إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

 [المجلد الرابع عشر]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

وأما إخبار الرسول صلى اللَّه عليه وسلم أبا سفيان بن حرب بما حدث به نفسه يوم الفتح من عوده إلى المحاربة وبما قاله لهند
فقال [البيهقي: وقرأت في كتاب] محمد بن سعد عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل بن خالد، عن أبي إسحاق السبيعي أن أبا سفيان بن حرب كان جالسا فقال في نفسه: لو جمعت لمحمد جمعا إنه ليحدث نفسه بذلك إذ ضرب النبي صلى اللَّه عليه وسلم بين كتفيه وقال: إذا يخزيك اللَّه. قال: فرفع رأسه فإذا النبي صلى اللَّه عليه وسلم قائم على رأسه فقال: ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة، إن كنت لأحدث نفسي بذلك [ (1) ] .
وخرجه البيهقي من حديث محمد بن يوسف الفرياني قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: رأى أبو سفيان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يمشي والناس يطئون عقبه فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال! فجاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى ضرب بيده في صدري فقال: إذا يخزيك اللَّه، قال: أتوب إلى اللَّه وأستغفر اللَّه مما تفوهت به [ (2) ] .
ومن حديث محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبى حامد بن الشرقي قالا:
حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، عن محمد بن موسى بن أعين يعني الجزري، عن أبي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 102، باب إسلام هند بنت عتبة بن ربيعة. وفي (الأصل) : «قال محمد بن سعد في الطبقات» ، وهو خلط من النساخ، والخبر رواه ابن سعد عن أبي إسحاق السبيعي، والحاكم في (الإكليل) عن ابن عباس.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 102) ، ثم قال: هكذا وجدته في كتابي موصولا في أبواب فتح مكة من كتاب (الإكليل) .

(14/3)


لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان لهند: أترين هذا من اللَّه؟ ثم أصبحوا، فغدا أبو سفيان إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: قلت لهند: أترين هذا من اللَّه؟ قالت نعم هو من اللَّه، فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد اللَّه ورسوله، والّذي يحلف به أبو سفيان ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا اللَّه- عز وجل- وهند
[ (1) ] .

وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بمجيء عكرمة بن أبي جهل مؤمنا قبل قدومه فكان كذلك
فقال الواقدي [ (2) ] : ثم قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل: يا رسول اللَّه قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمّنه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هو آمن،
فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حي من عك [ (3) ] ، فاستعانتهم عليه [ (4) ] ، فأوثقوه رباطا، وأدركت عكرمة، وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة، فركب البحر، فجعل نؤتي السفينة يقول له: أخلص، فقال: أي شيء أقول؟ قال: قل: لا إله إلا اللَّه قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلحّ إليه وتقول: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، فوقف لها حتى أدركته، فقالت: إني قد استأمنت لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أنت فعلت؟ قالت:
نعم أنا كلمته فأمنك، [قال: وكيف يؤمنني وقد صنعنا به أنا وأبي ما صنعناه؟
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 103.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 851.
[ (3) ] عكّ: مخلاف من مخاليف مكة التهامية.
[ (4) ] كذا في (الأصل) ، وفي (مغازي الواقدي) : «فاستغاثتهم عليه» .

(14/4)


قالت: بلى إنه خير الناس] [ (1) ] ، فرجع معها وقال: ما لقيت من غلامك الروميّ؟ فخبرته خبره،
فقتله عكرمة وهو يومئذ لم يسلم، فلما دنا من مكة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميت، قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها فتأبى عليه، وتقول: إنك كافرا وأنا مسلمة، فيقول: إن أمرا منعك مني لأمر كبير، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عكرمة وثب إليه- وما على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رداء- فرحا بعكرمة، ثم جلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوقف بين يديه ومعه امرأته منتقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال:
صدقت، فأنت آمن، فقال عكرمة: فإلى ما تدع يا محمد؟ قال: أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل حتى عدّ خصال الإيمان [ (2) ] ، فقال عكرمة: واللَّه ما دعوت إلا إلى الحق وإلى أمر حسن جميل، قد كنت فينا واللَّه قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا، وأبرّنا برا، ثم قال عكرمة: فأني أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه [ (3) ] ، فسر بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم قال: يا رسول اللَّه علمني خير شيء أقوله، قال: خير شيء تقوله: أشهد من حضر أني مسلم مهاجر، فقال عكرمة: ذلك ثم ماذا؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تقول أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد من حضر أني مسلم مهاجر، فقال عكرمة ذلك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه، قال عكرمة:
فإنّي أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مسير أوضعت فيه أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو وأنت غائب عنه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، فاغفر له وما نال مني من عرض في وجهي، أو وأنا غائب عنه، فقال عكرمة: رضيت يا رسول اللَّه، ثم قال عكرمة: أما
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين في (الأصل) فقط، وليس في (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المغازي) : خصال الإسلام.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المغازي) : 2/ 852.

(14/5)


واللَّه يا رسول اللَّه لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدّ عن سبيل اللَّه إلا أنفقت ضعفها في سبيل اللَّه، ولا قتالا كنت أقاتل في صدّ عن سبيل اللَّه إلا أبليت ضعفه في سبيل اللَّه، ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيدا، فرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم امرأته بذلك النكاح الأول.

وأما تيقن صفوان بن أمية نبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
فقال الواقدي في ذكر فتح مكة [ (1) ] : وأما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعيبة [ (2) ] وجعل يقول لغلامه يسار وليس معه غيره: ويحك! انظر من ترى؟ قال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ واللَّه ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمدا عليّ فلحقه، فقال: يا عمير، ما كفاك ما صنعت بي؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي! فقال أبو وهب:
جعلت فداءك جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس،
وقد كان عمير قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه، سيد قومي خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه فأمنه، فداك أبي وأمي! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: قد أمنته.
فخرج في أثره فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد أمنك، فقال صفوان: لا واللَّه لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها،
فرجع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه جئت صفوان هاربا يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته، فقال: لا أرجع حتى تأتيني بعلامة أعرفها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: خذ عمامتي، قال:
فرجع عمير إليه بها، وهو البرد الّذي دخل فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يومئذ معتجرا [ (3) ]
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 853- 855.
[ (2) ] الشعيبة: مرفا السفن من ساحل بحر الحجاز، وهو كان مرفا مكة ومرسى سفنها قبل جدة.
[ (3) ] الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه.

(14/6)


به، برد حبرة [ (1) ] ، فخرج عمير في طلبه الثانية حتى جاءه بالبرد، فقال: أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرّ الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، ابن أمك وأبيك، أذكرك اللَّه في نفسك، قال له: أخاف أن أقتل، قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سيّرك شهرين، فهو أوفى الناس وأبرهم، وقد بعث إليك ببرده الّذي دخل به معتجرا، تعرفه؟ قال: نعم، فأخرجه، فقال: نعم هو هو! حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي بالمسلمين العصر بالمسجد، فوقفا، فقال صفوان: كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال:
خمس صلوات، قال: يصلي بهم محمد؟ قال: نعم، فلما سلم صاح صفوان:
يا محمد! إن عمير بن وهب جاءني ببردك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا وإلا سيرتني شهرين، قال: انزل أبا وهب.
قال: لا واللَّه حتى يتبين لي، قال: بل تسير أربعة أشهر، فنزل صفوان، وخرج رسول اللَّه قبل هوازن، وخرج معه صفوان وهو كافر، وأرسل إليه يستعيره سلاحه، فأعاره سلاحه، مائة درع بأداتها، فقال صفوان: طوعا أو كرها؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: [بل] عارية مؤداه، فأعاره، فأمره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحملها إلى حنين، فشهد حنينا والطائف، ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الجعرّانة، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها، ومعه صفوان بن أمية، فجعل صفوان ينظر إلى شعب ملي نعما، وشاء، ورعاء، فأدام إليه النظر ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يرمقه، فقال: أبا وهب يعجبك هذا الشعب؟
قال: نعم، قال: هو لك وما فيه، فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبده ورسوله، وأسلم مكانه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الحبرة: ضرب من ثياب اليمن.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 855.

(14/7)


قال الواقدي [ (1) ] : فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أسلم أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل قبل نسائهم، ثم قدموا على نسائهم في العدة، فردهن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بذلك النكاح، وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة قبل زوجيهما، ثم أسلما، فردّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نساءهم عليهم، وذلك أن إسلامهم كان في عدتهم.
وخرّج الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون، عن شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا، فقال: اغصبا يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة،
فضاع بعضها، فعرض عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يضمنها له، فقال:
أنا اليوم يا رسول اللَّه في الإسلام أرغب [ (2) ] .
وخرّج الترمذي من حديث يحيى بن آدم، عن ابن المبارك، عن يونس ابن يزيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية [ (3) ] :
أعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ.
قال أبو عيسى: حديث صفوان، رواه معمر وغيره، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكأن هذا الحديث أصح وأشبه، وإنما هو «سعيد بن المسيب عن صفوان» [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 617- 619، حديث رقم (27089) ، من حديث صفوان بن أمية- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (3) ] هو صفوان بن أمية بن خلف بن حذافة بن جمح القرشيّ الجمحيّ أمه أيضا جمحية، من ولد جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب، يكنى أبا وهب، وقيل أبا أمية، وهما كنيتان له مشهورتان. (الإستيعاب) : 2/ 718، ترجمة رقم (1214) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) 3/ 53، كتاب الزكاة، باب (30) ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم حديث رقم (666) ثم قال: وقد اختلف أهل في إعطاء المؤلفة قلوبهم، فرأى أكثر أهل العلم أن لا يعطوا، وقالوا: إنما كانوا قوما على عهد النبي، كان يتألفهم على الإسلام حتى أسلموا، ولم.

(14/8)


وخرجه الإمام أحمد من حديث زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية قال:
أعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إليّ [ (1) ] .
__________
[ () ] يروا أن يعطوا اليوم من الزكاة على مثل هذا المعنى، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وغيرهم، وبه يقول أحمد وإسحاق.
وقال بعضهم: من كان اليوم على مثل حال هؤلاء ورأى الإمام أن يتألفهم على الإسلام فأعطاهم، جاز ذلك، وهو قول الشافعيّ. (المرجع السابق) : 54.
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 401، حديث رقم (14880) من حديث صفوان بن أمية العجمي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، 7/ 620، حديث رقم (27090) من حديث صفوان ابن أمية- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وخرجه الإمام مسلم في كتاب الفضائل، باب (14) ما سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شيئا قط فقال: لا، وكثرة عطائه، حديث رقم (59) .

(14/9)


وأما إنجاز اللَّه تعالى وعده لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلم بدخول الناس في دين اللَّه أفواجا بعد فتح مكة
فخرّج البخاريّ في غزوة الفتح [ (1) ] من حديث حماد بن زيد، عن أيوب عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال: قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فتسأله؟
قال: فلقيته فسألته، فقال: كنا بما ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن اللَّه أرسله، أوحى إليه، أو أوحى اللَّه بكذا فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يقرّ في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق.
فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم واللَّه من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حقا، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطوا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 27، كتاب المغازي، باب (54) بدون ترجمة، حديث رقم (4302) ، وفي الحديث حجة للشافعية في إمامة الصبي المميز في الفريضة، وهي خلافية مشهورة، ولم ينصف من قال: إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم ولم يطلع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على اجتهادهم لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبو سعيد وجابر لجواز العزل بكونهم فعلوه على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ولو كان منهيا عنه لنهى عنه في القرآن، وكذا من استدل به بأن ستر العورة في الصلاة ليس شرطا لصحتها، بل هو سنة، ويجزى بدون ذلك، لأنها واقعة حال، فيحتمل أن يكون ذلك بعد علمهم بالحكم. (فتح الباري) .

(14/10)


عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. وخرّجه أبو داود [ (1) ] وسياقة البخاريّ أتم.

وأما تصديق اللَّه تعالى رسوله صلى اللَّه عليه وسلم بأن العزى قد يئست أن تعبد بأرض العرب فلم تعبد بعد مقدمه صلى اللَّه عليه وسلم بحمد اللَّه تبارك وتعالى
فقال الواقدي [ (2) ] : حدثني عبد اللَّه بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي قال: قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مكة يوم الجمعة لعشر ليال بقين من رمضان، فبث السرايا في كل وجه، وأمرهم أن يغيروا على من لم يكن على الإسلام، فخرج هشام بن العاص في مائتين، قبل يلملم [ (3) ] ، فخرج خالد بن سعيد بن العاص في ثلاثمائة قبل عرنة، وبعث خالد بن الوليد في ثلاثين فارسا من أصحابه [إلى]
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 1/ 393- 394، كتاب الصلاة، باب (61) من أحق بالإمامة، حديث رقم (585) ، وقد اختلف الناس في إمامة الصبي غير البالغ إذا عقل الصلاة، فمن أجاز ذلك:
الحسن وإسحاق بن راهويه، وقال الشافعيّ: يؤم الصبي غير المحتلم إذا عقل الصلاة إلا في الجمعة، وكره الصلاة خلف الغلام قبل أن يحتلم: عطاء والشعبيّ ومالك والثوريّ والأوزاعيّ، وعليه ذهب أصحاب الرأي وكان أحمد بن حنبل يضعف أمر عمرو بن سلمة.
وقال مرة: دعه ليس بشيء بيّن، وقال الزهريّ: إذا اضطروا إليه أمهم قال الخطيبي، وفي جواز صلاة عمرو بن سلمة لقومه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، لأن صلاة النبي نافلة. (معالم السنن) .
وأخرجه النسائي في الإمامة، باب (11) إمامة الغلام قبل أن يحتلم، حديث رقم (788) ، قال الإمام السندي في (حاشيته على سنن النسائي) : وفيه دليل على إمامة الصبيّ للمكلفين، ومن لا يقول به يحمل الحديث على أنه كان بلا علم من النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم، فلا حجة فيه، واللَّه- تعالى- أعلم.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 783- 784، شأن هدم العزى.
[ (3) ] يلملم: موضع على ليلتين من مكة، وقيل: هو جبل من الطائف على ليلتين.

(14/11)


[العزى] انتهى إليها فهدمها، ثم رجع إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: هدمت العزى؟ قال:
نعم يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال:
فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد وهو متغيظ، فلما انتهى إليها جرد سيفه، فخرجت امرأة سوداء عريانة ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، قال خالد: وأخذني اقشعرار في ظهري، فجعل يصيح:
أيا عزّ شدى شدة لا تكذّبي ... على خالد ألقى القناع وشمّري
أيا عزّ إن لم تقتلي المرء خالدا ... فبوئي بذنب عاجل أو تنصري
يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إني وجدت اللَّه قد أهانك
قال: وأقبل خالد بالسيف وهو يقول:
كفرانك لا سبحانك ... إني وجدت اللَّه قل أهانك
فضربها بالسيف فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأخبره، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم تلك العزّى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا، ثم قال خالد: أي رسول اللَّه، الحمد للَّه الّذي أكرمنا بك وأنقذنا من الهلكة، ولقد كنت أرى أبي يأتي العزى بحترة [ (1) ] مائة من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى ويقيم عندها ثلاثا، ثم ينصرف إلينا مسرورا، فنظرت إلى ما مات عليه أبي، ذلك الرأي الّذي كان يعاش في فضله، كيف خدع حتى صار يذبح لحجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا الأمر إلى اللَّه فمن يسره للهدى تيسّر ومن يسره للضلالة كان فيها.
وكان هدمها لخمس ليال بقين من رمضان سنة ثمان، وكان سادنها أفلح ابن النضر الشيبانيّ من بني سليم، فلما حضرته الوفاة دخل عليه وهو حزين، فقال له أبو لهب: ما لي أراك حزينا؟ قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدي، قال له أبو لهب: لا تحزن، فأنا أقوم عليها بعدك، فجعل كل من لقي قال: إن تظهر العزى كنت قد اتخدت يدا عندها بقيامي عليها، وإن يظهر محمد على العزى- ولا أراه يظهر- يا ابن أخي، فأنزل اللَّه- تعالى-:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ويقال: إنه قال هذا في اللات.
__________
[ (1) ] الحترة بكسر الحاء: العطية اليسيرة.

(14/12)


وخرّج البيهقيّ [ (1) ] من طريق أحمد بن عليّ بن المثنى، قال: حدثنا أبو كريب، عن محمد بن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها خالد بن الوليد، وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات [ (2) ] ، وهدم البيت الّذي كان عليها،
ثم أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئا، فرجع خالد فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها، أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى خبليه [ (3) ] ، يا عزى عوريه، وإلا فموتي برغم، قال: فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره فقال: تلك العزى.
وخرّج البيهقيّ [ (4) ] من حديث مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينهم.
ومن حديث وكيع [ (5) ] عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن التحريش [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 77، باب ما جاء في بعثة خالد بن الوليد إلى نخلة كانت بها العزى، وما ظهر في ذلك من الآثار.
[ (2) ] السمرات: الشجرات.
[ (3) ] من الخبال، وهو النقصان والهلاك.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 363، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن المسلمين لا يعبدون الشيطان في جزيرة العرب، يريد أصحابه فمن بعدهم فكان كما قال: ثم كان كما أخبر به من التحريش بينهم في آخر أيامه.
[ (5) ] (المرجع السابق) .
[ (6) ] أي أنه يسعى بينهم في الخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب المنافقين، باب (16) تحريش الشيطان وبعث سراياه لفتنة الناس، حديث رقم (65) .

(14/13)


وأما كفاية اللَّه تعالى أمر الّذي أراد قتله قريب أوطاس
فقال الواقدي [ (1) ] : حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كانت ذات أنواط شجرة عظيمة، أهل الجاهلية يذبحون لها [ (2) ] ويعكفون عليها يوما، وكان من حج منهم وضع رداءه عندها، ويدخل بغير رداء تعظيما لها، فلما سار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حنين، قال له رهط من أصحابه فيهم الحارث بن مالك: يا رسول اللَّه اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فكبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثا، وقال: هكذا فعل قوم موسى بموسى.
قال: قال أبو بردة بن نيار: لما كنا دوين أوطاس نزلنا تحت شجرة، ونظرنا إلى شجرة عظيمة، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحتها، وعلق بها سيفه وقوسه، قال: وكنت من أقرب أصحابه إليه، قال: فما أفزعني إلا صوته:
يا أبا بردة! فقلت: لبيك، وأقبلت سريعا، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس وعنده رجل جالس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا الرجل جاء وأنا نائم، فسل سيفي، ثم قام به على رأسي، ففزعت منه وهو يقول: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قلت: اللَّه، قال أبو بردة: فوثبت إلى سيفي فسللته، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شمّ سيفك، قال: قلت يا رسول اللَّه، دعني أضرب عنق عدو اللَّه، فإن هذا من عيون المشركين، فقال لي: اسكت يا أبا بردة، قال: فما قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا، ولا عاقبه، قال: فجعلت أصيح به في العسكر ليشهده الناس فيقتله قاتل بغير أمر رسول اللَّه، فأما أنا فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد كفني عن قتله، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اللَّه عن الرجل يا أبا بردة! قال: فرجعت إلى
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 891- 892، غزوة حنين، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، (وفي المغازي) : «بها» .

(14/14)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا أبا بردة إن اللَّه مانعي وحافظي حتى يظهر دينه على الدين كله [ (1) ] ،
وقد تقدم وقوع مثل هذا في مرتين:
إحداهما: من دعثور في غزوة ذي أمر.
والأخرى: من ابن غورث في ذات الرقاع.

وأما كفاية اللَّه تعالى له كيد شيبة بن عثمان بن أبي طلحة يوم حنين وهدايته إلى الإسلام بدعائه وإخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم شيبة بما هم به
فقال ابن إسحاق [ (2) ] : وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بنى عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثأرى، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمدا، قال: فأدرت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشي فؤادي، فلم أطق ذاك فعرفت أنه ممنوع [مني] .
وقال الواقدي [ (3) ] : وكان شيبة بن عثمان بن أبي طلحة قد تعاهد هو وصفوان بن أمية حين وجّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حنين، وكان أمية بن خلف قتل يوم بدر، وكان عثمان بن أبي طلحة قتل يوم أحد، فكانا تعاهدا إن رأيا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دائرة أن يكونا عليه وهما خلفه، قال شيبة: فأدخل اللَّه الإيمان قلوبنا، قال شيبة، لقد هممت بقتله، فأقبل شيء حتى تغشي فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني. وقال: قد غشيتني ظلمة حتى لا أبصر، فعرفت أنه ممتنع مني، وأيقنت بالإسلام.
__________
[ (1) ] إلى هنا آخر رواية الواقدي.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 112، شيبة بن طلحة يحاول قتل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 909- 910، غزوة حنين.

(14/15)


وقال الواقدي [ (1) ] : وقد سمعت في قصة شيبة وجها آخر، كان شيبة بن عثمان يقول: لما رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غزا مكة فظفر بها، وخرج إلى هوازن، قلت: أخرج لعلي أدرك ثأرى، وذكرت قتل أبي يوم أحد، قتله حمزة، وعمي قتله عليّ، قال: فلما انهزم أصحابه جئته عن يمينه، فإذا العباس قائم عليه درع بيضاء كالفضة ينكشف عنها العجاج [ (2) ] ، فقلت: عمه لن يخذله! فجئته عن يساره، فإذا بأبي سفيان ابن عمه، فقلت: ابن عمه ان يخذله! فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسوره بالسيف إذ رفع لي فيما بيني وبينه شواظ [ (3) ] من نار كأنه برق، وخفت أن يمحشني [ (4) ] ، ووضعت يدي على بصري، ومشيت القهقرى
والتفت إليّ وقال: يا شيب يا شيب، أدن مني، فوضع يده على صدري وقال: اللَّهمّ أذهب عنه الشيطان، قال: فرفعت إليه رأسي، وهو أحب إليّ من سمعي، وبصري، وقلبي، ثم قال: يا شيب، قاتل الكفار! قال: فتقدمت بين يديه أحب واللَّه أن أقيه بنفسي وبكل شيء، فلما انهزمت هوازن، رجع إلى منزله، ودخلت عليه فقال: الحمد للَّه الّذي أراد بك خيرا مما أردت، ثم حدثني بما هممت به.
وخرّج الإمام أبو بكر البيهقيّ [ (5) ] هذه القصة من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثني عبد اللَّه بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان، قال: لما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين قد عرى، ذكرت أبي وعمي، وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت: اليوم أدرك ثأري من محمد، قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء، كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت: عمه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] العجاج: الغبار.
[ (3) ] الشواظ: اللهب الّذي لا دخان له.
[ (4) ] يمحشني: يحرقني.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 145، باب رمي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وجوه الكفار، والرعب الّذي ألقى في قلوبهم، ونزول الملائكة وما ظهر في كل واحد من هذه الأنواع من آثار النبوة.

(14/16)


ولن يخذله، قال: ثم جئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت: ابن عمه ولن يخذله، قال: ثم جئت من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت تمحشني، فوضعت يدي على بصري، ومشيت القهقرى،
والتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا شيب، يا شيب ادن مني، اللَّهمّ أذهب عنه الشيطان، قال:
فرفعت إليه بصري ولهو أحب إليّ من سمعي، وبصري وقال: يا شيب قاتل الكفار.
وخرّج من طريق محمد بن يعقوب قال: حدثنا العباس بن محمد، عن محمد بن بكير الحضرميّ، عن أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة، عن أبيه قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين، واللَّه ما أخرجني إسلام ولا معرفة به، ولكن أيقنت أن تظهر هوازن على قريش، فقلت وأنا واقف معه: يا رسول اللَّه إني أرى خيلا بلقا، قال: يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر، فضرب بيده على صدري، ثم قال: اللَّهمّ اهد شيبة، ثم ضربها الثانية، ثم قال: اللَّهمّ اهد شيبة، ثم ضربها الثالثة، فقال: اللَّهمّ اهد شيبة، فو اللَّه ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق اللَّه أحب إليّ منه، وذكر الحديث [ (1) ] [في التقاء الناس وانهزام المسلمين، ونداء العباس، واستنصار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى هزم اللَّه المشركين] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 146.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(14/17)


وأما إعلام اللَّه- تعالى- رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بما قاله عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر لأهل الحصن بالطائف
فخرج البيهقيّ [ (1) ] من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: وأقبل عيينة بن بدر حتى جاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ائذن لي أن أكلمهم لعلّ اللَّه أن يهديهم، فأذن له، فانطلق حتى دخل عليهم الحصن، فقال:
بأبي أنتم تمسكوا بمكانكم، واللَّه لنحن أذل من العبيد، وأقسم باللَّه لئن حدث به حدث، لتملكن العرب عزا ومنعة، فتمسكوا بحصنكم، وإياكم أن تعطوا بأيديكم، ولا يتكاثرون عليكم قطع هذا الشجر، ثم رجع عيينة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ماذا قلت لهم يا عيينة؟ قال: قلت لهم وأمرتهم بالإسلام ودعوتهم إليه، وحذرتهم النار، ودللتهم على الجنة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبت، بل قلت لهم: كذا وكذا فقصّ عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديثه، فقال: صدقت يا رسول اللَّه، أتوب إلى اللَّه- عز وجل- وإليك من ذلك، فلما أخذ الناس في القطع قال عيينة بن بدر ليعلى بن مرة: حرام عليّ أن أقطع حظي من الكرم، فقال يعلي بن مرة: إن شئت قطعت نصيبك، فماذا ترى؟
قال عيينة: أرى أن تدخل جهنم، فكانت هذه ريبة من عيينة في دينه، وسمع بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فغضب منه، وأوعد عيينة، وقال: أنت صاحب العمل أولى لك فأولى.
وقال الواقدي [ (2) ] في غزوة الطائف: قالوا: وقال عيينة: يا رسول اللَّه ائذن لي حتى أتي حصن الطائف فأكلمهم، فأذن له، فجاءه فقال: أدنو منكم
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 163- 164، باب استئذان عيينة بن حصن بن بدر في مجيئه ثقيفا، وإطلاع اللَّه عزّ وجلّ رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما قال لهم، وأخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 531، باب وما ذكر في غزوة الطائف حديث رقم (460) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 932- 933.

(14/18)


وأنا آمن؟ قالوا: نعم، وعرفه أبو محجن فقال: ادن، فدنا، قال لي:
ادخل، فدخل عليهم الحصن، فقال: فداءكم أبي وأمي، واللَّه لقد سرني ما رأيت منكم، واللَّه أني إلى العرب أحدا غيركم! واللَّه ما لاقي محمد مثلكم قط ولقد ملّ المقام فأثبتوا في حصنكم فإن حصنكم حصين، وسلاحكم كثير وماءكم، واتن لا تخافون قطعه، فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: فإن كرهنا دخوله وخشينا أن يخبر محمدا بخلل إن رآه فينا أو في حصننا.
قال أبو محجن: أنا كنت أعرف له، ليس منا أحد أشدّ على محمد وإن كان معه، فلما رجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: ما قلت لهم؟ قال: قلت لهم ادخلوا في الإسلام، فو اللَّه لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا، فخذوا لأنفسكم أمانا قد نزل بساحة أهل الحصون قبلكم قينقاع، والنضير، وقريظة، وخيبر أهل الحلقة، والعدة، والآطام، فخذّلتهم ما استطعت. ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ساكت عنه
حتى إذا فرغ من حديثه قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبت! قلت لهم كذا وكذا للذي قال، فقال عيينة: استغفر اللَّه، فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
يا رسول اللَّه دعني أقدمه فأضرب عنقه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي،
ويقال: إن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أغلظ له يومئذ وقال: ويحك يا عيينة إنما أنت أبدا توضع في الباطل، كم لنا منك من يوم بني النضير، وقريظة، وخيبر، تجلب علينا عدونا، وتقاتلنا بسيفك، ثم أسلمت كما زعمت، فتحرض علينا عدونا! قال: أستغفر اللَّه يا أبا بكر، وأتوب إليه، لا أعود أبدا.

(14/19)


وأما تسبيح سارية مصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالطائف
فقال الواقدي [ (1) ] : وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد ضرب لزوجتيه قبتين، ثم كان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله، وقد اختلف علينا في حصاره، فقال قائل: ثمانية عشر يوما، وقال قائل: تسعة عشر يوما، وقال قائل: خمسة عشر يوما، وكل ذلك وهو يصلي بين القبتين ركعتين، فلما أسلمت ثقيف، بنى أمية ابن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك، على مصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسجدا، وكان فيه سارية لا تطلع الشمس عليها من الدهر إلا يسمع لها نقيض [ (2) ] أكثر من عشر مرار، فكانوا يرون أنّ ذلك تسبيحا.

وأما إجابة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رجل يقوم على حصن الطائف
فقال الواقدي [ (3) ] : وكان رجل يقوم على الحصن فيقول: روحوا رعاء الشاء! روحوا جلابيب محمد! روحوا عبيد محمد! أترونا نتباءس على أحبل أصبتموها من كرومنا؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ روح مروّحا إلى النار،
قال سعد بن أبي وقاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فأهوى له بسهم فوقع في نحره، فهوى من الحصن ميتا، قال: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد سرّ بذلك.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 927.
[ (2) ] النقيض: الصوت.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 929.

(14/20)


وأما إجابة دعائه صلى اللَّه عليه وسلّم في هداية ثقيف ومجيئهم إليه
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: أقبلت امرأة من المهاجرات كانت مع زوجها في الجيش يقال لها: خولة بنت حكيم، كانت ممن بايع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت قبل ذلك تحت عثمان بن مظعون قبل بدر، فدخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه ما يمنعك أن تنهض إلى أهل الطائف، قال: لم يؤذن لنا حتى الآن فيهم، وما أظن أن نفتحها الآن، فأقبل عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فلقيها خارجة من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: هل ذكر لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا بعد؟
قالت: أخبرني أنه لم يؤذن له في قتال أهل الطائف بعد، فلما رأى ذلك عمر ابن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- اجترأ على كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ألا تدعو على أهل الطائف فتنهض إليهم لعل اللَّه- عزّ وجلّ- يفتحها فإن أصحابك كثير، وقد شق عليهم الحبس، ومنعهم معايشهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لم يؤذن لنا في قتالهم، فلما رأى ذلك عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أفلا آمر الناس فلا يسرحوا ظهرهم حتى يرتحلوا بالغداة؟ قال: بلى، فانطلق عمر حتى أذن في الناس بالقفول وأمرهم أن لا يسرحوا ظهرهم، فأصبحوا وارتحل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، ودعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين ركب قافلا: اللَّهمّ اهدهم واكفنا مئونتهم.
وقال الواقدي [ (2) ] : وجاءت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص السلمية وهي امرأة عثمان بن مظعون، فقالت: يا رسول اللَّه أعطني إن فتح اللَّه عليك حلي الفارعة بنت الخزاعي، أو بادية بنت غيلان، وكانتا من أجمل نساء
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 168- 169، باب إذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقفول من الطائف، ودعائه لثقيف بالهداية، وإجابة اللَّه- تعالى- دعاءه.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 935- 936، شأن غزوة الطائف.

(14/21)


ثقيف، فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة؟
قال: فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر، فدخل عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على رسول اللَّه ولم يؤذن لك فيهم؟ قال: لا، قال: أفلا أؤذن في الناس بالرحيل؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بلى،
فأذن عمر بالرحيل، فجعل المسلمون يتكلمون، يمشي بعضهم إلى بعض، فقالوا: ننصرف ولا نفتح الطائف! لا نبرح حتى تفتح علينا، واللَّه إنهم أذل وأقل من لاقينا، قد لقينا جمع مكة، وجمع هوازن، ففرق اللَّه تلك الجموع، وإنما هؤلاء ثعلب في جحر لو حصرناهم لماتوا في حصنهم هذا، وكثر القول بينهم والاختلاف، فمشوا إلى أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فكلموه [ (1) ] ، فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[ (2) ] : اللَّه ورسوله أعلم، والأمر ينزل عليه من السماء.
فكلموا عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأبى وقال: قد رأينا الحديبيّة وداخلني في الحديبيّة من الشك ما لا يعلمه إلا اللَّه، وراجعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ بكلام، ليت أني لم أفعل وأن أهلي ومالي ذهبا، ثم كانت الخيرة لنا من اللَّه فيما صنع، فلم يكن فتح كان خيرا للناس من صلح الحديبيّة بلا سيف، دخل فيه من أهل الإسلام مثل من كان دخل من يوم بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إلى يوم كتب الكتاب، فاتهموا الرأي، والخيرة فيما صنع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولن أراجعه في شيء من ذلك الأمر أبدا، والأمر أمر اللَّه، وهو يوحي إلى نبيه ما يشاء.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد قال لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إني رأيت، أني أهديت لي قعبة [ (3) ] مملوءة زبدا، فنقرها ديك فأهراق ما فيها، قال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ما أظن أن تدرك منهم يا رسول اللَّه يومك هذا ما تريد، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأنا لا أرى ذلك.
__________
[ (1) ] كذا بالأصل، وفي (المغازي) : «فتكلموا»
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] القعبة: القدح.

(14/22)


[قال الواقدي] [ (1) ] حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما مضت خمس عشرة ليلة من حصارهم استشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نوفل بن معاوية الديليّ فقال: يا نوفل ما [تقول أو] ترى؟ فقال: يا رسول اللَّه ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك شيء، قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ولم يؤذن لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فتحها.
قال وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عمر فأذن في الناس بالرحيل، فجعل الناس يضجون من ذلك، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فاغدوا على القتال، فغدوا، فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا قافلون إن شاء اللَّه، فسروا بذلك وأذعنوا [ (2) ] ، وجعلوا يرحلون، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يضحك، فلما استقل الناس لوجههم نادى سعد بن عبيد بن أسيد بن عمرو بن علاج الثقفي قال: ألا إن الحي مقيم.
قال: يقول عيينة بن حصن: أجل واللَّه مجدة كرام، فقال له عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: قاتلك اللَّه، تمدح قوما مشركين بالامتناع من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد جئت تنصره؟ فقال: إني واللَّه ما جئت معكم أقاتل ثقيفا، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف، فأصيب جارية من ثقيف فأطأها لعلها تلد لي رجلا، فإن ثقيفا قوم مباركون.
قال: فأخبر عمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمقالته فتبسم صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال: هذا الأحمق [ (3) ] المطاع، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه حين أرادوا أن يرتحلوا:
قولوا: لا إله إلا اللَّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا آئبون إن شاء اللَّه تائبون، عابدون
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ] أذعن: أسرع في الطاعة.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المغازي) : «الحمق» .

(14/23)


لربنا حامدون، ولما ظعن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الطائف قيل: يا رسول اللَّه ادع اللَّه على ثقيف فقال: اللَّهمّ اهد ثقيفا وائت بهم [ (1) ] .
وقال ابن إسحاق [ (2) ] : حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم وعبد اللَّه بن المكرم عمن أدركوا من أهل العلم، قالوا: حاصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك، ثم انصرفوا عنهم ولم يؤذن فيهم، فقدم المدينة فجاءه وفدهم في رمضان فأسلموا.

وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ذي الخويصرة بأنه وأصحابه يمرقون من الدين فكان كما أخبر
يروي قتيبة بن سعيد وأبو خيثمة وإسحاق بن إبراهيم الحنظليّ وعثمان ابن أبي شيبة قالوا جميعا: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه يعني ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قالوا: لما كان يوم حنين آثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: واللَّه إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه اللَّه! قال: فقلت: واللَّه لأخبرن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتيته فأخبرته بما قال الرجل، فتغيّر وجهه حتى صار كالصرف، قال: فمن يعدل إذا لم يعدل اللَّه
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 156، أبو بكر يفسر رؤيا رسول اللَّه وفيها: فإن ثقيفا قوم مناكير وما.. أثبتناه من الواقدي.
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «فحصرهم بضعا وعشرين ليلة، قال ابن هشام: سبع عشرة ليلة» .

(14/24)


ورسوله؟ ثم قال: يرحم اللَّه موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر، قال:
فقلت: لا جرم، لا أرفع إليه بعد هذا حديثا [ (1) ] .
لفظ أبي خيثمة: وقال إسحاق مثل ذلك إلا أنه قال: وآثر ناسا من أشراف العرب، وقال: أو ما أريد به وجه اللَّه، وحديث قتيبة وعثمان على لفظ أبي خيثمة إلا أنهما قالا: أو ما أريد به وجه اللَّه- تعالى-، رواه البخاريّ [ (2) ] ، في (الصحيح عن قتيبة) ، ورواه مسلم [ (3) ] ، عن أبي خيثمة وإسحاق بن إبراهيم وعثمان بن أبي شيبة، وذكر الواقدي أن المتكلم بهذا معتب ابن قشير العمري [ (4) ] .
وقال يحيى بن بكير ومحمد بن رمح: حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقبض منها يعطي الناس، فقال: يا محمد: اعدل، فقال:
ويلك! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: دعني يا رسول اللَّه فأقتل هذا المنافق، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: معاذ اللَّه أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 184- 185، باب اعتراض من اعترض من أهل النفاق في قسمة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين، وإخبار النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عن خروج أشباه له يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، وإخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن آيتهم وما ظهر في ذلك من علامات النبوة.
[ (2) ] (فتح الباري) : 309، كتاب فرض الخمس، باب (19) ما كان النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، حديث رقم (3150) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النوويّ) : 7/ 164، كتاب الزكاة، باب (46) إعطاء المؤلفة قلوبهم، حديث رقم (140) .
[ (4) ] (مغازي الواقديّ) : 3/ 949.

(14/25)


وأصحابه يقرءون القرآن، لا يجاوز خناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية، لفظ حديث ابن رمح، خرّجه عنه مسلم [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق قال: حدثني أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، فلقينا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يطوف بالكعبة معلقا نعليه في يده، فقلنا له: هل حضرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعنده ذو الخويصرة التميمي يكلمه؟ قال:
نعم، ثم حدثنا فقال: أتى ذو الخويصرة التميمي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقسم المقاسم بحنين، فقال: يا محمد! قد رأيت ما صنعت قال: وكيف رأيت؟
قال: ما رأيتك عدلت، فغضب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه ألا أقوم إليه فأضرب عنقه؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعه عنك، فإنه سيكون لهذا شيعة يتعمقون في الدين حتى يمرقوا كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا تجد شيئا، وتنظر في القدح فلا تجد شيئا، ثم تنظر في الفوق فلا تجد شيئا، سبق الفرث والدم [ (2) ] .
وروي بشر بن شعيب بن أبي حمزة، عن أبيه، عن الزهريّ قال:
أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بينا نحن عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة- رجل من بني تميم- فقال: يا رسول اللَّه! اعدل، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟ وقد خبت وخسرت إن لم أعدل.
قال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه ائذن لي فيه أضرب عنقه، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم، صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن، لا
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النوويّ) : 7/ 165، كتاب الزكاة، باب (47) ذكر الخوارج وصفاتهم، حديث رقم (142) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 186- 187.

(14/26)


يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافة فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم في قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأشهد أن عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي نعت [ (1) ] .
خرّجه البخاريّ عن أبي اليمان، عن شعيب، وأخرجاه من وجه آخر عن الزهريّ، فأخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم بخروج قوم فيهم رجل مخدّج اليد، عند افتراق يكون بين المسلمين، وأنه يقتلهم أولى الطائفتين بالحق فكان كذلك، وخرجوا حين وقعت الفرقة بين أهل العراق وأهل الشام، وقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ووجدوا المخدّج كما وصف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكان ذلك علم من أعلام النبوة ظهر بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] ، وسيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء اللَّه تعالى.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 187- 188، والرصاف: مدخل النصل من السهم، النضي:
السهم بلا نصل ولا ريش، القذذ: ريش السهم، سبق الفرث والدم: أي أن السهم قد جاوز هما ولم يعلق فيه منهما شيء، تدردر: تضطرب.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 766، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام حديث رقم (3610) ، وأخرجه في كتاب الأدب، عن عبد الرحمن بن إبراهيم، وفي كتاب استتابة المرتدين، عن محمد بن المثنى.
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الزكاة، باب (47) ذكر الخوارج وصفاتهم، حديث رقم (148) .

(14/27)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عروة بن مسعود الثقفيّ بأن قومه يقتلونه فكان كذلك
فقال ابن لهيعة: عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال: فلما صدر أبو بكر وعليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وأقاما [ (1) ] للناس الحج، قدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسلما [ (2) ] ، وقال موسى بن عقبة:
وأقام أبو بكر للناس حجتهم [ (3) ] ، وقدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم استأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليرجع إلى قومه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني أخاف أن يقتلوك، قال: لو وجدوني نائما ما أيقظوني، فأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فرجع إلى الطائف وقدم الطائف عشيا، فجاءته ثقيف فحيوه، ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم، فاتهموه، وعصوه، وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عليه، فخرجوا من عنده حتى إذا أسحر [ (4) ] وطلع الفجر قام على غرفة له في داره، فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله،
فزعموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بلغه قتله، قال: مثل عروة مثل صاحب ياسين حين دعا قومه إلى اللَّه فقتلوه [ (5) ] .
وقال الواقدي [ (6) ] :
__________
[ (1) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «وأقام» .
[ (2) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «فأسلم» .
[ (3) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «حجتهم» .
[ (4) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «سحر» .
[ (5) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 299- 300، باب قدوم وفد ثقيف وهم أهل الطائف على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتصديق ما قال في عروة ابن مسعود الثقفيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ثمّ إجابة اللَّه- تعالى- دعاءه في هداية ثقيف.
[ (6) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 960- 962، قدوم عروة بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.

(14/28)


قالوا: كان عروة بن مسعود حين حاصر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل الطائف بجرش يتعلم عمل الدبابات [ (1) ] والمنجنيق [ (2) ] ، ثم رجع إلى الطائف بعد أن ولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعمل المنجنيق والدبابات والعرادات [ (3) ] ، وأعد ذلك حتى قذف اللَّه في قلبه الإسلام.
فقدم المدينة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلم، ثم قال: يا رسول اللَّه ائذن لي فأتي قومي فأدعوهم إلى الإسلام، فو اللَّه ما رأيت مثل هذا الدين ذهب عنه ذاهب، فأقدم على أصحابي وقومي بخير قادم، وما قدم وافد قط على قومه إلا من قدم بمثل ما قدمت به، وقد سبقت يا رسول اللَّه في مواطن كثيرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنهم إذا قاتلوك، قال: يا رسول اللَّه لأنا أحب إليهم من أبكار أولادهم.
ثم استأذنه الثانية، فأعاد عليه الكلام الأول، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنهم إذا قاتلوك. فقال: يا رسول اللَّه لو وجدوني نائما ما أيقظوني، واستأذنه الثالثة فقال: إن شئت فاخرج.
فخرج إلى الطائف فسار إليها خمسا، فقدم على قومه عشاء فدخل منزله، فأنكر قومه دخوله منزله من قبل أن يأتي الربة [ (4) ] ، ثم قالوا: السفر قد حصره [ (5) ] ، فجاءوا منزله، فحيوه بتحية الشرك، فكان أول ما أنكر عليهم تحية الشرك، فقال: عليكم تحية أهل الجنة، ثم دعاهم إلى الإسلام وقال: يا قوم أتتهمونني؟ ألستم تعملون أني أوسطكم نسبا، وأكثركم مالا، وأعزكم نفرا؟ فما حملني على الإسلام إلا أني رأيت أمرا لا يذهب عنه ذاهب، وأقبلوا
__________
[ (1) ] الدبّابة- بالدال المهملة فموحدة مشددة، وبعد الألف موحدة فتاء تأنيث-: آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال، فيندفعون بها إلى الأسوار لينقبوها.
[ (2) ] المنجنيق- بفتح الميم وقد تكسر، يؤنث وهو أكثر، ويذكر فيقال: هي المنجنيق، وعلى التذكير: هو المنجنيق، ويقال: المنجنوق ومنجليق، وهو معرب، وأول من عمله قبل الإسلام إبليس- لعنه اللَّه- حين أرادوا رمي سيدنا إبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام.
أما في الجاهلية فيذكر أن جذيمة- بضم الجيم، وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية- ابن مالك المعروف بالأبرش، أول من رمى بها، وهو من ملوك الطوائف.
[ (3) ] العرادة: أصغر من المنجنيق.
[ (4) ] يعنى: اللات.
[ (5) ] حصره: أي منعه عن مقصده.

(14/29)


فما حملني على الإسلام إلا أن رأيت أمرا لا يذهب عنه ذاهب، وأقبلوا نصحي ولا تستعصوني، فو اللَّه ما قدم وافد قط على قوم بأفضل مما قدمت به عليكم، فاتهموه، واستغشوه، وقالوا: قد واللات وقع في أنفسنا حيث لم تقرب الربة، ولم تحلق رأسك عندها أنك قد صبوت فآذوه ونالوا منه، وحلم عليهم، فخرجوا من عنده يأتمرون كيف يصنعون به حتى إذا طلع الفجر أوفى على غرفة له، فأذّن بالصلاة، فرماه رجل من رهطه من الأحلاف يقال له:
وهب ابن جابر، ويقال: الّذي رماه أوس بن عوف بن بني مالك، وهذا أثبت عندنا.
وكان عروة رجل من الأحلاف فأصاب أكحله [ (1) ] فلم يرقأ دمه [ (2) ] وحشد قومه في السلاح وجمع الآخرون وتجايشوا، فلما رأى عروة ما يصنعون قال:
لا تقتتلوا فيّ، فإنّي قد تصدقت بدمي على صاحبه ليصلح بذلك نبيكم، فهي كرامة اللَّه أكرمني بها، الشهادة ساقها اللَّه إليّ، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، واللَّه خبرني عنكم هذا أنكم تقتلونني، ثم قال لرهطه: ادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يرتحل عنكم، قال: فدفنوه معهم،
وبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتله، فقال: مثل عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى اللَّه- تعالى- فقتلوه.
ويقال: إن عروة لم يقدم المدينة وإنما لحق رسول اللَّه بين مكة والمدينة فأسلم، ثم انصرف، والقول الأول أثبت عندنا،
فلما قتل عروة قال ابنه أبو مليح بن عروة بن مسعود وابن أخيه قارب بن الأسود بن مسعود لأهل الطائف: لا نجامعكم على شيء أبدا، وقد قتلتم عروة، ثم لحقا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلما، فقال لهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: توليا من شئتما، قالا: نتولى اللَّه ورسوله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وخالكما أبو سفيان بن حرب، حالفاه ففعلا، ونزلا على المغيرة بن شعبة، فأقاما بالمدينة حتى قدم وفد ثقيف في رمضان سنة تسع واللَّه- تعالى- أعلم.
__________
[ (1) ] الأكحل: عرق في اليد.
[ (2) ] رقأ الدم: إذا سكن وانقطع.

(14/30)


وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء رسوله صلى اللَّه عليه وسلم على حارثة بن عمرو
فقال الواقدي [ (1) ] : حدثني رشيد أبو موهوب، عن جابر بن أبي سلمى وعنبسة بن أبي سلمى قالا: كتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى حارثة بن عمرو بن قريظ يدعوهم إلى الإسلام فأخذوا صحيفته فغسلوها، ورقعوا بها است دلوهم، وأبوا أن يجيبوا، فقالت أم حبيب بنت عامر بن خالد بن عمرو بن قريط بن عبد بن أبي بكرة وخاصمتهم في بيت لها فقالت فيه شعرا.
قالوا: فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما لهم أذهب اللَّه بعقولهم فهم أهل رعدة وعجلة، وكلام مختلط، وأهل سفه،
وكان الّذي جاءهم بالكتاب رجل من عرينة يقال له: عبد اللَّه بن عوسجة، لمستهل ربيع الأول سنة تسع.
قال الواقدي- رحمه اللَّه-: رأيت بعضهم عييا لا يبين الكلام، واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 982- 983، سرية بني كلاب أميرها الضحاك بن سفيان الكلابي.

(14/31)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عمار بن ياسر- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- بما قال المنافقون في مسيرهم إلى تبوك
فقال الواقدي [ (1) ] : قالوا: وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تبوك، منهم وديعة بن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف، والجلاس بن سويد بن الصامت، ومخشيّ بن حميّر من أشجع، حليف لبني سلمة، وثعلبة ابن حاطب، فقال ثعلبة: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ واللَّه لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وترهيبا للمؤمنين، فقال وديعة بن ثابت: ما لي أرى قرءانا هؤلاء أوعبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؟ وقال الجلاس بن سويد- وكان زوج أم عمير وكان ابنها عمير يتيما في حجره-: هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منا، واللَّه لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير! فقال مخشيّ بن حمير: واللَّه لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وأنا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمار بن ياسر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
أدرك القوم فإنّهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قد قلتم كذا وكذا، فذهب إليهم عمار فقال لهم، فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعتذرون إليه،
فقال وديعة بن ثابت ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ناقته قد أخذ بحقب ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورجلاه تنسفان الحجارة وهو يقول: يا رسول اللَّه إنما كنا نخوض ونلعب، ولم يلتفت إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه- تعالى- فيه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [ (2) ] إلى قوله- تعالى-: كانُوا مُجْرِمِينَ [ (3) ] ، ورد عمير على الجلاس ما قال حين قال: لنحن شر من
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1003- 1005.
[ (2) ] التوبة: 65.
[ (3) ] التوبة: 66.

(14/32)


الحمير، قال: فأنت شر من الحمار، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصادق وأنت الكاذب، وجاء الجلاس إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فحلف ما قال من ذلك شيئا فانزل اللَّه- تعالى- على نبيه فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [ (1) ] ونزلت فيه أيضا: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ... الآية، وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه وكان محتاجا، فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة أخذها له فاستغنى بها، وقال مخشي بن حمير: قد واللَّه يا رسول اللَّه قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الّذي عفى عنه في هذه الآية مخشيّ بن حميّر فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد الرحمن أو عبد اللَّه وسأل اللَّه- تعالى- أن يقتل شهيدا ولا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.
ويقال في الجلاس بن سويد: إنه كان ممن تخلف من المنافقين في غزوة تبوك فكان يثبط الناس عن الخروج، وكانت أم عمير تحته وكان عمير يتيما في حجره ولا مال له، فكان يكفله ويحسن إليه، فسمعه وهو يقول: واللَّه لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير! فقال له عمير: يا جلاس قد كنت أحب الناس إليّ، وأحسنهم عندي أثرا، وأعزهم عليّ أن يدخل عليه شيء نكرهه، واللَّه لقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن كتمتها لأهلكن، وإحداهما أهون عليّ من الأخرى! فذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم الجلاس، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أعطى الجلاس مالا من الصدقة لحاجته وكان فقيرا فبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الجلاس فسأله عما قال عمير فحلف باللَّه ما تكلم به قط، وأن عميرا لكاذب- وهو عمير بن سعيد- وهو حاضر عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقام وهو يقول: اللَّهمّ أنزل على رسولك بيان ما تكلمت به، فأنزل اللَّه- تعالى- على نبيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ إلى قوله: أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، للصدقة التي أعطاها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال الجلاس: اسمع! اللَّه قد عرض علي التوبة، واللَّه لقد قلت ما قال عمير ولما اعترف بذنبه وحسنت توبته ولم يمتنع عن خير كان يصنعه إلى عمير بن سعيد، فكان ذلك مما قد عرفت به توبته. واللَّه- سبحانه وتعالى- أعلم.
__________
[ (1) ] التوبة: 74.

(14/33)


وأما إخباره لأبى ذر [الغفاريّ] بأنهم يخرجون من المدينة فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث هاشم، عن عبد الحميد، عن شهر حدثتني أسماء [بنت يزيد] أن أبا ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان يخدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإذا فرغ من خدمته آوى إلى المسجد فكان هو بيته يضطجع فيه،
فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة فوجده منجدلا في المسجد فنكته برجله حتى استوى جالسا، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا أراك نائما في المسجد؟ قال أبو ذر: يا رسول اللَّه وأين أنام؟ وهل لي بيت غيره؟ فجلس إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له: كيف أنت إذا أخرجوك منه قال: إذا ألحق بالشام، فإن الشام أرض الهجرة، وأرض المحشر، وأرض الأنبياء، فأكون رجلا من أهلها، فقال: كيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟ قال: إذا أرجع إليه فيكون بيتي ومنزلي، قال: فكيف بك إذا أخرجوك منه الثانية؟ قال: إذا آخذ سيفي فأقاتل عني [حتى أموت قال:] فكشر إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأثبته بيده، فقال: أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه قال: تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك، حتى تلقاني وأنت على ذلك.
قال جامعه: قد صدق اللَّه- تعالى- ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخبر به أبا ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من إخراجهم له من الشام والمدينة، وذلك أنه أخرج من المدينة أولا في خلافة عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى الشام لإنكاره أشياء من سيرته، فأقام بها، فأنكر على معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ أمير الشام، فشكاه إلى عثمان، فأمره بحمله إليه، فحمله إلى المدينة، فأخذ يطعن على عثمان، فأخرجه من المدينة، وأسكنه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 611- 612، حديث رقم (27041) ، من حديث أسماء بنت يزيد.

(14/34)


الرَّبَذَة حتى مات، وقد ذكرته في كتاب (التاريخ الكبير المقفى [ (1) ] ) ذكرا مستوفي.
وخرّج ابن حبان في (صحيحه) من حديث النضر بن شميل، عن كهمس بن الحسن [القيسيّ] ، عن أبي السليل ضريب بن نقير القيسيّ قال: قال أبو ذر: جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتلو هذه الآية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [ (2) ] [فجعل يرددها] حتى نعست فقال: يا أبا ذر لو أن الناس أخذوا بها لكفتهم، ثم قال: يا أبا ذر كيف تصنع إذا أخرجت من المدينة؟ قلت: إلى السعة والدعة، أكون حماما من حمام مكة، قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من مكة؟ قلت: إلى السعة والدعة، إلى أرض الشام والأرض المقدسة، قال: فكيف تفعل إذا أخرجت منها؟ قال: [إذا] والّذي بعثك بالحق آخذ سيفي فأضعه على عاتقي، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أو خير من ذلك، تسمع وتطيع لعبد حبشيّ مجدّع [ (3) ] ، واللَّه- تعالى- أعلم.
__________
[ (1) ] (المقفى الكبير) : 1/ 541، 2/ 418، 4/ 302، 5/ 17.
[ (2) ] الطلاق: 3- 4.
[ (3) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 15/ 53- 54، كتاب التاريخ، باب (10) إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، ذكر الإخبار عن إخراج الناس أبا ذر الغفاريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من المدينة، حديث رقم (6669) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، ثم قال في (هامشه) : إسناده ضعيف لانقطاعه، فإن ضريب بن نقير لم يدرك أبا ذر ولا سمع منه.
والثابت أن أبا ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إنما نزل الرَّبَذَة باختياره، وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إنما أمره بالتنحي عن المدينة لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه الّذي انفرد به في حرمة ادخار المال ولو أديت زكاته، فاختار الرَّبَذَة، فقد روى البخاريّ في (صحيحه) [1406] عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذرّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

(14/35)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أبي ذر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بأنه يموت وحده فكان كما قال
فروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني بريدة بن سفيان الأسلميّ، عن محمد بن كعب القرظيّ، عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما نفى عثمان أبا ذرّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- إلى الرَّبَذَة [ (1) ] ، وأصابه بها قدره، لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن اغسلاني وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم قولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعينونا على دفنه.
فلما مات فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد اللَّه ابن مسعود في رهط من أهل العراق عمار، فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق، قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعينونا أعلى دفنه،
قال فاستهل عبد اللَّه بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، تمشى وحدك، وتموت وحدك، وتبعث
__________
[ () ] قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان: أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال لي: إن شئت تنحيت، فكنت قريبا، فذاك الّذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا عليّ حبشيا لسمعت وأطعت.
[ (1) ] الرَّبَذَة: خرقة الصائغ يجلو بها الحليّ، وبها سميت الرَّبَذَة، وهي قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذرّ الغفاريّ وجماعة من الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم.

(14/36)


وحدك،
ثم نزل هو وأصحابه فواروه، ثم حدثهم عبد اللَّه بن مسعود حديثه، وما قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى تبوك [ (1) ] .
ثم
قال ابن إسحاق [في خبر أبي ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في غزوة تبوك] : ثم مضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سائرا، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول اللَّه، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن بك فيه خير فسيلحقه اللَّه- تعالى- بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم اللَّه منه، حتى قيل: يا رسول اللَّه! قد تخلف أبو ذرّ، وأبطأ به بعيره، فقال: إن يك فيه خير فسيلحقه اللَّه بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللَّه منه.
وتلوم [ (2) ] أبو ذر على بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ماشيا، ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول اللَّه، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول اللَّه هو واللَّه أبو ذرّ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
كن [ (3) ] أبا ذرّ، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده [ (4) ] .
قال الواقدي في (مغازيه) : وكان أبو ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: أبطأت في غزوة تبوك من أجل بعيري كان نضوا أعجف [ (5) ] ، فقلت: أعلفه أياما، ثم ألحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعلفته أياما، ثم خرجت، فلما كنت في ذي المروة عجز بي فتلومت عليه يوما فلم أر به حركة، فأخذت متاعي فحملته [ (6) ] على ظهري، ثم خرجت أتبع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ماشيا في حرّ شديد، وقد تقطع الناس فلا أرى أحدا يلحقنا من المسلمين، فطلعت على رسول
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 205، موت أبي ذرّ ودفنه بالربذة.
[ (2) ] تلوّم: أبطأ وتمهّل.
[ (3) ] كن أبا ذر: لفظه الأمر، ومعناه الدعاء.
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 203- 204، خبر أبي ذرّ في غزوة تبوك.
[ (5) ] النّضو: الدابة التي أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها.
[ (6) ] في (الأصل) : «فجعلته» ، وما أثبتناه من (المغازي) .

