إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

فصل في ذكر مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته
خرج مسلم من حديث يزيد عن أبى بردة، عن أبي موسى- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن اللَّه عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره، ذكره في المناقب.
وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه سليمان في كتاب (مغازي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم) ثم قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعني من حجة الوداع فأقام بقية ذي الحجة والمحرم واثنين وعشرين ليلة من صفر ثم مرض مرضه الّذي توفي فيه وبدأ وجعه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند وليدة له يقال لها ريحانة كانت من سبي اليهود وكان أول يوم مرض فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم السبت اشتد به وجعه يومه وليلته ثم أصبح فأذن المؤذن بالصلاة ثم ثوب فلما رأى المسلمون أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يخرج أمروا مؤذنا فدخل عليه فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شديد الوصب
فقال الصلاة يا رسول اللَّه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا أستطيع الصلاة خارجا، وسأله من على الباب فأخبره من كان عليه فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مر عمر بن الخطاب فليصل بالناس.
فخرج بلال المؤذن وهو يبكي فقال له المسلمون: ما وراءك يا بلال؟
فقال إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يستطيع الصلاة خارجا فبكى بكاء شديدا وقال. لعمر ابن الخطاب إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأمرك أن تصلي بالناس، قال: ما كنت لأتقدم بين يدي أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وأبدا فادخل على نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره أن أبا بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وبالذي قال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم ما رأى مر أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فليصل بالناس
فخرج إلى أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأمره فصلّى أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بالناس ثمانية أيام واشتد برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعه في تلك الأيام فدخل عليه العباس بن عبد المطلب عمه- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- وقد أغمي عليه فقال العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لأزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وسلّم لو لددتنه! قلن:
إنا لا نجترئ على ذلك وأخذ العباس- رضي اللَّه تبارك

(14/411)


وتعالى عنه- فلده.
فأفاق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من لدني؟ فقد أقسمت ليلدن إلا أن يكون العباس فإنكم لددتمونى وأنا صائم، قلن: إن العباس هو لدك، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم وما حملكم على اللدود وما خفتن علي؟ قالوا: خفنا عليك ذات الجنب، قال: إن اللَّه تعالى لم يكن ليسلطه علي فيجاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وجعه ذلك يومه، فخرج من العدد هو اليوم العاشر الّذي مات فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى بالناس صلاة الغداة ورأى المؤمنون أنه قد برأ ففرحوا به فرحا شديدا ثم جلس في مصلاه يحدثهم ويقول: لعن اللَّه أقواما اتخذوا قبورهم مساجدهم يعني اليهود والنصارى
وحدثهم حتى أضحى ثم أقام صلّى اللَّه عليه وسلم إلى بيته فلم يتفرق الناس من مجلسهم حتى سمعوا صياح النساء وهن يقلن الماء الماء، ترين أنه قد غشي قلبه، وابتدر المسلمون الباب فسبقهم العباس صلّى اللَّه عليه وسلّم فدخل وأغلق الباب دونهم فلم يلبث إلى أن خرج إلى الناس فنعى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لهم نفسه فقالوا: يا عباس ما أدراك منه؟
قال: أدركته وهو يقول جلال ربي الرفيع قد بلغت، ثم قضي، فكان هذا آخر شيء تكلم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكانت وفاته صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة فقال رجل من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كيف يموت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يظهر على الدين؟ إنما أغمي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتوا الباب فقالوا: لا تدفنوه فإنه حي، فخرج العباس صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أيها الناس هل عند أحد منكم عهد من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في شأن وفاته؟
قالوا: قال العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أحمد اللَّه أنا أشهد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد ذاق الموت ولقد أخبره اللَّه تعالى بذلك وهو بين أظهركم فقال:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [ (1) ] .
فعرف الناس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد توفي فخلوا بينه وبين أهله فغسلوه وكفنوه فقال بعضهم: ادفنوه عند المقام في مصلاه فقال العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: إنما عهدكم برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يموت بساعة وهو يقول:
__________
[ (1) ] الزمر: 30.

(14/412)


لعن اللَّه قوما اتخذوا قبورهم مساجدا
وإنما ذكر ذلك لكم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لكيلا تدفنوه في مصلاه، فقالوا: فيدفن إذا بالبقيع، قال العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لعمر: واللَّه لا ندفنه بالبقيع قالوا: لم؟ قال لأنه لا يزال عبدا وأمره يعود إلى بيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتأتيه سيدة فتحتجه قالوا: فأين ندفنه قال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: حيث نزع اللَّه عز وجل نفسه، ففعلوا فلما فرغوا من غسله وتكفينه وضعوه حيث توفى، فصلّى الناس عليه يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ودفن الأربعاء، وكانت صلاة الناس عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم بغير إمام فبدأ المهاجرون فجعلوا يدخلون البيت ما وسع منهم فيصلون عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويستغفرون له بغير إمام ثم يخرجون ويدخل آخرون فيفعلون مثل ذلك فلما فرغ المهاجرون دخلت الأنصار ففعلوا مثل ما فعل المهاجرون، ثم نساء المهاجرين ثم نساء الأنصار بعد، ولما أخذوا في دفنه صاحت الأنصار وقالوا: اجعل لنا نصيبا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند موته فإنا قد كنا منه بمنزلة في حياته، ففعلوا فأدخلوا أوس بن خولي من الأنصار من بني الحبلي فكان فيمن دفن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال المعتمر بن سليمان سمعت أبى يقول ما لا أحصي: ما أعلم بعد القرآن كتابا أصح من هذه السيرة واللَّه تعالى أعلم.
ذكر سيف بن عمر التميمي في كتاب (الردة) عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالي عنه- قال: قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لسبع بقين من ذي الحجة أو ثمان فوجد صداعا يوم قدم وفترة وقدم عليه في أول يومه ذلك خلع من البحرين من ربيعة وقدم وافدهم في أثره بالسلم فوافق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد ندب الناس إليهم فوضع البعث وأمضى عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى عثمان إلى صفر بن الجليدى يدعوه فمضى عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذلك الصداع وتلك الفترة لأيام بقين من ذي الحجة وكان المتحلل من الشعر.
عن الشعبي عن نفر من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالوا: قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرجعه من حجته فتخلل به السير فما زال مجلوطا حتى استقر به الوجع وقام به خطيبا

(14/413)


في آخر يوم من ذي الحجة فقال: ألا ما تتركوا في جزيرة العرب دينين، انبذوا إلى كل ذي دين خالف الإسلام أن يخرجوا من جزيرة العرب: ألا لعن اللَّه الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ويتخذون آبارهن معاطن، إن أهل الكتاب خالفوا أنبيائهم واتخذوا قبورهم مساجد، وآبارهم معاطن فلا تضلوا عن سنتي به.

ذكر نعي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنذاره بذلك قبل موته عليه السلام
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أنزل اللَّه تعالى عليه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (1) ] كانت علامة لاقتراب، أجله وعارضه جبريل عليه الصلاة والسلام بالقرآن في ذلك العام مرتين فكانت علامة أخرى لأجله وخيره اللَّه تعالى بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، فكانت علامة أخرى لآخر أجله، إلى غير ذلك.

فأما نزول إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
فخرج البخاري في غزوة الفتح [ (2) ] من طريق موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان عمر
__________
[ (1) ] النصر: 1.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 953، باب (4) قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً تواب على العباد، والتواب من الناس التائب من الذنب، حديث رقم (4970) هو كلام الفراء في موضعين.
قوله: «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر» أي من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار، وكانت عادة عمر إذا جلس للناس أن يدخلوا عليه على قدر منازلهم في السابقة، وكان ربما أدخل مع أهل المدينة من ليس منهم إذا كان فيه مزية تجبر ما فاته من ذلك.
قوله: (فكأن بعضهم وجد) أي غضب. ولفظ (وجد) الماضي يستعمل بالاشتراك بمعنى الغضب والحب والغنى واللقاء، سواء كان الّذي يلقى ضالة أو مطلوبا أو إنسانا أو غير ذلك.
قوله: (لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله) ؟ ولابن سعد من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير (كان أناس من المهاجرين وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس) وفي تاريخ محمد ابن عثمان بن أبي شيبة من طريق عاصم بن كليب عن أبيه نحوه وزاد (وكان عمر أمره أن لا يتكلم حتى يتكلموا، فسألهم عن شيء فلم يجيبوا، وأجابه ابن عباس، فقال عمر: أعجزتم أن تكونوا مثل هذا الغلام؟ ثم قال: إني كنت نهيتك أن تتكلم.

(14/414)


__________
[ () ] على العباد، والتواب من الناس التائب من الذنب، حديث رقم (4970) هو كلام الفراء في موضعين.
قوله: «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر» أي من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار، وكانت عادة عمر إذا جلس للناس أن يدخلوا عليه على قدر منازلهم في السابقة، وكان ربما أدخل مع أهل المدينة من ليس منهم إذا كان فيه مزية تجبر ما فاته من ذلك.
قوله: «فكأن بعضهم وجد» أي غضب. ولفظ «وجد» الماضي يستعمل بالاشتراك بمعنى الغضب والحب والغنى واللقاء، سواء كان الّذي يلقى ضالة أو مطلوبا أو إنسانا أو غير ذلك.
قوله: «لم تدخل هذا معا، ولنا أبناء مثله» ؟ ولابن سعد من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير «كان أناس من المهاجرين وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس» وفي تاريخ محمد بن عثمان بن أبي شيبة من طريق عاصم بن كليب عن أبيه نحوه وزاد «كان عمر أمره أن لا يتكلم حتى يتكلموا، فسألهم عن شيء فلم يجيبوا. وأجابه ابن عباس، فقال عمر: أعجزتم أن تكونوا مثل هذا الغلام؟ ثم قال: إني كنت نهيتك أن تتكلم، فتكلم الآن معهم «وو هذا القائل الّذي عبر هنا بقوله: «بعضهم» هو عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد العشرة كما وقع مصرحا به عند المصنف في علامات النبوة من طريق شعبة عن أبي شعبة عن أبي بشر بهذا الإسناد كان عمر يدني ابن عباس، فقال له عبد الرحمن بن عوف: إن لنا أبناء مثله، وأراد بقوله: «مثله» أي في مثل سنه، لا في مثل فضله وقرابته من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولكن لا أعرف لعبد الرحمن بن عوف ولدا في مثل سن ابن عباس، فإن أكبر أولاده محمد وبه كان يكنى، لكنه مات صغيرا وأدرك عمر من أولاده إبراهيم بن عبد الرحمن، ويقال: إنه ولد في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إن كان كذلك لم يدرك من الحياة النبويّة إلا سنة أو سنتين. لأن أباه تزوج أمه بعد فتح مكة فهو أصغر من ابن عباس بأكثر من عشر سنين، فلعله أراد بالمثلية غير السن، أو أراد بقوله: «لنا» من كان له ولد في مثل سن ابن عباس من البدريين إذ ذلك غير المتكلم.
قوله: «فقال: إنه من حيث علمتم» . في غزوة الفتح من هذا الوجه بلفظ إنه أنتم علمتم «وفي رواية شعبه» إنه من حيث نعلم» وأشار بذلك إلى قرابته من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو إلى معرفته وفطنته.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: قال المهاجرون العمر: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ قال: ذلكم فتى الكهول، إن له لسانا سئولا وقلبا عقولا.
وأخرج الخرائطي في (مكارم الأخلاق) من طريق الشعبي، والزبير بن بكار من طريق عطاء بن يسار قالا: قال العباس لابنه: إن هذا الرجل يعني عمر- يدنيك، فلا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يسمع منك كذبا. وفي رواية عطاء بدل الثالثة: «ولا تبتدئه بشيء حتى يسألك عنه» .
قوله: «فدعا ذات يوم فأدخله معهم» في رواية للكشميهني «فدعاه» ، وفي غزوة الفتح: «فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم» .
قوله: «فما رئيت» بضم الراء وكسر الهمزة، وفي غزوة الفتح من رواية المستملي:
«فما أريته» بتقديم الهمزة والمعني واحد.

