تاريخ
الخميس في أحوال أنفس النفيس * (الركن الثانى فى الحوادث من ابتداء
نبوّته الى زمان هجرته
من صفة نزول الوحى ورمى الشياطين بالشهب وانفصام طاق كسرى وأوّل من أسلم
واخفاء الدعوة ووفاة ورقة بن نوفل واظهار الدعوة وولادة عائشة وهجرة الحبشة
وايذاء المشركين وولادة أسامة بن زيد ووفاة سمية بنت حباط واسلام حمزة وعمر
بن الخطاب ووقعة بغاث وتقاسم قريش على معاداة بنى هاشم وبنى المطلب ونزول
سورة الروم وانشقاق القمر ووفاة أبى طالب وخديجة وذكر ثقيف ووفود الجنّ
وتزوّج سودة وعائشة وبدء اسلام الانصار وذكر المعراج وفرض الصلوات الخمس
وبيعة العقبة الاولى وبيعة العقبة الثانية وهجرة أبى بكر الى الحبشة
وابتداء هجرة الاصحاب الى المدينة ومشاورة قريش فى حبسه أو قتله أو اخراجه
واخبار جبريل اياه بذلك واذنه له بالهجرة) *
نزول الوحى وكيفيته
من حوادث السنة الاولى من النبوّة نزول الوحى وكيفيته روى أنه لما تمّ
لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعون سنة ودخل فى السنة الحادية
والاربعين بيوم واحد أوحى الله تعالى اليه وذلك سنة عشرين من ملك كسرى
أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان ملك الفرس كذا فى المنتقى وأسد الغابة*
وفى المواهب اللدنية ولما بلغ أربعين سنة قيل وأربعين يوما وقيل وعشرة أيام
وقيل وشهرين يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وقيل لسبع وقيل
لاربع وعشرين ليلة وقال ابن عبد البرّ يوم الاثنين لثمان من ربيع الاوّل
وكذا قاله أبو عمرو وزاد سنة احدى وأربعين من عام الفيل وفى تاريخ الفسوى
على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة وضعفه وعن مكحول بعد ثنتين وأربعين
سنة كذا فى سيرة مغلطاى وقال ابن المسيب بعثه الله عز وجل وله ثلاث وأربعون
سنة فأقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا وقيل انه كتم أمره ثلاث سنين وكان يدعو
مستخفيا الى أن أنزل الله تعالى وأنذر عشيرتك الاقربين فأظهر الدعوة كذا فى
أسد الغابة وسيجىء زيادة على هذا وفى المواهب اللدنية كان ابتداء المبعث فى
رجب وفى كتاب المنتقى نزل عليه القرآن وهو ابن خمس وأربعين لسبع وعشرين من
رجب قاله الحسين وجمع بأنّ ذلك حين حمى الوحى وتتابع كذا فى سيرة مغلطاى
وقال بعض علماء الحديث ابتداء الوحى الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم كان فى
المنام فى ربيع الاوّل فى السنة الحادية والاربعين وابتداء الوحى اليه فى
اليقظة ونزول القرآن كان فى رمضان تلك السنة وعن أنس بن مالك أنه قال بعث
رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رأس أربعين والصحيح من الروايات أنّ
أوّل ما بدئ به النبىّ صلّى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة فى
النوم فكان لا يرى رؤيا الاجاءت مثل فلق الصبح كما سيجىء من حديث عائشة
فانّ المدّة التى كان يوحى اليه فى المنام فيها ستة أشهر الى أن استعلن له
جبريل فقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين
جزأ من النبوّة معناه أنّ النبى صلّى الله عليه وسلم حين بعث أقام بمكة
ثلاث عشرة سنة وأقام بالمدينة عشر سنين فذلك ثلاث وعشرون سنة كاملة فاذا
قسمت مدّة الوحى اليه فى اليقظة وهى ثلاث وعشرون سنة الى مدّة الوحى اليه
فى المنام وهى ستة أشهر وجدت مدّة بعثه الى حين وفاته على هذا ستة وأربعين
جزأ فاتضح معنى الحديث وروى عن محمد بن أحمد بن عبد البر أنه قال بعث الله
محمدا صلّى الله عليه وسلم وله يومئذ أربعون سنة فأتاه جبريل ليلة السبت
وليلة الاحد ثم ظهر له بالرسالة
(1/280)
يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان
بحراء وهو أوّل موضع نزل فيه القرآن نزل اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق
الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذى علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم
الى هذا ثم بحث أى ضرب جبريل بعقبه فى الارض فنبع منها ماء فعلمه الوضوء
والصلاة ركعتين وقيل ثم جاء جبريل فى يوم الثلاثاء ثانى مبعثه فوافاه
بأعلامكة فهمز جبريل بعقبه ناحية الوادى فنبع عين ماء فتوضأ وأرى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم الوضوء ثم قام جبريل فصلى به ركعتين وأراه الصلاة وفى
ذلك اليوم فرض عليه الوضوء والصلاة ثم فارقه جبريل وعاد النبىّ صلّى الله
عليه وسلم الى خديجة فأخبرها فغشى عليها من الفرح ثم أخذ بيدها وأتى بها
الى العين فتوضأ ليريها الوضوء فتوضأت ثم قام فصلى وصلت معه وكانت أوّل من
آمن وأوّل من صلّى فكانت ذلك أوّل فرضها ركعتين ثم انّ الله تعالى أقرّها
فى السفر كذلك وأتمها فى الحضر* وقال مقاتل كانت الصلاة أوّل فرضها ركعتين
بالغدوة وركعتين بالعشىّ لقوله تعالى وسبح بالعشىّ والابكار* قال فى فتح
البارى كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم قبل الاسراء يصلى قطعا وكذلك أصحابه
ولكن اختلف هل افترض قبل الخمس شىء من الصلاة أم لا فقيل انّ الفرض كان
صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها والحجة عليه قوله تعالى وسبح بحمد ربك قبل
طلوع الشمس وقبل غروبها انتهى* وقال النووى أوّل ما وجب الانذار والدعاء
الى التوحيد ثم فرض الله من قيام الليل ما ذكر فى أوّل سورة المزمّل ثم
نسخه بما فى آخرها ثم نسخه بايجاب الصلوات الخمس ليلة الاسراء كذا فى
المواهب اللدنية* وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا خديجة هذا جبريل
يقرئك السلام من ربك فقالت خديجة الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل
السلام وعن أبى هريرة قال أتى جبريل النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال يا
رسول الله هذه خديجة قد أتت معها اناء فيه ادام أو طعام أو شراب فاذا أتتك
فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى وبشرها ببيت فى الجنة من قصب لاصخب فيه
ولا نصب رواه البخارى* وروى أبو قتادة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه
سئل عن صوم الاثنين فقال ذلك يوم ولدت فيه ويوم بعثت فيه واختلفوا فى أنّ
نزول القرآن فى أى الاثانين كان على خمسة أقوال* أحدها لسبع خلت من رمضان
وقد ذكرناه* والثانى لاربع وعشرين ليلة خلت من رمضان رواه قتادة* والثالث
للثامنة عشرة ليلة خلت من رمضان رواه أبو أيوب عن أبى قلابة* والرابع انه
كان فى رجب* روى عن أبى هريرة قال من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله
له صيام ستين شهرا وهذا اليوم الذى نزل فيه جبريل على رسول الله صلّى الله
عليه وسلم بالرسالة أوّل يوم هبط فيه* والخامس انه الثانى من ربيع الاوّل*
وعن عائشة أنها قالت أوّل ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من
الوحى الرؤيا الصادقة وكان لا يرى رؤيا الاجاءت مثل فلق الصبح ثم حبب اليه
الخلاء فكان يأتى حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالى ذوات العدد ويتزوّد
لذلك ثم يرجع الى خديجة فتزوّده لمثلها حتى اذا جاء الحق وهو فى غار حراء
فجاءه الملك فيه وقال اقرأ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أنا
بقارئ فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال اقرأ فقلت ما أنا
بقارئ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال اقرأ فقلت ما
أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال اقرأ
باسم ربك الذى خلق حتى بلغ ما لم يعلم فرجع بها يرجف فؤاده حتى دخل على
خديجة فقال زمّلونى زمّلونى فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع* وفى سيرة ابن هشام
قال ابن اسحاق فى حديث حدّثه حتى اذا كان شهر رمضان خرج رسول الله صلّى
الله عليه وسلم الى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى اذا كانت
الليلة التى أكرمه الله فيها بالرسالة ورحم العباد بها جاءه جبريل بأمر
الله تعالى قال رسول الله
(1/281)
صلى الله عليه وسلم فجاءنى وأنا نائم بنمط
من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ قال فقلت ما اقرأ قال فغتنى به بالتاء مكان
الطاء فى الرواية السابقة حتى ظننت انه الموت ثم أرسلنى فقال اقرأ وهكذا
الى ثلاث مرّات ثم قال له اقرأ باسم ربك الذى خلق الى قوله ما لم يعلم قال
قرأتها ثم انتهى فانصرف عنى وهببت من نومى فكأنما كتب فى قلبى كتابا الى
آخر الحديث* وفى المنتقى فقال يا خديجة مالى فأخبرها الخبر وقال خشيت علىّ
فقالت له كلا ابشر فو الله لا يخزيك الله أبدا انك لتصل الرحم وتصدق الحديث
وتحمل الكل وتقرئ الضيف وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت به خديجة حتى أتت
به ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة وكان امرأ تنصر فى الجاهلية وكان يكتب
الكتاب العربى* وفى رواية العبرانى يكتب بالعربية من الانجيل ما شاء الله
أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمى فقالت له خديجة أى ابن عم اسمع من ابن أخيك
وقيل انّ خديجة قالت لابى بكر يا عتيق اذهب الى ورقة بن نوفل كذا فى سيرة
مغلطاى فقال ورقة يا ابن أخى ما ترى فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فقال ورقة هذا الناموس الاكبر الذى أنزل الله تعالى على موسى يا ليتنى فيها
جذعا أكون حيا حين يخرجك قومك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو
مخرجىّ هم قال نعم لم يأت رجل قط بما جئت به الاعودى وان يدركنى يومك أنصرك