(14/37)


اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصف النهار وقد بلغ مني العطش فنظر ناظر من الطريق، فقال: يا رسول اللَّه! إن هذا الرجل يمشي وحده، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: كن أبا ذر، فلما تألمني القوم قالوا: يا رسول اللَّه! هذا أبو ذر، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى دنوت منه فقال: مرحبا بأبي ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فقال: ما خلفك يا أبا ذر فأخبره خبر بعيره، ثم قال: إن كنت لمن أعزّ أهلي عليّ تخلفا، لقد غفر اللَّه لك يا أبا ذرّ بكل خطوة ذنبا إلى أن بلغتني، ووضع متاعه عن ظهره، ثم استسقى [ (1) ] فأتي بإناء من ماء فشربه.
فلما أخرجه عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى الرَّبَذَة وأصابه قدره، لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما فقال: غسلاني وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق إذا أنا مت. وأقبل ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في رهط من أهل العراق عمارا، فلم يرعهم إلا بالجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطؤها، فسلم القوم، فقام إليهم غلامه فقال لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعينوني عليه،
فاستهل ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يبكي ويقول: صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يمشي أبو ذر وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده،
ثم نزل هو وأصحابه حتى واروه، ثم حدثهم ابن مسعود حديثه وما قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى تبوك [ (2) ] .
وذكر أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر، حديث عليّ بن المديني قال: حدثنا يحيى بن سليم [الطائفي] [ (3) ] قال: حدثني عبد اللَّه بن خثيم، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أم ذرّ زوجة أبي ذر قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت، فقال لي: ما يبكيك؟ فقلت: وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفنا لي ولا لك؟ ولا يد لي للقيام بجهازك، قال: فأبشري لا تبكي، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «استلقى» وما أثبتناه من (المغازي) فهو أجود للسياق.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1000- 1001.
[ (3) ] من (الأصل) فقط.

(14/38)


لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبران يحتسبان فيريان النار أبدا، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة، فأنا ذلك الرجل، فو اللَّه ما كذبت ولا كذبت،
فأبصري الطريق، قلت: أنّي وقد ذهب الحاجّ وتقطعت الطريق؟ قال: اذهبي فتبصري، قالت: فكنت أشتدّ إلى الكثيب فأنظر، ثم أرجع إليه فأمرضه، فبينا أنا كذلك إذا أنا برجال على رحالهم كأنهم الرّخم [ (1) ] تحث بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفوا عليّ فقالوا: يا أمة اللَّه! مالك؟
قالت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت: نعم، قالت: ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه،
فقال لهم: أبشروا فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قرية وجماعة واللَّه ما كذبت ولا كذبت،
ولو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم اللَّه أن يكفني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال، إلا فتى من الأنصار فقال: أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي، قال: أنت تكفنني [يا بني] [ (2) ] ، قال: فكفنه الأنصاري وغسله في النفر الذين حضروه وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الرخم: جمع رخمة وهو طائر من الجوارح يشبه النسر.
[ (2) ] زيادة للسياق من (الاستيعاب) .
[ (3) ]
(الاستيعاب) : 1/ 253- 255، ترجمة جندب بن جنادة [أبو ذرّ] رقم 339. ثم قال ابن عبد البرّ: وروى عنه جماعة من الصحابة، وكان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق، سئل عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن أبي ذرّ فقال: ذلك رجل وعى علما عجز عنه الناس، ثم أوكأ عليه، ولم يخرج شيئا منه.

(14/39)


وقد خرّجه الحاكم في (مستدركه) [ (1) ] أيضا من حديث ابن المديني نحوه سواء، واللَّه أعلم.

وأما خرصه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديقة المرأة وإخباره بهبوب ريح شديدة فكان كما قال
فخرّج البخاريّ في كتاب الزكاة في باب خرص
__________
[ () ] وروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: أبو ذرّ في أمتي شبيه عيسى ابن مريم في زهده،
وبعضهم روى: من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ.
ومن حديث ورقاء وغيره، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ، ومن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ.
وروى إبراهيم التيميّ عن أبيه عن أبي ذر، قال: كان قوتي على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صاعا من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى اللَّه- تعالى-. (الاستيعاب) .
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 388، كتاب معرفة الصحابة، محنة أبي ذرّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (5470) ، وقد سكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) ، يحي بن سليم الطائفيّ الحذاء الخراز، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، وقال ابن معين: ثقة.
وقال النسائيّ ليس بالقويّ وقال أحمد: رأيته يختلط في أحاديثه فتركته، وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس، يكتب حديثه، (الميزان) : 3/ 383- 384.
وقد أخرجه البيهقيّ في (دلائل النبوة) : 6/ 401- 402، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن حال أبي ذرّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عند موته، وما أوصاه به من الخروج من المدينة عند ظهور الفتن. وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) . وابن كثير في (البداية والنهاية) .

(14/40)


التمر [ (1) ] وفي كتاب الجزية [ (1) ] من حديث سهل بن بكار، عن وهيب، عن عمر بن يحيي، عن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 438، كتاب الزكاة، باب (54) خرص التمر، حديث رقم (1481) .
قوله: «خرص التمر» أي مشروعيته، والخرص بفتح المعجمة وحكى كسرها وبسكون الراء بعدها مهملة، هو حرز ما على النخل من الرطب تمرا.
حكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن تفسيره: أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما تجب فيه الزكاة، بعث السلطان خارصا ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا، وكذا وكذا تمرا، فيحصيه، وينظر مبلغ العشر فيه، فيثبته عليهم، ويخلي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر.
وفائدة الخرص: التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زهورها، وإيثار الأهل والجيران والفقراء، لأن منعهم منها تضيقا لا يخفى.
وقال الخطّابيّ: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفا للمزارعين لئلا يخونوا، إلا ليلزم به الحكم لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار وتعقبه الخطّابيّ بأن تحريم الربا والميسر متقدم. والخرص عمل به في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حتى مات، ثم أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه إلا عن الشعبيّ، قال: وأما قولهم: إنه تخمين وغرر فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر، وإدراكه بالخرص الّذي هو نوع من المقادير.
وحكى أبو عبيد عن قوم منهم أن الخرص كان خاصا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوفق له غيره، وتعقبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له، سواء أن تثبت بذلك الخصوصية، ولو كان المرء لا يجب عليه الاتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه، كتسديد الأنبياء لسقط الأتباع، وتردّ هذه الحجة أيضا بإرسال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم الخراص في زمانه، واللَّه- تعالى- أعلم.
واعتلّ الطحاوي بأنه يجوز أن يحصل للثمرة آفة فتتلفها، فيكون ما يؤخذ عن صاحبها مأخوذا بدلا مما لم يسلم له، وأجيب بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان.

(14/41)


عباس الساعدي، عن أبي حميد الساعدي [ (1) ] قال: غزونا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه: اخرصوا، وخرص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرة أوسق، وقال لها:
أحصي ما يخرج منها فلما أتينا تبوك قال: أما إنها ستهب الليلة ريح شديدة فلا يقومن أحد، ومن كان معه بعير فليعقله، فعقلناها، وهبت ريح شديدة، فقام رجل فألقته بجبل طيِّئ، وأهدى ملك أيلة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بغلة بيضاء، وكساه بردا، وكنت له ببحرهم، فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: كم جاء حديقتك؟
قالت: عشرة أوسق خرص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني متعجل إلى المدينة، فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل. فلما- قال ابن بكار: كلمة معناها- أشرف على المدينة قال: هذه طابة، فلما رأى أحدا قال: هذا جبل يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى، قال: دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، ثم دور بني ساعدة، أو دور بني الحارث بن الخزرج، وفي كل دور الأنصار يعني خيرا، وقال سليمان بن بلال:
حدثني عمرو، ثم دور بني الحارث، ثم بني ساعدة.
وقال سليمان: عن سعد بن سعيد، عن عمارة بن غزية، عن عباس، عن أبيه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أحد جبل يحبنا ونحبه،
قال أبو عبد اللَّه: كل بستان عليه حائط فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يقل حديقة [ (2) ] .
__________
[ () ] وفي هذا الحديث مشروعية الخرص، وفيه أشياء من أعلام النبوة، كالإخبار عن الريح، وما ذكر في تلك القصة، وفيه تدريب الأتباع وتعليمهم، وأخذ الحذر مما يتوقع الخوف منه، وفضل المدينة والأنصار، ومشروعية المفاضلة بين الفضلاء بالإجمال والتعيين، ومشروعية الهدية والمكافأة عليها. (فتح الباري) .
[ (1) ] (فتح الباري) 6/ 328، كتاب الجزية والموادعة، باب (2) إذا وادع الإمام ملك القرية هل يكون ذلك لبقيتهم؟ حديث رقم (3161) مختصر جدا كما قال الحافظ: وهذا القدر لا يكفى في مطابقة الحديث للترجمة.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (1482) .

(14/42)


لم يذكر منه في كتاب الجزية غير قوله: غزونا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تبوك، وأهدى ملك أيلة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بغلة بيضاء، وكساه بردا، وكتب له ببحرهم ولم يزد على ذلك [ (1) ] .
وخرّج مسلم من حديث سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اخرصوها فخرصناها، وخرصها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرة أوسق، قال: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء اللَّه، وانطلقنا حتى أتينا تبوك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيِّئ، وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكتاب وأهدي له بغله بيضاء، فكتب إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهدى له بردا، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ فقالت:
عشرة أوسق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي ومن شاء فليمكث، فخرجا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: هذه طابة، وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه، ثم قال: إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير، فلحقنا سعد بن عبادة فقال أبو أسيد: ألم تر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيّر دور الأنصار فجعلنا آخرا! فأدرك سعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللَّه: خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرا! فقال: أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار [ (2) ] .
__________
[ (1) ] راجع تعليق رقم (3) في الصفحة السابقة.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 47- 48، كتاب الفضائل، باب (3) في معجزات النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (11) . وفيه المعجزة الظاهرة من إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمغيب، وخوف الضرر من القيام وقت الريح، وفيه ما كان عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشفقة على أمته والرحمة لهم، والاعتناء بمصالحهم، وتحذيرهم ما يضرهم في دين أو دنيا، وإنما أمر بشدّ عقل الجمال لئلا ينفلت منها شيء، فيحتاج صاحبه إلى القيام في طلبه فيلحقه ضرر الريح، وفيه قبول هدية الكافر.

(14/43)


وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر حزم، عن العباس بن سهل بن سعيد الساعدي، أو عن العباس، عن سعد بن سهل- الشك مني- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين مر بالحجر ونزلها واستسقى الناس من بئرها فلما راحوا منها قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم للناس: لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له، ففعل الناس ما أمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهم لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الّذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الّذي ذهب في طلب بعيره فاحملته الريح حتى طرحته بجبلي طيِّئ، فأخبر بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد [ (1) ] إلا ومعه صاحبه، ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الّذي وقع بجبلي طيِّئ فإن طيِّئا أهدته إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قدم من تبوك [ (2) ] .
قال عبد اللَّه بن أبي بكر: قد سمي إليّ العباس الرجلين، ولكنه استودعني إياهما فأبى أن يسميهما لنا [ (3) ] .
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (4) ] : قال أبو حميد الساعدي: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى تبوك، فلما جئنا وادي القرى مررنا على حديقة لامرأة فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اخرصوها، فخرصها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وخرصناها معه، عشرة أو ساق ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: احفظي ما خرج منها حتى نرجع إليك، فلما أمسينا بالحجر قال: إنها ستهبّ الليلة ريح شديدة فلا يقومن منكم أحد إلا معه صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله، قال: وهاجت ريح شديدة، قال:
__________
[ () ] فيحتاج صاحبه إلى القيام في طلبه فيلحقه ضرر الريح، وفيه قبول هدية الكافر، وقوله:
«ببحرهم» أي ببلدهم، والبحار القرى. (شرح النووي) .
[ (1) ] في (الأصل) : «أن يخرج رجل» وما أثبتناه من (ابن هشام) .
[ (2) ] كذا (بالأصل) ، وفي (ابن هشام) : «حين قدم المدينة» .
[ (3) ] (سيره ابن هشام) : 5/ 201- 202، ما حدث بالحجر.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1005- 1006، باختلاف يسير في اللفظ.

(14/44)


ولم يقم أحد إلا مع صاحبه إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الّذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الّذي ذهب في طلب بعيره، فاحتملته الرياح فطرحته بجبليّ طيِّئ، فأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبرهما، فقال: ألم أنهكم أن يخرج أحد إلا ومعه صاحب، ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الّذي وقع بجبليّ طيِّئ فإن طيِّئا أهدته للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قدم المدينة، واللَّه- تعالى- أعلم.

(14/45)


وأما صلاته صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بتبوك على معاوية بن معاوية وقد مات بالمدينة
فروى الحافظ أبو عمر بن عبد البر [ (1) ] ، والحافظ أبو بكر البيهقيّ [ (2) ] من حديث عثمان بن الهيثم، عن محبوب بن هلال، عن [ابن] أبي ميمونة، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: نزل جبريل- عليه السلام- على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد مات معاوية بن معاوية المزني، [أفتحب] أن تصلي عليه؟ قال: نعم، فضرب بجناحه الأرض فلم تبق شجرة، ولا أكمة إلا تضعضعت، ورفع إليه سريره حتى نظر إليه فصلّى عليه وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لجبريل: يا جبريل [بم نال] هذه المنزلة [من اللَّه] ؟ قال: بحبه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ (3) ] وقراءته إياها جائيا، وذاهبا، وقائما، وقاعدا، وعلى كل حال.
السياق لابن عبد البر.
وزاد البيهقي من حديث الحسن بن محمد الزعفرانيّ قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن العلاء أبي محمد الثقفي، قال: سمعت أنس بن مالك قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتبوك فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور، ولم أرها طلعت فيما مضى، [فأتى جبريل- عليه السلام- رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا جبريل ما لي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى] ؟ قال: ذلك أن معاوية بن معاوية الليثي مات اليوم بالمدينة، فبعث اللَّه سبعين ألف ملك يصلون عليه، قال: وفيم ذاك قال: كان يكثر قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بالليل وبالنهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 1423- 1425، ترجمة رقم (2438) .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 245، باب ما روى في صلاته صلّى اللَّه عليه وسلّم بتبوك على معاوية بن معاوية الليثي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في اليوم الّذي مات فيه بالمدينة وما بين الحاصرتين زيادات للسياق منه.
[ (3) ] الإخلاص: 1.

(14/46)


اللَّه أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟ قال: نعم، قال: فصلّى عليه، ثم رجع.
قال أبو عمر: العلاء أبو محمد الثقفي هو العلاء بن يزيد الثقفي أبو محمد، يروي عن أنس، روى عن يزيد بن هارون وعثمان بن مطيع، في حديثه مناكير، كان محمد يتكلم فيه.
وخرّجه أيضا من حديث بقية بن الوليد قال: حدثنا محمد بن زياد، عن أبي أمامة الباهلي قال: أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل- عليه السلام- وهو بتبوك فقال: يا محمد اشهد جنازة معاوية بن مقرن المزني، قال: فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه، ونزل جبريل في سبعين ألفا من الملائكة، فوضع جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت، ووضع جناحه الأيسر على الأرض فتواضعت، حتى نظر إلى مكة والمدينة، فصلّى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجبريل والملائكة، فلما فرغ قال: يا جبريل بم بلغ معاوية بن مقرن هذه المنزلة، قال: بقراءته: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قائما، وقاعدا، وراكبا، وماشيا [ (1) ] .
قال أبو عمر بن عبد البر: أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولولا أنها في [غير] [ (2) ] الأحكام لم يكن في شيء منها حجة، ومعاوية بن مقرن المزني وإخوته: النعمان، وسويد، ومعقل، وسائرهم وكانوا سبعة معروفون في الصحابة مذكورون في كبارهم، وأما معاوية بن معاوية فلا أعرفه بغير ما ذكرت في هذا [الكتاب] [ (3) ] ، وفضل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا ينكر.
قال أبو عمير: معاوية بن معاوية المزني، ويقال: الليثي، ويقال:
معاوية بن مقرن المزني، وهو أولى بالصواب إن شاء اللَّه، توفي في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، روى حديثه أنس بن مالك وأبو أمامه واختلفت الآثار في ذلك.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 1424- 1425.
[ (2) ] في (الاستيعاب) : «في» (الأحكام) .
[ (3) ] في (الاستيعاب) : «الباب» .

(14/47)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم خالد بن الوليد حين بعثه إلى أكيدر بدومة الجندل بأنه يجده يصيد البقر فوجده كما قال
فروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق [ (1) ] قال: حدثني يزيد بن رومان وعبد اللَّه بن أبي بكر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا على دومة وكان نصرانيا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر،
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه منظر العين في ليلة مقمرة صافية وهو على سطح ومعه امرأته، فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا واللَّه، قالت: فمن يترك مثل هذا؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسان، فخرجوا معهم بمطاردهم فتلفقتهم خيل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذته وقتلوا أخاه حسان، وكان عليه قباء من ديباج مخوّص بالذهب، فاستلبه خالد بن الوليد، فبعث به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل قدومه به عليه، ثم إن خالدا قدم بالأكيدر على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فحقن له دمه وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته، فقال رجل من طيِّئ يقال له: بجير بن بجرة يذكر
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته لتصديق قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت اللَّه يهدي كل هاد
ومن يك عائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
زاد فيه غيره: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يفضض اللَّه، فاك فأتى عليه تسعون سنة فما تحرك له ضرس ولا سن.
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 207- 208.

(14/48)


وقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، ومعاذ بن محمد، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، وإسماعيل ابن إبراهيم، عن موسى بن عقبة، فكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وعماده حديث ابن أبي حبيبة.
قالوا: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل- وكان أكيدر من كندة قد ملكهم وكان نصرانيا- فقال خالد: يا رسول اللَّه، كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ستجده يصيد البقر فتأخذه.
قال: فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته الرباب بنت أنيف بن عامر من كندة، وصعد على ظهر الحصن من الحر، وقينته تغنبه، ثم دعا بشراب فشرب، فأقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فأقبلت امرأته الرباب فأشرفت على الحصن فرأت البقر، فقالت: ما رأيت كالليلة في اللحم، هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا، ثم قالت: من يترك هذا؟ قال: لا أحد.
قال: يقول أكيدر: واللَّه ما رأيت جاءنا بقر غير تلك الليلة ولقد كنت أضمّر لها الخيل إذا أردت أخذها شهرا أو أكثر، ثم أركب بالرجال وبالآلة.
قال: فنزل، فأمر بفرسه فأسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيته، معه أخوه حسان ومملوكان، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم [ (2) ] ، فلما فصلوا من الحصن وخيل خالد تنتظرهم لا يصهل منها فرس ولا يتحرك، فساعة فصل أخذته الخيل، فاستأسر أكيدر، وامتنع حسان فقاتل حتى قتل، وهرب المملوكان ومن كان معه من أهل بيته، فدخلوا
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1025- 1028، غزوة أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل في رجب سنة تسع، وهي على عشرة أميال من المدينة المنورة.
[ (2) ] المطارد: جمع مطرد، وزن منبر، وهو رمح قصير يطرد به الوحش.

(14/49)


الحصن، وكان على حسان قباء ديباج مخوّص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عمرو بن أمية الضمريّ حين قدم عليهم فأخبرهم بأخذهم أكيدر.
قال أنس بن مالك وجابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-: رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعل المسلمون يتلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تعجبون من هذا؟ والّذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا.
وقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخالد بن الوليد: إن ظفرت بأكيدر فلا تقتله، وائت به إليّ فإن أبي فاقتلوه، فطاوعهم. فقال بجير بن بجرة من طيِّئ، يذكر قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لخالد: إنك تجده يصيد البقر وما صنع البقر تلك الليلة بباب الحصن تصديق قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال شعرا.
وقال خالد لأكيدر: هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أن تفتح لي دومة؟ قال: نعم، ذلك لك، فلما صالح خالد أكيدر، وأكيدر في وثاقه انطلق به خالد حتى أدناه من باب الحصن ونادى أكيدر أهله: افتحوا باب الحصن فأرادوا ذلك فأبى عليهم أخو أكيدر، فقال أكيدر لخالد: تعلم واللَّه لا يفتحون لي ما رأوني في وثاقك، فخل عني فلك اللَّه والأمانة أن أفتح لك باب الحصن إن أنت صالحتني على أهله، قال خالد: فإنّي أصالحك، فقال أكيدر: إن شئت حكمتك، وإن شئت حكمتني، قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت فصالحه على ألفي بعير، وثماني مائة رأس وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، على أن ينطلق به وأخيه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيحكم فيهما حكمه.
فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله ففتح الحصن فدخل خالد وأوثق مضادا أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح، ثم خرج قافلا إلى المدينة ومعه أكيدر، فلما قدم بأكيدر على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صالحه على

(14/50)


الجزية، وحقن دمه ودم أخيه، وخلى سبيلها، وكتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كتابا فيه أمانهم وما صالحهم، وختمه يومئذ بظفره [ (1) ] .
وذكر ابن الكلبي أن أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، لما قبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منع أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ما صالح عليه فأخرج من جزيرة العرب من دومة ولحق الحيرة وابتنى بها بناء وسماه دومة، بدومة الجندل، وفي (كتاب الفتوح) : أن خالد بن الوليد لما خرج إلى دومة الجندل وبها أكيدر هذا والجودي بن ربيعة جمع كثير قال أكيدر: لا أحد فمن نقيه من خالد ولا يرى وجهه أحد إلا انهزم فلا تقاتلوا، فعصوه فتركهم، وخرج فأخذته خيل خالد فقتلته، ثم قتل خالد الجودي وفتح دومة.
__________
[ (1) ] والخبر بتمامه في (سيرة ابن هشام) : 5/ 207- 208، خالد يأسر أكيدر دومة، وفي (دلائل البيهقيّ) : 5/ 250- 253، باب بعث النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، وما ظهر في إخباره صلى اللَّه عليه وسلّم عن وجوده وهو يصيد البقر من آثار النبوة.

(14/51)


وأما أكل طائفة من سبع ثمرات غير مرة حتى شبعوا- وهم بتبوك مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وإذا هي لم تنقص
فقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحضر والسفر، فرأينا ليلة ونحن بتبوك، وذهبنا لحاجة، فرجعنا إلى منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد تعشى ومن عنده من أضيافه ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يريد أن يدخل في قبته ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية، فلما طلعت عليه قال: أين كنت منذ الليلة؟
فأخبرته، فطلع جعال بن سراقة، وعبد اللَّه بن مغفل المزني، وكنا ثلاثة، كلنا جائع، إنما نعيش بباب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم البيت، فطلب شيئا نأكلها فلم يجده، فخرج إلينا فنادى بلالا: يا بلال، هل من عشاء لهؤلاء النفر؟ قال: لا والّذي بعثك بالحق لقد نفضنا جربنا [ (1) ] وحمتنا [ (2) ] ، قال: انظر عسى أن تجد شيئا، فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا، فتقع التمرة والتمرتان، حتى رأيت بين يديه سبع تمرات، ثم دعا بصحفة فوضع فيها التمر، ثم وضع يده على التمرات وسمى اللَّه، وقال: كلوا بسم اللَّه، فأكلنا فأحصيت أربعا وخمسين تمرة أكلتها أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع وشبعنا، وأكل كل واحد منا خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي، فقال: يا بلال، ارفعها في جرابك فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعا، قال: فبتنا حول قبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكان يتهجد من الليل، فقام تلك الليلة يصلي، فلما طلع الفجر ركع ركعتي الفجر، وأذّن بلال وأقام، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، ثم انصرف إلى فناء قبته، فجلس وجلسنا حوله، فقرأ من المؤمنين عشرا، فقال: هل لكم في الغداء؟
__________
[ (1) ] الجرّب: جمع جراب، وهو معروف.
[ (2) ] الحمت: جمع حميت، وهو النحي أو الزق الّذي يكون فيه السمن.

(14/52)


قال عرباض: فجعلت أقول في نفسي أي غداء؟ فدعا بلال بالتمر، فوضع يده عليه في الصفحة، ثم قال: كلوا بسم اللَّه، فأكلنا- والّذي بعثه بالحق- حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعوا أيديهم منها شبعا، وإذا التمرات كما هي! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لولا أني أستحيي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نرد المدينة عن آخرنا، وطلع غليم من أهل البلد، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التمرات بيده فدفعها إليه، فولى الغلام يلوكهن [ (1) ] .

وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لذي البجادين أن يحرم اللَّه تعالى دمه على الكفار فمات حتف أنفه مع عزمه على القتل في سبيل اللَّه
فقال الواقدي في (مغازيه) : قالوا: وكان عبد اللَّه ذو البجادين [ (2) ] من مزينة وكان يتيما لا مال له، مات أبوه فلم يورثه شيئا، وكان عمه ميّلا [ (3) ] فأخذه وكفله حتى كان قد أيسر، وكانت له إبل وغنم ورقيق، فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، كانت نفسه تتوق إلى الإسلام، ولا يقدر عليه من عمه، حتى مضت السنون والمشاهد كلها، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من فتح مكة راجعا إلى المدينة، فقال عبد اللَّه لعمه: يا عم إني قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدا، فأذن لي في الإسلام، فقال: واللَّه لئن اتبعت محمدا لا أترك بيدك شيئا كنت أعطيتكه إلا نزعته منك حتى ثوبيك، فقال عبد العزى وهو يومئذ اسمه:
وأنا واللَّه متبع محمدا ومسلم، وتارك عبادة الحجر والوثن وهذا ما بيدي فخذه، فأخذ كل ما أعطاه حتى جرده من إزاره، فأتى أمه فقطعت بجادا لها باثنين فائتزر بواحد وارتدى بالآخر، ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان- جبل بالمدينة- فاضطجع في المسجد في السحر،
ثم صلّى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مغازي الواقديّ) : 3/ 1036- 1037.
[ (2) ] البجاد: الكساء الغليظ الجافي.
[ (3) ] ميلا: ذا مال. 3

(14/53)


الصبح، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح فنظر إليه، فأنكره، فقال: من أنت؟ فانتسب له فقال: أنت عبد اللَّه ذو البجادين، ثم قال:
انزل مني قريبا.
فكان يكون في أضيافه ويعلمه القرآن، حتى قرأ قرآنا كثيرا، والناس يتجهزون إلى تبوك. وكان رجلا صيتا، فكان يقوم في المسجد فيرفع صوته بالقراءة، فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه! ألا تسمع هذا الأعرابي يرفع صوته بالقرآن حتى قد منع الناس القراءة؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعه يا عمر فإنه خرج مهاجرا إلى اللَّه ورسوله.
قال: فلما خرج إلى تبوك قال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه لي بالشهادة، فقال: أبلغني لحاء سمرة [ (1) ] ، فأبلغه لحاء سمرة، فربطها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عضده وقال: اللَّهمّ إني أحرم دمه على الكفار، فقال: يا رسول اللَّه ليس هذا أردت، قال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنك إذا خرجت غازيا في سبيل اللَّه فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، أو وقصتك دابتك فأنت شهيد، لا تبال بأية كان.
فلما نزلوا تبوك أقاموا بها أياما، وتوفى عبد اللَّه ذو البجادين، فكان بلال ابن الحارث يقول: حضرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومع بلال المؤذن شعله من نار عند القبر واقفا بها، وإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القبر، وإذا أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يدليانه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقول: أدنيا إليّ أخاكما، فلما هيئاه لشقه، قال: اللَّهمّ إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه،
قال: فقال عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يا ليتني كنت صاحب اللحد [ (2) ] .
__________
[ (1) ] لحاء سمرة: قشر شجرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1013- 1014.

(14/54)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم [بطلوع] وفد عبد القيس [قبل قدومهم]
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من طريق قيس بن حفص الدارميّ، عن طالب بن حجير العبديّ، قال: حدثنا هود بن عبد اللَّه بن سعيد أنه سمع [جده] [ (2) ] مزيدة العصري قال: بينما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث أصحابه إذ قال لهم: سيطلع عليكم من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فتوجه نحوهم فلقى ثلاثة عشر راكبا، فقال: من القوم؟ قالوا: من بني عبد القيس، فقال: فما أقدمكم هذه البلاد؟ أتجارة؟ قالوا: لا، قال: أما إنّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد ذكركم آنفا، فقال: خيرا، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الّذي تريدون، فرمي القوم بأنفسهم عن ركائبهم، فمنهم من مشى، ومنهم من هرول، ومنهم من سعى، حتى أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذوا بيده فقبلوها، وتخلف الأشج في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقبلها، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن فيك خلتين يحبهما اللَّه ورسوله، فقال جبل جبلت عليه أم تخلقا مني؟
قال: بل جبل، قال: الحمد للَّه الّذي جبلني على ما يحب اللَّه ورسوله [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 326- 327، باب وفد عبد القيس وإخباره النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بطلوعهم قبل قد ومهم، وتصويبات العنوان منه.
[ (2) ] من (الأصل) فقط.
[ (3) ] الخلتان كما في رواية مسلم: الحلم والأناة. وسبب وفودهم أن منقذ بن حبان أحد بني غنم ابن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية، فشخص إلى يثرب بملاحف ونمر من هجر بعد هجرة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إليها،
فبينا منقذ قاعد إذ مرّ به النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنهض منقذ إليه، فقال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أمنقذ بن حبان؟ كيف جميع هيأتك وقومك؟
ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل، يسميهم بأسمائهم، فأسلم منقذ وتعلم سورة الفاتحة، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، ثم رحل قبل هجر، فكتب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا، فذهب به وكتمه أياما، ثم اطلعت.

(14/55)


قال كاتبه: قد خرّج البخاريّ ومسلم حديث وفد عبد القيس بغير هذه السياقة، فخرّجه مسلم [ (1) ] من طريق شعبة، عن أبي جمرة قال: كنت أترجم
__________
[ () ] عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ بن الحارث، والمنذر هو الأشج، سماه النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم به لأثر كان في وجهه.
وكان منقذ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يصلي ويقرأ، فأنكرت امرأته ذلك، وذكرت لأبيها المنذر فقالت: أنكرت بعلي منذ قدم من يثرب، إنه يغسل أطرافة [تعني يتوضأ] ، ويستقبل الجهة [تعني القبلة] ، فيحني ظهره مرة، ويضع جبينه مرة، ذلك ديدنه منذ قدم، فتلاقيا، فتجاريا ذلك، فوقع الإسلام في قلبه.
ثم سار الأشج إلى قومه- عصر ومحارب- بكتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقرأه عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم، وأجمعوا على المسير إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسار الوفد،
فلما دنوا من المدينة قال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لجلسائه: أتاكم وفد عبد القيس، خير أهل المشرق، ومنهم الأشجّ العصري غير ناكثين ولا مبدلين ولا مرتابين، إذ لم يسلم قوم حتى وتروا. (شرح النووي) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 300- 302، كتاب الإيمان، باب (6) الأمر بالإيمان باللَّه- تعالى- ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه، وحفظه، وتبليغه من لم يبلغه، حديث رقم (24) .
وفي هذا الحديث وفادة الرؤساء والأشراف إلى الأئمة عند الأمور المهمة، وفيه تقديم الاعتذار بين يدي المسألة، وفيه بيان مهمات الإسلام وأركانه ما سوى الحج، وفيه استعانة العالم في تفهيم الحاضرين، والفهم عنهم ببعض أصحابه كما فعله ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وقد يستدل به على أنه يكفى في الترجمة في الفتوى والخبر قول واحد.
وفيه استحباب قول الرجل لزواره والقادمين عليه: مرحبا ونحوه، والثناء عليهم إيناسا وبسطا.
وفيه جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة بإعجاب ونحوه.
وأما استحبابه فيختلف بحسب الأحوال والأشخاص وأما النهي عن المدح في الوجه فهو في حق من يخاف عليه الفتنة بما ذكرناه. وقد مدح النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في مواضع كثيرة في الوجه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: لست منهم، وقال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. وقال له: وأرجو أن تكون منهم، أي من الذين يدعون من أبواب الجنة.

(14/56)


بين يدي ابن عباس وبين الناس، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر فقال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من الوفد أو من القوم؟
قالوا: ربيعة، قال: مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا الندامى، قال:
فقالوا: يا رسول اللَّه إنا نأتيك من شقة بعيدة، وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وأنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع قال: أمرهم بالإيمان باللَّه وحده وقال: هل تدرون ما الإيمان باللَّه؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمسا من المغنم، ونهاهم عن الدباء والحنتم، والمزفت،
قال شعبة: وربما قال النقير، قال شعبة:
__________
[ () ] وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: دخلت الجنة فرأيت قصرا، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر ابن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك! فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، أعليك أغار؟ وقال له: ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجّك.
وقال: افتح لعثمان وبشره بالجنة،
وقال لعلى- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنت مني وأنا منك.
وفي الحديث الآخر: أما ترضى أن تكون مني بمنزله هارون من موسى؟.
وقال لبلال: سمعت دقّ نعليك في الجنة،
وقال لعبد اللَّه بن سلام: أنت على الإسلام حتى تموت.
وقال للأنصار: أنتم أم أحبّ الناس إليّ.
ونظائرهم هذا كثيرة في المدح في الوجه.
وأما مدح الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يفتدي بهم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم أجمعين- فأكثر من أن تحصر. واللَّه- تعالى- أعلم.
وفي حديث الباب من الفوائد: أنه لا عتب على طالب العلم والمستفتي إذا قال للعالم:
أوضح لي الجواب، ونحو هذه العبارة. وفيه أنه لا بأس بقول: رمضان، من غير ذكر الشهر، وفيه جواز قول الإنسان لمسلم: جعلني اللَّه فداك.
فهذه أطراف مما يتعلق بهذا الحديث، وهي وإن كانت طويلة فهي مختصرة بالنسبة إلى طالبي التحقيق، واللَّه- تعالى- أعلم، وله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة. (شرح النووي) مختصرا.

(14/57)


وربما قال: المقير، وقال: احفظوه وأخبروا به من وراءكم، وقال أبو بكر:
يعني ابن أبي شيبة في روايته من وراءكم وليس في روايته المقير.
وخرّجه البخاري وفي روايته: كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، فقال: إن وفد عبد القيس، لم يذكر المرأة، وقال: غير حزايا ولا ندامي، وقال: في شهر حرام وقال: تعطوا الخمس من المغنم وقال: وأخبروه من وراءكم، ذكره في كتاب العلم [ (1) ] ، وفي كتاب الإيمان [ (2) ] ، وفي إجازة خبر الواحد الصدوق بألفاظ متقاربة.
وأخرجاه من حديث قرة بن خالد، عن أبي حمزة، ومن حديث حماد بن يزيد، وعباد بن عباد، عن أبي جمرة.
وأخرجه البخاريّ في كتاب الأدب [ (3) ] من حديث أبي التياح، عن أبي جمرة، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم [ (4) ] من حديث سعيد، عن قتادة، عن أبي سعيد الخدريّ.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 243- 244، كتاب العلم، باب (25) تحريض النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وراءهم، حديث رقم (87) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 172، كتاب الإيمان، باب (40) أداء الخمس من الإيمان، حديث رقم (53) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 10/ 688، كتاب الأدب، باب (98) قول الرجل: «مرحبا» ،
وقالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: قال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لفاطمة: مرحبا يا بنتي،
وقالت أم هانئ: جئت النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: مرحبا بأم هانئ، حديث رقم (6176) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 307، كتاب الإيمان، باب (6) الأمر بالإيمان باللَّه- تعالى- ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وشرائع الدين، والدعاء إليه، والسؤال عنه، وحفظه، وتبليغه من لم يبلغه، حديث رقم (27) .

(14/58)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عديّ بن حاتم بأمور فرآها عديّ بعد ذلك كما أخبر
فخرّج البخاريّ في باب علامات النبوة في الإسلام [ (1) ] من حديث إسرائيل، عن سعد الطائي، عن محل بن خليفة، عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا اللَّه، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيِّئ الذين الذين قد سعروا البلاد؟ ولئن طالت بك الحياة لتفتحن كنوز كسرى قال: كسرى بن هرمز! ولئن: طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين اللَّه أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبين ترجمان يترجم له، فيقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟
فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة،
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللَّه، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما
قال النبي أبو القاسم صلّى اللَّه عليه وسلّم: يخرج الرجل ملء كفه.
وخرّج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث شعبة قال: سمعت سماك بن حرب قال:
سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم قال: جاءت خيل رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 757- 758، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3595) ، وقال في عقبه: حدثني عبد اللَّه، حدثنا أبو عاصم أخبرنا سعدان بن بشر حدثنا أبو مجاهد حدثنا محلّ بن خليفة، سمعت عديا: «كنت عند النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم» .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 511- 512، حديث رقم (18891) ، من حديث عدي بن حاتم.

(14/59)


صلّى اللَّه عليه وسلّم- أو قال: رسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وأنا بعقرب، فأخذوا عمتي وناسا، قال: فلما أتوا بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فصفوا له، قلت: يا رسول اللَّه نأى الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بى من خدمة، فمنّ عليّ منّ اللَّه عليك.
قال: من وافدك؟ قالت: عديّ بن حاتم الّذي فر من اللَّه ورسوله، قالت: فمنّ عليّ! قالت: فلما رجع ورجل إلى جنبه نرى أنه علي قال: سليه حملانا، قال: فسألته، فأمر لها، قالت فأتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها.
قالت: ائته راغبا أو راهبا فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه. قال فأتيته، فإذا عنده امرأة وصبيان- أو صبيّ- فذكر قربهم من النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر، فقال له: يا عدي بن حاتم! ما أفرك أن يقال: لا إله إلا اللَّه؟ فهل من إله إلا اللَّه؟ ما أفرك أن يقال: اللَّه أكبر؟ فهل شيء هو أكبر من اللَّه عزّ وجلّ؟ قال: فأسلمت فرأيت وجهه استبشر وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى.
ثم سألوه فحمد اللَّه- تعالى- وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فلكم أيها الناس أن ترضخوا من الفضل، ارتضخ امرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة، قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: بتمرة، بشق تمرة، وإن أحدكم لا في اللَّه- عزّ وجلّ- فقائل ما أقول: ألم أجعلك سميعا بصيرا؟ ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فماذا قدمت؟ فينظر من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئا، فما يتقى النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوه فبكلمة لينة، إني لا أخشى عليكم الفاقة، لينصركم اللَّه- تعالى- وليعطينكم أو ليفتحن لكم حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب أو أكثر، ما تخاف السرق على ظعينتها. [قال محمد بن جعفر: حدثناه شعبة ما لا أحصيه وقرأته عليه] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المسند) .

(14/60)


وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم بقدوم أهل اليمن
فخرّج البخاريّ من حديث شعيب أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية [ (1) ] .
وخرّج مسلم من حديث حماد قال: حدثنا أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمنية [ (2) ] .
ومن حديث يعقوب بن إبراهيم بن سعد قالها أبي عن صالح، عن الأعرج قال: قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية [ (3) ] .
ومن حديث أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهريّ قال: حدثني سعيد ابن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وأضعف قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين، أهل الوبر قبل مطلع الشمس [ (4) ] .
والبخاريّ ومسلم من حديث ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 9/ 347، حديث رقم (6984) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 389، كتاب الإيمان، باب (21) تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه، حديث رقم (82) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (84) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (89) .
[ (5) ] (جامع الأصول) : 6/ 347، حديث رقم (6984) ، ونسبه إلى البخاريّ ومسلم والترمذي.

(14/61)


وخرّج مسلم من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا، وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، رأس الكفر في المشرق [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 393، كتاب الإيمان، باب (21) تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه، حديث رقم (90) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألين قلوبا وأرق أفئدة،
المشهور أن الفؤاد هو القلب، فعلى هذا يكون كرر لفظ القلب بلفظين، وهو أولى من تكريره بلفظ واحد. وقيل: الفؤاد غير القلب وهو عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب.
وأما وصفها باللين والرقة والضعف، فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة، والتأثر بقوارع التذكير، سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين.
قال:
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: في الفدادين،
فزعم أبو عمر الشيبانيّ أنه بتخفيف الدال، وهو جمع فداد بتشديد الدال، وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها، حكاه عنه أبو عبيد وأنكره عليه، وعلى هذا المراد بذلك أصحابها، فحذف المضاف، والصواب في الفدادين بتشديد الدال، جمع فداد بدالين أولاهما مشددة، وهذا قول أهل الحديث والأصمعيّ وجمهور أهل اللغة، وهو من الفديد، وهو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: هم المكثرون من الإبل الذين يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف، وقوله: إنّ القسوة في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، معناه: الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: الفخر والخيلاء،
فالفخر هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظيما، والخيلاء الكبر واحتقار الناس.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: في أهل الخيل والإبل
الفدادين أهل الوبر، فالوبر وإن كان من الإبل دون الخيل، فلا يمتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الخيل والإبل والوبر.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: والسكينة في أهل الغنم،
فالسكينة، الطمأنينة والسكون على خلاف ما ذكره من صفة الفدادين، هذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو رحمه اللَّه، وفيه كفاية فلا نطول بزيادة عليه. واللَّه- تعالى- أعلم. (شرح النووي) .

(14/62)


ولأبي بكر بن أبي شيبة من حديث يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسير له، فقال: يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب هم خير من في الأرض، فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول اللَّه؟ فقال كلمة ضعيفة: إلا أنتم [ (1) ] .
وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسندة من حديث ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن إلى آخره بمعناه.
وللطبراني في كتاب (الأوائل) من حديث علي بن عثمان اللاحقي حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبا، وهم أول من جاء بالمصافحة.
__________
[ (1) ] (المصنف) : 6/ 410، كتاب الفضائل، باب (58) ما جاء في اليمن وفضلها، حديث رقم (32426) .

(14/63)


وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في قدوم معاوية بن حيدة بن معاوية بن حيدة ابن قشير بن كعب القشيري [ (1) ]
فخرّج البيهقيّ من طريق داود الوراق، عن سعد بن حكيم، عن أبيه، عن جده معاوية بن حيدة القشيري، قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلما دفعت إليه قال أما إني سألت اللَّه- عز وجل- أن يعينني عليكم بالسّنة نحفيكم [ (2) ] ، وبالرعب أن يجعله في قلوبكم قال: فقال بيديه جميعا، أما إني قد خلقت هذا وهكذا أن لا أومن بك ولا أتبعك فما زالت السنة تحفيني، وما زال الرعب يجعل في قلبي حتى قمت بين يديك، أفبالله الّذي أرسلك بما تقول؟ قال: نعم، قال:
وهو أمرني بما تأمر؟ قال: نعم، قال: فما تقول في نسائنا؟ قال: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [ (3) ] ، وأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، ولا تضربون، ولا تقبحون، قال: أفينظر أحدنا إلى عورة أخيه إذا اجتمعنا؟ قال: لا، قال: فإذا تفرقا، قال: فضم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إحدى فخذيه على الأخرى، ثم قال: اللَّه أحق أن تستحيوا، قال: وسمعته يقول: يحشر الناس يوم القيامة عليهم الفدام [ (4) ] ، وأول ما ينطق من [ (5) ] الإنسان كفه وفخذه [ (6) ] .
__________
[ (1) ] ترجمته في (الإصابة) : 6/ 149- 150، ترجمة رقم (8071) .
[ (2) ] تحفيكم: تستأصلكم.
[ (3) ] البقرة: 223.
[ (4) ] الفدام: ما يشد على فم الإبريق والكوز، والمراد: يمنعون من الكلام حتى تتكلم جوارحهم.
[ (5) ] في (الأصل) : «عن» .
[ (6) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 378- 379، باب ما قدم معاوية بن حيدة القشيريّ ودخوله على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإجابة اللَّه- عزّ وجلّ- دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ألجأه إلى القدوم عليه وفيه:
«تأكلوا» ، «تلبسوا» ، «تضربوهم» ، «تقبحوهم» .

(14/64)


وأما شهادة الأساقفة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه وامتناع من أراد ملاعنته من ذلك
فقال يونس عن إسحاق: وفد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفد نصارى نجران بالمدينة، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: لما قدم وفد نجران على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخلوا عليه مسجده بعد العصر فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
حدثني بريدة بن سفيان، عن ابن السلماني، عن كرز بن علقمة قال: قد قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفد نصارى نجران [ (1) ] ستون راكبا، منهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و [في الأربعة عشر] منهم [ثلاثة] نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب، أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذين لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح والسيد لهم، ثمالهم [ (2) ] وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم [ (3) ] .
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن عمله في دينهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من عمله واجتهاده في دينهم.
فلما رجعوا [ (4) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من نجران جلس أبو حارثة على بغله له موجها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة حتى إذا
__________
[ (1) ] نجران: عرفت بنجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وأما أهلها فهم: بنو الحارث ابن كعب من مذحج.
[ (2) ] ثمال القوم: من يرجعون إليه ويقوم بأمرهم، وقد قيل في النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
[ (3) ] المدارس: المكان الّذي يدرسون فيه كتبهم، كذلك من يدرس لهم.
[ (4) ] في (الأصل) : «وجهوا» .

(14/65)


عثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز [ (1) ] : تعس الآبعد: يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له أبو حارثة: وأنت تعست! فقال له: ولم يا أخى؟ فقال: واللَّه إنه للنبيّ الّذي كنا ننتظر، قال له كرز: فما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا، ومولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كما ترى، فأضمر علينا منه أخوه كرز بن علقمة، حتى أسلم بعد ذلك. [فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني] [ (2) ] .
حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- قال:
اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى، ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل اللَّه- عز وجل- فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ (3) ]
فقال أبو رافع القرظي حين اجتمع عنده النصارى والأحبار: فدعاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام، [قالوا] أتريد منايا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: وذلك تريد يا محمد، وإليه تدعو؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معاذ اللَّه أعبد غير اللَّه أو آمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني ولا أمرني،
فأنزل اللَّه- عز وجل- في ذلك قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ (4) ] ،
__________
[ (1) ] في (ابن هشام) : «كوز» .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (ابن هشام) .
[ (3) ] آل عمران: 65- 68.
[ (4) ] آل عمران: 79- 80.

(14/66)


ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم وإقرارهم به على أنفسهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
حدثني محمد بن أبي أمامه قال: لما وقد أهل نجران على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسألونه عن عيسى ابن مريم- عليه السلام- نزلت فيهم فاتحة آل عمران إلى رأس الثمانين [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يشوع، عن أبيه، عن جده، قال يونس- وكان نصرانيا فأسلم-: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب إلى أهل نجران قبل أن تنزل عليه: طس* تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ [ (2) ] باسم إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي رسول اللَّه إلى أسقف نجران وأهل نجران: إن أسلمتم، فإنّي أحمد إليكم اللَّه، إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللَّه من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية اللَّه من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أذنتكم بحرب آذنتكم.
والسلام.
فلما أتى الأسفل الكتاب وقرأه فظع به وذعره ذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم، ولا السيد، ولا العاقب، فدفع الأسقف كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى شرحبيل فقرأه، فقال للأسقف: يا أبا مريم! ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد اللَّه إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، فما يؤمن من أن يكون هذا هو ذلك الرجل، ليس لي في النبوة رأي،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 384- 385، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم من الملاعنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] النمل: 1- 2، وقد في هذه الرواية هذا، وقال: قبل أن ينزل علي. طس* تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وذلك غلط على غلط، فإن هذه السورة مكية باتفاق، وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك، (زاد المعاد لابن القيم) .

(14/67)


لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه، وجهدت لك، فقال له الأسقف:
تنحّ فاجلس، فتنحّى شرحبيل فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد اللَّه بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه، فقال مثل قول شرحبيل وعبد اللَّه، فأمره الأسقف فتنحى، فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد اللَّه، فأمره الأسقف فتنحى، فجلس ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جمعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت المسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية ومائة وعشرون ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمدانيّ، وعبد اللَّه بن شرحبيل الأصبحي، وحبار بن فيض الحارثي، فيأتونهم بخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحال والخواتيم الذهب، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وكانا معرفة لهم، كانا يجدعان العتائر إلى نجران في الجاهلية فيشتري لهما من بزّها وتمرها وذرتها، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس
فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن! إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا، فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكما؟ أنعود أم نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو في القوم-: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟
فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم، ثم يعودون إليه، ففعل وفد نجران ذلك فوضعوا حللهم

(14/68)


وخواتيمهم، ثم عادوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلموا فرد سلامهم، ثم قال: والّذي بعثني بالحق لقد آتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم.
ثم ساءلهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى يسرنا إن كنت نبيا أن نعلم ما نقول فيه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركما بما يقال في عيسى.
فأصبح الغد، وقد أنزل اللَّه- تعالى- هذه الآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [ (1) ] .
فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشى عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: يا عبد اللَّه بن شرحبيل ويا جبار بن فيض قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني واللَّه أرى أمرا مقبلا، إن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعن في عينه، ورد عليه أمره، لا يذهب لنا من صدر ولا من صدور قومه حتى يصيبونا بجائحة وإنا لأدنى العرب منهم جوارا، وإن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك، فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقد وضعتك الأمور على ذراع، فهات رأيك، فقال: رأيي أن أحكمه فإنّي أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا، فقالا له: إذا أنت وذاك.
فتلقى شرحبيل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، فقال: وما هو؟ قال شرحبيل: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلي الصباح فمهما حكمت فينا جائز، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لعل وراءك أحد يثرّب عليك، فقال شرحبيل: سل صاحبيّ، فسألهما، فقالا له: ما يرد الوادي أحد منا ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كافر، أو قال: جاحد موفق.
__________
[ (1) ] آل عمران: 59- 61.

(14/69)


فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يلاعنهم [ (1) ] حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي رسول اللَّه لنجران إذا كان عليهم حكمة في كل ثمرة، وكل صفراء، وبيضاء، وسوداء، ورقيق وأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة، حلل الأواقى في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر، ألف حلة لكل حلة أوقية من الفضة فما زادت الخراج أو نقصت على حال الأواقى فبالحساب وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين فدونه ولا يحبسنّ رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، إذا كان كيد ومعرة وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسلي حتى يؤدوه إليهم، ولنجران وحاشيتها جوار اللَّه وذمة محمد النبي على أنفسهم، وملتهم، وأراضيهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم وأن لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغيّر حق من حقوقهم، ولا ملتهم، ولا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقها من وقيهاه، وكل ما ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس عليهم دنية، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أراضيهم جيش، ومن سأل فيهم حقا فبينهم النّصف غير ظالمين، ولا مظلومين بنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار اللَّه وذمة محمد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أبدا حتى يأتي اللَّه بأمره، وما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم.
شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر، والأقرع بن حابس الحنظليّ، والمغيرة [ (2) ] ، وكتب. حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة من نجران، ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له: بشر
__________
[ (1) ] كذا (بالأصل) ، وفي (الدلائل) : «فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلاعنهم» .
[ (2) ] زاد ابن سعد: «وعامر مولى أبي بكر، وفي (الخراج) لأبي يوسف: أن الّذي كتب لهم هذا الكتاب: عبد اللَّه بن أبي بكر، وفي (الأموال) لأبي عبيد: شهد بذلك عثمان بن عفان ومعيقب.

(14/70)


ابن معاوية وكنيته: أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى الأسقف فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعّس بشر غير أنه لا يكنى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال له الأسقف، عند ذلك: قد واللَّه تعست نبيا مرسلا، فقال بشر: لا جرم واللَّه لا أحل عنها عقدا حتى آتية، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثني الأسقف ناقته عليه، فقال له: افهم عني، إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه أو نصرته بضربة أو بخعنا لهذا الرجل بما لم تبخع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارا، فقال له بشر: واللَّه ما أقبل ما خرج من رأسك أبدا فضرب بشر ناقته وهو مولّي الأسقف ظهره وهو يقول فيه شعرا.
حتى أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلم ولم يزل مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك. ودخل وفد نجران فأتى الراهب ليث بن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعة، فقال له: إن نبيا بعث بتهامة، وأنه كتب إلى الأسقف، فأجمع رأي أهل الوادي على أن يسيروا إليه شرحبيل بن وداعة، وعبد اللَّه بن شرحبيل، وحبّار بن فيض فيأتونهم بخبره، فساروا حتى أتوا النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فدعاهم إلى الملاعنة، فكرهوا ملاعنته، وحكّمه شرحبيل فحكم عليهم حكما وكتب لهم به كتابا، ثم أقبل الوفد بالكتاب حتى دفعوه إلى الأسقف، فبينما الأسقف يقرؤه وبشر معه إذ كبت ببشر ناقته فتعّسه، فشهد الأسقف له أنه نبيّ مرسل، فانصرف أبو علقمة نحوه يريد الإسلام، فقال الراهب: أنزلوني وإلا رميت نفسي من هذه الصومعة، فأنزلوه، فانطلق الراهب بهدية إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معها هذا البرد الّذي يلبسه الخلفاء، والقعب، والعصا، وأقام الراهب بعد ذلك يسمع كيف ينزل الوحي، والسنن، والفرائض، والحدود، وأبي اللَّه للراهب الإسلام فلم يسلم،
واستأذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الرجعة إلى قومه فأذن له وقال له صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا راهب لك حاجتك إذا أبيت الإسلام، فقال له الراهب: إن لي حاجة ومعاذ اللَّه إن شاء اللَّه، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن حاجتك واجبة يا راهب فاطلبها إذا كان أحبّ إليك، فرجع إلى قومه فلم يعد حتى قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وأن الأسقف أبا الحارث أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل اللَّه- عزّ وجلّ- عليه، فكتب للأسقف هذا الكتاب ولأساقفة نجران: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث وكل أساقفة نجران، وكنهتهم، ورهبانهم، وبيعهم، وأهل

(14/71)


بيعهم، ورقيقهم، وملتهم، ومتواطئهم، وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، جوار اللَّه ورسوله، ولا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغيّر حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا مما كانوا عليه، على ذلك جوار اللَّه ورسوله أبدا ما نصحوا للَّه أو أصلحوا غير مثقلين بظلم ولا ظالمين،
وكتب المغيرة بن شعبة.
فلما قبض الأسقف الكتاب استأذن في الانصراف إلى قومه ومن معه، فأذن لهم، فانصرفوا حتى قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] قال: وقد تقدم حديث يونس بن بكير في ذكر الكتب النبويّة.
قال كاتبه قد وقع في (صحيحي البخاريّ ومسلم) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يريدان أن يلاعناه، فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو اللَّه إن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا أمين هذه الأمة [ (2) ] .
ولهما من طريق شعبة [ (3) ] قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن صلة بن زفر عن حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاء أهل نجران إلى رسول
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 385- 391.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 117، كتاب المغازي، باب (73) قصة أهل نجران، حديث رقم (4380) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4381) قوله: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران «أما السيد فكان اسمه الأيهم بتحتانية ساكنة، ويقال: شرحبيل، وكان صاحب رحالهم ومجتمعهم ورئيسهم في ذلك وأما العاقب فاسمه عبد المسيح، وكان صاحب شورتهم، وكان معهم أيضا أبو الحارث ابن علقمة أسقفهم، وحبرهم، وصاحب مدارسهم.
قال ابن سعد: دعاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام. وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال: إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم.
فانصرفوا على ذلك.

(14/72)


اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: ابعث إلينا رجلا أمينا، فقال لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين قال فاستشرف له الناس، قال: فبعث أبو عبيدة بن الجراح، قال البخاريّ:
حق أمين مرة واحدة.
وخرجه مسلم من حديث سفيان عن أبي إسحاق بهذا الإسناد نحوه، واللَّه- سبحانه وتعالى- أعلم بالصواب.
__________
[ () ] وفي قصة أهل نجران من الفوائد: أن إقرار الكافر بالنّبوّة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام. وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته. وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصرّ بعد ظهور الحجة. وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعيّ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء من العلماء. ومما عرف بالتجربة أن من باهل مبطلا لا تمضى عليه من يوم المباهلة. ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين.
وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المالي، ويجرى ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم، فإن كلا منها مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام.
وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام. وفيها منقبة ظاهرة لأبى عبيدة بن الجرام رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيهم، هذه القصة فير قصة أبي عبيدة، لأن أبا عبيدة توجه لهم فقبض مال الصلح ورجع، وعليّ أرسله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم وجب عليه من الصدقة واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) .
وأخرجه أيضا البيهقي في (دلائل النبوة) : 5/ 392، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم من الأساقفة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم الملاعنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، وكذلك رواه ابن هشام في (السيرة) ، وان سعد في (الطبقات) .

(14/73)


وأما تيقن عبد اللَّه بن سلام رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رسالته
فخرج الحاكم [ (1) ] من حديث هوذة بن خليفة حدثنا عوف بن أبي جميلة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن عبد اللَّه بن سلام- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما ورد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة انجفل الناس إليه وقيل: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وجئت في الناس لأنظر فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء سمعته يتكلم أن قال: يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. [ولم يخرجاه] .
وخرّج البخاريّ من حديث عبد اللَّه بن منبر [سمع عبد اللَّه بن بكر] حدثنا حميد بن أنس قال سمع: عبد اللَّه بن سلام- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بمقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمن إلا نبي فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفا، قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذلك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [ (2) ] أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أنك رسول اللَّه.
يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أي رجل عبد اللَّه بن سلام فيكم؟ قالوا:
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 14، كتاب الهجرة، حديث رقم (4283) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاريّ ومسلم.
[ (2) ] البقرة: 97.