(14/415)


يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حديث علمتم، فدعا ذات يوم فأدخله معهم، فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قوله اللَّه تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس.
__________
[ () ] قوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ زاد في غزوة الفتح (فتح مكة) .
قوله: (وذلك علامة أجلك) ف] رواية ابن سعد (فهو آيتك في الموت) وفي الباب الّذي قبله:
(أجل أو مثل ضرب لمحمد، نعيت إليه نفسه) ووهم عطاء بن السائب
فروى هذا الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت إذا جاء نصر اللَّه والفتح قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعيت إلي نفسي) أخرجه بن مردويه من طريقه،
والصواب رواية حبيب بن ثابت التي في الباب الّذي قبله بلفظ (نعيت إليه نفسه) وللطبراني من طريق عكرمة عن ابن عباس قال:
(لما نزلت إذا جاء نصر اللَّه والفتح ونعيت إلي نفسه) فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة) ، ولأحمد من طريق أبي رزين عن ابن عباس قال: (لما نزلت علم أن نعيت إليه نفسه) ولأبي يعلي من حديث ابن عمر (نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه الوداع) . وسئلت عن قول الكشاف: إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق، فكيف صدرت بإذا الدالة على الاستقبال؟، فأجبت بضعف ما نقله، وعلى تقدير صحته فالشروط لم يكتمل بالفتح، لان مجيء الناس أفواجا لم يكن كمل، فبقية الشرط مستقبل. وقد أورد الطيبي السؤال وأجاب بجوابين: أحدهما: أن (إذ) قد ترد بمعنى (إذا) كما في قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة) الآية.
ثانيهما: أن كلام اللَّه قديم، وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى.
قوله: (إلا ما تقول) في غزوة الفتح (إلا ما تعلم) زاد أحمد وسعيد بن منصور في روايتهما عن هشيم عن أبي بشر في هذا الحديث في أخره (فقال عمر: كيف تلومونني على حب ما ترون) ووقع في رواية ابن سعد أنه سألهم حينئذ عن ليلة القدر، وذكر جواب ابن عباس واستنباطه وتصويب عمر قوله، وقد تقدمت لابن عباس مع عمر قصة أخرى في أواخر سورة البقرة، لكن أجابوا فيها بقولهم: اللَّه أعلم، فقال عمر: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، الحديث. وفيه فضيلة ظاهرة لابن عباس وتأثير لإجابة دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعلمه اللَّه التأويل ويفقهه في الدين، كما تقدم في كتاب العلم. وفيه جواز تحديث المرء عن نفسه بمثل هذا لإظهار نعمة اللَّه عليه، وإعلام من لا يعرف قدره لينزله منزلته، وغير ذلك من المقاصد الصالحة، لا للمفاخرة والمباهاة وفيه جواز تأويل

(14/416)


وخرج البيهقي من طريق عباد بن العوام، عن هلال بن حباب، عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: لما نزلت:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فقال: إنه قد نعيت إلي نفسي. فبكت، ثم ضحكت، قالت:
وأخبرني أنه نعي إليه نفسه فبكيت، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لي: اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت [ (1) ]
وقال سيف بن عمر: حدثنا محمد بن عون عن يحيى بن معمر الوسقي، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: أنزل اللَّه عز وجل علي نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فنعى إليه نفسه فيها، والفتح فتح مكة والنصر على العرب قاطبة ورأينا الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجا وذلك أن الهجرة انقطعت إلى المدينة بعد الفتح، وكانت القبيلة بأسرها تسلم ويقيم مكانها وكان دخولهم قبل ذلك الرجل بعد الرجل والعدة بعد ولاتهم فنقلت فإذا كان ذلك فسبح وأكثروا حمد اللَّه تعالى واستغفروه للأموات من أمتك والأحياء إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً لمن تاب منهم، ففعل صلوات اللَّه وسلامه عليه فأكثروا
قال حدثني عطية بن الحارث عن أبي أيوب، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكثر الدعاء للأحياء والأموات ويكثر الاستغفار للأموات ولا سيما من استشهد قبل الفتح حتى إذا حج حجة التمام، فهي حجة الإسلام، زادني ذلك وعرف أن الأمر قد أظله، فكان في ذلك
__________
[ () ] القرآن بما يفهم من الإشارات، وإنما يتمكن من ذلك من رسخت قدمه في العلم،
ولهذا قال علي رضي اللَّه تعالى عنه: أو فهما يؤتيه اللَّه رجلا في القرآن.
(3) (المرجع السابق) : 6/ 779، باب (25) عاملات النبوة في الإسلام- حديث رقم (3627) وأخرجه أيضا في كتاب المغازي باب (52) بدون ترجمة حديث رقم (4294) ، وباب (84) مرض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، حديث رقم (4430) .
(4) (سبق تخريجه) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 167.

(14/417)


منصرفه من حجته كالرجل الّذي ينذر الغارة ويقول: اسم اسم صبحتم أو مسيتم ويأتي البقيع كل خميس ويستغفر لأهله.
وقال سيف عن عطية عن الضحاك. عن ابن عبّاس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: كان اللَّه عز وجل قد عهد إلى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه متوفيه على حين فراغة من الّذي نعته به، وأمره أن ينعي إلى أمته نفسه بعزته لكيلا يفتتنوا من بعده فقرأ عليهم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وقص عليهم رؤيا رآها أن القمر ولي إليه ثم رفع وقال لهم غداة عرفات: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا. وعن محمد بن كريب، عن أمية، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قد نعى لنا نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نفسه مرارا لو علمنا عنه، فكره أن يفجعنا فلم نعرف ما ذاك حتى كان من أمره حين أنزل اللَّه تعالى عليه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وحين قال: إني رأيت بأن القمر ولي لي بامرأتين فركبته ثم رفعت إلي السماء حين قال: إني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا أبدا
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم على المنبر: إن عبدا خيره اللَّه تعالى أن يكون ملكا مخلدا في الدنيا ما بقيت، ثم الجنة وبين ما عنده. فاختار ما عند اللَّه عزّ وجلّ.
وقال سيف: عن الوليد بن عبد اللَّه عن أبيه، عن ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: آخر من بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الملوك عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- منصرفه من حجته وكان كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذلك آخر حجة أصبح بها علي من يليه إلي من وراءه حتى يجاز عليه فتمت حجة اللَّه وكمل الدين فأوضح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شأن موته عند تكامل الأحكام فأدرج الأمور إدراجا وما ندري لم ذلك حتى وقع الأمر.
وخرج البيهقي من طريق راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكونيّ أن معاذ بن جبل صلّى اللَّه عليه وسلّم راكب ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري. فبكى معاذ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: البكاء أو إن البكاء من الشيطان [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 404- 405، وفي (الأصل) : فإن البكاء من الشيطان، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 311، حديث رقم (921549) ، حديث معاذ بن جبل.

(14/418)


وأما نعيه نفسه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ابنته فاطمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها بأنه عارضه جبريل عليه الصلاة والسلام القرآن مرتين
فخرج البخاري في علامات النبوة في الإسلام من طريق زكريا، عن فراس الشعبي، عن مسروق، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قال أقبلت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرحبا يا ابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم أسر إليها حديثا فبكت فقال لها: لا تبكين؟ ثم أسر إليها حديثا فضحكت، فقالت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن: فسألتها عما قال فقالت- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: ما كنت لأفشي سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسألتها فقالت اسر إلي أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضي العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي وأنك أول أهل بيتي لحاقا بى، فبكيت. فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة! أو نساء المؤمنين فضحكت لذلك [ (1) ] وخرجه مسلم من حديث زكريا عن فراس بنحوه أو قريب منه [ (2) ] وأخرجاه من حديث أبي عوانة، عن فراس، عن عامر عن مسروق قال: حدثتني عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: إنا أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عنده لم يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- تمشي ما تخطىء مشيتها من مشية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا.
وقال البخاري لا واللَّه ما تخطئ مشيتها من مشية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رآها رحب بها فقال: مرحبا يا بنيتي، ثم أجلسها عن يمينه أو شماله، ثم سارها فبكت بكاء شديدا فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت فقلت لها: خصك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بين نسائه بالسرار،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 778، كتاب المناقب، باب (25) عاملات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3623) ، (3624) ، (3625) ، (3626) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 239- 240، كتاب فضائل الصحابة، باب (15) فضائل فاطمة بنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (99) .

(14/419)


ثم أنت تبكين، فلما قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سألتها: ما قال لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت:
ما كنت أفشي على رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم سرّه قالت: فلما توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قلت؟
لها عزمت عليك بمالي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: أما الآن فنعم: أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضه الآن مرتين. وقال البخاري: وإنه قد عارضني به العام مرتين وإني لا أري الأجل إلا قد اقترب فاتقى اللَّه تعالى واصبري فإنه نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الّذي رأيت، فلما رأي جزعي سارني في الثانية فقال: صلّى اللَّه عليه وسلّم يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟ قالت- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: فضحكت ضحكي الّذي رأيت [ (1) ] .
أخّر عند البخاري: هذه الأمة، وقال فيه: فقلت لها أيّا من نسائه خصك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسر بيننا ثم أتيت تبكين؟ وقال فيه مسلم: في كل سنة مرة أو مرتين.
وخرجه النسائي [ (2) ] وقال فيه: فجاءت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- تمشي ولا واللَّه أن تخطي مشيتها من مشية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى انتهت إليه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: مرحبا يا بنيتي. أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان [ (3) ] في باب من ناجى بين يدي الناس ومن لم يخبر بسر صاحبه، فإذا مات أخبر به.
وخرج في باب علامات النبوة في الإسلام (سبق تخريجه) وفي آخر المغازي (المرجع السابق: 8/ 171، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، حديث رقم (4433- 4434) .) وفي باب مرض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: دعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فاطمة ابنته- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- في شكواه الّذي قبض فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسارّها بشيء
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 238- 239، كتاب فضائل الصحابة باب (15) فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام، حديث رقم (98) .
[ (2) ] لعله في (الكبرى) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 11/ 94، كتاب الاستئذان، باب (43) من ناجى بين يدي الناس، ولم يخبر بسر صاحبه، فإذا مات أخبر به، حديث رقم (6285) ، (6286) ، قوله: باب من ناجى بين يدي.

(14/420)


فبكيت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت، فسألنا عن ذلك فقالت: سارني النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الّذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وخرجه البيهقي من طريق سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا يونس بن يزيد قال: حدثنا ابن غزية، عن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، أن فاطمة بنت الحسين، حدثته أن عائشة، حدثتها أنها كانت تقول: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال في مرضه الّذي قبض فيه لفاطمة: يا بنية أحني علي، فأحنت عليه، فناجاها ساعة، ثم انكشفت عنه، وهي تبكي وعائشة حاضرة ثم قال رسول اللَّه بعد ذلك بساعة: أحني علي بنية فأحنت عليه فناجاها ساعة، ثم انكشفت تضحك. قال: فقالت عائشة. أي بنية أخبرينى ماذا
__________
[ () ] الناس ولم يخبر بسر صاحبه، فإذا مات أخبر به- ذكر فيه حديث عائشة في قصة فاطمة رضي اللَّه عنها إذ بكت لما سارها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ثم ضحكت لما سارها ثانيا
فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
وذكر في الوفاة النبويّة، قال ابن بطال: مسارة الواحد مع الواحد بحضرة الجماعة جائر لأن المعنى الّذي يخاف من ترك الواحد لا يخاف من ترك الجماعة قلت: وسيأتي إيضاح هذا، قال: وفيه أنه لا ينبغي إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على المرء، لأن فاطمة لو أخبرتهم لحزن لذلك حزنا شديدا، وكذا لو أخبرتهن أنها سيدة نساء المؤمنين لعظم ذلك عليهنّ واشتد حزنهن، فلما أمنت من ذلك بعد موته أخبرت به. قلت: أما الشق الأول فحق العبارة أن يقول: فيه جواز إفشاء السر إذا زال ما يترتب على إفشائه من المضرة، لأن الأصل في السر الكتمان وإلا فما فائدته؟ وأما الشق الثاني فالعلة التي ذكرها مردودة، لأن فاطمة- رضى اللَّه عنها- ماتت قبلهن كلهن وما أدري كيف خفي عليه هذا؟ ثم جوزت أن يكون في النسخة سقم وأن الصواب فلما أمنت من ذلك بعد موته، وهو أيضا مردود لأن الحزن الّذي علل به لم يزل بموت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بل لو كان كما زعم لاستمر حزنهن على ما فاتتهن من ذلك، وقال ابن التين يستفاد من قول عائشة (عزمت عليك بمالي عليك من الحق) جواز العزم بغير اللَّه، وقال: وفي (المدونة) عن مالك إذا قال: أعزم عليك باللَّه فلم يفعل لم يحنث، وهو كقوله لك اسألك باللَّه، وإن قال: أعزم باللَّه أن تفعل فلم يفعل حنث، لأن هذا يمين انتهى، والّذي عند الشافعية أن ذلك في الصورتين يرجع إلى قصد الحالف، فإن قصد يمين نفسه فيمين، وإن قصد يمين المخاطب أو الشفاعة أو أطلق فلا.