نصرا مؤزرا فلم ينشب ورقة ان توفى وفتر الوحى فترة حتى حزن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حزنا غدا منه مرارا كى يتردّى من رؤس شواهق الجبال فكلما
أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد انك رسول
الله فيسكن له جاشه وتقرّ عينه فيرجع فاذا طالت عليه فترة الوحى غد المثل
ذلك فاذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك* وفى المواهب
اللدنية فترة الوحى عبارة عن تأخره مدّة من الزمان وذلك ليذهب عنه ما كان
يجده عليه السلام من الروع وليحصل له الشوق الى العود وكانت مدّة فترة
الوحى ثلاث سنين كما جزم به ابن اسحاق* وفى تاريخ الامام أحمد ويعقوب بن
سفيان عن الشعبى أنزل عليه النبوّة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوّته
اسرافيل ثلاث سنين قبل جبريل فكان يعلمه الكلمة والشىء ولم ينزل عليه
القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل فنزل عليه القرآن
على لسانه عشرين سنة كذا رواه ابن سعد والبيهقى فقد تبين انّ نبوّته عليه
السلام كانت متقدّمة على رسالته كما قال أبو عمرو وغيره كما حكاه أبو أمامة
بن النقاش فكان فى نزول سورة اقرأ نبوّته وفى نزول سورة المدّثر رسالته
بالنذارة والبشارة والتشريع وهذا قطعا متأخر عن الاوّل لانه لما كانت سورة
اقرأ متضمنة لذكر أطوار الآدمى من الخلق والتعليم والافهام ناسب أن يكون
أوّل سورة أنزلت وهذا هو الترتيب الطبيعى* وفى المواهب اللدنية أيضا قد ذكر
ابن عادل فى تفسيره انّ جبريل عليه السلام نزل على النبىّ صلّى الله عليه
وسلم أربعة وعشرين ألف مرّة ونزل على آدم اثنتى عشرة مرّة وعلى ادريس أربع
مرّات وعلى نوح خمسين مرّة وعلى ابراهيم اثنتين وأربعين مرّة وعلى موسى
أربعمائة وعلى عيسى عشر مرّات وزاد غيره ثلاث مرّات فى صغره وسبع مرّات فى
كبره* وقال عليه السلام فى حديث فترة الوحى بينا أنا أمشى اذ سمعت صوتا من
السماء فرفعت بصرى فاذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء
والارض فرعبت منه فرجعت فقلت زمّلونى زمّلونى فأنزل الله تعالى يأيها
المدّثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر فحمى الوحى وتتابع*
وجاء فى التفاسير ان أبا ميسرة قال كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم اذا برز
سمع مناديا ينادى يا محمد فيمرّ هاربا فقال ورقة بن نوفل اذا سمعت فاثبت
حتى تدرى ما يقال لك فبرز فنودى فقال لبيك فقيل له قل أشهد أن لا اله الا
الله وأنّ محمدا رسول الله فقالها فقيل له قل الحمد لله رب العالمين وقرأ
سورة الحمد الى آخرها والمروى فى الصحيح الثابت
(1/282)
انّ اقرأ باسم ربك أوّل ما نزل من القرآن
وان صح هذا الحديث عن أبى ميسرة فلعل الملك أسمعه ذلك قبل أن يظهر له بحراء
ثم كان الذى بدئ به من الوحى بعد ظهور الملك وحصول العلم بأنه رسول الله
اليه الآيات من أوّل سورة اقرأ* روى عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلّى
الله عليه وسلم فيما تثبته فيما أكرمه الله به من نبوّته يا ابن عم أتستطيع
أن تخبرنى بصاحيك هذا الذى يأتيك اذا جاءك قال نعم فجاء جبريل فقال يا
خديجة هذا جبريل قد جاءنى قالت فقم فاجلس على فخذى اليسرى فقام فجلس فقالت
هل تراه قال نعم قالت فتحوّل الى فخذى اليمنى فتحوّل فقالت هل تراه قال نعم
قالت فتحوّل فاجلس فى حجرى فجلس قالت هل تراه قال نعم فألقت خمارها وقالت
هل تراه قال لا قالت يا ابن عم اثبت وابشر فو الله انه الملك وما هو
بشيطان* وروى انه أوّل ما تراأى له جبريل أتاه من خلفه فضربه برجله فاستوى
جالسا ونظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا ثم أتاه فضربه برجله ثم قال قم يا
محمد فاذا برجل يسير بين يديه والنبىّ صلى الله عليه وسلم تبعه ثم أخرجه من
باب الصفا فلما كان بين الصفا والمروة أنشب رجله فى الارض ومد رأسه الى
السماء ونشر جناحيه فملأ بهما ما بين المشرق والمغرب فاذا رجلاه مغموستان
فى صفرة واذا جناحاه مغموستان فى خضرة عليه وشاحان من ياقوت أحمر أجلى
الجبين واضح الجبهة براق الثنايا شعره كالمرجان شعر رأسه حبك مكتوب بين
عينيه لا اله الا الله محمد رسول الله فلما نظر اليه النبىّ صلى الله عليه
وسلم رعب من عظم خلقه فقال له من أنت رحمك الله فانى لم أر شيئا قط أعظم
منك خلقا ولا أحسن منك وجها قال أنا جبريل أنا الروح الامين الى جميع
النبيين* وفى سيرة مغلطاى قال ابشر يا محمد أنا جبريل أرسلت اليك وأنت رسول
هذه الامّة اقرأ يا محمد قال ما أقرأ ولم أقرأ قط فأخرج جبريل من تحت جناحه
درنوكا من درانيك الجنة منسوجا بالدرّ والياقوت فوضعه على وجه محمد صلى
الله عليه وسلم ثم غمه حتى كاد أن يغشى عليه ثم خلى عنه ثم قال اقرأ يا
محمد قال وما أقرأ وما قرأت شيئا قط فعاد اليه بالدرنوك فصنع به ما صنع فى
المرّة الاولى فلما أفاق قال اقرأ يا محمد فتمنى الموت مما صنع به وخاف أن
يقول لا أقرأ فيعود عليه بالدرنوك قال اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الانسان
من علق الى آخر السورة ثم قال لى انزل عن الجبل فنزلت معه الى قرار الارض
فأجلسنى على درنوك وعليه ثوبان أخضران كذا فى سيرة مغلطاى ثم همز بعقبه
الارض فنبعت عين ماء فتوضأ وتوضأ النبىّ صلى الله عليه وسلم وصلّى وصلّى
النبىّ صلّى الله عليه وسلم معه يقتدى بصنعه فكان ذلك أوّل فرض الصلاة
ركعتين ركعتين ثم انّ الله تعالى أقرّهما فى السفر وأتمها فى الحضر* قال
مقاتل كانت الصلاة أوّل فرضها ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى كما مرّ فى
سيرة مغلطاى ثم غاب عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لما غاب عنى
انى شاعر أو مجنون ولم يكن شىء أبغض الىّ من شاعر أو مجنون فقلت لا صعدن
الى قلة هذا الجبل فأرمى نفسى فأموت فاذا أنا بجبريل قد سدّ ما بين خافقى
السماء وهو يقول أين تريد يا محمد أنا خليلك وأخوك جبريل فشغلنى ما رأيت من
جبريل عليه السلام عما كنت هممت بنفسى فانحدرت من الجبل فأتيت باب خديجة
فدققت الباب فوثبت خديجة الى الباب ففتحت لى الباب فلما أن نظرت الىّ
استقبلتنى واعتنقتنى وقبلت ما بين عينىّ وقالت فداك أبى وأمى أرى لوجهك
نورا لم أر مثله قط وأشم منك ريحا لم أشم مثلها قط فما الذى رأيت فأخبرها
الخبر فقالت هذه كرامة الله اياك فأجلست رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم
تدعه يخرج وقالت يا محمد اذا اتاك فأخبرنى فلما أتاه جبريل قال أتانى قالت
ههنا الىّ فأقعدته على فخذها اليسرى قالت هل تراه قال نعم ثم أقعدته على
فخذها اليمنى قالت هل تراه قال نعم ثم أدخلته بين جلدها ودرعها وأخرجت رأسه
من جيبها وألقت خمارها عن رأسها وتحسرت وقالت
هل تراه قال لا قالت كما أنت يا محمد حتى آتى
(1/283)
ورقة بن نوفل فأتته وقالت نعمت صباحا يا
ابن عم وكانت هذه تحية الجاهلية بمنزلة السلام عليك قال لها أخديجة أنت
وكان ورقة قد عمى من الكبر قالت نعم قال مالك يا سيدة نساء قريش قالت
أخبرنى عن جبريل ما هو قال قدّوس قدّوس ما ذكر جبريل فى بلدة لا يعبدون
فيها الله قالت انّ محمد بن عبد الله أخبرنى انه أتاه قال فان كان جبريل
هبط الى هذه الارض لقد أنزل الله اليها خيرا عظيما هو الناموس الاكبر الذى
أتى موسى وعيسى بالرسالة والوحى قالت فأخبرنى هل تجد فيما قرأت من التوراة
والانجيل انّ الله يبعث نبيا فى هذا الزمان قال نعم يبعث الله نبيا فى هذا
الزمان يكون يتيما فيؤويه الله وفقيرا فيغنيه الله تكفله امرأة من قريش
أكثرهم حسبا فقال لها نعتها مثل نعتك يا خديجة قالت فهل تجد غيرها قال نعم
انه يمشى على الماء كما مشى عيسى ابن مريم وتكلمه الموتى كما كلمت عيسى ابن
مريم وتسلم عليه الحجارة وتشهد له الاشجار وأخبرها بنحو قول بحيرا ثم
انصرفت عنه وأتت عداسا الراهب وكان شيخا كبير السن وقد وقع حاجباه على
عينيه من الكبر فقالت أنعم صباحا يا عداس قال وكانّ هذا الكلام كلام خديجة
سيدة نساء قريش قالت أجل قال هلموا الىّ العمامة لا رفع بها حاجبى لا نظر
الى خديجة ففعلوا فقال ادنى منى فقد ثقل سمعى فدنت منه ثم قالت يا عداس
أخبرنى عن جبريل ما هو وسألت بمثل ما سألت ورقة فأجابها بمثل ما أجابها
ورقة وقال فى آخره ولكن يا خديجة ان الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا
فخذى كتابى هذا فانطلقى به الى صاحبك فان كان مجنونا فانه سيذهب عنه وان
كان من الله فلن يضرّه فانطلقت بالكتاب معها فلما دخلت منزلها اذا هى برسول
الله صلّى الله عليه وسلم مع جبريل قاعد يقرئه هذه الآيات ن والقلم وما
يسطرون* ما أنت بنعمة ربك بمجنون* وانّ لك لاجرا غير ممنون وانك لعلى خلق
عظيم* فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون* أى المجنون فلما سمعت خديجة قراءته
اهتزت فرحا ثم قالت للنبىّ صلّى الله عليه وسلم فداك أبى وأمى امض معى الى
عداس فقام معها الى عداس فلما أن سلم عليه أدناه وكشف عن ظهره فاذا خاتم
النبوّة يلوح بين كتفيه فلما نظر عداس اليه خرّ ساجدا يقول قدّوس قدّوس أنت
والله النبىّ الذى بشر بك موسى وعيسى أما والله يا خديجة ليظهرن له أمر
عظيم ونبأ كبير فو الله يا محمد ان عشت حتى تؤمر بالدعاء لا ضربن بين يديك
بالسيف هل أمرت بشىء بعد قال لا قال ستؤمر ثم تؤمر ثم تكذب ثم يخرجك قومك
فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يا عداس وانهم ليخرجونى قال
نعم ما جاء والله أحد بمثل ما جئت به الا أخرجه قومه وكان قومه أشدّ الناس
عليه والله ينصرك وملائكته ثم انصرف عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم*
(صفة نزول الوحى)
* عن عائشة ان الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا
رسول الله كيف يأتيك الوحى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحيانا
يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ علىّ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال
وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول قالت عائشة ولقد رأيته
ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا*
وفى الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم أوحى اليه وهو على ناقته فبركت ووضعت
جرانها بالارض فما تستطيع أن تتحرّك وانّ عثمان رضى الله عنه كان كاتب
الوحى يكتب للنبىّ صلّى الله عليه وسلم لا يستوى القاعدون الآية وفخذ
النبىّ صلّى الله عليه وسلم على فخذ عثمان فجاء ابن أمّ مكتوم فقال يا رسول
الله ان بى من العذر ما ترى فغشيه الوحى فثقلت فخذه على فخذ عثمان حتى قال
خشيت أن يرضها وأنزل الله غير أولى الضرر* وروى أنه صلّى الله عليه وسلم
كان اذا نزل عليه الوحى وجد منه ألما شديدا ويتصدّع رأسه* وفى هذه السنة
كانت وقعة قار بين ربيعة والفرس وولد رافع بن خديج قاله العتقى كذا فى سيرة
مغلطاى*
رمى الشياطين بالشهب
(ومن حوادث مبعثه
(1/284)
صلى الله عليه وسلم رمى الشياطين بالشهب
بعد عشرين يوما من المبعث) عن ابن عباس قال لما بعث الله محمدا صلّى الله
عليه وسلم دحر الشياطين ورموا بالكواكب وكانوا قبل يستمعون لكل قبيلة من
الجن مقعد يستمعون فيه وقال ابليس هذا أمر حدث فى الارض ائتونى من كل أرض
بتربة فكان يؤتى بالتربة فيشمها ويلقيها حتى أتى بتربة تهامة فشمها وقال
هاهنا الحدث* وفى المنتقى أوّل من فزع لذلك أهل الطائف فجعلوا يذبحون
لآلهتهم من كان له ابل أو غنم كل يوم حتى كادت أن تذهب أموالهم ثم تناهوا
وقال بعضهم لبعض ألا ترون معالم السماء كما هى لا يذهب منها بشىء* وفى
المدارك الجمهور على انّ ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم
وقيل كان فى الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق فى بعض الاوقات فمنعوا من
الاستراق أصلا بعد مبعث النبىّ صلّى الله عليه وسلم وسيجىء فى حوادث السنة
العاشرة من النبوّة*
انفصام طاق كسرى
ومن حوادث مبعثه صلّى الله عليه وسلم ما روى انه لما بعث الله نبيه صلّى
الله عليه وسلم أصبح كسرى برويز ذات غداة وقد انفصمت طاق ملكه من وسطها
فلما رأى ذلك أحزنه وقال شاهى بشكست يقول الملك انكسر ثم دعا كهانة وسحرته
ومنجميه وقال انظروا فى ذلك الامر فنظروا ثم قالوا ليخرجن من الحجاز سلطان
يبلغ المشرق والمغرب وتخصب منه الارض كأفضل ما أخصبت من ملك كان قبله* وفى
دلائل النبوّة وشواهد النبوّة ان كسرى كان بنى على الدجلة بناء عظيما وأنفق
فى عمارته مالا كثيرا فأصبح يوما فرأى ايوانه قد انصدع وخرب الماء البنيان
وكان له ثلثمائة وستون رجلا من الحزاة العلماء ومن الكهنة والسحرة
والمنجمين وكان فيهم رجل من العرب اسمه السائب بعث به اليه باذان من اليمن
وكان يعتاف اعتياف العرب قلما تخطئ أحكامه فجمعهم كسرى وقال لهم انكسر
ايوانى وخرب الماء بنيانى على دجلة من غير سبب ظاهر فانظروا فيه فخرجوا من
عند كسرى لينظروا فى ذلك الامر فوجدوا طرق الكهانة والسحر والنجوم مسدودة
عليهم فبات السائب فى ليلة ظلماء على ربوة من الارض يرمق برقا نشأ من أرض
الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق فلما أصبح رأى ما تحت قدميه فاذا هى خضراء
فقال فيما يعتاف لئن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق وتخصب
عنه الارض كأفضل ما أخصبت عن ملك كان قبله فلما اجتمع الحزاة قال بعضهم
لبعض والله ما حال بينكم وبين علمكم الا أمر جاء من السماء وانه لنبى بعث
أو هو سيبعث من الحجاز يسلب ملك كسرى ويبلغ سلطانه المشرق ولئن نعيتم الى
كسرى ملكه ليقتلنكم فأقيموا بينكم أمرا تقولونه فجاؤا كسرى فقالوا له انا
قد نظرنا فى هذا فوجدنا حسابك الذين وضعت على حسابهم طاق ملكك قد أخطؤا
فوضعوه على النحوس وانا سنحسب لك حسابا تضع عليه بنيانك فلا يزول قال
فاحسبوا فحسبوا ثم قالوا له ابنه فبنى فعمل فى دجلة ثمانية أشهر وأنفق فيها
من الاموال ما لا يدرى ما هو فلما تمّ البنيان قال لهم اجلس على سورها
قالوا نعم فعمل مأدبة واجتمع أمراؤه وأركان دولته فأمر بالبسط والفرش
والرياحين فوضعت عليها فبينما هم هناك انتسفت دجلة البنيان من تحته وغرق
الناس وما فيه فلم يستخرج كسرى الا بآخر رمق فلما أخرج تغيظ لهم وغضب على
الحزاة وقتل منهم قريبا من مائة وقال تلعبون بى وقال الباقون أيها الملك
أخطأنا كما أخطأ الذين من قبلنا ولكن نحسب لك حسابا حتى تضعه على الوفاق من
السعود قال انظروا فحسبوا له ثم قالو له ابنه فبنى وأنفق من الاموال ما لا
يدرى ما هو ثمانية أشهر فلما تمّ قال لهم أخرج فاقعد قالوا نعم فركب برذونا
وخرج فبينا هو يسير عليها اذ انتسفت دجلة البنيان فلم يدرك كسرى الا بآخر
رمق فدعاهم فقال والله لامرن على آخركم ولا نزعن أكتافكم ولا طرحنكم بين
أيدى الفيلة أو لتصدقنى ما هذا الامر الذى تلقون علىّ قالوا نكذبك أيها
الملك حين خرجنا من عندك لننظر فى علمنا فوجدنا
(1/285)
الارض قد أظلمت علينا بالاقطار وسدّت علينا
طرق علمنا ولم يمض لعالم منا علمه فعرفنا انّ هذا الامر حدث من السماء وانه
قد بعث نبىّ من الحجاز أو سيبعث فيكون سببا لزوال ملكك فلما سمع كسرى ذلك
تركهم ولها عنهم وعن دجلة حين غلبته* روى عن الحسن البصرى أنّ أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله ما حجة الله على كسرى فيك قال
بعث الله ملكا فأخرج يده من سور جدار بيته الذى هو فيه تلالأ نورا فلما رأى
ذلك فزع فقال لا ترع يا كسرى انّ الله قد بعث رسولا وأنزل اليه كتابا
فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك قال سأنظر وسيجىء فى الموطن السابع مثل هذا
وكيفية هلاك كسرى*
(ذكر أوّل من أسلم)
* وفيه اختلاف والمشهور انه أبو بكر وقيل علىّ ومن النساء خديجة ومن
الموالى زيد ثم أسلم بلال وقيل أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر ومن الصبيان
علىّ ومن النساء خديجة ثم الزبير وعثمان وابن عوف وسعد وطلحة وقيل أوّل من
أسلم بعد خديجة أبو بكر الصدّيق وهو قول العباس وابراهيم النخعى والشعبى
كذا فى معالم التنزيل* وفى الاستيعاب وأسد الغابة عن الحسن وغيره أوّل من
أسلم علىّ* وسئل محمد بن كعب القرظى عن أوّل من أسلم علىّ أو أبو بكر قال
سبحان الله علىّ أوّلهما اسلاما وانما اشتبه على الناس لانّ عليا أخفى
اسلامه عن أبى طالب وأبو بكر أسلم وأظهر اسلامه وقيل ينبغى أن يقال أوّل من
آمن ورقة بن نوفل كذا فى مزيل الخفاء* وفى الكشاف آمن برسول الله صلّى الله
عليه وسلم أى قيل النبوّة ورقة ابن نوفل وتبع الاكبر وحبيب بن شراجيل
النجار وكان ينحت الاصنام وآمن برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبينهما
ستمائة سنة ولم يؤمن بنبى أحد الا بعد ظهوره قيل كان فى غار يعبد الله فلما
بلغه خبر رسل عيسى أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة فقالوا أو أنت تخالف
ديننا فوثبوا عليه فقتلوه وقيل تواطؤه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره وقيل
رجموه وهو يقول اللهمّ اهد قومى وقبره فى سوق انطاكية فلما قتل غضب الله
عليهم فأهلكهم بصيحة جبريل عليه السلام* وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
سباق الامم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين على بن أبى طالب وصاحب يس ومؤمن
آل فرعون* وقال ابن اسحاق كان أوّل من تبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم
خديجة بنت خويلد زوجته ثم كان أوّل ذكر آمن به علىّ وهو يومئذ ابن عشر
سنين* وفى الرياض النضرة بعث النبىّ صلّى الله عليه وسلم يوم الاثنين وأسلم
علىّ يوم الثلاثاء خرجه البغوى فى معجمه* وعن رافع قال النبىّ صلّى الله
عليه وسلم بعثت يوم الاثنين وصلت خديجة آخر يوم الاثنين وصلّى علىّ يوم
الثلاثاء من الغد ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر وهو يومئذ ابن ثمان وثلاثين
سنة كذا فى المدارك وقيل سبع وثلاثين فلما أسلم أبو بكر جعل يدعو الى
الاسلام فأسلم على يديه الزبير بن العوّام وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد
الله وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف كذا فى شرح المقاصد* وقال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ما دعوت أحدا الى الاسلام الا كانت عنده كبوة
وتردّد الا أبا بكر ما أعتم حين ذكرته له وما تردّد فيه* وفى أسد الغابة عن
خالد الجهنى عن عبد الله بن مسعود قال قال أبو بكر انه خرج الى اليمن قبل
أن يبعث النبىّ صلى الله عليه وسلم قال فنزلت على شيخ من الازد عالم قد قرأ
الكتب وعلم من علم الناس كثيرا فلما رآنى قال أحسبك حرميا قال أبو بكر قلت
نعم أنا من أهل الحرم قال وأحسبك قرشيا قال قلت نعم وأنا من قريش قال
وأحسبك تيميا قال قلت نعم وأنا من تيم بن مرّة أنا عبد الله بن عثمان من
ولد كعب ابن سعد بن تيم بن مرّة قال بقيت لى فيك واحدة قلت وما هى قال تكشف
لى عن بطنك قلت لا أفعل أو تخبرنى لم ذاك قال أجد فى العلم الصحيح الصادق
انّ نبيا يبعث فى الحرم يعاونه على أمره فتى وكهل أمّا الفتى فخوّاض غمرات
ودفاع معضلات وأمّا الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه
(1/286)
اليسرى علامة وما عليك أن ترينى ما سألتك
فقد تكاملت لى فيك الصفة الا ما خفى علىّ* قال أبو بكر فكشفت له بطنى فرأى
