إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر من استعمله رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلم على الحج
اعلم أن مكة لما فتحها اللَّه عز وجل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
في سنة ثمان من الهجرة واستعمل عليها عتاب بن أسيد حجّ ناس من المسلمين،
وحجّ المشركون على مدتهم على ما كانوا عليه من استعمال النبي صلى اللَّه
عليه وسلم، وذلك أن العرب في جاهليتها، كانت في الحجّ على حالتين: إحداهما
الفرقة التي كانت متمسكة بعهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكان حجّهم
على نحو ما يعمله أهل الإسلام، والفرقة الثانية التي أنشأت اليهود، يعني
أخّرتها، وذلك أنها أرادت أن يكون الحج في وقت إدراك الثمار، وأن ينبت حالة
واحدة في أطيب الأزمنة، فتعلموا لبس الشهور من اليهود المجاورين، وذلك قبل
الهجرة بنحو مائتي سنة، وعملوا بها كما عمل اليهود من إلحاق فصل ما بين
سنينهم القمرية وبين السنة الشمسية، وتولى عمل ذلك للعرب السادة المعروفون
بالقلامس من بني كنانة، واحدهم قلمس، وكان يقوم بعد انقضاء الحج فيخطب
وينسئ الشهور ويسمي الشهر الثاني له باسمه، فيقبل الجميع
__________
[ () ] يا معشر العرب، قد كان لكم الليلة شأن! قالوا: مات رجل من أكابر
أصحاب نبينا، واللَّه لئن نبش، لا ضرب بنا قوس في بلاد العرب، فكانوا إذا
قحطوا، كشفوا عن قبره فأمطروا.
وقال ابن سعد من طريق الواقديّ: مات أبو أيوب سنة (52) ، وصلى عليه يزيد،
ودفن بأصل حصن القسطنطينية، فلقد بلغني أن الروم يتعاهدون قبره ويستسقون
به. وقال خليفة: مات سنة (50) ، وقال يحي بن بكير: سنة (52) . (سير أعلام
النبلاء) : 2/ 412- 413.
والاستسقاء بأهل الصلاح إنما يكون في حياتهم لا بعد موتهم، كما فعل الخليفة
الراشد عمر بن الخطاب- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقد روى البخاري في
(صحيحه) في كتاب الاستسقاء باب سؤال الإمام الاستسقاء من طريق أنس/ أن عمر
بن الخطاب- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن
عبد المطلب- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: اللَّهمّ إنا كنا نتوسل
إليك بنينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فيسقون.
وقد بين الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس فيما نقله عن
الحافظ: «اللَّهمّ إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد
توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا
إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث» . (هامش المرجع الاسبق) .
(14/315)
قوله، ويسمون هذا الفصل النسيء، لأنهم
كانوا ينسئون أول السنة في كل سنتين أو ثلاث أشهر علي حسب ما يستحقه
التقدم، وكان النسيء الأول للمحرم، فيسمى صفر باسمه، ويسمي ربيع الأول باسم
صفر، ثم قالوا: بين أسماء الشهور، وكان النسيء الثاني لصفر، فسمي الشهر
الّذي يتلوه بصفر أيضا، وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر، وعاد
إلى المحرم، فعادوا بها فعلهم الأول، وكانوا يعدون إذا رأوا النسيء ويحدّون
بها الأزمنة فيقولون قد دارت السنون من لدن زمان كذا إلى زمان كذا وكذا
دورة، فإن ظهر لهم مع ذلك تقدم شهر عن فصل من الفصول الأربعة، لما يجتمع من
كسور سنة الشمس، وبقية فصل ما بينهما وبين سنة القمر الّذي ألحقوه بها،
كبسوه كبيسا زائدا، فلما هاجر النبي صلى اللَّه عليه وسلم كانت نوبة النسيء
بلغت شعبان فسمي محرّما، وسمي رمضان صفرا فانتظر صلى اللَّه عليه وسلم حتى
دار النسيء وعادت الشهور، فبعث أبا بكر- الصديق رضي اللَّه تبارك وتعالى
عنه- علي الحج في سنة تسع من الهجرة، وقد وافق الحج في ذي العقدة، فلما
كانت سنة عشر، عادت الشهور إلى مواضعها الحقيقية،
فحج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حينئذ حجة الوداع وقال: ألا إن
الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض،
يعني أن الشهور قد عادت إلي مواضعها، وزال عنه فعل العرب الّذي أحدثوه من
النسيء، وأنزل اللَّه عليه تحريم النبي فقال سبحانه وتعالي إِنَّمَا
النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ
اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [ (1) ] الآية.
ويقال: إن القلمّس- وهو سدم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة- قال: أري شهور
الأهلة ثلاثمائة يوم وخمسة وستين يوما، فبيننا وبينهم أحد عشر يوما ففي كل
ثلاث سنين شهر، فهذا نسيء، والنسيء المؤخر، فكان إذا جاءت ثلاث سنين قدم
الحجّ في ذي القعدة، فإذا جاءت ثلاث سنين أخّرها في المحرم وكان الناسئ من
بني ثعلبة بن مالك بن كنانة يقوم على باب الكعبة فيقول: إن إلهتكم العزّي
قد أنسأت صفر الأول، وكان يحله عاما ويحرمه عاما.
وعن طاوس أنه قال: شهر اللَّه الّذي انتزعه من الشيطان المحرم، قال الزبير
ابن بكار: وتفسيره أن أهل الجاهلية كانوا يقولون صفر، وكانوا يحلون صفر
عاما، ويحرمونه عاما، فجعل اللَّه تعالى المحرم
__________
[ (1) ] التوبة: 37.
(14/316)
أول من ابتدع النسيء [ (1) ]
ذكر محمد بن إسحاق أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجّهم اجتمعوا إلى القلمس [
(2) ] ، فأحل لهم من الشهور، وحرم، فأحلوا ما أحل، وحرموا ما حرم، وكان إذا
أراد أن ينسئ منها شيئا أحلّ المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفرا فحرموه،
ليواطئوا عدة الأربعة [الأشهر الحرم] [ (3) ] ، فإذا أرادوا الهدى اجتمعوا
إليه، فقال: اللَّهمّ إني لا احاب [ (4) ] وو لا أعاب [ (5) ] في أمري،
والأمر لما قضيت، اللَّهمّ إني قد حللت، وما المحلين من طيِّئ، وجعلتم
فأمسكوهم حيث ثقفتموهم، اللَّهمّ إني قد أحللت، أحد الصّفرين، الصّفر
الأول، ونسأت الآخر من العام المقبل وإنما أحل دم حلى، وخثعم، من أجل أنهم
كانوا يعدون على الناس في الشهر الحرام من بين العرب، فلذلك أحل دماءهم،
وكانوا يحجون في ذي القعدة عامين، يحجون في ذي القعدة، ثم يحجون كل العام،
والآخر
__________
[ (1) ] هذا العنوان ليس في (الأصل) ولكنه من (ابن هشام) .
[ (2) ] قال ابن إسحاق: كان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت منها ما
أحلّ، وحرمت منها ما حرّم القلمّس [وسمى القلمس لجوده: إذ أنه من أسماء
البحر] ، وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن
مالك بن كنانة بن خزيمة، ثم قام بعده على ذلك ابنه عبّاد بن حذيفة، ثم قام
بعد عباد: قلع بن عباد، ثم قام بعد قلع: أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية: عوف
بن أمية، ثم قام بعد عوف: أبو ثمامة، جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام
الإسلام. (سيرة ابن هشام) : 1/ 161- 162، أول من ابتدع النسيء.
وجد السهيليّ خبرا عن إسلام أبي تمامة، فقد حضر الحج في زمن عمر- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنه- فرأى الناس يزدحمون على الحج فنادى: أيها الناس،
إني قد أجرته منكم، فخفقه عمر بالدرة وقال: ويحك! إن اللَّه تعالى أبطل أمر
الجاهلية. (هامش المرجع السابق) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (ابن هشام) .
[ (4) ] من الحوب وهو الإثم. (لسان العرب) : 1/ 340.
[ (5) ] من العيب. وهو معروف.
(14/317)
في ذي القعدة، ثم يحجون العام الآخر في ذي
الحجة،
فلما حج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وافى ذا الحجة فحج، وقال للناس:
إن الزمان قد استدار [كهيئته] [ (1) ] يوم خلق اللَّه السموات والأرض،
السنة اثني عشر شهرا منها أربعة حرم، فصار الحج في ذي الحجة، فلا شك في
الحج.
وعن مجاهد: كانوا يعدون فيسقطون المحرم ثم يقولون: صفران لصفر، وربيع
الأول، ثم يقولون جماد ثان لجمادى الآخرة ورجب، ثم يقولون لشعبان:
رجب، ويقولون لرمضان: شعبان، ثم يقولون لشوال: شهر رجب، ثم يقولون لذي
الحجة ذو القعدة شوال، ثم يقولون للمحرم ذو الحجة، فيحجون في المحرم، ثم
يستأنفون فيعدون ذلك عدة مستقبلة على وجه ما ابتدءوا، فيقولون المحرم وصفر
وشهرا ربيع، فيحجون في كل شهر مرتين فيسقطون شهرا آخر فيعدون على العدة
الأولى، يقولون: صفران وشهرا ربيع على نحو عدتهم في نحو ما أسقطوا.
عن مجاهد قال: حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا
في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، حتى وافقت حجة أبي
بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من العامين في ذي القعدة، قبل حجة رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بسنة، ثم
حج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من قابل في ذي الحجة، فبذلك حين يقول:
إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه السموات والأرض.
وخرج الترمذي من حديث الحكم بن عتيبة، عن مقسم عن ابن عباس- رضي اللَّه
تبارك وتعالى عنهما-، قال: بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلم أبا بكر- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنه- وأمره أن ينادى بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه عليا-
رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه-، فبينا أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى
عنه- في بعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
القصوى. فخرج أبو بكر فزعا فظن أنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فإذا
عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى-، فدفع إليه كتاب رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلم وأمر
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(14/318)
بهؤلاء الكلمات، فانطلقا، فحجا، فقام عليّ-
رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أيام التشريق فنادى: ذمة اللَّه ورسوله بريئة
من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا
يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن. وكان علي ينادي، فإذا عيي
قام أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- فنادى بها [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي) : 8/ 386، أبواب تفسير القرآن،
سورة التوبة، حديث رقم (3287) ، قوله: «فإذا عيي» بكسر التحتية الأولى،
يقال عيي يعيي وعياء بأمره وعن أمره: عجز عنه ولم يطق أحكامه، أو لم يهتد
لوجه مراده، وعيي يعيي عيّا في المنطق: حصر.
تنبيه: قال الخازن قد يتوهم متوهم أن في بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول
(براءة) عزل أبي بكر عن الإمارة، وتفضيله على أبي بكر وذلك جهل من هذا
المتوهم، ويدل على أن أبا بكر لم يزل أميرا على الموسم في تلك السنة، حديث
أبي هريرة عن الشيخين أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنن في الناس. الحديث، وفي لفظ
أبي داود والنسائي قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن في يوم النحر بمنى أن لا
يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فقوله: «بعثني أبو بكر» ، فيه
دليل على أن أبا بكر كان هو الأمير على الناس، وهو الّذي أقام للناس حجهم،
وعلمهم مناسكهم. وأجاب العلماء عن بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
عليا ليؤذن في الناس حجهم وعلمهم مناسكهم. وأجاب العلماء عن بعث رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عليا ليؤذن في الناس ببراءة بأن عادة العرب
جرت أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا سيد القبيلة وكبيرها، أو رجل من
أقاربه، وكان عليّ بن أبي طالب أقرب إلى النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم من
أبي بكر، لأنه ابن عمه ومن رهطه، فبعثه النبي صلى اللَّه عليه وسلم ليؤذن
عنه ببراءة، إزاحة لهذه العلة، لئلا يقولوا: هذا على خلاف ما نعرفه من
عادتنا في عقد العهود ونقضها.
وقيل: لما خص أبا بكر لتوليته على الموسم خص عليا بتبليغ هذه الرسالة
تطييبا لقلبه ورعاية لجانبه.
وقيل: إنما بعث عليا في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون جاريا مجرى
التنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، لأن
النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعث أبا بكر أميرا على الحج وولاه الموسم، وبعث
عليا خلفه ليقرأ على الناس ببراءة، فكان أبو بكر الإمام، وعليّ- رضي اللَّه
تبارك وتعالى عنه- المؤتم، وكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
الخطيب، وعليّ المستمع.
وكان أبو بكر- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- المتولي أمر الموسم والأمير
على الناس ولم يكن ذلك لعلي، فدل ذلك على تقديم أبي بكر على عليّ، وفضله
عليه. (تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي) :
8/ 386- 387.
(14/319)
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا
الوجه من حديث ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه، وقد خرجا في
الصحيحين طرقا من ذلك.
فخرّج البخاري في الحج [ (1) ] من حديث يحيي بن بكير، قال: أنبأنا الليث
قال يونس: قال ابن شهاب: حدثني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنه- أخبره أن أبا بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك
وتعالى- عنه بعثه في الحجة التي أمّره عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: ألا يحج بعد العام
مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وخرّج في التفسير [ (2) ] من حديث صالح، عن ابن شهاب، أخبرني حميد بن عبد
الرحمن أن أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بعث أبو بكر في
تلك الحجة مؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك،
ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم بعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وأمره أن
يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ يوم النحر في أهل مني ببراءة،
وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وذكره في التفسير أيضا من حديث عقيل [ (3) ] بهذا الإسناد نحوه.
وخرّجه مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني عمرو عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد
الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بعثني أبو
بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في الحجة التي أمّره عليها رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم
النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
قال ابن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 617، كتاب الحج، باب (67) لا يطوف بالبيت عريان،
ولا يحج مشرك، حديث رقم (1622) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 404، كتاب التفسير، باب (2) فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ، حديث رقم (4655) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4656) .
(14/320)
شهاب: فكان. حميد بن عبد الرحمن يقول: يوم
النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة [ (1) ] .
وخرجه أبو داود من حديث شعيب عن الزهري قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن، أن
أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- قال: بعثني أبو بكر- رضي اللَّه
تبارك وتعالى عنه- فيمن يوذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا
يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأكبر الحج [ (2) ]
.
وأخرجه البخاري أيضا من هذه الطريق وقال يونس بن بكير: قال ابن إسحاق: ثم
بعث رسول اللَّه (ص) أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- أميرا على الحج
في سنة تسع ليقيم للمؤمنين حجّهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من
حجّهم.
فخرج أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى- والمؤمنون، ونزلت بَراءَةٌ
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 123- 124 كتاب الحج، باب (78) لا يحج
البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وبيان يوم الحج الأكبر، حديث رقم (435)
.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 2/ 483، كتاب المناسك [الحج] ، باب (67) يوم الحج
الأكبر، حديث رقم (1946) ، وأخرجه أيضا في البخاري: حديث رقم (4657) ،
«والعدو» اسم يقع على الواحد والمتعدد، قال تعالى هم العد فاحذرهم.
والشيطان: أصله نوع من الموجودات المجردة الخفية، وهو نوع من جنس الجن.
والإنس: لإنسان، وهو مشتق من التأنس والإلف، لأن البشر يألف بالبشر ويأنس
به، فسماه إنسا وإنسانا.
و «شياطين الإنس» استعارة للناس الذين يفعلون فعل الشياطين: من مكر وخديعة.
وإضافة شياطين إلى الإنس إضافة مجازية على تقدير «من» التبعيضية مجازا،
بناء على الاستعارة التي تقتضي كون هؤلاء الإنس شياطين، فهم شياطين، وهم
بعض الإنس، أي أن الإنس: لهم أفراد متعارفة، وأفراد غير متعارفة، يطلق
عليهم اسم الشياطين، فهي بهذا الاعتبار من إضافة الأخص من وجه، إلى الأعم
من وجه، وشياطين الجنّ حقيقة، والإضافة حقيقية، لأن الجنّ منهم شياطين،
ومنهم غير شياطين، ومنهم صالحون، وعداوة شياطين الجنّ للأنبياء ظاهرة، وما
جاءت الأنبياء إلا للتحذير من فعل الشياطين، وقد قال اللَّه تبارك وتعالى
لآدم: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، (تفسير التحرير والتنوير) : 5/
9 تفسير سورة الأنعام.
(14/321)
في نقض ما بين رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم والمشركين من العهد الّذي كانوا عليه.
قال ابن إسحاق: فخرج عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى- على ناقة
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم العصباء حتى أدرك أبا بكر- رضي اللَّه
تبارك وتعالي عنه- بالطريق، فلما رآه أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى
عنه- قال: أميرا أو مأمورا؟ قال: لا، بل مأمورا، ثم مضي، فأقام أبو بكر-
رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر قام عليّ
بن أبي طالب عند الجمرة فأذّن في الناس بالذي أمره به رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم، قال: أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد
العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم،
ليرجع كل قوم من جاء منهم من بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان
له عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عهد، فهو له إلى مدّته.
