماها به أهل الإفك بعشر آيات تليت في المحاريب إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم وأخبر اللَّه تعالى أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرا لها ولم يكن الّذي قيل فيها شرا لها، ولا عارا لها، ولا خافضا من شأنها، بل رفعها بذلك فأعلى قدرها، وعظم شأنها، وأحيا لها ذكرها، بالطيب والسراة من أهل الأرض والسماء.
***

(10/272)


وأما المفاضلة بين فاطمة وأمها خديجة
فلم [نجد] فيها نقلا، وما منهما إلا من له فضائل مشهورة،
وقوله صلى اللَّه تبارك وتعالى عليه وعلى سلّم وسلم: «فاطمة بضعة منى» ،
فلا شرف أعلى منه إلا شرف أبيها المصطفى صلى اللَّه عليه وسلّم.

أما المفاضلة بين فاطمة وعائشة
قال القاضي عياض في
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام:
وليس فيه ما يشعر بتفضيلها على فاطمة إذ قد يكون تمثيل تفضيل فاطمة لو مثلها مما هو أرفع من هذا وبالجملة من هذا الحديث أن عائشة مفضلة على النساء تفضيلا كثيرا وليس فيه عموم جميع النساء.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم فاطمة سيدة نساء أهل الجنة
أعم وأظهر في التفضيل.
وقال ابن دحية في كتاب (مرج البحرين) : ذكر بعض الرواة أن عائشة أفضل من فاطمة واستدل على ذلك بأنها عند على في الجنة وعائشة عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال وهذا لا يوجب التفضيل ثم أطال الرد عليها إلى أن قال سئل العالم الكبير أبو بكر بن داود بن على من أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقالوا
أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أن فاطمة بضعة منى
ولا أعدل ببضعة من رسول اللَّه أحد.
قال السهيليّ: وهذا استقراء حسن وشهد لصحة هذا الاستقراء
أن أبا لبابة حين ارتبط نفسه وحلف ألا يحله إلا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فجاءت فاطمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها تحله فأبى من أجل قسمة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إنما فاطمة بضعة منى فحلته.
قال السهيليّ: هذا حديث يدل على أن من سبها فقد كفر وأن من صلى عليها فقد صلى على أبيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
***

(10/273)