(14/421)


ناجاك أبوك؟ قالت فاطمة، أوشكت رأيته ناجاني على حال سر! وظننت أني أخبر بسره وهو حي! قال: فشق ذلك على عائشة أن يكون سرا دونها. فلما قبضه اللَّه إليه، قالت عائشة لفاطمة: ألا تخبريني بذلك الخبر؟ قالت: أما الآن، فنعم، ناجاني في المرة الأولى، فأخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة، وأنه عارضني بالقرآن العام مرتين. وأخبرنى أنه لم يكن نبي كان بعده إلا عاش بعده نصف عمر الّذي كان قبله، وأخبرنى أن عيسى ابن مريم عليه السلام، عاش عشرين ومائة سنة، فلا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين، فأبكاني ذلك. وقال: يا بنية إنه ليس أحد من نساء المسلمين أعظم رزية منكم، فلا تكوني من أدنى امرأة صبرا- وناجاني في المرة الآخرة.
فأخبرني أني أول أهله لحوقا به. وقال: إنك سيدة نساء أهل الجنة.
إلا ما كان من البتول مريم بنت عمران، فضحكت لذلك [ (1) ] . خرجه مسلم في المناقب
قال البيهقي: كذا في هذه الرواية [ (2) ] وقد روى عن ابن المسيب قال:
إن عيسى ابن مريم عليه السلام حين رفع إلى السماء كان ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعن وهب بن منبه اثنان وثلاثون سنة، فإن صح قول ابن المسيب ووهب فالمراد من الحديث واللَّه أعلم بما يبقى في الأرض بعد نزوله من السماء.
قال المؤلف: هذا حديث حسن فإنه متن رواية يحيي بن أيوب أبي زكريا العلاف المصري، قال النسائي: صالح ورواه يحيى عن سعيد بن أبي مريم عن سعد بن الحكم بن محمد بن سالم الجمحيّ أبو محمد الحافظ الثقة الفقيه ورواه ابن أبي مريم، عن نافع بن يزيد الكلاعي بن يزيد قال أحمد بن صالح كان من ثقات الناس وعمارة بن غزية بن الحارث بن عمرو الأنصاري ومعه أحمد وأبو زرعة.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 166.
[ (2) ] في إسناده محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان- قال البخاري: (لا يكاد يتابع في حديثه) (هامش البيهقي) ، و (الميزان) : 3/ 593.

(14/422)


وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلّم بما خيره اللَّه تعالى بين الدنيا والآخرة
فخرج البيهقي من طريق يونس بن بكير وإبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق قال حدثني عبد اللَّه بن عمر بن ربيعة عن عبيد مولى الحكم عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص عن أبي مويهبة [ (1) ] مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: أنبهنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الليل فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فخرجت معه حتى أتينا البقيع فرفع يديه فاستغفر لهؤلاء ثم قال: ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى: يا أبا مويهبة إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا، والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقلت يا رسول اللَّه بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا، والخلد فيها، ثم الجنة، فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم انصرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فلما أصبح ابتدئ بوجعه الّذي قبضه اللَّه تعالي فيه [ (2) ] وذكره الواقدي من حديث معمر وجماعة قالوا: قالت عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: وثب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من مضجعه من جوف الليل فقلت:
أين بأبي وأمي أي رسول اللَّه قال: أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فخرج حتى جاء البقيع فاستغفر لهم ليلا طويلا ثم قال. ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم قال:
يا أبا مويهبة، إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد، ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فقلت:
بأبي وأمي، فخذ خزائن الدنيا والخلد، ثم الجنة فقال:
يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم انصرف، وذلك ليلة الأربعاء، فأصبح صلى اللَّه عليه وسلّم محموما لليلتين بقيتا من صفر،
وتوفي صلى اللَّه عليه وسلّم يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول.
__________
[ (1) ] أبو مويهبة، ويقال أبو موهبة- وأبو موهوبة- وهو قول الواقدي- مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال البلاذري: كان من مولدي مزينة، وشهد غزوة المريسيع، وكان ممن يقود لعائشة جملها. (الإصابة) : 7/ 393، ترجمة رقم (10589) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 162- 163، باب، ما جاء في نعى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم نفسه إلى أبى مويهبة مولاه، وأخبره إياه بما اختار لنفسه فيما خير فيه.

(14/423)


وقد خرج الحاكم حديث أبي مويهبة من طريق إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق كما تقدم، وقال: صحيح علي شرط مسلم إلا أنه عجيب بهذا الإسناد [ (1) ]
وخرج البيهقي من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: نصرت بالرعب، وأعطيت الخزائن، وخيرت بين أن أبقي حتى أري ما يفتح علي أمتي وبين التعجيل، فاخترت التعجيل.
قال: هذا مرسل وهو شاهد لحديث أبي مويهبة [ (2) ]
وخرج سيف عن مبشر بن الفضيل، عن عبيد بن حنين، عن أبي مويهبة قال: أهبني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في المحرم مرجعه من حجته، وما أدرى أما مضى من الليل أكثر أو ما بقي منه فقلت: أين تريد بأبي وأمي؟
فقال: يا أبا مويهبة انطلق فإنّي قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، قال: فخرج وخرجت معه حتى إذا جاءه استغفر لهم طويلا قائما وقاعدا، ثم قال:
إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد فيها فخيرت بين ذلك والجنة، وبين لقاء ربي قال: قلت والجنة. قال: قلت بأبي أنت وأمي، خذ خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة قال: لا واللَّه يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة.
قال: ثم وجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم واشتكى بعد ذلك بأيام.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 57، كتاب المغازي والسرايا، حديث رقم (4383) . قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم، لكنه عجيب بهذا الإسناد، هكذا رواه إبراهيم بن سعد عنه- يعنى عن ابن إسحاق- ورواه يونس بن بكير عنه، قال: حدثني عبد اللَّه بن ربيعة، عن عبيد بن الحكم، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن أبى مويهبة نحوه.
قال الحافظ الذهبي: هذا أشبه ما رواه أحمد في المسند، عن عائشة: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بدأ به المرض في بيت ميمونة الحديث، صحيح.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 163، باب ما جاء في نعي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم نفسه إلى أبي مويهبة مولاه،

(14/424)


وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] والترمذي [ (3) ] ، من حديث مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبد اللَّه عن عبيد- يعني ابن حنين- عن أبى سعيد الخدريّ صلى اللَّه عليه وسلّم: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جلس علي المنبر فقال: إن عبدا خيره اللَّه بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له. وقال الناس: انظروا إلي هذا الشيخ يخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن عبد خيره اللَّه بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له. وقال الناس: انظروا إلي هذا الشيخ يخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن عبد خيره اللَّه بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا، إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر.
__________
[ () ] وإخباره إياه بما اختاره لنفسه فيما خير فيه.
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 287، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3904) قوله: (باب هجرة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة) صلى اللَّه عليه وسلّم جاء عن ابن عباس أنه أذن له في الهجرة إلى المدينة بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أخرجه الترمذي وصححه هو والحاكم، وذكر الحاكم أن خروجه صلى اللَّه عليه وسلّم من مكة كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وجزم ابن إسحاق بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول، فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما. وكذا جزم به الأموي في المغازي عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال، قال: خرج لهلال ربيع الأول وقدم لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. قلت: وعليّ خرج يوم الخميس، وأما أصحابه فتوجه معه منهم أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة، وتوجه قبل ذلك بين العقبتين جماعة منهم ابن أم مكتوم، ويقال: إن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأشهل المخزومي زوج أم سلمة، وذلك أنه أوذي لما رجع من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها فبلغه قصة الأثنى من الأنصار فتوجه إلى المدينة، ذكر ذلك ابن إسحاق، وأسند عن أم سلمة أن أبا سلمة أخذها معه فردها قومها فسبوها سنة، ثم انطلقت فتوجهت في قصة طويلة وفيها «فقدم أبو سلمة المدينة بكرة، وقدم بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي عشية» ثم توجه مصعب بن عمير كما تقدم آنفا ليفقه من أسلم من الأنصار، ثم كان أول من هاجر بعد بيعة العقبة عامر بن ربيعة حليف بني عدي على ما ذكر ابن إسحاق، وسيأتي ما يخالفه في الباب الّذي يليه وهو قول البراد: «أول من قدم علينا من المهاجرين» .

(14/425)


__________
[ () ] «مصعب بن عمير» ثم توجه باقي الصحابة شيئا فشيئا كما سيأتي في الباب الّذي يليه. ثم لما توجه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم واستقر بها خرج من بقي من المسلمين، وكان المشركون يمنعون من قدروا على منعه منهم، فكان أكثرهم يخرج سرا إلى أنه لم يبق منهم بمكة إلا من غلب على أمره من المستضعفين ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث: الأول والثاني.
قوله: «وقال عبد اللَّه بن زيد وأبو هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار
أما حديث عبد اللَّه بن زيد فيأتي موصولا في غزوة حنين، وأما حديث أبي هريرة فتقدم موصولا في مناقب الأنصار.
وقوله: «من الأنصار» أي من كان أنصاريا صرفا فما كان لي مانع من الإقامة بمكة كنت اتصفت بصفة الهجرة، والمهاجر لا يقيم بالبلد الّذي هاجر منها مستوطنا، فينبغي أن يحصل لكم الطمأنينة بأني لا أتحول عنكم، وذلك أنه إنما قال لهم ذلك في جواب قولهم: أما الرجل فقد أحب الإقامة بمدينته، وسيأتي لذلك مزيد في غزوة حنين إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: «فذهب وهلي» بفتح الواو والهاء أي ظني، يقال: وهل بالفتح يهل بالكسر وهلا بالسكون إذا ظن شيئا فتبين الأمر بخلافه، وقوله: «أو هجر» بفتح الهاء والجيم بلد معروف من البحرين وهي من مساكن عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام كما سبق بيانه في كتاب الإيمان. ووقع في بعض نسخ أبي ذر «أو الهجر» بزيادة ألف ولام والأول أشهر، وزعم بعض الشراح أن المراد بهجر هنا قرية قريبة من المدينة، وهو خطأ فإن الّذي يناسب أن يهاجر إليه لا بد وأن يكون بلدا كبيرا كثير الأهل وهذه القرية التي قيل إنها كانت قرب المدينة يقال لها هجر لا يعرفها أحد، وإنما زعم ذلك بعض الناس في قوله: «قلال هجر» إن المراد بها قرية كانت قرب المدينة كان يصنع بها القلال، وزعم آخرون بأن المراد بها هجر التي بالبحرين كانت القلال كانت تعمل بها وتجلب إلي المدينة وعملت بالمدينة على مثالها، وأفاد ياقوت أن هجر أيضا بلد باليمن، فهذا أولي بالتردد بينها وبين اليمامة لأن اليمامة بين مكة واليمن، وقوله: «فإذا هي المدينة يثرب» كان ذلك قبل أن يسميها صلى اللَّه عليه وسلّم طيبة، ووقع عند البيهقي من حديث صهيب رفعه «أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو يثرب» ولم يذكر اليمامة،
وللترمذي من حديث جرير قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم «إن اللَّه تعالى أوحى إلى أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنسرين»
لأن قنسرين من أرض الشام من جهة حلب، وهي بكسر القاف وفتح النون الثقيلة بعدها مهملة ساكنة، بخلاف اليمامة فإنّها إلى جهة اليمن، إلا أن يحمل على اختلاف فإن الأول جرى على مقتضى الرؤيا التي أريها، والثاني بخبر بالوحي، فيحتمل أن يكون أري أولا ثم خير ثانيا فاختار المدينة. الحديث الرابع: حديث خباب «هاجرنا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بإذنه، وإلا فلم يرافق النبي صلى اللَّه عليه وسلم سوى أبي بكر وعامر بن فهيرة كما تقدم، وقد أعاد المصنف هذا الحديث في هذا الباب، وستأتي الإشارة إليه بعد بضعة عشر حديثا، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الرقاق، ومضى شيء منه في كتاب الجنائز. الحديث الخامس:
حديث عمر «الأعمال بالنيات» أورده مختصرا، وقدم تقدم شرحه مستوفى في أول.