وقال عباد بن العوام: أخبرنا سفيان بن حسين عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس-
رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعث
بسورة بَراءَةٌ مع أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ثم بعث عليا- رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: يا رسول اللَّه! هل ترك من شيء؟ قال: لا،
ولكنه لا يبلغ عني غيري أو رجل من أهل بيتي، فكان أبو بكر على الموسم وكان
عليّ ينادي بهؤلاء الكلمات: لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت
عريان، واللَّه ورسوله بريئان المشركين أو قال: مشرك:
وخرج الحاكم من حديث النضر بن شميل قال: أنبأنا شعبة، عن سليمان الشيبانيّ،
عن الشعبي، عن المحرز بن أبي هريرة، عن أبيه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
قال: كنت في البعث الذين بعثهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مع علي-
رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- ب بَراءَةٌ إلى مكة فقال له ابنه أو رجل آخ:
فيم كنتم تنادون؟ قال: كنا نقول: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يحج بعد
العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم عهد فإن أجله أربعة أشهر، فناديت حتى صحل صوتي [ (1) ]
قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 361، كتاب التفسير، باب (9) تفسير سورة (التوبة)
حديث رقم (3275) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
(14/322)
فصل في ذكر الذين عادوا رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم
قال اللَّه تبارك وتعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا
شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُوراً [ (1) ] وقال تبارك وتعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى
بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً [ (2) ] وهم قريش بمكة، فإن الذين كانوا
يبدون صفحتهم في عداوته صلّى اللَّه عليه وسلم وأذاه، ويسخرون به،
ويخاصمون، ويجادلون، ويردون من أراد الإسلام عنه، فهم:
أبو جهل بن هشام، وأبو لهب، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف ابن
زهرة وهو ابن خال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم والحارث بن قيس بن عدي
السهمي، وهو ابن العيطلة والوليد بن المغيرة، وأمية وأبي ابنا خلف
الجمحيين، وأبو قيس ابن الفاكهة بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، والنضر
بن الحارث العبدري، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميين، وزهير بن أبي أمية
المخزومي، والعاصي بن سعيد بن العاصي، وعدي بن الحمراء الخزاعي، وأبو
البحتري العاصي بن هاشم بن أسد عبد العزى، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو
بن أمية، والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن الأصداء الهذلي-
وهو الّذي نطحته الأروى- والحكم بن العاص بن أمية، وهؤلاء كانوا جيرانه
صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأما الذين تنتهي إليهم عداوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
[فهم] [ (3) ] : أبو جهل، وأبو لهب، وعقبة، وكان أبو سفيان بن حرب بن أمية،
وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ذوي عداوة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
ولكنهم لم يكونوا يفعلون كما فعل هؤلاء، وكانوا كجملة قريش.
أما أبو جهل- لعنه اللَّه- فتقدم ذكره في الأصهار، وتقدم أيضا في الأعمام،
وتقدم ذكر أبي لهب بن عبد يغوث في أبناء الخال.
__________
[ (1) ] الأنعام: 112.
[ (2) ] الفرقان: 31.
[ (3) ] زيادة للسياق.
(14/323)
وأما الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم
بن عمرو وائل السهمي الّذي يقال له ابن العيطلة، والعيطلة أم أولاد قيس بن
عدي، نسبوا إليها، إنه أحد المستهزءين المؤذين لرسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم، وهو الّذي كان كلما رأى حجرا أحسن من الّذي عنده أخذه وألقي ما
عنده [ (1) ] وفيه نزلت: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [ (2) ]
إلى آخر الآية. وكان يقول: لقد غرّ محمد نفسه وأصحابه، وعدهم أن يحيوا بعد
الممات! واللَّه ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث، فأكل حوتا
مملوحا، فلم يزل يشرب عليه الماء حتى مات. ويقال: إنه أصابته الذبحة فقتل،
امتحض رأسه قيحا.
والوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن مخزوم أبو عبد شمس، والد خالد بن
الوليد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان يقال له: العدل لأنه فيما يقال:
كان يعدل قريشا كلها. ويقال: إن قريشا كانت تكسو الكعبة فيكسوها هو مثل ما
يكسوها هم، ويقال له العدل [ (3) ] وجمع قريشا في دار الندوة، ثم قال لهم:
إن العرب يأتوكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد فتختلفون، يقول هذا:
ساحر، ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون، ويقول هذا: كاهن، والناس يعلمون
أن هذه الأشياء لا تجتمع، فقالوا: نسميه شاعرا! قال الوليد:
سمعت الشعر وسمعناه، فما يشبه ما يجيء به شيئا من ذلك. قالوا: كاهن! قال:
صاحب الكهانة يصدق ويكذب، وما رأينا محمدا كذب قط! قالوا:
فمجنون! قال: المجنون يخنق ومحمد لا يخنق، ثم مضى الوليد إلى بيته، فقالوا:
صبأ، قال: ما صبأت، ولكني فكرت فقلت: أولى ما يسمي ساحرا، لأن الساحر يفرق
بين المرأة وزوجها، والأخ وأخيه، فتنادوا بمكة: إن محمدا ساحر، فنزلت فيه:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [ (4) ] إلي قوله: تِسْعَةَ عَشَرَ،
فقال: أبو الأشدّين- واسمه كلدة بن أسيد بن خلف الجمحي-: أنا أكفيكم، خمسة
علي ظهري، وأربعة بيدي [ (5) ] ، فألقوا في جهنم، فنزلت:
__________
[ (1) ] الحجر: الصنم الّذي يعبده من دون اللَّه تعالى.
[ (2) ] الفرقان: 43.
[ (3) ] لأنه كان يعدل قريشا وحدها في النفقة في كسوة الكعبة.
[ (4) ] المدثر: 11.
[ (5) ] كذا في (الأصل) ، وفي (ابن كثير) : قال: يا معشر قريش اكفوني منهم
اثنين، وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر، إعجابا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة
فيما يزعمون أنه كان يقف على جلده البقرة ويجافيه عشرة لينزعوه من تحت
قدميه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه.
(14/324)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا
مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
[ (1) ] وقال الوليد: لئن لم ينته محمد عن سب آلهتنا لنسبن إلهه! فقال أبو
جهل: نعم ما قلت، ووافقهم الأسود بن عبد يغوث، فنزلت: وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً
بِغَيْرِ عِلْمٍ [ (2) ] واعترض الوليد بن المغيرة رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم ومع الوليد عدة من قريش منهم الأسود بن عبد المطلب بن أسد ابن
عبد العزي، والعاص بن وائل السهمي، وأمية بن خلف، فقال: يا محمد هلم فنعبد
ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في الأمر كله، فإن كان ما تعبد
خيرا كنا أخذنا منه بحظنا، وإن كان ما نعبده خيرا كنت قد أخذت بحظك منه،
فأنزل اللَّه سورة: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [ (3) ] ، يقول لهم: لا
أعبد الآن ما تعبدون، ولا أنتم الآن تعبدون ما أعبد، ولا أنا عابد أبدا ما
عبدتم، ولا أنتم عابدون أبدا ما أعبد، لكم كفركم ولي إيماني [ (4) ] .
وقال الوليد لأبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية- وكان نديمه-[ (5) ] :
لولا أنزل هذا القرآن الّذي يأتي به محمد على رجل من أهل مكة أو من أهل
الطائف مثلك أو مثل أمية بن خلف؟ فقال له أبو أحيحة: أو مثلك يا أبا عبد
شمس؟ أو على رجل من ثقيف مثل مسعود بن عمرو؟ أو كنانة بن عبد ياليل؟ أو
مسعود بن معتب؟ أو ابنه عروة بن مسعود؟ فأنزل اللَّه تعالى:
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ* أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [ (6) ] . ولم يصف اللَّه
تعالى أحدا وصف الوليد بن المغيرة، ولا
__________
[ () ] قال السهيليّ: وهو الّذي دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى
مصارعته وقال: إن صرعتني آمنت بك فصرعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مرارا
فلم يؤمن. قال: وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلي ركانة بن عبد العزيز بن
هاشم بن المطلب. قال الحافظ ابن كثير: ولا منافاة بين ما ذكراه. واللَّه
تعالى أعلم.
(تفسير ابن كثير) : 4/ 474.
[ (1) ] المدثر: 31.
[ (2) ] الأنعام: 108.
[ (3) ] الكافرون: 1.
[ (4) ] (فتح القدير للشوكاني) : 5/ 739.
[ (5) ] النديم: الجليس على الشراب.
[ (6) ] الزخرف: 31- 32.
(14/325)
أبلغ من ذكره عقوقه ما بلغ من ذكرها منه،
لأنه وصفه بالحلف، والمهانة، والغيب للناس، والمشي بالنمائم، والبخل،
والظلم، والإثم، والجفاء والدعوة، وألحق بدعاء لا يفارقه في الدنيا ولا في
الآخرة، كالوسم على الخرطوم. قال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ
مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ
أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ* أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ* إِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ* سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ [ (1) ] ، ولا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.
روي سفيان عن زكريا، عن الشعبيّ قال: العتلّ الشديد، والزنيم الّذي له زنمة
من الشر يعرف بها كما تعرف الشاة [ (2) ] ، أراد الشعبي أنه قد لحقته شية [
(3) ] في الدعوة عرف بها كزنمة الشاة.
وقال الواقدي: مات الوليد بعد الهجرة بثلاثة أشهر أو نحوها وهو ابن خمس
وسبعين [ (4) ] سنة، ودفن بالحجون، وابنه قيس بن الوليد من المعادين، وكان
الوليد أحد المستهزءين فمر برجل يقال له حراث بن عامر بن خزاعة ويكنى أبا
قصاف، وهو يريش نبلا له، فوطئ على سهم منها فخدش أخمص رجله خدشا يسيرا،
ويقال: علق بأداة فخدش ساقه خدشا خفيفا، فأهوى إليه جبريل عليه السلام
فانتقض الخدش وضربته الأكلة في رجله أو ساقه فمات، وأوصى بنيه وقال: اطلبوا
خزاعة بالسهم الّذي أصابني فأعطت خزاعة ولده العقل [ (5) ] وقال: انظروا
عقرى عند أبي أزهر الدوسيّ، فلا يفوتكم فداء هشام بن الوليد على أبي أزيهر
بعد بدر، فقتله بذي المجاز، ولقتل أبي أزيهر خبر مذكور.
والعاصي بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم أخو أبي جهل،
وأميّة وأبيّ ابنا خلف، كان على شرّ ما يكون عليه أحد من أذى رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم وتكذيبه، وجاء أبيّ بعظم نخر ففتته في يده، ثم قال:
زعمت
__________
[ (1) ] القلم: 10- 16.
[ (2) ] (لسان العرب) : 12/ 277.
[ (3) ] الشية: العلامة، قال تعالى في صفة بقرة بنى إسرائيل: مُسَلَّمَةٌ
لا شِيَةَ فِيها. البقرة: 71.
[ (4) ] كذا في (الأصل) ، وفي (ابن الأثير) : «خمس وتسعين» .
[ (5) ] العقل: الدية.
(14/326)
يا محمد أن ربك يحيي هذا العظم؟ ثم نفخة
فنزلت: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [ (1) ] . الآية.
وقال سفيان الثوريّ، عن أبي السوداء، عن أبي سابط أن أبيّا صنع طعاما، ثم
أتي به إلى حلقة فيها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فدعاهم ودعاه، فقال رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا أقوم حتى تشهد أن لا إله إلا اللَّه،
ففعل، فقام صلّى اللَّه عليه وسلم فلقيه عقبة بن أبي معيط فقال: قلت كذا
وكذا؟ فقال: إنما قلت ذلك لطعامنا، فنزلت:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ [ (2) ] الظالم: عقبة، وقوله
فلانا يعني أبيا ويقال: الظالم أبيّ، و (فلانا) عقبة،
وقد قيل: إن الّذي دعي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فيمن دعا عقبة بن أبي
معيط فأنكر أبيّ ذلك عليه، وكان صديقا له ونديما، وقال: اتبعت محمدا؟ فقال:
لا واللَّه، ولكني قد تذممت أن لا أدعو وإن دعوته أن لا يأكل من طعامي،
فقلت له قولا لم أعتقده، فقال له:
وجهي من وجهك حرام إن لم تكفر به، وتتفل في وجهه، ففعل، ورجع، ما خرج فيه
إلى وجهه! فأنزل اللَّه تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ
يعني عقبة. وقوله فُلاناً يعني أبيّ بن خلف، وهي في قراءة عبد اللَّه بن
مسعود: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا وبعض الرواة يقول: إن
أمية بن خلف فعل هذا ولا يذكر أبيّا، وقتل أمية يوم بدر، فقتله حبيب بن
إساف، وقيل:
اشترك حبيب وبلال في قتله، ويقال: قتله رفاعة بن رافع الأنصاري، وقتل رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبيا يوم أحد، أخذ حربته أو حربة غيره فقتله
بها كما تقدم في خير يوم أحد.
وأبو قيس بن الفاكة بن المغيرة وكان من المؤذين لرسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم المعروفين في أذاه، يعين أبا جهل على صنعه، قتله حمزة- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنه- يوم بدر، ويقال: قتله الحباب بن المنذر.
والعاصي بن وائل السهمي، والد عمرو، وكان من المستهزءين، ولما مات عبد
اللَّه [ (3) ] ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن محمدا أبتر،
لا يعيش له ولد
__________
[ (1) ] ياسين: 78.
[ (2) ] الفرقان: 27.
[ (3) ] في بعض المراجع: «عبد اللَّه» ، وفي بعضها: «إبراهيم» ، وفي بعضها:
«القاسم» .
(14/327)
[ذكر] [ (1) ] ، فأنزل اللَّه فيه: إِنَّ
شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [ (2) ] ، فركب حمارا، ويقال:
بغلة له بيضاء، فلما صار بشعب من الشعاب وهو يريد الطائف، ربض به الحمار أو
البغلة على شبرقة فأصابت رجله شوكة منها فانتفخت حتى صارت كعنق البعير،
ومات.
ويقال: إنه لما ربض به حماره أو بغلته لدغ فمات مكانه، وكان ابنه عمرو بن
العاص يقول: لقد مات أبي وهو ابن خمس وثمانين سنة، وإنه يركب حمارا له من
هذه الديانة إلى ماله بالطائف فتمشى عنه أكثر مما ركبه.
وقال الواقدي: مات العاصي بعد هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى
المدينة بأشهر، وهو ابن خمس وثمانين سنة، وكان يكنى أبا عمرو، وقال ابن
سعد: قلت للواقدي: قال اللَّه عز وجل: إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ وهذه السورة مكية [ (3) ] ، فقال: قد سألت مالكا وابن
أبي ذؤيب عن هذا فقالا: كفاه إياهم، فبعضهم مات وبعضهم عمي، فشغل عنه،
وبعضهم كفاه إياه، أذهب ما له من أسباب مفارقته بالهجرة هاهنا. وقال
غيرهما: كفاه أمرهم فلم يضروه بشيء مما كادوه.
والنضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار أبو قائد، وكان
أشدّ قريش معاداة بالأذى لرسول اللَّه [ (1) ] والتكذيب، فأسر ببدر وضربت
عنقه، وقد تقدم ذكره.
وأبو أحيحة سعيد بن العاصي بن أمية كان، يقول: دعوا محمدا ولا تعرضوا له
فإن كان ما يقول حقا كان فينا دون غيرنا من قريش، وإن كان كاذبا قامت به
قريش دونكم، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يمر عليه فيقول: إنه ليتكلم
من السماء، حتى أتاه النضر بن الحارث- فقال: بلغني أنك تحسن القول في محمد!
وكيف ذاك؟ وهو يسب آلهتنا، ويزعم أن آباءنا في النار، ويتوعد من لم يتبعه
بالعذاب، فأظهر أبو أحيحة عداوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وذمّة
وعيّب ما جاء به، وجعل يقول: ما سمعنا بمثل ما جاء به في يهودية ولا
نصرانية، وكان أبو أصيحة ذا شرف بمكة، وكان إذا اعتمّ لم يعتم أحد بمكة، إذ
لم يعتم أحد بعمامة على لون عمامته إعظاما له. فقويت أنفس المشركين حين رجع
عن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] الكوثر: 3.
[ (3) ] الحجر: 95.
(14/328)
قوله الأول، فأتاه النضر شاكرا له على ذلك،
لإعظام قريش إياه، ومات أبو أحيحة في ماله بالطائف سنة اثنتين من الهجرة.
ويقال: في أول سنة من الهجرة، وله تسعون سنة، فلما غزا رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلم الطائف رأى قبر أبي أحيحة مشرفا، فقال أبو بكر- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنه-: لعن اللَّه صاحب هذا القبر، فإنه كان ممن يحاد
اللَّه ورسوله، فقال ابناه: عمرو وأبان:
لعن اللَّه أبا قحافة [ (1) ] فإنه كان لا يقرى الضيف، ولا يرفع الضيم،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سب الأموات يؤذي الأحياء، فإذا
سببتم فعموا.
ومنبه ونبيه ابنا الحجاج السّهميان، كانا على مثل ما عليه أصحابهما من أذى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والطعن عليه، وكانا يلقيانه فيقولان:
أما وجد اللَّه من يبعثه غيرك؟ إن هاهنا من هو أسنّ منك، وأيسر، فإن كنت
صادقا فائتنا بملك يشهد لك، ويكون معك، وإذا ذكر لهما قال: معلم مجنون،
يعلمه أهل الكتاب ما يأتي، فكان صلّى اللَّه عليه وسلم يدعو عليهما، فأما
منبه فقتله عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ويقال: أبو اليسر الأنصاري
ويقال: أبو أسيد الساعدي، وأما نبيه فقتله أيضا عليّ، وقتل العاصي بن منبه
أيضا، وكان صاحب ذي الفقار [ (2) ] ، وقيل: كان يف نبيه.
وزهير بن أبي أمية وحذيفة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، وهو
أخو أم المؤمنين أم سلمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- لأبيها، وكان ممن
يظهر تكذيب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وينكر ما جاء به، ويطعن عليه ويردّ
الناس عنه، وهو ابن عمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عاتكة بنت عبد
المطلب، وقد اختلف فيه فقيل:
إنه شخص يريد بذرا فسقط عن بعيرة فمرض ومات، وقيل: أسر يوم بدر فأطلقه رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما صار بمكة مات. وقيل: حضر وقعة أحد ومات
بعدها بسهم أصابه، وقيل: شخص إلى اليمن بعد الفتح فمات هناك كافرا، وقيل
أتي الشام فمات هناك.