شامة سوداء فوق سرّتى فقال أنت هو ورب الكعبة وانى متقدّم اليك فى أمر
فاحذره قال أبو بكر قلت وما هو قال اياك والميل عن الهدى وتمسك بالطريق
الوسطى وخف الله فيما خوّلك وأعطاك قال أبو بكر فقضيت باليمن أربى ثم أتيت
الشيخ لأودّعه فقال أحامل عنى أبياتا من الشعر قلتها فى ذلك النبىّ قليت
نعم فذكر أبياتا قال أبو بكر فقدمت مكة وقد بعث صلى الله عليه وسلم فجاءنى
عقبة بن أبى معيط وشيبة بن ربيعة وأبو جهل وأبو البخترى وصناديد قريش فقلت
لهم هل نابتكم نائبة أو ظهر فيكم أمر قالوا يا أبا بكر أعظم الخطب يتيم أبى
طالب يزعم انه نبىّ ولولا أنت ما انتظرنا به فاذقد جئت فأنت الغاية
والكفاية* قال أبو بكر فصرفتهم على أحسن مس وسألت عن النبىّ صلّى الله عليه
وسلم فقيل لى فى منزل خديجة فقرعت عليه الباب فخرج الىّ فقلت يا محمد فقدت
من منازل أهلك وتركت دين آبائك وأجدادك قال يا أبا بكر انى رسول الله اليك
والى الناس كلهم فآمن بالله قلت وما دليلك على ذلك قال الشيخ الذى لقيته
باليمن قلت وكم من شيخ لقيت باليمن قال الشيخ الذى أفادك الابيات قلت ومن
خبرك بهذا يا حبيبى قال الملك المعظم الذى يأتى الانبياء قبلى قلت مدّيدك
فأنا أشهد أن لا اله الا الله وانك رسول الله قال ابو بكر فانصرفت وما بين
لابتيها اشدّ سرورا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم باسلامى* وعن مجاهد
قال اوّل من اظهر الاسلام سبعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابو بكر
وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية امّ عمار كذا فى الصفوة* وعن عائشة رضى الله
عنها قالت خرج ابو بكر رضى الله عنه يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وكان له صديقا فى الجاهلية فلقيه قال يا ابا القاسم فقدت من مجالس قومك
واتهموك بالعيب لآبائها وأديانها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انى
رسول الله أدعو الى الله فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم ابو
بكر فانصرف عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما بين الاخشبين اكثر منه
سرورا باسلام ابى بكر فمضى ابو بكر فراح بعثمان وطلحة بن عبيد الله والزبير
بن العوّام وسعد بن ابى وقاص فأسلموا ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون وابى
عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وابى سلمة ابن عبد الاسد والارقم بن
ابى الارقم فأسلموا كذا فى المنتقى*
(ذكر ما وقع فى السنة الثانية والثالثة من النبوّة من اخفاء الدعوة)
* روى انه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستر النبوّة ويدعو الى
الاسلام فى السرّ ثلاث سنين وكان ابو بكر ايضا يدعو من يثق به من قومه فلما
مضت من النبوّة ثلاث سنين نزل قوله تعالى فاصدع بما تؤمر فأظهر الدعوة الى
الاسلام* وروى عن عروة بن الزبير وغيره من اهل العلم انه كان رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من حين انزل عليه اقرأ باسم ربك الى ان كلف الدعوة
واظهارها وأنزل فاصدع بما تؤمر وأنذر عشيرتك الاقربين ثلاث سنين لا يظهر
الدعوة فى تلك المدّة الا للمختصين ثم أعلن وصدع بما يأمر الله تعالى به
نحو عشر سنين بمكة* وفى السنة الثانية أو الثالثة من النبوّة توفى ورقة بن
نوفل ابن عم خديجة فى حديث عائشة رضى الله عنها فى الصحيحين انّ الوحى
تتابع فى حياة ورقة وانه آمن به* وقال الذهبى الاظهر انه مات بعد النبوّة
وقبل الرسالة أى قبل اظهار الدعوة ونزول فاصدع بما تؤمر وأخواتها* وفى
المنتقى أورد وفاة ورقة بن نوفل فى السنة الرابعة من النبوّة* وفى السنة
الرابعة من النبوّة كان اظهار الدعوة وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة أنه قال
لما نزلت هذه الآية وأنذر عشيرتك الاقربين دعا رسول الله صلّى الله عليه
وسلم قريشا فاجتمعوا نعم وخص وقال يا بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من
النار يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بنى عبد مناف أنقذوا
أنفسكم من النار يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بنى عبد المطلب
أنقذوا
(1/287)
أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذى نفسك من
النار فانى لا أملك لكم من الله شيئا غير ان لكم رحما سأبلها ببلالها ذكره
المحب الطبرى فى ذخائر العقبى* وفى أنوار التنزيل لما نزلت وأنذر عشيرتك
الاقربيين صعد الصفا وناداهم فخذا فخذا فاجتمعوا اليه فقال صلّى الله عليه
وسلم لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقىّ قالوا نعم قال صلّى
الله عليه وسلم فانى نذير لكم بين يدى عذاب شديد قال أبو لهب تبالك ألهذا
دعوتنا وأخذ حجرا ليرميه فنزلت تبت يدا أبى لهب وكذا فى النهر الا أن فيه
قال يا صفية بنت عبد المطلب يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنكما من الله شيئا
سلانى من مالى ما شئتم ثم صعد الصفا فنادى بطون قريش يا فلان يا فلان* وفى
رواية صاح بأعلى صوته يا صباحاه فاجتمعوا اليه من كل وجه فقال لهم أرأيتم
لو قلت لكم انى أنذركم خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقىّ الى آخر ما ذكر
وفيه ألهذا جمعتنا فافترقوا عنه ولما سمعت أمّ جميل سورة تبت أتت أبا بكر
وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد وبيدها فهر وقالت بلغنى أنّ
صاحبك هجانى ولا فعلن فأعمى الله بصرها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وقال لها أبو بكر هل ترين معى أحدا فقالت اتهز أبى لا أرى غيرك وان كان
صاحبك شاعرا فأنا مثله أقول* مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا فسكت أبو
بكر ومضت هى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقد حجبنى عنها ملائكة فما
رأتنى وكفانى الله شرّها وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها وابو لهب رماه الله
بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال وأمّ جميل بنت حرب اخت ابى سفيان امرأة ابى
لهب كانت عوراء ويقال لها حمالة الحطب لانها كانت تحمل الحطب الذى هو الشوك
لتؤذى بالقائه فى طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم واصحابه لتعقرهم فذمت
بذلك وسميت حمالة الحطب وقيل حطب المشى بالنميمة* وعن الزهرى قال دعا رسول
الله صلّى الله عليه وسلم الى الاسلام سرّا وجهرا فاستجاب الله من أحداث
الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به وكفار قريش غير منكرين لما يقول
فكانوا اذا مر عليهم فى مجالسهم يشيرون اليه ان غلام بنى عبد المطلب ليكلم
من السماء وكان كذلك حتى عاب آلهتهم التى يعبدونها من دون الله وذكر هلاك
آبائهم الذين كانوا على الكفر فشنعوا لرسول صلّى الله عليه وسلم عند ذلك
وعادوه* وعن طارق بن عبد الله المحاربى قال رأيت رسول الله صلّى الله عليه
وسلم بسوق ذى المجاز وانا فى بياعة لى مرّ وعليه حلة حمراء وهو ينادى بأعلى
صوته يا ايها الناس قولوا لا اله الا الله تفلحوا ورجل يتبعه بالحجارة قد
أدمى كعبيه وعرقوبيه وهو يقول ايها الناس لا تطيعوه فانه كذاب قلت من هذا
قالوا غلام بنى عبد المطلب قلت فمن هذا الذى يتبعه قالوا عمه عبد العزى*
وفى السنة الخامسة أو الرابعة من النبوّة ولدت عائشة بنت ابى بكر بمكة
وامّها امّ رومان كذا قاله الحافظ مغلطاى وغيره كذا فى المواهب اللدنية*
هجرة الحبشة الاولى
وفى هذه السنة وقعت هجرة الحبشة الاولى وذلك انه لما ظهر رسول الله صلّى
الله عليه وسلم بالنبوّة لم تنكر عليه قريش ولما سب آلهتهم وعابها قال
العتقى وكان ذلك فى سنة اربع انكروا وبالغوا فى اذى المسلمين فأمرهم رسول
الله صلّى الله عليه وسلم بالخروج الى الحبشة وقال انّ بها ملكا لا يظلم
الناس ببلاده فتحوزوا عنده حتى يأتيكم الله بفرج منه كذا فى الصفوة فخرج
قوم وستر الباقون اسلامهم* وفى المواهب اللدنية خرج فى رجب سنة خمس من
النبوّة مهاجرا ناس ذو عدد منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه وكانوا
احد عشر رجلا واربع نسوة وقيل خمس نسوة وقيل وامرأتان واميرهم عثمان بن
مظعون وانكر ذلك الزهرى وقال لم يكن لهم امير وخرجوا مشاة الى البحر
فاستأجروا سفينة بنصف دينار انتهى* وفى المنتقى وكانت ارض الحبشة متجرا
لقريش فخرجوا متسللين سرّا فصادف وصولهم الى البحر سفينتين للتجارة فحملوهم
فيهما الى ارض الحبشة وكان مخرجهم فى رجب السنة الخامسة
(1/288)
من النبوّة وخرجت قريش فى آثارهم ففاتوهم*
وفى المواهب اللدنية كان اوّل من خرج عثمان ابن عفان مع امرأته رقية بنت
رسول الله صلّى الله عليه وسلم واخرج سفيان بسند موصول الى انس قال أبطأ
على رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبرهما فقدمت امرأة فقالت قد رأيتهما
وقد حمل عثمان امرأته على حمار قال انّ عثمان لاوّل من هاجر بأهله بعد لوط
فلما رأت قريش استقرارهم بالحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن
ابى ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم الى النجاشى واسمه اصحمة بن بحرى وقيل
مكحول بن صصة*
فائدة فى أسماء ملوك الجهات
والنجاشى اسم لكل من ملك الحبشة وتسميه المتأخرون الابحرى وكذلك خاقان لمن
ملك الترك وقيصر لمن ملك الروم وتبع لمن ملك اليمن وان ترشح للملك سمى قيلا
وبطلميوس لمن ملك اليونان والقيطون لمن ملك اليهود هكذا قاله ابن خرداديه
والمعروف مالخ ثم رأس الجالوت والنمرود لمن ملك الصابئة ودهمن ويعفور لمن
ملك الهند وغانة لمن ملك الزنج وفرعون لمن ملك مصر والشأم فان اضيف اليهما