(14/74)


خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد اللَّه بن سلام فقالوا: أعاذه اللَّه من ذلك فخرج عبد اللَّه فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه، قالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: فهذا الّذي كنت أخاف يا رسول اللَّه. في ذكره في التفسير [ (1) ] .
وذكره في المناقب من طريق بشر بن المفضل حدثنا حميد عن أنس إلى آخره بنحوه ولم يقل فيه: وهو في أرض يخترف، ولم يقل فيه: فقرأ هذه الآية، وقال فيه: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أرأيتم إن أسلم عبد اللَّه بن سلام؟ قالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا: مثل ذلك فخرج إليهم عبد اللَّه، الحديث إلى آخره [ (2) ] .
وذكره في أول كتاب الأنبياء من حديث الفزاري، عن حميد، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بلغ عبد اللَّه بن سلام مقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكلها أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله، الحديث.
وقال فيه: فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه به، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها، وفيه جاءت اليهود، ودخل عبد اللَّه البيت فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أي رجل فيكم عبد اللَّه؟
قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخبرنا وابن أخبرنا، الحديث إلى قوله: شرنا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 209، كتاب التفسير، باب (6) قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.
حكى الثعلبي عن ابن عباس أن سبب عداوة اليهود لجبريل- عليه السلام- أن نبيهم أخبرهم أن بخت نصّر سيخرب بيت المقدس، فبعثوا رجلا ليقتله، فوجده شابا ضعيفا، فمنعه جبريل من قتله وقال له: إن كان اللَّه أراد هلاككم على يده فلن تسلط عليه، وإن كان غيره فعلى أي حق تقتله؟ فتركه، فكبر بختنصر وغزا بيت المقدس فقتلهم وخربه، فصاروا يكرهون جبريل لذلك. (فتح الباري) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 346- 347، كتاب مناقب الأنصار، باب (51) بدون ترجمة.
حديث رقم (3938) .

(14/75)


وابن شرنا، ووقعوا فيه [ (1) ] . ولم يزد على هذا ولم يقل فيه: فقرأ هذه الآية:
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.
وذكر البيهقيّ [ (2) ] من طريق يونس بن بكير، عن أبي معشر المدني، عن سعيد المقبري قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتى قباء أمر مناديه فنادى بالصلاة، فذكر الحديث في مجيء عبد اللَّه بن سلام وجلوسه عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورجوعه إلى عمته فقالت له: يا ابن أخي لم احتبست؟ فقال: يا عمة كنت عند رسول اللَّه فقالت: عند موسى بن عمران؟ فقال لم أكن عند موسى بن عمران، فقالت: عند النبي الّذي يبعث قبيل قيام الساعة! قال:
نعم، من عنده جئت، فرجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسأله عن ثلاث، فذكر الحديث الأول إلا أنه سأله عن السواد الّذي في القمر بدل أول أشراط الساعة،
قال:
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أول نزل ينزله، قال أهل الجنة بلام ونون، فقال: ما بلام ونون؟ فقال: ثور وحوت يأكل من زائدة كبد، أحدهما سبعون ألفا، ثم يقومان يزفنان لأهل الجنة، وأما الشبه فأي النطفتين سبقت إلى الرحم من الرجل أو المرأة فالولد به أشبه.
وأما السواد الّذي في القمر فإنه ما كان شمسين فقال اللَّه- تعالى-:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [ (3) ] ، والسواد الّذي رأيت هو المحو فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، فقال عبد اللَّه بن سلام:
أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه.
ثم ذكر الحديث في قصة اليهود الذين دخلوا عليه وسألهم عن عبد اللَّه وما أجابوا به، وقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في آخره: أجزنا الشهادة الأولى وأما هذه فلا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 446- 447، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (1) خلق آدم وذريته، حديث رقم (3329) ، وفي (الأصل) : «أخيرنا وابن أخيرنا» وما أثبتناه من (البخاريّ) .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 261- 262، باب مسائل عبد اللَّه بن سلام- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وإسلامه حين عرف صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في رسالته.
[ (3) ] الإسراء: 12.

(14/76)


وخرج الحاكم [ (1) ] من طريق صفوان بن عمرو قال: حدثني عبد الرحمن ابن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود، فقال: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا يشهدون أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه يحط اللَّه عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الّذي غضب عليهم قال: فأسكتوا، ما أجابه أحد منهم، ثم ردّ عليهم فلم يجبه منهم أحد، فقال: أبيتم! فو اللَّه لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبيّ المصطفى، أبيتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفنا يقول: كما أنت يا محمد، فقال ذلك الرجل: أي رجل أعلم بكتاب اللَّه منك ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإنّي أشهد له باللَّه أنه نبي اللَّه الّذي تجدونه في التوراة، فقالوا: كذبت، ثم ردوا عليه قوله وقالوا فيه شرا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبتم لن يقبل قولكم أما آنفا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، وأما إذا آمن فكذبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن نقبل قولكم، قال: فخرجنا ونحن ثلاثة:
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعبد اللَّه بن سلام، وأنا، وأنزل اللَّه- تعالى- فيه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ الآية [ (2) ] .
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه انما اتفقا على حديث حميد، عن أنس أي رجل عبد اللَّه بن سلام فيكم مختصرا.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 415، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عبد اللَّه بن سلام الإسرائيلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حديث رقم (5756) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاريّ ومسلم، وإنما اتفقا على حديث حميد عن أنس.
[ (2) ] الأحقاف: 10.

(14/77)


وأما معرفة الحبر من أحبار اليهود بإصابة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في جوابه عما سأله وصدقه في نبوته
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث الربيع بن نافع، قال: حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام قال: حدثني أبو أسماء الرحبيّ أن ثوبان مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حدثه قال: كنت قائما عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد! فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول اللَّه؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الّذي سماه به أهله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اسمي محمد الّذي سماني به أهلي، فقال اليهودي: جئتك أسالك؟ فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، فنكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعود معه فقال:
سل؟ فقال اليهودي: أين يكون الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ (2) ] ؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هم في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال: اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال:
ينحر لهم ثور الجنة الّذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟
قال: من عين فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [ (3) ] ، قال: صدقت، قال:
وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، قال: ينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، قال: جئت اسألك عن الولد؟ قال: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا [ (4) ] بإذن اللَّه، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا [ (5) ]
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 230- 232، كتاب الحيض، باب (8) بيان صفة مني الرجل والمرأة، وأن الولد مخلوق من مائهما، حديث رقم (315) .
[ (2) ] إبراهيم: 48.
[ (3) ] الإنسان: 18.
[ (4) ] أنجبا ذكرا.
[ (5) ] أنجبا أنثى.

(14/78)


بإذن اللَّه، فقال اليهودي: لقد صدقت، إنك لنبيّ، ثم انصرف فذهب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد سألني هذا عن الّذي سألني وما لي علم بشيء منه حتى أتاني اللَّه به، واللَّه- تعالى- أعلم.
وخرّجه من حديث يحيى بن حسان قال معاوية بن سلام في هذا الإسناد بمثله، غير أنه قال: كنت قاعدا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: زائده كبد الحوت، وقال أذكر وآنث ولم يقل أذكرا وأنثا [ (1) ] .
وخرّجه النسائي من حديث مروان بن محمد، قال معاوية بن سلام: قال:
أخبرني أخي أنه سمع جده أبا سلام يقول: حدثني أبو أسماء الرحبيّ، عن ثوبان قال: كنت قاعدا ... الحديث، وفيه: زيادة كبد الحوت وفيه: من أين يكون شبه الولد؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر.
وخرّجه الحاكم من حديث ابن أبي توبة الربيع بن نافع، عن معاوية بن سلام به نحوه، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرّج البيهقيّ من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني المختار بن أبي المختار، عن أبي ظبيان قال: حدثنا أصحابنا أنهم بيناهم مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر لهم، فاعترضهم يهودي جعد أحمر متلفف بطيلسان، فقال: فيكم أبو القاسم؟ فيكم محمد؟ فقلنا: إياك، فلما انتهى إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: يا أبا القاسم، إني سائلك عن مسألة لا يعلمها إلا نبي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سأل عما شئت، فقال: من أي الفحلين يكون الولد فصمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لوددنا أنه لم يسأله، ثم عرفنا أنه قد بين له فقال: من كل يكون، فقال: ما من ماء الرجل؟ وما من ماء المرأة؟ فصمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لوددنا أنه لم يسأله، ثم عرفنا أنه قد بين له، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما نطفة الرجل فبيضاء غليطة، فمنها العظام والعصب وأما نطفة المرأة فحمراء رقيقة فمنها اللحم والدم. فقال: اشهد إنك رسول اللَّه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث رقم (315) بدون رقم.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 264- 265، باب مسائل الحبر ومعرفته إصابة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في جواب مسألته وصدقه في نبوته. وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 55، حديث رقم (4424) من مسند عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.

(14/79)


وأما معرفة عصابة من اليهود إصابة مقالته صلى اللَّه عليه وسلم
فخرّج أبو داود الطيالسي من حديث عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب قال: حدثني ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: حضرت عصابة من اليهود يوما النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللَّه! حدثنا عن خلال نسألك عنهما لا يعلمها إلا نبي، قال: سلوا عم شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة اللَّه، وما أخذ يعقوب على بنيه، إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتبايعني على الإسلام، قالوا: لك ذلك، قال: فسلوني عما شئتم، قالوا:
أخبرنا عن أربع خلال نسألك: أخبرنا عن الطعام الّذي حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [ (1) ] ، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى تكون الأنثى؟ وأخبرنا كيف هذا الشيء في النوم؟ ومن وليّك من الملائكة؟.
قال: فعليكم عهد اللَّه لئن أنا حدثتكم لتبايعني، فأعطوه ما شاء اللَّه من عهد وميثاق. قال: أنشدكم باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، تعلمون أن إسرائيل- يعقوب- مرض مرضا شديدا طال سقمه، فنذر للَّه نذرا: لئن شفاه اللَّه من سقمه ليحرمنّ أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل؟ قالوا اللَّهمّ نعم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اشهد عليهم، قال: أنشدكم باللَّه الّذي لا إله إلا هو الّذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا، كان له الولد والشبه بإذن اللَّه، وإن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن اللَّه، إن علا ماء المرأة ماء الرجل كانت أنثى بأذن اللَّه؟ قالوا: اللَّهمّ: نعم!.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اشهد عليهم، قال: أنشدكم باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا:
__________
[ (1) ] آل عمران: 93.

(14/80)


اللَّهمّ نعم! قال: اللَّهمّ اشهد عليهم، قالوا: أنت الآن حدثنا من وليّك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك.
قال: وليّي جبريل، ولم يبعث اللَّه نبيا قط إلا وهو وليّه، قالوا: فعندها نفارقك لو كان وليّك غيره من الملائكة لتابعناك وصدقناك، قال فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا من الملائكة، فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ-: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ... [ (1) ] ، ونزلت: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] البقرة: 97.
[ (2) ] البقرة: 90.
والخبر أخرجه البيهقيّ في (دلائل النبوة) : 6/ 266- 267، باب ما جاء في مسائل عصابة من اليهود، ومعرفة إصابته صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما قال.

(14/81)


وأما معرفة اليهوديّين صدقه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نبوته
فخرّج البيهقيّ من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا شعبة [بن الحجاج] ، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللَّه بن سلمة، عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي فنسأله، فقال الآخر: لا تقل نبي فإنه إن سمعك تقول: نبي كانت له أربعة أعين، فانطلقا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسألاه عن قول اللَّه- عز وجل- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [ (1) ] ، قال: لا تشركوا باللَّه شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تفروا يوم الزحف، ولا تقذفوا محصنة- شك شعبة- وعليكم خاصة اليهود- أن لا تعدوا في السبت.
فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تسلما قالا: إن داود سأل ربه أن لا يزال في ذريته نبيّ، ونحن نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود.
__________
[ (1) ] الإسراء: 101.

(14/82)


وأما اعتراف اليهود بنبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جاءوه يسألوه عن حد الزاني وشهادة ابن صوريا على يهود
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث محمد بن مقاتل المروزيّ قال: حدثنا عبد اللَّه ابن المبارك حدثنا معمر عن الزهري قال: كنت جالسا عند سعيد بن المسيب وعند سعيد رجل وهو يوقره، فإذا هو رجل من مزينة وكان أبوه شهد الحديبيّة، وكان من أصحاب أبي هريرة، قال: قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كنت جالسا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جاء نفر من يهود وقد زنا رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا حدا دون الرجم فعلناه، واحتججنا عند اللَّه حين نلقاه بتصديق نبيّ من أنبيائك! قال مرّة عن الزهري: وإن أمرنا بالرجم عصيناه، فقد عصينا اللَّه فيما كتب علينا من الرجم في التوراة، فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل منا زنا بعد ما أحصن؟ فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يرجع إليهم شيئا، وقام معه رجلان من المسلمين حتى أتوا بيت مدراس اليهود، فوجدهم يتدارسون التوراة، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا معشر اليهود أنشدكم باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: نجبه، والتجبية أن يحملوا اثنين على حمار فيولون ظهر أحدهما ظهر الآخر، قال:
فسكت حبرهم وهو فتى شاب، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صامتا ألظ النشدة، فقال حبرهم: أما إذ نشدتهم فإنا نجد في التوراة الرجم على من أحصن، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: فما أول من ترخصتم أمر اللَّه؟ فقال: زنا رجل منا ذو قرابه بملك من
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 268، باب ما جاء في مسائل اليهوديّين ومعرفتهما بصدق النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في نبوته.
وأخرجه الترمذيّ في (السنن) : كتاب الاستئذان، باب ما جاء في قبلة اليد والرجل، رقم (2733) ، وأعاده في تفسير سورة الإسراء عن محمود بن غيلان، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأدب عن أبي بكر بن أبي شيبة، ونقله ابن كثير في (البداية والنهاية) عن الإمام أحمد.

(14/83)


ملوكنا فأخر عنه الرجم، فزنى بعده آخر في أسرة من الناس، فأراد ذلك الملك أن يرجمه، فقام قومه دونه فقالوا: لا واللَّه لا ترجمه حتى يرجم فلان ابن عمه فاصطلحوا بينهم على هذه العقوبة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإنّي أحكم بما في التوراة، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهما فرجما.
قال الزهري: وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [ (1) ] .
ومن طريق يونس بن بكير عن إسحاق قال: حدثني الزهريّ، قال:
سمعت رجلا من مزينة يحدث عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة حدثهم فذكر معنى هذا الحديث يزيد وينقص، فمما زاد أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لابن صوريا: أنشدك باللَّه وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أن اللَّه حكم فيمن زنا بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللَّهمّ نعم، أما واللَّه يا أبا القاسم إنهم يعرفون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك.
فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأمر بهما فرجما عند باب مسجد بني غنم بن مالك ابن النجار، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا،
فأنزل اللَّه- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [ (2) ] يعني الذين لم يأتوه، تغيبوا وتخلفوا وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الكلم عن مواضعه، قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ للتجبية وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [ (3) ] إلى آخر القصة [ (4) ] .
قال كاتبه: قد وقعت هذه القصة من رواية البخاريّ، ومسلم، وأبي داود، والنسائيّ، واختلفوا في سياقها.
__________
[ (1) ] المائدة: 44.
[ (2) ] المائدة: 41.
[ (3) ] المائدة: 41.
[ (4) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 269- 271، باب رجوعهم إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في عقوبة الزاني، وما ظهر من ذلك من كتمانهم ما أنزل اللَّه- تعالى- في التوراة من حكمه، وصفة نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم.

(14/84)


فخرّج البخاريّ [ (1) ] ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث مالك عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد اللَّه بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد اللَّه بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجما، فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة.
وهذه سياقة البخاري في باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام [ (2) ] .
وخرّجه أيضا في كتاب المناقب [ (3) ] ، وذكره النسائي في الحدود [ (4) ] ، وخرّجه مسلم من حديث عبيد اللَّه، عن نافع أن عبد اللَّه بن عمر أخبره أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتي بيهوديّ ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى جاء يهود فقال:
ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا: تسود وجوههما ونحملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فجاءوا بها، فقرءوها حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الّذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد اللَّه بن سلام وهو مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مرة فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 203، كتاب الحدود، باب (37) أحكام أهل الذمة وإحصائهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام، حديث رقم (6841) .
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 782، كتاب المناقب، باب (26) قول اللَّه- تعالى- يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] ، حديث رقم (3635) .
[ (4) ] لم أجده في (السنن) ، ولعله في (الكبرى) ، ولكن نسبه المنذريّ إلى النسائيّ.

(14/85)


آية الرجم فأمر بهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجما، قال عبد اللَّه بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه [ (1) ] .
وأخرجاه أيضا من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، فخرجه البخاريّ في آخر كتاب التوحيد [ (2) ] ، وأخرجاه من حديث موسى بن عقبة، عن نافع عن بن عمر [ (3) ] ، وخرّجه البخاري في الحدود من حديث سليمان: حدثني عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر سياقة مختصرة [ (4) ] .
وخرّج مسلم [ (5) ] وأبو داود [ (6) ] والنسائي من حديث معاوية، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن مرة، عن البراء بن عازب، قال: مر عليّ النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بيهوديّ محمم مجلو، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا:
نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: اللَّهمّ لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجد حدّ الزاني في كتابنا: الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه، وإذا أخذنا الرجل الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 220- 221، كتاب الحدود، باب (6) رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث رقم (26) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 631، كتاب التوحيد، باب (51) ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب اللَّه بالعربية وغيرها لقول اللَّه- تعالى- قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، حديث رقم (7543) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 221، كتاب الحدود، باب (6) رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث بدون رقم بين (27) ، (28) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 12/ 153- 154، كتاب الحدود، باب (24) الرجم في البلاط، حديث رقم (6819) ، والمراد بالبلاط هنا موضع معروف عند باب المسجد النبوي كان مفروشا
[ (5) ] ب (لبلاسطم بشرح النووي) : 11/ 221، حديث رقم (28) .
[ (6) ] (سنن أبي داود) : 4/ 593- 594، كتاب الحدود، باب (26) في رجم اليهوديّين، حديث رقم (4448) .

(14/86)


فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل اللَّه- عز وجل-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [ (1) ] إلى قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا في اليهود.
يقول ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل اللَّه- تعالى-: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (2) ] في اليهود، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [ (3) ] في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [ (4) ] .
وخرّج أبو داود من حديث مجالد، حدثنا عامر، عن جابر بن عبد اللَّه قال: جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا، فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتوه بابني صوريا فنشدهما كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا:
نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال: فما يمنعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برجمهما [ (5) ] .
ومن حديث هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم والشعبي، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، نحوه، لم يذكر فدعا بالشهود فشهدوا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] المائدة: 41.
[ (2) ] المائدة: 45.
[ (3) ] المائدة: 44.
[ (4) ] المائدة: 47.
[ (5) ] (سنن أبي داود) : 4/ 600- 601، كتاب الحدود، باب (26) في رجم اليهوديّين، حديث رقم (4452) ، وأخرجه ابن ماجة مختصرا في الأحكام، باب شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، حديث رقم (2374) .
[ (6) ] (سنن أبي داود) : 4/ 601، كتاب الحدود، باب (26) في رجم اليهوديّين، حديث رقم (4453) ، وهو حديث مرسل.

(14/87)


ومن حديث هشيم، عن ابن شبرمة، عن الشعبي بنحو منه [ (1) ] .
وخرّج أيضا من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن الزهريّ قال:
حدثنا رجل من مزينة من حديث يونس قال: قال محمد بن مسلم: سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه، ثم اتفقا: ونحن عند سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وهذا حديث معمر وهو أتمّ، قال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند اللَّه، قلنا:
فتيا نبيّ من أنبيائك! قالوا: فأتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: أنشدكم باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما.
قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم سكت ألظّ به النشدة، أنشده فقال: اللَّهمّ إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة آية الرجم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فما أول ما ارتخصتم أمر اللَّه- عز وجل-؟ قال: زنا ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنا رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا: لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإنّي أحكم بما في التوراة فأمرهما فرجما [ (2) ] .
قال الزهريّ: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4454) ، وهو حديث مرسل أيضا.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4450) . وألظّ: ألحّ عليه في ذلك وفي الحديث «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» .
[ (3) ] فيه رجل من مزينة، قال الخطابيّ: لا يعرف، والآية (44) من سورة المائدة،
وفي قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فإنّي أحكم بما في التوراة»
حجة لمن قال بقول أبي حنيفة، إلا أن الحديث عن رجل لا يعرف، وقد يحتمل أن يكون معناه: أحكم بما في التوراة احتجاجا به عليهم، وإنما حكم بما كان في دينه وشريعته، فذكره التوراة لا يكون علة للحكم. (معالم السنن) .

(14/88)


ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهريّ سمعت رجلا من مزينة يحدث عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال:
زنا رجل وامرأة من اليهود وقد أحصنا حين قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وقد كان الرجم مكتوبا عليهم في التوراة فتركوه وأخذوا بالتجبية، يضرب مائة بحبل مطليّ بقار، ويحمل على حمار وجهه مما يلي دبر الحمار، فاجتمع أحبار من أحبارهم فبعثوا قوما آخرين إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: سلوه عن حد الزاني وساق الحديث، قال فيه: ولم يكونوا من أهل دينه فيحكم بينهم فخير في ذلك، قال: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4451) ، والآية (42) من سورة المائدة.

(14/89)


وأما اعتراف اليهودي بصفته صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث مؤمل بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فمرض، فأتاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا يهودي أنشدك باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة نعتي وصفتي ومخرجي؟ قال: لا، قال الفتى:
يا رسول اللَّه إنا نجد لك في التوراة نعتك، وصفتك، ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عثمان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيد، عن أبيه قال: إن اللَّه- عز وجل- بعث نبيه لإدخال رجال الجنة، فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كنيسة فإذا هو بيهود وإذا بيهودي يقرأ التوراة، فلما أتى على صفته أمسك، وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما لكم أمسكتم؟ فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبيّ فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة، وقال: ارفع يدك فقرأ حتى أتى على صفته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، ثم مات، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لوا أخاكم [ (2) ] .
ومن طريق صالح بن عمر، قال: حدثنا عاصم يعني ابن كليب، عن أبيه، عن الفلتان بن عاصم، قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ شخص بصره إلى رجل فدعاه، فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: أشهد أني رسول اللَّه؟ قال: فجعل لا يقول شيئا إلا قال: يا رسول اللَّه، فيقول: أتشهد أني رسول اللَّه؟ فيأبى، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتقرأ التوراة؟ قال: نعم، والإنجيل؟ قال: نعم، والفرقان
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 272- 273، باب ما جاء في اليهودي الّذي اعترف بصفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة وأسلم عنده موته، واليهوديّ الّذي اعترف بصفته حين ناشده.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 272- 273.

(14/90)


ورب محمد لو شئت لقرأته، قال: فأنشدك بالذي أنزل التوراة، والإنجيل وأشياء حلفه بها تجدني فيهما؟ قال: نجد مثل نعتك يخرج من مخرجك كنا نرجو أن يكون فينا، فلما خرجت رأينا أنك هو، فلما نظرنا إذا أنت لست به، قال: من أين؟ قال: نجد من أمتك سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وإنما أنتم قليل، قال: فهلل وكبر، وهلل وكبر، ثم قال: والّذي نفس محمد بيده إني لأنا هو، إن أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين وسبعين [ (1) ] .

وأما دعاؤه صلى اللَّه عليه وسلم اليهود إلى تمني الموت وإخبارهم أنهم لا يتمنوه أبدا فصدق قوله، ولن يتمنوا الموت
فقد قال اللَّه- تعالى-: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [ (2) ] فتضمنت هذه الآية معجزا نبويا، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبر اليهود بأنهم لا يتمنون الموت بعد أن تحداهم به، وقد كان يمكنهم أن يبطلوا دعواه بكلمة، وهي أن يقولوا: تمنينا الموت، فلم يفعلوا، فدل على علمهم بصدقة، فصرفهم عن تكذيبه مع سهولته ظاهرا، وتوفر الدواعي عليه.
وذلك أن اليهود ادعت أشياء باطلة كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، وقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فأكذبهم اللَّه- تعالى- في ذلك وألزمهم، فقال: يا محمد قل إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنة فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في دعواكم لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا لما يصير إليه من نسيم الجنة، ويزول عنه من
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 273.
[ (2) ] البقرة: 94- 95.

(14/91)


نصب الدنيا، وإذا خافوها فأحجموا عن تمني الموت خوفا وفرقا من اللَّه- تعالى-، العالم يقبح فعالهم وسوء أعمالهم، ولمعرفتهم بكفرهم في قولهم:
نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ولحرصهم على الدنيا فلما علم اللَّه- سبحانه- منهم ذلك أخبر عنهم بقوله- تعالى-: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يحقق- تعالى- كذبهم للناس فلم يقدم أحد منهم على تمني الموت معجزة من اللَّه- تعالى- لنبيه ولو تمنوه لأظهروه بألسنتهم ليردوا بإظهاره صدق المخبر لهم بذلك، وليبطلوا حجته فيكون تمنيهم للموت أعظم ما يدفعون به نبوته، ويشنعون به عليه من إخباره بما وقع في الوجوه خلافه، لكن اللَّه- سبحانه صرفهم عن تمني الموت وحرصهم على الإمساك يجعل ذلك آية للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقد روى أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار.
وحكى عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أن المراد ادعوا بالموت على الكاذب من الفريقين منا ومنكم، فلم يدعوا لعلمهم بكذبهم.
وقال الكلبي: عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كنتم في مقالتكم صادقين فقولوا: اللَّهمّ أمتنا، فو الّذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه فمات مكانه، فأبوا أن يفعلوا فكرهوا ما قال لهم فنزل: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني عملته أيديهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أنهم لن يتمنوه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند نزول هذه الآية: واللَّه لا يتمنونه أبدا، والّذي نفسي بيده لو تمنوا الموت لماتوا، فكره أعداء اللَّه الموت فلم يتمنوا جزعا أن ينزل بهم الموت.
وقال في قوله- تعالى-: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً [ (1) ] قال: وإذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة اتخذوها هزوا ولعبا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أمر اللَّه.
قال: وكان منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إلى الصلاة، قالت اليهود والنصارى: قد قاموا، لا قاموا، فإذا رأوهم ركعا سجدا استهزءوا بهم وضحكوا منهم.
__________
[ (1) ] المائدة: 58.

(14/92)


قال: وكان رجل من اليهود تاجر إذ سمع المنادي ينادي بالأذان قال:
أحرق اللَّه الكاذب، قال: فبينا هو كذلك إذا دخلت جاريته بشعلة من نار فطارت شرارة منها في البيت فالتهبت في البيت فأحرقته [ (1) ] .

وأما اعتراف نفر من اليهود بموافقة سورة يوسف- عليه السلام- ما في التوراة
فروى محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أن حبرا من أحبار اليهود دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم وكان قارئا للتوراة فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف كما أنزلت على موسى في التوراة فقال له الحبر:
يا محمد! من علمكها؟ قال: اللَّه علمنيها. فتعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم: أتعلمون واللَّه إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة؟ فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة، ونظروا إلى خاتم النبوة فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف- عليه السلام- فتعجبوا منه، وقالوا: يا محمد من علمكها؟ فقال علمنيها اللَّه ونزل: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [ (2) ] يقول: لمن سأل عن أمرهم فأراد أن يعلم علمهم، فأسلم القوم عند ذلك [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 274- 275، باب ما جاء في قول اللَّه عز وجل قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 94] ، وإخبار اللَّه تعالى بأنهم لن يتمنوه أبدا فكان كما أخبر، وما روى من احتراق من يهزأ بالأذان، ويدعو على المؤذن بالاحتراق.
[ (2) ] يوسف: 7.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 276، ما جاء في تعجب الحبر الّذي سمعه يقرأ سورة يوسف لموافقتها ما في التوراة، وسؤاله من سأل عن أسماء النجوم التي رآها ساجدة له.

(14/93)


وأما تصديق يهودي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في إخباره بأسماء النجوم [التي سجدت] ليوسف عليه السلام في منامه
فروى الحكم بن ظهير، عن السدي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أتى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل يقال له بستاني [ (1) ] اليهودي، فقال: يا محمد أخبرني! عن النجوم التي رآها يوسف- عليه السلام- أنها ساجدة له، ما أسماؤها؟ قال: فلم يجبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيء، فنزل جبريل- عليه السلام- فأخبره، فبعث نبي اللَّه إلى اليهودي، فلما جاءه قال: وأنت تسلم إن أخبرتك؟ قال: نعم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: حرثان أو قال حرثال، وطارق، والذيال، وذو الكنفات، وذوا القرع، ووثاب، وعمودان، وقابس، والضّروح، والمصبّح، والفيلق، والضياء، والنور، رآها في أفق السماء أنها ساجدة له، فلما قص يوسف- عليه السلام- رؤياه على يعقوب قال له: هذا أمر متشتت يجمعه اللَّه من بعد، فقال اليهودي: هذه واللَّه أسماؤها.
قال الحكم: الصبا هو الشمس، وهو أبوه والنور هو القمر، وهي أمه.
قال البيهقيّ [ (2) ] : تفرد به الحكم ظهير بن وهو عند بعض أهل التفسير.
واللَّه- تعالى- أعلم.

وأما هلاك من خالف أمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقيّ [ (3) ] من طريق عثمان بن سعيد الدارميّ قال: حدثنا الربيع ابن نافع أبو توبة وأبو الجماهير محمد بن عثمان التنوخي قالا: حدثنا الهيثم بن حميد قال: أخبرني راشد بن داود الصنعاني، حدثنا أبو أسماء الرحبيّ، عن
__________
[ (1) ] في بعض المصادر: «بستانه» .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 277، باب مطلب أسماء النجوم التي سجدت ليوسف- عليه السلام-.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 282، باب ما روى فيما أصاب من خالف أمره في الرحيل.

(14/94)


ثوبان مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال في مسير له أنا مدلجون الليلة فلا يرحلن معنا مضعف ولا مصعب، فارتحل رجل على ناقة له صعبة، فسقط فاندقت فخذه فمات، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا فنادى: إن الجنة لا تحل لعاص ثلاثا [ (1) ] .
وقال الواقدي [ (2) ] في- غزوة تبوك-: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يخرجن معنا إلا مقو، فخرج رجل على بكر صنعت فصرعه، فقال الناس: الشهيد الشهيد، فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مناديا ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن أو إلا نفس مؤمنة، ولا يدخل الجنة عاص، وكان الرجل طرحه بعيره بالسويداء [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 370، حديث رقم (21859) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 994- 995.
[ (3) ] السويداء: موضع على ليلتين من المدينة على طريق الشام، ولها ذكر في سنن أبي داود، كتاب الإمارة، حديث رقم (2958) (معجم البلدان) : 3/ 325، موضع رقم (6788) .

(14/95)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بهلاك المشرك الّذي سال عن كيفية اللَّه- تعالى-
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق ديلم بن غزوان قال: حدثنا ثابت عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا من أصحابه إلى رأس من رءوس المشركين يدعوه إلى اللَّه- عز وجل-، فقال المشرك:
هذا الإله الّذي تدعو إليه من ذهب هو أو من فضة أو من نحاس؟! فتعاظم مقالته في صدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره فقال: ارجع إليه، فرجع إليه فقال له مثل ذلك، فأنزل اللَّه- عز وجل- صاعقة من السماء، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الطريق لا يدري، فرجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه قد أهلك صاحبك وأنزل اللَّه- تعالى- على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [ (2) ] الآية، قال كاتبه: هذا المشرك هو أربد بن قيس.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 283، باب ما روى في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بما أصاب المشرك الّذي سأل عن كيفية اللَّه- سبحانه- من العذاب.
[ (2) ] الرعد: 13.

(14/96)


وأما هلاك من كذب على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإخباره بأن رسله إليه لا تدركه فكان كذلك
فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى قرية من قرى الأنصار فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسلني إليكم وأمركم أن تزوجوني فلانة، قال: فقال رجل من أهلها: جاءنا هذا بشيء ما نعرفه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنزلوا الرجل وأكرموه حتى آتيكم بخبر ذلك، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر ذلك له، فأرسل عليا والزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فقال: اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه، ولا أراكما تدركانه، قال: فذهبا فوجداه قد لدغته حية فقتلته، فرجعا إلى النبي فأخبراه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
من كذب علي فليتبوَّأ مقعده من النار [ (1) ] .
قال البيهقي [ (2) ] هذا مرسل، وقد روى من وجه آخر، فذكره من طريق يحيى ابن بسطام قال: حدثني عمر بن فرقد البزار، حدثنا عطاء بن السائب، عن عبد اللَّه بن الحارث أن جد جد الجندعي كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقربه، فأتى اليمن، فعشق فيهم امرأة فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمرني أن تبعثوا إلي بفتاتكم، فقالوا:
عهدنا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يحرم الزنا، ثم بعثوا رجلا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا فقال: ائته، فإن وافقته حيا فأقتله، وإن وجدته ميتا فحرقه بالنار.
قال: فخرج جدجد من الليل يستسقي من الماء فلدغته أفعى فقتلته، فقدم علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فوافقه وهو ميت، فحرقه بالنار، فمن ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من كذب علي متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 284، باب ما روى فيما أصاب الّذي كذب عليه، وقوله للذين بعثهما إليه: ولا أراكما تدركانه، فلم يدركانه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 285.
[ (3) ]
حديث: «من كذب علي متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار» متواتر، رواه عن النبي ثمانية وتسعون صحابيا، منهم العشرة، ولا يعرف ذلك لغيره.

(14/97)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا بما يحدث به نفسه وما يؤول إليه أمره
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني الرقاشيّ، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ذكروا رجلا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكروا قوته في الجهاد واجتهاده في العبادة، فإذا هم بالرجل مقبل، قالوا: هذا الّذي كنا نذكر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده إني لأرى في وجهه سنعة من الشيطان، ثم أقبل فسلم عليهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل حدثت نفسك أن ليس في القوم أحد خير منك؟ قال:
نعم، ثم ذهب فاختط مسجدا وصف بين قدميه يصلي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
من يقوم إليه فيقتله؟ قال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنا، فانطلق إليه فوجده قائما يصلي، فهاب أن يقتله فانصرف، فقال: يا رسول اللَّه، وجدته قائما يصلي فهبت أن أقتله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيكم يقوم إليه قال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنا، فانطلق إليه فصنع كما صنع أبو بكر، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أيكم يقوم إليه فيقتله؟ قال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنا، قال: أنت إن أدركته فذهب فوجده قد انصرف، فرجع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا أول قرن خرج في أمتي، لو قتلته ما اختلف أثناه بعده من أمتي، ثم قال: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة [ (2) ] ،
قال يزيد الرقاشيّ: هي الجماعة.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 287- 288، باب ما روى في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم الرجل الّذي وصف بالاجتهاد في العبادة بما حدثته نفسه، وبغير ذلك من حاله.
[ (2) ] وأخرجه الإمام أحمد، دون ذكر القصة.

(14/98)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم امرأة صامت بما كان منها في صومها
فخرج البيهقي من طريق جعفر بن عون، قال: أخبرنا مسعر عن عمرو ابن مرة عن أبي البختري، قال: كانت امرأة في لسانها ذرابة [ (1) ] ، فأتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما أمست دعاها إلى طعامه فقالت له: إني كنت صائمة، فقال: ما صمت، فلما كان اليوم الآخر تحفظت بعض التحفظ، فلما أمست دعاها إلى طعامه، فقالت: أما إني كنت اليوم صائمة، قال: كذبت! فلما كان اليوم الآخر تحفظت ولم يكن منها شيء، فلما أمست دعاها إلى طعامه، قالت: أما إني كنت صائمة. قال اليوم صمت، هذا حديث مرسل [ (2) ] .
__________
[ (1) ] امرأة ذربة- على وزن قربة- وذربة، أي صخابة، حديدة، فاحشة، طويلة اللسان، والذرب اللسان: الفاحش البذيء الّذي لا يبالي ما قال. (لسان العرب) : 1/ 385- 386، مختصرا.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 289، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم المرأة الصائمة، بما كان من شأنها في حفظ لسانها.

(14/99)


وأما استغناء أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه ببركة اقتدائه في التعفف بقول المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج البيهقي من حديث إسماعيل بن أبي أنس قال: حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: أصابنا جوع ما أصابنا مثله قط في جاهلية ولا إسلام! فقالت لي أختي فريعة: اذهب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسله لنا، فو اللَّه يخيب سائله إنك منه بإحدى اثنتين: إما أن يكون عنده فيعطيك، وإما أن لا يكون عنده، فيقول: أعينوا أخاكم، فلم أكره ذلك، فلما دنوت من المسجد وهو يومئذ ليس له جدار، سمعت صوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: إن هذا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يخطب، فكان أول ما فهمت من قوله
من يستعف يعفه اللَّه ومن يستغن يغنه اللَّه،
فقلت في نفسي:
ثكلتك أمك سعد بن مالك، واللَّه لكأنك أردت بهذا. لا جرم والّذي بعثك بالحق لا أسألك شيئا بعد ما سمعت منك، فجلست، فلما فرغ رجعت وفريعة تقبل وتدبر أقصى الآجام إلى بابه قد أدامها الجوع.
قال: فلما حصلت ببقيع الزبير أبصرت ليس معى شيء، فلما جئت قالت: مالك؟ فو اللَّه ما يخيب سائله، فأخبرتها بالذي سمعت منه. قالت:
فسألته بعد ذلك؟ قلت: لا، قالت: أحسنت، فلما كان من الغد فإنّي واللَّه لأتعب نفسي تحت الأجم إذ وجدت من دراهم يهود فابتعنا به وأكلنا منه، ثم واللَّه ما زال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم محسنا [ (1) ] .
قال: رواه هلال بن حصن، عن أبي سعيد إلا أنه قال: فرجعت فما سألت أحدا بعده شيئا، فجاءت الدنيا فما من أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 290- 291، باب ما جاء في وعده من استعف بالإعفاف، ومن استغنى بالإغناء، ووجود صدقة أبي سعيد الخدريّ وغيره.
وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (20) الصبر عن محارم اللَّه، ومسلم في كتاب الزكاة، والإمام أحمد في (المسند) : 4/ 227.

(14/100)


ومن حديث عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي [ (1) ] سلمة، عن أبي سعيد الخدريّ قال: جئت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأنا أريد أن أسأله فوجدته جالسا على المنبر يخطب الناس: من يستعفف يعفه اللَّه، ومن يستغن يغنه اللَّه،
فرجعت وقلت: لا أسأله فلانا أكثر قومي مالا. واللَّه تعالى اعلم [ (2) ] .

وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم وابصة الأسدي بما جاء يسأله عنه قبل أن يسأله
فخرّج البيهقيّ من حديث ابن وهب قال: حدثني معاوية، عن أبي عبد اللَّه محمد الأسدي، أنه سمع وابصة الأسدي قال: جئت لأسأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن البر والإثم فقال من قبل أن أسأله: جئت يا وابصة تسألني عن البرّ والإثم؟
قلت: إي، والّذي بعثك بالحق إنه للذي جئت أسألك عنه، فقال: البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في نفسك، وإن أفتاك عنه الناس [ (3) ] .
ومن طريق الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد ابن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد اللَّه- يعني ابن مكرز- عن وابصة، قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه. فجعلت أتخطى الناس، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم! فقلت: دعوني أدن منه [فإنه من أحب الناس إليّ أن ادنو]
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «عن سلمة» .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 291.
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 292، باب ما روى في إخبار النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم السائل بما أراد أن يسأله قبل سؤاله. وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن وابصة، الأسديّ.

(14/101)


[منه] [ (1) ] ، فقال: أدن يا وابصة، أدن يا وابصة، فدنوت حتى مست ركبتي ركبته فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا وابصة أخبرك بما جئت تسألني عنه، فقلت: أخبرني يا رسول اللَّه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: جئت تسألني عن البر والإثم؟ قلت: نعم، فجمع أصابعه فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قلبك، استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك [ (2) ] .

وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلين عن ما أتيا يسألانه عنه قبل أن يسألاه
فخرج البيهقي من طريق خلاد بن يحيى قال: حدثنا عبد الوهاب، عن مجاهد، وخرجه ابن حبان في (صحيحه) من حديث القاسم بن الوليد، عن سنان بن الحارث بن مصرف، عن طلحة بن مصرف، عن مجاهد، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: كنت جالسا عند نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاءه رجلان، أحدهما أنصاري، والآخر ثقفي، فابتدر المسألة للأنصاريّ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أخا ثقيف، إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة، فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه فإنّي أبدأ به، فقال: سل عن حاجتك، وإن شئت أنبأناك بالذي جئت تسأل عنه، قال: ذاك أعجب إلى يا رسول اللَّه! قال: فإنك جئت تسألني عن صلاتك بالليل، وعن ركوعك، وعن سجودك، وعن صيامك، وعن غسلك من الجنابة، فقال: والّذي بعثك بالحق إن ذلك الّذي جئت أسأل عنه.
قال: أما صلاتك بالليل فصل أول الليل وآخر الليل، ونم وسطه. قال:
أفرأيت يا رسول اللَّه إن صليت وسطه؟ قال: فأنت ذا إذا. قال: وأما ركوعك فإذا أردت فاجعل كفيك على ركبتيك، وأفرج بين أصابعك، ثم ارفع رأسك فانتصب قائما حتى يرجع كل عظم إلى مكانه، فإذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر، وأما صيامك فصم الليالي البيض: يوم ثلاثة عشر، ويوم أربعة عشر، ويوم خمسة عشرة.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 292- 293، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 288.

(14/102)


ثم أقبل الأنصاري فقال: يا أخا الأنصار سل عن حاجتك وإن شئت أنبأناك بالذي جئت تسأل عنه. قال: فذلك أعجب، إلي يا رسول اللَّه! قال: فإنك جئت تسأل عن خروجك من بيتك تؤم البيت العتيق وتقول: ماذا لي فيه؟ وعن وقوفك بعرفات، وتقول: ماذا لي فيه؟ وعن حلقك رأسك، وتقول: ماذا لي فيه؟ وعن طوافك بالبيت، وتقول: ماذا لي فيه؟ وعن رميك الجمار، وتقول ماذا لي فيه؟ قال: إي والّذي بعثك بالحق، إن هذا الّذي جئت أسألك عنه.
قال أما خروجك من بيتك تؤم البيت، فإن لك بكل موطأة تطؤها راحلتك أن تكتب لك حسنة وتمحى عنك سيئة، وإذا وقفت بعرفات، فإن اللَّه- تعالى- ينزل إلى السماء الدنيا فيقول للملائكة: هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، وهم لم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج ذنوبا أو قطر السماء أو عدد أيام الدنيا، غسلها عنك، وأما رميك الجمار فإن ذلك مدخور لك عند ربك، فإذا حلقت رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط من رأسك أن تكتب لك حسنة وتمحى عنك سيئة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك ليس عليك منها شيء [ (1) ] .
قال البيهقي: وله [شاهد بإسناد] حسن فذكر من طريق القاسم بن الوليد الجندعي، عن سنان بن الحارث بن مصرف، عن مجاهد، عن عبد اللَّه بن عمر، قال: جاء رجل من الأنصار وأظنه رجل من ثقيف إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا نبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمات أسألك عنهن تعلمنيهن، فذكر الحديث بمعناه إلا أنه قال: وإذا رمى الجمر فإن أحدا لا يدري ماله حتى يوفاه يوم القيامة، وقال في الطواف: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه [ (2) ] .
قال: روى ذلك عن أنس بن مالك، فذكره من طريق مسدد قال: حدثنا عطاف بن خالد المخزومي، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن أنس بن مالك-- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] قال: كنت جالسا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسجد الخيف فأتى رجل من الأنصار ورجل من
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 293- 294، باب ما روى في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم السائل بما أراد أن يسأله عنه قبل سؤاله.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 294.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(14/103)


ثقيف فسلما عليه ودعوا له دعاء حسنا، ثم قالا: جئناك يا رسول اللَّه نسألك، قال: إن شئتما أن أخبركما بما تسألاني عنه، فعلت وإن شئتما أن أسكت وتسألاني فعلت، قالا: أخبرنا يا رسول اللَّه نزدد إيمانا أو نزدد يقينا- شك إسماعيل- فذكر الحديث في إخباره بما أرادا أن يسألا عنه بنحو من حديث ابن عمر إلا أنه زاد ذكر الطواف الأول فقال:.
وأما طوافك، بالبيت فإنك لا تضع رجلا ولا ترفعها إلا وكتب اللَّه لك بها حسنة، ومحا عنك بها خطيئة، ويرفع لك بها درجة، وأما ركعتان بعد الطواف، فإنّها كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، ثم ذكر الوقوف، ثم قال: وأما رميك الجمار، فلك بكل حصاة ترميها كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات، وأما نحرك، فمدخور لك عند ربك، ثم ذكر ما بعده وقال: فقال الثقفي: أخبرني يا رسول اللَّه قال:
جئت تسألني عن الصلاة، فإذا غسلت وجهك، انتثرت الذنوب عن رأسك، فإذا غسلت رجليك انتثرت الذنوب من أظفار قدميك، ثم إذا قمت إلى الصلاة فاقرأ من القرآن ما تيسر، ثم إذا ركعت فأمكن يديك من ركبتيك، وافرق بين أصابعك حتى تطمئن راكعا، ثم سجدت فأمكن وجهك من السجود حتى تطمئن ساجدا، وصل من أول الليل وآخره قال: يا رسول اللَّه، أفرأيت إن صليت الليل كله قال: فإنك إذا أنت [ (1) ] .

وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم رجالا من أهل الكتاب عن ذي القرنين قبل أن يسألوه
فخرج البيهقي من طريق عبد اللَّه بن مسلمة القعنبي قال: حدثنا عبد اللَّه ابن عمر بن حفص بن عاصم، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن سعد ابن مسعود، عن رجلين من كندة من قومه، قالا: استطلنا يوما فانطلقنا إلى عقبة بن عامر الجهنيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فوجدناه في ظل داره جالسا، فقلنا: إنا استطلنا يوما فجئنا نتحدث عندك فقال: وأنا استطلت يومي فخرجت إلى هذا الموضع.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 295.

(14/104)


قال: ثم أقبل علينا فقال: كنت أخدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرجت ذات يوم فإذا أنا برجال من أهل الكتاب بالباب معهم مصاحف فقالوا: من يستأذن لنا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فدخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته فقال: ما لي ولهم يسألوني عما لا أدري؟ أنا عبد لا أعلم إلا ما علمني ربي، ثم قال: أبغني وضوءا، فأتيته بوضوء، فتوضأ، ثم خرج إلى المسجد فصلّى ركعتين، ثم انصرف فقال لي وأنا لا أرى السرور والبشر في وجهه: أدخل القوم علي ومن كان من أصحابي فأدخله أيضا علي، فأذنت لهم فدخلوا فقال: إن شئتم أخبرتكم عما جئتم تسألونني عنه من قبل أن تكلموا وإن شئتم، فتكلموا قبل أن أقول، قالوا:
بل أخبرنا.
قال: جئتم تسألونني عن ذي القرنين، إن أول أمره أنه كان غلاما من الروم أعطي ملكا، فسار حتى أتى ساحل أرض مصر فابتنى مدينة يقال لها الإسكندرية، فلما فرغ من شأنها بعث اللَّه إليه ملكا، ففزع به فاستعلى بين السماء، ثم قال له: انظر ما، تحتك؟ فقال: أرى مدينتين، ثم استعلا به ثانية، ثم قال: انظر ما تحتك؟ فنظر فقال: ليس أرى شيئا، فقال له:
المدينتين وهو البحر المستدير، وقد جعل اللَّه لك مسلكا تسلك به فعلم الجاهل وثبت العالم.
قال: ثم جوزه فابتنى السد جبلين زلقين لا يستقر عليهما شيء، فلما فرغ منهما سار في الأرض فأتي على أمة أو على قوم وجوههم كوجوه الكلاب، فلما قطعهم أتى على قوم قصار، فلما قطعهم أتى على قوم من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة، ثم أتى على الغرانيق وقرأ هذه الآية: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً [ (1) ] ، فقالوا: هكذا نجده في كتابنا [ (2) ] .

وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بما دفن مع أبي رغال
فخرج البيهقي من حديث يحيى بن معين قال حدثنا وهب بن جرير: قال:
أخبرني أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو يقول: سمعت رسول اللَّه
__________
[ (1) ] الكهف: 84- 85.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 295- 296.

(14/105)


صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال: هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من! ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه، فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن [ (1) ] .
ومن حديث يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، عن عبد اللَّه بن عمرو، أنهم كانوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر أو مسير، فمروا بقبر فقال: هذا قبر أبي، رغال كان من قوم ثمود، فلما أهلك اللَّه قومه بما أهلكهم به منعه بمكانه من الحرم، فخرج حتى بلغ ذا المكان أو الموضع فمات، فدفن معه قضيب من ذهب فابتدرناه، فاستخرجناه [ (2) ] .

وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أمر السفينة
فخرج البيهقي من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر قال: بلغني أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان جالسا في أصحابه يوما، فقال: اللَّهمّ أنج أصحاب السفينة، ثم مكث ساعة فقال: قد استمرت، فلما دنوا من المدينة قال: قد جاءوا يقودهم رجل صالح، قالوا: والذين كانوا في السفينة، قالوا: الأشعريون والّذي قلدهم عمرو بن الحمق الخزاعي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أين جئتم؟ قالوا: من زبيد قال: بارك اللَّه في زبيد قالوا: وفي رمع [ (3) ] قال: بارك اللَّه في زبيد، قالوا: وفي رمع يا رسول اللَّه، قال: في الثالثة وفي رمع.
قال البيهقي: وفي هذا إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن احتباس السفينة وإشرافها على الغرق، ثم دعاؤه لها إيابا بالنجاة، ثم إخباره عن استمرارها ونجاتها، ثم بقدومها، ثم بمن يقودهم فكان الجميع كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم [صلاة لا تنقطع] [ (4) ] .
قال كاتبه: هذه سبعة أعلام من أعلام النبوة.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 297، باب إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قبر أبي رغال وما فيه من الذهب.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 297.
[ (3) ] رمع: قرية باليمن، وفي (الأصل) : «زمع» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) : 6/ 298، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أمر السفينة.

(14/106)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بإسلام أبي الدرداء عند ما أقبل
خرج البيهقي [ (1) ] من طريق عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال: كان أبو الدرداء يعبد صنما في الجاهلية، وأن عبد اللَّه بن رواحة، ومحمد بن مسلمة دخلا بيته فكسرا صنمه، فرجع أبو الدرداء فجعل يجمع صنمه ويقول: ويحك! هلا دفعت عن نفسك؟ فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أحدا أو يدفع عن أحد دفع عن نفسه ونفعها، فقال أبو الدرداء- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أعدي شيئا في المغتسل، فجعلت له ماء فاغتسل وأخذ حلته فلبسها، ثم ذهب إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
فنظر إليه ابن رواحة مقبلا فقال: هذا أبو الدرداء، وما أراه جاء إلا في طلبنا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا، إنما جاء يسلم فإن ربي [عز وجل] [ (2) ] وعدني بأبي الدرداء أن يسلم.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 301، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بإسلام أبي الدرداء فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .

(14/107)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بحال من نحر نفسه
فخرج أبو داود [ (1) ] من حديث زهير، حدثنا سماك، حدثني جابر بن سمرة، قال: مرض رجل فصيح عليه، فجاء جاره إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له: إنه قد
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 526، كتاب الجنائز، باب (51) الإمام لا يصلي على من قتل نفسه، حديث رقم (3185) ، والمشقص جمعه مشاقص، وهو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض.
وأخرجه مختصرا بمعناه: مسلم في الجنائز، حديث رقم (978) ، والنسائي في الجنائز، حديث رقم (1966) ، باب ترك الصلاة على من قتل نفسه، والترمذي في الجنائز، حديث رقم (1068) ، باب من قتل نفسه، لم يصل عليه، وابن ماجة في الجنائز، حديث رقم (1068) ، باب من قتل نفسه، لم يصل عليه، وابن ماجة في الجنائز، حديث رقم (1526) باب الصلاة على أهل القبلة.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 90، حديث رقم (20292) وحديث رقم (20376) ، وحديث رقم (20404) كلهم من حديث جابر بن سمرة.
وقد اختلف الناس في هذا، فكان عمر بن عبد العزيز لا يرى الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك قال الأوزاعي، وقال أكثر الفقهاء: يصلّى عليه.
قال الخطابي: كان الزهري يقول: يصلّى على الّذي يقاد منه في حد، ولا يصلي على من قتل في رجم،
وقد روى عن علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه أمر أن يصلي على شراحة وقد رجمها،
وهو قول أكثر العلماء.
وقال الشافعيّ: لا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة، برا كان أو فاجرا وقال أصحاب الرأي والأوزاعي: يغسل المرجوم ويصلى عليه، وقال مالك: من قتله الإمام في حد من الحدود فلا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه أهله إن شاءوا أو غيرهم.
وقال أحمد: لا يصلي الإمام على قاتل ولا غال. وقال أبو حنيفة: من قتل من المحاربين أو صلب لم يصل عليه، وكذلك الفئة الباغية لا يصلى على قتلاهم.

(14/108)


مات، قال: وما يدريك؟ قال: أنا رأيته، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه لم يمت، قال: فرجع فصيح عليه، فجاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إنه قد مات، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه لم يمت، فرجع، فصيح عليه، فقالت امرأته: انطلق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، فقال الرجل: اللَّهمّ العنة، قال ثم انطلق الرجل فرآه قد نحر نفسه بمشاقص معه فانطلق إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره أنه قد مات، فقال:
وما يدريك؟ قال: رأيته ينحر نفسه بمشقص، معه، قال: أنت رأيته؟ قال نعم، قال: إذا لا أصلّي عليه. فانطلق إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره.

وأما إشارته صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ما صار إليه أمر ماعز بن مالك الأسلمي
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق حديث الفيد بن القاسم قال: سمعت الجعد بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن ماعز حدثه أن ماعزا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فكتب له كتابا أن ماعزا أسلم آخر قومه، وأنه لا يجني عليه إلا يده، فبايعه على ذا.
قال كاتبه: وماعزا هذا هو الّذي اعترف على نفسه بالزنا تائبا منيبا، وكان محصنا، فرجم رحمة اللَّه عليه، وكانت هذه القصة هي التي أشار إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله في الحديث: وأنه لا يجني عليه إلا يده، وحديث رجم ماعز في (الصحيحين) وغيرهما [ (2) ] .
__________
[ () ] وذهب بعض أصحاب الشافعيّ إلى أن تارك الصلاة إذا قتل لم يصل عليه، ويصلي على من سواه، ممن قتل في حد أو قصاص. (معالم السنن) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 303، باب ما جاء في إشارته إلى ما صار إليه أمر ماعز بن مالك، وفي هامشه: هو ماعز آخر غير ماعز بن مالك الأسلمي، أفرده البخاري والبغوي، وجوز ابن مندة أن يكون واحدا، والخبر ذكره ابن حجر في ترجمته من (الإصابة) ، نقلا عن البخاري في (التاريخ الكبير) .
[ (2) ] سبق تخريج هذه الأحاديث في باب من رجمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من هذا الكتاب.

(14/109)


وأما إخباره [صلّى اللَّه عليه وسلّم] رجلا قال في نفسه شعرا بما قال في نفسه
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق أبي دجانة أحمد بن الحكم المعافري، حدثنا عبيد بن خلصة، حدثنا عبد اللَّه بن عمر المدني، عن المنكدر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه! إن أبي يريد أن يأخذ مالي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادعه ليه، قال: فجاء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن ابنك يزعم أنك تأخذ ماله، فقال: سله، هل هو إلا عماته، أو قراباته، أو ما أنفقه على نفسي وعيالي؟
قال: فهبط جبريل الأمين- عليه السلام-، فقال: يا رسول اللَّه! إن الشيخ قد قال في نفسه شيئا لم تسمعه أذناه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت في نفسك شيئا لم تسمعه أذناك؟ قال: لا يزال يزيدنا بك بصيرة ويقينا، نعم قلت قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هات، فأنشأ يقول فيه شعرا.
قال: فبكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأخذ بتلبيب ابنه، وقال: أنت ومالك لأبيك.

وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي شهم بما كان منه
فخرج البيهقي [ (2) ] من طريق هريم بن سفيان، عن بيان، عن قيس بن أبي سهم قال: مرت بي امرأة بالمدينة فأخذت بكشحها قال: فأصبح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم يبايع الناس، قال: فأتيته [فسلمت عليه] فلم يبايعني، وقال: صاحب الجبيذة بالأمس؟ قال: قلت: واللَّه لا أعود فبايعني.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 304- 305، باب ما جاء في إخباره من قال في نفسه شعرا في الشكاية عن ولده بذلك إن صحت الرواية، قال البزار: يعرف عن هشام ابن المنكدر مرسلا، وقال الهيثمي: فيه ضعيف، وقال العقيلي: ضعيف.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 306، باب ما جاء في إخبار صاحب الجبيذة بصنيعه، وما ثبت عن بن عمر أنهم كانوا يتقون الكلام والانبساط، مخافة أن ينزل فيهم القرآن بما قالوا وفعلوا.

(14/110)


وخرجه الحاكم [ (1) ] من طريق هريم به نحوه، وقال: هذا حديث صحيح [الإسناد] على شرط الشيخين [ولم يخرجاه] .
ومن طريق محمد بن أبان الواسطي قال: حدثنا يزيد بن عطاء، عن بيان ابن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن شهم [ (2) ] ، قال: رأيت جارية في بعض طرق المدينة فأهويت بيدي إلى خاصرتها، فلما كان من الغد أتى الناس إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ليبايعوه فبسطت يدي فقلت: بايعني يا رسول اللَّه، قال: أنت صلحب الجبذة أمس؟ أما إنك صاحب الجبذة أمس، قال: قلت: يا رسول اللَّه بايعني فو اللَّه لا أعود أبدا، قال: فنعم إذا [ (3) ] .
وقد خرج البخاري من حديث أبي نعيم قال: حدثنا سفيان، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خشية أن ينزل فيها شيء فلما توفي تكلمنا وانبسطنا [ (4) ] .
وفي رواية محمد بن يوسف الفريابي قال: ذكر حصن، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا مخافة أن ينزل فينا القرآن، فلما مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تكلمنا [ (5) ] .
ولابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: تاللَّه لقد كان أحدنا يكف عن
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 418، كتاب الحدود، حديث رقم (8134) وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «شهم» ، وفي (المستدرك) : «سهم» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 306.
[ (4) ] أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب (80) الوصاة بالنساء، حديث رقم (5187) ، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الجنائز، باب (65) ذكر وفاته ودفنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1632) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 307.