(14/426)


__________
[ () ] الكتاب، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وهو الّذي لا يثبت هذا الحديث إلا من طريقه.
قوله: «حدثني إسحاق بن يزيد الدمشقيّ» هو إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الفراديسي الدمشقيّ أبو النضر، نسبة هنا إلى جده، وكذلك في الزكاة وفي الجهاد، وجزم بأنه الفراديسى الكلاباذي وآخرون، وتفرد الباجي فأفرده بترجمة ونسبه خراسانيا، ولم يعرف من حاله على شيء، وقول الجماعة أولى.
قوله: «عن عبدة بن أبي لبابة» بضم اللام والموحدتين الأولى خفيفة الأسدي كوفي نزل دمشق وكنيته أبو القاسم، ولا يعرف اسم أبيه. قال الأوزاعي: لم يقدم علينا من العراق أفضل منه.
قوله: «إن عبد اللَّه بن عمر كان يقول لا هجرة بعد الفتح» هذا موقوف، وسيأتي شرحه في الّذي بعده.
قوله: «كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلخ» أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة اللَّه في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار الإسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة مما يترجى من دخول غيره في الإسلام، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الجهاد في «باب وجوب النفير» في الجمع بين حديث ابن عباس «لا هجرة بعد الفتح» وحديث عبد اللَّه بن السعدي «لا تنقطع الهجرة» .
وقال الخطابي: كانت الهجرة أي إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلي المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد اللَّه ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب. وقال البغوي في (شرح السنة) » : يحتمل الجمع بينهما بطريق أخرى بقوله: «لا هجرة بعد الفتح» أي من مكة إلى المدينة، وقوله: «لا تنقطع» أي من دار الكفر فذلك حق من أسلم إلي دار الإسلام، قال: ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله: لا هجرة أي إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن، وقوله: «لا تنقطع» أي هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم. قلت: الّذي يظهر أن المراد بالشق الأول وهو المنفي ما ذكره في الاحتمال الأخير، وبالشق الآخر المثبت ما ذكره في الاحتمال الّذي قبله، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ «انقطعت الهجرة بعد الفتح إلي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» أي ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن عن دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها واللَّه أعلم. وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلي المدينة كانت واجبة وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلي المدينة بغير عذر كان كافرا، وهو إطلاق مردود، واللَّه أعلم. قوله: «فمكث بمكة ثلاث عشرة» هذا أصح مما أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد عن هشام بن حسان بهذا الإسناد قال: «أنزل علي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرة» وأصح مما أخرجه.

(14/427)


__________
[ () ] مسلم من وجه آخر عن ابن عباس «أن إقامة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بمكة كانت خمس عشرة سنة» وقد تقدم بيان ذلك في كتاب المبعث، وسيأتي بقية الكلام عليه في الوفاة إن شاء اللَّه تعالى. وقوله هنا: «فهاجر عشر سنين» أي أقام مهاجرا عشر سنين، وهو كقوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ.
وقوله: «فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ» في حديث ابن عباس عند البلاذري في نحو هذا القصة «فقال له أبو سعيد الخدريّ: يا أبا بكر ما يبكيك» فذكر الحديث.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 158- 159، كتاب فضائل الصحابة، باب (1) من فضائل أبي بكر الصديق، حديث رقم (2382) .
قال القاضي: أصل الخلة الافتقار والانقطاع، فخليل اللَّه تعالى المنقطع إليه، وقيل: لقصره حاجته على اللَّه تعالى، وقيل: الخلة الاختصاص، وقيل الاصطفاء وسمى إبراهيم عليه السلام- خليلا، لأنه والى في اللَّه تعالى وعادى فيه، وقيل: سمي به لانه تخلق بأخلاق حسنة وخلال كريمة. وخلة اللَّه تعالى له نصرة، وجعله إماما لمن بعده. وقال ابن فورك: الخلة صفاء المودة بتخلل الإسار، وقيل أصلها المحبة. وقيل: الخليل من لا يتسع قلبه لغير خليله. ومعنى الحديث: أن حبّ اللَّه تعالى لم يبق في قلبه موضعا لغيره.
قال القاضي: وجاء في أحاديث أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إلا أنا وحبيب اللَّه،
فاختلف المتكلمون، هل المحبة أرفع من الخلة؟ أم الخلة أرفع من المحبة؟ أم هما سواء؟ فقالت طائفة: هما بمعنى، فلا يكون الحبيب إلا خليلا، ولا يكون الخليل إلا حبيبا، وقيل: الحبيب أرفع، لأنها صفة نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: الخليل أرفع، وقد ثبتت خلة نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم للَّه تعالى بهذا الحديث ونفى أن يكون له خليل غيره.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 568، كتاب المناقب، باب (15) بدون ترجمة، حديث رقم (3660) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
والخوخة: باب صغير كالنافذة الكبيرة، وتكون بين بيتين، ينصب عليها باب عن التطرق إليها في خوخات إلا من أبوابها إلا لحاجة مهمة. (تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي) : 10/ 100، أبواب المناقب، باب (51) ، حديث رقم (3904) .

(14/428)


ذكر مرض النبي صلى اللَّه عليه وسلم ووفاته عليه السلام
ابتدأ به صلى اللَّه عليه وسلّم صداع في أواخر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقال الواقدي: وحدثني أبو معمر عن محمد بن قيس قال: اشتكى صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة في بيت زينب بنت جحش- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- شكوى شديدة حتى قيل هو مجنوب يعني ذات الجنب واجتمع إليه نساؤه كلهن، اشتكى ثلاثة عشرة وتوفي صلّى اللَّه عليه وسلّم في يوم الاثنين لليلتين مضيتا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.
قالوا: بدئ يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، وتوفى صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول وهو الثّبت عندنا.
وحدثني معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: بدئ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت ميمونة زوجته- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وخرج البخاري من حديث يحيي بن أبي زكريا، أخبرنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: سمعت القاسم بن محمد قال: قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: وا رأساه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذلك لو كان وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك، فقالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وا ثكلياه، واللَّه إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أنا وا رأساه، لقد همت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وابنه فأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون ثم قلت: يأبى اللَّه ويدفع المؤمنون، أو يدفع اللَّه ويأبى المؤمنون. ذكره في كتاب المرضى [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 152، كتاب المرضى، باب (16) ، ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع، أو وا رأساه، أو اشتد بي الوجع، وقول أيوب عليه السلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ حديث رقم (5666) .

(14/429)


خرج النسائي من حديث محمد بن مسلمة، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جنازة وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وا رأساه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم أنا وا رأساه، ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما ضرك لو مت قبلك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك، ثم دفنتك، قالت: لكأنّي بك لو فعلت ذلك ثم رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك! فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم بدئ في مرضه الّذي مات فيه.
وخرجه أيضا من طريق محمد بن مسلمة عن بن إسحاق عن يعقوب عن الزهري، وعن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن عروة ابن الزبير، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: رجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وا رأساه قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أنا يا عائشة وا رأساه. ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: واللَّه ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنك وصليت عليك ثم دفنتك؟
قالت: لكأنّي بك واللَّه لو فعلت ذلك قد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم بدئ بوجعه الّذي مات به، يعنى فيه. ورواه من حديث إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: دخل علي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ () ] قوله: (باب ما رخص للمريض أن يقول إني وجع أو وا رأساه أو اشتد الوجع، وقول أيوب عليه السلام:
مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. أما قوله «إني وجع» فترجم به في كتاب الأدب المفرد وأورده فيه من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: «دخلت أنا وعبد اللَّه بن الزبير على أسماء- يعني بنت أبي بكر وهي أمهما- وأسماء وجعة، فقال لها عبد اللَّه: كيف تجدينك؟ قالت: وجعت» الحديث، وأصرح منه ما روى صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال «دخلت على أبي بكر رضي اللَّه عنه في مرضه الّذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟ فاستوى جالسا فقلت: أصبحت بحمد اللَّه بارئا؟ قال: أما إني على ما ترى وجع» فذكر القصة، أخرجه الطبراني.
وأما قوله: «وا رأساه» فصريح في حديث عائشة المذكور في الباب، وأما قوله «اشتد بي الوجع فهو في حديث سعد الّذي في آخر الباب، وأما قول أيوب عليه السلام فاعترض ابن التين ذكره في الترجمة فقال: هذا لا يناسب التبويب، لأن أيوب إنما قاله داعيا ولم يذكره للمخلوقين. قلت: لعل البخاري.

(14/430)


__________
[ () ] أشار إلى أن مطلق الشكوى لا يمنع ردا على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم، فنبه على أن الطلب من اللَّه ليس ممنوعا، بل فيه زيادة عبادة، لما ثبت مثل ذلك عن الصوم وأثنى اللَّه عليه بذلك وأثبت له اسم الصبر مع ذلك، وقد روينا في قصة أيوب لما طال بلاؤه ورفضه القريب والبعيد، غير رجلين من إخوانه، فقال أحدهما لصاحبه: لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فبلغ ذلك أيوب- يعني فجزع من قوله- ودعا ربه فكشف ما به» . وعند ابن أبي حاتم من طريق عبد اللَّه بن عبيد بن نمير موقوفا عليه نحوه وقال فيه «فجزع من قولهما جزعا شديدا ثم قال: بعزتك لا أرفع رأسي حتى كشف عنه» . فكأنما رد البخاري أن الّذي يجوز من شكوى المريض ما كان على الطريق من اللَّه، أو على غير طريق التسخط للقدر والتضجر، واللَّه أعلم. قال القرطبي:
اختلف الناس في هذا الباب، والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك فلا يستطاع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه كالمبالغة في التأوه والجزع الزائد كان من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذموما حتى يحصل التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه، وشكواه إنما هو ذكره للناس على سبيل التضجر، واللَّه أعلم. وروى أحمد في «الزهد» عن طاوس أنه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو طالب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه مكروه، وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهى مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك. ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى أهـ. ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرته تدل على ضعف اليقين، وتشعر بالتسخيط للقضاء وتورث شماتة الأعداء. وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا. قوله: «حدثنا يحيى بن يحيى أبو زكريا» هو النيسابورىّ الإمام المشهور وليس له في البخاري سوى مواضع يسيرة في الزكاة والوكالة والتفسير والأحلام، وأكثر عنه مسلم، ويقال إنه تفرد بهذا الإسناد وإن أحمد كان يتمنى لو أمكنه الخروج إلى نيسابور ليسمع منه هذا الحديث، ولكن أخرجه أبو نعيم في «المستخرج» من وجهين آخرين عن سليمان بن بلال.
قوله: «وا رأساه» هو تفجع على الرأس لشدة ما وقع به من ألم الصداع، وعند أحمد والنسائي وابن ماجة من طريق عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن عائشة «رجع رسول اللَّه (ص) من جنازة من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وا رأساه» .
قوله: «ذاك لو كان حي» ذاك بكسر الكاف إشارة إلى ما يستلزم المرض من الموت، أي لو مت وأنا حي، ويرشد إليه جواب عائشة، وقد وقع مصرحا به في رواية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة ولفظه.
قوله: «ذاك لو كان حي» ذاك بكسر الكاف إشارة إلى ما يستلزم المرض من الموت، أي لو مت وأنا حي، ويرشد إليه جواب عائشة، وقد وقع صرحا به في رواية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة ولفظه.
«ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك» وقولها «وا ثكلياه» بضم المثلثة.

(14/431)


__________
[ () ] وسكون الكاف وفتح اللام وبكسرها مع التحتانية الخفيفة وبعد الألف هاء للندبة، وأصل الثكل فقد الولد أو من يعز على الفاقد، وليست حقيقته هنا مراده، بل هو كلام كان يجرى على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها. وقولها واللَّه إني لأظنك تحب موتى كأنها أخذت ذلك من قوله لها:
«لو مت قبلي» ، وقولها: «لو كان ذلك» في رواية الكشمهيني «ذاك» بغير لام أي موتها لظللت آخر يومك معرسا «العين والمهملة وتشديد الراء المكسورة وسكون العين والتخفيف، يقال: أعرس، بنى على زوجته، ثم استعمل في كل جماع، والأول أشهر، فإن التعريس النزول بليل. ووقع في رواية عبيد اللَّه «لكأنّي بك واللَّه لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقولها: بل «بل أنا وا رأساه» هي كلمة إضراب، والمعنى: دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي وزاد في رواية عبيد اللَّه ثم بدئ في وجعه الّذي مات فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قوله: «لقد هممت أو أردت» شك من الراويّ، ووقع في رواية أبي نعيم «أو وددت» بدل «أردت» . وقوله: «أن أرسل إلى أبي بكر وابنه» كذلك للأكثر بالواو وألف الوصل والموحدة والنون، ووقع في رواية مسلم: «وابنه» ولفظ «أو» التي للشك أو للتخير، وفي أخرى «أو آتيه» بهمزة ممدوة بعدها مثناة مكسورة ثم تحتانية ساكنة من الإتيان لمعنى المجيء، والصواب الأول، ونقل عياض عن بعض المحدثين تصويبها وخطأه.
وقال: ويوضح الصواب قولها في الحديث الآخر عند مسلم «ادعي لي أباك وأخاك» وأيضا فإن مجيئه إلي أبي بكر كان متعسرا لأنه عجز عن حضور الصلاة مع قرب مكانها من بيته.
قلت: في هذا التعليل نظر، لأن سياق الحديث يشعر بأن ذلك كان في ابتداء مرضه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد استمر يصلي بهم وهو مريض ويدور على نسائه حتى عجز عن ذلك وانقطع في بيت عائشة. ويحتمل أن يكون قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لقد هممت إلخ» وقع بعد المفاوضة التي وقعت بينه وبين عائشة بمدة، وإن كان ظاهر الحديث بخلافه.
ويؤيد أيضا ما في الأصل أن المقام كان مقام استمالة قلب عائشة، فكأنه يقول: كما أن الأمر يفوض لأبيك فإن ذلك يقع بحضور أخيك، هذا إن كان المرد العهد بالخلافة، وهو ظاهر السياق كما سيأتي تقريره في كتاب الأحكام إن شاء اللَّه تعالى، وإن كان لغيره بالخلافة، وهو ظاهر السياق، كما وإن كان لغير ذلك فلعله أراد إحضار بعض مآربها حتى لو احتاج إلي قضاء حاجة أو الإرسال إلى أحد لوجد من يبادر لذلك.
قوله: فأعهد أي أوصي.
قوله: أن يقول القائلون أي لئلا يقول، أو كراهة أن يقول.
قوله: «أو يتمنى المتمنون» بضم النون جمع متمني بكسرها، وأصل الجمع المتمنيون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فاجتمعت كسرة النون بعدها الواو فضمت النون، وفي الحديث ما طبعت عليه المرأة من الغيرة، وفيه مداعبة الرجل أهله، والإفضاء إليهم بما يستره عن غيرهم، وفيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية، فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعول في ذلكم على عمل القلب لا على نطق اللسان.