الاسكندرية سمى العزيز ويقال المقوقس وكسرى لمن ملك العجم والاخشيد لمن ملك
فرغانة والنعمان لمن ملك العرب من قبل العجم وجالوت لمن ملك البربر كذا فى
سيرة مغلطاى* قال وكان معهما عمارة بن الوليد ليردّهم الى قومهم فأبى ذلك
وردّهما خائبين بهديتهما وسيجىء تفصيله فأقاموا عند النجاشى آمنين فلما
نزلت سورة والنجم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى آخر السورة وسجد
معه المشركون* روى انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ ينادى قومه سورة
والنجم فلما بلغ قوله تعالى ومناة الثالثة الاخرى سمعت تلك الغرانيق العلى
منها الشفاعة ترتجبى وكانت هذه المسموعة بادخال الشيطان فى اثناء قراءة
النبىّ صلّى الله عليه وسلم بأن سكت النبىّ صلّى الله عليه وسلم عند قوله
ومناة الثالثة الاخرى فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلا بقراءة النبىّ صلّى
الله عليه وسلم وخلط صوته بصوته محاكيا نغمة النبىّ صلّى الله عليه وسلم
فظنّ ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم هو الذى يتكلم بها فيكون هذا القاء من
الشيطان فى قراءة النبىّ صلّى الله عليه وسلم كذا فى شرح المواقف والمدارك
وانوار التنزيل وغيرها* قال القاضى عياض وهذا احسن وجوه التأويل فيه وكذا
استحسن ابن العربى هذا التأويل وقد سبق الى ذلك الطبرى مع جلالة قدره وسعة
علمه وشدّة ساعده فى النظر فصوّب على هذا المعنى كذا فى المواهب اللدنية
فأنزل الله تعالى وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبىّ الا اذا تمنى القى
الشيطان فى أمنيته اى فى تلاوته قال الشاعر
تمنى كتاب الله اوّل ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل
وكان الشيطان يبصر ويتكلم فيسمع كلامه فى زمن النبىّ صلّى الله عليه وسلم
ولما سجد النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى آخر السورة سجد معه المشركون فبلغ
ذلك أهل الحبشة فقالوا ان كانوا قد آمنوا فلنرجع الى عشائرنا وكانوا قد
خرجوا فى رجب واقاموا بالحبشة شعبان ورمضان وقدموا فى شوّال فلقيهم ركب
فسألوهم فقالوا ذكر محمد آلهتهم فتابعوه ثم عاد عن ذكرها فعادوا له بالشرّ
فلم يدخل أحد منهم مكة الا بجوار الا ابن مسعود فانه مكث قليلا ثم رجع الى
أرض الحبشة فسطت بهم عشائرهم فآذوهم فأذن لهم رسول الله صلّى الله عليه
وسلم فى الخروج مرّة أخرى الى أرض الحبشة فخرج خلق كثير* قال محمد بن اسحاق
من لحق من المسلمين بأرض الحبشة سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا وولديها
نيف وثلاثون رجلا ومن النساء احدى عشرة امرأة قرشية وسبع غرائب فلما سمعوا
بمهاجر النبىّ صلّى الله عليه وسلم الى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون
رجلا وثمان نسوة فمات منهم رجلان بمكة وحبس منهم سبعة وشهد بدرا منهم اربعة
وعشرون وفى الصفوة والمنتقى
(1/289)
عن أمّ سلمة أنها قالت انّ النبىّ صلّى
الله عليه وسلم لما فتن أصحابه بمكة أشار عليهم أن يلحقوا بأرض الحبشة وقال
انّ بها ملكا لا يظلم الناس ببلاده كما مرّ فخرجنا ارسالا ولما نزلنا بأرض
الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشى أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى
فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا الى النجاشى فينا رجلين جلدين من
قريش وأن يهدوا الى النجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة من الادم وغيره
وكان الادم يعجب النجاشى أن يهدى اليه ففعلوا وجمعوا له أدما كثيرا ولم
يتركوا من بطارقته بطريقا الا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى
ربيعة المخزومى وعمرو بن العاص وقالوا لهما ادفعا الى كل بطريق هديته قبل
أن تكلما النجاشى ثم قدّما الى النجاشى هداياه ثم سلاه أن يسلمهم اليكما
قبل أن يكلمهم فخرجا ولما قدما دفعا الى كل بطريق هديته وقالا انه قد صبأ
الى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دين الملك
وجاؤا بدين مبتدع وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قومهم ليردّ وهم اليهم
فاذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم الينا ولا يكلمهم فقالوا نعم
ثم قربا هداياهم الى النجاشى فقبلها منهم ثم كلماه فقالوا له أيها الملك
انه قد صبا الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دين
الملك وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا فيهم أشراف قومهم
من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم اليهم فقال بطارقته صدقوا أيها الملك
فارددهم وأسلمهم اليهما فغضب النجاشى ثم قال لا والله لا أسلم اليكما قوما
جاورونى ونزلوا بلادى ولجؤا الىّ واختارونى على من سواى حتى أدعوهم وأسألهم
ما يقول هذان فى أمرهم فان كانوا كما يقولان سلمتهم اليهما وان كانوا غير
ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاورونى فأرسل الى أصحاب رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فدعاهم فلما أن جاء رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما
تقولون للرجل اذا جئتموه قالوا نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا
صلّى الله عليه وسلم كائن فى ذلك ما هو كائن وأرسل النجاشى فجمع بطارقته
وأساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فلما جاؤه سألهم فقال انّ هؤلاء يزعمون انكم
فارقتم دينهم فأخبرونى ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا فى
دينى ولا فى دين آخر من هذه الامم
مكالمة جعفر مع النجاشى
فتكلم جعفر بن أبى طالب فقال أيها الملك كنا أهل جاهلية لا نعرف الله ولا
رسوله نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الارحام ونسىء الجوار
يأكل القوى منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف
نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما
كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان وأمرنا بالمعروف ونهانا
عن المنكر وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف
عن المحارم والدماء وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والصدقة وكل ما يعرف من
الاخلاق الحسنة ونهانا عن الزنا والفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف
المحصنة وكل ما يعرف من السيئات وتلى علينا تنزيلا لا يشبهه شىء فصدّقناه
وآمنا به وعرفنا أنّ ما جاء به هو الحق من عند الله فعبدنا الله وحده لا
نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا ففارقنا عند ذلك
قومنا فعدا علينا قومنا فآذونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا الى عبادة
الاوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وحالوا
بيننا وبين ديننا وبلغنا ما نكره ولم نقدر على الامتناع أمرنا نبينا صلّى
الله عليه وسلم أن نخرج الى بلادك اختيارا لك على من سواك ورغبنا فى جوارك
ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك فقال له النجاشى هل معكم مما جاءكم به
عن الله عز وجل شىء فقال له جعفر نعم قال فاقرأه علىّ فقرأ عليه صدرا من
كهيعص فبكى والله النجاشى حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت لحاهم
ومصاحفهم ثم قال النجاشى والله انّ هذا الكلام والكلام الذى جاء به موسى
ليخرجان من مشكاة واحدة ثم قال انطلقا والله
(1/290)
لا أسلمهم اليكما أبدا ولا أخلى بينكما
وبينهم فألحقا بشأنكما فخرجا من عنده مقبوحين مردودا أمرهما عليهما* وفى
ذخائر العقبى عن جعفر قال فقال لهما النجاشى أعبيدهم لكم قالوا لا قال فلكم
عليهم دين قالوا لا قال فخلوا سبيلهم انتهى قالت أمّ سلمة فلما خرجا قال
عمرو بن العاص والله لآتينه غدا أعيبهم بما أستأصل به خضراءهم أو قال يقول
أبيد به خضراءهم فقال عبد الله بن أبى ربيعة وهو أتقى الرجلين فينا لا
تفعله فانّ لهم أرحاما* وفى المنتقى فانّ للقوم رحما وان كانوا قد خالفوا
فما نحب أن يبلغ ذلك منهم فقال والله لاخبرنه أنهم يزعمون أنّ عيسى ابن
مريم عبد فلما كان الغدغدا اليه ودخل عليه فقال له أيها الملك انهم
يخالفونك ويقولون فى عيسى ابن مريم قولا عظيما يزعمون أنه عبد فارسل اليهم
وأسألهم عما يقولون* وفى ذخائر العقبى قال النجاشى ان لم يقولوا فى عيسى
مثل قولى لم أدعهم فى أرضى ساعة من نهار فأرسل الينا وكانت الدعوة الثانية
أشدّ علينا من الاولى انتهى قالت أمّ سلمة فأرسل النجاشى اليهم قالت أمّ
سلمة فما نزل بناقط مثلها فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض هل عرفتم أنّ عيسى الهه
الذى يعبده وقد عرفتم أنّ نبيكم جاءكم بأنّه عبد وانّ ما يقولون هو الباطل
فماذا تقولون قالوا نقول والله فيه ما قال الله عز وجل وما جاء به نبينا
كائن فى ذلك ما هو كائن فلما دخلوا عليه قال لهم ماذا تقولون فى عيسى ابن
مريم فقال له جعفر نقول فيه ما جاء به نبينا انه عبد الله ورسوله وروحه
وكلمته ألقاها الى مريم العذراء البتول فضرب النجاشى بيده الى الارض فأخذ
منها عودا فقال ما عدا عيسى ابن مريم ما تقولون مثل هذا العود فنخرت
أساقفته أى تكلمت بلغتهم قال لهم النجاشى وان نخرتم ثم قال للمسلمين اذهبوا
فأنتم سئوم بأرضى والسئوم الآمنون من سبكم غرم من سبكم غرم غرم ما أحب انى
آذيت منكم رجلا وانّ لى دبرا من الذهب والدبر بلسانهم الجبل ردّوا عليهما
هداياهما فلا حاجة لى بها فو الله ما أخذ الله منى رشوة حين ردّ علىّ ملكى
وما أطاع فىّ الناس فأطيعهم فيه فردّوا عليهما هداياهما فخرجا خائبين* وفى