(14/111)


الشيء مع امرأته، وهو وإياها في ثوب واحد، تخوفا أن ينزل فيهم شيء من القرآن [ (1) ] ، وهذا يؤيد حديث أبي شهم ويقويه.

وأما إطلاعه صلّى اللَّه عليه وسلّم على شاة دعي لأكلها وهو يأكلها أنها أخذت بغير حق
فخرّج أبو داود من حديث عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جنازة فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على القبر يوصي الحافر: أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء، وجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلوك لقمة في فيه، ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها، فأرسلت المرأة: يا رسول اللَّه إني أرسلت إلى البقيع تشتري لي شاة، فلم توجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل بها إليّ بثمنها فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليّ بها. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أطعميه للأسارى [ (2) ] .
وخرّج الإمام أحمد [ (3) ] من حديث حماد، عن حميد، عن أبي المتوكل، عن جابر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه مروا بامرأة فذبحت لهم شاة واتخذت لهم طعاما فلما رجع قالت: يا رسول اللَّه إنا اتخذنا لكم طعاما فادخلوا فكلوا، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه- وكانوا لا يبدءون حتى يبتدئ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لقمة فلم يستطع أن يسيغها، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه الشاة ذبحت بغير إذن أهلها؟
فقالت المرأة: يا رسول اللَّه إنا لا نحتشم من آل سعد بن معاذ ولا يحتشمون منا، فنأخذ منهم ويأخذون منا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 307.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 310، باب امتناع النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أكل الشاة التي أخذت بغير إذن مالكها، وما ظهر في ذلك من حفظ اللَّه- تعالى- رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أكل الحرام.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 4/ 316، حديث رقم (14371) من مسند جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.

(14/112)


وعند النسائي بعضه، وخرّجه الحاكم [ (1) ] بطوله من حديث حماد به نحوه وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 262، كتاب الذبائح، حديث رقم (7579) ، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : على شرط مسلم.

(14/113)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بوقعة ذي قار في يوم الوقعة وأن نصرة العرب على فارس كانت به [ (1) ]
ذكر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه لما بلغه ما كان من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: هذا أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا.
وهو يوم قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء، بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار.
فحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثني أبو المختار فراس ابن خندق- أو خندقة- وعدة من علماء العرب قد سماهم، أن الّذي جر يوم ذي قار، قتل النعمان بن المنذر اللخمي عدي بن زيد العبادي، وكان عدي من تراجمة أبرويز كسرى بن هرمز.
وكان سبب قتل النعمان بن المنذر عدي بن زيد، ما ذكر لي عن هشام بن محمد، قال: سمعت إسحاق بن الجصاص- وأخذته من كتاب حماد وقد ذكر أبي بعضه- قال: ولد زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن مجروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم ثلاثة: عديا الشاعر، وكان جميلا شاعرا خطيبا، وقد قرأ كتب العرب والفرس، وعمارا- وهو أبي- وعمرا- وهو سمي- ولهم أخ من أمهم، يقال له عدي بن حنظلة من طيِّئ، وكان عمار يكون عند كسرى، فكان أحدهما يشتهي هلاك عدي بن زيد، وكان الآخر يتدين في نصرانيته، وكانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة لهم معهم أكل [ (2) ] وناحية، يقطعونهم القطائع، [ويجزلون صلاتهم] [ (3) ] ، وكان المنذر بن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي، فهم الذين أرضعوه [وربوه، وكان المنذر ابن آخر يقال له «الأسود» ، أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فأرضعه] [ (4) ] ، ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم: بنو
__________
[ (1) ] سياق هذا الفضل مضطرا في (الأصل) واستدركناه من (تاريخ الطبري) و (الكامل في تاريخ لابن الأثير) .
[ (2) ] الأكل هنا: الرزق، يقال: فلان ذو أكل، إذا كان ذا رزق وحظ واسع في الدنيا.
[ (3) ] تكملة من الأغاني فيما رواه عن هشام الكلبي.
[ (4) ] تكملة من الأغاني فيما رواه عن هشام الكلبي.

(14/114)


مرينا، ينسبون إلى لخم، وكانوا أشرافا. وكان للمنذر بن المنذر سوى هذين من الولد عشرة، وكان يقال لولده كلهم الأشاهب [ (1) ] ، من جمالهم، فذلك قول الأعشى:
وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ... يمشون غدوة بالسيوف
وكان النعمان أحمر أبرش [ (2) ] قصيرا، وكانت أمه يقال لها: سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من أهل فدك، وكانت أمة للحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب من كلب، وكان قابوس بن المنذر الأكبر عم النعمان وإخوته، بعث كسرى بن هرمز بعديّ بن زيد وإخوته، فكانوا في كتّابه يترجمون له، فلما مات المنذر بن المنذر، وترك ولده هؤلاء الثلاثة عشر، جعل على أمره كله إياس بن قبيصة الطائي [وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه] فكان عليه أشهرا، وكسرى في طلب رجل يملكه على العرب، ثم إن سكره بن هرمز دعا عدي بن زيد، فقال له: من بقي من بني المنذر؟ وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال: بقيتهم في ولد هذا الميت المنذر بن المنذر، وهم رجال، فقال: ابعث إليهم، فكتب فيهم فقدموا عليه، فأنزلهم على عدي ابن زيد، فكان عدي يفضل إخوة النعمان عليه في النزل، وهو يريهم أنه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلا رجلا، ويقول لهم: إن سألكم الملك:
أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك: عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز، وكان من بني مرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، وكان ماردا شاعرا، وكان يقول للأسود [بن المنذر] [ (3) ] : إنك قد عرفت أني لك راج، وأن طلبتي ورغبتي إليك أن تخالف عديّ بن زيد، فإنه واللَّه لا ينصح لك أبدا، فلم يلتفت إلى قوله.
فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم عليه، جعل يدخلهم عليه رجلا رجلا، فيكلمه، فكان يرى رجالا فلما رأى مثلهم، فإذا
__________
[ (1) ] قال في (القاموس) : «والأشاهب بنو المنذر لجمالهم» ، وقال شارحه: «سموا بذلك لبياض وجوههم» .
[ (2) ] الأبرش: الأرقط، وهو الّذي يكون فيه بقعة بيضاء وأخرى أي لون كان.
[ (3) ] زيادة للسياق من (ابن الأثير) .

(14/115)


سألهم هل تكفونني ما كنتم تلون؟ قالوا: نكفيك العرب إلا النعمان. فلما دخل عليه النعمان رأى رجلا دميما فكلمه، وقال له: أتستطيع أن تكفيني العرب؟
قال: نعم، قال: فكيف تصنع في بإخوتك؟ قالوا: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز. فمكله وكساه، وألبسه تاجا قيمته ستون ألف درهم، فيه اللؤلؤ والذهب. فلما خرج- وقد ملك- قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود: دونك فإنك قد خالفت الرأى.
ثم إن عديّ بن زيد صنع طعاما في بيعة، ثم أرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت، فإن لي حاجة، فأتاه في ناس فتغدّوا في البيعة، وشربوا، وقال عديّ [بن زيد] لعدي بن مرينا: يا عدي إن أحق من عرف الحق، ثم لم يلم عليه، من كان مثلك، أنى قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب ألا تحقد عليّ شيئا لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيتك من نفسي، فإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك، فقام عديّ بن زيد إلى البيعة فحلف ألا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يزوي عنه خبرا أبدا، فلما فرغ عديّ بن زيد قام عدي بن مرينا، فحلف على مثل يمينه ألا يزال يهجوه أبدا، ويبغيه الغوائل ما بقي، وخرج النعمان حتى نزل منزله بالحيرة، فقال عديّ بن مرينا لعديّ بن زيد فقال فيه شعرا.
وقال عدي بن مرينا للأسود: [أما] إذ لم تظفر فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدى، الّذي عمل بك ما عمل فقد كنت أخبرك أن معدا لا ينام مكرها، أمرتك أن تعصيه فخالفتني، قال: فما تريد؟ قال: أريد ألا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها عليّ، ففعل.
وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يك في الدهر يوم إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضي في ملكه شيئا إلا بأمر عدي بن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عنده أحسن عليه الثناء، وذكر فضله، وقال: إنه لا يصلح المعدي إلا أن يكون فيه مكر وخديعة، فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عديّ بن زيد عند الملك بخير فقولوا: إنه لكما تقول، ولكنه لا يسلم عليه أحد، وإنه ليقول: إن الملك- يعني النعمان- عامله، وإنه ولاه ما ولاه، فلم يزالوا بذلك حتى

(14/116)


أضغنوه عليه، وكتبوا كتابا على لسان عدي إلي قهرمان [ (1) ] لعدي، ثم دسوا له، حتى أخذوا الكتاب، ثم أتى به النعمان فقرأه، فأغضبه، فأرسل إلى عدي بن زيد: عزمت عليك إلا زرتني، فإنّي قد اشتقت إلى رؤيتك! وهو عند كسرى فاستأذن كسرى، فأذن له، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي بن زيد يقول الشعر وهو في السجن، فكان أول ما قال في السجن من الشعر:
ليت شعري عن الهمام ويأتيك ... بخبر الأنباء عطف السؤال
فقال أشعارا، وكان كلما قال عدي من الشعر، بلغ النعمان وسمعه ندم على حبسه إياه، فجعل يرسل إليه ويعده ويمنيه ويفرق أن يرسله فيبغيه الغوائل، فقال عدي:
أرقت لمكفهر بات فيه ... بوارق يرتقين رءوس شيب
وقال أيضا:
«طال ذا الليل علينا واعتكر
[ (2) ] » وقال أيضا:
«ألا طال الليالي والنهار»
وقال حين أعياه ما يتضرع إلى النعمان أشعارا، يذكره فيها الموت، ويخبره من هلك من الملوك قبله، فقال:
«أرواح مودع أم بكور [ (3) ] »
وأشعارا كثيرة.
قال: وخرج النعمان يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب. ويقال: الّذي أغار على الحيرة فحرق فيها، جفنة بن النعمان الجفني، فقال عدي:
__________
[ (1) ] القهرمان: أمين الملك وخاصته، فارسي معرب، ويطلق في لغة الفرس على القائم بأمور الرجل، كالخازن والوكيل.
[ (2) ] وعجزه: وكأنى ناذر الصبح سمره.
[ (3) ] وعجزه: لك فاعمد لأى حال تصير.

(14/117)


سما صقر فأشعل جانبيها ... وألهاك المروح والعزيب [ (1) ]
فلما طال سجن عدي كتب إلى أخيه أبي، وهو مع كسرى بشعر فقال فيه شعرا.
فزعموا أن أبيا لما قرأ كتاب عدي قام إلى كسرى فكلمه، فكتب وبعث معه رجلا، وكتب خليفة النعمان إليه: إنه قد كتب إليك [في أمره] ، فأتاه أعداء عدي من بني بقيلة [ (2) ] من غسان، فقالوا: اقتله الساعة، فأبى عليهم وجاء الرجل، وقد تقدم أخو عدي إليه ورشاه، وأمره أن يبدأ بعدي، فدخل عليه وهو محبوس بالصنين، فقال: ادخل عليه فانظر ما يأمرك به، فدخل الرسول على عدي، فقال: إني قد جئت بإرسالك، فما عندك؟ قال: عندي الّذي تحب، ووعده عدة، وقال: لا تخرجن من عندي، وأعطنى الكتاب حتى أرسل به، فإنك واللَّه إن خرجت من عندي لأقتلن، فقال: لا أستطيع إلا أن آتى الملك بالكتاب، فأدخله عليه، فانطلق مخبر حتى أتى النعمان، فقال: إن رسول كسرى قد دخل على عدي وهو ذاهب به، وإن فعل واللَّه لم يستبق منا أحدا، أنت ولا غيرك. فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات، ثم دفنوه.
ودخل الرسول على النعمان بالكتاب، فقال: نعم وكرامة! وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية، وقال له: إذا أصبحت فادخل عليه، فأخرجه أنت بنفسك،. فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس: إنه قد مات منذ أيام، فلم نجترئ على أن نخبر الملك للفرق منه، وقد علمنا كراهته لموته.
فرجع إلى النعمان فقال: إني قد دخلت عليه وهو حي، [وجئت اليوم فجحدني السجان وبهتني. وذكر له أنه قد مات منذ أيام] فقال له النعمان: يبعثك الملك إلي فتدخل إليه قبلي! كذبت، ولكنك أردت الرشوة والخبث.
فتهدده، ثم زاده جائزة وأكرمه، واستوثق منه ألا يخبر كسرى، إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه.
فرجع الرسول إلى كسرى، فقال: إنه قد مات قبل أن أدخل عليه، وندم النعمان على موت عدي، واجترأ أعداء عدي على النعمان، وهابهم النعمان هيبة شديدة، فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم، فلقى ابنا لعدي، يقال
__________
[ (1) ] المروح: الإبل المروحة إلى أعطافها، والعزيب ما ترك في مراعيه، وانظر بقية الأبيات في رواية الأغاني.
[ (2) ] بقيلة: بطن من الحيرة.

(14/118)


له زيد، فلما رآه عرف شبهه، فقال: من أنت؟ قال: أنا زيد بن عدي بن زيد فكلمه فإذا غلام ظريف، فرح به فرحا شديدا، وقربه وأعطاه، واعتذر إليه من أمر أبيه وجهزه، ثم كتب إلى كسرى: إن عديا كان ممن أعين به الملك في نصحه ولبه، فأصابه ما لا بد منه، وانقضت مدته، وانقطع أكله، ولم يصب به أحد أشد من مصيبتي، وأما الملك فلم يكن ليفقد رجلا إلا جعل اللَّه له منه خلفا، لما عظم اللَّه له من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس من دونه، وقد سرحته إلى الملك، فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه، فليفعل.
فلما قد الغلام على كسرى جعله مكان أبيه، وصرف عمه إلى عمل آخر، فكان هو الّذي يلي ما كتب به إلى أرض العرب، وخاصة الملك. وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي.
فلما وقع عند الملك بهذا الموقع، سأله كسرى عن النعمان، فأحسن عليه الثناء، فمكث سنوات بمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى، وكان يكثر الدخول عليه، وكانت لملوك الأعاجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، [فإذا وجدت حملت إلى الملك] غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك، ولا يريدونه. فبدأ الملك في طلب النساء فكتب بتلك الصفة، ثم دخل على كسرى فكلمه فيما دخل فيه، ثم قال: إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالما، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين.
امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن. قال: أيها الملك، إن شر شيء في العرب وفي النعمان [خاصة] أنهم يتكرمون- زعموا في أنفسهم- عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن [عمن تبعث إليه، أو يعرض عليه غيرهن] وإن قدمت أنا عليه لم يقدر أن يغيبهن، فابعثنى وابعث معى رجلا من حرسك يفقه العربية، [حتى أبلغ ما تحبه] فبعث معه رجلا جليدا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة.
فلما دخل عليه أعظم الملك، وقال: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك [بصهره] ، فبعث إليك. فقال: وما هؤلاء النسوة؟ فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها.

(14/119)


وكانت الصفة أن المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية، كان أصابها إذا أغار على الحارث الأكبر الغساني بن أبى شمر، فكتب إلى أنوشروان يصفها له، [وقال: إني قد وجهت إلى الملك جارية] معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، قمراء، وطفاء، [كحلاء] دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جئلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طى البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، عظيمة الركبة، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعا للسيد، ليست بخنساء، ولا سعفاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغد في بؤس، حيية رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عينها، وتحمر وجنتها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة، [ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] معاني المفردات الغربية.
- الوطفاء: غزيرة الإهاب وشعر الحاجبين.
- الدعجاء: شديدة سواء العين مع شدة بياض البياض.
- الحور: اسوداد العين كلها مثل الظباء، ولا يكون في بنى آدم إلا على الاستعارة.
- العين: سعة العين.
- القنواء: من القنا، وهو ارتفاع في أعلى الأنف واحد يداب في وسطه وسبوغ في طرفه.
- الشمم في الأنف: ارتفاع القصبة وحسنها.
- الزجاء: دقيقة الحاجبين في طول: [قال الناظم: إذا ما الغانيات برزن يوما وزجن الحواجب والعيونا] .
- البرجاء: الجملية الحسنة.

(14/120)


فقبلها كسرى، وأمر بإثبات هذه الصفة في دواوينه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز، فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشق عليه، فقال زيد- والرسول يسمع-: أما في عين السوداء وفارس ما تبلغون حاجتكم! فقال الرسول لزيد: ما العين؟ قال: البقر، فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به.
فأنزلهما يومين، ثم كتب إلى كسرى: إن الّذي طلب الملك ليس عندي، وقال لزيد: اعذرنى عنده، فلما رجع إلى كسرى، قال زيد للرسول الّذي جاء معه: اصدق الملك الّذي سمعت منه، فإنّي سأحدثه بحديثك ولا أخالفك فيه.
فلما دخلا على كسرى، قال زيد: هذا كتابه، فقرأه عليه، فقال له كسرى:
فأين الّذي كنت تخبرني [به] ؟ قال: قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعرى على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنهم ليسمونها السجن،
__________
[ (-) ] الخد الأسيل: الطويل المسترسل الأملس.
- الجثلة: كتفية الشعر سوداؤه.
- العيطاء: الطويلة العنق.
- الشاشة: رأس العظم.
- غرثى الوشاح: دقيقة الخصر.
- الرداع: العجزاء الثقيلة الأوراك التامة الخلق. والقيل: ما استقبلك من مشرف.
- اللفاء: الضخمة الفخذين المكتنزتهما.
- المأكمتان: اللحمتان اللتان على رءوس الوركين.
- مفعمة الساق: ممتلتها.
- مشبعة الخلخال: كناية عن سمن الساقين.
- القطوف: من القطاف، وهو تقارب الخطو.
- المكسال: المرأة لا تكاد تبرح مجلسها، وهو مدح لها عندهم كقولهم: نئوم الضحى.
- البضة: الناعمة.
- الخنساء: من الخنس، وهو تأخر الأنف الرأس وارتفاعه عن الشفعة.
- السفعاء: من السفع، وهو السواد.

(14/121)


فسل هذا الرسول [الّذي كان] معى عن الّذي قال، فإنّي أكرم الملك عن الّذي قال ورد عليه أن أقوله، فقال للرسول: وما قال؟ قال: أيها الملك، أما في بقر السواد [وفارس] ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا! فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنه قد قال: رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا، فيصير أمره إلى التباب.
وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وجعل النعمان يستعد ويتوقع، حتى أتاه كتابه: أن أقبل فإن الملك إليك حاجة، فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيِّئ.
وكانت فرعة ابنة سعد بن حارثة بن لأم عنده، وقد ولدت له رجلا وامرأة وكانت أيضا عنده زينب ابنة أوس بن حارثة، فأراد النعمان طيِّئا على أن يدخلوه [بين الجيلين] ويمنعوه، فأبوا ذلك عليه، وقالوا: لولا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى، [ولا طاقة لنا به] فأقبل [يطوف على قبائل العرب] ليس أحد من الناس يقبله، غير أن بني رواحة بن سعد بمن بنى عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك- لمنة كانت له عندهم في أمر مروان القرظ- فقال لا أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى.
فأقبل حتى نزل بذي قار في بنى شيبان سرا، فلقى هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبى ربيعة بن ذهل بن شيبان، وكان سيدا منيعا، والبيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين، لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي يالجدين. وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئا مانعه مما يمنع منه نفسه.
وتوجه النعمان إلى كسرى، فلقى زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال:
أنج نعيم [إن استطعت النجاء] ، فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! أما واللَّه لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك! فقال له زيد: امض نعيم، فقد واللَّه وضعت لك عنده أخية [ (1) ] لا يقطعها المهر الأرن [ (2) ] . فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث
__________
[ (1) ] الأخية في الأصل: أن يدفن طرفا الحبل في الأرض، وفيها عصية أو حجير، ويظهر منه مثل عروة تشد بها الدابة [كالفخ مثلا] .
[ (2) ] الأرن: النشيط.

(14/122)


إليه، فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فملت فيه، والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى:
فذاك وما أنجى من الموت ربه بساباط حتى مات، وهو محرزق [ (1) ] وإنما هلك بخانقين، وهذا قبيل الإسلام، فلم يلبث إلا يسيرا حتى بعث اللَّه نبيه صلى اللَّه عليه وسلم، وكان سبب وقعة ذي قار بسبب النعمان [ (2) ] .
قال البيهقي [ (3) ] هذا مرسل وروى أيضا حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرسلا بعض معناه.
قال كاتبه: قد تقدم حديث حصين، وتقدم حديث مسلم: رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب [ (4) ] .
وخرج الإمام أحمد [ (5) ] والحاكم [ (6) ] وصححه من حديث صفوان، حدثني سليم بن عامر، عن تميم الداريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال:
__________
[ (1) ] حرزق الرجل، أي حبسه.
[ (2) ] الخبر في (الأغاني) : 2/ 105- 128.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 336- 337.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 36- 37، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي صلى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (18) .
و «رطب ابن طاب» : نوع من الرطب معروف، يقال له: رطب ابن طاب، وتمر ابن طاب، وعذق ابن طاب، وعرجون ابن طاب، وهو مضاف إلى ابن طاب، رجل من أهل المدينة.
«وأن ديننا قد طاب» : أي كمل واستقرت أحكامه، وتمهدت قواعده.
[ (5) ] (مسند أحمد) : 5/ 73، حديث رقم (16509) ، من حديث تميم الداريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (6) ] (المستدرك) : 4/ 477، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8326) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.

(14/123)


سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك اللَّه بيت مدر ولا وبر إلا أدخله اللَّه هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز اللَّه به الإسلام وذلا يذل اللَّه به الكفر، وكان تميم الداريّ يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية.
وله من حديث الوليد بن مزيد [ (1) ] ، حدثني ابن جابر، سمعت سليم بن عامر يقول: سمعت المقداد بن الأسود الكندي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يبقى على ظهر الأرض نبت مدر ولا وبر إلا أدخل كله الإسلام عليهم، يعز عزيز أو يذل ذليل.
وخرّجه ابن حبان في (صحيحه) وقوله: إما يعز عزيزا أو يذل ذليلا، ما يعرفهم فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون بها.

وأما إخباره بمعاونة القبط المسلمين فكان كما أخبر
فخرّج الحافظ أبو نعيم من حديث بدار حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي سلمة، عن أم سلمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وقد أوصى عند وفاته فقال-: اللَّه، اللَّه في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل اللَّه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8324) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : على شرط البخاريّ ومسلم.
[ (2) ] (كنز العمال) : 12/ 66، حديث رقم (34023) ، وعزاه إلى الطبراني عن أم سلمة، (مجمع الزوائد: 10/ 63) .

(14/124)


وخرّجه أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبد الحكم في كتاب (فتوح مصر) من حديث إسماعيل بن عباس، عن عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم ابن يسار، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: استوصوا بالقبط خيرا فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم
من حديث ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوصى، عند وفاته أن تخرج اليهود من جزيرة العرب وقال: اللَّه اللَّه في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل اللَّه، كذا أورده موقوفا على أبي سلمة.
وخرّج أيضا من حديث ابن وهب، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن رجل من الزبد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرض فأغمى عليه، ثم أفاق، فقال:
استوصوا بالأدم الجغد، ثم أغمى عليه الثانية، ثم أفاق فقال مثل ذلك ثم أغمى عليه الثالثة، فقال مثل ذلك، فقال القوم: لو سألنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأدم والجعد، فأفاق فسألوه فقال: قبط مصر، فإنّهم أخوالكم، وهم أعوانكم، على عدوكم، وأعوانكم على دينكم، قالوا: كيف يكونون أعوانا على ديننا يا رسول اللَّه؟ قال: يكفونكم أعمال الدنيا، وتتفرغون للعبادة فالراضى بهما يؤتي إليهم كالفاعل بهم، وإنكاره لما يؤتي إليهم من الظلم كالمتنزه عنهم.
ومن حديث ابن وهب عن أبي هانئ الخولانيّ، عن أبي عبد الرحمن الحبلى وعمرو بن حريث وغيرهما، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إنكم ستقدمون على قوم جعد رءوسهم، فاستوصوا بهم خيرا فإنّهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن اللَّه تعالى، قبط مصر.
وخرّج الحافظ أبو نعيم من حديث موسى بن عقبة، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن ابنة الهاد، عن العباس بن عبد المطلب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يظهر الدين حتى يجاوز البحار وحتى يخاض البخار بالخيل في سبيل اللَّه ثم يأتي قوم يقرءون القرآن يقولون قد قرأنا من أقوامنا، منا أفقه؟ من أعلم منا؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال هل في أولئك من خير وأولئك هم وقوم النار.
ومن حديث شعبة، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه ابن مسعود عن أبيه، عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إنكم منصورون ومفتوح لكم

(14/125)


ومصيبون، فمن أدرك منكم ذلك فليتق اللَّه وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار.
ومن حديث بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن أبي على الهمذاني قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ستفتح لكم الأرض وتكفون الموتة فلا يعجزن أحدكم أن يلهو بأسهمه.
ومن حديث هشام بن عمارة قال: حدثنا محمد بن حرب، عن أبي سلمة ابن سليم، عن يحيى بن جابر، عن ابن فألح عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إنها ستفتح عليكم الأمصار وسيضرب عليكم فيها بعوث ينكر الرجل البعث فيتخلص من قومه ويعرض نفسه على القبائل يقول:
من أكفنه بعث كذا إلا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه.

(14/126)


وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قتل نفر من المسلمين ظلما بعذراء [ (1) ] من أرض الشام [فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ]
فخرج البيهقي [ (3) ] من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا ابن بكير قال:
حدثني ابن لهيعة، قال: حدثني الحارث بن سويد، عن عبد اللَّه بن زرير الغافقي، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود، فقتل حجر وأصحابه،
قال يعقوب: قال أبو نعيم: ذكر زياد بن سمية، على بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- على المنبر، فقبض حجر على الحصباء ثم أرسلها، وحصبت من حوله زيادا، فكتب إلى معاوية يقول: إن حجرا حصبني وأنا على المنبر، فكتب إليه معاوية: أن يحمل إليه حجرا، فلما قرب من الشام بعث من يتلقاهم فالتقى معهم بعذراء فقتلهم.
قال البيهقي: لا يقول عليّ مثل هذا إلا بأن يكون سمعه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقد روى عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- بإسناد مرسل مرفوعا فذكر من طريق يعقوب بن سفيان، قال: حدثني حرملة قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على
__________
[ (1) ] عذراء: بالفتح ثم السكون والمد، وهو في الأصل الرملة التي لم توطأ، والدرة العذراء التي لم تثقب. وهي قرية بغوطة دمشق من إقليم خولان معروفة، وبها منارة، وبها قتل حجر بن عدي الكندي، وبها قبره، وقيل، إنه هو الّذي فتحها. (معجم البلدان) : 4/ 103، موضع رقم (8251) ، مختصرا.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 456، باب ما روي في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتل نفر من المسلمين ظلما بعذراء من أرض الشام، فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم.

(14/127)


عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء، حجر وأصحابه، فقال: يا أم المؤمنين، رأيت قتلهم صلاحا للأمة، وأن بقاءهم فساد للأمة،
فقالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول سيقتل بعذراء ناس يغضب اللَّه لهم، وأهل السماء [ (1) ] .
قال ابن عساكر: رواه ابن المبارك، عن ابن لهيعة فلم يرفعه.
وذكر بإسناد آخر، فأخرجه من حديث عبد اللَّه بن المبارك، عن ابن لهيعة، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، أن معاوية حج فدخل على عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: يا معاوية! قتلت حجر ابن الأدبر وأصحابه؟ أما واللَّه لقد بلغني أنه سيقتل سبعة نفر يغضب اللَّه لهم وأهل السماء.
وخرج البيهقي من طريق يعقوب حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا حماد ابن سلمة، عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن مروان بن الحكم، قال: دخل معاوية على أم المؤمنين عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: سمعت يا معاوية أنك قتلت حجرا وأصحابه، وفعلت [ (2) ] ما فعلت، أما خشيت أنّ اختبأ لك رجل [ (3) ] فيقتلك؟ فقال: لا، إني في بيت أمان،
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول الإيمان قيد الفتك،
لا يفتك مؤمن يا أم المؤمنين، كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك وأمرك؟ قالت: صالح، قال: فدعيني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 457.
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «وفعلت الّذي فعلت» .
[ (3) ] في (المرجع السابق) : «اختبأ لك رجلا» ، وما أثبتناه حق اللغة.

(14/128)


وأما ظهور صدقه فيمن قتل عمرو بن الحمق بن الكاهن ابن حبيب بن عمرو بن القين بن رزاح بن عمرو ابن سعد بن كعب بن عمرو الخزاعي الكعبي [ (1) ]
فذكر الحافظ أبو القاسم على بن الحسن بن هبة اللَّه بن عساكر في (تاريخه) من طريق غياث بن إبراهيم، عن الأجلح بن عبد اللَّه الكندي، قال:
سمعت زيد بن علي وعبد اللَّه بن الحسن وجعفر بن محمد، ومحمد بن عبد اللَّه ابن الحسن يذكرون تسمية من شهد مع عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كلهم ذكره عن آبائه، وعمن أدرك من أهله، وسمعته أيضا من غيرهم فذكرهم، وذكر فيهم عمرو بن الحمق الخزاعي وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: يا عمرو، أتحب أن أريك آية الجنة؟ قال: نعم يا رسول اللَّه، فمرّ عليّ فقال هذا وقومه آية الجنة، فلما قتل عثمان وبايع الناس عليا رضي- اللَّه تبارك وتعالى عنه- لزمه، وكان معه حتى أصيب، ثم كتب معاوية في طلبه، وبعث من يأتيه به.
قال الأجلح: فحدثني عمران بن سعيد البجلي، - وكان مؤاخيا لعمرو بن الحمق- أنه خرج معه حين طلب، فقال لي: يا رفاعة، إن القوم قاتليّ، رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبرنى أن الجن والإنس تشترك في دمي، وقال لي: يا عمرو إن أمّنك رجل على دمه فلا تقتله فتلقى اللَّه بوجه غادر [ (2) ] ، قال رفاعة، فما أتم حديثه حتى رأيت أعنة الخيل فودعته وواثبته حية فلسعته، وأدركوه، فاحتزوا رأسه، فكان أول رأس أهدي في الإسلام.
وذكر من طريق أبي سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد العامري، قال:
حدثنا موسى بن زياد أبي هارون الزيات قال: حدثنا على بن هاشم بن البريد عن محمد بن عبد اللَّه بن علي بن أبي رافع، عن عون بن عبد اللَّه بن أبي رافع عن أبيه عبيد اللَّه، قال: قال موسى بن زياد: حدثنا يحيى بن يعلى عن محمد
__________
[ (1) ] النسب في (الأصل) أطول من ذلك، واكتفينا بما أمكن تحقيقه من (الإصابة) :
4/ 623- 624، ترجمة رقم (5822) ، (الاستيعاب) : 3/ 1173- 1174.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 482- 483.

(14/129)


ابن عبيد اللَّه بن أبي رافع عن أبيه، عن جده، وعن ابن عبيد اللَّه بن أبي رافع عن أبيه، قال علي بن هاشم في حديثه وكان عبيد اللَّه بن أبي رافع كاتب عليّ ابن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه واللفظ لعبيد اللَّه بن كثير في تسمية من شهد مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من قريش، والأنصار، ومن مهاجري العرب، فذكرهم، وذكر فيهم عمرو بن الحمق الخزاعي، بقي بعد عليّ فطلبه معاوية ليقتله فهرب منه نحو الجزيرة ومعه رجل من أصحاب علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقال له زاهر، فلما نزلا الوادي نهشت عمرا حية من جوف الليل، فأصبح منتفخا،
فقال لزاهر: تنح عني فإن خليلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أخبرني أني سيشترك في دمي الجن والإنس، ولا بد لي أن أقتل،
فقد أصابتنى بلية الجن بهذا الوادي، فبينما هما على ذلك إذ رأيا نواصي الخيل في طلبه، فأمر زاهرا يتغيب، فإذا قتلت فإنّهم يأخذون رأسي فارجع إلى جسدي فادفنه، فقال له زاهر: بل أنشر نبلى فأرميهم حتى إذا فنيت نبلى قتلت معك، قال: لا، ولكنى سأزودك مني بما ينفعك اللَّه به، فاسمع منى آية الجنة، محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعلامتهم عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وتوارى زاهر، فأقبل القوم فنظروا إلى عمرو فنزل إليه رجل منهم أدم، فقطع رأسه، وكان أول رأس في الإسلام نصب، وخرج زاهر إليه فدفنه، ثم بقي حتى قتل الحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بالطف.

(14/130)


وأما ظهور صدقه صلى اللَّه عليه وسلم في إشارته إلى كيف يموت سمرة بن جندب [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث سفيان قال: حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن أبي [مسلمة عن أبى] [ (3) ] نضرة، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال لعشرة في بيت من أصحابه: آخركم موتا في الناس فيهم سمرة ابن جندب. قال أبو نضرة: فكان سمرة آخرهم موتا.
قال البيهقي: رواته ثقات، إلا أن أبا نضرة العبديّ لم يثبت له عن أبي هريرة سماع.
وروى من وجه آخر موصولا، عن أبي هريرة فذكره من طريق يونس ابن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن حكيم الضبيّ قال: كنت أمر بالمدينة فألقى أبا هريرة فيسألنى فلا يبدأ بشيء حتى يسألنى عن سمرة، فإذا أخبرت بحياته وصحته فرح وقال: إنا كنا عشرة في بيت، وإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قام
__________
[ (1) ] هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، من علماء الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم، نزل البصرة. له أحاديث صالحة، حدّث: ابنه سليمان، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة. وبين العلماء فيما روى الحسن عن سمرة اختلاف في الاحتجاج بذلك، وقد ثبت سماع الحسن من سمرة، ولقيه بلا ريب، صرح بذلك في حديثين.
وكان زياد بن أبيه يستخلفه على البصرة إذا سار إلى الكوفة، ويستخلفه على الكوفة إذا سار إلى البصرة، وكان شديدا على الخوارج، قتل منهم جماعة. وكان الحسن وابن سيرين يثنيان عليه. رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. مات سمرة سنة ثمان وخمسين. وقيل: سنة تسع وخمسين (تهذيب سير الأعلام) : 1/ 94، ترجمة رقم (269) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 458، باب ما روى في إخباره صلى اللَّه عليه وسلّم نفرا من أصحابه بأن آخرهم موتا في النار.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(14/131)


علينا [ (1) ] فنظر في وجوهنا، وأخذ بعضادتي الباب ثم قال: آخركم موتا في النار، فقد مات منا ثمانية ولمن يبق غيري وغيره، فليس شيء أحب إليّ من أن أكون قد ذقت الموت.
وخرج أيضا من طريق حماد عن على بن زيد عن أوس بن خالد، قال:
كنت إذا قدمت على أبي محذورة فقلت لأبي محذورة: مالك إذا قدمت عليك سألتني عن سمرة؟ وإذا قدمت على سمرة سألني عنك؟ فقال إني كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت، فجاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: آخركم موتا في النار، فمات أبو هريرة، ثم مات أبو محذورة، ثم سمرة.
قال البيهقي: بهذا وبصحبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، نرجو له بعد تحقيق قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] وقد قال بعض أهل العلم: إن سمرة مات في الحريق، فصدق قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. وبلغني عن هلال بن العلاء الرقى أن عبد اللَّه بن معاوية حدثهم عن رجل [قد] [ (3) ] سماه: أن سمرة استجمر فغفل عنه أهله، حتى أخذته النار [ (4) ] .
وقال: ابن عبد البر [ (5) ] : وكان زياد يستخلفه على البصرة ستة أشهر، وعلى الكوفة ستة أشهر، فلما مات زياد استخلفه على البصرة، فأقره معاوية عليها، عاما أو نحوه، ثم عزله، وكان شديدا على الحرورية، وكان إذا أتى بواحد منهم قتله ولم يقله ويقول: شر قتلى تحت أديم الأرض [ (6) ] يكفرون المسلمين، ويسفكون الدماء، فالحرورية ومن قاربهم في مذهبهم يطعنون عليه وينالون منه.
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المرجع السابق) : «قام فينا» .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 459.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 460.
[ (5) ] (الاستيعاب) : 2/ 653- 655، ترجمة سمرة بن جندب رقم (1063) .
[ (6) ] كذا في (الأصل) ، وفي (الاستيعاب) : «أديم السماء» .

(14/132)


قال: وكانت وفاته بالبصرة [في خلافة معاوية] [ (1) ] سنة ثمان وخمسين، سقط في قدر مملوءة ماء حارا، كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز [شديد] [ (2) ] أصابه فسقط في القدر الحارة فمات، فكان ذلك تصديقا [ (3) ] لقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم له ولأبى هريرة، وثالث معهما:
آخركم موتا في النار.
وروى أبو سعيد بن يونس من حديث داود بن المحبر عن زياد بن عبد اللَّه ابن سمرة بن جندب، كان أصابه كزاز شديد، وكان لا يكاد أن يدفأ، فأمر بقدر عظيمة فملئت ماء وأوقد تحتها واتخذ فوقها مجلسا، وكان يصعد إليه بخارها فيدفئه، فبينا هو كذلك إذا خفت به. فظن أن ذلك الّذي قيل فيه [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] في (الأصل) : «قصد بها» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (4) ] قال البيهقي: وقد قال بعض أهل العلم: إن سمرة مات في الحريق فصدق بذلك قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ويحتمل أن يورد النار بذنوبه، ثم ينجو بإيمانه، فيخرج منها بشفاعة الشافعين. واللَّه تعالى أعلم. (دلائل البيهقي) : 6/ 460.

(14/133)


وأما ظهور صدقه صلى اللَّه عليه وسلّم في موت عبد اللَّه بن سلام [ (1) ] على الإسلام من غير أن ينال الشهادة [فكان كما أخبر- توفى على الإسلام في أول أيام معاوية بن أبي سفيان سنة ثلاث وأربعين-]
فخرج البخاري [ (2) ] من حديث ابن عون عن محمد [بن سيرين] ، عن قيس بن عباد قال: كنت جالسا في مسجد المدينة فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين فتجور فيها ثم خرج وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة! قال: واللَّه ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لم ذاك،
رأيت رؤيا على عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة، ذكر من سعتها وخضرتها، وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارق، فرقيت، حتى كنت في أعلاه فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك فاستيقظت، وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: تلك العروة الوثقى، فأنت تموت على الإسلام حين تموت، وذلك الرجل عبد اللَّه ابن سلام.
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، الإمام الحبر، المشهود له بالجنة، أبو الحارث الإسرائيلي، حليف الأنصار، من خواص أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حدث عنه أبو هريرة، وأنس بن مالك، وعطاء بن يسار، وزرارة بن أوفى، وآخرون. له إسلام قديم بعد أن قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وهو من أحبار اليهود. اتفقوا على أن ابن سلام توفى سنة ثلاث وأربعين. (تهذيب سير الأعلام) : 1/ 71- 72، ترجمة رقم (190) باختصار. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (الدلائل) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 162- 163، كتاب مناقب الأنصار، باب (19) مناقب عبد اللَّه بن سلام رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3813) .

(14/134)


وخرجه من حديث ابن عون عن محمد [بن سيرين] ، حدثنا قيس بن عباد، عن ابن سلام. قال: وصيف مكان منصف. ذكره في كتاب التعبير، في باب التعلق بالعروة والحلقة [ (1) ] .
ومن حديث ابن عون، عن محمد [بن سيرين] ، حدثنا قيس بن عباد، عن عبد اللَّه بن سلام، - رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كأنى في روضة ذكر من سعتها وخضرتها، قال: ورأيت في وسط تلك الروضة عمودا وفي أعلى العمود عروة فقيل لي: ارقه، قلت: لا أستطيع، قال: فأتانى وصيف، فرفع ذلك الوصيف ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاه، فقيل لي: استمسك بالعروة، قال: فاستمسكت بتلك العروة فانتبهت وإنها لفي يدي وأنا متمسك بها،
فلما استيقظت أتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقصصتها عليه، فقال:
تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة العروة الوثقى لا تزال مستمسكا بالإسلام حتى تموت [ (2) ] .
وخرجه مسلم [ (3) ] من حديث عبد اللَّه بن عون بهذا الإسناد أو نحوا أو قريبا مما تقدم أولا.
وخرجاه من حديث حرمي بن عمارة، قال: حدثنا قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين قال: قال قيس بن عباد فذكره.
ولمسلم [ (4) ] من حديث جرير عن الأعمش، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر، قال: كنت جالسا في حلقة في مسجد المدينة قال: وفيها شيخ حسن الهيئة وهو عبد اللَّه بن سلام، قال: فجعل يحدثهم حديثا حسنا قال: فلما قام قال القوم: من سرة أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا،
__________
[ (1) ] باب رقم (23) التعليق بالعروة الوثقى، حديث رقم (7014) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 496، كتاب التعبير باب (23) التعليق بالعروة والحلقة، حديث رقم (7014) . وأخرجه البيهقي في (الدلائل) : 6/ 461- 462.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 275، كتاب فضائل الصحابة باب (339) باب من فضائل عبد اللَّه بن سلام، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (148) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 276- 277 حديث رقم (150) .

(14/135)


قال: فقلت: واللَّه لاتبعنه فلأعلمن مكان بيته قال: فتبعته، قال: فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، قال: فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقال: ما حاجتك يا ابن أخى؟ فقلت له: سمعت القوم يقولون لك لما قمت:
من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فأعجبني أن أكون معك، قال: اللَّه أعلم بأهل الجنة، وسأحدثك ممّ قالوا ذاك، إني بينما أنا نائم، إذ أتانى رجل فقال لي: قم، فأخذ بيدي، فانطلقت معه، قال: فإذا أنا بجواد عن شمالي، قال: فأخذت لآخذ فيها، فقال لي: لا تأخذ فيها، فإنّها طرق أصحاب الشمال، قال: فإذا جواد منهج على يميني فقال لي: خذ هاهنا، فأتى بى جبلا، فقال لي: اصعد، قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على استي، قال: حتى فعلت ذلك مرارا، قال: ثم انطلق بى حتى أتى بى عمودا رأسه في السماء وأسفله في الأرض، في أعلاه حلقة، فقال لي: أصعد فوق هذا! قلت: كيف أصعد هذا ورأسه في السماء؟.
قال: فأخذ بيدي فزج بى، قال: فإذا أنا متعلق بالحلقة، قال: ثم ضرب العمود فخرّ، قال: وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت.
قال: فأتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقصصتها عليه، فقال: أما الطرق التي رأيت على يسارك، فهي طرق أصحاب الشمال، قال: مر، أما الطرق التي رأيت عن يمينك، فهي طرق أصحاب اليمين، وأما الجبل فهو منزل الشهداء، ولن تناله، وأما العمود فهو عمود الإسلام، وأما العروة فهي عروة الإسلام، ولن تزال متمسكا بها حتى تموت.
قال ابن عبد البر [ (1) ] : توفى في المدينة في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين، وشهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لعبد اللَّه بن سلام بالجنة.
__________
[ (1) ] (الإستيعاب) : 3/ 921- 922، ترجمة رقم (1561) .

(14/136)


وأما ظهور صدقه صلى اللَّه عليه وسلّم في إخباره لرافع بن خديج [ابن رافع بن عدي بن زيد بن عمرو بن زيد ابن جشم الأنصاري، النجاري، الخزرجي] بالشهادة
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا عمرو بن مرزوق الواشحي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد- يعني: ابن رافع- عن جدته أن رافع بن خديج رمى- قال عمرة: لا أدرى أيهما قال؟ - يوم أحد أو يوم حنين- بسهم في ثندوته فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه انزع السهم؟ فقال له: يا رفع إن شئت نزعت السهم والقطبة جميعا، وإن شئت نزعت السهم وتركت القطبة وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد، فقال رافع: يا رسول اللَّه، انزع السهم ودع القطبة واشهد لي يوم القيامة أنى شهيد
قال: فعاش بعد ذلك حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كان خلافة معاوية انتقض ذلك الجرح فمات بعد العصر.
قال كاتبه: وقد ذكر ابن عبد البر [ (2) ] أنه أصيب يوم أحد، انتقضت جراحته في زمن عبد الملك بن مروان، فمات قبل ابن عمر بيسير سنة أربع وسبعين، وكذا ذكره الحاكم [ (3) ] وغيره عن الواقدي في تاريخ وفاته.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 463، باب ما جاء في شهادة [النبي صلى اللَّه عليه وسلّم] لرافع بن خديج بالشهادة وظهور صدقة في ذلك زمن معاوية. والثندوة: الترقوة.
[ (2) ] (الاستيعاب) : 2/ 479- 480، ترجمة رقم (727) وما بين الحاصرتين في العنوان زيادة للنسب منه.
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 648، كتاب معرفة الصحابة، ذكر رافع بن خديج رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.

(14/137)


وأما إنذاره صلى اللَّه عليه وسلّم بهلاك أمته على يد أغيلمة من قريش فكان منذ ولّي يزيد بن معاوية
فخرج البخاري [ (1) ] من حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلم بالمدينة، ومعنا مروان، قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: «سمعت الصادق المصدوق صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: هلكت أمتى على يدي غلمة من قريش، فقال مروان: لعنه اللَّه عليهم غلمة،
فقال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لو شئت أن أقول: بنى فلان وبنى فلان لفعلت «فكنت أخرج مع جدي إلى بنى مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم. قلنا: أنت أعلم.
وذكره أيضا في باب علامات النبوة [ (2) ] ، وخرج فيه أيضا من حديث شعبة عن أبي التياح، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يهلك الناس هذا الحي من قريش، قالوا فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم [ (3) ] .
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 13/ 10، كتاب الفتن، باب (3) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: هلاك أمتى على يدي أغيلمة سفهاء، حديث رقم (7058) ،
قال الحافظ: يتعجب من لعن مروان الغلمة المذكورين، مع أن الظاهر أنهم من ولده، فكأن اللَّه تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشدّ في الحجة عليهم لعلهم يتعظون.
وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك. (فتح الباري) .
[ (2) ] باب (25) من كتاب المناقب، حديث رقم (3605) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3604) .

(14/138)


وخرج مسلم [ (1) ] في كتاب الفتن من حديث أبي أسامة بهذا الإسناد ولفظه:
عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يهلك أمتى هذا الحي من قريش. الحديث.
وخرج البيهقي [ (2) ] من طريق عبد اللَّه بن يزيد المقرئ قال: حدثنا حيوة قال: أخبرنى بشير بن أبي عمرو الخولانيّ أن الوليد بن قيس الحسبي أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: وتلا هذه الآية:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [ (3) ] فقال: يكون خلف من بعد ستين سنة، أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدون تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر. قال بشير:
فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ فقال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به وخرجه الحاكم [ (4) ] وقال: هذا حديث صحيح رواته حجازيون وشاميون أثبات.
قال البيهقي [ (5) ] : وقد روي عن علي عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما ما يؤكد هذا التاريخ،
فذكر من طريق أبي أسامة، عن مجالد، عن عامر قال: لما رجع عليّ من صفين قال: يا أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية فإنه لو قد فقدتموه لقد رأيتم الرءوس تنزو من كواهلها كالحنظل.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 256- 257، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (2917) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 464- 467، باب ما جاء في إخباره النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالفتن التي ظهرت بعد الستين من أغيلمة من قريش فكان كما أخبر.
[ (3) ] مريم: 59.
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 406، كتاب التفسير، باب (19) تفسير سورة مريم. حديث رقم (3416) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 466، باب ما جاء في إخبار النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالفتن التي ظهرت بعد الستين من أغيلمة من قريش فكان كما أخبر.

(14/139)


ومن حديث العباس بن الوليد [ (1) ] بن مزيد البيروتي قال: أخبرنا أبي قال:
حدثنا ابن جابر عن عمير بن هانئ أنه حدثه قال: كان أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يمشي في سوق المدينة وهو يقول اللَّهمّ لا تدركني سنة الستين، ويحكم! تمسكوا بصدغي معاوية: اللَّهمّ لا تدركني إمارة الصبيان.
قال البيهقي [ (2) ] : وهما إنما يقولان مثل هذا الشيء سمعاه من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
وخرج البيهقي [ (3) ] من طريق هوذة بن خليفة قال: حدثنا عوف بن أبي خلفة عن أبي العالية قال: لما كان يزيد بن أبي سفيان أميرا بالشام غزا الناس فغنموا وسلموا، فكان في غنيمتهم جارية نفيسة فصارت لرجل من المسلمين في سهمه، فأرسل إليه يزيد فانتزعها منه، وأبو ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يومئذ بالشام قال: فاستغاث الرجل بأبي ذر على يزيد، فانطلق معه، فقال ليزيد: ردّ على الرجل جاريته- ثلاث مرات-،
قال أبو ذر: أما واللَّه لئن فعلت لقد سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: أن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية، ثم ولّى عنه، فلحقه يزيد فقال: أذكرك باللَّه أنا هو؟ قال: اللَّهمّ لا، وردّ على الرجل جاريته.
قال البيهقي [ (4) ] : يزيد بن أبي سفيان كان من أمراء الأجناد بالشام في أيام أبي بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- ولكن سميه [ (5) ] يزيد بن معاوية يشبه أن يكون هو، قال: وفي هذا الإسناد إرسال بين أبي العالية وأبي ذر، وقد روى من وجه آخر.
فذكر من طريق يعقوب بن سفيان قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمرو الحراني، حدثنا: محمد بن سليمان، عن ابن غنيم البعلبكي، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشنيّ، عن أبي عبيدة بن الجراح رضي
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 466- 467.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 467.
[ (5) ] (سميه: الّذي يسمس باسمه، قال تعالي: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم]

(14/140)


اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: لا يزال هذا الأمر معتدلا قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية [ (1) ] .

وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في أن قيس بن خرشة القيسي لا يضره بشر
فخرج الحافظ أبو عمر بن عبد البر [ (2) ] من طريق ابن وهب قال: حدثني حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب أنه سمعه يحدث محمد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي، قال: اصطحب قيس بن خرشة وكعب الكتابيين حتى إذا بلغا صفين وقف كعب، ثم نظر ساعة، قال: فقال لا إله إلا اللَّه، ليهرقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لم يهرق ببقعة من الأرض، فغضب قيس، ثم قال: وما يدريك يا أبا إسحاق ما هذا؟، فإن هذا من الغيب الّذي استأثر اللَّه به، فقال كعب: ما من شبر من الأرض إلا وهو مكتوب في التوراة التي أنزل اللَّه على نبيه موسى بن عمران- عليه السلام- ما يكون عليه إلى يوم القيامة، فقال: محمد بن يزيد: ومن قيس بن خرشة؟ فقال له رجل: تقول: ومن قيس بن خرشة؟ وما تعرفه وهو رجل من أهل بلادك؟ قال: واللَّه ما أعرفه،
قال: فإن قيس بن خرشة قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أبايعك على ما جاءك من اللَّه، وعلى أن أقول بالحق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا قيس عسى إن مرّ بك الدهر أن يليك بعدي ولاة لا تستطيع أن تقول لهم [ (3) ] الحق، قال قيس: لا واللَّه، لا أبايعك على شيء إلا وفيت به، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا لا يضرك بشر.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 467، باب ما جاء في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفتن التي ظهرت بعد الستين من أغيلمة من قريش فكان كما أخبر. (المطالب العالية) : 4/ 332، باب لعن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحكم بن العاص وبنيه وبني أمية، حديث رقم (4532) .
وقال البوصيري: رواه ابن منيع والحارث وأبو يعلى بسند منقطع وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلي رجال الصحيح إلا أن مكحولا لم يدرك أبا عبيدة.
[ (2) ] (الاستيعاب) : 3/ 1286- 1288، ترجمة رقم (2129) قيس بن خرشة القيسي.
[ (3) ] في (الأصل) : «معهم» ، وما أثبتناه من (الاستيعاب) .

(14/141)


قال: فكان قيس يعيب زيادا أو ابنه عبيد اللَّه بن زياد بن بعده، فبلغ ذلك عبيد اللَّه بن زياد، فأرسل إليه فقال: أنت الّذي تفترى على اللَّه وعلى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال: [لا واللَّه، ولكن إن شئت أخبرتك بمن يفترى على اللَّه وعلى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: ومن هو؟ قال: من ترك العمل بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم، قال] [ (1) ] : ومن ذلك؟ قال: أنت، وأبوك، والّذي أمركما، قال: وأنت الّذي تزعم أنه لا يضرك بشر؟ قال: نعم، قال: لتعلمن اليوم أنك كاذب، ائتوني بصاحب العذاب، فمال قيس عند ذلك فمات- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وخزي ابن مرجانة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط من (الأصل) ، وأثبتناه من (الاستيعاب) .
[ (2) ] (الاستيعاب) : 3/ 1286- 1288، ترجمة قيس بن خرشة القيسي رقم (2129) .

(14/142)


وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما
فخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث مؤمل قال: حدثنا عمارة بن زاذان، حدثنا ثابت عن أنس [بن مالك] [ (2) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن ملك القطر [ (3) ] استأذن [ربه] [ (2) ] أن يأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأذن له فقال لأم سلمة: أملكى علينا الباب، لا يدخل علينا أحد، قال: وجاء الحسين [بن عليّ] [ (4) ] ليدخل فمنعته، فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وعلى منكبه، وعلى عاتقه، قال: فقال الملك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتحبه؟ قال: نعم، قال [أما] [ (2) ] إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الّذي يقتل فيه، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء، فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها، قال ثابت: بلغنا أنها كربلاء.
وخرجه البيهقي من حديث عبد الصمد بن حسان عن عمارة بن زاذان نحوه أو قريبا منه، إلا أنه قال: فضرب بيده فأراه ترابا أحمر فأخذته أم سلمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها فصرته في طرف ثوبها، فكنا نسمع، أن يقتل بكربلاء، قال: وكذلك رواه سفيان بن فروخ، عن عمارة فذكره نحوه [ (5) ] .
وقال أبو يعلى: حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن ليث بن أبي سليم، عن جرير، عن الحسن العبسىّ، عن مولى لزينب، أو عن بعض أهله، عن زينب قالت: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيتي وحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عندي حين درج، فغفلت عنه، فدخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجلس على بطنه، فبال فانطلق لأخذه، فاستيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: دعيه، فتركته حتى فرغ، ثم دعا بماء، فقال: إنه يصب من الغلام، ويغسل من الجارية،
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) 4/ 127، حديث رقم (13127) من مسند أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (13383) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المرجع السابق) : «ملك القطر» .
[ (4) ] من (الأصل) فقط.
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .

(14/143)


فصبوا صبا، ثم توضأ، فقام فصلّى، فلما قام احتضنه إليه، فإذا ركع أو جلس وضعه ثم جلس فشكا، ثم مدّ يده فقلت حين قضى الصلاة: يا رسول اللَّه، إني رأيتك اليوم صنعت شيئا ما رأيتك تصنعه؟ قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن ابني هذا تقتله أمتي، فقلت: أرني تربته، فأراني تربة حمراء.
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] وأبو بكر بن أبي شيبة من حديث محمد بن شرحبيل ابن مدرك الجعفي عن عبد اللَّه بن نجي الحضرميّ، عن أبيه، أنه صار مع عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى عليّ: صبرا أبا عبد اللَّه، بشط الفرات، فقلت:
وما ذاك؟ قال: دخلت على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلت:
يا نبي اللَّه أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تقضيان؟ قال: بل قام جبريل من عندي قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك أن اشمك من تربته؟ قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عينيّ أن فاضتا.
وخرج الإمام [ (2) ] أحمد من حديث وكيع قال: حدثني عبد اللَّه بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة، أو أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال لإحداهما لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل علي قبلها، فقال: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء.
وخرج الحاكم [ (3) ] من حديث مصعب قال: حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار شداد بن عبد اللَّه، عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 137، حديث رقم (649) ، من مسند على بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 418، حديث رقم (25985) ، من حديث أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 194، كتاب معرفة الصحابة، أول فضائل أبي عبد اللَّه الحسين بن على الشهيد رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ابن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم.

(14/144)


صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه إني رأيت حلما منكرا الليلة، قال: [وما هو] ؟ قالت:
إنه شديد، قال: [وما هو] ؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت خيرا، تلد فاطمة إن شاء اللَّه غلاما فيكون في حجرك، فولدت فاطمة الحسين- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، - فكان في حجري كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلت يوما إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تهريقان الدموع، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي، مالك؟ قال: أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، فقلت: هذا؟ قال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ (1) ] [ولم يخرجاه] وخرج من طريق أبي نعيم قال: حدثنا عبد اللَّه بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: أوحى اللَّه إلى محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وخرّج من حديث قرة بن خالد قال: حدثنا عامر بن عبد الواحد، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين ابن عليّ يقتل بالطف [ (3) ] .
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة [ (1) ] من حديث يعلى بن عبيد، عن موسى الجهنيّ، عن صالح بن أربد النخعي، قال: قالت أم سلمة- رضي اللَّه تبارك
__________
[ () ] (4818) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : بل منقطع ضعيف، فإن شدادا لم يدرك أم الفضل، ومحمد بن مصعب ضعيف.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 195- 196، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4822) . وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4826) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : حجاج بن نصير متروك.