وعبد اللَّه بن أبي أمية كان منهم، وأتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في
قوم من المشركين فقال له بعضهم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا،
فإن ماء زمزم ملح. وقال آخر: إن لم تفعل هذا فإنا لن نؤمن لك حتى يكون لك
بمكة جنان
__________
[ (1) ] أبو قحافة: والد أبي بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (2) ] ذو الفقار اسم سيف من السيوف التي آلت إلى النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم.
(14/329)
كجنان آل فارس، ذات نخيل وأعناب، وقال آخر:
لن نؤمن لك حتى تسقط السماء علينا كسفا، أو تأتي بربك وملائكتك فنراهم،
وقال عبد اللَّه بن أبي أميّة: لن تؤمن لك حتى نرى لك بيتا من ذهب يحدثه لك
ربك، أو ترقى في السماء ثم لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب ونحن نراك فنقرأه
فأنزل اللَّه تعالى حكاية قولهم، وقال: قال لهم: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ
كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [ (1) ] وأسلم عبد اللَّه، وقتل يوم
الطائف. والثابت أن عبد اللَّه قال هذا القول من بينهم، وكان خطيب القوم
ومتكلمهم.
والسائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد اللَّه بن عمران بن مخزوم ممن
كان يعادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقتله الزبير- رضي اللَّه
تبارك وتعالى عنه- ببدر.
والأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم وكان ممن
يعادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان حلف يوم بدر ليكسرن حوض
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقاتل حتى وصل إلى الحوض فأدركه حمزة- رضي
اللَّه تبارك وتعالي عنه- وهو يكسره فقتله، فاختلط دمه بالماء.
وعديّ بن الحمراء الخزاعي، كان ممن يعادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم ولدغ وهو يريد بدرا فمات.
والعاصي من سعيد بن العاصي بن أمية، قتل يوم بدر كافرا، وأبو البحتريّ
العاصي بن هاشم بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ، كان أقلهم أذى لرسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم على أنه كان يكذبه ويعيب ما جاء به، قتل يوم بدر
كافرا وقيل: قتله عمير بن عامر المازنيّ، وفي أبي البحتريّ نزلت:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ (1) ] . الآية.
خرج أبو نعيم من حديث محمد بن إسحاق قال: حدثني الأجلح، عن أبي إسحاق
السبيعي، عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك
وتعالي عنه- أنه قال: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في المسجد
وأبو جهل بن هشام، وشيبة، وعتبة ابنا ربيعة، وعقبة بن معيط وأمية بن خلف،
قال أبو إسحاق: ورجلان آخران لا أحفظ أسميهما، كانوا سبعة، وهم في الحجر،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي فلما سجد أطال السجود، فقال أبو
جهل: أيكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفرثها فيلقيه على ظهر محمد؟ فانطلق
أشقاهم
__________
[ (1) ] الزمر: 3.
(14/330)
وأسفلهم عقبة بن أبي معيط، فأتي به فألقاه
على كتفه، ورسول اللَّه (ص) ساجد، قال ابن مسعود: وأنا قائم لا أستطيع أن
أتكلم، ليس عندي عشيرة تمنعني، فأنا أرهب،
إذ سمعت فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بذلك، فأقبلت حتى
ألقت ذلك عن أبيها، ثم استقبلت قريشا فشتمتهم، فلم يرجعوا إليها شيئا، ورفع
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم رأسه كما كان يرفع عند تمام سجوده، فلما
قضى صلاته قال: اللَّهمّ عليك بقريش، اللَّهمّ عليك بقريش، اللَّهمّ عليك
بقريش، اللَّهمّ عليك بعقبة، وعتبة، وأبي جهل وشيبة، وذينك الرجلين، ثم خرج
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من المسجد ولقيه أبو البختري ومع أبي
البختري سوط. يتخصر به، فلما لقيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنكر وجهه
فأخذه فقال: تعالى، مالك؟ قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: خل عني، قال:
على اللَّه أن لا أخلي عنك أو تخبرني ما شأنك فلقد أصابك شيء، فلما علم
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه غير مخل عنه أخبره فقال: إن أبا جهل أمر
أن يطرح عليّ فرث، فقال أبو البختري: هلم إلى المسجد، فأبى فأخذه أبو
البختري، فأدخله إلي المسجد، ثم أقبل علي أبي جهل، فقال: يا أبا الحكم أنت
الّذي أمرت بمحمد فطرح عليه الفرث؟ قال: نعم، فرفع السوط فضرب رأسه، فثارت
الرجال بعضها إلى بعض، فصاح أبو جهل فقال: ويحكم من له؟ إنما أراد محمد أن
يلقى بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه [ (1) ] .
وعقبة بن أبي معيط [بن] [ (2) ] زبان بن [أبى] [ (2) ] عمرو بن أمية أبو
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 266- 267، حديث رقم (200) ، وقال في هامشه:
أخرجه مسلم من طريق زكريا عن أبي إسحاق مختصرا، وأخرج البخاري ففي (صحيحه)
من طريق إبراهيم ابن يوسف عن أبيه، عن أبي إسحاق، قال: حدثني عمرو بن مسمون
أنعبد اللَّه ابن مسعود. فذكر الحديث دون قصة أبي البختري، وكذا أخرجه من
طريق إسرائيل عن أبي إسحاق بسنده.
قال ابن حجر: وروى هذا الحديث إن إسحاق في (المغازي) قال: حدثني الأجلح عن
أبي إسحاق، والقصة مشهورة في السيرة، وأخرجها البزار من طريق ابن إسحاق،
وأشار إلى تفرد الأجلح بها عن أبي إسحاق.
وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 6/ 18: رواه البزار والطبراني في
(الأوسط) ، وفيه الأجلح بن عبد اللَّه الكندي وهو ثقة عند ابن معين وغيره،
وضعفه النسائي وغيره، وقال ابن حجر في (تقريب التهذيب) :
هو صدوق.
[ (2) ] زيادات للنسب من (جمهرة أنساب العرب) ، قال ابن حزم: قتله رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صبرا، ضرب عنقه عامر بن ثابت، أخو عاصم بن
ثابت حميّ الدبر.
(14/331)
الوليد، كان أشد الناس عداوة لرسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم وأذى، فعمد إلى مكتل فحول فيه عذرة، ثم ألقاه على
باب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ونصرته طليب بن عمير بن وهب بن قصيّ بن
كلاب، وأمه أروى بنت عبد المطلب فأخذ المكتل نفسه وضرب به رأسه، وأخذ
باديته وتشبث به. ويروي: وتشبث به عقبة وذهب به إلى أمه أروي، فقال لها:
ألا ترين إلى ابنك قد صار عرضا دون محمد، فقالت:
ومن أولي منه بذلك؟ ابن خاله، أموالنا وأنفسنا دون محمد، وجعلت تقول:
إن طليبا نصر ابن خاله وآساه في ذي دمه وماله، وجاء بسلا جزور فقذفه على
ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة، حتى جاءت
فاطمة فأخذته عن ظهره صلّى اللَّه عليه وسلم.
فلما كان يوم بدر أسر عقبة عبد اللَّه بن سلمة بن مالك العجلاني فأمر رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فضرب عنقه كما
تقدم ذكره.
الأسود بن المطلب [ (1) ] بن أسد بن عبد العزى أبو زمعة زاد الراكب، كان من
المستهزءين، وكان وأصحابه يتغامزون بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه
ويقولون: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر، ثم يحكون،
ويصفرون، ويصفقون وكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بكلام شق عليه،
فدعا عليه أن يعمي اللَّه بصره، ويثكله ولده. فخرج يستقبل ابنه وقد قدم من
الشام فلما كان في بعض طريقه فجلس في ظل شجرة فجعل جبرائيل عليه السلام
يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها، وبشوكها حتى عمي، وقيل: أومأ إلى عينيه
فعمي فشغله عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقتل ابنه معه ببدر
كافرا، قتله أبو دجانة وقتل ابن ابنه عتيب، قتله حمزة وعليّ اشتركا في
قتله، وقتل ابن ابنه الحارث بن زمعة بن الأسود، قتله عليّ، وقيل: هو الحارث
بن الأسود، والأول أصحّ، وهو القائل:
أتبكي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود
وقال الواقدي: ومات الأسود بمكة وهم يتجهزون لأحد، وكان الأسود يجلس معه
قوم من المشركين فيقولون: ما نرى ما جاء به محمد! ما هو إلا سجع كسجع
الكهان، فنزلت فيهم: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [ (2) ] وقيل:
نزلت في أهل الكتاب وكانوا إذا سئلوا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول
بعضهم: ساحر، ويقول
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ) : 2/ 74- 75، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ] الحجر: 91.
(14/332)
بعضهم: شاعر، ويقول بعضهم: مجنون، ويقول
بعضهم: ساحر، ويتكذبون عليه، فيصدون الناس عنه، فأنزل اللَّه تعالى فيهم:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [ (1) ] ،
يقول أثقال من يصدونه عن الإلسام. وذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
عاقرا الناقة فقال: كان عزيزا منيعا كأبي زمعة الأسود بن المطلب فيكم.
وابنه زمعة بن الأسود وابن الأصداء الهذليّ، كان يؤذي النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم ويقول له: إنما يعلمك أهل الكتاب بأساطيرهم، ويقول للناس: هو
معلم مجنون، فدعا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فإذا هو على جبل
إذ اجتمعت عليه الأروى فنطحته حتى قتلته.
والحكم بن أبي العاصي بن أمية [ (2) ] ، كان مؤذيا لرسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم، وكان
__________
[ (1) ] العنكبوت: 13.
[ (2) ] هو الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ
القرشيّ الأمويّ، عم عثمان بن عفان، أبو مروان بن الحكم، كان من مسلمة
الفتح، وأخرجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من المدينة، وطرده عنها،
فنزل الطائف، وخرج معه ابنه مروان.
وقيل: إن مروان ولد بالطائف، فلم يزل الحكم بالطائف إلى أن ولى عثمان- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنه- فرده عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى
المدينة، وبقي بها، وتوفي في آخر خلافة عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى
عنه- قبل القيام على عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بأشهر فيما أحسب.
واختلف في السبب الموجب لنفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إياه،
فقيل: كان يتحيل ويستخفي ويتسمّع ما يسّره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم إلى كبار الصحابة في مشركي قريش وسائر الكفار والمنافقين، فكان يفشي
ذلك عنه حتى ظهر ذلك عليه. وكان يحكيه في مشيته وبعض حركاته، إلى أمور
غيرها كرهت ذكرها.
ذكروا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا مشي يتكفأ، وكان الحكم
بن أبي العاص يحكيه، فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما فرآه
يفعل ذلك، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فكذلك فلتكن، فكان
الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ.
فعيره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه:
إن اللعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يمشي خميص البطن من عمل التقى ... ويظل من عمل الخبيث بطينا
فأما قوم عبد الرحمن بن حسان: «إن اللعين أبوك» ، فروى عن عائشة من طرق
ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن بن
أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لما امتنع من
(14/333)
يمشى ذات يوم وهو خلفه، فخلج بأنفه وفمه
فبقي على ذلك، وأظهر الإسلام يوم فتح مكة، وكان مغموصا عليه في دينه، فاطلع
على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمدينة في بعض حجر نسائه، فخرج
إليه يعيره فقال: من عدا يرى من هذه الودعة؟
لو أدركته لفقأت عينه، وغربة عن المدينة، فلم يزل خارجا منها إلى أن استخلف
أمير المؤمنين عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فرده وولده،
ومات في خلافة عثمان، فضرب على قبره فسطاطا، وقال عبد الرحمن بن حسان بن
ثابت لمروان بن الحكم:
إن اللعين أباك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يمسي [ (1) ] خميص البطن من عمل التقى ... ويظل من عمل الخبيث بطينا
وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن الوليد، لقي رسول اللَّه فقال
له: إن أردت الشرف شرفناك وإن كنت تريد المال أعطيناك منه
__________
[ () ] البيعة ليزيد بن معاوية لولاية العهد ما قال: أما أنت يا مروان
فاشهد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه. وحدثنا
عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا موسى بن
إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عثمان بن حكيم، قال: حدثنا شعيب
بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو العاص، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنهما-
قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يدخل عليكم رجل لعين. قال عبد
اللَّه: وكنت قد تركت عمرو يلبس.
ثيابه ليقبل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فلم أزل مشفقا أن يكون
أول من يدخل- فدخل الحكم بن أبي العاص.
قال الحافظ: وروينا في جزء ابن نجيب، من طريق زهير بن محمد عن صالح بن أبي
صالح حدثني نافع عن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم فمر الحكم بن أبي العاص، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ويل
لأمتي مما في صلب هذا.
وأخرج ابن سعد عن الواقدي، بسنده إلى ثعلبة بن أبي مالك، قال: مات الحكم بن
أبي العاص في خلافة عثمان، فضرب على قبره فسطاطا في يوم صائف، فتكلم الناس
في ذلك، فقال عثمان: قد ضرب في عهد عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على
زينب بنت جحش فسطاطا فهل رأيتم عائبا عاب ذلك؟ مات الحكم بن أبي العاص سنة
اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- (الاستيعاب)
: 1/ 359- 360، ترجمة رقم (529) ، (الإصابة) :
2/ 104- 106، ترجمة رقم (1783) .
[ (1) ] في (الأصل) : «يضحي» .
(14/334)
ما تحب، فقال: يا أبا الوليد اسمع: فقرأ
عليه حم [ (1) ] السجدة فقال: هذا كلام ما سمعت مثله،
ثم التفت إلي جماعة قريش فقال: دعوه، وخلوا بينه وبين العرب، فليس بتارك
أمره، وأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ابن أم مكتوم وعتبة يكلمه،
وقد طمع فيه أن يسلم، فشغل عنه، فأنزل اللَّه تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى*
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [ (2) ] وقوله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى [ (3) ] يعني
عتبة [ (4) ] ويقال: بل الّذي شغل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم به عن ابن
أم مكتوم قال له: علمني مما علمك اللَّه، فأقبل على أمية بن خلف وتركه،
وقتل عتبة يوم بدر وله خمسون سنة، وكان أبو حذيفة بن عتبة [ (5) ] مع رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مسلما.
__________
[ (1) ] السجدة: 1.
[ (2) ] عبس: 1، 2.
[ (3) ] عبس: 5.
[ (4) ] هذا المستغني هو الوليد، أو أمية، أو عتبة وشيبة، وجميع المذكورين
في سبب النزول أقوال، قال القرطبيّ:
وهذا كله غلط من المفسرين، لأن أمية والوليد كانا بمكة، وابن أن مكتوم كان
بالمدينة ما حشر معهما، وماتا كافرين، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر،
ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر معه مفردا ولا مع أحد.
وابن أم مكتوم: هو عبد اللَّه بن سرح بن مالك بن ربيعة الفهريّ، من بنى
عامر بن لؤيّ، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة، وهو ابن خال خديجة- رضي اللَّه
تبارك وتعالى عنها- (البحر المحيط) : 10/ 407، مختصرا.
[ (5) ] هو أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ،
العبشميّ، قال معاوية: اسمه مهشم، وقيل: هشيم، وقيل: هاشم، وقيل: قيس.
كان من السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وصلّى القبلتين. قال ابن
إسحاق: أسلم بعد ثلاثة وأربعين إنسانا، وثبت ذكره في (الصحيحين) في قصة
سالم من طريق الزهري، عن عروة عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن
أبا حذيفة بت عتبة كان ممن شهد بدرا، يكنى سالما، قالوا: كان طوالا حسن
الوجه استشهد يوم اليمامة، وهو ابن ست وخمسين سنة.
قال أبو عمر بن عبد البر: كان من فضلاء الصحابة من المهاجرين الأولين، جمع
اللَّه له الشرف والفضل، صلّى القبلتين، وهاجر الهجرتين جميعا، وكان إسلامه
قبل دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دار الأرقم للدعاء فيها إلى
الإسلام. هاجر مع امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى أرض الحبشة، وولدت له
هناك محمد بن أبى حذيفة، ثم قام على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو
بمكة، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، وأحدا، والخندق،
(14/335)
وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس [ (1) ] أبو
هاشم، كان يجتمع مع قريش فيما يكيد به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من
الأذى، ولا يتعاطى ذلك بيده، وقتله عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف
يوم بدر ووقف عليه حمزة وعليّ- رضي اللَّه تبارك عنهما- وكان شيبة أسنّ من
عتبة بثلاث سنين وكان شيبة وعتبة متثاقلين عن الخروج لبدر حتى أتاهما أبو
جهل فخرجا، ولما قتلوا ببدر قالوا: ومشى نساء قريش إلى هند بنت عتبة وهي أم
معاوية بن أبي سفيان فقلن لها: ألا تبكين على أبيك وعمك وأخيك وأهل بيتك؟
فقالت: حلقي، أنا لا أبكيهم فيبلغ محمدا وأصحابه، فيشمتوا بنا، ونساء بني
الخزرج! لا واللَّه، حتى أثأر من محمد وأصحابه، وحرمت على نفسها الدهن
والكحل وقالت: واللَّه، لو أعلم أن الحزن يذهب من قلبي لبكيت، ثم قالت:
للَّه عينا من رأى هلكا هلك رحالته ... يا رب بارك لي غدا في النايحات
وباكيه
كم غادروا يوم القليب غداة تلك الواعية ... من كل عيب في السنن إذا الكواكب
جارية
قد كنت أحذر ما أرى فاليوم حل جدار به ... يا رب قابله غدا يا ويح أم
معاوية
وأنس بن معير بن لودان بن سعد بن جمح، أخو أبي محذورة [ (2) ] ومطعم
__________
[ () ] والحديبيّة، والمشاهد كلها. وقتل يوم اليمامة شهيدا، وكان أثعل،
والأثعل الّذي له سنّ زائدة، تدخلها من صلبها الأخرى، وفيه تقول هند بنت
عتبة حين دعا أباه إلى البراز يوم بدر:
فما شكرت أبا ربّاك من صغر ... حتى شببت شبابا غير محجون
الأحول الأثقل المشئوم طائرة ... أبو حذيفة شر الناس في الدين
قال أبو عمر بن عبد البرّ: بل كان من خير الناس في الدين، وكانت هي- إذ
قالت هذا الشعر- من شر الناس في الدين (الإصابة) : 7/ 87، ترجمة رقم (9748)
.