رواية قال النجاشى للمسلمين مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده وأنا أشهد أنه
رسول الله وأنه الذى بشربه عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك لآتينه حتى أقبل
نعله* وفى ذخائر العقبى عن جعفر قال فقال النجاشى ادع لى فلانا القس وفلانا
الراهب فأتاه أناس منهم قال فقال ما تقولون فى عيسى ابن مريم قالوا أنت
أعلمنا بما نقول فقال النجاشى وأخذ شيئا من الارض ما عدا عيسى عليه السلام
ما قال هؤلاء بمثل هذا قال لهم أيؤذيكم أحد قالوا نعم فأمر مناديا فنادى من
آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم ثم قال أيكفيكم قلنا لا قال فاضعفوها*
قال فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخرج الى المدينة وظهر بها
أتيناه فقلنا انّ صاحبنا قد خرج الى المدينة فظهر بها وقتل الذين كنا
حدّثناك عنهم وقد أردنا الرحيل فزوّدنا فدفع الينا ما يحملنا وأحسن الينا
ثم قال أخبر صاحبك بما صنعت اليكم وهذا صاحبى معكم وأنا أشهد أن لا اله الا
الله وأنّ محمدا رسول الله قال وقل له يستغفر لى* قال جعفر فخرجنا حتى
أتينا المدينة فتلقانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتنقنى ثم قال ما
أدرى أنا أبفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر ووافق ذلك فتح خيبر ثم جلس فقام
رسول النجاشى فقال هذا جعفر فاسأله ما صنع به صاحبنا فقال له نعيم فعل بنا
وحملنا وزوّدنا وشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله وقال قل له يستغفر
لى فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتوضأ ودعا ثلاث مرّات اللهمّ اغفر
للنجاشى فقال المسلمون آمين* قال جعفر فقلت للرّسول وأخبر صاحبك بما قد
رأيت من النبىّ صلّى الله عليه وسلم خرجه المخلص الذهبى والبغوى فى معجمه
عن أمّ سلمة*
قصة تولية النجاشى
معنى قول النجاشى ما أخذ الله منى رشوة حين ردّ علىّ ملكى فآخذ الرشوة وما
أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه انه لم يكن لابيه ولد غيره وكان أبوه ملك
قومه وكان للنجاشى عمّ له من صلبه اثنا عشر رجلا وكانوا أهل بيت مملكة
الحبشة قالت الحبشة فيما بينها لو قتلنا أبا النجاشى
(1/291)
ثم ملكنا أخاه فتوارث ملكه بنوه فانهم اثنا
عشر رجلا لبقى ملك الحبشة زمانا فعدوا على أبى النجاشى فقتلوه ثم ملكوا
أخاه ونشأ النجاشى مع عمه وكان لبيبا حاذقا فغلب على أمر عمه ونزل منه كل
منزل فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه
وانا لنتخوّف أن يملكه علينا وان ملكه علينا ليقتلنا أجمعين لقد عرف أنا
قتلنا أباه فمشوا الى عمه فقالوا انا قتلنا أنا هذا الغلام وقد عرف انا
قتلناه وملكناك علينا ونحن نتخوّفه على أنفسنا فاقتله أو أخرجه من بلادنا
فقال ويحكم قتلتم أباه بالامس وأقتله اليوم اذهبوا فأخرجوه من بلادكم
فبيعوه فى هذا السوق فأخرجوه الى السوق فأقاموه فيه فجاء تاجر فاشتراه
بستمائة درهم فألقاه فى سفينته فانطلق حتى اذا كان العشىّ من ذلك اليوم
هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر فأصابته صاعقة فأهلكته فرجعوا
الى بنيه فاذاهم ليس فيهم خير فقالت الحبشة بعضهم لبعض هلك والله ملككم
تعلمون انّ ملككم الذى بعتموه فان كان لكم فى ملككم حاجة فأدركوه فخرجوا فى
طلبه فأدركوا التاجر فأخذوه منه ثم جاؤا به فقعدوا عليه التاج وأقعدوه على
سرير الملك فملكوه فجاءهم التاجر الذى باعوه منه فقال أعطونى دراهمى كما
أخذتم غلامى قالوا لا والله لا نفعل قال والله لا شكونّ منكم عند الملك
فجاء فجلس بين يدى الملك فقال أيها الملك انى ابتعت غلاما ثم أتانى باعته
فانتزعوه منى فسألتهم مالى فأبوا أن يعطونى فنظر النجاشى اليه فقال والله
لتعطنه ماله أو ليضعن عبده يده فى يده فيذهب به حيث شاء فقالوا بل نعطيه
ماله وكان هذا أوّل ما اختبر من صلابته وعدله وهذا قوله ما أخذ الله منى
رشوة حين ردّ علىّ ملكى فآخذ الرشوة وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه
ذكره ابن اسحاق عن عائشة* وفى رواية بعث قريش عمرو بن العاص وعمارة بن
الوليد* وفى معالم التنزيل بن أبى معيط بدل الوليد الى النجاشى فذكر نحو
الحديث المتقدّم قال وكان عمرو رجلا فقيرا وعمارة رجلا جميلا فأقبلا فى
البحر الى النجاشى فشربوا ومع عمرو امرأته فلما ثملوا من الخمر قال عمارة
لعمرو مر امرأتك فلتقبلنى فقال له عمرو ألا تستحيى فأخذ عمارة عمرا يرمى به
فى البحر فجعل عمرو يناشده حتى أدخله السفينة فحقد عمرو على عمارة ومكر به
فقال يا عمارة انك لرجل جميل فاذهب الى امرأة النجاشى وتحدّث عندها اذا خرج
زوجها فانّ ذلك عون لنا فى حاجتنا فراسلها عمارة حتى دخل عليها فانطلق عمرو
الى النجاشى فقال انّ صاحبى هذا صاحب نساء وانه يريد أهلك فبعث النجاشى الى
بيته فاذا عمارة عند أهله فأمر به فنفخ فى احليله أى سحره فطار مع الوحش*
وفى رواية ثم ألقاه فى جزيرة من جزائر البحر فجنّ واستوحش مع الوحش كذا فى
المنتقى*
(ذكر بعض ما لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ايذاء المشركين)
* ولما خرج المسلمون الى الحبشة ومنع الله تعالى نبيه بعمه أبى طالب ورأت
قريش أن لا سبيل لهم عليه رموه بالكهانة والسحر والجنون والشعر ثم بالغوا
فى أذاه فمن ايذائهم ما روى أن نبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما
هو بفناء الكعبة اذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولوى ثوبه فى عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه
ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله
وقد جاءكم بالبينات من ربكم* وروى عن عائشة أنها قالت عاد أبو بكر وقد
صدعوا فرق رأسه مما جذبوه بلحيته وكان رجلا كثير الشعر* وفى معالم التنزيل
لما بزق عقبة بن أبى معيط فى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عاد بزاقه
فى وجهه فاحترق خدّاه وكان أثر ذلك فيه حتى الموت* وعن عبد الله أنه قال ما
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد فانه كان
يصلى ورهط من قريش جلوس وسلا جزور قريب منه فقالوا من يأخذ هذا فيلقيه على
ظهره فقال عقبة بن أبى معيط أنا فأخذه فألقاه على ظهره فلم يزل
(1/292)
ساجدا حتى جاءت فاطمة فألقته عن ظهره فقال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللهمّ عليك بالملأ من قريش اللهمّ عليك
بعتبة بن ربيعة اللهمّ عليك بشيبة بن ربيعة اللهمّ عليك بأبى جهل بن هشام
اللهمّ عليك بعقبة بن أبى معيط اللهمّ عليك بأبىّ بن خلف أو أمية بن خلف*
قال عبد الله فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا ثم سحبوا الى القليب غير
أمية فانه كان رجلا ضخما فتقطع ولما كثر أنواع الاذى من المشركين استتر
رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه فى دار الا رقم بن أبى الارقم بن
أسد وأقاموا فى تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا* وفى الصفوة أرقم بن
أبى الارقم أسلم بعد ستة نفر وكان داره بمكة على الصفا فيها استتر رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ودعا الناس فيها الى الاسلام وتصدّق بها الارقم
على ولده فلم يزل المنصور يرغب ولده فى المال حتى باعه اياها ثم أعطاها
المهدى الخيزران وقد يقال هى بأصل الصفا ويقال عند الصفا فالكل واحد وهى
التى تسمى الآن بدار الخيزران* وفى كتاب الغزى كان صلّى الله عليه وسلم
مستترا فيها فى بدء الاسلام وكان بها اجتماع من أسلم من الصحابة وبها أسلم
عمر وحمزة وغيرهما ومنها ظهر الاسلام قاله العقبى* وفى هذه السنة ولد أسامة
بن زيد وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة الثقيفى وأبو موسى الاشعرى وزيد بن
خالد الجهنى وحبيب بن مسلمة الفهرى كذا فى سيرة مغلطاى* وفى هذه السنة
توفيت سمية بنت حباط مولادة أبى حذيفة بن المغيرة وهى أمّ عمار بن ياسر
أسلمت بمكة قديما وكانت ممن يعذب فى الله عز وجل لترجع عن دينها فلم ترجع
فمرّ بها أبو جهل فطعنها فى قلبها فماتت وكانت عجوزا كبيره فهى أوّل شهيدة
فى الاسلام وفى السنة السادسة من النبوّة أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن
الخطاب وقد قيل أسلما فى سنة خمس كذا فى المنتقى وكان اسلام حمزة قبل اسلام
عمر بثلاثة أيام بعد دخول النبىّ صلّى الله عليه وسلم دار الارقم كذا فى
الصفوة*
(ذكر اسلام حمزة)
* أما سبب اسلام حمزة فهو انّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم كان جالسا عند
الصفا فمرّ به أبو جهل فشتمه وأذاه وقال فيه بعض ما يكره من العيب لدينه
والتضعيف لامره فلم يكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم واذا مولاة لعبد
الله بن جدعان فى مسكن لها تسمع ذلك ثم انصرف أبو جهل عنه فعمد الى نادى
قريش عند الكعبة فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب ان أقبل متوشحا
قوسه راجعا من قنصه وكان اذا رجع من قنصه لم يصل الى أهله حتى يطوف بالكعبة
وكان اذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش الا وقف وسلم وتحدّث معهم فلما
مرّ بالمولاة وقد رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى بيته قالت له يا
أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من ابى الحكم بن هشام وجده
ههنا جالسا فأذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته وكان أعزفتى فى قريش واشدّها
شكيمة فخرج يسعى لم يقف على احد معدا لابى جهل اذا لقيه أن يوقع به فلما