(14/145)


وتعالى عنها-: دخل الحسين بن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا جالسة على الباب، فاطلعت فرأيت في كف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا يقلبه وهو نائم على بطنه! فقلت: يا رسول اللَّه تطلعت فرأيتك تقلب شيئا في كفك، والصبي نائم على بطنك، ودموعك تسيل، فقال: إن جبريل عليه السلام أتانى بالتربة التي يقتل عليها، وأخبرنى أن أمتى يقتلونه [ (1) ] .
وخرّج أبو نعيم أحمد بن حديث عبد اللَّه بن أحمد، قال: حدثني عبد بن زياد الأسدي، حدثنا عمرو بن ثابت عن الأعمش، عن أبي وائل شفيق بن سلمة، عن أم سلمة قالت: كان الحسين والحسن- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يلعبان بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيتي، فنزل جبريل فقال: يا محمد، إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك، وأومأ بيده إلى الحسين، فبكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وضمه إلى صدره، ثم قال: وديعة عندك هذه التربة، فشمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: ريح كرب وبلاء، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أم سلمة، إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قد قتل، قال: فجعلتها أم سلمة في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول: تحولين دما ليوم عظيم [ (2) ] .
وخرج من حديث يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا سليمان بن بلال عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنظب، عن أم سلمة قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا في بيتي ذات يوم، فقال: لا يدخلن عليّ أحد، فانتظرت، فدخل الحسين، فسمعت نشيج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يبكى، فاطلعت، فإذا الحسين في حجره، وإلى جنبه يمسح رأسه وهو يبكى، فقلت: واللَّه ما علمت به حتى دخل، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن جبريل كان معنا في البيت فقال: أتحبه؟ فقلت: أما من حيث الدنيا فنعم، فقال إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء، فتناول جبريل من ترابها فأراه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما أحيط بالحسين- رضي اللَّه تبارك
__________
[ (1) ] (المصنف) : 7/ 477- 478، كتاب الفتن، باب (2) ما ذكر في فتنة الدجال، حديث رقم (37355) .
[ (2) ] سبق تخريجهما.

(14/146)


وتعالى عنه- حين قتل، قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: أرض كربلاء، قال: صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أرض كرب وبلاء [ (1) ] .
وخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث موسى بن يعقوب عن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد اللَّه بن وهب بن زمعة، قال: أخبرتني أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اضطجع ذات يوم النوم فاستيقظ وهو حائر، ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ وهو حائر دون ما رأيت منه في الكرة الأولى، ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ وفي يده تربة حمراء يقلبها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول اللَّه؟ قال: أخبرنى جبريل عليه السلام أن هذا يقتل بأرض العراق- للحسين- فقلت: يا جبريل أرنى تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها.
تابعه موسى الجهنيّ عن صالح بن زيد النخعي عن أم سلمة وأبان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة.
وخرّج البيهقي [ (3) ] من طريق سعيد بن الحكم بن أبي مريم قال: حدثني يحيى بن أيوب قال: حدثني ابن غزية وهو عمارة عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كان لعائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها مشربة، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد لقي جبريل عليه السلام لقيه فيها، فرقاها مرة من ذلك، وأمر عائشة أن لا يطلع [إليهم] أحد، قال: وكان رأس الدرجة في حجرة عائشة، فدخل الحسين بن على رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما فرقى ولم تعلم حتى غشيها، فقال جبريل: من هذا؟ قال: ابني، فأخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجعله على فخذه، قال جبريل: سيقتل، تقتله أمتك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أمتى؟ قال: نعم، وإن شئت أخبرتك بالأرض التي يقتل فيها فأشار جبريل بيده إلى الطف بالعراق، فأخذ تربة حمراء، فأراه إياها.
__________
[ (1) ] سبق تخريجهما.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 468.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 470. في (الأصل) : «إليه» .

(14/147)


قال البيهقي [ (1) ] : هكذا رواه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية مرسلا.
ورواه إبراهيم بن أبي يحيى، عن عمارة موصولا فقال: عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة.
وخرّجه الحافظ أبو نعيم [ (2) ] من حديث عطاء بن مسلم الخفاق، عن الأشعث ابن سحيم، عن أبيه، عن أنس بن الحارث، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن أمتى تقتل هذا بأرض من أراضى العراق، فمن أدركه منكم فلينصره، قال: فقتل أنس مع الحسين بن على رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة [ (3) ] حدثنا- أحوص بن حبان عن يونس، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن نعجة قال: إن أول ذل دخل على العرب قتل الحسين بن علي وادّعاه زياد.
وخرّج البيهقي [ (4) ] من حديث شبابة بن سوار، قال: حدثنا يحيى بن سالم الأسدي، قال: سمعت الشعبي يقول: كان ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قدم المدينة، فأخبر أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ليلتين أو ثلاث من المدينة، فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: إن اللَّه عز وجل خيّر نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الدنيا وبين الآخرة فاختار الآخرة، ولم يرد الدنيا وإنكم بضعة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واللَّه لا يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها اللَّه عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، وقال: هذه كتبهم وبيعتهم، قال: فاعتنقه ابن عمر وقال: استودعك اللَّه من قتيل.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 470.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 554، إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قتل الحسين- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (493) ، ونقله الحافظ السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 451، وقال:
رواه ابن السكن والبغوي في الصحابة.
[ (3) ] (المصنف) : 7/ 258، كتاب الأوائل، باب (1) أول ما فعل ومن فعله، حديث رقم (35849) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 470- 471.

(14/148)


وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث عبد الرحمن، قال: حدثنا: حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في المنام نصف النهار، أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم يلتقطه، أو يتبع فيها شيئا، فقلت: ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم، قال: فحفظنا ذلك فوجدناه قتل ذلك اليوم.
وخرج من حديث عفان، حدثنا حماد، حدثنا عمار فذكره بنحو منه [ (2) ] .
وخرج البيهقي [ (3) ] من حديث مسلم بن إبراهيم، قال: حدثتنا أم شوق العبدية، قالت: حدثتني نضرة الأزدية قالت: لما قتل الحسين بن على أمطرت السماء دما فأصبحت وكل شيء [لنا] [ (4) ] ملآن [دماء] [ (5) ] .
ومن حديث سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد، عن معمر قال: أول ما عرف الزهري تكلم في مجلس الوليد بن عبد الملك، فقال الوليد:
أيكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين بن على؟ فقال الزهري: بلغني أنه لم يقلب حجر إلا وجد تحته دم عبيط [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 400، حديث رقم (2166) من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2549) من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 471.
[ (4) ] من (الأصل) : فقط.
[ (5) ] في (الأصل) : دما، وما أثبتناه من (الدلائل) .
[ (6) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 471) .

(14/149)


وخرج الحاكم [ (1) ] من طريق نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق، عن الزهري أن أسماء الأنصارية قالت: ما رفع حجر بإيليا ليلة قتل عليّ رضي- اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلا ووجد تحته دم عبيط.
وخرجه البيهقي [ (2) ] من حديث ابن عفير، حدثنا حفص بن عمران عن السري بن يحيى، عن ابن شهاب قال: قدمت دمشق وأنا أريد الغزو فأتيت عبد الملك يعني ابن مروان لأسلم عليه، فوجدته في قبة على فرش يفوق القائم، والناس تحته سماطان، فسلمت وجلست، فقال: يا ابن شهاب أتعلم ما كان في بيت المقدس صباح قتل ابن أبي طالب؟ قلت: نعم، قال: هلم، فقمت من وراء الناس حتى أتيت خلف القبة وحوّل وجهه فأحنى عليّ فقال:
ما كان؟ فقلت: لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم، قال:
فقال: لم يبق أحد يعلم هذا غيري وغيرك، ولا يسمعن منك، قال: فما تحدثت به حتى توفي.
قال البيهقي هكذا روي في قتل عليّ بهذا الإسناد، وروى بإسناد أصح من هذا عن الزهري، أن ذلك كان في قتل الحسين بن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
قال كاتبه: يريد ما تقدم ذكره من طريق سليمان بن حرب، عن حماد.
وخرج من طريق أيوب بن محمد الرقى حدثنا: سلام بن سليمان الثقفي، عن زيد بن عمرو الطندى، قال: حدثتني أم حبان، قالت: يوم قتل الحسين
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 155، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بأصح الأسانيد على سبيل الاختصار، حديث رقم (4694) : قال الحاكم: قد اختلفت الروايات في مبلغ سنّ أمير المؤمنين حين قتل، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : نوح كذاب.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 440- 441، باب ما روى في إخباره بتأمير علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقتله فكانا كما أخبر.

(14/150)


أظلمت علينا ثلاثا: ولم يمس أحد منا من زعفرانهم شيئا فجعله على وجهه إلا احترق، ولم يقلب حجر في بيت المقدس إلا أصبح تحته دم عبيط.
ومن حديث علي بن مسهر قال: حدثتني جدتي، قالت: كنت أيام الحسين جارية شابة فكانت السماء أياما كأنها علقة [ (1) ] .
ومن حديث أبي بكر الحميدي حدثنا سفيان، قال: حدثتني جدتي، قالت: لقد رأيت الورس عاد رمادا، ولقد رأيت اللحم كأن فيه النار حين قتل الحسين [ (2) ] .
ومن طريق سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثني جميل بن مرة، قال: أصابوا إبلا في عسكر الحسين يوم قتل، فنحروها وطبخوها قال:
فصارت مثل العلقم، فما استطاعوا أن يسيغوا منها شيئا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 472.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 472.
[ (3) ] (المرجع السابق) .

(14/151)


وأما إنذاره صلى اللَّه عليه وسلم بقتل أهل الحرة وتحريق الكعبة المشرفة
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني ابن فليح عن أبيه، عن أيوب بن عبد الرحمن، عن أيوب بن بشير المعافري، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج في سفر من أسفاره، فلما مرّ بحرة زهرة وقف فاسترجع فساء ذلك من معه، وظنوا أن ذلك من أمر سفرهم، فقال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا رسول اللَّه! ما الّذي رأيت؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أما إن ذلك ليس من سفركم هذا، قالوا: فما هو يا رسول اللَّه؟ فقال: يقتل بهذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي.
قال البيهقي [ (2) ] : هذا مرسل وقد روى عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- في تأويل آية من كتاب اللَّه تعالى ما يؤكده، فذكر من طريق ثور ابن يزيد عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لأتوها [ (3) ] قال: لأعطوها، يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة.
وخرج الإمام أحمد [ (4) ] من حديث شعبة بن أوس عن بلال العبسيّ، عن ميمونة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كيف أنتم إذا مرج الدين وظهرت الرغبة واختلف الإخوان، وحرق البيت العتيق؟.
وذكر محمد بن الحسن بن زبالة، عن إبراهيم بن محمد، عن أبيه قال:
أمطرت السماء على عهد عمر بن الخطاب فقال لأصحابه: هل لكم في هذا الماء الحديث العهد بالعرش لننزل به ونشرب منه؟ فلو جاء من مجيئه راكب
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 473، باب ما روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في إخباره بقتل أهل الحرة فكان كما أخبر.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] الأحزاب: 14، كذا في (الأصل) ، برواية ورش عن نافع، وهي برواية حفص عن عاصم هكذا: لَآتَوْها.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 7/ 469، حديث رقم (2689) .

(14/152)


لتمسحنا به، فخرجوا حتى أتوا حرة واقم، وشراجها تطرد، فشربوا منها وتوضأنا فقال كعب: واللَّه يا أمير المؤمنين ليسيلن هذا الشراج بدماء الناس كما يسبل بهذا الماء! فقال عمر: دعنا من أحاديثك، قال: فدنا منه عبد اللَّه بن الزبير فقال: يا أبا الحق ومتى ذلك؟ وفي أي زمان؟ قال: إياك أن يكون ذلك على يدك.
وعن موسى بن عقبة، عن عطاء بن أبي مروان الواسطي، عن أبيه، عن كعب الأحبار قال: أفنجد في كتاب اللَّه حرة في المدينة تقتل بها مقتلة تضيء وجوههم يوم القيامة كما يضيء القمر ليلة البدر؟
وذكر من حديث زيد بن كثير عن المطلب بن عبد اللَّه، عن ابن أبي ربيعة أنه مر بعروة بن الزبير وهو يبنى قصره بالعقيق، فقال: أردت الحرث يا أبا عبد اللَّه؟ قال: لا، ولكنه ذكر لي أنه سيصيبها عذاب يعنى المدينة، فقلت: إن أصابها شيء كنت متنحيا عنها.
قال كاتبه: وكان من خبر وقعة الحرة [ (1) ] أن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامل المدينة ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بعث بوفد من أهل المدينة إلى يزيد فيهم عبد اللَّه بن حنظلة الغسيل وعبد اللَّه بن عمرو بن أبي حفص، بن المغيرة المجذومي، والمنذر بن الزبير بن العوام، فأكرمهم يزيد وأعظم جوائزهم، فلما عادوا إلى المدينة أظهروا شيم يزيد، وعابوه بشرب الخمر، وعزف القيان، واللعب بالكلاب، وخلعوه، وبايعوا عبد اللَّه بن حنظلة في سنة اثنتين وستين، فندب يزيد لحربهم مسلم بن عقبة المزني، ويسمى مسرفا، في اثنى عشر ألف، وعهد إليه إن ظهر عليهم أن يبيح المدينة، وقاتلهم بعد ما دعاهم إلى طاعة يزيد، وأجّلهم ثلاثا فلم يجيبوه، فهزمهم بعد قتال شديد، قتل فيه عبد اللَّه بن حنظلة، وعبد اللَّه بن زيد المازني، ومعقل بن سنان الأشجعي، في سبعمائة من حملة القرآن وعدة كثيرة.
قال أبو الهيثم: قتل يوم الحرة- حرة واقم نحو- من ستين ألف وخمسمائة.
__________
[ (1) ] (تاريخ الطبري) : 5/ 495 من أحداث سنة (63 هـ) .

(14/153)


وقال: أبو مخنف: المقتولون من وجوه قريش سبعمائة. وقال أبو جعفر الطبري: قتل من القراء سبعمائة ومن الصاحبة أربعة: عبد اللَّه بن يزيد ابن عاصم، ومعقل بن يسار، ومحمد بن عمرو بن حزم، وعبد اللَّه بن حنظلة الغسيل، وأنهب المدينة ثلاثا فانتهبت، وذلك يوم الأربعاء لثلاث أيام، افتضّ فيها ألف عذراء! وكان الّذي أدخل أهل الشام بنو حارثة من خلف الناس حينئذ، فانهزموا حينئذ، ودعا مسرف الناس إلى بيعة يزيد على انهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما يشاء، وقتل من امتنع من ذلك حتى أسرف في القتل والظلم، فسموه مسرفا لذلك، فبّحه اللَّه [ (1) ] .
وخرج الحاكم [ (2) ] من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا ابن عون، عن خالد ابن عبد الحويرث عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: الآيات خرزات منظومات في سلك، يقطع السلك فيتبع بعضها بعضا.
قال ابن الحويرث: كنا نادين بالصباح وهناك عبد اللَّه بن عمرو وكان هناك امرأة من بنى المغيرة يقال لها فاطمة، فسمعت عبد اللَّه بن عمرو يقول:
ذاك يزيد بن معاوية، فقالت: أكذاك يا عبد اللَّه بن عمرو، تجده مكتوبا في الكتاب؟ قال: لا أجده باسمه، ولكن أجد رجلا من شجرة معاوية يسفك الدماء، ويستحل الأموال، وينقض هذا البيت حجرا حجرا، فإن كان ذلك وأنا حي، وإلا فاذكريني، قال: وكان منزلها على أبي قبيس [ (3) ] فلما كان زمن الحجاج وابن الزبير ورأت البيت ينقض، قالت: رحم اللَّه عبد اللَّه بن عمرو قد كان حدثنا بهذا.
قال كاتبه إنما أحرق البيت في حصار أيام يزيد بن معاوية، وقال الليث:
رمى الحجاج البيت بالنار فأحرقه، فجاءت سحابة فأمطرت على البيت لم
__________
[ (1) ] (تاريخ الطبري) : 5/ 495، من أحداث سنة (63 هـ) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 520- 521، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8461) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (3) ] أبو قبيس: اسم جبل.

(14/154)


تجاوزه وأطفأت النار، وجاءت صاعقة فأحرقت المنجنيق وما فيه، وانكسر الحجر الأسود حين رمى الحجاج البيت [ (1) ] .

وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم بذهاب بصر عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فكان كذلك، وعمى قبل موته
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة، أن بعض بني عبد اللَّه سايره في طريق مكة، قال: حدثني العباس بن عبد المطلب أنه بعث ابنه عبد اللَّه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في حاجة فوجد عنده رجلا، فرجع ولم يكلمه من أجل مكان الرجل معه، فلقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم العباس بعد ذلك، فقال العباس: أرسلت إليك ابني فوجد عندك رجلا فلم يستطع أن يكلمك، فرجع، قال: ورآه؟ قال: نعم!، قال: أتدري من ذلك الرجل؟ ذاك الرجل جبريل- عليه السلام-، ولن يموت حتى يذهب بصره ويؤتى علما.
وخرّجه الحاكم [ (3) ] من حديث عاصم بن على، قال: حدثتنا زينب بنت سليمان بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، قال: حدثني أبي قال: سمعت أبي يقول: بعث العباس ابنه عبد اللَّه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فنام وراءه، وعند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رجلا فالتفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: متى جئت يا حبيبي؟ قال: مذ ساعة قال: هل رأيت عندي أحدا؟ قال: نعم، رأيت رجلا، قال: ذاك جبريل عليه السلام ولم يره خلق إلا عمي إلا أن يكون نبيا، ولكن عسى أن يجعل ذلك في آخر عمرك، ثم قال: اللَّهمّ علّمه التأويل، وفقهه في الدين، واجعله من أهل الإيمان،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
__________
[ (1) ] راجع التعليق: رقم (1) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 478، قال في (مجمع الزوائد) : فيه من لم أعرفه.
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 617- 618، كتاب معرفة الصحابة حديث رقم (6287) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : بل منكر.

(14/155)


وخرج أبو نعيم [ (1) ] من حديث صالح بن أبي الأسود، عن أبي الجارود، عن شوذب، عن عكرمة، قال: خرجت بابن عباس وهو على راحلته فلما أخرجها من الحرم قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حدثني أنه سيذهب بصري وقد ذهب، وحدثني أنى سأغرق وقد غرقت في بحيرة طبرية، وحدثني أنى سأهاجر من بعد فتنه، اللَّهمّ وإني أشهدك أن هجرتي اليوم إلى محمد بن علي ابن أبي طالب.

وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم زيد بن أرقم بالعمى فكان كذلك
فخرج البيهقي [ (2) ] من طريق المعتمر قال: حدثنا نباته بن بنت بريد، عن حمادة، عن أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دخل على زيد يعوده من مرض كان به، قال: ليس عليك من مرضك بأس، ولكن كيف بك إذا أعمرت بعدي فعميت؟ قال: إذا احتسب وأصبر. قال: إذا تدخل الجنة بغير حساب قال: فعمى بعد ما مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثم ردّ اللَّه عليه بصره ثم مات.
__________
[ (1) ] لم أجده.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 479.

(14/156)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم من يأتى بعده من الكذابين [وإشارته إلى من يكون] منهم من ثقيف فكان كما أخبر
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
خرجه أيضا من طريق عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن همام عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بمثله، غير أنه قال: ينبعث [ (2) ] .
وخرج الحافظ [ (3) ] أبو أحمد بن عدي، من حديث أبي يعلي الموصلي قال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا: شريك عن أبي الحق، عن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول صلّى اللَّه عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا
منهم مسيلمة والعنسيّ، والمختار ابن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن قسي، وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة ابن خصفة بن قيس غيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أمه دومة بنت عمرو بن وهب بن معقبة بن مالك بن كعب بن عمرو بن عوف بن ثقيف، كان المختار خارجيا، ثم صار زبيريا، ثم صار رافضيا في ظاهره، وزعم أنه يوحى إليه فيسجع به سجعا. وولاه ابن الزبير الكوفة، ثم خرج يطلب بدم الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فقتل عبيد اللَّه بن زياد في حرب، وقتل أناسا كثيرة، ثم قتله مصعب بن الزبير سنة سبع وستين، وشر قبائل العرب بنو أمية، وبنو حنيفة، وثقيف.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 260، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (84) .
[ (2) ] (المرجع السابق) الحديث الّذي يلي الحديث السابق.
[ (3) ] (الكامل في ضعفاء الرجال) لابن عدي: 6/ 173- 174، حديث رقم 36/ 1657.

(14/157)


قال ابن عدي: وهذا لا أعلم رواه عن شريك إلا محمد بن الحسن الأسدي، وله إفرادات، وحدث عنه الثقات من الناس، ولم أجد بحديثه بأسا.
قال البيهقي: ولحديث هذا المختار بن أبي عبيد الثقفي شواهد صحيحة.
وذكر من طريق أبي داود الطيالسي قال: حدثنا الأسود بن سفيان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنها قالت للحجاج بن يوسف: أما إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه قال: فقام عنها ولم يراجعها.
خرجه مسلم [ (1) ] في الصحيح من وجه آخر عن الأسود بن شيبان.
وذكر من طريق عبد اللَّه بن الزبير الحميدي قال: حدثنا سفيان هو ابن عيينة حدثنا أبو المحياة عن أمه، قالت: لما قتل الحجاج بن يوسف عبد اللَّه بن الزبير، دخل الحجاج على أسماء بنت أبي بكر فقال لها: يا أمّه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟
فقالت: لست لك بأم، ولكنى أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكن انتظر حتى أحدثك بما سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يقول: يخرج في ثقيف كذاب ومبير،
فأما الكذاب فقد رأيناه يعنى المختار [ (2) ] ، وأما المبير فأنت، فقال الحجاج: مبير المنافقين.
ومن طريق أبي داود الطيالسي قال: حدثنا شريك عن أبي علوان عبد اللَّه بن عصمة، عن ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إن في ثقيف كذابا ومبيرا.
قال كاتبه: المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف ابن عقدة بن غيرة بن عوف بن قسي بن منبه، وقسي هو ثقيف، كان شابا مع عمه سعد بن مسعود الثقفي وهو على المدائن لعلي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم نزل الكوفة وأنزله في داره، فأراد نصرته، فقبض عليه عبيد اللَّه بن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 332- 334، كتاب فضائل الصحابة، باب (58) ذكر كذاب ثقيف ومبيرها، حديث رقم (229) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .

(14/158)


زياد بعد ما ضرب وجهه بقضيب فشتر عينه، ثم حبسه حتى قتل الحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، لأنه كان زوج أخته صفيه بنت أبي عبيد، وأخرجه إلى الحجاز، فأقسم ليأخذن بثأر الحسين وليقتلن بقتله عدة من على دم يحيى بن زكريا عليهما السلام، ونزل الطائف وزعم أنه مبيد الجبارين ثم تبع عبد اللَّه بن الزبير وقائل معه، فلما مات يزيد بن معاوية مضى إلى الكوفة فكان لا يمر على مجلس إلّا سلّم عليه، قال: أبشروه بالنصر والفتح، أتاكم ما تحبون فأجمعت الشيعة إليه، فقال: لهم إن المهدي يعني محمد بن الحنيفة- بعثني إليكم أمينا ووزيرا، وأمرنى بقتال الملحدين، والطلب بدم أهل بيته، فبايعوه، فقبض عليه وسجن، فلما قتل سليمان بن حرد أخرج من السجن، فأخذ يجمع الشيعة وخرج يظاهر الكوفة ليلا في ربيع الأول سنة ستة وستين، ونادى مناديه: يا منصور أمت، ونادى آخر: يا لثأرات الحسين، فملك الكوفة بعد حروب شديدة، وبايعه الناس، فأحسن السيرة، وسير بعوثة إلى أرمينية، وأذربيجان، والموصل، والمدائن، وغير ذلك، ثم وثب بمن في الكوفة من قتلة الحسين، وقد خرج عليه أهل الكوفة وقاتلوه فظهر بهم في ذي الحجة منها، وقتل منهم نحو الثمانمائة، وتجرد لقتلة الحسين حتى أفناهم، فكانوا ألوفا، فبعث عبد اللَّه ابن الزبير لقتاله أخاه مصعب بن الزبير، فكانت بينهم حروب عظيمة، قتل فيها المختار، وعمره سبع وستون سنة.
قال البيهقي [ (1) ] : وقد شهد جماعة من أكابر التابعين على المختار بن أبي عبيد بما كان يستبطن، وأخبر بعضهم بأنه من جملة الكذابين الذين أخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بخروجهم بعده، فذكر عن أبي داود الطيالسي قال: حدثنا قرة بن خالد، عن عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد، قال: كنت أبطن شيء بالمختار- يعني: الكذاب- قال: فدخلت عليه ذات يوم، فقال: دخلت وقد قام جبريل قبل من هذا الكرسي! قال: فأهديت إلى قائم سيفي يعني لأضربه، حتى ذكرت حديثا
حدثته عمرو بن الحمق الخزاعي، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا أمن الرجل الرجل على دمه، ثم قلته رفع له لواء الغدر يوم القيامة، فكففت عنه،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 482، باب ما جاء في إخباره بمن يكون من الكذابين وإشارته إلى من يكون منهم من ثقيف فكان كما أخبر.

(14/159)


وقال زائدة عن السدي عن رفاعة القتباني: قال: كنت بالسيف على رأس المختار بن أبي عبيد، فسمعته ذات يوم يقول: قام جبريل من هذه النمرقة فأردت أن أسل سيفي فأضرب عنقه
فذكرت حديثا حدثنيه، عمرو بن الحمق الخزاعي أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: من أمن رجلا على نفسه فقتله فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافرا، قال: فتركته.
قال البيهقي [ (1) ] وكذلك رواه سفيان الثوري وأسباط بن نصر، وغيرهما، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السندي.
وخرجه الإمام [ (2) ] أحمد من طريق ابن نمير، حدثنا: عيسى [القاري] أبو عمر حدثنا السدي عن رفاعة القتباني قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة فقال: لولا أخى جبريل قام عن هذه لألقيتها لك، قال: فأردت أن أضرب عنقه، فذكرت حديثا
حدثنيه [أخي] عمرو بن الحمق قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله، فأنا من القاتل بريء.
ومن طريق الحميدي [ (3) ] حدثنا: سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي قال: فأخرت أهل البصرة فغلبتهم بأهل الكوفة، والأحنف ساكت لا يتكلم، فلما رآني غلبتهم أرسل غلاما له فجاءه بكتاب فقال لي: هاك اقرأ، فقرأته، فإذا فيه من المختار إليه يذكر أنه نبي فقال: يقول الأحنف: أني فينا مثل هذا.
قال البيهقي [ (1) ] : وقد روينا عن يحيى بن سعيد، عن مجالد، عن الشعبي قصة ما كان في الكتاب من موضوعة الّذي كان يعارض به القرآن.
ومن طريق عبيد اللَّه بن معاذ، حدثنا أبي حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، سمع مرة يعنى الهمذانيّ، قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: القرآن ما منه
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 483، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بمن يكون بعده من الكذابين، وإشارته صلّى اللَّه عليه وسلم إلى من يكون منهم من ثقيف، فكان كما أخبر.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 294، حديث رقم (21440) ، من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 483.

(14/160)


حرف، أو قال: آية- شك- إلا وقد عمل به قوم أو قال سيعملون بها، قال مرة: فقرأت: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [ (1) ] فقلت من عمل بهذه حتى كان المختار بن أبي عبيد.
قال البيهقي [ (2) ] : ولعكرمة مولى ابن عباس فيما يقال عن الوحي والموضوع [سئل] [ (3) ] يريدون ما كان المختار يدّعيه من أنه يوحى إليه، وأن عنده كتاب يسمى الموضوع.
ومن طريق أبي داود حدثنا: عبد اللَّه بن الجراح عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: قال عبيدة السلماني يعنى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في خروج الكذابين، قال إبراهيم: فقلت له أترى هذا منهم؟ يعنى المختار بن أبي عبيد؟ قال عبيدة: أما إنه من الرءوس [ (4) ] .
قال جامعه: وكانت سيرة المختار بن أبي عبيد في تتبع قتله الحسين وقتلهم، شاهدة بصدق على ما خرجه الحاكم [ (5) ] من حديث أبي يعلى محمد بن شداد المسمعي، حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد اللَّه بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أوحى اللَّه إلى نبيكم أني قتلت بيحيى سبعين ألفا، وأني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.
__________
[ (1) ] الأنعام: 93.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 484.
[ (3) ] في (الأصل) : «يقال» وما أثبتناه من (الدلائل) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 484.
[ (5) ] (المستدرك) : 2/ 219، كتاب التفسير، من سورة البقرة، حديث رقم (3147) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : عبد اللَّه ثقة، ولكن المتن منكر جدا، فأما محمد بن شداد، فقال الدارقطنيّ: لا يكتب حديثه، وأما حميد، فقال ابن عدي: كان يسرق الحديث.

(14/161)


قال الحاكم: قد كنت أحسب دهرا أن المسمعي تفرد بهذا الحديث عن أبي نعيم حتى حدثناه أبو محمد السبيعي الحافظ، حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن ناجية حدثنا حميد بن الربيع، حدثنا أبو نعيم، فذكره بإسناد نحوه.

(14/162)


أما ما أخبر به صلى اللَّه عليه وسلّم عن الحطم بن هند الكبريّ فكان كما أخبر
فذكر أبو زيد عمر بن شيبة في كتاب (أخبار مكة) بسنده إلى عبد اللَّه ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: كان شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو مرثد سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس يغزو ببكر بن وائل في الجاهلية وابن أبي رميض العتري ارتجز به في مسيره:
قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
فسماه الناس الحطم
وأنه أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة فقال يا محمد! إني سيد قومي، وداعية قومي، وإني إن أسلمت دعوت إليك الناس وإن تركت دينك صرفت عنك من بعدي، فما دينك يا محمد؟ قال: ديني الإسلام، قال: وما الإسلام؟ فذكر له، وقال:
لا تشرب الخمر، فقال يا محمد! ولا نشرب الخمر؟! قال: نعم، قال: إن في دينك لغلظ وشدة، أذهب فأعرضه على قومي، فإن قبلوا قبلت معهم وأن أدبروا كنت معهم، قال: اذهب فاعرض عليهم ما بدا لك، فلما أدبر، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد دخل عليّ بوجه كافر وخرج من عندي بعقبي غادر، ولن يسلم أبدا
فخرج حتى أتى سرح المسلمين، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أقبل من سفر سرح الناس ظهرهم، وإن عدو اللَّه اطرد سرح المسلمين هو وأصحابه، وطلبه المسلمون فسبقهم إلى اليمامة فنزلها، وأهل اليمامة مشركون فلما دخلت شهور الحرم علم أن الناس قد وضعوا السلاح، فباع تلك الإبل واشترى تجارة، فعهد بها إلى مكة يريد الحج والتجارة، وأهل مكة مشركون، فبلغ ذلك أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقالوا: يا رسول اللَّه إن الحطم عدد وختر وباع إبلنا، واشترى تجارات بأثمانها، وتوجه إلى مكة، أفلا نعرض له فنضرب عنه وننزع ما في يده؟ فقال: بلى،
فجمع رجالا ودعا رجلا يستعمله عليهم، إذ نزل عليه الوحي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً [ (1) ] فكف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه فلم يعرض له.
__________
[ (1) ] المائدة: 2.

(14/163)


قال أبو زيد: أما الهدي: فهي البدن، كانت تهدى إلى البيت فيعلق في أعناقها النعال وعليها جلالها فتمر بالمشركين وهم يأكلون الميتة والجلد، ولقد واللَّه لهذا هو أخبث ما أكل الناس، كان يبلغ بهم الجوع أن يحلقوا أوبار الإبل فيجمعونها بالدم، فيأكلونه، وكانوا لا يعرضون للبدن تعظيما لها، وأما القلائد فكان الرجل إذا توجه إلى مكة حاجا جعل في عنقه قلائد من لحاء السمر [ (1) ] أو من شعر أسود فيمر بالكفار، فلا يعرضون له وإن كانوا يطلبونه بدم، فيقولون: هذا يريد بيت اللَّه، وإذا صدر من مكة راجعا جعل في عنقه قلادة من إذخر [ (2) ] مكة، فقالوا: شجر الحرم في عنقه، إياكم وإياه وأما آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ فهو من كان توجه يريد مكة يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.
قال أبو بكر حدثنا محمد بن بلال بن أبي بردة- وهو أمير البصرة يومئذ: فأرسل إلى الحسن في الليل فأتيته فقال: أرأيت قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً الفضل والرضوان؟ قلت: الفضل: التجارة، والرضوان: الأجر. قال: الكفار يدرون ما الأجر ويريدونه؟ قلت: نعم، قد كانوا يعتقون الرقاب ويصلون الأرحام ويحجون، وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل. فأنشدني.
قوله: أن النشد يعني فرس أو ناقة، وقوله: قد لفها الليل بسواق حطم فهو الّذي لا يبقى من السير شيئا ويقال: رجل حطم للذي يأتي شيئا على الزاد لشدة أكله، يقال للنار التي لا تبقى حطمة! وقوله: على ظهر وضم، الوضم: كل ما قطع اللحم. [عليه] .
__________
[ (1) ] قشر الشجر.
[ (2) ] شجر ينبت بالحرم المكيّ.

(14/164)


وأما ظهور صدقة صلّى اللَّه عليه وسلّم في إخباره بغلبة الروم وفارس بعد ما غلبت منها
فقال اللَّه- تعالى-: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [ (1) ] .
اعلم أن عامة القرآن على ضم الغين من قوله: غُلِبَتِ الرُّومُ بمعنى أن فارس غلبت الروم، وروى عن ابن عمر وأبي سعيد الخدريّ وعليّ بن أبي طالب ومعاوية بن قرة أنهم قرءوا: غُلِبَتِ الرُّومُ بفتح الغين اللام.
يا قالوا: أبا عبد الرحمن على أي شيء غلبوا؟ قال: على ريف الشام، قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: والصواب الّذي لا يجوز غيره الم* غُلِبَتِ بضم الغين لإجماع الحجة من القراءة عليه، قال: وتأويل الكلام غلبت فارس والروم في أدنى الأرض، ومن أرض الشام إلى فارس، وهم من بعد غلبهم، يقول والروم من بعد غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ غلبهم، ومن بعد غلبهم إياهم، يقضي في خلقه ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويظهر من يشاء منهم على من أحب إظهاره عليه وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يقول: ويوم يغلب الروم فارس يفرح المؤمنون باللَّه ورسوله بنصر اللَّه إياهم على المشركين، ونصرة الروم على فارس، يَنْصُرُ اللَّه- تعالى [ذكره [ (2) ]]- مَنْ يَشاءُ من خلقه على، من يشاء، وهو نصره المؤمنين على المشركين ببدر وَهُوَ الْعَزِيزُ يقول: واللَّه الشديد في انتقامه من أعدائه لا يمنعه من ذلك مانع، ولا يحول بينه وبينه حائل الرحيم بمن تاب من خلقه، وراجع طاعته أن يعذبه. انتهى [ (3) ] .
وفي قوله تعالي: أَدْنَى الْأَرْضِ، قراءات، إحداها: أداني بألف بعد دال مفتوحة، وبمعنى أقرب الأرض، وفيها قولان، أحدهما: في أداني أرض فارس، حكاه النقاش، والثاني، في أداني أرض الروم، قاله الجمهور،
__________
[ (1) ] الروم: 1- 5.
[ (2) ] زيادة للسياق من (تفسير الطبراني) .
[ (3) ] (المرجع السابق) .

(14/165)


والقراءة الثانية: أدنى بسكون الدال، وهي إجماع القراء، ومعناه أقرب، وفي أدنى أربعة أقوال، أحدها: طرف الشام، قاله ابن عباس، والثاني: الجزيرة فيما بين العراق والشام، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، قاله مجاهد، والثالث: الأردن وفلسطين، قاله السّدي ومقاتل، والرابع: أذرعات، قاله عكرمة ويحيى بن سلام.
ويقال: إن قيصر بعث رجلا يدعى يحنس وبعث كسرى شهربراز فالتقيا بأذرعات وبصرى [ (3) ] ، وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم. قال ابن عطية: فإن كانت الوقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة.
وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي أدنى الأرض بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي إلى أدنى أرض الروم. فلما جرى ذلك وغلبت الروم شرّ الكفار فبشّر اللَّه عباده المؤمنين بأن الروم سيغلبون، وتكون الدولة لهم في الحرب، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأن الروم غلبت من فارس، فأخبر اللَّه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، وأن المؤمنين يفرحون بذلك لأن الروم نصارى أهل كتاب وهو الإنجيل، فكان هذا من علم الغيب الّذي أخبر اللَّه- تعالى- به مما لم يكن، فكان كما أخبر.
قال الزجاج وهذا يدل على أن القرآن من عند اللَّه، لأنه أنبأ بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا اللَّه.
وقد اختلف في البضع فقال ابن سيده: البضع أو البضع ما بين الثلاث إلى العشر أولها من الثلاثة إلى العشر مضاف إلى ما تضاف إليه الآحاد، كقوله- تعالى-: فِي بِضْعِ سِنِينَ وقوله: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [ (1) ] ويبني مع العشرة كما يبني سائر الآحاد، فيقال: بضعة عشر رجلا، وبضع عشرة امرأة، ولم يسمع بضعة عشر ولا بضع عشرة رجلا، وبضع عشر امرأة. ولا يمتنع ذلك.
وقيل: البضع من الثلاث إلى التسع وقيل هو ما بين الواحد إلى الأربعة وقال الهرويّ: العرب تستعمل البضع فيما بين الثلاث إلى التسع، والبضع والبضعة واحد ومعناهما القطعة من العدد.
__________
[ (3) ] أذرعات وبصر: أسماء أماكن.
[ (1) ] يوسف: 42.

(14/166)


وحكى عن أبي عبيدة أنه قال: البضع ما دون نصف العقد، يريد ما بين واحد إلى أربعة، وهذا ليس بشيء، لأن في الحديث أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: يا أبا بكر، هل احتطت فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع.
وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على أن البضع سبع، وقال الماوردي:
وهو قول لأبي بكر الصديق، وقال مجاهد: من ثلاث إلى تسع، وقال الأصمعي: من ثلاث إلى عشر، وحكى الزجاج: ما بين الثلاث إلى الخمس [ (1) ] .
__________
[ (1) ] البضع والبضع، بالفتح والكسر: ما بين الثلاث إلى العشر، وبالهاء: من الثلاثة إلى العشرة، يضاف إلى ما تضاف إليه الآحاد، لأنه قطعة من العدد، كقوله- تعالى- فِي بِضْعِ سِنِينَ [يوسف: 42] .
وتبني مع العشرة كما تبنى سائر الآحاد، وذلك من ثلاثة إلى تسعة، فيقال: بضعة عشر رجلا، وبضع عشرة جارية، قال ابن سيده: ولم نسمع بضعة عشر ولا بضع عشرة، ولا يمتنع ذلك.
وقيل: البضع من الثلاث إلى التسع، وقيل: من أربع إلى تسع، وفي التنزيل فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، قال الفراء: البضع ما بين الثلاثة إلى ما دون العشرة، وقال شمر:
البضع لا يكون أقل من ثلاثة ولا أكثر من عشرة، وقال أبو زيد: أقمت عنده بضع سنين، وقال بعضهم: بضع سنين، وقال أبو عبيدة: البضع ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، يريد ما بين الواحد إلى أربعة.
ويقال: البضع سبعة، وإذا جاوز لفظ العشر ذهب البضع، لا تقل: بضع وعشرون.
وقال أبو زيد: يقال له: بضع وعشرون رجلا وله بضع وعشرون امرأة.
وقال ابن بري: وحكى عن الفراء في قوله- تعالى-: بِضْعِ سِنِينَ أن البضع لا يذكر إلا مع العشر والعشرين إلى التسعين، ولا يقال فيما بعد ذلك، يعني أنه يقال مائة ونيف. (لسان العرب) : 8/ 14- 15.
وقال محمد بن إسماعيل اللغويّ النحويّ: البضع: ما بين العقدين من واحد إلى عشرة، ومن أحد عشر إلى عشرين، ومع المذكر بهاء، ومع المؤنث بغير هاء: بضعة وعشرون رجلا، وبضع وعشرون امرأة. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) :
2/ 250.

(14/167)


وقد روى أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر، وروى أنه كان يوم الحديبيّة، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان، قاله عكرمة وقتادة.
قال ابن عطية: في كلا اليومين كان نصر من اللَّه- تعالى- للمؤمنين، وقد قيل: إن سبب فرح المؤمنين بغلبة الروم وهمهم أن يغلبوا، لأن الروم أهل الكتاب كالمسلمين، فهم أقرب من أهل الأوثان، وقيل: فرحوا لإنجاز اللَّه وعده، إذ فيه دليل على النبوة، ولأنه- تعالى- أخبر بما يكون في بضع سنين، فكان كذلك، وقيل، لأن الفطرة جبلت على محبة أن يغلب العدو الأصغر، لأنه أيسر مئونة، بخلاف العدو الأكبر إذا كان الغلب له فإن الخوف يكثر منه.
وقيل: فرحوا بنصر الرسول على المشركين يوم بدر، قال القرطبي:
ويحتمل أن يكون سرورهم بالجموع من ذلك فسروا بظهورهم على عدوهم، وبظهور الروم، وبإنجاز وعد اللَّه- تعالى-.
خرّج أبو عيسى الترمذي من حديث نصر بن عليّ الجهضميّ قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن سليمان الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت الم* غُلِبَتِ الرُّومُ إلى قوله: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ اللَّه قال: ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس [ (1) ] .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، هكذا قرأ نصر بن علي: غُلِبَتِ الرُّومُ [ (2) ] .
وخرّج من حديث معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في قوله الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى
__________
[ () ] وقال أبو القاسم الراغب الأصفهاني: والبضع بالكسر المنقطع من العشرة، ويقال: ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة، وقيل: بل هو فوق الخمس ودون العشرة، قال- تعالى-:
بِضْعِ سِنِينَ. (المفردات في غريب القرآن) : 50.
[ (1) ] سنن الترمذي: 5/ 320، كتاب تفسير القرآن، باب (31) ومن سورة الروم، حديث رقم (3192) .
[ (2) ] راجع التعليق السابق.

(14/168)


الأرض قال: غلبت وغلبت، كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل كتاب فذكروه لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فذكره أبو بكر لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أما إنهم سيغلبون، فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ألا جعلته إلى دون؟ قال: أراه العشر،
قال أبو سعيد:
والبضع ما دون العشر، قال: ثم ظهرت الروم بعد. قال: فذاك قوله- تعالى-: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ إلى قوله: يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ، قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر [ (1) ] .
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة.
وخرّجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين [ (2) ] .
وخرّج الترمذي من حديث محمد بن خالد بن عثمة قال: حدثني عبد اللَّه ابن عبد الرحمن الجمحيّ، قال: حدثني ابن شهاب الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لأبي بكر في مناحبة الم* غُلِبَتِ الرُّومُ: ألا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع [ (3) ] .
وخرّجه بقي من حديث معن بن عيسى قال: حدثنا عبيد اللَّه بن عبيد الرحمن الجمحيّ، عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ ناحب أبو بكر قريشا، ثم ذكر ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا أبا بكر هلا احتطت فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3193) .
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 444، كتاب التفسير، باب (30) تفسير سورة الروم، حديث رقم (3539) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 321، كتاب تفسير القرآن، باب (31) ومن سورة الروم حديث رقم (3191) . والمناحبة: المراهنة، وقوله: «احتطت» من الاحتياط.
[ (4) ] راجع التعليق السابق.

(14/169)


وخرّج الترمذي من حديث ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة بن الزبير، عن نيار بن مكرم الأسلميّ قال: لما نزلت: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم، لأنهم وإياهم أهل كتاب، وذلك قول اللَّه- تعالى-: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان يبعث، فلما أنزل اللَّه هذه الآية خرج أبو بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يصيح في نواحي مكة الم* غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ.
قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر: كم تجعل؟ البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسمّ بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه، قال: فسموا بينهم ست سنين قال:
فمضت الست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين لأن اللَّه- تعالى- قال: في بضع سنين، قال: وأسلم عند ذلك ناس كثيرة [ (1) ] .
قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح حسن غريب من حديث نيار بن مكرّم لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد [ولا نعرف النيار بن مكرم، عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم غير هذا الحديث] [ (2) ] .
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن أبي الضحاك، عن مسروق، عن ابن مسعود قال: مضت آية الروم، وقد مضى فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [ (3) ] واللزام القتل يوم بدر، وقد مضت البطشة الكبرى يوم بدر.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3194) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (3) ] آخر آية من سورة الفرقان.

(14/170)


وقال أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق وقال: قال عبد اللَّه: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والفرس والروم.
وكان من خبر هذه الحادثة أن كسرى أبرويز بن هرمز ملك فارس تزوج مريم ابنة موريق قيصر ملك الروم فإنه من القسطنطينية دار ملك الروم في تحمل عظيم ومعها عسكر عدته سبعون ألفا نجدة له على أعدائه، فسار بهم إلى أذربيجان، وحارب عدوه بهرام جوهين وهزمه، وعاد إلى المدائن دار ملك الأكاسرة، فنوطه ملكه وأعاد عساكر الروم إلى بلادهم بالحباء والكرامة فلما كان بعد أربع عشرة سنة من ملكه ثار على موريق قائد له يقال له:
فوقاص وقتله، وملك بعده على الروم ودعي قيصر وتتبع أولاد موريق فقتلهم إلا واحدا منهم فرّ إلى كسرى أبرويز وأعلمه بما كان من قتل أبيه وإخوته، فغضب لذلك وندب فرحان يقال له شهربراز لمحاربة الروم على عساكر كثيرة، وأخرج معه قائد من قواده، فمضى أحدهما في طائفة من العسكر إلى الشام فخرب معابد الروم وقتل رجالهم وأسروهم وسبي ونهب الأموال وتهبط القدس، وبعث بخشبة الصليب إلى كسرى، ومضى القائد الآخر إلى مصر، وملك الإسكندرية وقد صالحه أهل مصر وسار فرحان شهربراز فوطئ الشلم ولقي جيوش الروم بأذرعات وبصري فهزمها وظفر، وسبى، وغنم، ومضى إلى بلاد الروم فقتل وسبي وخرب المدائن، وقطع الأشجار حتى نزل على خليج القسطنطينية، وبعث إليهم أهل صلوقية بعدة سفن تحمل المير، وعليها هرقل بن هرقل التونيس أحد البطارقة فسرّوا بقدومه، وجاءه الأعيان [فرضوا] منه عقلا رصينا، وحزما وافرا، وسياسة جيدة ورأيا صائبا، فكلمهم بما نزل بهم من الفتن والشدائد وطعن على الملك فوقاص قيصر وما زال بهم حتى رضوا به ملكا عليهم وخلفوا له فثار بهم على فوقاص وقبله واستبد بملك الروم، وكتب إلى كسرى أن يلتزم في كل سنة بحمل ألف قنطار من ذهب، وألف قنطار من فضة، وألف جارية بكر، وألف فارس، وألف ثوب أطلس، وأن يعجل قطيعة سنة، فالتزم ذلك وسأل أن يفرج عن حصاره وأن يمهله ستة أشهر حتى يخرج إلى الأعمال، ويحيى ذلك منها كل ذلك خديعة منه، فمشى على كسرى ذلك وأمرنا بالإفراج عنه فتنحت العساكر إلى بعض المروج وخرج هرقل من القسطنطينية بعد ما أقام عليها أخاه قسطنطين، وانتخب معه خمسة آلاف فارس، فأوغل في بلاد أرمينية، وقصد الجزيرة ونزل على نصيبين، وقائل أهلها حتى ملكها، وقتل

(14/171)


الفرس أفدح قتل، وأسر، وسبى، وخرب المدائن، فبعث كسرى بعسكر إلى الموصل، وكتب يستدعي فرخان شهربراز لمحاربة هرقل فاتفق في أثناء ذلك ينكر كسرى أبرويز على فرخان شهربراز وعزمه على قتله، فلما بلغه ذلك انحرف عنه إلى هرقل، وكتب إليه بدخوله في حملته وسار إليه حتى لقيه إلى نصيبين، فقوى به، ومضى يريد كسرى وأوقع بجنوده حتى قاربا المدائن فأخذ كسرى أبرويز في الحيلة على هرقل ومكر به حتى أوقع بينه وبين فرخان شهربراز، ورجع إلى بلاده.
وفي هذه الحادثة أنزل اللَّه- تعالى-: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ يعني أذرعات وبصرى، فإنّها أدنى أرض الروم إلى الفرس، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، فساء النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه ظفر الفرس بالروم لأنهم أهل كتاب وفرح المشركون بذلك لأن المجوس إخوانهم في الشرك باللَّه، فلما نزلت هذه الآية راهن أبو بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أبيّ بن خلف على مائة بعير بأن الظفر يكون للروم بعد تسع سنين، فغلب أبو بكر أبيّ بن خلف، وجاء الخبر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بظفر الروم بفارس يوم الحديبيّة.

(14/172)


وأما إعلامه صلى اللَّه عليه وسلم بالفتن [ (1) ] قبل كونها
فخرّج البخاريّ من حديث سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة [ (2) ]- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لقد خطبنا النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله إن
__________
[ (1) ] الفتن: جمع فتنة، قال الراغب: أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته، ويستعمل في إدخال الإنسان النار، ويطلق على العذاب كقوله- تعالى-: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ وعلى ما يحصل عند العذاب كقوله- تعالى- أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وعلى الاختبار كقوله- تعالى-: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً، وفيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، قال- تعالى-: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، ومنه قوله- تعالى- وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفك عن العمل بما أوحى إليك.
وقال أيضا: الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من اللَّه ومن العبد، كالبلية والمصيبة، والقتل والعذاب، والمعصية، وغيرها من المكروهات: فإن كانت من اللَّه- تعالى- فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر اللَّه فهي مذمومة، فقد ذم اللَّه الإنسان بإيقاع الفتنة كقوله- تعالى- وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وقوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وقوله- تعالى-: ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ وقوله- تعالى-:
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وكقوله- تعالى-: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ.
وقال غيره: أصل الفتنة: الاخبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آئل إليه، كالكفر، والإثم، والتحريق، والفضيحة، والفجور، وغير ذلك. (مفردات القرآن) : 371- 372 مختصرا.
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 604، كتاب القدر، باب (4) وكان أمر اللَّه قدرا مقدرا حديث رقم (6604) .

(14/173)


كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه ذكره في أول كتاب القدر [ (1) ] .
وخرّجه مسلم [ (2) ] وأبو داود [ (3) ] من حديث جرير، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة قال: قام فينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّث به، حفظه من حفظه ونسبه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وأنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه.
وخرّجه من طريق سفيان، عن الأعمش بهذا الإسناد إلى قوله: ونسيه من نسيه، ولم يذكر ما بعده [ (4) ] .
وخرّج مسلم من حديث حجاج، عن عاصم، عن عزرة بن ثابت قال:
حدثنا علباء بن أحمر، قال: حدثني [يعني عمرو بن أخطب] [ (5) ] قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا [ (6) ] .
ومن حديث شعبة عن عدي بن ثابت، عن عبد اللَّه بن يزيد، عن حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: أخبرني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بما هو كائن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 604، كتاب القدر، باب (4) وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، حديث رقم (6604) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النوويّ) : 18/ 232، كتاب الفتن، باب (6) إخبار النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، حديث رقم (23) .
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 4/ 441، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (1) ذكر الفتن ودلائلها، حديث رقم (4240) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 232، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (6) إخبار النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، الحديث الّذي يلي رقم (23) بدون رقم.
[ (5) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (6) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (24) (المرجع السابق) : حديث رقم (25) .

(14/174)


إلى أن تقوم الساعة فما منه شيء إلا قد سألته إلا إني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة [ (1) ] .
وخرّج أبو داود من حديث ابن فروخ [ (2) ] ، قال: حدثنا أسامة بن زيد قال:
أخبرني ابن لقبيصة بن ذؤيب، عن أبيه قال: قال حذيفة بن اليمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- واللَّه ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا؟ واللَّه ما ترك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته [ (3) ] .
وخرّج الترمذي [ (4) ] من طريق حماد بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، وفي الحديث قصة ذكرها [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (24) .
[ (2) ] اسمه عبد اللَّه بن فروخ، وكنيته أبو عمر، خراسانيّ من أهل مرو، قدم مصر، وخرج إلى المغرب، ومات بها، قال المنذري: وقد تكلم فيه غير واحد.
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 4/ 443، كتاب الفتن والملاحم، باب (1) ذكر الفتن ودلائلها، حديث رقم (4243) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 4/ 419- 420، كتاب الفتن، باب (26) ما جاء ما أخبر النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، حديث رقم (2191) .
[ (5) ] إلى هنا آخر الحديث (بالأصل) ،
وتمامه: «وكان فيما قال: إن الدنيا حلوة خضرة، وإن اللَّه مستخلفكم فيها فانظر كيف تعلمون، ألا فاتقوا الدنيا [اجعلوا بينكم وبينها وقاية بترك الحرام وترك الإكثار منها والزهد فيها] واتقوا النساء، وكان فيما قال: ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، قال: فبكى أبو سعيد فقال: قد واللَّه رأينا أشياء فهبنا، فكان فيما قال: ألا إنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عامة يركز لواؤه عن استه، فكان فيما حفظنا يومئذ: ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى، فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا، ومنهم يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا، ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء، فتلك.

(14/175)


وقال: وفي الباب عن حذيفة وأبي مريم وأبي زيد بن أخطب والمغيرة بن شعبة [وذكروا أن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حدثهم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة] [ (1) ] وهذا حديث حسن [ (2) ] .
__________
[ () ] بتلك، ألا وإن منهم سريع الغضب بطيء الفيء، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء، ألا وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء، ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب، ومنهم شيء القضاء حسن الطلب، ومنهم حسن القضاء شيء الطلب، فتلك بتلك، ألا وإن منهم الشيء القضاء الشيء الطلب، ألا وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطلب، ألا وشرهم شيء القضاء شيء الطلب، ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فمن أحسّ بشيء من ذلك فليلصق بالأرض.
قال: وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (2) ] قال في هامش (جامع الأصول) : في سنده عليّ بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ومع ذلك فقد قال الترمذيّ: هذا حديث حسن، قال: ولبعض فقرائه شواهد.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1325، كتاب الفتن، باب (19) فتنة النساء، حديث رقم (4000) مختصرا.

(14/176)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بإتمام اللَّه تعالى أمره وإظهار دينه
فقال اللَّه- تعالى-: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ (1) ] وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ (2) ] .
وخرّج البخاري من حديث إسماعيل، عن قيس، عن خبّاب بن الأرتّ قال: شكونا إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو اللَّه لنا؟ قال: كان الرجل في من قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق بأثنين وما يصده عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ما يصده ذلك عن دينه، واللَّه ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللَّه والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. ذكره في باب علامات النبوة في الإسلام [ (3) ] .
وخرجه في كتاب مناقب الأنصار [ (4) ] من طريق بيان وإسماعيل قالا: سمعنا قيسا يقول: سمعت خبّابا يقول: أتيت النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة- وقد لقينا من المشركين شدة- فقلت: يا رسول اللَّه ألا تدعو اللَّه لنا؟
فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه. وليتمنّ اللَّه هذا الأمر حتى يسير
__________
[ (1) ] التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9.
[ (2) ] التوبة: 33، الصف: 9.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 768، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3612) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 7/ 209، كتاب مناقب الأنصار، باب (29) ما لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه من المشركين بمكة، حديث رقم (3852) ، وفي (الأصل) : «وخرجه في أول المبعث) .

(14/177)


الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا اللَّه. زاد بيان والذئب على غنمه. وذكره في كتاب الإكراه [ (1) ] .
قال كاتبه: قد صدق اللَّه ورسوله فأعلى اللَّه- تعالى- دين نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم على أهل الأديان كلهم فغلبت ملته ملة اليهود، وأخرجهم أصحابه من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام، ومصر، إلى ناحية الروم والمغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم بالعراق، وبلاد فارس، وغلبوا عبّاد الأصنام على كثير من بلادهم، فيما يلي الترك، والهند، وكذلك سائر الأديان، وأطلع اللَّه- تعالى- مع ذلك نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم على شرائع الدين، حتى لا يخفي عليه شيء منه.
قال الشافعيّ- رحمه اللَّه-: قد أظهر اللَّه جل ثناؤه دينه الّذي بعث [به] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأديان، بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وأظهر بيان جماع الشرك دينان: دين أهل الكتاب، ودين الأميين. فقاتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأميين حتى دنوا بالإسلام طوعا وكرها، وقتل من أهل الكتاب، وسبى، حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهذا ظهور الدين كله.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 12/ 390، كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، حديث رقم (6943) .
0

(14/178)


وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بما يفتح اللَّه تعالى لأمّته من الفتوح بعده
قوله- تعالى-: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [ (1) ] .
فخرج مسلم من حديث شعبة، عن أبي مسلمة قال: سمعت أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن الدنيا حلوة خضرة، وإن اللَّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة من بني إسرائيل كانت في النساء.
ذكره في آخر كتاب الذكر والدعاء [ (2) ] .
وخرجه النسائيّ في آخر كتاب العشرة وقال: لننظر كيف تعملون [ (3) ] .
وخرّج البيهقيّ [ (4) ] من طريق زيد بن الحباب، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة الخراسانىّ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن ابن كعب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: بشر هذه الأمة بالسناء، والرفعة، والنصر، وبالتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب.
__________
[ (1) ] النور: 55.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 60، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب (26) باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان فتنة النساء، حديث رقم (99) .
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 317، باب قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور: 55] .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 318.