(الاستيعاب) : 4/ 1631- 1632، ترجمة رقم (2914) ، (جمهرة أنساب العرب) :
77.
[ (1) ] عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، قتلا يوم بدر كافرين، وكان شيبة
يقف بعرفة إذا حج، بخلاف سائر قريش. (المرجع السابق) : 76، ثم قال في صفحة
491: وكان قد تنصّر من قريش نفر يسير، وهم شيبة بن ربيعة بن عبد شميس.. في
آخرين.
[ (2) ] (جمهرة أنساب العرب) : 162.
(14/336)
بان عدي بن نوفل بن عبد مناف أبو وهيب [
(1) ] ، كان أقل أصحابه أذى للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، لكنه كان ينكر
عليه ما أنكروا، وهو الّذي قام بأمر بني هاشم وبني المطلب حتى خرجوا من
الشعب،
وأجاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كما رجع من الطائف حتى مات بالبيت، ومات
في صفر سنة اثنين من الهجرة قبل بدر، وهو ابن بضع وتسعين سنة، ودفن
بالحجون، وأقيم النوح عليه سنة، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
لابنه جبير بن مطعم يوم بدر: لو كان أبوك حيا واستوهبني هؤلاء الأسرى أبوك
لوهبتهم له، وشفعته فيهم.
وطعيمة بن عدي بن نوفل بن المطلب، أبو الريان، وكان ممن يؤذي رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم فيبالغ في أذاه، ويشتمه، ويسمعه، ويكذبه، فأسر يوم
بدر، وقتل صبرا كما تقدم [ (2) ] والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، فيه
نزلت:
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [ (3) ]
لكنه كان ممن أعان على نقض الصحيفة وقتل يوم بدر كافرا، قتله خبيب بن إساف
[ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 115.
[ (2) ] (المرجع الاسبق) 115- 116.
[ (3) ] القصص: 57.
[ (4) ]
(جمهرة النسب) : 62- 63، وقال: وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: من
لقيه فليدعها لأيتام بني نوفل.
يقول اللَّه تعالى- مخبرا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث
قالوا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم-: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ
نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا
من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطنونا
أينما كنا، قال اللَّه تعالى مجيبا لهم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً
آمِناً يعنى هذا الّذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن اللَّه تعالى جعلهم في
بلد أمين، وحرم معظم آمن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال
كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنا لهم وقد أسلموا وتابعوا للحق؟
قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي من سائر الثمار مما
حوله من الطائف وغيره، وكذلك المتاجر والأمتعة رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا أي من
عندنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولهذا قالوا ما قالوا. وقد قال
النسائي: أنبأنا الحسن بن محمد، حدثنا حجاج عن ابن جريج، أخبرنى ابن أبي
مليكة قال: قال عمرو بن شعيب عن ابن عباس- ولم يسمع منه- إن الحارث بن عامر
بن نوفل الّذي قال: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ
أَرْضِنا. (تفسرا بن كثير) : 3/ 406.
(14/337)
ومالك بن الطلاطلة بن عمرو بن عبسان، واسمه
الحارث بن عمرو بن مزيقياء كان من المستهزءين وكان سفيها، فدعى عليه رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم واستعاذ باللَّه من شره فعصر جبريل عليه
السلام بطنه حتى خرج خلاه من بطنه فمات وقيل: بل أشار إليه فامتخض رأسه
قبحا [ (1) ] ، وقتل به عمرو بن الطلاطلة، وهو باطل. وقيل: الحارث بن
الطلاطلة وليس بشيء، وهم يغلطون بابن الغيطلة وابن الطلاطلة فيجعلون هذا
ذلك، وذاك هذا. قاله ابن الكلبي [ (2) ] .
وقيل: إن المستهزءين ماتوا في وقت واحد، وما تقدم ذكره أثبت.
وركانة الشديد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، قدم من سفر له فأخبر خبر
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلقيه في بعض جبال مكة فقال: يا ابن أخى!
قد بلغني عنك أمر وما كنت عندي بكذاب، فإن صرعتني علمت أنك صادق، فصرعه
النبي صلى اللَّه عليه وسلم ثلاثا فأتى قريشا فقال: يا هؤلاء! صاحبكم ساحر
فاسحروا به من شئتم.
وقال هشام بن الكلبيّ [ (3) ] : حدثني أبي عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي
اللَّه تبارك وتعالي عنهما- قال: لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
ركانة بن عبد يزيد وكان أشد العرب لم يصرعه أحد قط، فدعاه إلى الإسلام
فقال: واللَّه لا أسلم حتى تدعو هذه الشجرة- وكانت سمرة أو طلحة- فقال رسول
صلّى اللَّه عليه وسلم:
أقبلي بإذن اللَّه، فأقبلت تخدّ الأرض خدا، فقال ركانة: ما رأيت كاليوم
سحرا أعظم، فأمرها فلترجع، فقال: ارجعي بإذن اللَّه، فأقبلت تخذ الأرض خدا
فقال: ويحك! أسلم، قال: إن صرعتني أسلمت، وإلا فغنمي لك، وإن
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 256- 257، المستهزءون برسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم وكفاية اللَّه أمرهم، وما فعل اللَّه تعالى بالمستهزءين،
والحارث ابن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن ملكان، والطلاطلة أمه،
والطلاطلة في اللغة: الداهية، قال أبو عبيد: كل داء عضال فهو الطلاطلة.
[ (2) ] قال ابن الكلبي في نسب قيس بن عدي بن سهم: وكانت عنده الغيطلة من
بنى شنوق بن مرة، وكانوا ينسبون إليها، وكان عندهم عرام [شدة وقوة وشراسة]
، والحارث بن قيس بن عديّ وهو من المستهزءين، وهو صاحب الأركان، وكان كلما
مرّ بحجر أحس من الى عنده أخذه وألقى الّذي عنده، وفيه نزلت: أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23. (جمهرة النسب) : 101،
(الاشتقاق) : 122.
[ (3) ] قال ابن الكلبيّ في نسب بني عبد المطلب بن عبد مناف: وركانة بن عبد
يزيد بن هاشم بن المطلب الشديد، الّذي صرعة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقد سبق تخريج حديث صرع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لركانه وإثبات مصادره
كاملا في المعجزات.
(14/338)
صرعتك كففت عن هذا الأمر، فأخذه النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم فصرعه ثلاثا، فقال: يا بن عم العود، فصرعه أيضا ثلاثا،
فقال: أسلم، قال: لا، قال: فإنّي آخذ غنمك، قال: فما تقول لقريش؟ قال: أقول
صارعته، فصرعته، فأخذت غنمه، قال: فضحتني وأخبتني! قال: فما أقول لهم؟ قال:
قل: قامرته، قال: إذا أكذب؟ قال: ألست في كذب من حين تصبح إلى حين تمس؟
قال: خذ غنمك، قال: أنت واللَّه خير مني وأكرم، فقال النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم: وأحق بذلك منك.
وابن أبي وهب المخزوميّ، كان فمن يؤذي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقتل
يوم الخندق وقيل: بقي إلى الفتح فهرب إلى اليمن وما هناك كافرا وهو أثبت [
(1) ] .
ومن أعداء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
عبد اللَّه بن شهاب بن عبد اللَّه بن الحارث بن زهرة الزهري وهو عبد اللَّه
الأصفر، فإن أخاه ابن شهاب الأكبر من مهاجرة الحبشة، ومات بمكة قبل الهجرة
[ (2) ] ، وكان يسمى عبد الجان، فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
عبد اللَّه.
وعتبة بن أبي وقاص [ (3) ] ، ومالك بن أهيب بن عبد مناف، وعبد اللَّه بن
شهاب الزهريّ [ (4) ] ، وعمرو بن قمئة الأدمي من بني تميم بن غالب [ (5) ]
، وعبد اللَّه بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وذلك
أنه لما كان يوم أحد تعاقد هؤلاء مع أبيّ بن خلف على قتل رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم، وأما عتبة بن أبي وقاص فرماه بأربعة أحجار، فكسر رباعيته
اليمنى [السفلى] ، وشقّ شفته السفلى وأما ابن قمئة فكلم وجنتيه صلّى اللَّه
عليه وسلم وغيّب حلق
__________
[ (1) ] قال ابن حزم: فولد أبى وهب: هبيرة بن أبي وهب، زوج أم هانئ بنت أبي
طالب أخت عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فرّ عن الإسلام يوم الفتح،
فمات كافرا طريدا بنجران. (حجرة أنساب العرب) :
141.
[ (2) ] (جمهرة أنساب العرب) : 130.
[ (3) ] هو الّذي جرح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم أحد، وقيل:
مات مسلما، وقيل: بل مات كافرا. (المرجع السابق) :
129، (سيرة ابن هشام) : 4/ 28، حيث قال: عن أبي سعيد الخدريّ، أن عتبة بن
أبي وقاص رمي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته
اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى.
[ (4) ] قال في (المرجع السابق) : شجّه في جبهته.
[ (5) ] اسمه عبد اللَّه، وهو الّذي قتل مصعب بن عمير، وجرح وجه رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم (المرجع السابق) .
(14/339)
المغفر [ (1) ] فيهما، وعلاه بالسيف، فلم
يقطع، وسقط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجحشت ركبته.
وأما أبيّ بن خلف فشدّ بحربة فأعان اللَّه عز وجل رسوله صلّى اللَّه عليه
وسلم فقتله، وأما عبد اللَّه بن حميد فأقبل يريد النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم فشدّ عليه أبو دجانة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فضربه، وقال: خذها
وأنا ابن خرشة فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ ارض عن ابن خرشة
فإنّي عنه راض [ (2) ] .
قال الواقدي: دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على الذين تعاقدوا على
قتله فقال:
اللَّهمّ لا تحل على أحد منهم الحول، فمات عتبة من وجع أليم أصابه، فتعذب
به، وأصيب ابن قمئة في المعركة، ويقال: إنه لما رمى مصعب بن عمير فقتله،
قال: خلاها وأنا ابن قمئة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أقمأه
اللَّه، فعهد إلى شاة ليحلبها بعد الوقعة فنطحته وهو معتقلها فقتلته، ووجد
ميتا بين الجبال [ (3) ] .
ولم يذكر الواقدي منبه بن شهاب وكان ابن أبيّ وابن حميد ما قد ذكرنا، بعضهم
يذكر أن عبد اللَّه بن حميد قتل يوم بدر والثابت أنه قتل يوم أحد. ذكره
البلاذري، وقال: حدثني بعض قريش أن أفعى نهشت عبد اللَّه بن شهاب في طريقه
إلى مكة فمات، قال: وسألت بني زهرة، عن خبره فأنكر أن يكون رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم دعا عليه، أو يكون شجّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم وقالوا: الّذي شجع في جبهته عبد اللَّه بن حميد الأسدي [ (4) ]
__________
[ (1) ] المغفر: حلق يجعل على الرأس يتقي به ضرب السلاح في الحرب.
[ (2) ]
روي أن عبد اللَّه بن حميد الأسديّ لما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم قد جرح، جعل يركض فرسه ويقول: أرونى محمدا، واللَّه إني لأقتله،
فاعترضه أبو دجانة فضربه بالسيف فقتله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم: اللَّهمّ ارض عن ابن خرشة كما أنا عنده راض. (تاريخ الخميس) : 1/
432، أحداث غزوة أحد، (مغازي الواقدي) 1/ 246.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 246، ثم قال: لدعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم وكان عدوّ اللَّه قد رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو رجل من بنى الأدرم من بنى فهر.
[ (4) ] قال الواقدي: ويقبل عبد اللَّه بن حميد بن زهير حين رأى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على تلك الحال، يركض فرسا مقنعا في الحديد
يقول: أنا ابن زهير، دلوني على محمد، فو اللَّه لأقتلنه أو لأموتن دونه!
فتعرض له أبو دجانة فقال: هلمّ إلى من بقي نفس محمد بنفسه فضرب فرسه
فعرقبها، فاكتسعت الفرس، ثم علاه بالسيف وهو يقول: خذها وأنا ابن خرشة..
وساق الخبر بتمامه: (مغازي الواقدي) : 1/ 246.
(14/340)
وأما المنافقون
وكانوا من الخزرج والأوس
قال ابن سيده: النفاق الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من آخر مشتق من
نافق اليربوع، إسلامية، وقد نافق منافقه ونفاقا [ (1) ] .
قال اللَّه تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا
وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ [
(2) ] فدل على أن المنافقين شر من كفر به، وأولادهم عقبة، وأبعدهم من
الإثابة إليه، لأنه شرط عليهم في التوبة والإصلاح والاعتصام، ولم يشرط ذلك
على غيرهم، ثم شرط الإخلاص، لأن النفاق ذنب القلب، والإخلاص توبة القلب، ثم
قال: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ (3) ] ولم يقل: فأولئك هم المؤمنون،
ثم قال:
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [ (4) ] ولم يقل:
وسوف يؤتيهم اللَّه بعضها لهم وإعراضا عنهم وحيدا، فالكلام عن ذكرهم، وقال
تعالى يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [ (5) ] فدل
على خبثهم واستشرافهم بكل ما عرف من هرج علي الإسلام وأهله.
خرج مسلم من حديث محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس
بن عباد قال: قلنا لعمار: رأيت قتالكم أرأيا رأيتموه فإن الرأي يخطئ ويصيب،
أو عهدا عهده إليكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ما عهد إلينا
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، وقال: إن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن في أمتي- قال شعبة وأحسبه قال
حدثني حذيفة- وقال غندر: أراه
__________
[ (1) ] وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق وما تصرف منه اسما وفعلا، وهو اسم
إسلاميّ لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الّذي يستر كفره ويظهر
إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفا. (لسان العرب) :
10/ 359.
[ (2) ] النساء: 145- 146.
[ (3) ] النساء: 146.
[ (4) ] النساء: 146.
[ (5) ] المنافقون: 4، وهؤلاء فريق كانوا يقولون في حق النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم ما يؤذيه إذا بلغه. وقد عد من هؤلاء المنافقين، القائلين ذلك:
الجلاس بن سويد، قبل توبته، ونبتل بن لحارث، وعتاب بن قشير، ووديعة بن
ثابت، فمنهم من قل: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وقال
بعضهم: نقول فيه ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف له أنا ما قلنا، فيقيل قولنا.
(تفسير التحرير والتنوير) 6/ 241، تفسير سورة التوبة.
(14/341)
قال في أمتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون
الجنة ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم
الدبيلة سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم [ (1) ] .
وخرج من حديث الوليد بن جميع، حدثنا أبو الطفيل قال: كان بين رجل من أهل
العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون من الناس، فقال: أنشدك باللَّه كم كان أصحاب
العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذا سألك، قال: كنا نخبر أنهم أربعة
عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد باللَّه أن اثني عشر منهم
حرب للَّه ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة، قالوا:
ما سمعنا منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولا علمنا بما أراد
القوم، وقد كان في حرة فمشى فقال: إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد فوجد
قوما قد سبقوه فلعنهم يومئذ [ (2) ] .
وقال الواقدي: حدثني يونس بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن محمود بن
لبيد، أنه قال له: هل كان الناس يعرفون أهل النفاق فيهم؟
فقال: نعم واللَّه، وإن كان الرجل ليعرفه من أبيه وأخيه وبني عمه- سمعت جدك
قتادة بن النعمان يقول: تبعنا في دارنا قوم منا منافقون [ (3) ] .
وللبيهقي من حديث سفيان عن سلمة، عن عياض بن عياض، عن أبي، عن أبي مسعود
قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خطبة، فحمد اللَّه وأثنى
عليه ثم قال: إن فيكم منافقين، فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا
فلان قم يا فلان، حتى سمي ستة وثلاثين رجلا، ثم قال: إن فيكم أو منكم
فاتقوا اللَّه، قال: فمر عمر على رجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه- قال مالك:
قال: فحدثه بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: بعدا لك سائر
اليوم [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 130، كتاب صفات المنافقين باب (50) ،
حديث رقم (100) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق بدون رقم.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1009.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 6/ 367 من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري،
حديث رقم (21843) .
(14/342)
والمنافقون من
الخزرج
هم: عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول، وسلول بنت الحارث الخزاعية، أمه [وبها
يعرف] ، وقيل: بل هي جدته وهو عبد اللَّه بن أبي بن مالك بن الحارث ابن
عبيد اللَّه بن مالك بن سالم الجبليّ بن غنم بن عوف بن الخزرج وهو ابن رأس
المنافقين القائل لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [ (1) ] ، وقد تقدمت عدة من أخباره في
المريسيع وغيرها
وروى الدارقطنيّ قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مر على جماعة
فيهم عبد اللَّه بن أبي فسلم عليهم، ثم ولي، فقال:
لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبد اللَّه فاستأذن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في أن يأتيه برأس أبيه فقال صلّى اللَّه عليه
وسلم: ولكن برّ أباك، وأبو مالك جد بن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد
بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة [ (2) ] وهو القائل لرسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم- وقد ندب الناس إلى غزوة تبوك وذكر بنو
__________
[ (1) ] المنافقون: 8، قال الإمام أحمد رحمه اللَّه: حدثنا يحيي بن آدم
ويحيي بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: سمعت زيد بن
أرقم، وقال أبو بكير عن زيد بن أرقم قال: خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد
اللَّه بن أبي بن سلول يقول لأصحابه لا تنفقوا على من عند رسول اللَّه،
ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، فذكره
عمي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأرسل إليّ رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم فحدثته، فأرسل إلى عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول وأصحابه
فحلفوا باللَّه ما قالوا، فكذبني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وصدقه
فأصابني همّ لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت،
فقال عمي: ما أردت إلا أن كذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ومقتك؟
قال: حتى أنزل اللَّه إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قال: فبعث إليّ رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقرأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
عليّ ثم قال: إن اللَّه قد صدقك. (تفسير ابن كثير) : 4/ 396، (البحر
المحيط) : 10/ 184،
حيث قال: ولما سمع عبد اللَّه، ولد عبد اللَّه بن أبيّ هذه الآية، جاء إلى
أبيه فقال: أنت واللَّه يا أبت الذليل، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
العزيز، فلما دنا من المدينة جرد السيف عليه ومنعه الدخول حتى يأذن له رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وكان فيما قال: وراءك لا تدخلها حتى تقول:
رسول اللَّه الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيسا في يده حتى أذن له رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بتخليته. وفي هذا الحديث أنه قال لأبيه: لئن
لم تشهد للَّه ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك، قال: أفاعل أنت؟ قال: نعم،
فقال: أشهد أن العزة للَّه ولرسوله وللمؤمنين.