(14/432)


في اليوم الّذي بدئ فيه، فقلت: وا رأساه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك ودفنك، فقلت: كأني بك ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك! قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أنا وا رأساه، أدعو إلي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا، فإنّي أخاف أن يقول قائل أو يتمنى متمن ويأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر [ (1) ] .
وخرج البيهقي من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني يعقوب بن عتبة ابن المغيرة بن الأخنس، عن الزهري، عن عبيد اللَّه ابن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعد، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يصدع وأنا أشتكي رأسي فقلت: وا رأساه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم بل أنا واللَّه يا عائشة وا رأساه، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما عليك لو مت قبلي فوليت أمرك وصليت عليك وواريتك؟ فقلت: واللَّه إني لأحسب أنه لو كان ذلك، لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي آخر النهار فأعرست بها، فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم تمادى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعه، فاستقر برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فاجتمع إليه أهله، فقال العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إنا لنرى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات الجنب فهلموا فلنلده، فلدوه، وأفاق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من فعل هذا؟ قالوا: عمك العباس، تخوف أن يكون بك ذات الجنب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنها من الشيطان، وما كان اللَّه تعالى ليسلطه عليّ، لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه إلا عمي العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-،
فلدّ أهل البيت كلهم حتى ميمونة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، وإنها لصائمة يومئذ، وذلك بعين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم أستأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نسائه أن يمرض في بيتي، فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيتي فهو صلّى اللَّه عليه وسلّم بين العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وبين رجل آخر لم تسمه قدماه تخطان الأرض إلى بيت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، قال عبيد اللَّه: فحدثت هذا الحديث ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فقال: تدري من الرجل الآخر الّذي كان مع العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قلت: لا
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 207- 208، حديث رقم (24589) ، من حديث للسيدة عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-

(14/433)


قال: هو عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقال سيف: عن سعيد عن عبد اللَّه بن أبي مليكة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: اشتكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعه الّذي ألمه في ليلة صفر واشتكيت في تلك الليلة شكوى فجاءني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا في صرة أنادي: وا عماه، وا رأساه، عاصبا صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه يعودني، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد طرقني يا عائشة طارق من صداع فما برح بي، ولكن وجهك صوري فكيف بحديثك؟
قالت: والّذي بعث محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحق لقد فزعت فزعة طار عني ما أحذرني حتى ما أخشى منه شيئا، وقربت إليه فالتزمته وأنا أقول: وا ويلاه، فقال: وأخبراه، لا تدعى بالويل، وأقبل يمازحني حتى سكنني وإنه لمثبت، وفزع الناس بضحكي فأقبلوا فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إليكم فإنه لم يحدث إلا خيرا، فتراجع الناس ولزمه النسوة ودرن معه دورة ثم استأذنهن في بيتي، فأذن له.
وقال سيف: عن محمد بن إسحاق، عن الزهريّ ويزيد بن رومان وأبي بكر بن عبد اللَّه: أن الّذي كان ابتدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وجعه الّذي لزمه أن دخل على عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم يجد صداعا فوجدها بصداع وتقول: وا رأساه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أنا واللَّه يا عائشة وا رأساه فو اللَّه لقد طاوعني ما لقد ولدت أن استطار، فسكنني صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمزاح عليّ بحسم منه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما ضرك يا عائشة لو مت قبلي فأقوم عليك وأصلّى عليك؟
فقالت له: لكأنّي بك قد فعلت وأعرست مع نسائك في آخر ذلك اليوم! فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم تمادى به وجعه وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك يدور على نسائه حتى استقر برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في بيت ميمونة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-.
قالت: فلما رأوا ما به اجتمع رأي من في البيت علي أن يلدّوه وتخوفوا أن يكون به ذات الجنب، ففعلوا، ثم فرج عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد لدوّه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم من صنع بى هذا؟ فهبنه، واعتللن بالعباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فاتخذ جميع من في البيت العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- سببا، ولم يكن له في ذلك رأي، فقالوا: يا رسول اللَّه: عمك العباس-

(14/434)


رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أمر بذلك، وتخوفنا أن يكون ذلك ذات الجنب فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنها من الشيطان ولم يكن اللَّه- عز وجل- يسلطه علي ولكن هذا عمل النساء، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي العباس
فلدوا كلهم ولدت ميمونة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وكانت صائمة لقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلي بيت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى- عنها وكان يومها بين العباس وعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- والفضل- رضي اللَّه تبارك وتعاله عنه- ممسك بظهره ورجلاه صلّى اللَّه عليه وسلّم تخطان في الأرض حتى دخل على عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فلم يزل عندها مغلوبا لا يقدر على الخروج، وغير مغلوب وهو لا يقدر على الخروج من بيتها إلى غيره.
وقال سيف: عن سعيد بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه أبي مليكة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: كره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما صنع به في بيت ميمونة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: غدا في بيت عائشة فهل تطبن إلى المقام في بيت إحداكن حتى يقضي اللَّه تعالى في قضاءه؟ فقلن:
نعم فأتاني في بيتي وفي يومي، وكان آخر أيامه يومي، كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يدور علينا.
وقال الواقدي: حدثني عاصم بن عبد اللَّه بن عمرو بن الحكم قال: قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت ميمونة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- سبعة أيام يبعث إلى نسائه أسماء بنت عميس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- يقول:
إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يشق عليه أن يدور عليكن فأحللنه فكن يحللنه.
وحدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه قال: كانت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تدور على نسائه وتقول: أحللنه فيحللنه.
وحدثني ابن أبي سبرة عن يحيى بن سهل، عن أبي جعفر قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحمل في ثوب ويطاف به على نسائه، وذلك أن زينب بنت جحش- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- كلمته في ذلك فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأنا أدور عليكن، فكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يحمل في ثوب ويحمل جوانبه الأربع، يحمله أبو رافع مولاه وأبو مويهبة، وشقران، وثوبان، - رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم

(14/435)


حتى يقسم لهن كما يقسم، فجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: أين أنا غدا؟ فيقولون: عند فلانة فعرف أزواجه أنه يريد عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقلن:
يا رسول اللَّه قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة.
قال سيف: عن سبط، عن نعيم بن أبي هند، عن شقيق بن سلمة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، قالت: لما اشتكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل يدور بين نسائه ويتحامل، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما لهن وهن مجتمعات عنده: قد ترين ما أصابنى من الشكوى وهو يستند علي أن أدور بينكن فلو أذنتن لي في بيت إحداكن حتى أعلم ما يصنع اللَّه تعالى، فقالت إحداهن: أي نبي اللَّه، قد أذناك وعرفنا البيت الّذي تريد، فتحول إليه فالزمه، فإنا لو قدرنا أن نفديك بأنفسنا فديناك وسررناك، فقال: فأي بيت هو؟ قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى- عنها: لا تعدل به فتحول إلي بيتي.
وقال سيف: عن هشام بن عروة، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول في وجعه وهو يدور على نسائه: أين أنا غدا؟ فنقول: عند فلانة، فإذا كان الغد قال: أين أنا غدا؟ فما زال ذلك من قوله كل يوم حتى قيل: عند عائشة في اليوم الّذي استأذن نساءه فيه في المقام في بيت إحداهن، ففرح حتى عرف القوم فيه ألحقه.
وقال سيف، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وهو في مرضه، وهو عند نسائه: أين أنا غدا؟ قالوا عند فلانة، ثم سأل صلّى اللَّه عليه وسلّم أيضا فقال: أين أنا غدا؟ فكذلك حتى قال بعض نسائه:
إنما يريد يوم بنت أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فأذن له، قلن له: يا رسول اللَّه إنما نحن أخوات فأنت في حل، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أجل، فسر بذلك.
قال الواقدي: فحدثني عاصم بن عبد اللَّه عن عمرو بن الحكم قال: فنقل صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- يوم الأربعاء الآخر حتى توفي، فأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيتها، قال: وقالوا: لما مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذته بحة شديدة مع حمى معظمة.

(14/436)


وقال سيف: عن الوليد بن كعب عن أبيه، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: طلب أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن يمرضه فقال، صلى اللَّه عليه وسلم: يا أبا بكر، هو ابتلاء لأهلي أن يمرضوني، وقد وقع أجرك على اللَّه، فوليت تمريضه ما دام الرجال يدخلون عليه، فلما ارتفعوا خاليته والنسوة.
وقال البخاري: وقال يونس عن الزهري: قال عروة: قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول في مرضه الّذي مات فيه: يا عائشة! ما أزال أجد ألم الطعام الّذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم [ (1) ] .
وخرج البيهقي من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن مرة، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه قال: لأن أحلف تسعا أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قتل قتلا أحب إليّ من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل. وذلك أن اللَّه تعالى اتخذه نبيا واتخذه شهيدا. [ (2) ]
وقال سيف: حدثني سعيد بن عبد اللَّه، عن ابن أبي مليكة عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: دخلت أم شريك على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو يجد غما ونفسا فقال: يا أم بشر هذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من الأكلة التي أكلتها أنا وأبوك يوم خيبر. قالت: وكانت امرأة من أهل خيبر أتتهما بشاة مصلية مسمومة، فأهوى أبوها إلى اللقمة ونهش النبي صلى اللَّه عليه وسلم الذراع، فقالت الذراع: لا تأكل فإنّي مسمومة، فرمي بها وتعقبه منها ما تعقب.
وقال الواقدي: فحدثني معمر ومالك عن الزهري، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقرأ على
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 165، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي صلى اللَّه عليه وسلم ووفاته حديث رقم (4428)
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 172، باب ما جاء في إشارته صلى اللَّه عليه وسلم إلى عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- في ابتداء مرضه بما يشبه النعي، ثم إخباره إياها بحضور أجله، وما في حديثها من أنه صلى اللَّه عليه وسلم توفي شهيدا.

(14/437)


نفسه بالمعوذات، فلما مرض وثقل كنت أقرأها في يديه وأمسح بهما جسده وألتمس بذلك بركة يديه، ودخلت عليه في مرضه أم بشر بنت البراء بن معرور فقالت: يا رسول اللَّه ما وجدت مثل هذه الحمى التي عليك على أحد! فقال صلى اللَّه عليه وسلم وما كان اللَّه تعالى ليسلطها على رسوله إنها همزة من الشيطان، ولكنها من الأكلة التي أكلت أنا وابنك بخيبر من الشاة، كان يصيبني منها عداد مرة فكان هذا أوان انقطاع أبهري، فمات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شهيدا.
وخرج البخاري [ (1) ] من حديث الليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود قال: إن عائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم قالت: لما ثقل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذن له فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه في الأرض بين العباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر، قال عبيد اللَّه: فأخبرت عبد اللَّه بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد اللَّه بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الّذي لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي، وكانت عائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم تحدث أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما دخل بيتي واشتد به وجعه قال: أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن، لعلي أعهد إلى الناس، وأجلسناه في مخضب لحفصة زوجة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن. قالت: ثم خرج صلى اللَّه عليه وسلم إلى الناس فصلى بهم وخطبهم.
وأخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، قال: إن عائشة وعبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قالا: لما نزل برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك:
لعنة اللَّه على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا.
وأخبرني عبيد اللَّه أن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت:
لقد راجعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا يقوم مقامه أبدا، وإلا كنت أرى أنه لن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 178، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي ووفاته، حديث رقم (4442) .