(14/179)


وخرجه من طريق إسحاق بن سليمان الرازيّ، عن المغيرة بن مسلم السراج، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: بشر هذه الأمة ... الحديث [ (1) ] .
ومن طريق أبي سعيد بن الأعرابي، عن محمد بن إسماعيل [الصائغ] [ (2) ] عن عفان، عن عبد العزيز بن مسلم، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بشر هذه الأمة بالسناء، والنصر، والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب.
قال الصائغ: رواه رجلان: عبد العزيز بن مسلم والمغيرة بن مسلم [ (3) ] .
وأخرجه الفرياني من حديث سفيان، عن المغيرة بمكة، وقال سيف بن عمر عن عبيدة، عن يزيد الضخم قال: قال قائل لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يعني في قتال أهل الردة: وما أراك تتحايز لما قد بلغ من الناس ولما يتوقع في إغارة العدو؟ فقال: ما دخلني إشفاق ولا دخلني الدين، ومنه إلى أحد بعد ليلة القار فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين رأى إشفاقي عليه وعلى الدين قال لي: هون عليك، اللَّه عز وجل قد [وعدني] لهذا الأمر بالنصر والتمام.
وخرّج الحاكم من حديث سفيان، عن المغيرة، عن الربيع بن أنس كما تقدم وقال: حديث صحيح [الإسناد ولم يخرجاه] [ (4) ] .
وخرّج البخاري في غزوة بدر من حديث معمر ويونس عن الزهري وعروة [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 318.
[ (2) ] من (الأصل) فقط.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 318.
[ (4) ] (المستدرك) : 4/ 354، كتاب الرقاق، حديث رقم (7895) وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : فيه من الضعفاء محمد بن الأشرس السلمي وغيره.
[ (5) ] (فتح الباري) : 7/ 405- 406، كتاب المغازي، باب (12) بدون ترجمة، حديث رقم (4015) .

(14/180)


وخرّج مسلم [ (1) ] والنسائي [ (2) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أنه أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره أن عمرو بن عوف- وهو حليف لبني عامر بن لؤيّ وكان شهد بدرا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو صالح أهل البحرين وأمّر عليهم العلاء ابن الحضرميّ فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلما صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول اللَّه، قال: فأبشروا وأمّلوا ما يسركم، فو اللَّه ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم. لفظهم فيه متقارب. وقال النسائيّ فيه: فو اللَّه ما من الفقر أخشى عليكم، وقال فتنافسوا فيها كما تنافسوا، وخرّجه البخاري في أول كتاب الجزية [ (3) ] وفي كتاب الرقاق [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 307، كتاب الزهد والرقاق، حديث رقم (6) .
[ (2) ] لعله في (الكبرى) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 316- 317، كتاب الجزية والموادعة، باب (1) الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، حديث رقم (3158) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 1/ 292- 293، كتاب الرقاق، باب (7) ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، حديث رقم (6425) .
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 552- 553، كتاب صفة القيامة والرقاق والورع، باب (28) بدون ترجمة، حديث رقم (2462) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1324- 1325، كتاب الفتن، باب (18) فتنة المال، حديث رقم (3997) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 428، حديث رقم (18436) ، من حديث المسور بن مخرمة، وأخرجه البيهقيّ في (دلائل النبوة) : 6/ 319.

(14/181)


وخرّج البخاريّ في باب علامات النبوة في الإسلام [ (1) ] من حديث ابن مهدي عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل لكم من أنماط؟ قلت: وأنّي يكون لنا الأنماط؟
قال: أما وإنها ستكون لكم الأنماط، فأنا أقول لها- يعني امرأته- أخري عنا أنها أنماطك، فتقول: ألم يقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بأنها ستكون لكم الأنماط فأدعها.
وخرجه في كتاب النكاح [ (2) ] من حديث قتيبة، عن سفيان بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هل اتخذتم الأنماط؟ قلت: يا رسول اللَّه! وأنّي لنا الأنماط؟ قال: إنها ستكون.
وخرّجه مسلم [ (3) ] وأبو داود [ (4) ] من حديث سفيان، عن ابن المنكدر، عن جابر قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما تزوجت: اتخذت أنماط؟ قلت: وأني لنا أنماط؟ قال: أما إنها ستكون.
وقال أبو داود: أما إنها ستكون لكم أنماط ولم يقل: لما تزوجت.
وخرّج البخاريّ من طريق عبد الرزاق قال: حدثنا ابن جريح، قال:
أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن الزبير، عن سفيان بن
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 780، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3631) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 9/ 280، كتاب النكاح، باب (62) الأنماط ونحوها من للنساء، حديث رقم (5161) ، والنمط بساط له خمل رقيق.
[ (3) ] والزينة، باب (7) جواز اتخاذ الأنماط، حديث رقم (39) ، (40) ، وفيها جواز اتخاذ الأنماط إذا لم تكن من الحرير، وفيه معجزة ظاهرة بإخباره بها، وكانت كما أخبر. (شرح النوويّ) .
[ (4) ] (سنن أبي داود) : 4/ 380- 381، كتاب اللباس، باب (45) في الفرش، حديث رقم (4145) .
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 5/ 92- 93، كتاب الأدب، باب (26) ما جاء في الرخصة في اتخاذ الأنماط، حديث رقم (2774) .
وأخرجه النسائيّ في (السنن) : 6/ 446، كتاب النكاح، باب (83) الأنماط، حديث رقم (3286) .
وأخرجه البيهقيّ في (دلائل النبوة) : 6/ 319.

(14/182)


أبي زهير [النميري] قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون [ (1) ] فيتحملون [ (2) ] بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم تفتح الشام فيأتي قوم فيبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم تفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وقال البخاري: إنه قال: سمعت رسول اللَّه. وقال: وتفتح الشام، قال: وتفتح العراق، لم يذكرهم [ (3) ] .
وخرّجه النسائيّ من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن الزبير، عن سفيان بن أبي زهير قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول ... الحديث بمثله أو نحوه.
ولمسلم من حديث وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن الزبير، عن سفيان بن أبي زهير قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يفتح الشام
__________
[ (1) ] يبسون: يسوقون دوابهم سوقا لينا.
[ (2) ] يتحملون: أي من المدينة راحلين إلى اليمن.
[ (3) ] (فتح الباري) : 4/ 111، كتاب فضائل المدينة، باب (5) من رغب عن المدينة، حديث رقم (1874) .
وأخرجه مسلم في كتاب الحج باب (90) الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار، حديث رقم (497) .
وأخرجه البيهقيّ في (دلائل النبوة) : 6/ 320.
قوله: «تفتح اليمن» قال ابن عبد البرّ وغيره: افتتحت اليمن في أيام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي أيام أبي بكر، وافتتحت الشام بعدها، والعراق بعدها.
وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد وقع على وفق ما أخبر به النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى ترتيبه، ووقع تفرق الناس في البلاد، لما فيها من السعة والرخاء، ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرا لهم.
وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة، وهو أمر مجمع عليه، وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض، ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلا على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة. (فتح الباري) .

(14/183)


فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسّون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح اليمن فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسّون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعملون، ثم يفتح العراق فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون [ (1) ] .
وخرّج البخاري من حديث ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: اللَّهمّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمّ بارك لنا في يمننا قالوا: يا رسول اللَّه وفي نجدنا؟ قال: اللَّهمّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمّ بارك لنا في يمننا قالوا يا رسول اللَّه وفي نجدنا قال: فأظنه قال في الثالثة: هنالك بالزلازل والفتن وبها يطلق قرن الشيطان [ (2) ] .
قال ابن عبد البر: دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم للشام يعني أهلها؟ لأهل الشام سينتقل إليها الإسلام وكذلك وقت لأهل نجد قرنا علما منه بأن العراق ستكون كذلك وهذا من أعلام نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وخرّج البخاريّ من حديث الوليد بن مسلم، عن عبد اللَّه بن العلاء بن زبير قال: سمعت بسر بن عبيد اللَّه أنه سمع أبا إدريس الخولانيّ قال: سمعت عوف ابن مالك قال: أتيت النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال: أعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطي الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا تبقى بيت من بيوت العرب إلا دخلته، ثم هدنة بينكم وبين بني الأصفر فيعذرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا. ذكره في آخر الجزية [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 167، كتاب الحج، باب (90) الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار، حديث رقم (496) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 57، كتاب الفتن باب (16) قول النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: الفتنة من قبل المشرق حديث رقم (7094) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 340- 341، كتاب الجزية والموادعة، باب (15) ما يحذر من الغدر وقوله- تعالى- وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، حديث رقم (3176) .

(14/184)


الموتان بضم الميم وسكون الواو: هو الموت الكثير السريع وقوعه وكذلك شبهه كقعاص الغنم وهو يأخذ الغنم لا يلبسها أن تموت والعقص أن يضرب الإنسان فيموت مكانه سريعا فشبه الموتان به.
وخرّج مسلم من طريق حرملة بن عمران التجيبي، عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: سمعت أبا ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما، فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فاخرج منها قال: فمر بربيعة وعبد الرحمن بني شرحبيل بن حسنة يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها [ (1) ]
-
ومن حديث حرملة، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن أبي بصرة، عن أبي ذر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فإذ فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما أو قال: ذمة وصهرا، فإذا رأيت رجلين يختصمان في موضع لبنة فاخرج منها قال: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فاخرج منها [ (2) ]
/ وروى ابن يونس من حديث ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحير بن داخل المعافري، عن عمرو بن العاص حدثني عمر أمير المؤمنين- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إذا فتح اللَّه عليكم بعدي مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا فذلك الجند خير أجناد الأرض، قال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولم يا رسول اللَّه؟ قال: لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة [ (3) ] .
قال قاسم بن أصبغ: حدثنا محمد بن وضاح، عن محمد بن مصفى حدثنا بقية، عن ابن أبي مريم قال: حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 330، كتاب فضائل الصحابة باب (56) وصية النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بأهل مصر، حديث رقم (226) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (227) .
[ (3) ] (كنز العمال) : 14/ 168، حديث رقم (38262) باختلاف يسير في اللفظ، وعزاه إلى ابن عبد الحكم في (فتوح مصر) وابن عساكر، وفيه لهيعة عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحر بن داخر المعافري، ولم أر للأسود ترجمة، إلا أن ابن حبان ذكر في (الثقات) :
أنه يروي عن بحر بن داخر، ووثق بحرا.

(14/185)


أبيه، عن أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: إنكم ستفتحون أرضا يقال لها الشام فإذا افتتحتموها فخير ثم منازلها. فعليكم بأرض دمشق فإنّها غير مدائن الشام، وهي معقل المسلمين من الملاحم، ونشاطهم بأرض منها يقال لها الغوطة [ (1) ] .
وخرجه الإمام [ (2) ] أحمد من حديث أبي اليمان، حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: حدثنا رجل من أصحاب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ستفتح عليكم الشام فإذا خيرتم المنازل فيها فعليكم بمدينة يقال لها دمشق، فإنّها معقل المسلمين في الملاحم، وفسطاطها منها بأرض يقال لها الغوطة. [وقد تقدم حديث علي بن حاتم:
ولئن طالت بك حياة ليفتحن كنوز كسرى] [ (3) ] .
وخرّج مسلم [ (4) ] من حديث المهاجر بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فكتب إليّ: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم جمعة عشية رجم الأسلميّ، فقال: لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش وسمعته يقول: عصيبة من المسلمين يفتحون البيت الأبيض بيت كسرى [ (5) ] ، أو آل كسرى وسمعته يقول: إن بين يدي الساعة كذا بين فاحذروهم، وسمعته يقول: إذا أعطى اللَّه أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته، وسمعته يقول: أنا فرطكم [ (6) ] على الحوض.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (38246) ، باختلاف يسير في اللفظ، وعزاه إلى ابن النجار.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 163، حديث رقم (17016) ، حديث رجل من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 445، كتاب الإمارة، باب (1) الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش، حديث رقم (10) .
[ (5) ] هذا من المعجزات الظاهرة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد فتحوه بحمد اللَّه في زمن عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (6) ] الفرط بفتح الراء، ومعناه السابق إليه والمنتظر لسقيكم منه، والفرط والفارط هو الّذي يتقدم القوم إلى الماء ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه.

(14/186)


وخرّج البخاريّ في باب علامات النبوة في الإسلام [ (1) ] من حديث الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: وأخبرني ابن المسيب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والّذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّه.
وخرجه في كتاب الأيمان والنذور، في باب كيف كانت يمين النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] ، من حديث شعيبة، عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والّذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّه عز وجل.
وخرّج البخاريّ في كتاب الجهاد، في باب الحرب خدعة [ (3) ] ، من طريق عبد الرزاق حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده.
وقيصر ليهلكن، ثم لا يكون قيصر بعده ولتقسمنّ كنوزهما في سبيل اللَّه، وسمي الحرب خدعة.
وخرجه مسلم في كتاب الفتن [ (4) ] من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر أحاديث منها، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الحديث بمثله
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 776، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام حديث رقم (3618) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 11/ 641، كتاب الأيمان والنذور، باب (3) كيف كانت يمين النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (6630) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 194، كتاب الجهاد والسير، باب (157) الحرب خدعة، حديث رقم (3027) ، (3028) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 257- 258، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (75) ، (76) ، (77) .

(14/187)


ولم يذكر قوله: وسمى الحرب خدعة، وقال: ولتنفقن، وفي بعض النسخ وتقسمن، كما قال البخاري.
وخرّج البخاريّ في كتاب فرض الخمس [ (1) ] من حديث إسحاق، سمع جريرا، عن عبد الملك، عن جابر بن سمرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، فذكر بمثل حديث أبي هريرة سواء.
وخرّجه في باب علامات النبوة في الإسلام [ (2) ] من حديث سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة يرفعه، قال: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده- وذكر قال: لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّه.
قال قاسم بن ثابت: معنى هذا الحديث- واللَّه تعالى أعلم- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أجابهم على نحو مسألتهم، وذلك أن أهل مكة كانوا تجارا يرحلون إلى الشام والعراق ويضطربون في المعاش.
قال ابن دريد: سمى العراق بعراق السفرة وهو الخرز المحيط بها، فقيل عراق لأنه استكف أرض العرب، وقيل سمي عراق بتواشح الشجر كناية، أراد عرقا وجمع عراقا، وقال الأصمعي: كانت العراق تسمى إران فعربوها فقالوا: العراق، وقال الخليل: شاطئ البحر، لأنه على شاطئ دجلة والفرات، حتى يتصل بالبحر، فلما افتتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة شكوا إليه كساد تجارتهم، وقلة مكسبهم، وانقطاعهم عن البلدان التي منها يميرون، وبها يتجرون،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده،
يريد لا يكون بعده بالعراق كسرى، ولا بالشام قيصر، بظهور الملة [المحمدية] [ (3) ] ويقال في نحو هذا الحديث: أنزل اللَّه- تبارك وتعالى-: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 270، كتاب فرض الخمس، باب (8) قول النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحلت لي الغنائم، وقال اللَّه عزّ وجلّ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها [الفتح: 20] ، وهي للعامة حتى يبينه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3121) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3619) ، وفي (الأصل) نقل المقريزي- رحمه اللَّه- الحديث رقم (3618) بسند الحديث رقم (3619) ، والصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان.

(14/188)


نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ (1) ] وقال الأصمعي: كسرى بكسر الكاف.
وخرّج مسلم [ (2) ] من حديث أبي عوانة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لتفتحن عصابة من المسلمين أو من المؤمنين [كنز آل كسرى] [ (3) ] الّذي في الأبيض. قال قتيبة: من المسلمين ولم يشك.
وخرجه من حديث شعبة، عن سماك بمعنى حديث أبي عوانة [ (4) ] ذكرهما [ (5) ] في الفتن.
قال البيهقي [ (6) ] : وإنما أراد هلاك قيصر الّذي كان ملك الشام وتنحية ملك القياصرة عنها، فصدق اللَّه- تعالى- قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ونحن عن الشام ملك القياصرة، ونحى عن الدنيا ملك الأكاسرة، وبقي للقياصرة ملك الروم، لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثبت اللَّه ملكه حين أكرم كتاب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أن يقضى اللَّه- تعالى- فتح القسطنطينية، ولم يبق للأكاسرة ملك لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: مزق ملكه حين مزق كتابه [ (7) ] .
قال: وفي
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّه
إشارة إلى صحة خلافة أبي بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- لأن كنوزهما نقلت إلى المدينة، بعضها في زمان أبي بكر، وأكثرها في زمان عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقد أنفقاها في [مصالح] المسلمين، فعلمنا أن من
__________
[ (1) ] التوبة:
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 358، كتاب الفتن وأشراط الساعة باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت منن البلاء، حديث رقم (78) .
[ (3) ] في (الأصل) : «كنزا لكسرى» ، وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق بدون رقم.
[ (5) ] في (الأصل) : «ذكره» .
[ (6) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 393، باب ما جاء في الجمع بين قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا هلك قيصر فلا قيصر بعد، وما روى عنه من قوله في قيصر حين أكرم كتاب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثبت ملكه، وما ظهر من صدقه فيهما وفيما أخبر عنه من هلاك كسرى، وهو الصادق المصدوق صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (7) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 325.

(14/189)


أنفقها كان له إنفاقها، وكان ولي الأمر في ذلك مصيبا فيما فعل من ذلك. وباللَّه التوفيق.
وذكر البيهقيّ من طريق حماد حدثنا يونس، عن الحسن أن عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أتى بفروة كسرى فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم قال: فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يديه فبلغا منكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال:
الحمد للَّه! سواري كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج! وذكر الحديث [ (1) ] .
قال الشافعيّ- رحمة اللَّه عليه- وإنما ألبسهما سراقة لأن
النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لسراقة ونظر إلى ذراعيه: كأني بك قد لبست سواري كسرى،
قال الشافعيّ:
وقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حين أعطاه سواري كسرى:
البسهما، ففعل، ثم قال: قل: اللَّه أكبر! قال: اللَّه أكبر، قال: الحمد للَّه الّذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا [ (2) ] من بني مدلج [ (3) ] .
وخرّج البيهقيّ من طريق أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي في (المعجم) لشيوخه قال: حدثنا أبو أحمد هارون بن يوسف بن هارون بن زياد القطيعي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي خالد، عن قيس، عن عدي بن حاتم، قال: قال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: مثلت إليّ الحيرة كأنياب الكلاب وأنكم ستفتحونها فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه [هب] [ (4) ] لي ابنة بقيلة، قال: هي لك، فأعطوها إياها، فجاء أبوها فقال: أتبيعها؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: احكم ما شئت، قال: ألف درهم قال: قد أخذتها، قالوا له: لو قلت ثلاثين ألفا لأخذها، قال: وهل عدد أكثر من ألف؟ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 325.
[ (2) ] في (الأصل) : «أعرابي» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) ، وهو حق اللغة.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 236.
[ (4) ] من (الأصل) فقط.
[ (5) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 326.

(14/190)


وخرّجه ابن حبان في (صحيحه) من حديث محمد بن يحيى بن أبي عمر هكذا وقع في هذه الرواية أن الشيماء اشتراها أبوها والمشهور أن الّذي اشتراها عبد المسيح أخوها [ (1) ] .
وخرّج الطبراني من حديث أبي السكين زكريا بن يحيى قال: حدثني عمها زجر بن حصن، عن جدي حميد بن منهب قال: قال خزيم بن أوس هذه لأم الطائي بن حارثة بن لام الطاي سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: هذه الحيرة البيضاء قد رفعت لي وهذه الشيماء بنت بقيلة الأزدية على بغلة سوداء بخمار أسود
كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فعلقت بها وقلت: هذه وهبها لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فدعاني خالد بن الوليد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عليها فأتيته بها فسلمها إليّ ونزل إلى أخيها عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حبان بن بقيلة فقال لي: يعنيها، فقلت لا أنقصها واللَّه من عشر مائة شيئا، فدفع إليّ ألف درهم فقيل لي: لو قلت مائة ألف لدفعتها إليك، فقلت: ما كنت أحسب أن مالها أكثر من عشر مائة قال وبلغني في غير هذا: أن الشاهدين كانا محمد بن مسلمة وعبد اللَّه بن عمرو.
وقال كاتبه: وقد أخبرني بشير بن سعد بدل ابن عمر هذا الحديث غريبا أخرجه ابن شاهين في الصحابة من هذا الوجه وأبو السكين من رجال البخاريّ وحميد لا بأس به، وزخر معروف النسب مجهول الحال وخزيم طائي شيبانيّ فأعله.
وخرّج البيهقيّ من طريق سعيد بن عبد العزيز قال: حدثني مكحول، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن عبد اللَّه بن حوالة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إنكم ستجندون أجنادا: جند بالشام، وجند بالعراق وجند باليمن، قال: فقلت: يا رسول اللَّه خر لي، قال: عليك بالشام، فمن أتى فليلحق بيمنه فليسق من غدره، فإن اللَّه قد تكفل لي بالشام وأهله [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 15/ 65، كتاب التاريخ، باب (10) إخباره صلى اللَّه عليه وسلم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، حديث رقم (6674) ، وقال في هامشه: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن يحيى بن أبي عمر، فمن رجال مسلم، سفيان هو ابن عيينة.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 326.

(14/191)


ومن طريق سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول وربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن عبد اللَّه بن حوالة الأزدي قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إنكم ستجندون أجنادا: جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن، فقلت: خر لي يا رسول اللَّه، قال عليك بالشام فمن أبى فليلحق بيمنه، وليسق من غدره، فإن اللَّه قد تكفل لي بالشام وأهله.
فسمعت أبا إدريس يقول: من تكفل اللَّه به، فلا ضيعة عليه [ (1) ] .
ومن طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف، عن يحيى بن حمزة، قال: حدثني أبو علقمة نصر بن علقمة يرد الحديث إلى جبير بن نفير، قال: قال عبد اللَّه بن حوالة: كنا عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فشكونا العرى والفقر وقلة الشيء، قال: أبشروا فو اللَّه لأنا بكثرة الشيء أخوفني عليه من قلته، واللَّه لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح اللَّه أرض فارس، وأرض الروم، وأرض حمير، وحتى تكونوا أجنادا ثلاثة: جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن وحتى يعطى الرجل المائة فيسخطها، قال ابن حوالة:
قلت يا رسول اللَّه! ومن يستطيع الشام وبه الروم ذات القرون؟ قال: واللَّه ليفتحنها عليكم وليستخلفنكم فيها حتى تظل العصابة البيض منكم قمصهم الملحمة، أقفاؤهم قياما على الرويجل الأسود منكم المخلوق، وما أمرهم من شيء فعلوه، وذكر الحديث [ (2) ] .
قال أبو علقمة: فسمعت عبد الرحمن بن جبير يقول فعرف أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نعت هذا الحديث في جزء بن سهيل السلمي وكان على الأعاجم في ذلك الزمان، فكان إذا راحوا إلى مسجد نظروا إليه وإليهم قياما حوله، فعجبوا لنعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيه وفيهم [ (3) ] .
ومن طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية ابن صالح أن حمزة بن حبيب حدثه عن ابن زغب الإيادي، قال: نزل بي عبد اللَّه ابن حوالة صاحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقد بلغنا أنه فرض له المائتين فأبى إلا مائة وقال: قلت له: واللَّه ما منعته قال: قلت له: أحق ما بلغنا أنه فرض لك في مائتين فأبيت إلا مائة، واللَّه ما منعه وهو نازل على أن يقول لا أم لك أو لا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 327.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 327.
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 327- 328.

(14/192)


يكفي ابن حوالة مائة في كل عام؟ ثم
أنشأ يحدثنا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثنا على أقدامنا حول المدينة لنغنم، فقدمنا ولم نغنم شيئا فلما رأى الّذي بناه من الجهد قال: اللَّهمّ لا تكلهم إليّ فأضعف عنهم ولا تكلهم الناس إلى الناس فيهونوا عليهم أو يستأثروا عليهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولكن بأرزاقهم [ (1) ] .
ثم قال: ليفتحن لكم الشام، ثم لتقسمن كنوز فارس والروم، وليكونن لأحدكم من المال كذا وكذا، وحتى إن أحدكم ليعطي مائة دينار فيسخطها، ثم وضع يده على رأسي فقال: يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد أتت الزلازل والبلايا والأمور العظام، الساعة أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك [ (2) ] .
قال البيهقيّ: أراد بالساعة انخرام ذلك القرن واللَّه- تعالى- أعلم. وأراد بكنوز فارس والروم ما كان منهم بالشام حين يفتح الشام يوجد كنوزهم بها، وقد وجد ذلك [ (3) ] .
قال كاتبه: وأراد بنزول الخلافة الأرض المقدسة: ملك بني أمية.
وخرّج مسلم [ (4) ] من حديث يحيى بن آدم حدثنا زهير بن معاوية، عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه.
وذكره البيهقيّ من حديث آدم بهذا السند نحوه إلا أنه قال: منعت العراق ولم يقل: إذا، وقال: ومنعت مصر إردبها ودينارها، وقال: قال يحيى:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 328.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 328.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 328.
[ (4) ] أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب (8) لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، حديث رقم (33) . والقفيز: مكيال معروف لأهل العراق، وهو ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف. والمدّ: مكيال معروف لأهل الشام يسع خمسة عشر مكوكا. والإردب: مكيال معروف بمصر، يسع أربعة وعشرين صاعا.

(14/193)


يريد من هذا الحديث أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذكر القفيز والدرهم قبل أن يضعه عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على الأرض [ (1) ] .
وقال [أبو عبيد] الهروي [ (2) ] في هذا الحديث: قد أخبر النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم بما لم يكن، وهو في علم اللَّه- تعالى- كائن، فخرّج لفظه على لفظ الماضي، لأنه ماض في علم اللَّه عزّ وجلّ، وفي إعلامه بهذا قبل وقوعه ما دلّ على إثبات نبوته صلى اللَّه عليه وسلم ودل على رضاه من عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ما وظفه على الكفرة من الجزية في الأمصار.
وفي تفسير المنع وجهان: أحدهما: أن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم علم أنهم سيسلمون وسيسقط عنهم ما وظّف عليهم بإسلامهم فصاروا مانعين بإسلامهم ما وظف عليهم بإسلامهم، والدليل على ذلك
قوله في الحديث: «وعدتم من حيث بدأتم»
لانه بدأهم في علم اللَّه وفيما قدر وفيما قضى أنهم سيسلمون فعادوا من حيث بدءوا.
وقيل في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: منعت العراق درهمها «أنهم يرجعون عن الطاعة، وهذا يعني أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان فيمنعون حصول ذلك للمسلمين. [وهذا وجه، والأول أحسن] [ (3) ] .
قال البيهقيّ [ (4) ] : وتفسيره، فذكر ما خرجه مسلم من طريق إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريريّ، عن أبي نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: يوشك أهل العراق لا يجني إليهم درهم ولا قفيز، قالوا: مما ذاك يا أبا عبد اللَّه؟ قال: من قبل العجم يمنعون
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 329.
[ (2) ] أبو عبيد الهرويّ، هو أبو عبيد القاسم بن سلام الهرويّ، الأزديّ، [154- 224 هـ] ، طلب العلم وسمع الحديث، ونظر في الفقه والأدب، واشتغل بالحديث، والفقه، والأدب، والقراءات، وأصناف علوم الإسلام، وكان دينا، ورعا حسن الرواية، صحيح النقل، أخذ من أكابر علماء عصره أمثال: أبي زيد الأنصاريّ، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعيّ، وروى عن ابن الأعرابيّ، والفراء، والكسائيّ، ومؤلفه في (غريب الحديث) أول من سبق إليه، وصار كتابه إماما لأهل الحديث.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 330.

(14/194)


ذلك، ثم قال: يوشك أهل الشام ألا يجبي إليهم دينار ولا مدي، قلنا: مما ذاك؟
قال: من قبل الروم. ثم سكت هنية، ثم
قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا.
لا يعده عدا، قال: قلت لأبي نضرة وأبي أتريان أنه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا [ (1) ] .
وخرّجه البيهقيّ [ (2) ] من حديث محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا ابن بشار وأبو موسى قالا: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد قال بندار بن أبي إياس الجريريّ وقالا: عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: يوشك أهل العراق لا يجبي إليهم درهم ولا قفيز، قالوا: مما ذاك يا أبا عبد اللَّه؟ قال:
من العجم. وقال بندار: من قبل العجم. وقال: يمنعون ذاك، ثم سكت هنية، فقالا: ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبي إليهم دينار ولا مدي، قال: مم ذاك؟ قال: من قبل الروم يمنعون ذاك.
ثم
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يكون في أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعده عدا.
ثم قال: والّذي نفسي بيده ليعودن الأمر كما بدأ، ليعودن كل إيمان إلى المدينة كما بدأ بها، حتى يكون كل إيمان بالمدينة، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: لا يخرج من المدينة رهبة عنها إلا أبد لها اللَّه خيرا منه، وليسمعنّ ناس برخص من أسعار ورزق فيتبعونه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
وخرّج البخاري من حديث سفيان عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول: حدثنا أبو سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقولون: فيكم من صحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟
فيقولون: نعم، فيفتح عليه، ثم يأتي على الناس زمان فيغرون فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صحب أصحاب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان يغزون فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صحب من صاحب أصحاب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ذكره في علامات النبوة [ (3) ] وفي الجهاد.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 254- 255، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (67) .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 330- 331.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 157، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3594) .

(14/195)


وخرّجه مسلم [ (1) ] من حديث سفيان بن عيينة قال: سمع عمرو جابرا يخبر عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم قال: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ بمعناه، في آخره: فيكم من رأى من صحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟.
وخرّجه من حديث يحيى بن سعيد [ (2) ] حدثنا ابن جريح، عن أبي الزبير، عن جابر [ (3) ] قال: زعم أبو سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم فيفتح لهم، ثم يبعث البعث الثالث فيقولون هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ فيقال:
انظروا، هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم؟ ثم يكون البعث الرابع، فيقال: انظروا هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به. وذكره في آخر المناقب بعد حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو.
وخرّج البيهقيّ [ (4) ] من حديث يعقوب بن سفيان، قال: حدثني محمد بن مقاتل المروزي، حدثنا أوس بن عبد اللَّه بن بريدة، عن أخيه، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ستبعث بعوث فكن في بعث يأتي خراسان، ثم اسكن مدينة مرو فإنه بناها ذو القرنين، ودعا لها بالبركة وقال: لا يصيب أهلها سوء.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : كتاب الجهاد والسير، باب (76) من استعان بالضعفاء، والصالحين في الحرب، حديث رقم (2897) ، وأخرجه البخاريّ أيضا في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم باب (1) فضائل أصحاب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم، ومن صحب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، حديث رقم (208) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 317، كتاب فضائل الصحابة، باب (52) فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حديث رقم (208) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (209) .
[ (4) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 332، وفي إسناده ضعيفان، كما في (مجمع الزوائد) : 10/ 64.

(14/196)


وخرّجه من طريق الحسين بن حريث [ (1) ] حدثنا أوس، فقال: هذا حديث تفرد به أوس بن عبد اللَّه لم يرو غيره.
قال كاتبه: أوس بن عبد اللَّه بن حصيب الأسلمي سكن مرو، فيه نظر، قاله البخاريّ، وقال ابن عدي [ (2) ] : وفي بعض أحاديثه مناكير.
قال البيهقيّ [ (3) ] : وقد روى في فتح فارس أحاديث صحيحة، وزعم بعض أهل العلم أن ذلك إشارة إلى جميع من يتكلم بالفارسية، إلى أقصى خراسان وفي بعضها غنيمة عن حديث أوس بن عبد اللَّه، وباللَّه التوفيق.
وخرّج البخاريّ في التفسير [ (4) ] وخرج مسلم [ (5) ] من حديث ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنا جلوسا عند النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم إذ أنزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ فقال: قلت: من هؤلاء يا رسول اللَّه؟ فلم يراجعه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا.
وقال البخاري: حتى سأله ثلاثا، قال: وفينا سلمان الفارسيّ، قال:
فوضع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريّا لنا له رجال من هؤلاء. وقال بعده: حدثني عبد اللَّه بن عبد الوهاب حدثنا عبد العزيز، أخبرني ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم: لناله رجال من هؤلاء.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 333.
[ (2) ] (الكامل في ضعفاء الرجال) : 1/ 410- 411، ترجمة رقم (224) وقال بعد أن ساق أحاديث الباب: وهذه الأحاديث بهذه الأسانيد، يرويها أوس بن عبد اللَّه بن بريدة كما ذكرته، والأوس بن عبد اللَّه غير ما ذكرت من الأحاديث شيئا يسيرا، وفي بعض أحاديثه مناكير.
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 333.
[ (4) ] (فتح الباري) : 8/ 827، كتاب التفسير، باب (62) سورة الجمعة حديث رقم (4897) ، (4898) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 334- 335، كتاب فضائل الصحابة، باب (59) فضل فارس، حديث رقم (231) ، وفيه فضيلة ظاهره باب (59) فضل فارس، حديث رقم (231) ، وفيه فضيلة ظاهره لهم، وجواز استعمال المجاز والمبالغة في مواضعها، (شرح النووي) .

(14/197)


وخرّج الترمذيّ [ (1) ] من حديث عليّ بن حجر، قال:
أخبرنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثني ثور بن زيد الديليّ عن أبي الغيث، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنا عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها. فلما بلغ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، قال له رجل: يا رسول اللَّه! من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه، قال: وسلمان الفارسيّ فينا قال: فوضع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على سلمان يده فقال: والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء.
ثور بن زيد مدنيّ، وثور بن يزيد شاميّ، وأبو الغيث اسمه سالم مولى عبد اللَّه بن مطيع، مدنيّ ثقة.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وعبد اللَّه بن جعفر هو والد عليّ بن المديني، ضعفه يحيى بن معين.
وخرّج من حديث عليّ بن حجر، أنبأنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا عبد اللَّه ابن جعفر بن نجيح، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنه قال: قال ناس من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه! من هؤلاء الذين ذكر اللَّه إن تولينا استبدلوا بنا ثم لم يكونوا أمثالنا؟.
قال: وكان سلمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بجنب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، قال: فضرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فخذ سلمان، قال: هذا وأصحابه، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثّريّا لتناوله رجال من فارس [ (2) ] .
قال أبو عيسى: وعبد اللَّه بن جعفر بن نجيح هو والد عليّ بن المديني.
وقد روى عليّ بن حجر عن عبد اللَّه بن جعفر الكثير، وحدثنا عليّ بهذا الحديث عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد اللَّه بن جعفر، وحدثنا بشر بن معاذ، حدثنا عبد اللَّه بن جعفر عن العلاء نحوه، إلا أنه قال: معلق بالثريا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 358، كتاب التفسير، باب (62) ومن سورة الجمعة، حديث رقم (3310) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 358، كتاب تفسير القرآن، باب (47) ومن سورة محمد صلى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (3261) . والمنوط: المعلّق.
[ (3) ] (المرجع السابق) .

(14/198)


وخرّج البيهقيّ من طريق عمرو بن عثمان بن كثير بن دينار، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن عرق عن عبد اللَّه بن بسر قال: أهدى للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلم شاة والطعام يومئذ قليل، فقال لأهله: أصلحوا هذه الشاة وانظروا إلى هذا الخبز، فأثردوا واغرفوا عليه، وكانت للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلم قصعة يقال لها:
الغراء، يحملها أربعة رجال، فلما أصبحوا وسجدوا الضحى، أتي بتلك القصعة فالتفوا عليها، فلما كثروا جثا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال أعرابيّ: ما هذه الجلسة؟ قال: إن اللَّه- عزّ وجلّ- جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا، كلوا من جوانبها، ودعوا ذروتها يبارك فيها، ثم قال: خذوا كلوا، فو الّذي نفس محمد بيده لتفتحن عليكم فارس والروم حتى يكثر الطعام فلا يذكر عليه اسم اللَّه عزّ وجلّ [ (1) ] .
وخرّج مسلم من حديث عبد اللَّه بن وهب، أخبرني الليث بن سعد، حدثني موسى بن عليّ عن أبيه قال: قال المستورد القرشيّ عبد عمرو بن العاص:
سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو:
أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربع: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك [ (2) ] .
ومن حديث ابن وهب قال: حدثني أبو شريح أن عبد الكريم بن الحارث حدّثه أن المستورد القرشيّ قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس قال: فبلغ ذلك عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: ما هذه الأحاديث التي تذكر عنك أنك تقولها عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ فقال له المستورد: قلت الّذي سمعت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، قال:
فقال عمرو: لئن قلت ذلك، إنهم أحلم الناس عند فتنة، وأجبر الناس عند مصيبة، وخير الناس لمساكينهم وضعفائهم، ذكره في الفتن [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 334، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأطعمة، باب (6) الأكل متكئا، حديث (3263) مختصرا.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 239- 240، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (10) تقوم الساعة والروم أكثر الناس، حديث رقم (35) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (36) .

(14/199)


وذكر البيهقيّ من حديث ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت المستورد، ثم قال: لعله إذا كان صحيحا إنما زجره عمرو عن روايته لئلا يعرض المسلمون عن قتالهم، فإنّ الّذي تدل عليه الأحاديث إنما أراد به القسطنطينية، واللَّه تعالى أعلم.
ثم أورد حديث عمرو بن مرزوق قال: أخبرنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: كان يقال فتح القسطنطينية مع الساعة [ (1) ] .
وخرّج البخاريّ [ (2) ] من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوذا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر. ذكره في باب علامات النبوة.
وذكر البيهقيّ [ (3) ] من طريق أبي بكر الإسماعيلي قال: حدثنا المنيعى قال:
قال أبو عبد اللَّه يعني محمد بن عباد: بلغني أن أصحاب بابل كانت نعالهم الشعر.
قال البيهقيّ: هم قوم من الخوارج خرجوا في ناحية الري، فأكثروا الفساد والقتل في المسلمين، حتى قوتلوا وأهلكهم اللَّه- عزّ وجلّ-.
وخرّج البخاري [ (4) ] من حديث شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر، وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة، وتجدون من خير الناس، أشدهم كراهية لهذا الأمر، حتى يقع فيه، والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن تكون له مثل أهله وماله.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 335.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 750، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3590) .
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 336.
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 749- 750، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3587) ، (3588) ، (3589) .

(14/200)


وخرجه مسلم [ (1) ] من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ذلف الآنف.
وخرّج البخاريّ في الجهاد [ (2) ] من حديث صالح، عن الأعرج، قال: قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر.
وخرجه من حديث سفيان، قال الزهريّ: عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم [ (3) ] .
وخرّجه مسلم بهذا السند [ (4) ] .
وخرّجه أيضا من حديث ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبيّ [ (5) ] .
وخرّجه مسلم بهذا السند [ (6) ] أيضا.
وخرجه أيضا من حديث يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر [ (7) ] .
وخرجاه من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم تقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة حمر الوجوه صغار الأعين [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 254، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (64) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 129، كتاب الجهاد، باب (95) قتال الترك، حديث رقم (2928) . ألب
[ (3) ] (المرجع السابق) : باب (9) قتال الترك، حديث رقم (2928) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 253، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء حديث رقم (62) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (63) ، وزاد فيه: «وجوههم مثل المجان المطرقة» .
[ (6) ]
(المرجع السابق) : حديث رقم (64) ، وزاد فيه: «ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ذلف الأنوف» .
[ (7) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (65) .

(14/201)


وخرّج البخاريّ من حديث سفيان قال إسماعيل: أخبرني قيس، قال: أتينا أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: صحبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثلاث سنين لم أكن في سني أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن صبحت سمعته يقول- وقال هكذا بيده-: بين يدي الساعة تقاتلون قوما نعالهم الشعر وهو هذا البارز [ (1) ] ، وقال سفيان مرة: وهم أهل البازر [ (2) ] .
وخرجه من حديث جرير بن حازم قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا عمرو ابن تغلب، قال: قال النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم: من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر، وإن من أشراط أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة. ذكره في كتاب الجهاد [ (3) ] في باب علامات النبوة [ (4) ] .
وخرّج البيهقيّ [ (5) ] من حديث مسدد، حدثنا هشيم، عن سيار أبي الحكم، عن جبر بن عبيدة، عن أبي هريرة، قال: وعدنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غزوة الهند فإن أدركتها أنفق فيها مالي ونفسي، فإن استشهدت كنت من أفضل الشهداء، وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرّر.
ومن حديث الأعمش، عن أبي عمارة، عن عمرو بن شرحبيل قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إني رأيت الليلة كأنما يتبعني غنم سود، ثم أردفتها غنم بيض حتى لم تر السواد فيها، فقصها على أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: يا رسول اللَّه هي العرب تتبعك، ثم أردفتها العجم حتى لم يروا فيها قال: أجل، كذلك عبرها الملك سحرا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (66) ، وأخرجه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير، باب (96) قتال الذين ينتعلون الشعر، حديث رقم (2929) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 750، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3591) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : باب (95) قتال الترك، حديث رقم (2927) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3592) .
[ (5) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 336.

(14/202)


وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم بقيام الخلفاء بعد بأمر أمته
فخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث شعبة، عن فرات القزاز قال:
سمعت أبا حازم يحدث قال: قاعدة أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك بني خلف نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم فإن اللَّه سائلهم عما استرعاهم ذكره البخاريّ في باب ما جاء عن نبي إسرائيل وأما إخباره بقيام ملوك بعد الخلفاء.
فخرج مسلم [ (3) ] من حديث صالح بن كيسان، عن الحارث، عن جعفر ابن عبد اللَّه بن الحكم، عن عبد الرحمن ابن المسور، عن أبي رافع، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: ما من نبي بعثه اللَّه في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
قال أبو رافع فحدثه عبد اللَّه بن عمر فأنكره علي فقده ابن مسعود فنزل بقناة فاستتبعني إليه بن عمر يعوده فانطلقت معه فلم أجلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر قال صالح: وقد تحدث بنحو عن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 612- 613 كتاب أحاديث الأنبياء باب (50) ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم (3455) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 473، كتاب الإمارة، باب (10) وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، حديث رقم (44) .
[ (3) ] المرجع السابق: 2/ 384- 388 كتاب الإيمان، باب (20) باب كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان، حديث رقم (80) .

(14/203)


أبى رافع.
وخرجه أيضا من حديث ابن أبي مريم، عن عبد العزيز ابن محمد قال: أخبرني الحارث بن فضيل الخطميّ، عن جعفر عبد اللَّه بن الحكم، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي رافع مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن عبد اللَّه بن مسعود أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: ما كان من نبي إلا كان له حواريون يهتدون بهدية ويتسنون بسنته بمثل حديث صالح
ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه.
وخرج البيهقي من طريق عبد اللَّه بن الحارث بن محمد بن حاطب الجمحيّ، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يكون بعد الأنبياء خلفاء يعملون بكتاب اللَّه ويعدلون في عباد اللَّه، ثم يكون بعد الخلفاء ملوك يأخذون بالثأر، ويقتلون الرجال ويصطفون الموال، فمغير بيده، ومغير بلسانه، ومغير بقلبه، ليس وراء ذلك من الإيمان شيء [ (1) ]
ومن حديث جرير بن حازم، عن ليث، عبد الرحمن بن سليط، عن أبي ثعلبة الخشنيّ، عن أبي عبيدة الجراح، ومعاذ بن جل، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: إن اللَّه بدأ هذه الأمة نبوة ورحمته، وكائنا خلافه ورحمة وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عزة وجبرية وفسادا في الأمة: يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك، ويرزقون أبدا حتى يلقوا اللَّه عز وجل [ (2) ] وقال أبو نعيم ورواه عبد الملك ابن ميس وعمرو بن مرة، عن أسباط، عن أبي ثعلبة، عن أبي سيدة من حديث من دون معاذ.
وخرجه أبو نعيم من حديث ابن وهب قال: حدثنا ابن لهيعة، عن خالد ابن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة ثم كائن ملكا غضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأمة، يستحلون الفروج والحرير والخمور، يرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا اللَّه عز وجل [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 340.
[ (2) ] المرجع السابق.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 549، حديث رقم (484) .

(14/204)


وخرج الإمام أحمد من حديث إسرائيل، عن سماك عن ثروان بن ملحان قال: كنا جلوسا في المسجد فمر علينا عمار بن ياسر فقلنا له: حدثنا سمعت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الفتنة؟ فقال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: يكوى بعدي عن قوم يأخذون الملك يقتل عليه بعضهم بعضا. قال: قلنا له: لو حدثنا غيرك غيرك ما صدقناه قال: فأنه سيكون [ (1) ] .
وخرج الحاكم من حديث سفيان، عن الأعمش عن عمارة بن عمير، عن أبي عمار، عن حذيفة، قال يكون عليكم أمراء يعذبوكم ويعذبهم اللَّه [ (2) ] .

وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم عن مدة الخلافة بعده ثم يكون ملكا فكان كما أخبر
خرج أبو داود من حديث حوشب، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتى اللَّه الملك من يشاء أو قال: ملكة من يشاء [ (3) ] . قال سعيد قال: حدثنا سفينة: أمسك عليك أبو بكر سنتين، وعمر عشرا وعثمان أثنى عشر، وعلي كذا، قال: سعيد:
قلت: لسفينة إن هؤلاء لا يزعمون أن عليا عليه السلام لم يكن بخليف، قال:
كذت أستاه بني الزرقاء يعني مروان [ (4) ] .
وخرج أيضا من طريق قبيصة بن عتبة أن عباد السماك قال: سمعت سفيان الثوري يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر، وعثمان، وعلى وعمر ابن عبد العزيز- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم-[ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 5/ 326، حديث رقم (17856) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 550، كتاب الفتن والملاحم حديث رقم (8539) ، وقال الحافظ لذهبي في (التلخيص) صحيح.
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 5/ 37، كتاب السنة، حديث رقم (4647) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4646) وهو جزء من حديث طويل.
[ (5) ] (المرجع السابق) 5/ 27، حديث رقم (4631) .

(14/205)


وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث حشرج بن نباتية، عن سعيد بن جمهان قال: حدثني سفينة: قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم بعد ذلك،
ثم قال لي سفينة، لأمسك خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- ثم قال لي: أمسك خلافة علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: فوجدناها ثلاثين سنة قال سعيد: فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم قال: كذبوا بنوا الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك. قال أبو عيسى: وفي الباب عن عمر وعلي قالا: لم يعهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم، في الخلافة شيئا. وهذا الحديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ولا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جمهان.
وخرجه أبو نعيم من حديث الحماني قال: حدثني سعيد بن جمهان، قال: حدثني سفينة، قال خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة
أبي بكر وعمر ثنتا عشرة سنة وستة أشهر، وخلافة عثمان ثنتا عشرة سنة وستة أشهر، ثم خلافة علي تكملة الثلاثين. قلت: معاوية؟ قال: أول الملوك [ (2) ]
وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي الجرجاني سمعت ابن جماد يقول: قال البخاري [ (3) ] حشرج بن نباته، عن سعيد بن جمهان. عن سفينة، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: لأبي بكر وعمر وعثمان هؤلاء الخلفاء بعدي
وهذا لم يتابع عليه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قالا: لم يستخلف النبي صلى اللَّه عليه وسلم.
وقال النسائي:
حشرج عن سعيد بن جمهان ليس بالقوى، وسئل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل عن حشرج بن نباته، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: لما بني النبي صلى اللَّه عليه وسلم المسجد وضح حجرا ثم قال: ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري، ثم قال: ليضع عمر حجره إلى جنب أبي بكر، ثم قال ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر، ثم قال هؤلاء خلفاء من بعدي
وهو أهل الحديث الّذي أنكره البخاريّ على حشرج هذا وهذا الحديث قد روي بغير هذا الإسناد،
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 34، كتاب الفتن، باب (48) ما جاء في الخلافة، حديث رقم (2226) .
[ (2) ] لم أجده في (دلائل أبي نعيم) ولا (الحلية) لأبي نعيم.
[ (3) ] (لتاريخ الكبير) : 1/ 1/ 117.

(14/206)


حدثنا محمد بن إبراهيم السراج، حدثنا يحيي الحماني، حدثنا ابن نباته، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: لما بني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المسجد وضع حجرا ثم قال: ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري، ثم قال ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: ليضع عثمان حجره إلى جنب [حجر] عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء من بعدي.
قال ابن عدي: وهذا الّذي أنكره البخاريّ على حشرج هذا الحديث، وهذا الحديث قد روي بغير هذا الإسناد حدثناه على بن إسماعيل بن أبي النجم، حدثنا عقبة بن موسى بن عقبة، عن أبيه عن محمد بن الفضل بن عطية عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك وهو عم ابن زياد بن علاقة: لما بني صلى اللَّه عليه وسلم المسجد وضع حجرا [ (1) ] فذكر هذه القصة.
وخرجه البيهقي من طريق مؤمل قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي ابن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن ابنية قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: خلافة نبوة ثلاثين عاما ثم يؤتي اللَّه الملك من يشاء.
فقال معاوية:
قد رضينا بالملك [ (2) ] . وخرجه أبو نعيم من حديث أبي داود الطيالسي، حدثنا حماد ابن سلمة، حدثنا على بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال:
وفدنا مع زياد ومعنا أبو بكر فدخلنا عليه فقال له معاوية: حدثنا حديثا سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عسى اللَّه أن ينفعنا به، قال: نعم- كان نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يعجبه الرؤيا الصالحة ويسأل عنها، فقال رجل: يا رسول اللَّه إني رأيت رؤيا، كان ميزانا دلى من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت يا أبا بكر، ثم وزن أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وعمر فرجح أبو بكر بعمر، ثم وزن عمر بعثمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما فرجح عمر بعثمان، ثم رفع الميزان فاستاء لها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قال خلافة نبوة، ثم يؤتى اللَّه الملك من يشاء، فغضب معاوية وزج في أقفائنا فأخرجنا فقال زياد لا أبا لك: أما وجدت من
__________
[ (1) ] (الكامل في الضعفاء لابن عدي) : 2/ 440 حديث رقم (184) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 342، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 290، حديث رقم (12416) ، من حديث أبي عبد الرحمن سفينة مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.

(14/207)


حديث رسول اللَّه حديثا تحدثه غير هذا؟ فقال: واللَّه لا أحدثه إلا به حتى أفارقه، فلم يول زياد يطلب الإذن حتى أذن لنا فأدخلنا فقال معاوية: يا أبا بكر حدثنا بحديث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعل اللَّه ينفعنا به، قال: فحدثه أيضا مثل حديثه الأول فقال له معاوية: لا أبا لك تخبرنا أنا ملوك قد رضينا أن نكون ملوكا.
قال أبو نعيم: ورفع الميزان بعد وزن الثلاثة يدل على رفع اعتدال الأحوال وزوالها عن الاستواء بما حدث من الفتن تصل عثمان وتشتت الكلم وليس ذلك بقادح في خلافة علي ولا إهانته، إذ يوجب الخلافة استحقاق خالصها وشرائطها لائتلاف الرغبة وارتفاع الفتن، ثم إن وقع اختلاف في الأمر فعلى الإمام أن يجتهد في إزالته بما يقتضيه حكم الشريعة، فإن استقام فهو الغرض المقصود والأمر المحمود، وإن امتنع استقامته وتعذر فعلى اللَّه حساب المعتدين والتالفين.
ونظير هذا الحديث تسبيح الحصا في يد النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- ثم لم يسمع لهن تسبيح فهو أيضا دليل على وقوع الفتن وتغيير الأمور بقتل عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وليس ذلك من استحقاق الخلافة أو سقوطها في شيء، ثم
ذكر حديث موسى ابن عقبة: حدثنا أبي عن محمد بن الفضل، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك قال: مررت برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وهو يؤسس مسجد قباء فقلت: يا رسول اللَّه تبني هذا البناء وإنما معك هؤلاء الثلاثة؟ قال:
إن هؤلاء أولياء الخلافة، وذكره من طريق إسحاق الأزرق، عن موسى بن كثير عن زياد بن علاقة، عن قطبة قال: مررت بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلم وهو يبني مسجد المدينة ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فقلت يا رسول اللَّه هؤلاء الثلاثة نفر في بناء هذا المسجد قال: نعم- إنهم ولاة الخلافة بعدي.
ومن طريق موسى الجوني حدثنا عبد الرحمن بن وهب، حدثنا يحيى بن أيوب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: أول من حمل صخرة بمسجد قباء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ثم حمل أبو بكر أخرى، ثم حمل عمر أخرى، ثم حمل عثمان أخرى، فقلت يا رسول اللَّه انظر إلى هؤلاء يتبعونك حيث رأوك قال: أما إنهم أمراء الخلافة بعدي. قال

(14/208)


كاتبة: لم تكن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- بالمدينة لما أسس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مسجد قباء.

وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم باختيار اللَّه تعالى والمؤمنين خلافة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فكانت كما أخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
فخرج البخاريّ من حديث يحيى بن سعيد قال: سمعت القاسم بن محمد قال: قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وا رأساه: فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: وذلك لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك فقالت عائشة: وا ثكلياه، واللَّه إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك. فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم بل أنا وا رأساه، لقد همت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى اللَّه ويدفع المؤمنون أو يدفع اللَّه ويأبى المؤمنون ذكره في كتاب المرضى [ (1) ] .
وخرجه مسلم في المناقب [ (2) ] من حديث يزيد بن هارون، قال: حدثنا إبراهيم ابن سعيد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، في مرضه: ادعى لي أباك أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإنّي أخاف أن يتمنى متمن ويقول، قائل: أنا أولى.
ويأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر
ولأبى داود الطيالسي من حديث عبد العزيز بن رفيع، عن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مرضه الّذي
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 152، كتاب المرضى باب (16) ما رخص لمريض أن يقول: إني وجع، أو وا رأساه، أو اشتد بى الوجع وقول أيوب عليه السلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ حديث رقم (5666) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 164 كتاب فضائل الصحابة باب (1) فضائل أبي بكر الصديق رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (11) .

(14/209)


مات فيه: ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه أحد.
وفي بعض الطرق ادعي لي أباك أبا بكر وأخاك، حتى أكتب كتابا فإنّي أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا ويأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر، ومعناه أن يقول أنا أحق وليس كما يقول: سل يأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر.
هكذا في بعض النسخ وفي بعضها أنا أولى أي أنا أحق بالخلافة ورواه بعضهم أنا ولي بتخفيف النون وكسر اللام أي أنا أحق، والخلافة لي، وبعضهم قال:
أنا ولاه. وفي البخاريّ لقد هممت أن أوجه إلى أبي بكر وابنه واعتمد رواية مسلم أخاك، وقد وقع ذكر الاستخلاف في الإيمان عند ذكر الوفاة فراجعه.

وأما رؤيته صلى اللَّه عليه وسلم في منامه مدتي خلافة أبي بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فكان كما رأى لأن رؤياه وحي
فخرج البخاريّ [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث يونس، عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 22، كتاب فضائل أصحاب النبي باب (5) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا. قاله أبو سعيد حديث رقم (3664) ، وأعاده في باب (6) مناقب عمر بن الخطاب، حديث رقم (3682) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 170، كتاب فضائل الصحابة، باب (2) فضائل عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (17) .
القليب: البئر إذا لم تكن مطوية.
«نزعت» : الدلو من البئر: إذا جذبتها واستقيت الماء بها.
«الذنوب» : بفتح الذال: الدلو العظيمة.
«الغرب» : الرجل القوى الشديد، وفلان عبقري القوم أي سيدهم وكبيرهم.

(14/210)


سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء اللَّه ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، واللَّه يغفر له ضعفه. ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن. لفظهما فيه متقارب، وقد تقدم هذا الحديث بطرقه في ذكر المنامات النبويّة.
وقال الشافعيّ رحمه اللَّه: رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، قوله: في نزعه ضعف: قصر مدته وشغله بالحرب مع أهل الردة عن الافتتاح والتزيد الّذي بلغه عمر في طول مدته. وقال الطيبي: أراد صلى اللَّه عليه وسلم إثبات خلافتهما والإخبار عن مدة ولايتهما، والإبانة عما جرى عليه أحوال أمته في أيامها فشبه أمر المسلمين بالقليب وهي البئر العادية لما فيها من الماء الّذي هو الحياة وشبه الوالي عليهم بالنازع الّذي يستقي الماء ويسقيه.

وأما إشارته [ (1) ] صلى اللَّه عليه وسلم إلى ما وقع في الفتنة في آخر عهد عثمان ثم في أيام علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
فخرج البخاري من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه أن ابن عباس كان يحدث أن رجلا أتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة [ (2) ] .
وخرج مسلم [ (3) ] من حديث الزبيدي قال: أخبرني الزهيري، عن عبيد اللَّه ابن عبد اللَّه بن عباس وأبا هريرة كان يحدث أن رجلا أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم.
ومن
__________
[ () ] «العطن» : الموضع الّذي تناخ فيه الإبل إذا رويت، يقال: عطنت الإبل، فهي عاطنة، وعواطن: إذا شربت فبركت عند الحوض لتعاد إلى الشرب مرة أخرى، وأعطنتها أنا، والمراد بقوله: حتى ضرب الناس بعطن. حتى رووا. وأرووا إبلهم وضربوا لها عطنا.
[ (1) ] في (دلائل البيهقي) : إخباره وما أثبتناه من (الأصل) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 12/ 534، كتاب التعبير، باب (47) .
[ (3) ] (مسام بشرح النووي) : 15/ 33- 35، كتاب الرؤيا، باب (3) في تأويل الرؤيا، حديث رقم (17) .

(14/211)


حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن عتبة أخبره أن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان يحدث أن رجلا أتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم فالمستكثرون والمستقل وأرى شيئا وأصلا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجلا من بعدك فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر. فانقطع به ثم وصل له فعلا. قال أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يا رسول اللَّه بأبي أنت واللَّه لتدعني فلأعبرنها قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: اعبرها قال أبو بكر أما الظلة فظلة الإسلام وأما الّذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن، حلاوته ولينه وأما ما يكتف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الّذي أنت عليه فيعلو به، ثم يأخذ به رجل أخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به فأخبرني أصبت أم أخطأت؟ يا رسول اللَّه يا أصبت بعضا وأخطأت بعضا قال: فو اللَّه يا رسول اللَّه لتحدثني ما الّذي أخطأت قال: لا تقسم. لفظهما فيه متقارب.
وخرجه مسلم من حديث سفيان، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منصرفة من أحد فقال: يا رسول اللَّه إني رأيت هذه الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل بمعنى حديث يونس [ (1) ] .
ومن حديث عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن عباس أو أبي عن أبى هريرة قال:
عبد الرازق كان معمر أحيانا يقول عن ابن عباس وأحيانا يقول عن هريرة أن رجلا أتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إني أرى الليلة ظلة بمعنى حديثهم [ (2) ] ومن حديث سليمان بن كثير عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي رقم (17) بدون رقم.
[ (2) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق بدون رقم أيضا.