دخل المسجد نظر اليه جالسا فى القوم فأقبل نحوه حتى اذا قام على رأسه رفع
القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة وقال اتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول
فاردد ذلك علىّ ان استطعت فقامت رجال من بنى مخزوم الى حمزة لينصروا أبا
جهل فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة فانى والله سبيت ابن أخيه سبا قبيحا وتم
حمزة على اسلامه وعلى مبايعة النبىّ صلّى الله عليه وسلم فلما أسلم حمزة
عرفت قريش ان رسول الله قد عز وامتنع وان حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما
كانوا ينالون من النبىّ صلّى الله عليه وسلم وفى المواهب اللدنية قال حمزة
حين أسلم
حمدت الله حين هدى فؤادى ... الى الاسلام والدين الحنيفى
لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف
اذا تليت رسائله علينا ... تحدّر دمع ذى اللب الخصف
(1/293)
رسائل جاء أحمد من هداها ... بآيات مبينة
الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلّمه لقوم ... ولما نقض فيهم بالسيوف
وعند غير ابن اسحاق ان كلام أبى جهل للنبى صلّى الله عليه وسلم كان عند
الحجون وانه صب التراب على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ووطئ برجله
على عاتقه وان المرأة التى اخبرت حمزة سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب وانه
قال لها انت رأيت هذا الذى تقولين قالت نعم فدخل سريعا فنظر الى الخلق لا
يتكلم يعرف فى وجهه الغضب حتى وقف على أبى جهل فحمل عليه بالقوس فضربه ضربة
أوضحت فى رأسه وذكر ما مضى بعده وقال قال حمزة أشهد أن لا اله الا الله
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والله لا انزع فامنعونى ان كنتم صادقين* وخرج
صاحب الصفوة ذكر الايضاح بالقوس حين بلغه ما نال أبو جهل من رسول الله صلّى
الله عليه وسلم لا غير وكان اسلامه فى السنة الثانية من المبعث وقيل كان
اسلامه بعد دخول النبىّ صلّى الله عليه وسلم دار الا رقم فى السنة السادسة
من المبعث ولم يذكر فى الصفوة غيره وذكر الحافظ أبو القاسم الدمشقى ان
اسلامه كان يوم ضرب ابو بكر حين ظهر النبىّ صلّى الله عليه وسلم قبل اسلام
عمر من دار الا رقم وروى ان ذلك كان قبل اسلام عمر بثلاثة ايام والتوفيق
بين الاحاديث كلها ممكن كذا فى ذخائر العقبى وفى المنتقى وكان حمزة بن عبد
المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر وذلك ان اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم
ورضى عنهم لما اجتمعوا وكانوا تسعة وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله
صلّى الله عليه وسلم فى الظهور فقال يا أبا بكر انا قليل فلم يزل يلح عليه
حتى ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى نواحى المسجد وقام أبو بكر فى
الناس خطيبا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس وكان أوّل خطيب دعا الى
الله عز وجل والى رسوله صلّى الله عليه وسلم وثار المشركون على أبى بكر
وعلى المسلمين يضربونهم فى نواحى المسجد ضربا شديدا ووطئ أبو بكر وضرب ضربا
شديدا ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرّفهما
بوجهه وأثر على وجه أبى بكر حتى ما يعرف أنفسه من وجهه وجاءت بنوتيم تتعادى
فأجلوا المشركين عن ابى بكر وحملوا أبا بكر فى ثوب حتى أدخلوه بيته ولا
يشكون فى موته ورجعت بنوتيم فدخلوا المسجد فقالوا والله لئن مات أبو بكر
لنقتلنّ عتبة ورجعوا الى أبى بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر
حتى أجابهم فتكلم آخر النهار فقال ما فعل برسول الله صلّى الله عليه وسلم
فمسوه بألسنتهم وعذلوه ثم قاموا وقالوا لامّ الخير انظرى أن تطعميه شيئا أو
تسقيه اياه فلما خلت به وألحت عليه جعل يقول ما فعل برسول الله صلّى الله
عليه وسلم قالت والله مالى علم بصاحبك قال فاذهبى الى أمّ جميل بنت الخطاب
فأسألها عنه فخرجت حتى جاءت الى أم جميل فقالت ان أبا بكر يسألك عن محمد بن
عبد الله قالت ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وان تحبى أن أمضى معك
الى ابنك فعلت قالت نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا فرنت أم
جميل وأعلنت بالضياح وقالت ان قوما نالوا منك هذا لاهل فسق وانى لارجو أن
ينتقم الله لك قال فما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت هذه امّك
تسمع قال فلا عين عليك منها قالت سالم صالح قال فأين هو قالت فى دار الا
رقم قال فان لله تبارك وتعالى علىّ ألية أن لا أذوق طعاما أو شرابا أو آتى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الصحاح الالية اليمين على وزن فعيلة
والجمع ألا يا قال الشاعر
قليل الا لا يا حافظ ليمينه ... وان سبقت منه الالية برّت
فأمهلنا حتى هدأت الرجل وسكن الناس خرجنا به يتكئ علينا حتى أدخلناه على
النبىّ صلّى الله عليه وسلم فأكب عليه فقبله وأكب عليه المسلمون ورق رسول
الله صلّى الله عليه وسلم رقة شديدة فقال
(1/294)
أبو بكر رضى الله عنه بأبى وأمى ليس بى الا
ما نال الفاسق من وجهى هذه أمى بره بوالديها وأنت مبارك فادعها الى الله
تعالى وادع الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار فدعا لها رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ثم دعاها الى الله عز وجل فأسلمت فأقاموا على رسول الله
صلّى الله عليه وسلم شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا قال وكان أسلم حمزة يومئذ
يوم ضرب أبو بكر كما مرّ*
(ذكر اسلام عمر)
* فى الاكتفاء قال ابن اسحاق كان اسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه وسلم الى الحبشة وبعد حمزة بثلاثة أيام فيما قاله أبو
نعيم كذا فى سيرة مغلطاى* وفى سبب اسلام عمر أقوال أشهرها ما روى ان قريشا
اجتمعت فتشاورت فى امر النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقالوا أى رحل يقتل
محمدا فقال عمر بن الخطاب انالها فقالوا أنت لها يا عمر فخرج متقلدا السيف
فى طلب النبى صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع
أصحابه فى منزل حمزة فى الدار التى فى أصل الصفا فلما خرج عمر الى
الصفالقيه سعد بن أبى وقاص الزهرى فقال أين تريد يا عمر فقال أريد أن أقتل
محمدا قال أنت أحقر وأصغر من ذلك فكيف تأمن فى بنى هاشم وبنى زهرة وقد قتلت
محمدا* وفى رواية قال له سعد أتريد أن تقتل محمدا ويدعك بنو عبد مناف أن
تمشى على الارض فقال له عمر ما اراك الا قد صبأت وتركت الدين الذى انت عليه
وفى رواية قال له عمر لعلك قد صبأت الى محمد فابدأ بك فأقتلك وعند ذلك قال
سعدا علم انى آمنت بمحمد واشهد ان لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله
فسلّ عمر سيفه وكشف سعد عن سيفه فشدّ كل واحد منهما على الآخر حتى كاد أن
يختلطا فقال سعد مالك يا عمر لا تصنع هذا باختك آمنة بنت الخطاب وفى
المواهب اللدنية فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل
فقال أسلما قال نعم فتركه عمر وسار الى منزل آمنة وفى الصفوة قال سعد أفلا
ادلك على العجب يا عمران اختك وختنك قد صبيا وتركا دينك الذى انت عليه فمشى
عمر مسرعا حتى أتاهما وعندهما رجل من الانصار يقال له خباب بن الارت وهم
يقرؤن سورة طه فلما سمع خباب حس عمر توارى فى البيت فدخل عمر عليهما فقال
ما هذه الهينمة التى سمعتها عندكم فقالا ما عدا حديثا حدّثناه بيننا قال
فلعلكما قد صبأتما فقال له ختنه أرأيت يا عمر ان كان الحق فى غير دينك فوثب
عمر على ختنه سعيد وبطش بلحيته فتواثبا وكان عمر رجلا شديدا قويا فضرب
بسعيد الارض وجلس على صدره فجاءت اخته فدفعته عن زوجها فلطمها عمر لطمة شج
بها وجهها وفى الصفوة فنفحها نفحة بيده فدمى وجهها فلما نظرت الى الدم على
وجهها غضبت وقالت يا عدوّ الله اتضربنى على أن أوحد الله قال نعم أو قالت
يا عمران كان الحق فى غير دينك أشهد أن لا اله الّا الله وان محمدا رسول
الله لقد أسلمنا على رغم انفك فاصنع ما أنت صانع فلما سمعها عمر ندم وقام
من صدر زوجها فقعد ناحية ثم قال اعرضوا علىّ الصحيفة التى كنتم تدرسونها*
وفى الصفوة أعطونى هذا الكتاب الذى عندكم فأقرأه وكان عمر يقرأ الكتب قالت
اخته لا أفعل قال ويحك قد وقع فى قلبى ما قلت فأعطنيها انظر اليها وأعطيك
من المواثيق ان لا اخونك حتى تحرزيها حيث شئت قالت له اخته انك رجس فانطلق
فاغتسل أو توضأ فانه كتاب لا يمسه الا المطهرون فخرج عمر ليغتسل وخرج اليها
خباب بن الارت فقال أتدفعين كتاب الله الى عمر وهو كافر قالت نعم انى أرجو
أن يهدى الله أخى فدخل خباب البيت وجاء عمر فدفعت اليه الصحيفة فاذا فيها
بسم الله الرحمن الرحيم طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى الى قوله اننى أنا
الله لا اله الا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى فقال عمر عند هذه ينبغى لمن
يقول هذا ان لا يعبد معه غيره فقال عمر دلونى على محمد فلما سمع خباب قول
عمر خرج من البيت فقال ابشر يا عمر فانى أرجو أن يكون قد سبقت فيك دعوة
رسول الله صلّى الله عليه وسلم البارحة قال اللهم أعز الاسلام بعمر بن
الخطاب أو بأبى جهل بن
(1/295)
هشام* وفى سيرة مغلطاى اللهم أيد الاسلام
بأبى جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب وفى كتاب الحاكم اللهم أيد الاسلام
بعمر بن الخطاب ولم يذكر أبا جهل* ذكر الدار قطنى ان عائشة قالت انما قال
النبىّ صلى الله عليه وسلم اللهم عز عمر بالاسلام لان الاسلام يعز ولا يعز
فقال عمر يا خباب انطلق بنا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقام خباب