(14/438)


يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- هكذا ذكر البخاري هذا الحديث في باب مرض النبي صلى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] .
قال الواقدي: حدثني معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: ان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعد أن دخل بيتها واشتد وجعه قال: أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد الى الناس قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: فأجلسناه في مخضب لحفصة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- مثل الأيرن من صفر وطفقنا نصب عليه تلك القرب حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن، ثم خرج صلى اللَّه عليه وسلم إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، قالوا: وكانت تلك القرب من بئر أبي أيوب الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
وخرج البيهقي حديث: «وإن اللَّه خير عبدا» ، ثم قال: وهذا الّذي رواه أبو سعيد الخدريّ وأبو يعلي الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- في خطبة النبي صلى اللَّه عليه وسلم، إنما كان ذلك حين خرج في مرضه بعد ما اغتسل ليعهد الي الناس والّذي يدل على ذلك فذكر ما
خرجه البخاري من حديث وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت يعلي بن حكيم يحدث عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، قال: خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مرضه الّذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فصعد على المنبر فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي
__________
[ (1) ] لم أجد هذا الحديث في (صحيح البخاري) بهذه السياقة، وقد ذكره الحافظ البيهقي في (دلائل النبوة) : 7/ 186- 187، باب ما جاء في أمره حين اشتد به المرض- أبا بكر الصديق رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يصلي بالناس، وقال في هامشه: أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وقال تابعة الزبيدي وابن أخي الزهري وإسحاق بن يحيى الكلبي عن الزهري.
وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (21) استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر وغيرهما من يصلي بالناس، حديث رقم (93) .

(14/439)


قحافة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ذكره في كتاب الصلاة، في باب الخوخة والممر في المسجد [ (1) ] . وخرجه في المناقب مختصرا من حديث وهيب، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-[ (2) ] .
وخرج النسائي من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللَّه بن الحارث، قال: قال لي خبّاب: إنه سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلم قبل أن يتوفى يقول: قد كان إخوة وأصدقاء فأراني أبرأ إلي كل خليل من خلّته، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن ربي اتخذني خليلا، كما اتخذ أبي إبراهيم خليلا، ألا ولا تتخذوا القبور مساجد، فإنّي أنهاكم عن ذلك، ذكره في تفسير سورة النساء.
قال البيهقيّ: وفي هذه الخطبة، قال: فذكر ما خرجه البخاري في علامات النبوة في الإسلام من حديث أبي نعيم، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة الغسيل حدثنا، عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، قال: خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مرضه الّذي مات فيه في ملحفة قد عصب بعصابة دسماء حتى جلس على المنبر، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس كالملح في الطعام فمن ولي منكم شيئا يضرّ فيه قوما وينفع آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، فكان آخر مجلس جلس فيه النبي صلى اللَّه عليه وسلم [ (3) ] .
وذكر من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن أيوب بن بشير قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال في مرضه: أفيضوا عليّ سبع قرب
__________
[ (1) ] حديث رقم (467) .
[ (2) ] باب (5) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا» حديث رقم «3656» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 178.

(14/440)


من سبع آبار شتّى، حتى أخرج وأعهد إلي الناس، ففعلوا، فجلس على المنبر فكان أول ما ذكر بعد حمد اللَّه تعالى والثناء على أصحاب أحد، فاستغفر لهم ودعا لهم، ثم قال: يا معشر المهاجرين، إنكم قد أصبحتم تزيدون والأنصار علي هيئتها لا يزيدون، وإنهم عيبتي التي آويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: أيها الناس إن عبدا من عباد اللَّه تعالى قد خيّره اللَّه تعالى بين الدنيا وبين ما عند اللَّه تعالى فاختار ما عند اللَّه عز وجل ففهمها أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من بين الناس فبكى، ثم قال: نفديك بأنفسنا وآبائنا فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر، انظروا إلى هذه البيوت الشارعة في المسجد فسدوها، الا ما كان من بيت أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى- فإنّي لا أعلم أحدا أفضل عندي يدا في الصحبة منه [ (1) ]
قال البيهقي: هذا وإن كان مرسلا ففيه ما في حديث ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- من تاريخ هذه الخطبة وأنها كانت بعد ما اغتسل ليعهد إلي الناس، وينعي نفسه إليهم.
وخرج من طريق الواقدي. قال حدثني فروة بن زبيد طوسا، عن عائشة بنت سعد، عن أم ذرّة، عن أم سلمة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عاصبا رأسه بخرقة، فلما استوى علي المنبر أحدق الناس بالمنبر واستكفوا، فقال: والّذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض ساعة، ثم تشهّد فلما قضي تشهده، كان أول ما تكلم به أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد، ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: إن عبدا من عباد اللَّه تعالى خيّر بين الدنيا وبين ما عند اللَّه عز وجل، فاختار العبد ما عند اللَّه تعالى، فبكى أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فعجبنا لبكائه. وقال: بأبي وأمي، نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا، فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هو المخيّر وكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أعلمنا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: على رسلك. [ (1) ]
وخرجه الواقدي عن عروة به، قال في آخره: قال عمر- رضي اللَّه تبارك
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 7: 178.

(14/441)


وتعالى عنه- يا رسول اللَّه دعني افتح كوّة فأنظر إليك حين تخرج إلى الصلاة فقال صلى اللَّه عليه وسلم: لا.
وقال سيف: عن محمد بن إسحاق، [ (1) ] عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن نغسّله من سبع قرب من سبع آبار، ففعلنا ذلك وصببنا عليه فوجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم راحة فخرج يصلى بالناس واستغفر لأهل أحد ودعا لهم، وأوصى بالأنصار فقال: أما بعد، يا معشر المهاجرين فإنكم تزيدون، وأصبحت الأنصار على هيئتها التي هي عليها اليوم، إلا أن الأنصار عيبتي التي آويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم قال: إن عبدا من عباد اللَّه تعالى خيّره ما بين الدنيا وبين ما عند اللَّه عزّ وجل، فاختار ما عند اللَّه تعالى فبكى أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وظنّ أنه يريد نفسه، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر، سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فإنّي لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصحبة من أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
وقال سيف: حدثني سعيد بن عبد اللَّه بن أبي مليكة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رفع يومئذ صوته حتى أسمع من وراء المسجد، فقال: أيها الناس، سعرت النار، وأقبلت فتن كقطع الليل المظلم وإنها آكلة من وجدت على رأس خمس وثلاثين سنة، إلا من تمسّك بالثقلين من كتاب اللَّه تعالى وسنتي وإني لم أحلّ إلا ما أحل القرآن ولم أحرّم إلا ما حرّم القرآن، والمسلمون شهود اللَّه فيما لم يكن فيه كتاب ولا سنة فما حسنوه فحسن وما قبحوه فقبيح، فالزموا الجماعة والطاعة، فأما الجماعة فالسنة، وأما الطاعة فالعصمة، ثم دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بيته وقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس.
وقال الواقدي: قالت أم ذرّة: فسمعت أبا سعيد- رضي اللَّه تبارك
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .

(14/442)


وتعالى عنه- يقول: خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يومئذ مشتملا قد طرح طرفي ثوبه على عاتقه عاصبا رأسه بعصابة، وقال بعد التشهد: يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد علي هيئتها التي هي عليها اليوم وإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها فاحفظوني فيهم، فأكرموا كريمهم، وأقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
قال: واعترض رجل فقال يا رسول اللَّه: ما بال أبواب أمرت فيها أن تفتح وأبواب أمرت بها أن تغلق؟ فقال صلى اللَّه عليه وسلم ما فتحتها ولا أوصدتها عن أمرى.
وخرج البيهقي من حديث معن بن عيسى القزاز عن الحارث بن عبد الملك ابن عبد اللَّه بن إياس الليثي، عن القاسم بن يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- قال: أتانى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو يوعك وعكا شديدا وقد عصب رأسه فقال: خذ بيدي يا فضل، قال: فأخذت بيده حتى قعد على المنبر ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: ناد في الناس يا فضل، فناديت: الصلاة جامعة، قال: فاجتمعوا فقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خطيبا.
فقال: أما بعد، أيها الناس، وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، ولن تروني في هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن غيره غير مغن عني حتى أقومه فيكم ألا فمن كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت أخذت له مالا، فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد، ولا يقولن قائل: أخاف الشحناء من قبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن من أحبكم إليّ من أخذ حقا إن كان له عليّ وحللني، فلقيت اللَّه تعالى وليست عندي لأحد مظلمة [ (1) ] .
قال: فقام رجل فيهم: فقال: يا رسول اللَّه! لي عندك ثلاثة دراهم فقال صلى اللَّه عليه وسلم: أما أنا فلا أكذّب قائلا ولا مستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندي؟ قال: أما تذكر أنه مرّ بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم؟ قال
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 179.

(14/443)


صلى اللَّه عليه وسلم أعطه يا فضل. قال: قال: فأمر به فجلس [ (1) ] .
ثم عاد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مقالته الأولى، ثم قال أيها الناس من كان عنده من الغلول شيء فليرده، فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللَّه! عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل اللَّه، قال صلى اللَّه عليه وسلم: ولم غللتها؟ قال: كنت إليها محتاجا فقال صلى اللَّه عليه وسلم خذها منه يا فضل [ (2) ] .
ثم عاد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مقالته الأولى وقال: أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم أدعو اللَّه عز وجل ذكره له، قال: فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللَّه: إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لنؤوم، فقال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ويحك أيها الرجل! لقد سترك اللَّه تعالى، لو سترت على نفسك. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة اللَّهمّ ارزقه صدقا، وإيمانا، وأذهب عنه النوم إذا شاء، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عمر معى، وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه ... [ (3) ] .
وقال سيف: حدثني سعيد بن عبد اللَّه، عن أبيه قال: لما رأت الأنصار أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يزداد ثقلا أطافوا بالمسجد فدخل العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على النبي صلى اللَّه عليه وسلم فاعلمه بمكانهم ثم دخل عليه الفضل- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأعلمه بمثل ذلك، فمد يده فقال: هنا فيتناولوه، فقال: وما يقولون؟ قال: يقولون نخشى أن تموت وفضائح نسائهم لاجتماع رجالهم إلي النبي صلى اللَّه عليه وسلم فثار النبي صلى اللَّه عليه وسلم فخرج متوكئا على علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- والفضل والعباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أمامه والنبي صلى اللَّه عليه وسلم معصوب الرأس يخط برجله حتى جلس على أسفل مرقاه من المنبر وثاب الناس إليه فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس بلغني أنكم تخافون عليّ الموت كافة استنكارا منكم للموت وما تنكرون من موت.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 180 وفيه «فأمرته فجلس» .
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) ونقله الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) وقال: في إسناده ومتنه غرابة شديدة.

(14/444)


نبيكم؟ ألم أنع لكم وتنعي لكم أنفسكم؟ هل خلد نبي قبلي ممن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا إني لاحق وإنكم لاحقون به، وإني أوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا وأوصى المهاجرين فيما بينهم، وإن اللَّه عزّ وجلّ قال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [ (1) ] إلي آخرها، وإن الأمور تجري بإذن اللَّه تعالى، فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله فإن اللَّه عز وجل لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب اللَّه غلبه، ومن خادع اللَّه خدعه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [ (2) ] وأوصيكم بالأنصار خيرا فإنّهم الذين يتبوءوا الدار والإيمان، أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم الثمار؟ ألم يتوسعوا عليكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن إن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وأنا فرط لكم وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض حين أعرض مما بين، بصري الشام، وصنعاء اليمن، فصب فيه ميزاب الكعبة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من الشهد، من يشرب منه لم يظمأ أبدا، حصباؤه اللؤلؤ، وبطحاؤه في مسك، من حرمه في الموقف غدا حرم الخير كلّه، ألا فمن أحب أن يرد عليّ غدا فليكفف يده ولسانه إلا مما ينبغي.
فقال العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا نبيّ اللَّه، أوص بقريش، فقال: إنما أوصى بهذا الأمر قريشا، الناس تبع لقريش من أبرهم وفاجرهم فاستوصوا، إن قريشا بالناس خيرا، يا أيها الناس، إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، وإذا برّ الناس برّهم أئمتهم، وإذا فجروا عقوهم. قال اللَّه عز وجل: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [ (3) ] .
__________
[ (1) ] العصر: 1- 2.
[ (2) ] محمد: 22.
[ (3) ] الأنعام: 129.