(14/212)


أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان مما يقول لأصحابه. من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها له قال: فجاء رجل فقال: يا رسول اللَّه رأيت ظلة بنحو حديثهم [ (3) ] قال أبو سليمان [ (4) ] الخطابي: اختلف الناس في تأويل قوله صلى اللَّه عليه وسلم قد أصبت بعضا وأخطأت بعضا. فقال بعضهم: إنما صوبه في تأويل الرؤيا وخطأه في الافتيات بالتعبير بحضرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وقال بعضهم: موضع الخطأ في ذلك أن المذكور في الرؤيا شيئان وهما السمن والعسل فعبرهما على شيء واحد وهو القرآن وكان حقه أن يعبر كل واحد منها على انفراده وإنما هما الكتاب والسنة لأنهما بيان الكتاب الّذي أنزل عليه، قال: وبلغني هذا القول أو قريب من معناه، عن أبي جعفر الطحاوي.
ولأبي داود من حديث الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: قال ذات يوم: من رأى منكم رويا؟
فقال رجل أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو كر فرجحت أنت بأبي بكر ووزن عمر، وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأيت الكراهة في وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ومن حديث حماد، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن ابنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال ذات يوم: أيكم رأى رؤيا فذكر مثله ولم يذكر الكراهية.
فاستاءها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يعني ساءه ذلك فقال:
خلافة نبوة ثم يؤتي اللَّه الملك من يشاء.
ولابن وهب من حديث يونس، عن ابن شهاب قال: كان جابر بن عبد اللَّه يحدث أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: أرى الليلة رجل صالح أن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- نيط برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
ونيط عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بأبي بكر ونيط عثمان ابن عفان بعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال جابر: فلما قمنا من عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قلنا أما الرجل الصالح فرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق بدون رقم أيضا.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 347.

(14/213)


وأما ما ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الّذي بعث اللَّه عز وجل به نبيه صلى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] . قال البيهقي [ (2) ] : تابعه ابن أبي حمزة عن الزهري هكذا وأخبرنا أبو علي الروذباري أخبرنا أبو بكر بن داسة حدثنا أبو داود حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن ابن شهاب عن عمرو بن أبان بن عثمان عن جابر بن عبد اللَّه أنه كان يحدث.
فذكر الحديث بمثله.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد بن علي علي الروذباري، أخبرنا أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن أشعث بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن سمرة بن جندب رجلا قال: يا رسول اللَّه إني رأيت كان دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيبها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيبها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيبها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيبها فانتشطت فانتضح عليه منه شيء قلت: ضعف شرب أبي بكر:
قصر مدته والانتضاح منه علي ما أصابه من المنازعة في ولايته- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قصر مدته والانتضاح منه على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ما أصابه من المنازعة في ولايته. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.

وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم لجماعة فيهم عمر وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أن فيهم شهيدان فاستشهدا كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
فخرج البخاري [ (3) ] والترمذي من حديث سعيد، عن قتادة، أن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حدثهم أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 348.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 348- 349.
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 51، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم، باب (6) مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما حديث رقم (3686) .

(14/214)


وعمر وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فرجف بهم فقال: رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان، وقد تقدم هذا الحديث بطرقه في ذكر تحرك الجبل لأجله وسكونه بأمره [ (1) ] .

وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم بأن عمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير شهداء فكان كذلك وقتلوا شهداء رضوان اللَّه عليهم
فخرج مسلم [ (2) ] والترمذي [ (3) ] من حديث سهيل أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد. وقد تقدم بطرقه.

وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم ثابت بن قيس بأنه شهيد وما كان من ذلك
فخرج عبد الرزاق [ (4) ] من حديث معمر، عن الزهري، عن ثابت بن قيس ابن شماس قال لما نزلت: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قال: يا نبي اللَّه لقد خشيت أن أكون قد هلكت نهانا اللَّه أن نرفع أصواتنا فوق صوتك،
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 583، كتاب المناقب، باب (19) في مناقب عثمان بن عفان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3697) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 199، كتاب فضائل الصحابة، باب (6) فضائل طلحة والزبير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (50) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 582، كتاب المناقب، باب (19) في مناقب عثمان بن عفان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3696) .
[ (4) ] (تفسير ابن كثير) : 4/ 220- 221، تفسير سورة الحجرات.

(14/215)


وأنا امرؤ جهير الصوت. ونهى اللَّه المرء أن يحمد بما لم يفعل، وأجدني أحب الحمد. ونهى اللَّه عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال. فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم يا ثابت ألا ترضي أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟ فعاش حميدا، وقتل يوم مسيلمة.
وخرجه الحاكم [ (1) ] في (المستدرك) من حديث يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي، عن ابن شهاب قال: أخبرني إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري، عن أبيه أن ثابت بن قيس قال: قلت يا رسول اللَّه لقد خشيت أن أكون قد هلكت، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: نهانا اللَّه أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال، ونهانا ان نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا جهير الصوت فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا ثابت ألا ترضي أنت تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟. قال: بلي يا رسول اللَّه. قال: فعاش حميدا، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب. قال الحاكم:
صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه بهذه السياقة إنما أخرج مسلم وحده حديث حماد بن سلمة، وسليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما أنزلت لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [ (2) ] جاء ثابت بن قيس وذكر الحديث مختصرا.
قال المؤلف: وخرجه الطبراني في الأوسط، عن أحمد بن محمد بن محمد بن حمزة، عن أبيه، عن جده، عن الأوزاعي، عن الزهري قال:
حدثني ابن ثابت الأنصاري قال: قلت يا رسول اللَّه فذكر الحديث بمعناه وخرج الحاكم [ (3) ] من حديث موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن ثابت، عن أنس أن ثابت بن قيس. جاء يوم اليمامة، وقد تحنط ولبس أكفانه، وقد انهزم أصحابه
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 260، كتاب معرفة الصحابة حديث رقم (5034) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) صحيح على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (الحجرات) : 2.
[ (3) ] (المستدرك) : 38260 كتاب معرفة الصحاب، باب (31) حديث رقم (5034) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح على شرط البخاري ومسلم.

(14/216)


وقال: اللَّهمّ إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فبئس ما عودتم أقرانكم خلوا بيننا وبين أقراننا ساعة، ثم حمل فقاتل ساعة فقتل وكانت درعه قد سرقت فرآه رجل فيما يرى النائم. فقال: إن درعي في قدر تحت أكاف بمكان كذا وكذا وأوصي بوصايا فطلب الدرع فوجد حيث قال فأنفذوا وصيته وفيها قصة عجيبة،
فذكرها من طريق عطاء الخراساني قال: لما قدمت المدينة فأتيت ابنة ثابت بن قيس بن شماس فذكرت قصة أبيها قالت:
لما أنزل اللَّه على رسوله صلى اللَّه عليه وسلم لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [ (1) ] الآية وآية وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [ (2) ] جلس أبي في بيته يبكي ففقده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فسأله عن أمره فقال: إني امرؤ جهير الصوت، وأخاف أن يكون قد حبط عملي، فقال: بل تعيش حميدا وتموت شهيدا ويدخلك اللَّه الجنة بسلام
فلما كان يوم اليمامة مع خالد بن الوليد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- استشهد فرآه رجل من المسلمين في منامه فقال: إني لما قتلت انتزع درعي رجل من المسلمين وخبأه في أقصي العسكر وهو عنده وقد أكب على الدرع برمة وجعل على البرمة رجلا فأتت الأمير فأخبره وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه وإذا أتيت المدينة فأت قفل لخليفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إن علي من الدين كذا وكذا وغلامي فلان من رقيقي عتيق، وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه.
قال: فأتاه. فأخبره الخبر فوجد الأمر على ما أخبره، وأتى أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأخبره فأنفذ وصيته، فلا نعلم أحدا بعد ما مات أنفذ وصيته غير ثابت بن قيس بن شماس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[ (3) ] .
وقال الحافظ أبو عمرو النمري، وروى هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد قال:
حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن عامر قال: حدثني عطاء الخراساني، قال حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شماس قالت: لما نزلت:
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] الحديد: 3.
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 261، كتاب معرفة الصحابة باب (31) حديث رقم (5036) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .

(14/217)


يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية دخل أبوها بيته وأغلق علي بابه ففقده النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأرسل إليه يسأله، فأخبره، فقال: أنا رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي، قال: لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير.
قال: ثم أنزل اللَّه تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [ (1) ] فأغلق عليه بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صلى اللَّه عليه وسلم إليه فأخبر، وقال: يا رسول اللَّه إني أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي، فقال: لست منهم بل تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة
قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا انكشفوا فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم حفز كل واحد منهما حفزة، فثبتا فقاتلا حتى قتلا، وعلي ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين. فأخذها، فبين رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له إني أوصيك بوصية:
فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي، ومنزله في أقصي الناس، وعند خباية فرس يسترني في طوله، وقد كفى على الدرع برمة، وفوق البرمة رجل، فأت خالد فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها.
وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يعنى أبا بكر فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق. فأتى الرجل خالد- رضي اللَّه وتبارك عنه- فأخبره فبعث إلي الدرع فأتى بها. وحدث أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- برؤياه فأجاز وصيته قال: ولا نعلم أحد أجيزت وصيته بعد موته غير ثاب بن قيس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال المؤلف رحمه اللَّه: الرجل الّذي زار ثابت بن قيس في منامه هو بلال بن رباح مؤذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] لقمان: 18.

(14/218)


وأما إنذار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بارتداد قوم ممن آمن عن إيمانهم فكان كما أنذر وارتدت العرب بعد وفاته صلى اللَّه عليه وسلم
قال اللَّه تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ (1) ] وهذه الآية يعرض اللَّه فيها بارتداد من ارتد وانقلابهم على أعقابهم. بعد موت الرسول صلى اللَّه عليه وسلم وفيها معنى
قوله صلى اللَّه عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا بضرب بعضكم رقاب بعض [ (2) ] .
وعن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال المراد بالشاكرين: أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وأصحابه، وعنه أيضا: أبو بكر أمين الشاكرين وأمير من أحب اللَّه.
وعنه: السن أن أبا بكر كان واللَّه إمام الشاكرين، هو واللَّه إمام الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [ (3) ] .
قال الحسن علم اللَّه قوما يرجعون عن الإسلام بعد نبيهم فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه. فقوله: مَنْ يَرْتَدَّ جملة شرطية مستقبلية وهي إخبار عن الغيب وقع الخبر على وقعة فيكون معجزا لأنه من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل كونها.
وقال الضحاك عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في قوله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قال: حصت وعمت
__________
[ (1) ] آل عمران: 144.
[ (2) ] (جامع الأصول) : 3/ 458، في ذكر حجة الوداع، حديث رقم (1795) وعزاه للبخاريّ ومسلم.
[ (3) ] المائدة: 54.

(14/219)


أبناءهم وجدودهم ومن أظهر غير ما ستر فهو حشو في المؤمنين، فأخبرهم بما هم لاقون إن فعلوا بارتداد من ارتد منهم في عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم فكاتبهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالرسل، وماثلهم من بعده بأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ومن أقام معه في الدار فهم جنود اللَّه الذين أقامهم على أمره وأصحاب نبيه صلى اللَّه عليه وسلم، الذين قاتلوا بني قينقاع، والنضير، وقريظة، وخيبر، فبدأ القوم بسعد بن عبادة، ثم أبواب الشام، ثم ثلثوا ببني أسد، وغطفان، ثم أثبتوا في نواحي جزيرة العرب حتى ضربوا البحرين من قبل عدن، وحضرموت من قبل عمان، والبحرين من قبل الشام والعراق حتى أدخلوا الناس في الباب الّذي خرجوا منه.
فأتى اللَّه تعالي بفلولهم المرتدة في دورهم، فكانوا أذل أهل رأفة على المؤمنين من تلك القبائل، أهل غلظة وانتقام على المرتدة لا يجعلوا في جهادهم بلوم من لام في ذلك، هذا ما خصهم اللَّه تعالى به فأتى من رجع عن دين محمد صلى اللَّه عليه وسلم بأصحاب محمد صلى اللَّه عليه وسلم في بيوتهم.
وعن سعيد بن مسلم وسعيد بن أبي عروبة. عن الحسن في قوله تعالى:
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [ (1) ] الآية، قال أبو بكر وأصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم أخبره أنه يأتيهم به في دورهم، وحيث كانوا فهم أحباء اللَّه.
وقال طلحة بن الأعلم، عن ماهان، عن ابن عباس قال: كانت منازل الناس على عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم: مسلم خالص، ومنافق، وكافر، فمن دخل من أهل الكفر في الإسلام فهو مسلم. ومن خرج من المسلمين إلى الكفار فهو منهم.
ومن أسر الكفر وأظهر الإسلام حقن بذلك دمه حتى يظهره، وعلى هذا قابل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم العرب. وقابل أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- العرب من بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منهم خاصة أو عامة، ما خلا أهل مكة، وأهل الطائف، والقبائل التي أجابت النبي صلى اللَّه عليه وسلم عام الحديبيّة ممن حول مكة، والقبائل التي عاقب اللَّه يوم الحديبيّة منهم، وفائت عبد القيس، وحضرموت بعد الريب وحسن إسلامهم واستفاقوا من نومهم. قال هشام بن عروة، عن أبيه: ما مات
__________
[ (1) ] المائدة: 54.

(14/220)


النبي صلى اللَّه عليه وسلم حتى قل أهل الردة، وذلوا ودخلوا عامتهم في الباب الّذي خرجوا منه فلما مات النبي صلى اللَّه عليه وسلم لم يبق حي إلا ارتاب منهم خاصة أو عامة، ما خلا أهل مكة، وأهل الطائف.
وقد جاء أهل الطائف لموافاتهم عثمان بن أبي العاص من غير ظان تموت على دينهم فاستيقظوا، ولم يبق أحد على دينه في عبد القيس وحضرموت فإنّهم نزعوا عن دينهم ثم استقاموا.
وقال مجاهد عن سعيد عن الشعبي: لما فصل أسامة بن زيد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- تضرمت الأرض وارتدت من كل قبيلة وعامة إلا قريش وثقيف.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه. لما مات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وفصل أسامة، ارتدت العرب خواص وعوام، وتروخي عن مسيلمة وطليحة فاستغلظ أمرهما.
واجتمعت على طلحة عوام طيِّئ وأسد. وارتدت غطفان إلا ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه وقدمت هوازن رجلا وأخرت أخرى، أمسكوا الصدقة إلا ما كان من ثقيف ومن إليهم فإنّهم أقيدوا بهم عوام جذيلة والأعجار، وارتدت خواص من سليم وكذلك سائر الناس من كل مكان.
وقدمت رسل النبي صلى اللَّه عليه وسلم من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد مع وفود من كان كاتبه النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأمر أمره في الأسود ومسيلمة وطليحة بالأخبار والكتب، فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وأخبره الخبر، فقال لهم: لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأوهى مما وصفهم، فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من كل مكان بأنقاض العرب عامة وخاصة وتبسطهم بأنواع المثل على المسلمين، فجاءهم أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بما كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جاءهم بالرسل، فردوا رسلهم بأمره واتبع الرسل وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، وكان أول من صادم عبس، وذبيان، عاجلهم وأعجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة وقدوم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمثل ذلك.

(14/221)


فخرج البخاري في أول كتاب الفتن [ (1) ] من حديث بشر بن السري، عن نافع عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: قالت أسماء عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: أنا على حوضي أنتظر من يرد علي فيؤذن بناس من دوني فأقول: أمتي فيقال: لا تدري، مشوا على القهقرى.
قال ابن أبي مليكة: اللَّهمّ إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن.
وخرج مسلم في كتاب المناقب [ (2) ] من حديث داود بن عمر الضبي قال:
حدثنا نافع بن عمر الجمحيّ، عن ابن أبي مليكة قال: قال عبد اللَّه بن عمرو ابن العاص الحديث. قال: وقالت أسماء بنت أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إني على الحوض حتى انظر من يرد علي منكم وسيؤخذ أناس من دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ واللَّه ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم
قال: فكان ابن أبي مليكة يقول: اللَّهمّ إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا.
وخرج مسلم من حديث وهب قال: سمعت عبد العزيز بن صهيب يحدث قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتم ورفعوا إلى اختلجوا دوني فلأقولن: أي رب أصحابي فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ذكره في المناقب [ (3) ] وخرجه البخاري في الرقاق [ (4) ] من حديث وهب حدثنا عبد العزيز، عن أنس، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 3، كتاب الفتن، باب (1) . ما جاء في قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وما كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يحذر من الفتن، حديث رقم (7048) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 61، كتاب الفضائل باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلم وصفاته، حديث رقم (2293) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 15/ 70، حديث رقم (40) وفي (الأصل) «المناقب» وأثبتناه من كتاب الفضائل.
[ (4) ] (فتح الباري) : 11/ 566، كتاب الرقاق، باب (53) في الحوض. وقول اللَّه تعالى:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حديث رقم (6582) .

(14/222)


اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقول لا تدري ما أحدثوا بعدك.
وله من حديث جرير وشعبة، عن مغيرة، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه. وخرج البخاري في كتاب الفتن [ (3) ] . ومسلم في المناقب [ (4) ] من حديث يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم قال سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول. أنا فرطكم على الحوض من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليردن على أقوام أعرفهم، ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم.
قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا الحديث فقال: هكذا سمعت سهلا؟ فقلت: نعم قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدريّ لسمعته يزيد فيه قال: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي. لفظهما فيه متقارب وقد تداخلت بعض ألفاظهم.
وخرجه مسلم [ (5) ] من حديث ابن وهب قال: حدثنا أسامة، عن أبي حازم، عن سهل، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم. وعن النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم بمثل حديث يعقوب. وخرجه البخاري بمثله في آخر كتاب الرقاق [ (6) ] .
وخرج فيه من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه كان يحدث أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول:
يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى [ (1) ] .
__________
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 4، حديث رقم (7050- 7051) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 59، كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلم وصفاته، حديث رقم (26) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي رقم (2291) بدون رقم.
[ (6) ] سبق تخريجه.
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 567، كتاب الرقاق، باب (53) في الحوض. وقول اللَّه تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (6585) .

(14/223)


ومن حديث ابن فليح قال: حدثنا هلال، عن عطاء، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم بسياقه أخرى.

قال المؤلف عفي اللَّه تبارك وتعالى عنه
وللردة أخبار كثيرة قد صنف المتقدمون فيها كتبا، وهي في الجملة كانت في إحدى عشرة فرقة: ثلاثة على عهد الرسول صلى اللَّه عليه وسلم وسبعة في خلافة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وواحدة في خلافة عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فالتي في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فبنو مذجح، قاموا مع الأسود ذي الخمار بسهلة بن كعب وقد ثنيا. وينوا حنيفة قاموا بأمر مسلمة وقد ثنيا. وبنو أسد قاموا بأمر طليحة بن خويلد وقد ثنيا.
وأما السبع التي في خلافة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فهم فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم هبيرة بن سلمة العشري. وبنو سليم قوم الفجاءة، واسمه بجير بن غياث بن عبد اللَّه بن عبد ياليل بن سلمة بن عميرة بن خفاق بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفه بن قيس غيلان بن مضر. وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر، وكندة قوم الأشعث بن قيس. وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحكم بن يزيد.
وأما التي في خلافة عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فهو ابن الأيهم. وسأورد نبذة من أخبارهم إن شاء اللَّه تعالي فأقول:

(14/224)


فأما قيام مذجح بأمر الأسود العنسيّ
واسمه عيهلة بن كعب بن عوف العنسيّ، بالنون وعنس بطن مذحج، وكان يلقب ذا الخمار لأنه كان معتمدا متخمرا أبدا. وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلم قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن عمل اليمن جميعه وأمره على جميع مخالفيه، فلم يزل عاملا عليه حتى مات. فلما مات باذان فرق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمراءه في اليمن، فاستعمل عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد، وعامر بن شهر على همدان، وعلي صنعاء شهر بن باذان، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى، وعلى الجند يعلي بن أمية، وكان معاذ معلما ينتقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت، واستعمل على أعمال حضرموت زياد ابن لبيد الأنصاري، وعلي السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلي بني معاوية بن كندة عبد اللَّه أو المهاجر، فاشتكى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر، فمات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهؤلاء عمالة على اليمن وحضرموت وكان أول من اعترض الأسود الكاذب شهر وفيروز وداذويه وكان الأسود العنسيّ لما عاد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من حجة الوداع وتمص [ ... ] من السفر غير مرض موته بلاغه ذلك، بلغه النبوة، وكان مشعبذا يريهم الأعاجيب، فاتبعه مذحج، وكانت ردة الأسود أول ردة في الإسلام على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وغزا نجران فأخرج عنها عمرو بن حزم وخالد بن سعيد، ووثب قيس بن عبد يغوث، ابن مكشوح على فروة بن مسيك، وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله، وسار الأسود عن نجران إلى صنعاء، وخرج إليه شهر بن باذان فلقيه، فقتل شهر لخمس وعشرين ليلة من خروج الأسود، وخرج معاذ هاربا حتى لحق بأبي موسي وهو بمأرب فلحقا بحضرموت، ولحق بفروة من قم على إسلامه من مذجح.
واستب للأسود ملك اليمن، ولحق أمراء اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة إلا عمرا وخالدا، فإنّهما رجعا إلى المدينة، والطاهر بجبال عك وجبال صنعاء، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والإحساء إلى عدن واستطار أمره كالحريق، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهرا سوى الركبان، واستغلظ أمره، وكان خليفته في مذجح عمرو بن

(14/225)


معديكرب، وكان خليفته على جنده قيس بن عبد يغوث، وأمر الأنباء إلى فيروز وداذويه.
وكان الأسود تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله، وهي ابنة عم فيروز وخاف من بحضرموت من المسلمين أن يبعث إليهم جيشا، أو يظهر بها كذاب مثل الأسود، فتزوج معاذ إلى السكون، فعطفوا عليه. وجاء إليهم وإلي من باليمن من المسلمين كتب النبي صلى اللَّه عليه وسلم يأمرهم بقتال الأسود، فقام معاذ في ذلك وقويت نفوس المسلمين، وكان الّذي قدم بكتاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم وبر بن يحنس الأزدي قال حنش الديلميّ: فجاءتنا كتب النبي صلى اللَّه عليه وسلم يأمرنا بقتاله إما مصادقة أو غيلة، بعثني إليه وإلى فيروز وداذويه، وأن نكاتب من عنده دين. فعلمنا في ذلك، فرأينا أمرا كثيفا، وكان قد تغير لقيس بن عبد يغوث، فقلنا: إن قيسا يخاف على دمه فهو لأول دعوة، فدعوناه وأبلغناه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم فكأنما نزلنا عليه من السماء، فأجبنا وكاتبنا الناس. فأخبره الشيطان شيئا من ذلك، فدعا قيسا فأخبره أن شيطانه يأمره بقتله لميله إلى عدوه، فخلف قيس: لأنت أعظم في نفسي من أن أحدث نفسي بذلك. ثم أتانا فقال: يا جنش ويا فيروز ويا داذويه، فأخبرنا بقول الأسود فبينا نحن معه يحدثنا إذا أرسل إلينا الأسود فتهددنا، واعتذرنا إليه ونجونا منه ولم نكد وهو مرتاب بنا ونحن نحذره فبينا نحن على ذلك إذا جاءتنا كتب عامر بن شهر وذي زود وذي مران وذي الكلاع وذي ظليم يبذلون لنا النصر، فكاتبناهم وأمرناهم أن لا يفعلوا شيئا حتى نبرم أمرنا أيضا إلى نجران فأجابوه، وبلغ ذلك الأسود وأحسن بالهلاك قال:
فدخلت على آزار، وهي امرأته التي تزوجها بعد قتل شهر بن باذان، فدعوتها إلى ما نحن عليه وذكرتها قتل زوجها شهر وإهلاك عشيرتها وفضيحة النساء.
فأجابت وقالت: واللَّه ما خلق اللَّه شخصا أبغض إلى منه، ما يقوم للَّه على حق ولا ينتهي عن محرم، فأعلموني أمركم أخبركم بوجه الأمر. قال: فخرجت وأخبرت فيروز وداذويه وقيسا. قال: وإذ قد جاء رجل فدعا قيسا إلى الأسود، فدخل في عشرة من مذحج وهمذان فلم يقدر على ما قتله معهم وقال له: ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب؟ إنه، يعني شيطانه، يقول لي: إلا تقطع من قيسي يده يقطع رقبتك. فقال قيس: إنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول اللَّه فمرني بما أحببت أو اقتلني، فموته أهون من موتنا. فرق له وتركه، وخرج قيس فمر بنا وقال: اعلموا عملكم. ولم يقعد عندنا- فخرج علينا الأسود في جمع، فقمنا له وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير، فنحرها ثم

(14/226)


خلاها ثم قل: أحق ما بلغني عنك يا فيروز؟ - وبوأ له لحرية- لقد هممت أن أنحرك. فقال: اخترتنا لصهرك وفضلته فلو لم تكن نبيا لما بعنا نصيبك منك بشيء فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الدنيا والآخرة! فقال له: أقسم هذه، فقسمها، ولحق به وهو يسمع سعاية رجل بفيروز وهو يقول له: أنا قاتله غدا وأصحابه، ثم التفت فإذا فيروز فأخبره بقسمتها، ودخل الأسود ورجع فيروز فأخبرنا الخبر، فأرسلنا إلي قيس فجاءنا.
فاجتمعنا على أن أعود إلي المرأة فأخبرها بعزيمتها ونأخذ رأيها، فأتيتها فأخبرتها فقالت: هو متحرز وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا، فإذا أمسيتم فانقلبوا عليه فإنكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء، وستجدون فيه سراجا وسلاحا.
فتلقاني الأسود خارجا من بعض منازله فقال: ما أدخلك علي؟ ووجأ رأسي حتى سقطت، وكان شديدا، فصاحت المرأة فأدهشته، وقالت: جاءني ابن عمي زائرا ففعلت به هذا؟ فتركني، فأتيت أصحابي فقلت: النجاء! الهرب! وأخبرتهم الخبر.
فإنا علي ذلك حياري إذ جاءنا رسولهم يقول: لا تدعن ما فارقتك منها- فعمل، فلما أخبرته قال: ننقب علي بيوت مبطنة، فدخل فاقتلع البطانة وجلس عندها كالزائر، فدخل عليها الأسود فأخذته غيره، فأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم، فأخرجه، فلما أمسينا عملنا في أمرنا أعلمنا أشياعنا وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين فنقبنا البيت ودخلنا، وفيه سراج تحت جفنة، واتقينا بفيروز كان أشدنا، فقلت: انظر ماذا ترى، فخرج ونحن بينه وبين الحرس. فلما دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا والمرأة قاعدة، فلما قام على باب البيت أجلسه الشيطان وتكلم على لسانه وقال: ما لي ولك يا فيروز! فخشي إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ برأسه فقتله ودق عنقه وضع ركبته في ظهره فدقه ثم قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه وهي تراه انه لم يقتله فقال: قد قتلته وأرحتك منه، وخرج فأخبرنا، فدخلنا معه، فخار كما يخور الثور، فقطعت رأسه بالشفرة، وابتدر الحرس المقصورة يقولون: ما هذا؟ فقالت المرأة: النبي يوحى إليه!

(14/227)


فخمدوا، وقعدنا نأتم بيننا، فيروز ودوادويه وقيس، كيف نخبر أشياعنا، فاجتمعنا على النداء.
فلما طلع الفجر نادينا بشعارنا الّذي بيننا وبين أصحابنا، ففزع المسلمون والكافرون، ثم نادينا بالأذان فقلت: أشهد ان محمد رسول اللَّه وأن عيهلة كذاب! وألقينا إليهم رأسه، وأحاط بنا أصحابه وحرسه وشنوا الغارة وأخذوا صبيانا كثيرة وانتبهوا. فنادينا أهل صنعاء من عنده منهم فأمسكه، ففعلوا. فلما خرج أصحابه فقدوا سبعين رجلا، فراسلونا وأرسلناهم على أن يتركوا لنا ما في أيديهم ونترك ما في أيدينا، ففعلنا، ولم يظفروا منا بشيء، وترددوا ما بين صنعاء ونجران. وتراجع أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى أعمالهم، وكان يصلي بنا معاذ بن جبل، وركبنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، بخبره، وذلك في حياته.
وأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا، وقد توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأجابنا أبو بكر. قال ابن عمر: أتي الخبر من السماء إلي النبي صلى اللَّه عليه وسلم، في ليلته التي قتل فيها، فقال: قتل العنسيّ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين، قيل:
من قتله؟ قال: قتله فيروز.
قيل: كان أول أمر العنسيّ إلي آخره ثلاثة أشهر، وقيل قريب من أربعة أشهر، وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول بعد موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فكان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة.
قال فيروز: لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤمنون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود فأتي موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فانتقضت الأمور واضطربت الأرض [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ لابن الأثير) : 336- 341. 3

(14/228)


وأما قيام حنيفة بأمر مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب ابن الحارث بن عبد الحارث بن عدي بن حنيفة يكنى أبا ثمامة وقيل أبو هارون [ (2) ]
عن رافع بن خديج قال: قدمت علي النبي صلى اللَّه عليه وسلم وفود العرب فلم يقدم علينا وفد أقسى قلوبا ولا أحرى أن يكون الإسلام لم يقر في قلوبهم من بني حنيفة، وقد يقوم ذكر قدوم مسيلمة وأنه ذكر لرسول اللَّه، فقال: أما إنه ليس بشركم مكانا! لما كانوا أخبروه به من أنهم تركوه في رجالهم حافظا لها.
ويروى من حديث ابن عباس: أن مسيلمة قال عند ما قدم في قومه: لو جعل لي محمد الخلافة من بعده لا تبعته، فجاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منحية من نخل فوقف عليه ثم قال: لئن أقبلت ليفعلن اللَّه بك ولئن أدبرت ليقطعن اللَّه دابرك وما أراك إلا الّذي رأيت فيه ما رأيت، ولئن سئلت هذه الشطبة- لشطبة من المنحية التي في يده- ما أعطيكما- وهذا ثابت يجيبك.
قال ابن عباس: فسألت أبا هريرة عن قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم ما أراك إلا الّذي رأيت فيه ما رأيت. قال: كان رسول اللَّه قال: بينا أنا نائم رأيت سوارين من ذهب فنفختهما فطارا فوقع أحدهما باليمامة والآخر باليمن.
قيل: ما أولتهما يا رسول اللَّه؟ قال: أولتهما كذابين يخرجان من بعد.
ولما انصرف مسيلمة في قومه إلى اليمامة ارتد عدوا اللَّه وأدعي الشركة في النبوة مع النبي وقال للوفد الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: أما إنه ليس يشركم مكانا! ما ذاك إلا علم أني أشركت في الأمور معه! وكتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من مسيلمة رسول اللَّه إلى محمد رسول اللَّه أما بعد فإنّي قد أشركت في الأمر معك. وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يعتدون.
__________
[ (2) ] (جمهرة أنساب العرب) : 310.

(14/229)


وقدم علي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بهذا الكتاب رسولا لمسيلمة فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين قرأ كتابه: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال! فقال أما واللَّه لولا ان الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثم كتب إلى مسيلمة: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللَّه إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
قال ابن إسحاق: وكان ذلك في آخر سنة 10 هـ. وذكر غيره أن ذلك كان بعد انصراف النبي صلى اللَّه عليه وسلم من حجة الوداع ووقوعه في المرض الّذي توفاه اللَّه فيه، فاللَّه تعالي أعلم.
وجد لعدو اللَّه الضلال بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأصفقت معه حنيفة علي ذلك إلا أفراد من ذوي عقولهم ومن أراد اللَّه به الخير منهم. وكان من أعظم ما فتن به قومه شهادة الرجال أنه قدم مع قومه وافدا النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقرأ القرآن وتعلم السنن قال ابن عمر: وكان من أفضل الوفد عندنا، قرأ البقرة وآل عمران، وكان يأبى أبيا يقرأه، فقدم اليمامة وشهد لمسيلمة على رسول اللَّه أنه أشركه في الأمر من بعده، فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من غيره لما كان يعرف به قال رافع بن خريج: كان بالرجال الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير في ما نري شيء عجيب، خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوما وهو معنا جالس مع نفر فقال أحد هؤلاء النفر في النار. قال رافع فنظرت في القوم فإذا بأبي هريرة وأبي أروي الدوسيّ وطفيل بن عمرو الدوسيّ والرجال بن عنفوة، فجعلت انظر واجب وأقول: من هذا الشقي؟ فلما توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رجعت بنو حنيفة، فسألت ما فعل الرجال؟ فقالوا: أفتن، هو الّذي شهد لمسيلمة علي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه أشركه في الأمر عبده. فقلت: ما قال رسول اللَّه فهو حق. قالوا:
وسمع الرجال يقول: كبشان انتطحا فأحبهما إلينا كبشنا.
وكان ابن اليشكري من سراة أهل اليمامة وأشرافهم وكان مسلما يكتم إسلامه وكان صديقا للرجال، فقال شعرا فشا في اليمامة حتى كانت المرأة والوليدة والصبي ينشدونه فقال: سعاد الفواد بنت أثال طال ليلي بفتنة الرجال إنها يا سعاد من حدث الدهر عليكم كفتنة الرجال فتن القوم بالشهادة وله عزيز

(14/230)


ذو قوة ومحال لا يساوي الّذي يقول من الأمر قبالا وما احتذي به من نعال أن ديني دين النبي وفي القوم رجال على الهدي امثالي أهلك القوم محكم بن طفيل ورجال ليسوا لنا برجال بزهم أمرهم مسيلمة اليوم فلن يرجعوه أخرى الليالي قلت للنفس إذ تعاظمها الأمر له فرجة كحل العقال إن تكن ميتي على فطرة اللَّه حنيفا فأنني لا أبالي فبلغ ذلك مسيلمة ومحكما وأشراف أهل اليمامة فطلبوه ففاتهم ولحق بخالد بن الوليد فأخبره بحال أهل اليمامة ودله على عوراتهم.
وقالوا إن رجلا من نبي حنيفة كان أسلم وأقام عند رسول اللَّه فحسن إسلامه فأرسله رسول اللَّه إلى مسيلمة ليقدم به عليه. وقال الحنفي: إن أجاب أحدا من الناس أجابني وعسي أن يجيئه اللَّه. فخرج حتى أتاه فقال: إن محمدا قد أحب أن تقوم عليه، فإنك لو جئته فيلقي هذه المقالة إليه فلما أكثر عليه قال: انظر في ذلك، فشاور الرجال بن عنفوة وأصحابه فقالوا: لا تفعل إن قدمت عليه قتلك، ألم تسمع كلامه وما قال؟ فأبي مسيلمة أن يقوم معه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبعث معه رجلين ممن يصدق ب ليكلماه ويخبراه بما قال للحنفي.
فخرج الرسولان حتى قدما علي رسول اللَّه مع رسوله فتشهد أحدهما برسول اللَّه وحده ثم كلمه بما بدأ له، فلما قضي كلامه تشهد الآخر فذكر رسول اللَّه وذكر مسيلمة فقال رسول اللَّه: كذبت، خذوا هذا فاقتلوه،
فثار المسلمون إليه يلببونه وأخذ صاحبه بحجزته وجعل يقول: يا رسول اللَّه أعف عنه بأبي أنت وأمي فيجاذبه المسلمون؟ فلما أرسلوه تشهد بذكر رسول اللَّه وحده وأسام هو وصاحبه. فلما توفي رسول اللَّه خرجا فقدما علي أهليهما باليمامة. وقد فتن الّذي أمسك. بجحرة صاحبه ذلك فقتل مع مسيلمة وثبت الممسك بحجزته وكان بعد يخبر خالد بن الوليد بعورة بني حنيفة وأخبر رسول اللَّه رسوله إلي مسيلمة كيف رفق به حتى أراد أن يقدم لولا أن الرجال نهاه،
فقال رسول اللَّه: يقتله اللَّه ويقتل الرجال معه، ففعل اللَّه ذلك بهما وأنجز وعده فيهما [ (1) ] .
__________
[ (1) ] تاريخ الردة: 56- 61.

(14/231)


وأما قيام بني أسد بما كان من أمر طليحة
وكان طليحة بن خويلد الأسدي من بني أسد بن خزيمة قد تنبأ في حياة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فوجه إليه النبي صلى اللَّه عليه وسلم ضرار ابن الأزور عاملا على بني أسد وأمرهم بالقيام على من ارتد فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه، فضربه بسيف فلم يصنع فيه شيئا، فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه، فكثر جمعه.
ومات النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وهم على ذلك، فكان طليحة يقول: عن جبرائيل يأتيني.
وسجع للناس الأكاذيب، وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول: إن اللَّه لا يصنع بتعفر وجوهكم وتقبح أدباركم شيئا، اذكروا اللَّه أعفة قياما، إلى غير ذلك، وتتبعه كثير من العرب عصبية، فلهذا كان أكثر أتباعه من أسد وغطفان وطيِّئ. فسارت فزارة وغطفان إلى جنوب طيبة، وأقامت طيِّئ على حدود أراضيهم وأسد بسميراء، واجتمعت عبس وثعلبة ابن سعد ومرة بالأبرق من الربدة، واجتمع إليهم ناس من نبي كنانة، فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين، أقامت فرقة بالأبرق، وسارت فرقة إلي ذي القصة، وأمدهم طليحة بأخيه حبال، فكان عليهم وعلي من معهم من الدئل وليث ومدلج، وأرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة، فقال أبو بكر: واللَّه لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه. وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة وردهم، فرجع وفدهم فأخبروهم بقلة من في المدينة وأطمعوهم فيها.
وجعل أبو بكر بعد مسير الوفد على أنقاب [ (2) ] المدينة عليا وطلحة والزبير وابن مسعود، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد خوف الغارة من العدو لقربهم، فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل وخلقوا بعضهم بذي حسي ليكونوا لهم رداء، فوافوا ليلا الأنقاب وعليها المقاتلة فمنعوهم، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فخرج إلى أهل المسجد على النواضح، فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسي، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وفيها الحبال، ثم دهدهوها على الأرض، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها ورجعت
__________
[ (2) ] أنصار. (والأنقاب، واحدها النقب: الطريق في الجبل) .

(14/232)


بهم إلى المدينة ولم يصرع مسلم. وظن الكفار بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم، وبات أبو بكر يعبي الناس، وخرج علي تعبية يمشي وعلي ميمنته النعمان بن مقرن وعلى مسيرته عبد اللَّه بن مقرن وعلى أهل الساقة سويد ابن مقرن. فما طلع الفجر إلا وهم العدو على صعيد واحد، فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا فيهم السيوف، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم وقتل رجال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد، ورجع إلى المدينة، فذل له المشركون. فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، فحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وازداد المسلمون قوة وثباتا.
وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على صدقة الناس، بهم صفوان والزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم، وذلك لتمام ستين يوما من مخرج أسامة، وقدم أسامة بعد ذلك بأيام، وقيل: كانت غزوته وعوده في أربعين يوما. فلما قدم أسامة استخلفه أبو بكر المدينة وجنده معه ليستريحوا ويريحوا ظهرهم، ثم خرج فيمن كان معه، فناشده المسلمون ليقيم، فأبي وقل: لأواسينكم بنفسي.
وسار إلي ذي حسي وذي القصة حتى نزل بالأبراق فقاتل من به، فهزم اللَّه المشركين وأخذ الخطبة أسيرا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر بالأبراق أياما، وغلب علي بني ذبيان وبلادهم وحماها لدواب المسلمين وصدقاتهم.
ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو بزاخة، وكان رحل من سميراء إليها، فأقام عليها، وعاد أبو بكر إلى المدينة. فلما استراح أسامة وجنده، وكان قد جاءهم صدقات كثيرة تفضل عليهم، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء، عقد لواء لخالد بن الوليد وأمره بطليحة ابن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن قام له، وعقد لعكرمة ابن أبي أمية وأمره بجنود العنسيّ ومعونة الأبناء على قيس بن مكشوح، ثم يمضي إلي كندة بحضرموت، وعقد لخالد بن سعيد وبعثه إلي مشارف الشام،

(14/233)


وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلي قضاعة، وعقد لحذيفة بن محصن الغفاني وأمره بأهل دبا، وعقد لعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة وأمرهما ان يجتمعا وكل واحد منهما علي صاحبه في عمله. وبعث شرحبيل بن حسنة في أثر عكرمة بن أبي جهل وقال: إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة وأنت علي خيلك تقاتل أهل الردة. وعقد لمعن بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن، وعقد لسويد بن مقرن وأمره بتهامة باليمن، وعقد للعلاء بن الحضرميّ وأمره بالبحرين، ففضلت الأمراء من ذي القصة ولحق بكل أمير جنده، وعهد إلي كل أمير وكتب إلي جميع المرتدين نسخة واحدة واحدة يأمرهم بمراجعة الإسلام ويحذرهم، وسير الكتب إليهم مع رسله. ولما اهزمت عبس وذبيان ورجعوا إلي طليحة ببزاخة أرسل إلي جديلة والغوث من طيِّئ يأمرهم باللحاق به فتعجل إليه بعضهم وأمروا قومهم باللحاق بهم، فقدموا علي طليحة.
وكان أبو بكر بعث عدي بن حاتم قبل خالد إلي طيِّئ بالبطاح ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له. وأظهر أبو بكر للناس أنه خارج إلي خيبر بجيش حتى يلاقي خالدا، يرهب به العدو بذلك.
وقدم عدي علي طيِّئ فدعاهم وخوفهم، فأجابوه وقالوا له: استقبل الجيش فأخره عنا حتى نستخرج من عند طليحة منا لئلا يقتلهم. فاستقبل عدي خالدا وأخبره بالخبر، فتأخر خالد، وأرسلت طيِّئ إلى إخوانهم عند طليحة فلحقوا بهم، فعادت طيِّئ إلى خالد بإسلامهم، ورحل خالد يريد جديلة، فاستمهله عدي عنهم، ولحق بهم عدي يدعوهم إلى الإسلام، فأجابوه، فعاد إلى خالد بإسلامهم، ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم، وكان خير مولود في ارض طيِّئ وأعظمه بركة عليهم.
وأرسل خالد بن الوليد عكاشة بن محصن وثابت بن قرم النصارى طليعة، فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه، فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخوه سلمة، فقتل طليحة عكاشة وقتل أخوه ثابتا ورجعا.

(14/234)


وأقبل خالد بالناس فرأوا عكاشة وثابتا قتيلين، فخرج لذلك المسلمون، وانصرف بهم خالد نحو طيِّئ، فقالت له طيِّئ: نحن نكفيك قيسا، فإن بني أسد حلفاؤنا. فقال: قاتلوا أي الطائفتين شئتم. فقال عدي بن حاتم: لو نزل هذا علي الذين [هم] أسرتي الأدنى فالأدنى لجاهدتهم [ (1) ] عليه، واللَّه لا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم. فقال له خالد. إن جهاد الفريقين جهاد، لا تخالف رأي أصحابك وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، ثم تعبي لقتالهم، ثم سار حتى التقيا على بزاخة، وبنو عامر قريبا يتربصون على من تكون الدائرة، قال: فاقتتل الناس على بزاخة.
وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة، فقاتلوا قتالا شديدا وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم، فلما اشتدت الحرب كبر عيينة على طليحة وقال له: هل جاءك جبرائيل بعد؟ قال لا، فرجع فقاتل، ثم كر على طليحة فقال له: لا أبا لك! أجاءك جبرائيل؟ قال: لا. فقال عيينة: حتى متى؟ قد واللَّه بلغ منا! ثم رجع فقاتل قتالا شديدا ثم كر على طليحة فقال: هل جاءك جبرائيل؟ قال: نعم. قال: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إن رحى كرحاه، وحديثا لا تنساه. فقال عيينة: قد علم اللَّه أنه سيكون حديث لا تنساه، انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب، فانصرفوا وانهزم الناس.
وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار، فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها وقال: يا معشر فزارة من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل. ثم انهزم فلحق بالشام، ثم نزل على كلب فأسلم حين بلغه ان أسدا وغطفان قد أسلموا، ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر.
وكان خرج معتمرا [في إمارة أبي بكر] ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة! فقال: مال أصنع به؟ قد أسلم! ثم أتي عمر فبايعه حين استخلف. فقال له: أنت قاتل عكاشة وثابت؟ واللَّه لا أحبك أبدا! فقال:
يا أمير المؤمنين ما يهمك من رجلي أكرمهم اللَّه بيدي ولم يهني بأيديهما!
__________
[ (1) ] لجاهدتم.

(14/235)


فبايعه عمر وقال له: ما بقي من كهانتك؟ فقال: نفخة أو نفختان [بالكير] .
ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلي العراق.
ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن، فقدم علي أبي بكر، فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف: يا عدو اللَّه أكفرت بعد إيمانك؟
فيقول: واللَّه ما آمنت باللَّه طرفة عين. فتجاوز عنه أبو بكر وحق دمه. وأخذ من أصحاب طليحة رجل كان عالما به، فسأله خالد عما يقول فقال: إن مما أتى به: والحمام واليمام، والصرد والصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام.
قال: ولم يؤخذ منهم سبي لأنهم قد أحرزوا حريمهم، فلما انهزموا أقروا بالإسلام خشية على عيالاتهم، فأمنهم.
حبال بكسر الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وبعد الألف لام. وذو القصة بفتح القاف، والصاد المهملة. وذو حسي بصم الحاء المهملة والسين المهملة المفتوحة. ودبا بفتح الدال المهملة، وبالباء الموحدة. وبزاخة بضم الباء الموحدة، وبالزاي، والخاء المعجمة [ (1) ]

وأما ردة عيينة بن حصن الفزاري
وكنيته أبو مالك فإنه كان من الأعراب الجفاة. وأسلم واستعمله النبي صلى اللَّه عليه وسلم على فزارة والتقى مع طليحة الأسدي بمكان يقال له: بزاخة ووقف أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه ومن التف معهم وانصاف غليهم، وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه، بني فزارة، واصطف الناس، وجلس طليحة ملتفا في كساء له يتنبأ لهم ينظر ما يوحي إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل ما يقاتل، حتى إذا ضجر من القتال يجيء إلى طليحة وهو ملتف في كسائه فيقول: أجاءك جبريل؟ فيقول: لا، فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثل ذلك ويرد عليه
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ لابن الأثير) : 2/ 343- 349.

(14/236)


مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟ قال: نعم، قال:
فما قال لك؟ قال: قال لي إن لك رحاء كرحاه، وحديثا لا تنساه، قال يقول عيين، أظن ان قد علم اللَّه سيكون لك حديث لا تنساه، ثم قال: يا بني فزارة انصرفوا، انهزم وانهزم الناس على طليحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس قد أعدها له، وأركب امرأته النوار على بعير له، ثم انهزم بها إلي الشام وتفرق جمعه، وقد قتل اللَّه طائفة ممن كان معه، فلما أوقع اللَّه بطليحة وفزارة ما أوقع قالت بنو عامر وسليم وهوازن ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن باللَّه ورسوله، ونسلم لحكمة في أموالنا وأنفسنا. قلت: وقد كان الأسدي ارتد عن الإسلام، وقال لقوله: واللَّه لنبي من بني أسد أحب إلي من نبي من نبي هاشم، وقد مات محمد وهذا طليحة فاتبعة، فوافق قومه بنو فزارة على ذلك، فلما كسرهما خالد هرب طليحة بامرأته إلي الشام، فنزل على بني كلب وأسر خالد عيينة بن حصن، وبعث به إلي المدينة مجموعة يداه إلي عنقه، فدخل وهو كذلك فجعل الولدان والغلمان يطعنونه بأيديهم، ويقولون: أي عدو اللَّه، ارتددت عن الإسلام؟ فيقول: واللَّه ما كنت آمنت قط، فلما وقف بين يدي الصدّيق استتابه وحقن دمه، ثم حسن إسلامه بعد فأسره مع عيينة، وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك أيضا، وذهب إلي مكة معتمرا أيام الصديق، واستحيي أن يواجهه مدة حياته، وقد رجع فشهد القتال مع خالد، وكتب الصديق إلي خالد: أن استشره في الحرب ولا تؤمره- يعني معاملته له بنقيض ما كان قصده من الرئاسة في الباطن- وهذا من فقه الصديق- رضي اللَّه تبرك وتعالي عنه وأرضاه-، وقد قال خالد بن الوليد لبعض أصحابه طليحة ممن أسلم وحسن إسلامه: أخبرنا عما كان يقول لكم طليحة من لوحي، فقال: إنه كان يقول: الحمام واليمام والصرد والصوام، قد ضمن قبلكم بأعلام ليبلغن ملكنا العراق والشام، إلي غير ذلك من الخرافات والهنديانات [ (1) ] .
__________
[ (1) ] البداية والنهاية: 6/ 350.

(14/237)


وأما ردة قرة بن هبيرة بن مسلمة القشيري في غطفان
فإنه اجتمع له عسكر من بني عامر على أن لا يؤدي الزكاة وذلك بعد موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم وصارت وبنو عامر تقدم رجلا وتؤخر أخرى، وتنظر ما صنع أسد وغطفان فلما أحيط بهم وبنو عامر علي قادتهم وسادتهم: قرة بن هبيرة في كعب ومن لافها وعلقمة بن علاثة في كلاب ومن لافها. فلما مر عمرو بن العاص بقرة منصرفه من عمان بعد وفاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنزله وأكرمه.
فلما أراد أن يرحل قال له: يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم أنفسا بالإتاوة فإن أنتم أغنيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم فقال عمرو: أكفرت يا قرة؟ وخوله بنو عامر فكره أن تبوح لمتابعتهم فيكفروا، أو بمتابعته فينفروا، فيقول: لنردنكم إلي فئتكم، وكلما سأله عمرو: أكفرت يا قرة؟ يقول: لنردنكم إلي فئتكم، واجعلوا بيننا وبينكم موعدا. فقال عمرو: أتوعدنا بالعرب ونحو فئاتها، موعدك حشف أمك، فو اللَّه لأوطنه عليك الحبل.
وقدم علي أبي بكر والمسلمين، فأخبرهم خبر ما بين عمان إلي المدينة فلما كان يوم البزاخة أقبلت بنو عامر إلي خالد بن الوليد يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، فبايعهم علي الإسلام.

وأما ردة بني يربوع قوم مالك بن نويرة ابن حمزة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة ابن يربوع بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم
لما رجعت سجاح إلي الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة وندم وتحير في أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا فراجعا رجوعا حسنا ولم يتجبرا، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالدا وسار خالد بعد أن فرغ من فزارة وغطفان

(14/238)


وأسد وطيِّئ يريد البطاح وبها مالك بن نويرة قد تردد عليه أمره وتخلفت الأنصار عن خالد وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا إن نحن فرغنا من بزاخة أن نقيم حتى يكتب إلينا، فقال خالد: قد عهد إلي أن أمضي وأنا الأمير ولو لم يأت كتاب بما رأيته فرصة، وكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس فيه منه عهد لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به، فأنا قاصد إلي مالك ومن معي ولست أكرههم، ومضي خالد، وندمت الأنصار وقالوا: إن أصاب القوم خيرا حرمتوه، وإن أصيبوا ليجتنبنكم الناس، فلحقوه ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد بها أحدا، وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع وقال: يا بني يربوع إنا دعينا إلي هذا الأمر، فأبطأنا عنه، فلم نفلح، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتي لهم بغير سياسة وإذا الأمر لا يسوسه الناس فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرقوا وأدخلوا في هذا الأمر فتفرقوا علي ذلك.
ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام، وأن يأتوه بكل من لم يحب وإن امتنع أن يقتلوه، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلا، فإن أذن القوم فكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فاقتلوه وانهبوا وإن أجابوكم إلي داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم، وإن أبوا فقاتلوهم.
قال: فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلب بن يربوع فاختلفت السرية فيهم، وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء، فأمر خالد مناديا فنادى: ادفئوا أسراكم وهي في لغة كنانة القتل فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم فقتل ضرار بن الأزور مالكا. وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم. فقال إذا أراد اللَّه أمرا أصابه، وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك فقال عمر لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في ذلك، فقال: هيه يا عمر، تأول فأخطأ فارفع لسانك عن خالد، فإنّي لا أشيم سيفا سله اللَّه على الكافرين، وودى مالكا، وكتب إلي خالد أن يقدم عليه، ففعل ودخل عليه المسجد وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهما فقام إليه عمر

(14/239)


فنزعها وحطمها، وقال قتلت امرأ مسلما، ثم نزوت علي امرأته، واللَّه لأرجمنك بأحجارك، وخالد لا يكلمه، يظن أن رأي أبي بكر مثله، ودخل علي أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه وعنفه في التزويج الّذي كانت عليه العرب من كراهة أيام الحرب فخرج، وعمر جالس فقال هلم إلي يا ابن أم سلمة فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه وقيل: إن المسلمين لما غشوا مالكا وأصحابه ليلا أخذوا السلاح فقالوا: نحن المسلمين، فقال أصحاب مالك: ونحن المسلمين، فقالوا لهم: ضعوا السلاح، فوضعوه، ثم صلوا وكان يعتذر في قتله أنه قال: ما إخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا، فقال له أو ما تعده لك صاحبا؟ ثم ضرب عنقه وقدم متمم بن نويرة على أبي بكر يطلب بدم أخيه ويسأله أن يرد عليهم سبيهم، فأمر أبو بكر برد السبي وودى مالكا من بيت المال.
ولما قدم على عمر قال له: ما بلغ بك الوجد على أخيك؟ قال بكيته حولا حتى أسعدت عيني الذاهبة عيني الصحيحة، وما رأيت نارا قط إلا كدت أنقطع أسفا عليه، لأنه كان يوقد ناره إلي الصبح مخافة أن يأتيه ضيف ولا يعرف مكانه، قال: فصفه لي، قال كان يركب الفرس الحرون، ويقود الجمل الثقال وهو بين المزادتين النضوختين في الليلة القرة وعليه شملة فلوت، معتقلا، رمحا خطلا، فيسري ليلته ثم يصبح وكأن وجهه فلقة قمر. قال: أنشدني بعض ما قلت فيه، فأنشد مرثيته التي يقول فيها:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فقال عمر: لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيدا، فقال متمم: ولا سواء يا أمير المؤمنين لو كان أخي صرع مصرع أخيك لما بكيته.
فقال عمر: ما عزائي أجد بأحسن مما عزيتني به، وفي هذه الوقعة قتل الوليد وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد وهما ابنا أخي خالد، لهما صحبة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ لابن الأثير) : 2/ 357- 360.

(14/240)


وأما سجاح بنت الحارث بن سويد ابن عقفان التميمية
قد أقبلت من الجزيرة وادعت النبوة، وكانت ورهطها في أخوالها من تغلب تقود أفناء ربيعة، معها الهزيل بن عمران في بني تغلب، وكان نصرانيا فترك دينه، وتبعها، وعقبة بن هلال في النمر، وزياد بن فلان أياد، والسليل ابن قيس في شيبان، فأتاهم أمر أعظم مما هم فيه لاختلافهم.
وكانت سجاح تريد غزو أبي بكر، فأرسلت إلي مالك بن نويرة تطلب الموادعة، فأجابها وردها من غزوها وحملها على أحياء من بني تميم، فأجابته وقالت: أنا امرأة من بني يربوع، فإن كان ملك فهو لكم. وهرب منها عطارد ابن حاجب وسادة بني مالك وحنظلة إلي بني العنبر، وكرهوا ما صنع وكيع وما صنع مالك بن نويرة، واجتمع مالك ووكيع وسجاح فسجعت لهم سجاح وقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا علي الرباب فليس دونهم حجاب. فساروا إليهم، فلقيهم حنبة وعبد مناة فقتل بينهم قتلى كثيرة وأسر بعضهم من بعض ثم تصالحو، وقال قيس بن عاصم شعرا ظهر فيه ندمه على تخلفه عن أبي بكر بصدقته. ثم صارت سجاح في جنود الجزيرة حتى بلغت النياح، فأغار عليهم أوس بن خزيمة الهجيمي في بني عمرو فأسر الهزيل وأعتقه، ثم اتفقوا على أن يطلق أسرى سجاح ولا يطأ أرض أوس ومن معه.
ثم خرجت سجاح في الجنود وقصدت اليمامة وقالت: عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنّها غزوة حرامه، لا يلحقكم بعدها ملامة. فقصدت ابن حنيفة، فبلغ ذلك مسيلمة فخاف إن هو شغل بها أن يغلب ثمامة وشرحبيل بني حسنة والقبائل التي حولهم على حجر، وهي اليمامة، فأهدى لها ثم أرسل إليها يستأمنها علي نفسه حتى يأتيها، فأمنته، فجاءها في أربعين من بني حنفية فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد اللَّه عليك النصف الّذي ردت قريش.
وكان مما شرع لهم أن من أصاب ولدا واحدا ذكرا لا يأتي النساء يموت ذلك الولد فيطلب الولد حتى يصيب ابنا ثم ينسك، وقيل: بل تحصن منها،

(14/241)


فقالت له: انزل، فقال لها: أبعدي أصحابك ففعلت، وقد ضرب لها قبة وجحرها لتذكر بطيب الريح الجماع، واجتمع بها فقالت له: ما اوحي إليك ربك؟ فقال ألم تر إلي ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى بين صفاق وحشي. قالت: وماذا أيضا؟ قال: إن اللَّه خلق النساء أفواجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فتولج فيهن قعسا إيلاجا، ثم تخرجها إذا تشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا. قالت: أشهد أنك نبي. قال هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم. قالت: بذلك أوحي إلي فأقامت عنده ثلاثا ثم انصرف إلي قومها، فقالوا لها: ما عندك؟ قالت: كان علي الحق فتبعته وتزوجته. قالوا: هل أصدقك شيئا؟ قالت: لا. قالوا: فارجعي فاطلبي الصداق، فرجعت. فلما رآها أغلق باب الحصن وقال: ما لك؟ قالت:
أصدقني. قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي، فدعاه وقال له: ناد في أصحابك أن مسيلمة رسول اللَّه قد وضع عنكم صلاتين مما جاءكم به محمد: صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة.
فانصرفت ومعها أصحابها، منهم: عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن خرشة وشبث بن ربعي، فقال عطارد بن حاجب:
أمست نبيتنا أنثى نطوف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وصالحها مسيلمة على غلات اليمامة سنة تأخذ النصف وتترك عنده من يأخذ النصف، فأخذت النصف وانصرفت إلي الجزيرة وخلقت الهذيل وعقة وزيادا لأخذ النصف الباقي، فلم يفاجئهم إلا دنو خالد إليهم فارفضوا.
فلم تزل سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام الجماعة وجاءت معهم وحسن إسلامهم وإسلامها، وانتقلت إلي البصرة وماتت بها وصلي عليها سمرة ابن جندب وهو على البصرة لمعاوية قبل قدوم عبيد اللَّه بن زياد من خراسان وولايته البصرة.
وقيل: إنها لما قتل مسيلمة سارت إلي أخواله تغلب بالجزيرة فماتت عندهم ولم يسمع لها ذكر [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الكامل لابن الأثير) : 2/ 354- 357.