[ (2) ] ابن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد، وأمه هند بنت سهل من
جهينة ثم من بني الربعة، وأخوه لأمه معاذ بن جبل، شهد عبد اللَّه بدرا
وأحدا وكان أبوه الجد بن قيس يكنى أبا وهب، وكان قد أظهر الإسلام وغزا مع
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غزوات، وكان منافقا وفيه نزل حين غزا
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، تبوك: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ
لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا. وليس لعبد اللَّه بن
الجد عقب والعقب لأخيه محمد بن الجد بن القيس.
(14/343)
الأصفر-: ائذن لي ولا تفتني ببنات الأصفر،
وقال [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لبني سلمة: من سيدكم يا
بني سلمة؟ قالوا: الجدين ابن قيس إلا أن فيه بخلا، قال: وأي داء أدوى من
البخل بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور.
وذكر الواقدي بإسناده من طريق أسيد بن أبي أسيد عن أبي قتادة الأنصاري- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما نزلنا علي الحديبيّة، والماء قليل، سمعت
الجد بن قيس يقول: ما كان خروجنا إلي هؤلاء القوم بشيء؟
أنموت من العش من آخرنا؟ فقلت: لا تقل هذا. يا أبا عبد اللَّه، فلم خرجت؟
قال: خرجت مع قومي، قلت: فلم تخرج معتمرا؟ قال: لا واللَّه، ما أحرمت؟ قال
أبو قتادة ولا نويت العمرة؟ قال: لا! فلما دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم الرجل فنزل بالسهم، وتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في
الدلو ومج فاه فيه، ثم رده في البئر، فجاشت البئر بالرواء. قال أبو قتادة:
فرأيت الجد مادا رجليه على شفير البئر في الماء، فقلت أبا عبد اللَّه: أين
ما قلت؟ قال: إنما كنت أمزح معك، لا تذكر لمحمد مما قلت شيئا. قال أبو
قتادة: وقد كنت ذكرته قبل ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال:
فغضب الجد وقال: بقينا مع صبيان من قومنا لا يعرفون لنا شرفا ولا سنا، لبطن
الأرض اليوم خير من ظهرها! قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرت قوله صلّى اللَّه
عليه وسلم،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ابنه خير منه.
قال أبو قتادة: فلقيني نفر من قومي فجعلوا يؤنبونني ويلومونني حين رفعت
مقالته إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت لهم: بئس القوم أنتم!
ويحكم» عن الجد بن قيس تذبون؟ قالوا:
نعم، كبيرنا وسيدنا. فقلت: قد واللَّه طرح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم سؤدده عن بني سلمة، وسوّد علينا بشر بن البراء بن معرور، وهدمنا
المنامات التي كانت على باب الجد، وبنيناها على باب بشر بن البراء، فهو
سيدنا إلى يوم القيامة.
__________
[ () ] (طبقات ابن سعد) : 3/ 571، (الإصابة) : 1/ 468، ترجمة رقم (1112) .
ويقال: إنه مات في خلافة عثمان، وفي حديث الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر
قال: بايعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الحديبيّة على ألا نفر
كلنا إلا الجد بن قيس اختبأ تحت بطن ناقته. وفي حديث أبي قتادة عنه ما هو
أسمج من هذا. وقد قيل: إنه تاب، فحسنت توبته. واللَّه أعلم (الاستيعاب) :
1/ 266- 268، ترجمة رقم (247) .
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 242، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (49650) . وقال
الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.
(14/344)
قال أبو قتادة: فلما دعا رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم إلى البيعة فر الجد بن قيس فدخل تحت بطن البعير، فخرجت
أعدو، وأخذت بيد رجل كان يكلمني، فأخرجناه من تحت بطن البعير، فقلت: ويحك!
ما أدخلك هاهنا؟ أفرارا مما نزل به روح القدس؟ قال: لا، ولكني رعبت وسمعت
الهيعة [ (1) ] . قال الرجل: لا نضحت عنك [ (2) ] أبدا، وما فيك خير.
فلما مرض الجد بن قيس ونزل به الموت لزم أبو قتادة بيته فلم يخرج حتى مات
ودفن، فقيل له في ذلك فقال: واللَّه ما كنت لأصلي عليه وقد سمعته يقول يوم
الحديبيّة كذا وكذا، وقال في غزوة تبوك كذا وكذا، واستحييت من قومي يرونني
خارجا ولا أشهده. ويقال: خرج أبو قتادة إلى ماله بالواديين فكان فيه حتى
دفن، ومات الجد في خلافة عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[ (3) ] .
ومرارة بن [ (4) ] الربيع وهو الّذي ضرب بيده على عاتق عبد اللَّه بن أبيّ،
ثم قال: تمطي، والنعيم لنا من بعده كائن نقتل الواحد المفرد، فيكون الناس
عامة بقتله مطمئنين، بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال له:
ويحك ما حملك على أن تقول الّذي قلت؟ فقال: يا رسول اللَّه إن كنت قلت شيئا
من ذلك إنك لعالم به، وما قلت شيئا من ذلك [ (5) ] .
وعبد اللَّه بن عيينة وهو الّذي قال لأصحابه: اشهدوا هذه الليلة تسلموا
الدهر كله، فو اللَّه ما لكم أمر دون أن تقتلوا هذا الرجل، فدعاه رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ويحك ما كان ينفعك من قتلي لو أني
قتلت، فقال عدو اللَّه: يا نبي، اللَّه! واللَّه لا تزال بخير ما أعطاك
اللَّه النصر على عدوك، إنما نحن باللَّه وبك فتركه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الهيعة: الصوت تفزع منه وتخافه من عدوّ.
[ (2) ] نضح عنه: ذبّ ودفع.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 590- 591.
[ (4) ] مرارة بن ربيعة. ويقال: ابن ربيع العمري الأنصاري. من بني عمرو بن
عوف، شهد بدرا، وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم في غزوة تبوك، وتاب اللَّه عليهم، ونزل القرآن في شأنهم
(الاستيعاب) :
3/ 1382، ترجمة رقم (2361) ، (الإصابة) : 6/ 65، ترجمة رقم (7870) ،
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 259.
[ (6) ] (المرجع السابق) : 5/ 258.
(14/345)
وعدي بن ربيعة كان يؤذي رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم ورماه بقدر، وكان أعمى وابنه سويد بن عدي [ (1) ] .
وقيس [ (2) ] بن عمرو بن سهل بن ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة بن غنم
ابن مالك بن النجار، هو جد يحيي بن سعيد [ (3) ] ، وقال ابن حزم: يقال إنه
كان من المنافقين ولم يصح، وتبعه زرارة. كان يدخل على رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم بالشعر.
وزيد بن عمرو، وعقبة بن كريم بن خليف. وأبو قيس بن الأسلم أتي النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة فقال: ما أحسن ما يقول ويدعو
إليه، وسأنظر في أمري وأعود إليك، ولقيه ابن أبيّ فقال له: كرهت واللَّه
حرب الخزرج، فقال:
لا أسلم، فمات في ذي الحجة سنة إحدى.
والمنافقون من الأوس
هم الجلاس بن سويد بن الصامت قتل المجدر بن زياد البلوي يوم أحد كما تقدم
ذكره، وكان الجلاس ممن تخلف في غزوة تبوك، ويقال: بل هو إلي قال:
لا ينتهي حتى يرمي محمدا من العقبة، ولئن كان محمد وأصحابه خيرا منا إنا
إذا لغنم وهو الراعي، ولا عقل لنا وهو العاقل، قال: لئن كان الرجل صادقا
لنحن شر من الحمير، فبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ذلك، فحلف باللَّه
إنه ما قاله، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما
قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [ (4) ] الآية.
__________
[ (1) ] (جمهرة النسب للكلبي) : 555- 558، (جمهرة أنساب العرب: 77- 78.
[ (2) ] (جمهرة أنساب العرب) : 349، وهو جد سعد، وعبد ربه، بنو سعد.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (جمهرة أنساب العرب) : 349 يحيي بن عبد
اللَّه بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة.
[ (4) ] التوبة: 74.
قال قتادة نزلت في عبد اللَّه بن أبيّ وذلك أنه اقتتل رجلان: جهني وأنصاري
فعلا الجهنيّ على الأنصاريّ، فقال عبد اللَّه للأنصار: ألا تنصروا أخاكم؟
واللَّه ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، وقال: لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها. الأذل، فسعى بها رجل من المسلمين إلي
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف باللَّه ما قاله،
فأنزل اللَّه فيه هذه الآية.
وقال الأموي في (مغازية) : حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عبد الرحمن
بن عبد اللَّه بن كعب.
(14/346)
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه تاب فحسنت توبته
حتى عرف منه الإسلام والخير، والحارث [ (1) ] بن سويد أخوه يقال: هو الّذي
قتل المجذر بن زياد، فقتله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم به. فإن
الجلاس كان ممن تخلف عن غزاة تبوك، والقول الأول قول الكلبي، وكان أخوه
خلاد [ (2) ] بن سويد من فضلاء المسلمين، وعمرو بن
__________
[ () ] ابن مالك، عن أبيه، عن جده قال: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم أخذني قومي فقالوا: إنك امرؤ شاعر فإن شئت أن تعتذر إلي رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببعض العلة ثم يكون ذنبا تستغفر اللَّه منه،
وذكر الحديث بطوله إلى أن قال: وكان ممن تخلف من المنافقين، ونزل فيه
القرآن، منهم ممن كان مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الجلاس بن سويد بن
الصامت، وكان على أمّ عمير بن سعد وكان عمير في حجره فلما نزل القرآن
وذكرهم اللَّه بما ذكر مما أنزل في المنافقين قال الجلاس: واللَّه لئن كان
هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير فسمعها عمير بن سعد فقال:
واللَّه باجلاس إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاء، وأعزهم علي أن يصله
شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لأن ذكرتها لتفضحني ولئن كتمتها لتهلكنى
ولإحداهما أهون علي من الأخرى، فمشى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم فذكر له ما قال الجلاس فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى أتي النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم فحلف باللَّه ما قال عمير بن سعد ولقد كذب علي فأنزل
اللَّه عز وجل فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا
كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ إلى آخر الآية فوقفه
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليها فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت
توبته ونزع فأحسن النزوع. هكذا جاء هذا مدرجا في الحديث متصلا به وكأنه-
واللَّه أعلم- من كلام ابن إسحاق نفسه لا من كلام كعب بن مالك. (تفسير ابن
كثير) : 2/ 385- 386، سورة التوبة.
[ (1) ] الحارث بن سويد: ويقال: ابن مسلمة المخزومي. ارتد على عهد رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولحق بالكفار، فنزلت هذه الآية كَيْفَ
يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إلى قوله تعالى:
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فحمل رجل هذه الآيات فقرأهن عليه. فقال الحارث:
واللَّه ما علمتك إلا صدوقا، وإن اللَّه لأصدق الصادقين. فرجع وأسلم وحسن
إسلامه. روى عنه مجاهد، وحديثه هذا عند جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن
مجاهد.
(الاستيعاب) : 1/ 300 ترجمة رقم (436) .
(الإصابة) : 1/ 576- 577، ترجمة رقم (1425) .
[ (2) ]
خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن مالك الأغر بن
ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأكبر، شهد العقبة، وشهد بدرا
وأحدا والخندق، وقتل يوم قريظة شهيدا. طرحت عليه الرحى من أطم من آطامها،
فشدخت رأسه ومات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيما يذكرون: إن
له أجر شهيد،
ويقولون: إن التي طرحت عليه الرحى بنانة، امرأة من بني قريظة، ثم قتلها
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع بني قريظة، إذ قتل من أنبت منهم،
ولم يقتل امرأة غيرها.
(14/347)
حزم [ (1) ] ، وزوي بن الحارث ويقال روي بن
الحارث من بني لوذان بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس وعثمان بن [ (2) ]
عامر، ونبتل بن الحارث بن قيس بن زيد بن ضبيعة ابن زيد بن مالك بن عوف بن
عمرو بن عوف بن مالك بن الأوسي [ (3) ] ،
وفيه قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أحب أن ينظر إلى الشيطان
فلينظر
__________
[ () ] (الاستيعاب) : 2/ 451- 452، ترجمة رقم (676) .
(الإصابة) : 2/ 340، ترجمة رقم (2280) .
[ (1) ] عمرو بن حزم بن زيد بن لوزان الخزرجي البخاريّ، من بني مالك بن
النجار. من ينسبه في بني مالك بن النجار يقول: عمرو بن حزم بن لوذان بن
عمرو بن [عبد بن] عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري.
ومنهم من نسبه في بني مالك بن جشم بن الخزرج. ومنهم من ينسبه في بني ثعلبة
بن زيد بن مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك. أمه من بني ساعدة، يكنى أبا
الضحاك، لم يشهد بدرا فيما يقولون. أول مشاهده الخندق، واستعمله رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أهل نجران، وهم بنو الحارث بن كعب، وهو
ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن، ويأخذ صدقاتهم، وذلك
سنة عشر بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد، فأسلموا، وكتب له كتابا فيه
الفرائض والسنن والصدقات والديات.
ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين. وقيل: سنة ثلاث وخمسين. وقد قيل: إن عمرو
بن حزم توفى في خلافة عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
بالمدينة. وروي عن عمرو بن حزم ابنه محمد. وروي عنه أيضا النضر بن عبد
اللَّه السلمي، وزياد بن نعيم الحضريّ، (الاستيعاب) : 3/ 1172- 1173) ترجمة
رقم (1907) ، (والإصابة) : 4/ 621، ترجمة رقم (5814) .
[ (2) ] عثمان بن عامر، أبو قحافة القرشيّ التيمي، والد أبي بكر الصديق-
رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- تقدم ذكر نسبه عند ذكر ابنه أبي بكر، أسلم
أبو قحافة يوم فتح مكة،
حدثني عبد الوارث، حدثني قاسم، حدثنا إبراهيم بن إسحاق بن مهران، حدثنا
يحيي بن يحيي، حدثنا أبو خيثمة زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر،
قال: أتي بأبي قحافة عام الفتح ليبايع، ورأسه ولحيته كأنها ثغامة- يعني
شجرة- فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: غيروا هذا بشيء وجنبوه
السواد،
وقال قتادة: هو أول مخصوب في الإسلام، وعاش أبو قحافة إلى خلافة عمر- رضي
اللَّه تبارك وتعالي عنه-، ومات سنة أربع عشرة وهو ابن سبع وتسعين سنة،
وكانت وفاة ابنه قبله، فورث منه السّدس، فرده على ولد أبي بكر- رضي اللَّه
تبارك وتعالي عنه- (الاستيعاب) :
3/ 1036، ترجمة رقم (1773) ، (الإصابة) : 4/ 452- 453، ترجمة رقم (5446) .
[ (3) ] نبتل بن الحارث بن قيس بن زيد بن ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن
عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي.
ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب النسب مقرونا بأخيه أبو سفيان. وقد
ذكره ابن الكلبي، ثم البلاذري في المنافقين، فيحتمل أن يكون أبو عبيد اطلع
على أنه تاب، وذكره محمد ابن إسحاق في (السيرة النبويّة) أنه الّذي أنزل
فيه: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ.
(الإصابة) : 6/ 418، ترجمة رقم (8681) .
(14/348)
إلى نبتل،
وكان أدلم ثائر الشعر، أحمر العينين، أسفع الخدين، وكان ينقل حربة النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المنافقين، وهو الّذي قال: إنما محمد أذن فأنزل
اللَّه فيه وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ
أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [ (1) ] الآية.
والنبتل الصلب الشديد. وأخوه أبو سفيان بن الحارث بن قيس [ (2) ] شهيد بدر
وعبد اللَّه بن نبتل [ (3) ] وهو الّذي كان ينقل حديث النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم.
قال الواقدي: وكان خارجة بن زيد بن ثابت يسقي الناس من الماء المبرد
بالعسل، وكان أبو عبد اللَّه بن القراد [الزيادي] [ (4) ] وهو فارس [.....]
في خلافة عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فجاء ذات يوم وقد
حضر رجل من ولد عبد اللَّه بن نبتل فجعل يهزأ به وكان القراد عظيم الرأس
والأذنين له خلقة منكره، فقال له: من أنت يا فتى؟ قال: رجل من الأنصار،
قال: مرحبا بالأنصار، من أنت منهم؟ قال: أنا فلان ابن الحارث بن عبد اللَّه
ابن نبتل، فقال: أما جدك فلم ينصر، علمت ما نزل فيه من القرآن؟ أما يدري ما
صنعت به يداه؟ فضحته واللَّه هي الفاضحة.