(14/445)


ذكر إرادة الرسول صلى اللَّه عليه وسلم أن يكتب كتابا لأصحابه وقد اشتد به الوجع
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث عبد الرزاق قال:
أنبأنا معمر عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن عباس قال لما حضر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، قال عمر:
إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب اللَّه، واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر: فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال قوموا عني. قال عبيد اللَّه: فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم.
لفظهم فيه متقارب
وذكر البخاري في كتاب المرض، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنه [ (4) ] ، وفي آخر المغازي، وذكره مسلم في الوصايا، وأخرجه البخاري في كتاب العلم [ (5) ] في باب كتابة العلم من حديث يونس عن الزهري
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 167، كتاب المغازي، باب (84) مرضى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ووفاته، حديث رقم (432) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 102- 104، كتاب الوصية باب (5) ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه، حديث رقم (22) .
[ (3) ] لعله في (الكبرى) .
[ (4) ] (فتح الباري) /: 13/ 414، كتاب الاعتصام، باب (26) كراهية الاختلاف، حديث رقم (7366) : يقول أن الرزية كل الرزية أن حال شيء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب. من اختلافهم ولغطهم.
[ (5) ] قوله: باب كراهية الاختلاف ولبعضهم الخلاف أي في الأحكام الشرعية أو أعم من ذلك وسقطت هذه الترجمة لابن بطال فصار حديثها من جملة باب النهي للتحريم ووجهه بأن الأمر بالقيام عن الاختلاف في القرآن للندب لا لتحريم القراءة عند الاختلاف والأولى ما وقع عند الجمهور وبه جزم الكرماني فقال في آخر حديث عبد اللَّه بن مغفل: هذا آخر إيراد في الجامع من مسائل أصول الفقه

(14/446)


قال: لما اشتد بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب اللَّه حسبنا، فاختلفوا وأكثروا اللغط: قال صلى اللَّه عليه وسلم قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبين كتابه.
وخرج البخاري ومسلم من حديث سفيان. بن عيينة، عن سليمان بن أبي مسلم أنه سمع سعيد بن جبير. قال: إنه سمع ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بلى دمعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي أبدا فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع، وقالوا: ما شأنه أهجر؟ استفهموه، فقال صلى اللَّه عليه وسلم دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه فأمرهم بثلاث:
فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة إما أن سكت عليها وإما أن
__________
[ () ] قوله: «حدثنا إسحاق» هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في (المستخرج) وقوله في آخر قال أبو عبد اللَّه سمع عبد الرحمن يعني ابن مهدي المذكور في السند سلاما يعني بتشديد اللام وهو ابن أبي مطيع، وأشار بذلك قوله: قال عبيد اللَّه هو ابن عبد اللَّه بن عتبة هو موصول بالسند المذكور وقد تقدم بيان ذلك في (كتاب العلم) وفي آخر المغازي في باب الوفاة النبويّة.
إلى ما أخرجه في فضائل القرآن عن عمرو بن على عن عبد الرحمن قال: حدثنا سلام بن أبي مطيع ووقع هذا الكلام للمستملي وحده.
قوله: «وقال يزيد بن هارون إلخ، وصله الدارميّ عن يزيد بن هارون لكن قال عن همام، ثم أخرجه عن أبي النعمان، عن هارون الأعور، وتقدم في آخر فضائل القرآن الاختلاف على أبي عمران في سند هذا الحديث مع شرح الحديث، وقال الكرماني: مات يزيد بن هارون سنة ست ومائتين فالظاهر أن رواية البخاري عنه تعليق انتهى. وهذا لا يتوقف فيه من اطلع على ترجمة البخاري، فإنه لم يرحل من بخارى إلا بعد موت يزيد بن هارون بمدة.
قوله في حديث ابن عباس. واختلف أهل البيت: اختصموا، كذا لأبي ذر وهو تفسير لاختلفوا، ولغيره واختصموا بالواو العاطفة وكذا تقدم في آخر المغازي.

(14/447)


قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا من قول سليمان. اللفظ للبخاريّ. ذكره في كتاب الجزية، وذكره مسلم في كتاب الوصايا ولم يقل فكيف؟ ولا قال: مما تدعوا إليه. وقال: لا تضلوا بعدي، وقال: أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجزهم، قال: وسكت عن الثالثة أو قال: فأنسيتها، ولم يقل: قول سفيان.
وذكره البخاري في آخر المغازي [ (1) ] من حديث ابن عيينة، عن سليمان الأحول بهذا الإسناد. ولم يقل: في هذا، ثم بكي حتى بلّ دمعه الحصى، ولا قال: يكتب، وقال: لن تضلوا بعده، وقال: أوصاهم. بثلاث، وقال:
سكت عن الثالثة، أو قال: فنسيتها. وذكره في كتاب الجهاد. [ (2) ]
وخرجه النسائي [ (3) ] من حديث سفيان قال: سمعت سليمان يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس. وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
ائتوني بكتف والدواة واللوح أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. قالوا: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هجر [ (4) ] .
وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية، [ (5) ] حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي عن ابن أبي مليكة. عن عائشة قالت: لما ثقل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعبد الرحمن بن أبي بكر: ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه، فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: أبى اللَّه والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر.
وقال الواقدي: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثم
__________
[ (1) ] (سبق تخريجه) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 209، باب (175) جوائز الوفد، وباب (176) هل يستشفع إلى أهل الذمة؟ ومعاملتهم، حديث رقم (3053) .
[ (3) ] (لعله في الكبرى) .
[ (4) ] (مسند أحمد) : 7/ 17، حديث رقم (23679) من حديث السيدة عائشة.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 181.

(14/448)


بكى حتى بل دمعه الحصى، قيل: وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدة أبدا فتنازعوا ولا ينبغي التنازع عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال بعضهم: ما له؟
أهجر؟ فقال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنده. قال:
دعوني فما أنا فيه خير مما تألونني، فأوصاهم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما تروني أجيزهم، وأنفذوا جيش أسامة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قوموا.
وكان ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم [ (1) ] .
وقال سيف: عن محمد بن عبيد اللَّه وعبد الملك بن جرير، عن عطاء، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وعن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه عن أبيه قال: كان ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يقول لما كانت ليلة الخميس وما يوم الخميس، وما يوم الخميس، قال ليلة الخميس وما ليلة الخميس؟ قلت: ليلة الخميس وما ليلة الخميس ويوم الخميس؟ ثم سكت وإذا ذكر الخميس قلت: وما ذاك؟ فقال: هي الليلة التي ثقل فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثقلا ثقل مثله، وهو اليوم التي ثقل فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لا تختلفون بعده.
وأغمي عليه فدعا العباس بالدواة والصحيفة، فقال رجل من أهل البيت:
رسول اللَّه هجر، فأناق، فقال يا رسول اللَّه إلا نأتيك بالصحيفة التي طلبت والدواة لتكتب لها فيها ما لا نختلف بعده؟
فقال: الآن بعد ما قلتم يهجر؟ فلم نفعل، فأنا مقنع على ما فاته من ذلك.
ورواه عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- مثل ذلك قال: وكان ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 102- 103 كتاب الوصية باب (5) الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، حديث رقم (22) .

(14/449)


يقول: ما ضياع ما ضيع من إضاعة الرأى.
قال سيف: عن وائل بن داود، عن يزيد النهي، عن النبي قال: لتؤتونى بكتف وداوة، أكتب لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كتابا لا يختلف عليه معه اثنان من بعدي فأتي بهما قال صلى اللَّه عليه وسلم: ألا معاذ اللَّه لأبي بكر من ذلك، ومعاذ اللَّه أن تختلفوا على أبي بكر.
قال البيهقي رحمة اللَّه: وإنما قصد عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بما قال في التخفيف على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين رآه قد غلب عليه الوجع، ولو كان ما يريد النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن يكتب لهم شيئا مفروضا، لا يستغنون عنه أم يتركه باختلافهم ولغطهم لقول اللَّه عز وجل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [ (1) ] كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وإنما أراد فيما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ثم ترك كتابته اعتمادا على ما علم من تقدير اللَّه تعالى ذلك كما هم به في ابتداء مرضه حين قال: وا رأساه، ثم بدا له صلى اللَّه عليه وسلم أن لا يكتب،
وقال: يأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر،
ثم نبه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها، وإن كان المراد به رفع الخلاف في الدين، قال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: علم أن اللَّه تعالى قد أكمل دينه بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ (2) ] وعلم انه لا يحدث واقعه إلى يوم القيامة إلا وفي كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلى اللَّه عليه وسلم بيانها، نصا ودلالة وفي نصّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على جميع ذلك في مرض موته مع شدة وعكه، مما يشق عليه، فرأى عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- الاقتصار على ما سبق بيانه نصا أو دلالة، تخفيفا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولكيلا تزول فضيلة أهل العلم بالاجتهاد في الاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول، بما دلّ الكتاب والسنة عليه، وفيما سبق من
قوله صلى اللَّه عليه وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد،
دليل على أنه وكل بيان بعض
__________
[ (1) ] المائدة: 67.
[ (2) ] المائدة: 3.

(14/450)


الأحكام إلى اجتهاد العلماء، وأنه أحرز من أصاب منهم الأجرين الموعودين:
أحدهما بالاجتهاد والآخر بإصابة العين بما عليها من الدلالة في الكتاب والسنة وإنه أحرز من اجتهد فأخطأ أجرا واحدا باجتهاده، ورفع إثم الخطأ عنه وذلك في أحكام الشريعة التي لم يأت بيانها نصا، وإنما ورد خفيا [ (1) ] .
فأما مسائل الأصول فقد ورد بيانها جليا، فلا عذر لمن خالف بيانه لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد وإلحاق الفروع بالأصول، بالدلالة مع طلب التخفيف على صاحب الشريعة، وفي ترك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الإنكار فيما قال دليل واضح على استصوابه رأيه [ (2) ] [وباللَّه التوفيق] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 184- 185.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 185.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(14/451)


ذكر أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين اشتد به الوجع أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يصلي بالناس
خرج البخاري من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود قال: كنا عند عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها، قالت: لما مرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مرضه الّذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس! فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا، فقال الثالثة فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس، فخرج أبو بكر يصلي فوجد النبي صلى اللَّه عليه وسلم من نفسه خفّة فخرج يهادي بين رجلين، كأني انظر رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه. قيل للأعمش: وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يصلي وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم، ذكره في باب حدّ المريض أن يشهد الجماعة [ (1) ] .
وخرج أبو داود عن شعبه عن الأعمش بعضه وزاد أبو معاوية: جلس عن يسار أبى بكر، فكان أبو بكر يصلى قائما.
وخرج البخاري ومسلم من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: لما ثقل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فقلت لحفصة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: قولي له: إن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- رجل أسيف وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-؟ فقالت له، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 193، كتاب الأذان، باب 39 حد المريض أن يشهد الجماعة، حديث رقم (664) قوله:
«أسيف» شديد الحزن والبكاء، من الأسف. قوله: «صواحب يوسف» : الصواحب جمع صاحبه، وهي المرأة، ويوسف هو يوسف النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وصواحب: امرأة العزيز، والنساء اللاتي قطعن أيديهن، أراد: إنكن تحسّن للرجل ما لا يجوز، وتغلبن على رأيه.

(14/452)


إنكن لأنتن صواحب يوسف! مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فأمروا أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فليصلى بالناس قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من نفسه خفة، فقام يهادي بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حسّه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: قم مكانك، فجاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
قالت: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قائما يقتدي أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بصلاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر [ (1) ] .
وقال البخاري: فكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقتدي بصلاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقال البخاري: فكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قائما، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصلي قاعدا يقتدي أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بصلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ترجم عليه باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم
قال:
ويذكر عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم [ (2) ]
وخرج مسلم من حديث ابن مسهر وعيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش بهذا الإسناد ونحوه في حديثهما: لما مرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مرضه الّذي توفي فيه وفي حديث ابن مسهر فأتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى أجلس إلي جنبه وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يسمعهم التكبير، وفي حديث عيسى: فجلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصلى وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يسمعهم التكبير وفي حديث عيسى: فجلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصلي وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- جنبه وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 8/ 596، حديث رقم (6420) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 260، كتاب الأذان، باب (68) ، حديث رقم (713) .