(14/242)


وأما ردة الأشعث بن قيس بن معديكرب
ابن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة بن عفير بن الحارث بن مرة بن أزد بن زيد يستحث بني عدي بن مهد بن كهلان بن سبإ بن يعرب بن قحطان الكندي، فإنه كان مطاعا في الجاهلية يقوم بأمر كندة، فارتد فيمن ارتد وخرج في بني الحارث ابن معاوية إلي المحاجر ونزل محجرا وقد طابقت معاوية كلها على منع الصدقة وأجمعوا على الردة إلا قليلا، فجمع بني الحارث بن معاوية، وبني عمرو بن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك وغيرهم فانضم المهاجر بن أبي أمية إلي زياد بن لبيد، فكانت وقعة بينهم وبين كندة، وعليهم الأشعث بمحجر الزرقان، فانهزمت كندة إلي الجحيم فقدم عكرمة بن أبي جهل على المهاجر وزياد، وحصروا المير وقطعوا المواد عنه، ثم اقتتلوا حتى كثرت القتلى، فخرج الأشعث إلي عكرمة بأمان فأرسله المهاجر إلي أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- فعفا عنه.

وأما الحكم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة
فإنه خرج لما مات النبي صلى اللَّه عليه وسلم في من اتبعه من بكر بن وائل فاجتمع إليه من غير المرتدين ممن لم يزل مشركا حتى نزل القطيف وهجر واستغووا الخط ومن بها من الزط والسبابجة وبعث بعثا إلي دارين وبعث إلي جواثا فحصر المسلمين فاشتد الحصر علي من بها، فقال عبد اللَّه بن حذف وقد قتلهم الجوع:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلي قوم كرام ... تعود في جواثا محصرينا
كأن دماؤهم في كل فج ... شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا علي الرحمن إنا ... وجدنا النصر للمتوكلينا

(14/243)


وكان سبب استنفاذ العلاء بن الحضرميّ من إياهم أن أبا بكر كان قد بعثه علي قتال أهل الردة بالبحرين فلما كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال الحنفي أيضا لحقه في مثل عدته فسلك الدهناء حتى إذا كانوا في بحبوحتها نزل وأمر الناس بالنزول في الليل فنفرت إبلهم بأحمالها فما بقي عندهم بعير ولا زاد ولا ماء فلحقهم من الغم ما لا يعلمه إلا اللَّه وأوصي بعضهم بعضا فدعاهم العلاء فاجتمعوا إليه فقال: ما هذا الّذي غلب عليكم من؟ الغم فقالوا كيف نلام ونحن إن بلغنا غدا لم تحم الشمس حتى نهلك فقال لن تراعوا أنتم المسلمون وفي سبيل اللَّه وأنصار اللَّه فأبشروا فو اللَّه لن تأخذوا فلما صلوا الصبح دعا العلاء ودعوا معه فلمع لهم الماء فمشوا إليه وشربوا واغتسلوا فما تعالي النهار حتى أقبلت الإبل تجمع من كل وجه فأناخت إليهم فسقوها وكان أبو هريرة فيهم فلما ساروا عن ذلك المكان قال لمنجاب بن راشد كيف علمك بموضع الماء؟ قال عارف به فقال له كن معي حتى تقيمني عليه قال فرجعت به إلي ذلك المكان فلم نجد إلا غدير الماء فقلت له واللَّه لولا الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان وما رأيت بهذا المكان ماء قبل اليوم، وإذا إداوة مملوة ماء فقال أبو هريرة هذا وللَّه المكان ولهذا رجعت بك وملأت إدواتي تم وضعتها على شفير الغدير وقلت: إن كان منا من المن عرفته وإن كان عنا عرفته فإذا من من المن فحمد اللَّه ثم ساروا فنزلوا بهجر وأرسل العلاء إلي الجارود يأمره أن ينزل بعبد القيس على الحطم مما يليه وسار هو فيمن معه حتى نزل عليه مما يلي هجر فاجتمع المشركون إلي العلاء وخندق المسلمون علي أنفسهم والمشركون وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلي خندقهم فكانوا كذلك شهرا فبينما هم كذلك سمع المسلمون ضوضاء هزيمة أو قتال فقال العلاء من يأتينا بخبر القوم فقال عبد اللَّه بن حذف أنا فخرج حتى دنا من خندقهم فأخذوه وكانت أمه عجيلة فجعل ينادي يا أبجراه فجاء أبجر بن بحير فعرفه فقال ما شأنك؟
فقال علام أقبل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وغيرهما؟ فخلصه فقال له واللَّه إني لأظنك بئس بن أخت أتيت الليلة أخوالك، فقال دعني من هذا وأطعمني فقد مت جوعا فقرب له طعاما فأكل ثم قال زودني واحملني يقول هذا الرجل قد غلب عليه السكر فحمله علي بعير وزوده وجوزه فدخل عسكر المسلمين

(14/244)


فأخبرهم ان القوم سكارى فخرج المسلمون عليهم فوضعوا فيهم السيف كيف شاءوا وهرب الكفار فمن بين متردد وناج ومقتول ومأسور، واستولي المسلمون على العسكر ولم يفلت رجل إلا بما عليه فأما أبجر فأفلت، وأما الحكم فقتل قتله قيس بن عاصم بعد أن قطع عفيف بن المنذر التميمي رجله وطلبهم المسلمون فأسر عفيف بن المنذر النعمان بن المنذر الغرور فأسلم وأصبح العلاء فقسم الأنفال ونفل رجالا من أهل البلاء ثيابا فأعطى ثمامة بن أثال الحنفي خميصة ذات أعلام كانت للحكم يباهي بها، فلما رجع ثمامة بعد فتح دارين رآها بنو قيس بن ثعلبة: فقالوا له أنت قتلت الحطم؟ فقال لم أقتله ولكني اشتريها من المغنم فوثبوا عليه فقتلوه [ (1) ] .

وأما ردة جبلة بن أبي المنذر بن الأيهم بن الحارث
وهو جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر واسمه المنذر بن الحارث وهو ابن مارية ذات القرطين وهو ابن ثعلبة بن عمرو بن جفنة واسمه كعب أبو عامر بن حارثة بن امرئ القيس ومارية بنت أرقم بن ثعلب بن عمرو ابن جفنة ويقال غير ذلك في نسبه وكنيته جبلة أبو المنذر الغساني الجفني وكان ملك غسان وهم نصارى العرب أيام هرقل وغسان أولاد عم الأنصار أوسها وخزرجها وكان جبلة آخر ملوك غسان فكتب إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كتابا مع شجاع بن وهب يدعوه إلي الإسلام فأسلم وكتب بإسلامه إلي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال ابن عساكر: إنه لم يسلم قط وهكذا صرح به الواحدي وسعيد بن عبد العزيز وقال الواقدي: شهد اليرموك مع الروم أيام عمر بن الخطاب ثم أسلم بعد ذلك في أيام عمرو فاتفق أنه وطء رداء رجل من مزينة بدمشق فلطمه ذلك المزني فدفعه أصحاب جبلة إلي أبي عبيدة فقالوا: هذا لطم جبلة قال أبو عبيدة فيلطمه جبلة فقالوا: أوما يقتل؟ قال: لا، قالوا: فكنا تقطع يده؟ قال لا إنما
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ لابن الأثير) : 2/ 368- 370.

(14/245)


أمر اللَّه بالقود فقال جبلة أترون أني جاعل وجهي بدلا لوجه مازني جاء من ناحية المدينة؟ بئس الدين هذا ثم ارتد نصرانبا وترحل بأهله حتى دخل أرض الروم فبلغ ذلك عمر فشق عليه وقال لحسان إن صديقك جبلة ارتد عن الإسلام فقال إنا للَّه: وإنا إليه راجعون ثم قال: ولم؟ قال لطمة رجل من مزينة فقال وحق له فقام إليه عمر بالدرة فضربه ورواه الواقدي عن معمر وغيره عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عباس ساق ذلك بأسانيده إلي جماعة من الصحاب وهذا القول هو أشهر الأقوال وقد روى ابن الكلبي وغيره أن عمر لما بلغه إسلام جبلة فرح بإسلامه ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه فأذن له فركب في خلق كثير من قومه قيل مائة وخمسين راكبا وقيل خمسمائة وتلقته هدايا عمر ونزله قبل أن يصل إلي المدينة بمراحل وكان يوم دخوله يوما مشهودا دخلها وقد ألبس خيوله قلائد الذهب والفضة ولبس تاجا على رأسه مرصعا باللآلئ والجواهر، وفيه قرطا مارية جدته.
وخرج أهل المدينة رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه فلما سلم علي عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطء إزاره رجل من بني فزارة فانحل فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل ومن الناس من يقول إنه قلع عينه فاستعدى عليه الفزاري إلي عمر ومعه خلق كثير من بني فزارة فاستحضره عمر فاعترف جبلة فقال له عمر اقتدته منك فقال كيف وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله إلا بالتقوى. فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع ذا عنك فإنك إن لم ترض الرجل اقتدته منك فقال: إذا أتنصر. فقال: إن تنصرت ضربت عنقك. فلما رأى الحد قال: سأنظر في أمري هذه الليلة فانصرف من عند عمر. فلما أدلهم الليل ركب في قومه ومن أطاعه، فسار إلي الشام ثم دخل الروم ودخل علي هرقل في مدينة القسطنطينية فرحب به هرقل وأقطعه بلادا كثيرة وأجرى عليه أرزاقا جزيلة. وأهدى إليه هدايا جميلة. وجعله من سمّاره فمكث عنده دهرا وقال الواقدي: شهد اليرموك مع الروم أيام عمر بن الخطاب ثم أسلم بعد ذلك في أيام عمر. فاتفق أنه وطء رداء رجل من مزينة بدمشق فلطمه ذلك المزني فدفعه أصحاب جبلة إلي أبي عبيدة فقالوا:

(14/246)


هذا لطم جبلة، قال أبو عبيدة، فيلطمه جبلة، فقالوا: أوما يقتل؟ قال لا قالوا فما تقطع يده؟ قال لا إنما أمر اللَّه بالقود، فقال جبلة أترون أني جاعل وجهي بدلا لوجه مازني جاء من ناحية المدينة؟ بئس الدين هذا ثم ارتد نصرانبا وترحل بأهله حتى دخل أرض الروم فبلغ ذلك عمر فشق عليه وقال لحسان إن صديقك جبلة ارتد عن الإسلام فقال إنا للَّه وإنا راجعون، ثم قال ولم؟ قال لطمة رجل من مزينة فقال وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه ورواه الواقدي عن معمر وغيره عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عباس ساق ذلك بأسانيده إلي جماعة من الصحابة، وهذا القول هو أشهر الأقوال وقد روى ابن الكلبي وغيره أن عمر لما بلغه إسلام جبلة فرح بإسلامه ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه فأذن له فركب في خلق كثيرة من قومه قيل: مائة وخمسين راكبا. وقيل: خمسمائة وتلقته هدايا عمر ونزله قبل أن يصل إلي المدينة بمراحل وكان يوم دخوله يوما مشهودا دخلها وقد ألبس خيوله قلائد الذهب والفضة ولبس تاجا على رأسه مرصعا باللآلي والجواهر وفيه قرطا مارية جدته وخرج أهل المدينة رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه فلما سلم علي عمر رحب به عمرو أدنى مجلسه وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطء إزاره رجل من بني فزارة فانحل فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل! ومن الناس من يقول إنه قلع عينه فاستعدى عليه الفزاري إلي عمر ومعه خلق كثير من بني فزارة فاستحضر عمر فاعترف جبلة فقال له عمر أقتد منه فقال كيف وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله إلا بالتقوى فقال جبلة قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية فقال عمر دع ذا عنك فإنك إن لم ترض الرجل اقتدته منك فقال إذا أتنصر! فقال إن تنصرت ضربت عنقك فلما رأى الحد قال سأنظر في أمري هذه الليلة فانصرف من عند عمر فلما أدلهم الليل ركب في قومه ومن أطاعه فسار إلي الشام ثم دخل الروم ودخل علي هرقل في مدينة القسطنطينية فرحب به هرقل وأقطعه بلادا كثيرة وأجرى عليه أرزاقا جزيلة وأهدى إليه هدايا جميلة وجعله من سماره فمكث عنده دهرا ثم إن عمر كتب كتابا إلي هرقل مع رجل يقال له جثامة بن مساحق الكناني. فلما بلغ

(14/247)


هرقل كتاب عمر بن الخطاب قال له هرقل: هل لقيت ابن عمك جبلة؟ قال:
لا قال فألقه فذكر اجتماعه به وما هو فيه من النعمة والسرور والحبور الدنيوي في لباسه وفرشه ومجلسه وطيبه وجواريه حواليه حسان من الخدم والقيان ومطعمه وشرابه وسروره وداره التي تعوض بها عن دار الإسلام وذكر انه دعاه إلي الإسلام والعود إلي الشام فقال أبعد ما كان مني من الارتداد؟ فقال نعم إن الأشعث بن قيس ارتد وقاتلهم بالسيوف ثم لما رجع إلي الحق منه وزوجه الصديق بأخته أم فروة قال فتلهى عنه بالطعام والشراب وعرض عليه الخمر فأبي عليه وشرب جبلة من الخمر شيئا كثيرا حتى سكر ثم أمر جواريه المغنيات فغنينه بالعيدان من قول حسان بن ثابت فينا وفي ملكنا وفي منازلنا بأكناف غوطة دمشق قال سكت طويلا ثم قال لهن أبكينني فوضعن عيدانهن ونكسن رءوسهن وقلن:
تنصرت الأشرف من عار لطمة ... وما كان لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها اللجاج ونخوة ... وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلي القول الّذي قاله عمر
وياليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة ... وقد يصبر العود الكبير على الدبر
قال فوضع يده على وجهه فبكى حتى بل لحيته بدموعه وبكيت معه ثم أستدعي بخمسمائة دينار هرقلية فقال خذ هذه فأوصلها إلي حسان بن ثابت وجاء بأخرى فقال خذ هذه لك فقلت لا حاجة لنا فيها ولا أقبل منك شيئا وقد ارتددت عن الإسلام فيقال إنه أضافها إلي التي لحسان فبعث بألف دينار هرقلية ثم قال له أبلغ عمر بن الخطب مني السلام وسائر المسلمين فلما قدمت على عمر أخبرته فقال ورأيته يشرب الخمر؟ قلت: نعم قال: أبعده اللَّه تعجل فانية بباقية فما ربحت تجارته، ثم قال وما الّذي وجه به لحسان؟ قلت خمسمائة دينار هرقلية فدعا حسانا فدفعها إليه فأخذها وهو يقول:
إن ابن جفنة من بقية معشر ... لم يغرهم آباؤهم باللوم
لم ينس بالشام إذ هو ربها ... كلا ولا منتصرا بالروم

(14/248)


يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إلا كبعض عطية المحروم
وأتيته يوما فقرب مجلس ... وسقى فرواني من المذموم
ثم لما كان في هذه السنة من أيام معاوية بعث معاوية عبد اللَّه بن مسعدة الفزاري رسولا إلي ملك الروم فاجتمع بجبلة بن الأيهم فرأى ما هو فيه من السعادة الدنيوية والأموال من الخدم والحشم والذهب والخيول فقال له جبلة لو أعلم أن معاوية يقطعني أرض البثينة فإنّها منازلها وعشرين قرية من غوطة دمشق ويفرض لجماعتنا ويحسن جوائزنا لرجعت إلي الشام فأخبر عبد اللَّه بن مسعدة معاوية بقوله فقال معاوية: أنا أعطيه ذلك وكتب إليه كتابا مع البريد بذلك فما أدركه البريد إلا وقد مات قبحة اللَّه وذكر أكثر هذه الأخبار الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في المنتظر وأرخ وفاته هذه السنة أعني سنة ثلاث وخمسين وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فأكال الترجمة وأفاد ثم قال في آخرها بلغني أن جبلة توفي في خلافة معاوية بأرض الروم بعد سنة أربعين من الهجرة [ (1) ] .
وذكر ابن سعد أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كتب إلي جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلي الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأهدى له هدية ولم يزل مسلما حتى كان في زمان عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فبينما هو في سوق دمشق إذ وطئ رجلا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ وانطلق به إلي أبي عبيدة الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة، قال: فليطمه، قالوا: وما يقتل؟ قال: لا قالوا: فما تقطع يده قال:
لا، إنما أمر اللَّه- تبارك وتعالي- بالقود، قال جبلة: أو ترون إني جاعل وجهي ندا لوجه جدي جاء من عمق! بئس الدين هذا: ثم ارتد نصرانيا وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشق عليه وقال لحسان ابن ثابت: أبا الوليد، أما علمت ان صديقك وجبلة بن الأيهم ارتد نصرانيا؟
قال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون قال، ولم؟ قال: لطمة رجل من مزينة،
__________
[ (1) ] (البداية والنهاية) : 8/ 69- 72.

(14/249)


قال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه بها [ (2) ] قال الدولابي: لما قتل أهل الردة فسارعوا إلى الدخول في الإسلام فخيرهم أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بين خطة مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا المخزية، وهي أن يشهدوا على قتلاهم أنهم في النار، وقتلى المسلمين في الجنة. وما أصابوا من أموال المسلمين ردوه، وما أصاب المسلمون لم يردوه، وأن يدو قتلى المسلمين ولا يدو قتلاهم وأن يأخذ منهم الحلقة ولكراع، فلما ولي عمر ابن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: إنه لقبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضا وقد وسع اللَّه واستثار في سبايا العرب في الجاهلية وفي الإسلام أيام الردة إلا امرأة ولدت وجعل فداء كل إنسان سبعة أبعرة وستة، وإلا حنيفة وكندة خفف عنهم، وقال: لا ملك على عربي، وأجمع عليه المسلمون. وبقي في قريش بعد ما ندي السبي عدة.

وأما إنذاره صلى اللَّه عليه وسلم بسوء عاقبة الرجّال بن عنفوة فشهد لمسيلمة وقاتل معه حتى قتل
وقد كان الرجال هذا وقد وفد إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقرأ البقرة، وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى اللَّه ويثبتهم على الإسلام، فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنّبوّة
قال سيف بن عمر عن طلحة عن عكرمة عن أبى هريرة: كنت يوما عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم في رهط معنا الرجال بن عنفوة، فقال:
أن فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من أحد،
فهلك القوم وبقيت أنا والرجال وكنت متخوفا لها، حتى خرج الرجال مع مسيلمة وشهد بالنّبوّة، فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة، رواه إسحاق عن شيخ، عن أبي هريرة، وقرب خالد وقد جعل على المقدمة شرحبيل بن حسنة، وعلى المجنبتين زيدا وأبا حذيفة، وقد مرت المقدمة في الليل بنحو من أربعين ظن وقيل ستين فارسا عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأر له في بنى تميم وبنى عامر
__________
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 265.

(14/250)


وهو راجع إليه فلم يصدقهم، وأمر بضرب أعناقهم كلهم، سوى مجاعة فإنه استبقاه مقيدا عنده- لعلمه بالحرب والمكيدة- وكان سيدا في بني حنيفة، شريفا مطاعا، ويقال: إن خالدا لما عضوا عليه قال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة؟ قالوا: نقول منا نبي ومنكم نبي، فقتلهم غلا واحدا واسمه سارية، فقال له، أيها الرجل إن كنت تريد عدا بعدول هذا خيرا أو شرا فاستبق هذا الرجل- يعني مجاعة بن مرارة- فاستبقاه خالد مقيدا، وجعله في الخيمة، مع امرأته، وقال: استوصي به خيرا، فلما تواجه الجيشان قال مسيلمة لقومه:
اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات، وينكحن غير حظيات فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدم المسلمون حتى نزل بهم خالد علي كثيب يشرف على اليمامة، فضرب به عسكره ورواية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماسي، والعرب على راياتها، ومجاعة بن مرارة مقيد في الخيمة مع أم تميم امرأة خالد، فاصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد وهموا بقتل أم تميم، حتى أجارها مجاعة وقال: نعمت الحرة هذه، وقد قتل الرجال بن عنفوة لعنة اللَّه في هذه الجولة، قتله زيد بن الخطاب [ (1) ] .

وأما أن لعنته صلى اللَّه عليه وسلم أدركت الملوك الأربعة وأختهم
فقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، عن صفوان بن عمرو قال:
حدثني شرحبيل بن عبيد، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزردي، عن عمرو بن عبسة، قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يعرض خيلا يوما وعنده عيينة بن حصن الفزاري، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أنا أعلم بالخيل منك، فقال عيينة: وأنا أفرس بالرجال منك، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: وكيف ذاك؟ قال خير الرجال
__________
[ (1) ] (البداية والنهاية) : 6/ 356.

(14/251)


يحملون سيوفهم على عوائقهم جاعلين على رماحهم على مناسج خيولهم، لابسو البرود من أهل نجد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبت، بل خير الرجال رجال أهل اليمن، والإيمان يمان إلي لخم وجذام وعاملة ومأكول خمير خير من آكلها وحضرموت خير من بني الحارث بن كندة، وقبيلة خير من قبيلة، شر من قبيلة.
واللَّه ما أبالي أن يهلك الحارثان كلاهما لعن اللَّه الملوك الأربعة: جمداء، وفحوساء، ومشرخاء، وأبضعة. وأختهم العمردة.
ثم قال: أمني ربي ان ألعن قريشا مرتين، فلعنتهم، وأمرني أن أصلي عليهم مرتين، فصليت عليهم مرتين، ثم قال: عصية عصت اللَّه ورسوله غير قيس وجعدة وعصية، ثم قال: لأسلم وغفار ومزينة وأخلاطهم من جهينة خير من بني أسد وتميم وغطفان وهوازن عند اللَّه عز وجل يوم القيامة، ثم قال: شر قبيلتين في العرب نجران وبنو تغلب، وأكثر القبائل في الجنة مذحج مأكول [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 5/ 524- 525، وحديث رقم (18951) ، (18952) ، من حديث عمرو بن عبسة.

(14/252)


وخرجه أيضا من حديث زهران بن معاوية
حدثنا يزيد بن جابر، عن رجل عن عمرو بن عبسة فذكر نحوه باختصار وفيه: وأنا يمان وحضرموت خير من بني الحارث وما أبالي يهلك الحيان [ (2) ] كلاهما. فلا قيل ولا ملك إلا للَّه عز وجل.
وذكر سيف في كتاب (الردة) أن المهاجر بن أبي أمية لما ذرع من نجران وأوثق عمرو بن معديكرب وقيس بن عبد يغوث وبعث بهما إلي أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- سار إلي اللحجبة العنسيّ ومعه زياد بن لبيد فما زال زياد بحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض بعد ما نادوا بمنع الصدقة. فخرج بنو عمرو بن معاوية إلي المحاجر ونزل حمد محجرا ومسرح محجرا وبضعة محجرا وأختهم العمردة محجرا وكانوا رؤساء على بني عمرو بن معاوية ونزلت بنو الحارث بن معاوية محاجرها فنزل الأشعث بن قيس منزلا محجي ولسمط بن الأسود محجرا وطابقت معاوية كلها على منع الصدقة وأجمعوا على الردة إلا شرحبيل بن السمط وابنه فإنّهما خرجا إلي زياد بن لبيد في آخرين وجمعوا جمعهم وطرقوا معاوية في محاجرهم وأكبوا على بني عمرو بن معاوية وهم عند القوة وشوكتهم من خمسة أوجه في خمس فرقا، فأصابوا مشرحاء وفحوساء وأبضعه وأختهم العمردة أدركتهم اللعنة وقتلوا فأكثروا واقترب من الطاق الهرب وذهبت بنو عمرو بن معاوية فلم يأتوا لخير بعدها. واكتفي زياد بالسبي والأموال يريد الأشعث بن قيس.
ويقال: إن العمردة كانت تأتي المؤمنين فتركلهم برجلها.
__________
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (18956) .

(14/253)


وخرجه الحاكم [ (1) ] من حديث ابن وهب
أخبرني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن عابد الأزردي، عن عائذ، عن عمرو بن عبسة فذكره بنحو أو قريب منه، ثم قال القرد بن الحرث: محوس ومشرح، وجحح وأبضعة بنو معديكرب بن وليعة بن شرحبيل بن حجر القرد وهم الملوك الأربعة كانوا قد وفدوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم ارتدوا فقتلوا يوم البخير وسموا ملوكا لأنه كان لكل واحد منهم واد يملكه بما فيه قال: ومسرون بن الحالبي بن معديكرب قتل يوم النحير. ولهم تقو ادنا نحير يا عين بكى للملوك الأربعة. محوس. ومشرح. وحمد. وابضعة، والخالتي انني لن ادعه. وقال: في الجمهرة وهو كتاب كندة لخالتي وهو باطل والفحيح الخالي بن معديكرب.
وفي (أخبار الردة) أن زياد بن لبيد كان على صدقات بني معاوية فوسم ناقة لرجل لم تكن عليه صدقة، فأتاه أخوه فقال: خذ مكان الناقة جملا، فلا صدقة على أخي فرأى زياد أنه اعتلال واتهمه بالكفار فقال قد وسمت ولا ترد، فنادى صاحب الناقة أبا الرياض اصام الدليل من أكل في داره. فأتي حارثة بن سراقة فقال: أطلق بكرة الفتي وخذ بعيرا مكانها فأبي. فأطلق حارثة عقالها فأمر به زياد بن لبيد فأخذ، وكتف هو وأصحابه فغضب بنو حارثة وغضب السكون وحضرموت لزياد، وعسكر فوافاهم زياد وخلي عن حارثة وأصحابه فلما رجعوا دمروهم، ثم خرج بنو عمرو بن معاوية خصوصا إلي المحاجر وهي أحماء حموها فنزل جمد ومخوص. ومشرح وأبضعة والعمردة، والمحاجر ونزل الأشعث بن قيس الكندي محجرا، فارتدوا إلا شرحبيل بن السمط وابنه، فيتهم زياد بن لبيد فقتل مشرحا ومخوصا وجمدا وأبضعة والعمردة أختهم وأدركتهم اللعنة، وأخذ زياد بالسبي والأموال علي عسكر
__________
[ (1) ] المستدرك: 4/ 91، كتاب معرفة الصحاب، ذكر فضيلة أسلم، وغفار، ومزينة، وغيرهم، حديث رقم (6979) ، قال الحاكم: هذا حديث غريب المتن، صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح غريب.

(14/254)


الأشعث بن قيس، فاستغاثوه فتقدمهم، وعلم أن زياد بن لبيد لا يقلع عنه فنجا الأشعث إلي النحير بعد أن هزم فأتي المهاجر بن أبي أمية وزياد بن لبيد وعكرمة بن أبي جهل، فاستأمن لنفسه وعلي تسعة من قبل أن يفتح الباب، فكتب التسعة ونسي نفسه، وفتح الباب فقتلت المقاتلة وسرح من كان في الكتاب.
وقال المهاجر بن أبي أمية للأشعث أخطأك نوؤك يا عدوّ اللَّه، قد كنت اشتهي ان تخزى وأوثقه وبعثه إلي أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- فكان، يلعنه المسلمون والسبي وسموه غرف النار، وهو اسم الغادر، ولما وصل إلي أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أراد قتله، فقال: أنا أرضيت لقوم كيما يحل دمي؟ قال: نعم، قال: إنما وجب الصلح بعد الختم فخشي القتل، فقال: احتسب في خيرا أو اقتلني، ورد عليّ زوجتي وكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- زوجة أخته أم فروة، فقبل منه ورد عليه أهله، ولم يكن قد بني بها، واللَّه تبارك وتعالي أعلم.

(14/255)


وأما إجابة اللَّه تعالي دعاء رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في مجيء ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة بن عبيد ابن ثعلبة بن يربوع بن الدؤل بن حنيفة الحنفي [ (1) ]
__________
[ (1) ]
أبو أمامة اليمامي، حديثه في البخاري من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل بني حنيفة: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد ان لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه.
وأخرجه أيضا مطولا، ورواه ابن إسحاق في المغازي، عن سعيد المقبري مطولا، وأوله:
ثمامة كان عرض لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأراد قتله، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه أن يمكنه منه، فلما أسلم قدم مكة معتمرا، فقال: والّذي نفسي بيده، لا تأتيكم حبة من اليمامة- وكانت ريف أهل مكة- حتى يأذن فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وذكر أيضا ابن إسحاق أن ثمامة ثبت على إسلامه لما ارتد أهل ليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه، فلحقوا بالعلاء الحضرميّ، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشتري ثمامة حلة كانت لكبيرهم فرآها عليه ناس من بني قيس بن ثعلبة، فظنوا أنه هو الّذي قتله وسلبه فقتلوه.
وروى ابن منك من طريق علباء بن أحمد عن عكرمة، عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة ومنعه عن قريش المبرة، ونزول قوله تعالي: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76] وإسناده حسن.
وله مقام في الردة، وفي الإنكار علي بني حنيفة أبيات، منها:
أهم بترك القول ثم يردني ... إلي القول إنعام النبي محمد
شكرت له فكي من الغل بعد ما ... رأيت خيالا من حسام مهند
وكان ثمامة حين أسلم قال: يا رسول اللَّه، واللَّه لقد قدمت عليك وما علي وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، ولا دين أبغضن إلي دينك، ولا بلد أبغض إلي من بلدك، وما أصبح على وجه الأرض وجه أحبّ إلى من وجهك، ولا دين أحبّ من دينك، ولا بلد أحب إلي من بلدك.

(14/256)


فقال سيف: عن طلحة، عن عكرمة قال: كان من حديث ثمامة بن أثال وسبب إسلامه أن ثمامة كان يتعرض لرسل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يخيف طريقهم، وكان المنذر بن ساوي والي قبائل ممن حولهم، فأخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فهم بقتله فخلصه عامر بن مسلمة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اللَّهمّ أمكني ثمامة بغير عهد ولا عقد.
فلما كان الحج خرج ثمامة حاجا. وخرج رجل من مكة يريد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فضل ثمامة، فلما دنا من المدينة لقيه ذلك الرجل فتساءلا، فأخذه الرجل، فقال ثمامة: الحمد للَّه إذ رماني بخليل ولم يرمني برفيق، ما أبالي متى بت، فانتهي به إلي المدينة، فأتي به إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما أبالى ميتي بت، فانتهي به إلي المدينة، فأتي به إلي النبي فقال: أنت سيد أهل اليمامة يا
__________
[ () ] وقال محمد بن إسحاق: ارتد أهل اليمامة عن الإسلام غير ثمامة بن أثال ومن اتبعه من قومه، فكان مقيما باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، ويقول: إياكم وأمرا مظلما لا نور فقيه، وإنه لشقاء كتبه اللَّه عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاء من لم يأخذ به منكم يا بني حنيفة.
فلما عصوه ورأى انهم قد اتفقوا على اتباع مسيلمة، عزم على مفارقتهم، ومر العلاء بن الحضري ومن تبعه على جانب اليمامة، فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين: إني واللَّه ما أرى أن أقيم مع هؤلاء مع ما قد أحدثوا، وإن اللَّه تعالي لضاربهم ببلية لا يقومون بها ولا يقعدون، وما نرى أن نتخلف عن هؤلاء وهم مسلمون، وقد عرفنا الّذي يريدون، وقد مروا بنا قريب، ولا أرى إلا الخروج إليهم، فمن أراد الخروج منكم فليخرج ممدا العلاء بن الحضرميّ، ومعه أصحابه من المسلمين، فكأن ذلك قد فت في أعضاد عدوهم حين بلغهم مدد
دعانا إلي ترك الديانة والهدي ... مسيلمة الكذاب إذ جاء يسجع
فيا عجبا من معشر قد تتابعوا ... له في سبيل الغي والغي أشنع
في أبيات كثيرة ذكرها ابن إسحاق في الردة، وفي آخرها:
وفي البعد دار قد أضل أهلها ... هدى واجتماع كل ذلك مهيع
(سيرة ابن هشام) : 6/ 51- 52، (الاستيعاب) : 1/ 213- 216، ترجمة رقم (277) ، (الإصابة) : 1/ 410- 412، ترجمة رقم (962) ، (جمهرة أنساب العرب) : 312، (الفتوح) لابن أعثم: 1/ 29 وما بعدها.

(14/257)


ثمامة؟ فقال: أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة، فقال: ما كني رجل رجلا إلا كان منه في ذمة، قال: وكيف؟ قال: إنها ملاطفة، قال: إذا أنسى في عمري بيدهم فقال: أقتلك! أحب من يد، أم سليم، أو أعتقك وتسلم؟ أو أفاديك وتسلم؟ فقال تقتل تقتل ذا دم، وإن بعتني أن تفاديني عظيما، فأما ان أسلم قرا فو اللَّه لا أسلم أبدا! فقال: إني قد أعتقتك، قال: فإنّي أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، فأقر، ثم مضى، فقضى حجته،
ثم كتب إلي أهل مكة- وهم يومئذ مشركون حاربوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكانت مادة أهل مكة في بعض الحالات من اليمامة- أنه فقال: واللَّه الّذي لا إله إلا هو، لا تمروا أبدا من قبل اليمامة حتى تؤمنوا باللَّه ورسوله فأضر ذلك بأهل مكة، فكتبوا إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يشكون إليه فكتب لهم إلي أبي أمامة: أن لا تقطع عنهم موادتهم التي كانت تأتيهم من قبلك، فجعل ذلك أبو أمامة وخلي عنهم، وثبت على إسلامه وكان خير ما كان حين تغير الناس وأقام على إسلامه وقاتل أهل الردة.

وقال سيف عن طلحة بن الأعلم
عن رجل من بني الحارث بن نيار عن أبيه وكان مع ثمامة بن أثال وبدى إسلامه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما بعث العلاء بن المنذر إلي أهل البحرين داعية استجاب له المنذر ودخل في الإسلام ورجع العلاء فمر بجنبات اليمامة فأخذه ثمامة، فلما قدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبره فقال: اللَّهمّ اهد عامرا وأمكن ابن عامر، فخرج حاجا فتحير حين دنا من المدينة وقد خرج إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما كان يخرج إليه وكان سمع بالذي كان من ثمامة وبدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسأل أحدهما صاحبه، فأخذه العباس فأدخله المدينة فأتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: قد أمكن اللَّه منك يا ثمامة وحبسه، ثم عرضه فقال: ما أصنع بك يا ثمامة؟ أفديك أو أقتلك؟ أو أطلقك؟ ومع واحدة منهن أو تسلم! فقال: إن تفاد تفاد عظيما، وإن تقتل تقتل عظيما ذا ذنب، وإن تطلق تطلق عظيما شاكرا. قال: أسلم، قال: أما دمت في يدك فلا، فمن عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على حجك.
فأتي أهل مكة، فلما قضي نسكه قال: يا معشر قريش إنكم تكذبون محمدا، وتقاتلونه،

(14/258)


وقد عرفتم أن ميركم من اليمامة، وأنتم واللَّه لا يأتيكم ثمرة ولا برة حتى تؤمنوا بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وتصدقوه، فجس عنهم ميرة اليمامة فبعثوا أبا سفيان إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فساءله أن يبعث إلي ثمامة بأمره أن يخلي بينهم وبين الميرة ففعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.

وخرج البخاري من حديث الليث
قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد: أنه سمع أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلي نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه. ذكره في الصلاة [ (1) ] في باب الأسير يربط في المسجد، وخرجه في المغازي [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 831، كتاب الصلاة، باب (76) الاغتسال إذا أسلم وربط الأيسر أيضا في المسجد، حديث رقم (462) ، وأخرجه في باب (82) دخول المشرك المسجد، حديث رقم (469) . وفي دخول المشرك المسجد مذاهب: فعن الحنفية الجواز مطلقا، وعن المالكية والمزني المنع مطلقا، وعن الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيرة للآية. وقيل: يؤذن للكتابي خاصة، وحديث الباب يرد عليه فإن ثمامة ليس من أهل الكتاب. (فتح الباري) .
وأخرجه في كتاب الخصومات، باب (7) التوثق ممن تخشى معرته، وقيد ابن عباس عكرمة على تعلم القرآن والسنن والفرائض، حديث رقم (2422) ، وباب (8) الربط والحبس في الحرم، واشترى نافع بن عبد الحارث دارا للمسجد بمكة من صفوان بن أمية، حديث رقم (2423) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 109، كتاب المغازي باب (71) وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال، حديث رقم (4372) . وفي قصة ثمامة من الفوائد ربط الكافر في المسجد والمن علي الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء لأن ثمامة بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من العفو والمن بغير مقابل.

(14/259)


وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث الليث قال:
حدثني سعيد انه سمع أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له
__________
[ () ] وفيه الاغتسال عند الإسلام، وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب، وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير.
وفيه الملاطفة بمن يرجي إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه.
وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد منهم، والتخيير بعد ذلك في قتله أو الإبقاء عليه. (فتح الباري) .
[ (1) ] (راجع التعليق السابق) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 330- 333، كتاب الجهاد والسير، باب (19) ربط الأسير وحبسه، وجواز المن عليه، حديث رقم (59) . قال الإمام النووي: قال أصحابنا: إذا أراد الإسلام بادر بالاغتسال، ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره، بل يبادر به ثم يغتسل، ومذهبنا أن اغتساله واجب إن كان عليه جنابة في الشرك، سواء كان اغتسل منها أم لا، وقال بعض أصحابنا: إن كان اغتسل أجزأه، وإلا وجب.
وقال بعض أصحابنا وبعض والمالكية: لا غسل عليه، ويسقط حكم الجنابة بالإسلام، كما تسقط الذنوب، وضعفوا هذا بالوضوء، فإنه يلزمه بالإجماع، ولا يقال: يسقط أثر الحدث بالإسلام. هذا كله إذا كان أجنب في الكفر.
أما إذا لم يجنب أصلا ثم أسلم، فالغسل مستحب له وليس بواجب. هذا مذهبنا، ومذهب مالك وآخرين، وقال أحمد وآخرون: يلزمه الغسل.
قوله: «فانطلق إلي نخل قريب من المسجد» : هكذا هو في البخاري ومسلم وغيرهما نخل بالخاء المعجمة، وتقديره: انطلق إلي نخل فيه ماء فاغتسل منه. قال القاضي: قال بعضهم: صوابه نجل بالجيم، وهو الماء القليل المنبعث، وقيل: الجاري، قال الإمام النووي: بل الصواب الأول، لأن الروايات صحت به، ولم يرو إلا هكذا، وهو صحيح، ولا يجوز العدول عنه. (شرح النووي) .

(14/260)


ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال عندي يا محمد خير، إن تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم علي شاكر. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت فتركه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال:
ما قلت لك: إن تنعم تنعم علي شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم علي شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أطلقوا ثمامة.
فانطلق إلي نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال:
أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا محمد! واللَّه ما كان على وجه الأرض أبغض علي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي. واللَّه ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي واللَّه ما كان أبغض بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولا واللَّه لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وذكره البخاري في وفد بني حنيفة [ (1) ] .
وخرجه مسلم من حديث عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري انه سمع أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خيلا له نحو أرض نجد، فجاءت برجل يقال له ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة. وساق الحديث بمثل حديث الليث إلا انه قال: إن تقتلني تقتل ذا دم. قال المؤلف: ولثمامة في محاربة مسيلمة بلاء حسن.
__________
[ (1) ] راجع التعليق قبل السابق، وأخرجه أبو داود في الجهاد، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، حديث رقم (2679) ، والنسائي: 1/ 110 في الطهارة، باب تقديم غسل الكافر إذا أراد أن يسلم، حديث رقم (189) .

(14/261)


وأما إنذاره صلى اللَّه عليه وسلم بما كان بعده من محاربة أصحابه وقتل بعضهم بعضا
فخرج محمد من حديث محمد بن نور، عن معتمر، عن قتادة أنه تلى هذه الآية: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [ (1) ] . فقال أنس: ذهب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبقيت النقمة ولم ير اللَّه تعالي نبيه صلى اللَّه عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى اللَّه عليه وسلم. قال الحاكم [ (2) ] : صحيح الإسناد.
وخرج البخاري في كتاب الفتن [ (3) ] من حديث شعبة، عن علي بن مدرك سمعت أبا زرعة بن عمر بن جرير، عن جده تجمير. قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في حجة الوداع استنصت الناس، ثم قالوا: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
__________
[ (1) ] الزخرف: 41، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أي لا بد أن تنتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أي نحن قادرون على هذا وعلى هذا، ولم يقيض اللَّه تعالي رسوله صلى اللَّه عليه وسلم حتى أنت عينه من أعدائه وحكمه في نواصيهم وملكة ما تضمنت صياصيهم، هذا معني قول السدي واختاره ابن جرير وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا أبو ثور عن معمر قال: تلا قتادة فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فقال ذهب النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويقيت النقمة ولم ير اللَّه تبارك وتعالي نبيا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى اللَّه عليه وسلم، قال: وذكر لنا أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أري ما يصيب أمته من بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه اللَّه عز وجل.
(تفسير ابن كثير) : 4/ 138- 139.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 485، كتاب التفسير، باب (43) تفسير الزخرف، حديث رقم (3672) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) صحيح.
[ (3) ] (فتح الباري) : 13/ 32، كتاب الفتن، باب (8) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، حديث رقم (7077) .

(14/262)


وذكره في كتاب الديات [ (1) ] عن شعبة بهذا الإسناد، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم في حجة الوداع استنصت الناس، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. ورواه أبو بكر، وابن عباس، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم. وذكره في حجة الوداع، عن شعبة عن علي ابن مدرك بهذا الإسناد نحوه.
وخرجه مسلم [ (2) ] أيضا من طريق شعبة كذلك.
وخرج البخاري في كتاب الفتن [ (3) ] من حديث شعبة. قال: اخبرني واقد، عن أبيه، عن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- انه سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول: لا ترجعوا بعدي كفار يضرب بعضكم رقاب بعض. وخرجه في كتاب الديات [ (4) ] وذكره في كتاب الأدب [ (5) ] عن شعبة به وقال فيه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: ويلكم- أو ويحكم قال شعبة: شك هو لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
وخرجه مسلم عن شعبة، عن واقد بن محمد زيد أنه سمع أباه يحدث عن عبد اللَّه بن عمر أنه قال في حجة الوداع: ويحكم أو قال: ويلكم- لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض [ (6) ] .
ومن حديث عبد اللَّه بن وهب قال: حدثني عمر بن محمدا أن أباه حدثه، عن ابن عمر، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم بمثل حديث
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 12/ 235، كتاب الديات، باب (2) قول اللَّه تعالي وَمَنْ أَحْياها قال ابن عباس: من حرم قتلها إلا بحق، فكأنما أحيا الناس جميعا، حديث رقم (6868، 6869) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 416، كتاب الإيمان، باب (29) بيان معني قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم لا ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، حديث رقم (120) .
[ (3) ] (سبق تخريجه) .
[ (4) ] (سبق تخريجه) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 10/ 676، كتاب الأدب، باب (95) ما جاء في قول الرجل: «ويلك» ، حديث رقم (6166) .
[ (6) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 415، كتاب الإيمان، باب (29) بيان معني قول صلى اللَّه عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، حديث رقم (120) .

(14/263)


شعبة، عن واقد [ (1) ] .
وخرج البخاري [ (2) ] من حديث محمد بن فضيل عن أبيه عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: لا ترتدوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. وذكره من حديث أبي بكرة وفيه قصة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي السابق، بدون رقم. وقيل في معني هذا الحديث سبعة أقوال: أحدهما: أن ذلك كفر حق المستحل بغير حق. والثاني: المراد كفر النعمة وحق الإسلام. والثالث: أنه يقرب من الكفر ويؤدى إليه. والرابع: أنه فعل كفعل الكفار.
والخامس: المراد حقيقة الكفر، ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين. والسادس: حكاه الخطابي وغيره، أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه.
قال الأزهري في كتابه (تهذيب اللغة) : يقال للابس السلاح كافر. والسابع قال القاضي عياض رحمه اللَّه: «يضرب» برفع الباء، وهكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا.
ونقل القاضي عياض رحمه اللَّه: أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء، قال القاضي:
وهو إحالة للمعني، والصواب الضم، قال الإمام النووي: وكذا قال أبو البقاء العكبريّ: أنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر، أي إن ترجعوا يضرب. واللَّه تعالي أعلم.
قوله: «ويحكم- أو قال: ويلكم» قال القاضي: هما كلمتان استعملها العرب بمعني التعجب والتوجع. قال سيبويه: ويل، كلمة لمن وقع في هلكة، وويح، ترحم، وحكي عنه ويج زجر لمن أشرف على الهلكة. قال غيره: ولا يراد بهما الدعاء، بإيقاع الهلكة، ولكن الترحم والتعجب.
وروي عن عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ويح كلمة رحمة وقال الهروي: ويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه، ويرثى له، وويل للذي يستحقه ولا يترحم عليه. واللَّه تعالي أعلم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 32، كتاب الفتن، باب (8) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، حديث رقم (7079) .
[ (3) ] المرجع السابق: حديث رقم (7078) مطولا، ثم قال: فلما كان يوم حرق ابن الخضرمي حين حرقة جارية بن قدامة، قال: أشرفوا على أبي بكرة فقالوا: هذا أبو بكرة يراك، قال عبد الرحمن: فحدثتني أمي عن أبي بكرة أنه قال: لو دخلوا علي ما بهشت بقصبة.

(14/264)


قال البيهقي [ (1) ] وبلغني عن موسي بن هارون وكان من الحفاظ أنه سال عن هذا الحديث فقال: هؤلاء أهل الردة، قتلهم أبو بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقال بعض أهل العلم: معناه لا ترجعوا بعدي كفارا أي فرقا مختلفين، ويضرب بعضكم رقاب بعض، فتكونوا في ذلك مضاهين للكفار، فإن الكفار متعادون يضرب بعضهم رقاب بعض. والمسلمون متآخون بحقن بعضهم رقاب [ (2) ] بعض. وقيل معناه: لا ترجعوا بعدي كفارا، أي متكفرين بالسلاح [ (3) ] .
وقال: الإمام أبو البقاء عبد اللَّه بن الحسين بن عبد اللَّه العكبريّ [ (4) ] :
قوله: يضرب إذا رفعته كان موضع الجملة نصبا صفة لكفار، فيكون النهي
__________
[ () ] قوله: «ما بهشت: بكسر الهاء وفتحها، يقال: بهش بعض القوم إلى بعض إذا تراموا للقتال، فكأنه قال: ما مددت يدي إلي قصبة ولا تناولتها لأدفع بها عني.
ويقال لمن نظر إلي شيء فأعجبه واشتهاه وأسرع إلي تناوله: بهش إلي كذا. ويستعمل أيضا في الخير والشر. (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 360، باب ما جاء في تحذيره صلى اللَّه عليه وسلم من الرجوع إلي الكفر بعد الإيمان، وإخباره بالتبديل الّذي وجد بعد وفاتهم حتى قاتلهم أبو بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بمن ثبت على دينه من أهل الإسلام.
[ (2) ] في الأصل: دماء بعض.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 361.
[ (4) ] هو أبو البقاء عبد اللَّه بن الحسين بن عبد اللَّه النحويّ الضرير العكبريّ الأصل، البغدادي المولد والدار. ولد في سنة (538 هـ) ببغداد، وكان نحويا، فقهيا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان ثقة صدوقا، كثير المحظوظ، دينا حسن الأخلاق متواضعا، روى عن مشايخ زمانه، أضر في صباه بالجدري، وكان لا يمضي ساعة من ليل أو نهار إلا في شغل بالعلم.
وله من المؤلفات ما يدل علي سعة ثقافته العربية، فهو مبرز في النحو، عالم بالقراءات، متمكن في اللغة، محيط بفنون الأدب. قال ابن خلكان: وكان الغالب عليه النحو، توفي.

(14/265)


عن كفرهم وضرب بعضهم رقاب بعض. فإنّهم فعلوا. فقد وجد المنهي عنه إلا أنهما إذا اجتمعنا كان المنهي أشد. وقال بعض العلماء: النهي يكون عن الصفة الناشئة ونظيره: قول الرجل لزوجته: إن كلمت رجلا طويلا فأنت طالق، فكلمت رجلا قصيرا، لم تطلق، فكذلك إذا رجعوا كفارا ولم يضرب بعضهم رقاب بعض. وهذا القول فيه بعد، وذلك ان الكفر قد علم النهي عنه بدون أن يضرب بعضهم رقاب بعض، ويجوز أن يروى يضرب بالجزم على تقدير شرط مضم، أي ترجعوا كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. هذا الحديث من باب قوله تعالي فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي بالرفع والجزم إلا أن أكثر المحققين من النحويين لا يجيزون الجزم في مثل هذا الحديث لئلا يصير المعني. ألا ترجعوا كفارا ويضرب، وهذا قيد المعني، بل قال: لا ترجعوا بعدي كفارا تسلموا وتوادوا كان مستقيما، لأن التقدير: ألا ترجعوا كفارا تسلموا.
ونظير ذلك قولك لا تدن من الأسد تنج، أي ألا تدن فجعل التباعد من الأسد شيئا في السلامة، وهذا صحيح. ولو قلت لا تدن من الأسد يأكلك، كان فاسدا، لأن التباعد منه ليس بسبب في الأكل، فإن قلت: فلم لا يقدر أن يقال بغير لأن قيل: ينبغي أن يكون المعدود من جنس الملفوظ. وقد ذهب قوم إلى جواز الجزم هاهنا على هذا التقدير، وعليه يجوز الجزم في هذا بالحديث.
وقيل: ليس المراد النهي عن الكفر، بل النهي عن الاختلاف المؤدي إلى القتل فعلي هذا يكون يضرب مرفوعا، ويكون تغييرا، للكفر المراد بالحديث.
انتهى.
وخرج مسلم من حديث يحيي بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد، عن عقبة بن عامر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قام: صلى اللَّه عليه وسلم علي قتلي أحد، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات، فقال: إني فرطكم على الحوض وإن عرضه كما بين أيلة إلي الجحفة، وإني لست أخشى عليكم
__________
[ () ] رحمه اللَّه ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر سنة (616 هـ) . (إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن) : المقدمة، باختصار وتصرف.

(14/266)


أن تشركوا، بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم.
قال عقبة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: وكان آخر ما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على المنبر، ذكره في المناقب [ (1) ] وذكره البخاري في المغازي [ (2) ] من حديث ابن المبارك عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلي المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم، وإني لأنظر إلي حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني واللَّه ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 64، كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلم وصفاته، حديث رقم (31) .
[ (2) ] فتح الباري: 7/ 442، كتاب المغازي، باب (17) غزوة أحد، حديث رقم (4042) ، وأخرجه أيضا في باب (28) أحد جبل يحبنا ونحبه. قاله عباس بن سهل عن أبي حميد عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (4085) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلم: «أحد جبل يحبنا ونحبه»
للعلماء في معني ذلك أقوال:
أحدهما: أنه على حذف مضاف. والتقدير أهل أحد، والمراد بهم الأنصار لأنهم جيرانه.
ثانيها: أنه قال ذلك للمسرة بلسان الحال إذا قدم من سفر، لقربة من أهله ولقياهم، وذلك فعل من يحب بمن يحب.
ثالثها: أن الحب من الجانبين على حقيقة وظاهرة، لكون أحد من جبال الجنة كما ثبت
من حديث أبي عبس عن جابر مرفوعا: «جبل أحد يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة» أخرجه الإمام أحمد.
ولا مانع في جانب البلد من إمكان المحبة منه كما جاز التسبيح منها، وقد خاطبه صلى اللَّه عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب «اسكن أحد» الحديث.
وقال السهيليّ: كان صلى اللَّه عليه وسلم يحب الفأل الحسن، والاسم الحسن، واسم أحد من أسم مشتق من الأحدية فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه فتعلق الحب من النبي صلى اللَّه عليه وسلم به لفظا ومعني، فخص من بين الجبال بذلك. واللَّه تعالي أعلم.

(14/267)


وخرجه في كتاب الجنائز في باب الصلاة علي الشهيد [ (1) ] وفي آخر كتاب الرقاق [ (2) ] . وفي آخر غزوة أحد [ (3) ] ، وفي باب علامات النبوة في الإسلام [ (4) ] وقال: مفاتيح خزائن الأرض من غير شك.
وخرجه أبو داود [ (5) ] من حديث الليث بهذا الإسناد وانتهى من الحديث إلي قوله: ثم انصرف.
وخرجه النسائي [ (6) ] وانتهى إلي قوله: وأنا شهيد عليكم.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 268- 269، كتاب الجنائز، باب (72) الصلاة علي الشهيد، حديث رقم (1344) . وفيه جواز تكفين الرجلين في ثوب واحد لأجل الضرورة، إما يجمعهما فيه، وإما بقطعه بينهما، وعلي جواز دفن اثنين في لحد، وعلي استحباب تقديم أفضلهما لداخل اللحد، وعلي أن شهيد المعركة لا يغسل. واستدل به علي مشروعية الصلاة على الشهداء (فتح الباري) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 11/ 293، كتاب الرقاق، باب (7) ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، حديث رقم (6426) .
[ (3) ] سبق تخريجه، وهو الحديث رقم (4085) من كتاب المغازي.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 758، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3596) .
وخرجه أيضا في كتاب الرقاق، باب (53) في الحوض وقول اللَّه تبارك وتعالي: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
وقال عبد اللَّه بن زيد: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» حديث رقم (6590) .
[ (5) ] (سنن أبي داود) : 3/ 551- 552، كتاب الجنائز، باب (75) الميت يصلي على قبره بعد حين، حديث رقم (3223) ، (3224) .
[ (6) ] (سنن النسائي) : 4/ 363، كتاب الجنائز، باب (6) الصلاة علي الشهداء، حديث رقم (1953) قوله: «إني فرط لكم» بفتحتين، أي أتقدمكم لأهيئ لكم، وفيه أن هذا توديع لهم قوله: «وأنا شهيد عليكم «يحمل كلمة» على في مثله على معني اللام، أي شهيد لكم بأنكم آمنتم وصدقتموني، وفيه تشريف لهم وتعظيم. وإلا فالأمر معلوم عنده تعالي، واللَّه تعالي أعلم. (حاشية السندي) .

(14/268)


وخرج ابن حبان [ (1) ] من حديث مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن عبيد سنوطا. عن خولة بنت قيس، ان النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: إذا مشت أمتي المطيطاء [ (2) ] وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم علي بعض [ (3) ]
__________
[ (1) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 15/ 112، كتاب التاريخ، باب (10) إخباره صلى اللَّه عليه وسلم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، ذكر الإخبار عن الإمارة التي إذا ظهرت في هذه الأمة سلط البعض منها على بعض حديث رقم (6716) ، وهو حديث صحيح إسناده ضعيف.
[ (2) ] المطيطاء مشية فيها تبختر ومد يدين، والتمطي من ذلك، لأنه إذا تمطي مد يديه، قال تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي يتبختر.
[ (3) ] وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 525 باب ما جاء في إخباره صلى اللَّه عليه وسلم باتساع الدنيا على أمته حتى يلبسوا أمثال أستار الكعبة ويغدا ويراح عليهم بالجفان ويتنافسوا فيها حتى يضرب بعضهم رقاب بعض، ثم قال: وأخبرنا أبو الحسن المقري، أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا أبو الربيع حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثنا عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم بمثله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 456- 457، كتاب الفتن باب (74) بدون ترجمة حديث رقم (2261) ، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وقد رواه أبو معاوية عن يحيي بن سعيد الأنصاري، ثم قال: حدثنا بذلك محمد بن إسماعيل الواسطي حدثنا أبو معاوية عن يحيي ابن سعد عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم نحوه، ولا يعرف لحديث أبي معاوية عن يحيي بن سعيد عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر أصل، إنما المعروف حديث موسى بن عبيدة، وقد روى مالك بن أنس هذا الحديث، عن يحيي بن سعيد مرسلا، ولم يذكر فيه: عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.

(14/269)


وأما إخباره عليه الصلاة والسلام فاطمة الزهراء- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- بأنها أول أهل بيته لحوقا به فكان كذلك.
فخرج البخاري [ (1) ] من حديث مسروق، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: جاءت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- تمشي كان مشيتها مشي النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت فقلت لها: لم تبكين، ثم أسر إليها حديثا فضحكت فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى قبض فسألتها فقالت:
أسر إلي إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحاقا بي فبكت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟ أو نساء المؤمنين؟ فضحكت لذلك،
وسيرد هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالي.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 778- 779، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3623) ، (3624) .

(14/270)