وقيس بن زيد، قتل يوم أحد منافقا [ (5) ] ، وقيل: خرج مع المسلمين، فلما
__________
[ (1) ] التوبة: 61.
[ (2) ] سفيان بن قيس بن الحارث بن المطلب القرشي المطلبي ابن أخي الطفيل
وعبيدة ابني الحارث. لهم صحبة.
أخرج البغوي، من طريق إبراهيم بن سعد، عن سليمان بن محمد الأنصاري، عن رجل
من قومه يقال له الضحاك، كان عالما؟ قال: آخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم بين الحارث بن عبد المطلب وسفيان بن الحارث بن قيس، ذكره ابن هشام
فيمن استشهد بأحد من الأنصار من بني ضبيعة.
(الإصابة) : 3/ 127- 128، ترجمة رقم (33270) ، (سيرة ابن هشام) : 4/ 79.
[ (3) ] عبد اللَّه بن نبتل بن الحارث الأنصاري. وقد ذكر الواقدي لولد هذا
قصة في عهد عمر. وقيل: إن هذا كان من المنافقين. (الإصابة) : 4/ 249 ترجمة
رقم (4990) .
[ (4) ] هو عبد اللَّه بن قداد، ويقال: قراد بن قريط الحارثي ثم الزيادي،
من بني زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة ابن الحارث بن كعب المذحجيّ، قدم
مع خالد بن الوليد في وفد بني الحارث بن كعب فأسلموا.
ذكره ابن إسحاق، في المغازي، وسماه يونس بن بكير عبد اللَّه بن قرط، ووقع
عند ابن هشام: ابن قداد، وعند الواقدي: ابن قراد، وهو واحد، ترجمته في
(الإصابة) : 4/ 208- 209، ترجمة رقم (4889) .
[ (5) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 79، ذكر من استشهد بأحد من الأنصار.
(14/349)
التقى الناس عدا على أسيرين فقتلهما، ثم
لحق بقريش.
وأبو حبيبة بن الأزعر، وكان ممن بني في مسجد الضرار [ (1) ] .
وثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عتبة [ (2) ] ، قيل نزلت فيه لما منع الزكاة
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ [ (3) ] . الآية. ومنع ذلك لأنه ممن شهد بدرا، ومعتب
ويقال: عتاب بن أبي قشير وثعلبة. [ (4) ] ومعتب هو الّذي قال، يوم أحد: لو
كان لي من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا [ (5) ] ، وهو القائل يوم الأحزاب:
يعدنا محمد كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على إتيان الغائط! عاهد إلا
غرورا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1047.
[ (2) ] كان أحد الذين بنوا مسجد الضرار. (سيرة ابن هشام) : 5/ 212.
[ (3) ] التوبة: 75.
[ (4) ] قال ابن هشام: وكان الّذي عاهد اللَّه منهم ثعلبة بن حاطب، ومعتب
بن قشير، وهم من بني عمرو بن عوف (سيرة ابن هشام) : 5/ 239، ما نزل في
أصحاب الصدقات.
وقال الحافظ ابن كثير: يقول تعالى: ومن المنافقين من أعطي اللَّه عهده
وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين، فما وفي
بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى
يوم يلقونه عز وجلّ يوم القيامة. عياذا باللَّه من ذلك.
وقد ذكر كثير من المفسرين، منهم ابن عباس والحسن البصري، أن سبب نزول هذه
الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري.
وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معن بن رفاعة عن
عليّ بن يزيد، عن أبى عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الرحمن بن
يزيد بن معاوية، عن أبى أمامة الباهليّ، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أنه
قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادع اللَّه أن يرزقني مالا، قال:
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره
خير من كثير لا تطيقه. (تفسير ابن كثير) : 2/ 388،
والقصة معروفة، أمسكنا عن سردها، لطولها واشتهارها.
[ (5) ] قال الزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: سمعت هذا القول من معتب
بن قشير، وقد وقع عليّ النعاس وإني لكالحالم، أسمعه يقول هذا الكلام،
واجتمع عليه أنه صاحب هذا الكلام. (مغازي الواقدي) : 1/ 323 324.
[ (6) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 494، باب ما أنزل اللَّه من القرآن في
الخندق.
(14/350)
ويقال: إن حمد بن قيس أو جدّ بن قيس القائل
ذلك فأنزل اللَّه تعالي:
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [ (1) ] .
قال ابن هشام: مصعب بن قشير وثعلبة والحارث ابنا حاطب من أهل بدر ليسوا من
المنافقين فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم [ (2) ] . وقد نسب ابن إسحاق
ثعلبة والحارث بن أمية بن زيد في أسماء أهل بدر [ (3) ] .
ورافع بن زيد، وفيه وفي معتب ونفر من أصحابهما نزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [
(4) ] ، وكان خصماؤهم دعوهم في خصومتهم إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
فأبوا ذلك وقالوا: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، فسماه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم طاغوتا [ (5) ] ، ويقال: إنهم دعوهم إلى الكاهن.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 12.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 180، لم يكن معتب منافقا.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 3/ 243.
[ (4) ] النساء: 60.
[ (5) ] قال ابن هشام: وكان جلاس بن سويد بن صامت قبل توبته، ومعتب بن
قشير، ورافع بن زيد، وبشر، وكانوا يدعون بالإسلام، فدعاهم رجال من المسلمين
في خصومة كانت بينهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعوهم إلى
اكهان، حكام أهل الجاهلية، فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ- فيهم: أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ
أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. (سيرة ابن هشام) : 3/ 59.
وقال أبو حيان الأندلسيّ: ذكر في سبب نزولها قصص طويل، ملخصه: أن أبا بردة
الأسلمي كان كاهنا يقضى بين اليهود، فتنافر إليه نفر من أسلم. أو أن قيسا
الأنصاريّ أحد من يدعى الإسلام، ورجلا من اليهود تداعيا إلى الكاهن وتركا
الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما دعا اليهوديّ إلى الرسول، والأنصاريّ
يأبى إلا الكاهن.
أو أن منافقا ويهوديا اختصما، فاختار اليهوديّ الرسول صلّى اللَّه عليه
وسلّم، واختار المنافق كعب بن الأشرف، فأبي اليهوديّ، وتحاكما إلى الرسول
صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقضى لليهوديّ، فخرجا ولزمه النفاق، وقال: ننطلق
إلى عمر، فانطلقا إليه فقال اليهوديّ: قد تحاكما إلى الرسول فلم يرض
بقضائه، فأقر المنافق بذلك عند عمر، فقتله عمر وقال: هكذا أقضى فيمن لم يرض
بقضاء اللَّه وقضاء رسوله. (البحر المحيط) : 3/ 688.
(14/351)
وجارية بن عامر وبنوه، يزيد، وزيد، ومجمع،
وهم ممن اتخذ مسجد الضرار، وكان مجمع بن جارية لم يكن منافقا، ويقال: إنه
منافق، ثم صحّ إسلامه، وعنى بالقرآن حتى حفظه، وقال النقاش: حسن إسلامهم
مجمع وبعثه عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى الكوفة، فعلمهم القرآن
فتعلم منهم عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بقية القرآن
[ (1) ] .
ومربع بن فيظي [ (2) ] ، القائل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حين أجاز
في حائطه وقد خرج إلى أحد: لا أحلّ لك يا محمد، إن كنت نبيا أن تمر في
حائطي! وأخذ في يده حفنة من تراب، ثم قال: واللَّه لو أعلم أني لا أصيب
بهذا التراب غيرك [ (3) ] لرميتك به، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر.
[ (4) ]
وأخوه أوس بن قيظي [ (5) ] ، وهو القائل يوم الخندق:
إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [ (6) ] فأذن لنا في المقام، ويقال: قائل ذلك
معتب بن قشير،، ومربع هذا عم عرانة بن أوس بن قيظي الجواد، وهو ممن بنى
مسجد الضرار من داره، ويقال: إن الّذي أخرجه من داره وديعة بن حزام، ورافع
وبشر ابنا زيد
__________
[ (1) ] (الإصابة) : 5/ 776- 777، ترجمة رقم (7739) ، وله في (السنن) ثلاثة
أحاديث، صحح الترمذي بعضها. وكان أبوه جارية ممن اتخذ مسجد الضرار، وكان
مجمع يصلي بهم فيه، ثم إنه أحرق، فلما كان عمر بن الخطاب كلم في مجمع أن
يؤم قومه، فقال: لا، أو ليس إمام المنافقين في مسجد الضرار، فقال: لا
واللَّه الّذي لا إليه إلا هو ما علمت شيئا من أمرهم، فزعموا أن عمر- رضي
اللَّه تبارك وتعالى عنه- أذن له أن يصلّى بهم.
[ (2) ] (الإصابة) : 6/ 66- 67، ترجمة ابنه مرارة وإخوانه أبناء مربع بن
قيظيّ الأنصاريّ، وقال في آخرها:
وكان أبوهم يعد في المنافقين، وفي ترجمته رقم (7874) : عدّ في المنافقين،
ويقال: تاب.
[ (3) ] في (الأصل) : «عينك» ، وما أنبتناه من (ابن هشام) .
[ (4) ] فضربه سعد بن زيد أخو بنى عبد الأشهل بالقوس فشجه. (المرجع السابق)
: 3/ 57، 4/ 11، ما فعله مربع المنافق حين سلك المسلمون حائطة، (سيرة ابن
هشام) : 3/ 57.
[ (5) ] (المرجع السابق) : 3/ 57، قال ابن هشام: عورة أي معورة للعدوّ
وضائعة، وجمعها عورات. والعورة أيضا: عورة الرجل، وهي حرمته، والعورة أيضا
السوأة.
[ (6) ] الأحزاب: 13.
(14/352)
وقيس بن رفاعة الشاعر [ (1) ] ، وكان يختلف
هو والضحاك بن خليفة [ (2) ] بن ثعلبة بن عديّ بن كعب بن عبد الأشهل [إلى
بيت شويكر اليهودي] [ (3) ] فأصاب عينه قنديل فذهبت [ (4) ] .
وحاطب بن أمية بن رافع بن سويد [ (5) ] الّذي قيل لابنه- وحمل جريحا-:
أبشر بالجنة، فقال: يا ابن حاطب، أبشر بالجنة، فقال حاطب: جنّة من حرمل، لا
يغرنك هؤلاء يا بنيّ.
وبشير بن أبيرق الظفري [ (6) ] وهو أبو طعمة، واسم الأبيرق الحارث بن
__________
[ (1) ] هو قيس بن رفاعة الواقفي، من بنى واقف بن امرئ القيس بن مالك بن
الأوس الأنصاريّ. ذكره المرزبانيّ في (معجم الشعراء) ، وقال: أسلم، وكان
أعور. (الإصابة) : 5/ 468، ترجمة رقم (71740) .
[ (2) ] هو الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عديّ بن كعب بن عبد الأشهل،
الأنصاريّ الأشهليّ. وذكر ابن إسحاق في غزوة تبوك قال: وبلغ النبيّ صلّى
اللَّه عليه وسلّم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت شويكر اليهوديّ،
يثبطون الناس عن الغزو، فبعث طلحة في قوم من الصحابة، وأمره أن يحرق عليهم
البيت، ففعل، فاقتحم الضحاك من خليفة من ظهر لبيت فانكسرت رجله وأفلت، وقال
في ذلك:
كادت وبيت اللَّه نار محمد ... يسقط بها الضحاك وابن أبيرق
سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف ومن يشمل الريح يحرق
(الإصابة) : 3/ 475- 476، ترجمة رقم (4166) .
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان من كتب السيرة، حيث اضطراب السياق في هذا
السطر.
[ (4) ] راجع التعليق السابق.
[ (5) ] كان شيخا جسيما قد أسنّ في جاهليته، وكان له ابن من خيار المسلمين،
يقال له: يزيد بن حاطب، أصيب يوم أحد حتى أثبتته الجراحات، فحمل إلى دار
بنى ظفر.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر عن قتادة أنه اجتمع إليه بها من رجال
المسلمين ونسائهم وهو بالموت، فجعلوا يقولون: أبشر يا ابن حاطب بالجنة،
قال: فنجم [ظهر ووضح] نفاقه حينئذ، فجعل يقول أبوه: أجل، جنة واللَّه من
حرمل، غررتم واللَّه هذا المسكين من نفسه. (سيرة ابن هشام) : 3/ 58.
[ (6) ] قال ابن إسحاق- وقد ذكر أسماء المنافقين-: وبشير بن أبيرق، وهو أبو
طعمة سارق الدرعين، الّذي أنزل اللَّه تعالى فيه: وَلا تُجادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ
خَوَّاناً أَثِيماً [النساء:
107] (سيرة ابن هشام) : 3/ 58.
(14/353)
عمرو بن حارثة بن الهيثم بن ظفر- واسم ظفر
كعب- قال: سرق ابن أبيرق أدرعا من حديد، ثم رمى بها رجلا بريئا، فجاء قومه
إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فعزروه عنده، فأنزل اللَّه- عز وجل- فيه
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً
إلى قوله تعالى:
وَساءَتْ مَصِيراً [ (1) ] فلما أنزل فيه هذه الآية لحق بالمشركين ومكث
بمكة، ثم بعث على قوم بينهم فسرق متاعهم فألقى اللَّه عليه صخرة فشدخته
وكانت قبره، ويروي أن الحائط سقط عليه بالطائف وقتل بخيبر، وروى محمد بن
إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الظفري عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان بن
زيد بن عامر بن سواد بن ظفر قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر،
وبشير ومبشر [ (2) ] ، وكان بشر منافقا يهجو أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم، ثم سحله بعض العرب، فإذا سمعه أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم قالوا: واللَّه ما قاله إلا الخبيث بشر فقال:
أو كلما قال الغواة قصيدة ... أصموا إليها وقالوا ابن الأبيرق قالها [ (3)
]
قال: فابتاع رفاعة بن زيد بن زيد بن عامر حملا من درمك من ضابطة قدمت من
الشام، وإنما كان طعام الناس بالمدينة الشعير والتمر وكان الموسر منهم
يبتاع من الدرمك [ (4) ] ما يخص به نفسه، فجعل عمر ذلك الدرمك في
__________
[ (1) ] النساء: 105- 115.
[ (2) ] بشر بن الحارث، وهو أبيرق بن عمرو بن حارثة بن الهيثم بن ظفر.
الأنصاريّ الظفريّ، شهد أحدا هو وأخواه مبشر وبشير، فأما بشير فهو الشاعر،
وكان منافقا يهجو أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وشهد مع أخيه بشر
ومبشر أحدا، وكانوا أهل حاجة: فسرق بشير من رفاعة بن زيد درعه، ثم ارتد في
شهر ربيع الأول من سنة أربع من الهجرة، ولم يذكر لبشر هذا النفاق واللَّه
تعالى أعلم. وقد ذكر فيمن شهد أحدا مع النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(الاستيعاب) : 1/ 171، ترجمة رقم (188) ، (الإصابة) : 1/ 296، ترجمة رقم
(656) ، ثم قال ابن عبد البرّ في ترجمة رفاعة بن زيد بن عامر رقم (775) :
هو الّذي سرق سلاحه وطعامه بنو أبيرق، فتنازعوا إلى رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، فنزلت فيبني أبيرق: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء: 106] . ثم قال: خبره هذا عند محمد بن
إسحاق، عن عاصم بن عمر عن قتادة، عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان.
[ (3) ] بعد هذا البيت بيت آخر مضطرب وزنا ومعنى فحذفناه.
[ (4) ] الدرمك: الدقيق.
(14/354)
مشربة وفيها درعان وسيفان وما يصلحها، فعدى
عليه من بحث بالليل فنقب المشربة وأخد الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني
فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا، فذهبت بطعامنا وسلاحنا؟
قال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق واستوطروا في
أبيرق في هذه الليلة، ولا نرى ذلك الأمر طعامنا، قال: وجعل بنو أبيرق ونحن
نبحث ونسأل في الدار يقولون: واللَّه ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل بن
الحارث بن عروة بن عبد بن رزاح بن ظفر، رجل منا له صلاح وإسلام- فلما سمع
لبيد اخترط سيفه، وقال: أنا أسرق؟ فو اللَّه ليخالطنكم هذا السيف أو
لتبيننّ هذه السرقة قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فما أنت بصاحبها، فسألنا
في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمى: يا ابن أخى، لو أتيت رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له.
قال قتادة: فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: إن أهل بيت منا
أهل جفاء عمدوا إلى عمى رفاعة بن زيد فنقّبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه
وطعامه فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبيّ
صلّى اللَّه عليه وسلّم سآمر في ذلك، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم
يقال له: أشير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع في ذلك ناس من أهل الدار
فقالوا: يا رسول اللَّه، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا
أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت.
قال قتادة: فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكلمته فقال: عمدت
إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة. قال:
فرجعت ولوددت أنى خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم في ذلك.
فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخى ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اللَّه المستعان، فلم يلبث أن نزل
القرآن: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [
(1) ] بني أبيرق وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ فما قلت لقتادة إِنَّ اللَّهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً* وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً* يَسْتَخْفُونَ
مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ
يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ
مُحِيطاً* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا*
__________
[ (1) ] النساء: 105.
(14/355)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[ (1) ] أي لو استغفروا اللَّه لغفر لهم وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما
يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَمَنْ
يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
- قولهم للبيد- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ عَظِيماً* لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً
[ (2) ] .
فلما نزل القرآن أتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسلاح فردّه إلى
رفاعة فقال قتادة لما أتيت عمي بالسلاح- وكان شيخا قد عشا أو عسا [ (3) ]-
الشك من أبي عيسى- في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته قال:
يا ابن أخي هو في سبيل اللَّه، فعرفت أن إسلامه كان صحيحا، فلما نزل القرآن
لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فأنزل اللَّه تعالى:
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً* إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [ (4) ] .
فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته
على رأسها، ثم خرجت به فرمت به في الأبطح، ثم قالت:
أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتينى بخير [ (5) ] .
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة
الحرانيّ. وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث، عن محمد بن إسحاق، عن
عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا، لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده.
وقتادة بن النعمان هو أخو أبي سعيد الخدريّ لأمه. وأبو سعيد اسمه
__________
[ (1) ] النساء: 106- 110.
[ (2) ] النساء: 111- 114.
[ (3) ] هو بالسين المهملة، أي كبر أسنّ من عسا القضيب إذا يبس، وبالمعجمة،
أي قلّ بصره وضعف.
[ (4) ] النساء: 115- 116.
[ (5) ] (تحفة الأحوذي) : 8/ 313- 316، أبواب تفسير القرآن، سورة النساء،
حديث رقم (3228) ، ومنه تصويب النص في (الأصل) .
(14/356)
سعد بن مالك بن سنان] [ (1) ] .
والضّحاك بن خليفة الأشهليّ [ (2) ] ، وفرحان حليف بني ظفر لا يعرف نسبه
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
وجاء في (ديوان حسان بن ثابت) : وكان ابن أبيرق طرح الدرعين في منزل يهودي
ليبرأ منهما ويؤخذ بهما اليهوديّ، فلما أنزل اللَّه تعالى: وَلا تُجادِلْ
عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ
كانَ خَوَّاناً أَثِيماً، فرق النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من أن يقيم
عليه الحد، فلحق بمكة، فنزل على سلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية وهي أم
بني طلحة بن بني طلحة كلهم إلا الحارث بن طلحة، وقتل بنوها كلهم بأحد كفارا
إلا عثمان بن طلحة، ومنه أخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مفتاح الكعبة ثم
رده عليه، فقتل مسافع وكلاب والجلاس بنو طلحة يوم أحد، ومكث ابن أبيرق عند
السلافة، فبلغ ذلك حسان، فهو قوله:
ما سارق الدرعين إن كنت ذاكرا ... بذي كرم من الرجال أوادعه.
وقد أنزلته بنت سعد فأصبحت ... ينازعها جلد استها وتنازعه.
فهلا أسيدا جئت جارك راغبا ... إليه ولم تعمد له فترافعه.
ظننتم بأن يخفى الّذي قد صنعتم ... وفينا نبيّ عنده الحكم واضعه.
فلولا رجال منكم أن يسوءهم ... هجاى لقد حلت عليكم وطولعه.
فإن تذكروا كعبا إذا ما نسيتم ... فهل من أديم ليس فيه أكارعه.
هم الرأس والأذناب في الناس أنتم ... ولم تك إلا في الرءوس مسامعه.
يريد بذلك بني عبد الدار. يقول: فإن انتسبتم إلي كعب بن لؤيّ فأنتم أكارع
لستم فيه برءوس. كما يتضح ذلك في البيت السادس. (ديوان حسان بن ثابت) :
285- 286، مختصرا.
[ (2) ] هو الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عديّ بن كعب بن عبد الأشهل
الأنصاريّ الأشهليّ. قال أبو حاتم: شهد غزوة بني النضير، وله ذكر، وليست له
رواية. وقال أبو عمر بن عبد البر: هو ولد أبى جبيرة بن الضحاك، شهد أحدا،
وعاش إلى خلافة عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-. قال ابن سعد:
كان مغموصا عليه، وهو الّذي تنازع هو ومحمد بن مسلمة في الساقية، فترافعا
إلى عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال لمحمد: ليمرن بها ولو على
بطنك.
وقال ابن شاهين: سمعت ابن أبي داود يقول: هو الّذي قال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم عنه: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ذو مسحة من جمال، زنته
يوم القيامة زنة أحد. فاطلع الضحاك بن خليفة، قال: وهو الّذي اشترى نفسه من
ربه بماله الّذي يدعى مال الضحاك بالمدينة.
(14/357)
ويكنى أبا الغيراق، رمي يوم أحد [ (1) ] .
وزرارة بن عمير العبدري، ويقال أبو زيد [ (2) ] بن عمير، وقيل: قاسط بن
شريح العبدري وقطع يد صؤاب الحبشيّ مولى بني عبد الدار. ثم رماه فقتله وكان
قزمان قد امتنع من الخزرج يوم أحد حتى عيّرته النساء وقلن: إنما أنت امرأة!
فأخذ سيفه وقوسه، وقاتل حيّة
__________
[ () ] قال الحافظ: بين هذا الكلام وكلام ابن سعد بون، والّذي رأيته في
(ديوان حسان) رواية أبى سعيد السكرى، وقال يهجر الضحاك بن خليفة الأشهليّ
في شأن بنى قريظة، وكان أبو الضحاك منافقا، وهو جد عبد الحميد بن أبي
جبيرة، فذكر شعرا:
ألا أبلغ الضحاك أن عروقه ... أعيت على الإسلام أن تتجمدا.
أتحب يهدان الحجاز وذينهم ... كبد الحمار ولا تحب لحمدا.
وإذا نشا لك ناشئ ذو غرة ... فهّ القؤاد أمرته فتهودا.
لو كنت منا لم تخالف ديننا ... وتبعت دين عتيد حين تشهدا.
دينا لعمر كما يوافق ديننا ... ما استنّ آل بالبديّ وخودا.
وعنيد: رجل من الأنصار تشهد عند موته شهادة الحق قبل أن يصير رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة.
قال الحافظ: فلعل هذا سلف ابن سعد، لكنه في والد الضحاك لا فيه. وذكر ابن
إسحاق في غزوة تبوك قال:
وبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت
شويكر اليهوديّ يثبطون الناس عن الغزو، فبعث طلحة في قوم من الصحابة وأمره
أن يحرق عليهم البيت، ففعل، فاقتحم الضحاك بن خليفة من هر البيت فانكسرت
رجله وأفلت. وقال ثمة ذلك:
كادت- وبيت اللَّه- نار محمد ... يسقط بها الضحاك وابن أبيرق
سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف ومن يشمل به الريح يحرق
وكأنه كان كما قال ابن سعد: ثم تاب بعد ذلك وانصلح حاله.
(الإصابة) : 3/ 475- 476، ترجمة رقم (4166) ، (الاستيعاب) : 2/ 741، ترجمة
رقم (1249) ، (ديوان حسان بن ثابت) : 306.
[ (1) ] لم أجد له نسبا ولا ترجمة ولا ذكرا فيما بين يدي من كتب السيرة.
[ (2) ] في الأصل) : يزيد، وما أثبتناه من (ابن هشام) حيث قال في ذكر من
قتل من المشركين يوم أحد: وأبو زيد بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد
الدار، قتله قزمان. (سيرة ابن هشام) : 4/ 84.
(14/358)
وأنفة لقومه، وجعل يقول: قاتلوا معشر الأوس
عن أحسابكم، فالموت خير من العار والفرار!
وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: قزمان في النار، فأثبت يوم أحد،
فحمل إلى دار بين ظفر، فقيل له: أبشر أبا الفيراق بالجنة! فقد أبليت اليوم
وأصابك ما ترى، فقال: أي جنة؟ واللَّه ما قاتلت إلا حمية لقومي، فلما اشتدّ
به الوجع أخرج سهما من كنانته فقطع به رواهش يده فقتل نفسه، وفيه يقول صلّى
اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر [ (1) ] .
وأبو عامر [عبد] [ (2) ] عمرو بن صيفي [بن مالك] [ (2) ] بن نعمان بن ضبيعة
بن زيد [ (3) ] وقيل: هو أبو عامر عمر بن صيفي بن زيد بن أمية بن ضبيعة بن
زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف من الأوس. وقال مكي: أصله من الروم، كان
يناظر أهل الكتاب، ويميل إلى النصرانية، ويتبع الرهبانية ويألفهم، ويكثر
الشخوص إلى الشام، فسمي الراهب، فلما ظهر أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم حسده، ففرّ إلى مكة وقاتل مع قريش يوم أحد، فسماه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم أبا عامر الفاسق، فلما فتحت مكة لحق بهرقل هاربا إلى
الروم بالشام، فمات هناك فتخاصم في ميراثه كنانة بن عبد ياليل الثقفيّ،
وكان ممن حسد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فشخص إلى الشام.
__________
[ (1) ] رواه البخاري في الجهاد، باب إن اللَّه ليؤيد هذا الدين بالرجل
الفاجر، وفي المغازي، باب غزوة خيبر، وفي القدر، باب العمل بالخواتيم،
ورواه مسلم في الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، حديث رقم (111)
راجع (جامع الأصول) : 10/ 19 وما بعدها، حديث رقم (7738) .
[ (2) ] زيادة للنسب من (ابن هشام) .
[ (3) ] قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن أبا عامر عبد عمرو
بن صيفي بن مالك بن النعمان، أحد بني ضبيعة، وقد كان خرج حين خرج إلى مكة
مباعدا لرسول اللَّه. معه خمسون غلاما من الأوس، وبعض الناس كان يقول:
كانوا خمسة عشر رجلا، وكان يعد قريشا أن لو قد لقي قومه لم يختلف عليه منهم
رجلان. فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش عبدان أهل
مكة، فنادى: يا معشر الأوس! أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم اللَّه بك عينا
يا فاسق.
وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية: الراهب، فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم: الفاسق، فلما سمع ردهم عليه قال:
أصاب قومي بعدي شرّ، ثم قاتلهم قتالا شديدا، ثم راضحهم [راماهم] بالحجارة.
(سرة ابن هشام) :
4/ 13- 14، أبو عامر الفاسق.
(14/359)
وعلقمة بن علاثة [ (1) ] ، وكان بالشام
أيضا وكان مسلما، ويقال: بل كان مشركا، ثم إنه أسلم، فحكم صاحب الروم بدمشق
بسرار، أي لعامر ولكنانة ابن عبد ياليل لأنه من أهل المدر، وحرمه علقمة
لأنه بدوي. وقال الهيثم بن عدي: كان أبو عامر يهم بالنّبوّة فلما ظهر أمر
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهاجر وحسده، فهرب إلي مكة فقاتل، ثم
أتى الشام.
وقال الواقدي [ (2) ] : هرب أبو عامر إلى مكة، وكان يقاتل مع المشركين،
فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما أسلموا هرب إلى الشام، فدفع ميراثه إلى
كنانة بن عبد ياليل الثقفي [ (3) ] ، وكان ممن هرب أيضا.
وذكر ابن إسحاق أن أبا عامر أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين
قدم المدينة قبل أن يخرج إلى مكة فقال: ما هذا الدين الّذي بعث به؟ فقال:
جئت بالحنفية دين إبراهيم قال: فأنا عليها، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم: إنك لست عليها؟ قال: بلى أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس
فيها قال: ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية، قال الكاذب، أماته اللَّه
طريدا غريبا وحيدا- يعرض برسول اللَّه-:
أي أنك جئت بها كذلك، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أجل فمن كذب
فعل اللَّه تعالى
__________
[ (1) ] كان ممن خرج مع أبي عامر الفاسق: علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص
بن جعفر بن كلاب، وكنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، فلما مات
اختصما في ميراثه إلى قيصر- صاحب الروم- فقال قيصر:
يرث أهل المدر أهل المدر [من يسكنون المدن] ، ويرث أهل الوبر أهل الوبر
[البدو الذين يسكنون الخيام في الصحراء] ، فورث كنانة بن عبد ياليل بالمدر
دون علقمة. (سيرة ابن هشام) : 3/ 128- 129.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 205.
[ (3) ] هو كنانة بن عبد ياليل الثقفيّ، كان رئيس ثقيف في زمانه: قال أبو
عمر: كان من أشراف ثقيف الذين قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم بعد حصار الطائف فأسلموا، وكذا ذكره ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وغير
واحد. وذكر المدائنيّ أن وفد ثقيف أسلموا إلا كنانة، فإنه قال: لا يرثني
رجل من قريش، وخرج إلى نجران، ثم توجه إلى الروم فمات كافرا بها.
ويقوى كلام المدائني ما حكاه ابن عبد البر في ترجمة حنظلة بن أبي عامر
الراهب [الفاسق] : أن أبا عامر لما أقام بأرض مرغما للمسلمين وتنصر، فمات
عند هرقل، فاختصم في ميراثه علقمة بن علاثة العامريّ، وكنانة بن عبد ياليل
الثقفيّ إلى هرقل، فدفعه لكنانة لكونه من أهل المدر كأبي عامر. (الإصابة) :
5/ 669، ترجمة رقم (7536) ، (الاستيعاب) : 1/ 380، ترجمة رقم (549) ، 3/
1330، ترجمة رقم (217) .
(14/360)
ذلك به فكان هو ذلك عدو اللَّه،
خرج إلى مكة فلما افتتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة خرج إلى
الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها سنة تسع، وقيل: سنة عشر
من الهجرة، طريدا وحيدا غريبا [ (1) ] وابنه حنظلة العبد استشهد يوم أحد-
رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[ (2) ]
وذكر المعتمر بن سليمان، عن أبيه- وقد ذكر حديث الهجرة- قال: فلما عدنا
المدينة لقي أبا عامر وهو يسيح في الأرض وهو الراهب، وكان يدعى الراهب من
شدة تعبده وتألهه، فقال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أنت؟ قال:
أنا رسول اللَّه، فقال يا محمد لقد حدّثت عنك قبل أن أراك حديثا ما أدري
لعله سيكون كذلك! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هو؟ قال:
حدّثت أنك تفرق بين الاثنين، ولي ابن يقال له حنظلة، فهبه لي ولا تفرق بيني
وبينه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أنا لست كذلك، ولكن جئتك يا أبا عامر وقومك بالهدى، والبصيرة من
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 128، جزاء ابن صيفي لتعريضه به صلّى اللَّه
عليه وسلّم.
[ (2) ] هو حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك بن أمية- أو ابن صيفي بن زيد
بن أمية، أو ابن صيفي بن النعمان بن مالك بن أمية- ابن ضبيعة بن زيد بن عوف
بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ، المعروف بغسيل
الملائكة.
وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب، واسمه عمرو، ويقال: عبد عمرو، وكان
يذكر البعث ودين الحنفية، فلما بعث النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عانده
وحسده وخرج عن المدينة، وشهد مع قريش وقعة أحد، ثم رجع مع قريش إلى مكة، ثم
خرج إلى الروم فمات بها سنة تسع، ويقال: سنة عشر، وأعطى هرقل ميراثه لكنانة
بن عبد ياليل الثقفيّ. وأسلم ابنه حنظلة فحسن إسلامه، واستشهد. لا يختلف
أصحاب المغازي في ذلك.
وروى ابن شاهين. بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه، قال: استأذن حنظلة
بن أبي عامر، وعبد اللَّه بن أبيّ ابن سلول، رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم الزبير، عن أبيه عن جده قال: كان حنظلة بن أبي عامر الغسيل التقى هو
وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلى حنظلة رآه شداد بن شعوب فعلاه بالسيف حتى
قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان،
فقل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن صاحبكم تغسله الملائكة، فاسألوا
صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهيعة. فقال النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم: لذلك تغسله الملائكة. (الإصابة) : 2/ 137، ترجمة رقم (137) ،
(الاستيعاب) : 1/ 380- 382، ترجمة رقم (549) ، (سيرة ابن هشام) : 3/ 127.
(14/361)
العمى، فقال له أبو عامر: ليس كما تقول،
فادع اللَّه على الكذاب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أمات
اللَّه الكذاب ضالا ذليلا تائها في الأرض.
وقال حماد بن زيد: أخبرنا أيوب بن سعيد بن جبير بن بني عمرو بن عوف، ابتنوا
مسجدا فصلّى بهم فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فحسدهم إخوتهم بنو
غنم ابن عوف فقالوا: لو بنينا أيضا مسجدا وبعثنا إلى رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم فصلّى بنا فيه كما صلّى في مسجد أصحابنا، ولعلّ أبا عامر
أن يمر بنا إذا أتى من الشام فيصلّي بنا فيه كما صلّى في مسجد أصحابنا،
فلما قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لينطلق إليه أتاه الوحي فنزل
فيهم: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً
بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [
(1) ] قال: هو أبو عامر.
وقال حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنه قال في هذه الآية
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ
قال: كان سعيد بن حسمة بنى مسجدا فينا وكان موضعه لليلة تربط فيه حمارها
فقال: أهل مسجدا النفاق أنحن نسجد في موضع يربط فيه حمار له؟ لا ولكننا
نتخذ مسجدا نصلي فيه حتى يجيئنا أبو عامر فيصلي بنا فيه، وكان أبو عامر قد
فرّ من اللَّه ورسوله إلى أهل مكة ثم لحق بالشام فتنصّر، فأنزل اللَّه
تعالى فيه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً
وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ [ (1) ] يعني أبا عامر، فبعث رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم لما نزل القرآن إلى ذلك المسجد قالوا: حفره قوم من
المنافقين، مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجعلوا يضحكون،
ويلعبون، ويهربون، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بإخراجهم.
__________
[ (1) ] التوبة: 107.
(14/362)
طرد المنافقين من المسجد [ (1) ]
فقام أبو أيوب إلي قيس بن عمر بن قيس فجرّ برجله حتى أخرجه من المسجد، وقام
عمارة بن حزم إلي زيد بن عمرو وكان طويل اللحية فأخذ بلحيته فقاده بها قودا
عميقا حتى أخرجه، وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى زويّ بن الحارث فأخرجوا
جميعا (المرجع السابق: 56، (البداية والنهاية) 3/ 292) .
ووديعة بن ثابت أحد بني عمرو بن عوف ممن بني مسجد الضرار، وهو الّذي قال:
إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فأنزل اللَّه عز وجل فيه: وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ
__________
[ (1) ] هذا العنوان من (ابن هشام) ، حديث قال: وكان هؤلاء المنافقون في
المسجد يحضرون فيستمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون ويستهزءون بدينهم، فاجتمع
يوما في المسجد منهم ناس، فرآهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا.