(14/453)


عنه- يسمع الناس [ (1) ]
وخرجه البخاري من حديث الأعمشي عن إبراهيم عن الأسود. عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: لما مرض النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرضه الّذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قلت: إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة فقال: مروا أبا بكر فليصل، فقلت مثله، فقال في الثالثة أو الرابعة: إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل، فصلى وخرج النبي صلى اللَّه عليه وسلم يهادى بين رجلين كأني انظر إليه يخط برجليه الأرض، فلما رآه أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ذهب يتأخر، فأشار إليه أن صل فتأخر أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى- وقعد النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلي جنبه وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يسمع الناس التكبير. ترجم عليه باب من أسمع الناس تكبير الإمام. [ (2) ]
وخرج البخاري ومسلم من حديث زائدة عن موسى بن أبي عائشة فقلت:
ألا تحدثيني عن مرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثقل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال:
أصلّي الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك قال: ضعوا لي ماء في المخضب قالت: ففعلنا، فاغتسل صلى اللَّه عليه وسلم ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال صلى اللَّه عليه وسلم أصلّي الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول اللَّه، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: ضعوا لي ماء في المخضب، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال صلى اللَّه عليه وسلم: أصلي الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول اللَّه، والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة. قالت: فأرسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى- بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان رجلا رقيقا يا عمر- صل بالناس، فقال له عمر
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 384، كتاب الصلاة، باب (21) استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرها من يصلى بالناس، وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه، ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام، حديث رقم (96) .
[ (2) ] حديث رقم (712) .

(14/454)


أنت أحق بذلك: فصلى أبو بكر في تلك الأيام. ثم إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين- أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى اللَّه عليه وسلم بأن لا يتأخر، قال لهم: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يصلي وهو يأتم بصلاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر، والنبي صلى اللَّه عليه وسلم قاعد.
قال عبيد اللَّه: فدخلت علي عبد اللَّه بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- عن مرض النبي صلى اللَّه عليه وسلم؟ قال: هات، فعرضت عليه حديثها فما أنكر منه شيئا غير أنه قال:
أسمّت لك الرجل الّذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو عليّ. ألفاظهما فيه متقاربة ذكره البخاري في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به [ (1) ] وأخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا زائدة، عن موسى بن أبي عائشة إلى آخره بنحوه، ذكره في باب الائتمام بالإمام يصلي قاعدا، وقال: بعضه عن موسي بن أبي عائشة [ (2) ] .
وخرّج البخاري من حديث هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري قال:
أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه قال: لما ثقل النبي صلى اللَّه عليه وسلم واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج بين رجلين يخط رجلاه الأرض، وكان بين العباس وبين رجل آخر. قال عبيد اللَّه: فذكرت لابن عباس ما قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقال لي: وهل تدري من الرجل الّذي لم تسم عائشة؟ قلت: لا، قال: هو علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ذكره في باب حدّ المريض أن يشهد الجماعة وذكره مختصرا في كتاب الخمس، في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 220، كتاب الأذان، باب (51) إنما جعل الإمام ليؤتم به، وصلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم في مرضه الّذي توفى فيه بالناس وهو جالس، حديث رقم (687) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 2/ 2436 كتاب الإمامة، باب (40) الائتمام بالإمام يصلى قاعدا، حديث رقم (833) .

(14/455)


وخرجه مسلم [ (1) ] من طريق عبد الرزاق، قال الزهري: وأخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أخبرته قالت: أول ما اشتكى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في بيت ميمونة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها فأذن له، قالت: خرج ويدا له على الفضل بن العباس ويدا له على رجل آخر، وهو يخط برجله في الأرض فقال عبيد اللَّه: فحدّث به ابن عباس فقال: أتدري من الرجل الّذي لم تسمّ عائشة؟ هو عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
وخرجه أيضا من حديث الليث عن عقيل بن خالد قال: ابن شهاب أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، أن عائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم قالت: لما ثقل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاشتد به وجعه واستأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج بين رجلين يخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وبين رجل آخر، قال عبيد اللَّه:
فأخبرت عبد اللَّه بالذي قالت عائشة، قال أتدري من الرجل الآخر؟ قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[ (2) ]
قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي: كانت مدة مرض النبي صلى اللَّه عليه وسلم اثني عشر يوما، وقيل: أربعة عشر يوما، وكان صلى اللَّه عليه وسلم يخرج إلى الصلاة إلا أنه انقطع ثلاثة أيام فقال صلى اللَّه عليه وسلم:
مروا أبا بكر فليصل بالناس [ (3) ] .
قال الواقدي: حدثني بن أبي سبرة عن أيوب بن عبد الرحمن، عن أبي صعصعة عن عباد بن تميم قال: صلى أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بالناس إلى أن توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سبع عشرة صلاة.
وحدثني بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة قال: صلى بهم أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ثلاثا يعني ثلاثة أيام.
قال سيف: عن طلحة بن عمرو الحضرميّ، عن عبد اللَّه بن أبي نجيح
__________
[ (1) ] : حديث رقم (655) .
[ (2) ] : حديث رقم (3099) .
[ (3) ] : (صفة الصفوة) : 1/ 1165، ذكر وفاته صلى اللَّه عليه وسلم.

(14/456)


ومحد بن شريك عن عبد اللَّه بن أبي مليكة، عن عبد اللَّه بن زمعة قال: جاء بلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في أول ربيع الأول فأذن بالصلاة فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مروا أبا بكر يصلي بالناس، فخرجت فلم أر بالباب إلا عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في رجال ليس فيهم أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فكبر وكان رجلا صيتا، فلما سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صوته بالتكبير قال: أين أبو بكر؟ يأبى اللَّه ذلك والمسلمون ثلاث مرات، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس فقالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: يا رسول اللَّه: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قام في مقامك غلب عليه البكاء، فقال صلى اللَّه عليه وسلم إنكن صواحب يوسف! مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فصلى أبو بكر بعد الصلاة التي صلى عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان عمر يقول:
لعبد اللَّه بن زمعة بعد ذلك: ويحك ماذا صنعت بي واللَّه لولا أني ظننت أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمرك ما فعلت، فيقول عبد اللَّه: إني لم أر أحدا أولى بذلك منك.
وقال سيف: عن عبد اللَّه بن الوليد، عن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عمر عن أبيه عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- نحوا من ذلك، وقالت عائشة: ما قلت ولا أردت صرف ذلك عن أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلا رغبا به عن الدنيا، ولما في الولاية من المخاطرة والهلكة إلا ما سلّم اللَّه، وخشيت أيضا أن لا يكون الناس يحبون رجلا قام في مقام النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو حيّ أبدا إلا أن يشاء اللَّه يحسدونه ويبغون عليه ويتشاءمون به فإذا الأمر أمر اللَّه عز وجل والقضاء قضاؤه، وعصمه اللَّه من كل ما تخوفت من أمر الدنيا والدين وسلمت من كل ما تخوفت من أمر الدنيا والناس مما كنت أخاف.
قال سيف: عن سلمة بن نبيط عن نعيم بن أبي هند، عن شقيق، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: لما تحول النبي إلى صلاة الصبح فأفاق صلى اللَّه عليه وسلم وقال: هل صلى الناس بعد؟ فقلت: أذّن بلال وهو بالباب ينتظرك أن تخرج فتصلي بالناس، قال صلى اللَّه عليه وسلم: فمروا بلالا فليقم ومروا أبا بكر

(14/457)


فليصل بالناس، فقلت: رقة الصديق ووجده بك ما قد علمت، فمتى يقم مقامك لا يستطيع أن يمضي في صلاته، وأغمي عليه وأفاق، فقال: هل صلى الناس بعد؟ فقال مثل ما قال وأغمي عليه، فقلت لحفصة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وهي إلى جنبي: قد رددت أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرتين وأنا أخاف أن أغضبه فأجبته هذه المرة واشتدي بأبيك فإنه أرفق لذلك، فأفاق النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال:
أصلي الناس بعد؟ فقالت حفصة: يا رسول اللَّه إن من رقة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ووجده بك ما قد علمت، ومتى يقم في مقامك لا يستطيع أن يمضي في صلاته، فلو أمرت عمر فصلى بالناس فغضب صلى اللَّه عليه وسلم وقال: دعينى منكن، فإنكنّ صواحب يوسف، وأمر بلالا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يقيم، وأمر أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يصلي بالناس، فصلى بالناس، وكان صلى اللَّه عليه وسلم يؤذنه بلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لكل صلاة فإن قدر على الخروج وإلا أمر أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فيصلي بالناس. وقال عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قلت: يا أمّ المؤمنين كم صلى أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- بالناس؟ فقالت: اثنى عشر يوما، لا تأتي الصلاة إلا جاء بلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى الباب يؤذن بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فيقول:
مروا أبا بكر فليصل بالناس إلا أن يجد خفة فيخرج، فقلت: فهل صلى خلفه النبي صلى اللَّه عليه وسلم قالت: نعم قاعدا ما دام لا يقدر على القيام.
قال سيف: عن محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لم يصلّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم خلف أحد من أمته صلاة تامة إلا خلف أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وصلى صلى اللَّه عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ركعة.
قال سيف: عن هلال بن عامر، عن رافع بن عمر عن أبيه قال: حج النبي صلى اللَّه عليه وسلم سنة عشر، ثم رجع فأقام بقية ذي الحجة والمحرم ثم اشتكى في صفر فلما ثقل عن الخروج أمر أبا بكر أن يقوم مقامه وكان يصلى بالناس، وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلم ربما خرج بعد ما يدخل أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في

(14/458)


الصلاة خلفه ولم يقل النبي صلى اللَّه عليه وسلم خلف أحد من أمته غيره إلا ركعة صلاها في سفر خلف عبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.

ذكر آخر صلاة صلاها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أولها إلى آخرها، وأول صلاة أمر أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يصليها بالناس، والصلاة التي حضرها حين وجد من نفسه خفة، وصلاة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بهم فيما بينهما أياما
خرج البخاري ومسلم من حديث مالك، عن ابن شهاب عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: إن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [ (1) ] فقالت: يا بنىّ لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقرأ بها في المغرب. ذكره البخاري في باب القراءة في المغرب [ (2) ] .
وخرجه مسلم أيضا من حديث سفيان ويونس ومعمر وصالح وابن كيسان عن الزهري بهذا الإسناد، وزاد صالح: ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه اللَّه عز وجل.
وذكره البخاري في آخر كتاب المغازي في أول باب مرض النبي صلى اللَّه عليه وسلم
__________
[ (1) ] المرسلات: 1.
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 313، كتاب الأذان، باب 98، القراءة في المغرب، حديث رقم 763.

(14/459)


ووفاته، من حديث الليث عن عقيل عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن عتبة، عن ابن عباس عن أم الفضل بنت الحارث قالت: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه عز وجل [ (1) ] .
وخرج البيهقي من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عن عتبة عن ابن عباس، عن أمه أم الفضل- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: خرج إلينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى بنا المغرب فقرأ بالمرسلات، فما صلى بعدها حتى لقي اللَّه عزّ وجل.
ثم ذكر البيهقي حديث موسى بن أبي عائشة عن عبيد اللَّه، عن عبد اللَّه قال: دخلت على عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وطوله؟ قال في هذه الرواية الصحيحة: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم تقدم في تلك الصلاة، وعلق أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- صلاته بصلاته، وكذلك رواه الأسود بن يزيد، وابن أخيها عروة بن الزبير، كذلك رواه الأثرم عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-.
ثم ذكر من طريق شبابه بن سوار، قال حدثنا شعبة عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قالت: صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مرضه الّذي مات فيه خلف أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قاعدا.
وذكر من طريق مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة. عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم صلى خلف أبي بكر.
ومن طريق هشيم قال: أخبرنا يونس عن الحسن قال: وأخبرنا حميد عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خرج وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يصلي بالناس، فجلس صلى اللَّه عليه وسلم إلى جنبه وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته.
__________
[ (1) ] حديث رقم (4429) .

(14/460)


ومن طريق ابن أبي مريم قال: أخبرني حميد أنه سمع أنسا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: آخر صلاة صلاها النبي مع القوم في ثوب واحد ملتحفا به خلف أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
كذا قاله محمد بن جعفر بن أبي كثير ورواه سليمان بن بلال، عن حميد عن ثابت البناني، حدثه عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكذلك قاله يحيى بن أيوب عن حميد، عن ثابت قال: حدثه عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صلى خلف أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في ثوب واحد برد مخالفا بين طرفيه، فلما أراد أن يقوم قال: ادع لي أسامة بن زيد فجاء، فاسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها.
قال البيهقي وفي هذه دلالة على أن هذه الصلاة التي صلاها خلف أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كانت صلاة الصبح فإنّها أخر صلاة صلاها، وهي التي دعا أسامه بن زيد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حين فرغ منها فأوصاه في مسيره بما ذكره أهل المغازي.
قال: فالذي تدل عليه هذه الروايات مع ما تقدم أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم خلفه في تلك الأيام التي كان يصلى بالناس مرة وصلى أبو بكر خلفه مرة، وعلى هذا حملها الشافعيّ رحمه اللَّه تعالى.
وفي مغازي موسى بن عقبة وغيره، بيان الصلاة التي صلاها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعضها خلف أبى بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهي صلاة الصبح، من يوم الاثنين.

(14/461)