فقام أبو أيوب، خالد بن زيد بن كليب، إلى عمر بن قيس، أحد بني غنم بن مالك
بن النجار- كان صاحب آلهتهم في الجاهلية- فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه من
المسجد وهو يقول: أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة؟
ثم أقبل أبو أيوب أيضا إلي رافع بن وديعة أحد بنى النجار، فلببه بردائه- ثم
نثره نثرا شديدا، ولطم وجهه، ثم أخرجه من المسجد، وأبو أيوب يقول له: أف لك
منافقا خبيثا، أدراجك يا منافق من مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو- وكان رجلا طويل اللحية- فأخذ بلحيته
فقاده قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عمارة يديه فلدمه بهما في
صدره لدمة خرّ منها. قال: يقول خد شتنى يا عمارة، قال: أبعدك اللَّه يا
منافق، فما أعد اللَّه لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربنّ مسجد رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقام أبو محمد- رجل من بني النجار، كان بدريا- وأبو محمد مسعود بن أوس بن
زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك النجار: إلى قيس بن عمرو بن
سهل- وكان قيس غلاما شابا، وكان لا يعلم في المنافقين شاب غيره- فجعل يدفعه
في قفاه حتى أخرجه من المسجد.
وقام رجل من بني الخدرة بن الخزرج، رهط أبى سعيد الخدريّ يقال له: عبد
اللَّه بن.
(14/363)
لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ [ (1) ] الآية.
وعبد اللَّه بن أبيّ، وهؤلاء النفر هم الذين كانوا ينتسبون إلى بني النضير
حين حاصرهم رسول اللَّه أن اثبتوا، فنزل فيهم: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ
قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [
(2) ] إلى قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [ (3) ] ،
ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة، إلا أن الضحاك بن خليفة بن
ثعلبة [ (4) ] أحد بني كعب [ (5) ] كان كاتبهم بذلك.
وأما اليهود
من هاد يهود، إذا رجع، فسموا يهود لأنهم رجعوا عن الحق ويقال أيضا:
هاد يهود. إذا رجع إلى الحق ومنه: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [ (6) ] ويقال:
سموا يهود لأنهم نسبوا إلى اليهود الناعور وقيل: لأنهم يهودون يوم السبت،
أي يسكنون من هود القوم إذا هدوا فإنّهم كانوا أهل يثرب،
__________
[ () ] الحارث حين أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بإخراج المنافقين
من المسجد إلى رجل يقال له: الحارث بن عمرو- وكان ذا جمة- فأخذ بجمته،
فسحبه بها سحبا عنيفا، على ما مرّ به من الأرض حتى أخرجه من المسجد، قال:
يقول المنافق: لقد أغلظت يا ابن الحارث، فقال له: إنك أهل لذلك، أي عدو
اللَّه لما انزل اللَّه فيك، فلا تقربنّ مسجد رسول اللَّه (ص) فإنك فإنك
نجس.
وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخيه زويّ بن، فأخرجه من المسجد إخراجا
عنيفا وأفف منه- قال: غلب عليك الشيطان وأمره. فهولاء من حضر المسجد يومئذ
من المنافقين، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بإخراجهم. (سيرة
ابن هشام) : 3/ 61- 63.
[ (1) ] التوبة: 65.
[ (2) ] الحشر: 11.
[ (3) ] الحشر: 16.
[ (4) ] في (الأصل) : «ثابت» ، وصوبناه (المرجع السابق) .
[ (5) ] (جمهرة النسب) : 635، (الاشتقاق) : 343- 444.
[ (6) ] الأعراف: 156، (لسان العرب) : 3/ 439.
(14/364)
ويثرب [ (1) ] اسم رجل من العماليق، وكانوا
يسمون المنازل التي ينزلونها بأسمائهم وهو يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم
بن عوض بن عبيل بن إرم بن سام بن نوح.
وقيل: يثرب بن قائن بن عبيل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم،
فلما أقبلت العماليق من مكة أخرجت عبيل من يثرب وأنزلتهم الجحفة فجاءهم سيل
فأجحفهم فسميت الجحفة بذلك وفي ذلك يقول رجل منهم:
عيني جودا على عبيل ... وهل يرجع ما فات فيضها بانسجام
عمرو يثربا وليس بها ... تعود ولا صارخ ولا ذو وسام
عرسوا إليها بمجرى معين ... ثم حقوا النخيل بالأجسام
ويقال سميت يثرب بيثرب بن قائن بن عبيل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق لاوى بن
إرم فلما كانت أيام بني إسرائيل، جعلت العماليق تغير عليهم من أرض الحجاز
ومساكنهم يومئذ يثرب والجحفة إلى مكّة، وكانوا أهل عزّ ومنعة وشديدة وكان
ساكنو يثرب منهم بنو هنب وبنو سعد، وبنو الأزرق، وبنو مطروق، فشكت بنو
إسرائيل ذلك إلى موسى عليه السلام، فوجه اليهم جيشا وأمّر عليهم أن
يقتلوهم، ولا يبقوا منهم أحدا، وكان ملك العماليق آنذاك الأرقم بن أبى
الأرقم، يقوم
__________
[ (1) ] قال أبو القاسم الزجاجي: يثرب مدينة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، سميت بذلك لأن أول من سكنها عند التفرق يثرب بن قانية بن مهلائيل بن
إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام ابن نوح عليه السلام.
وقال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: من قال للمدينة يثرب
فليستغفر اللَّه ثلاثا، إنما هي طيبة. وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
لما هاجر: اللَّهمّ إنك أخرجتنى من أحب أرضك إليّ، فأسكني أحب أرضك إليك،
فأسكنه المدينة. (معجم البلدان) : 5/ 493، موضع رقم (12831) مختصرا.
(14/365)
ما بين تيماء [ (1) ] إلي فدك، ولهم بها
نخل كثير وزرع فسأل بنو إسرائيل وواقعوا لهم وتركوا منهم ابن ملك لهم كان
غلاما حسنا فرقوا له ثم رجعوا إلي الشام، وقد مات موسى عليه السلام فقالت
بنو إسرائيل لهم: قد عصيتم وخالفتم الآباء فقالوا نرجع إلي البلاد التي
غلبنا عليها فنكون بها، فرجعوا إلي يثرب فاستوطنوها وتناسلوا بها، إلي أن
نزلت عليهم الأوس والخزرج بعد سيل العرم كما تقدم ذكره عند ذكر الأنصار.
ويقال: بل كان نزولهم أولا من نواحي العالية [ (2) ] ، وانحدر بها الآطام
والأموال والمزارع، فلبثوا في نواحيه زمانا طويلا حتى ظهرت الروم على بني
إسرائيل وخرج بنو قريظة، والنضير، وبنو هذيل من يثرب ونزلوا الغابة [ (3) ]
ثم تحولوا عنها لوبائها إلى عدة مواضع من نواحي يثرب والحدم [ (4) ] .
ويقال: بل كان نزول اليهود بيثرب حين وطئ بخت نصّر بلادهم بالشام وخرب بيت
المقدس، فحينئذ لحق من لحق منهم بالحجاز، كقريظة، والنضير، وسكنوا خيبر،
ويثرب، حتى قدمت الأوس والخزرج عليهم، وكانت لهم معهم حروب ظهرت عليهم
اليهود كما مر ذكره، فلما هاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حاربته
__________
[ () ] قال الكلبي: إن العماليق أخرجوا بنى عقيل، وهم إخوة عاد بن ربّ،
فنزلوا الجحفة، وكان اسمها يومئذ مهيعة، فجاءهم سيل واجتحفهم، فسميت
الجحفة.
ولما قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة استوبأها وحمّ أصحابه، فقال
اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشدّ، وصحّحها، وبارك
لنا في صاعها ومدها، وانقل حمّاها إلي الجحفة.
وروي أن النبي (ص) ، نعس ليلة في بعض أسفاره، إذ استيقظ، فأيقظ أصحابه
وقال: مرّت بي الحمى في صورة امرأة ثائرة الرأس- منطلقة إلى الجحفة. (معجم
البلدان) : 2/ 129، موضع رقم (2955) .
[ (1) ] تيماء- بالفتح والمد- بليد في أطراف الشام، بين الشام ووادي القرى-
على طريق حاج الشام ودمشق، وهي من أمهات القرى على سبع ليال من المدينة
المكرمة (معجم البلدان) : 2/ 78 موضع رقم (2736) .
[ (2) ] العالية: اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة من قراها وعمائرها
إلى تهامة في العالية. قال أبو منصور: عالية الحجاز أعلاها بلدا وأشرفها
موضعا، وهي بلاد واسعة، ومن حديث عائشة (ر) : أن رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم مات وأبو بكر بالسنح- قال إسماعيل يعنى بالعالية ذكره البخاري
في كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لأهل المدينة.
قال الواقدي الغابة بريد من المدينة على طريق الشام، وصنع منبر رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم من طرفاء الغابة، وروى محمد بن الضحاك عن أبيه قال:
كان العباس بن عبد المطلب يقف على سلع جبل فينادي غلمانه وهم بالغابة
فيسمعهم، وذاك من آخر الليل وبين سلع والغابة ثمانية أميال (المرجع السابق)
: 206، موضع رقم (8729) مختصرا.
[ (4) ] الحدم في الأصل: شدة إحماء حر الشمس للشيء، وهو اسم موضع. (معجم
البلدان) : 2/ 264، موضع رقم (3552) .
(14/366)
اليهود وعادته، وحمله من كان منهم بالمدينة
وخيبر، إنما هم قريظة، والنضير، وبنو القينقاع، وهذيل، إلا أن في الأوس
والخزرج من تهوّد وكان من نسائهم من ستنذر إذا ولدت إن عاش ولدها أن تهوّده
لأن اليهود كانوا عندهم أهل علم وكتاب في هؤلاء الأبناء الذين تهودوا،
ونزلت فيهم: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [ (1) ] حين أراد آباؤهم إكراههم على
الإسلام.
قال ابن إسحاق: ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم العداوة بغيا، وحسدا، وضغنا، لما خصّ اللَّه تعالي العرب من أخذه
رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم وانضاف إليهم من رجال من الأوس والخزرج
ممن كان عسا على جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك
والتكذيب بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه، فظهروا
بالإسلام، واتخذوه جنّة من القتل، ونافقوا في السر، وكان هواهم مع يهود
لتكذيبهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وجحودهم الإسلام، وكانت أحبار يهود
هم الذين يسألون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويتعنتونه، ويأتونه
باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه، إلا
قليلا من المسائل في الحلال والحرام، وكان المسلمون يسألون عنها.
فمن بني النضير
حيي بن أخطب وأخوه وأبو ياسر بن أخطب وجدي بن أخطب، وفيهم وفي نظرائهم، نزل
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
__________
[ (1) ] البقرة: 6
(14/367)
[ (1) ] إلي قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ وسلامة
بن مشكم نزل عليه أبو سفيان بن حرب وقال فيه أشعارا:
سقاني فرواني عقارا سلامة ... على ظمأ مني سلام بن مشكم
كذلك أبو عمرو يجود وداره ... بيثرب مأوى كل أبيض حصرم
وامرأة سلام هذا هي زينب بنت الحارث التي أهدت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم شاة مسمومة. وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق. والربيع بن أبي
الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن أبى الحقيق. وكعب بن الأشرف الطائي، من بنى
نبهان حليف بني النضير وأمه عقيلة بنت أبى الحقيق، وكان أبوه أصاب دما في
قومه، فأتى المدينة، وكان كعب طوالا جسيما ذا بطن وهامة ضخمة، وهو الّذي
قال يوم بدر: بطن الأرض خير من ظهرها، هؤلاء ملوك الناس وسراتهم يعني قريشا
قد أصيبوا، وخرج إلي مكة فنزل علي أبي وداعة بن صبرة وجعل يهجوا المسلمين،
ورثى قتلي بدر، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حسان بن ثابت
بهجاء من نزل كعب عنده حتى رجع المدينة.
وحجاج ومجدي ابنا عمرو، حليفا كعب بن الأشرف، وأبو رافع سعد بن حنيف كان
متعوذا بالإسلام، وكان أعور، قتله المسلمون بخيبر، ورفاعة بن قيس، وفنحاص،
سمع قول اللَّه تعالى: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [ (2) ] فقال:
أراني أغنى من ربّ محمد حين استقرض منا فنزلت فيه: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ
سَنَكْتُبُ ما قالُوا [ (3) ] ومحمود بن دحية، وعمرو بن جحاش، وعزيز بن أبي
عزيز، ونباش بن قيس، وسعية بن عمرو، ونعمان بن أوفى، ومسكين بن أبى مسكين،
وزيد بن الحارث، ورافع بن خارجة، وأسير بن زارم، ويقال: ابن رام، كان يحرض
على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويبسط لسانه فيه، ثم أتي خيبر، فبعث رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قتله وعدة من اليهود معه.
__________
[ (1) ] البقرة: 7.
[ (2) ] المزمل: 20.
[ (3) ] آل عمران: 181، وفي (الأصل) : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا» .
(14/368)
ومخيريق أسلم وقاتل مع النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم يوم أحد وأعطاه ماله فوقفه ويقال: إنه من بني قينقاع.
ومن بني قينقاع
كنانة بن صوير أو يقال: صوريا، وزيد بن اللصيت. قال الوقدى: كان يهوديا
فأسلم فنافق، وكان فيه خبث اليهود وغشهم وكان مظاهرا لأهل النفاق وهو الّذي
قال: زعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وقد ضلت ناقته فليس يدرى أين هي! فدله
اللَّه عليها فوجدها وقد تعلق خطامها بشجرة، ويقال: إنه تاب من النفاق،
وكان خارجة بن زيد بن ثابت ينكر توبته ويقول: لم يزل فسلا حتى مات.
وسويد وداعي كانا منافقين يتعوذان بالإسلام، ومالك بن أبي نوفل، كان متعوذا
بالإسلام، ينقل أخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى يهود وهو حبر من
أحبارهم!!
ومن بني قريظة
الزبير بن باطا بن وهب، وكعب بن أسد، وهو صاحب عقد بني قريظة الّذي نقض عام
الأحزاب. وعزّال بن شموأل، وسهل، ويقال: شمويل بن زيد، ووهب بن زيد، وعدي
بن زيد، وكردم بن كعب وأسامة بن حبيب، وقتل كردم ابن قيس حليف كعب بن
الأشرف، ورافع بن رميلة، وكان متعوذا بالإسلام،
وهو الّذي قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه يوم مات: لقد مات اليوم
منافق عظيم النفاق.
ولبيد بن أعصم، كان يتعاطى السحر، وهو الّذي سحر النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم متعوذا بالإسلام، ورفاعة بن زيد بن التابوت
ومعاوية بن التابوت وفيه قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا
رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، لأنه كان نذر أن يقذّر المنبر، أو قذّره،
والحارث بن عوف، وشعبة بن عمرو البصري.
ومن بني حارثة
ومن بنى حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس بن شيبة:
كنانة بن صوريا.
(14/369)
ومن بني عبد الأشهل
يوشع وكان سيّر بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فلما بعث آمن به بنو عبد
الأشهل سواء، وفيه وفي صريانه نزل: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ إلى قوله تعالى:
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ
ومن بني ثعلبة بن الفطيون
عبد اللَّه بن صوريا الأعور ولم يكن بالحجاز في زمانه أحد أعلم بالتوراة
منه وذكر النقاش أنه أسلم، وابن صلوبا، ويقال: كان مخيريق منهم، وكان حبرهم
أسلم.
ومن بني قينقاع أيضا
سعد بن حنيف بن سنحان، وعبد اللَّه صف ورفاعة بن قيس وفنحاص، وأشيع ونعمان
بن آصا، وساس بن قيس وساس بن عدي وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، ومسكين
بن أبى مسكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى، وو محمود بن دحية، ومالك
بن أصيف، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي، رافع، وخلد، وآزار بن أبى
أزار، ويقال: أزر بن أبي أزر، ويقال: آزر بن أبي أزر، ورافع بن حارثة،
ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف.
ومن بني قريظة أيضا
جبل بن عمرو بن سكينة، والنحام بن زيد، ونافع بن أبى نافع، وأبو نافع وكردم
بن زيد، وأسامة بن حبيب، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا.
قال ابن إسحاق- وقد ذكر عدة ممن أوردت- ذكر هاهنا تتمة مفيدة وهي:
إن قال قائل: لم قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المنافقين
إسلامهم مع علمه بنفاقهم؟
قيل له: قبلهم عليه الصلاة والسلام لحكم منها: استجلاب من عاداهم من
الكفار، وتأليف قلوبهم، وإيثار لعدم تنافر خواطرهم عنه، ومنها: الترجي
(14/370)
لدخول أهل النفاق في الإسلام حقيقة، وذلك أنهم إذا دخلوا في الإسلام ظاهرا
رأوا أدلته وبراهينه، وشاهدوا محاسنة مشاهدة لم تكن تحصل لهم مع عداوتهم
للإسلام أصلا، فربما قادهم ذلك إلى الإخلاص في إيمانهم، ومنها: أنهم قد
تولد لهم في الإسلام أولاد، فيكون ذلك راغبا لإسلامه على الحقية، وهذا
يشاهد في ذرية من أسلم في زماننا.
وقيل للإمام مالك- رحمه اللَّه-: لم يقتل الزنديق، ورسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: إن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم لو قتلهم بعلمه فيهم وهم يظهرون الايمان لكان ذلك ذريعة
إلي أن يقول الناس: يقتلهم للضغائن، أو لما شاء اللَّه تعالى غير ذلك،
فيمتنع الناس من الدخول في الإسلام.
وقد روى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه عوتب في المنافقين
فقال: لا يتحدث الناس أنى أقتل أصحابى. |