وسعيد معه حتى أتوا منزل حمزة دار الا رقم التى بأصل الصفا فدقوا الباب
فخرج بعض الاصحاب فنظر فى شق الباب فرجع الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فقال يا رسول الله هذا عمر نعوذ بالله من شرّه فقال افتحوا له الباب فان
جاء بخير قبلناه وان جاء بشرّ قتلناه وفى الصفوة فانطلق عمر حتى أتى الدار
وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما
رأى حمزة وجل القوم من عمر قال نعم هذا عمر فان يرد الله بعمر خيرا يسلم
ويتبع النبىّ صلّى الله عليه وسلم وان يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا قال
والنبىّ صلّى الله عليه وسلم داخل يوحى اليه ففتح لعمر الباب فدخل فاستقبله
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى صحن الدار فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه
وفى المنتقى أخذ ساعده وانتهزه فارتعد عمر هيبة لرسول الله صلّى الله عليه
وسلم وجلس فقال أما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك ما أنزل بالوليد بن
المغيرة يعنى الخزى والنكال اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الدين بعمر
بن الخطاب ققال عمر اشهد انك رسول الله وقال اخرج يا رسول الله وعن ابن
عباس سئل عمر عن وجه تسميته الفاروق فأخبر أن حمزة أسلم قبله بثلاثة أيام
ثم شرح الله صدره للاسلام فقال الله لا اله الا هو له الاسماء الحسنى فما
فى الارض نسمة أحب اليه من نسمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لاخته
أين رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت فى دار الا رقم عند الصفا فأتى عمر
الدار وحمزة فى أصحابه جلوس فى الدار ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فى
البيت فضرب عمر الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة ما لكم قالوا عمر بن
الخطاب فخرج اليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع ثيابه ثم نثره
نثرة فما تمالك عمران وقع على ركبتيه فقال ما أنت بمنته يا عمر فقال أشهد
أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله فكبر أهل
الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد فقال يا رسول الله ألسنا على الحق ان
متناوان حيينا قال بلى والذى نفسى بيده انكم على الحق ان متم وان حييتم
فقال ففيم الاخفاء* وفى المنتقى قال يا رسول الله علام نخفى ديننا ونحن على
الحق وهم على الباطل فقال يا عمر انا قليل فقد رأيت ما لقينا فقال عمر
والذى بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر الا جلست فيه بالايمان ثم
خرج فى صفين حمزة فى أحدهما وعمر فى الآخر له كديد ككديد الطحين حتى دخلوا
المسجد فنظر قريش الى عمر والى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها فسماه
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق* وفى المنتقى ولما أسلم عمر
قال يا رسول الله لا ينبغى أن نكتم هذا الدين أظهر دينك يا محمد فخرج رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ومعه المسلمون وعمر امامهم ومعه سيفه ينادى لا
اله الا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد الحرام فنظرت قريش فقالوا لقد
أتاكم عمر مسرورا قالوا ما وراءك يا عمر قال ورائى لا اله الا الله محمد
رسول الله فان تحرّك أحد منكم لا مكنن سيفى منه ثم تقدّم امام رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يطوف ويحميه حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من
طوافه* وفى المواهب اللدنية قال عمر بعد ما أسلم ثم خرجت فذهبت الى رجل لم
يكن يكتم السرّ فقلت له انى صبأت قال فرفع صوته بأعلاه ألا انّ ابن الخطاب
قد صبأ فما زال الناس يضربونى وأضربهم فقال خالى ما هذا قيل ابن الخطاب
فقام على الحجر وأشار بكمه فقال ألا انى قد أجرت ابن أختى فانكشف الناس
عنى فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الاسلام* وفى الصفوة عن ابن عمر أنّ
النبىّ صلّى الله عليه وسلم دعا لعمر فقال اللهم أعز الاسلام
(1/296)
بأحب الرجلين اليك بعمر بن الخطاب أو بأبى
جهل بن هشام* وفى المنتقى كانت الدعوة يوم الاربعاء فسبقت فى عمر فأسلم يوم
الخميس ثم خرج عمر وطاف بالبيت ثم مرّ بقريش وهى تنظره فقال أبو جهل ابن
هشام زعم فلان انك صبأت فقال عمر أشهد أن لا اله الا الله وأنّ محمدا عبده
ورسوله فوثب المشركون عليه فوثب عمر على عتبة بن ربيعة وبرك عليه وجعل
يضربه وأدخل اصبعيه فى عينيه فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس عنه فقام عمر فجعل
لا يدنو منه الا أحد شريف وجعل حمزة يكشف الناس عنه ويضرب فيهم حتى أحجم
الناس عنه واتبع عمر المجالس التى كان يجلس فيها فأظهر الايمان غير هائب
ولا خائف فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعمر أمامه وحمزة بن عبد
المطلب رضى الله عنهما حتى طاف بالبيت وصلّى الظهر معلنا ثم انصرف رسول
الله صلّى الله عليه وسلم الى دار الارقم* وفى الصفوة أسلم عمر وهو ابن ست
وعشرين سنة بعد أربعين وفى العمدة قيل كان أسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست
نسوة ثم أسلم عمر وقال سعيد بن المسيب بعد أربعين رجلا وعشر نسوة وقال عبد
الله بن ثعلبة بعد خمسة وأربعين رجلا واحدى عشرة امرأة* وفى المواهب
اللدنية وكان المسلمون اذ ذاك بضعة وأربعين رجلا واحدى عشرة امرأة* وعن
داود ابن الحصين والزهرى قالا لما أسلم عمر نزل جبريل فقال يا محمد استبشر
أهل السماء باسلام عمر رواه ابن ماجه كذا فى المواهب اللدنية الا أن فيه
روى عن ابن عباس* وقال ابن مسعود مارلنا أعزة منذ أسلم عمر* وقال صهيب لما
أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا وطفنا وانتصفنا ممن غلظ علينا* وفى المواهب
اللدنية أسلم عمر بن الخطاب بعد حمزة بثلاثة أيام فيما قاله أبو نعيم
بدعوته صلّى الله عليه وسلم اللهمّ أعز الاسلام بأبى جهل أو بعمر بن
الخطاب*
وقعة بعاث
وفى السنة السابعة من النبوّة وقعت وقعة بعاث فى القاموس بعاث بالعين
والغين موضع قرب المدينة ويومه معروف وفى شرح الكرمانى لصحيح البخارى بعاث
بضم الموحدة وتخفيف المهملة وبالمثلثة اسيم بقعة بقرب المدينة وقع فيها حرب
بين الأوس والخزرج وسببه قتل مجدر بن زياد سويد بن الصامت كما سيجىء فى
الموطن الثالث فى غزوة أحد قيل هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى
المدينة بعد بعاث بست سنين وقيل بخمس
*
تقاسم قريش على معاداة بنى هاشم وبنى المطلب
وفى السنة السابعة من النبوّة كما فى حياة الحيوان أو الثامنة منها على ما
فى المنتقى تقاسمت قريش وتعاهدت على معاداة بنى هاشم وبنى المطلب وفى
الاستيعاب بعد المبعث بست سنين وقيل بخمس وفى المناسك للكرمانى وكان
اجتماعهم وتحالفهم فى خيف بنى كنانة بالابطح ويسمى محصبا وهو بأعلا مكة عند
المقابر* وفى المواهب اللدنية ولما رأت قريش عز النبىّ صلّى الله عليه وسلم
بمن معه وعز أصحابه بالحبشة واسلام عمر وفشوّ الاسلام فى القبائل أجمعوا
على أن يقتلوا النبىّ صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بنى هاشم
وبنى المطلب وأدخلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد
قتله فأجابوه لذلك حتى كفارهم فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية فلما رأت
قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى
المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم ولا يقبلوا منهم صلحا
أبدا حتى يسلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلم للقتل وكتبوا فى صحيفة بخط
منصور بن عكرمة بن هشام وقيل بغيض بن عامر فشلت يده وعلقوا الصحيفة فى جوف
الكعبة هلال المحرم سنة سبع من النبوّة وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب الى
أبى طالب ودخلوا معه شعبه الا أبا لهب فكان مع قريش وأقاموا على ذلك سنتين
أو ثلاثا* وقال أبو سعد سنتين حتى جهدوا وكانت قريش قد قطعت عنهم الميرة
والمادّة وكان لا يصل اليهم شىء الاسرّا وكانوا لا يخرجون الا من موسم الى
موسم* وفى المواهب اللدنية ثم قام رجال فى نقض الصحيفة
(1/297)
فأطلع الله نبيه على أمر الصحيفة على ان
الارضة أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم فلم تدع الا اسم الله فقط
فأخبرهم أبو طالب بذلك فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال عليه السلام فأخرجوهم
من الشعب وذلك فى السنة العاشرة* وأورد فى المنتقى تقاسم قريش على معاداة
بنى هاشم وبنى المطلب فى السنة الثامنة من النبوّة* وفى سيرة اليعمرى حاصره
أهل مكة فى الشعب فأقام محصورا دون ثلاث سنين هو وأهل بيته وخرج من الشعب
وله تسع وأربعون سنة* وفى الاستيعاب حصرتهم قريش فى الشعب بعد المبعث بست
سنين ومكثوا فى ذلك الحصار ثلاث سنين وخرجوا منه فى أوّل سنة خمسين من عام
الفيل وتوفى أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر وتوفيت خديجة بعده بثلاثة أيام وقد
قيل غير ذلك وولد عبد الله بن عباس فى الشعب قبل خروج بنى هاشم منه وقيل
انه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وكان ابن ثلاث عشرة سنة يوم مات رسول الله
صلّى الله عليه وسلم*
نزول سورة الروم
وفى السنة الثامنة من النبوّة نزلت الم غلبت الروم الآية روى انه بعث قيصر
رجلا يسمى قطمة بجيش الروم وبعث كسرى برويز شهريزاد فالتقيا بأذرعات وبصرى
وهى بأدنى الشام فغلب فارس على الروم فبلغ الخبر مكة فشق ذلك على المسلمين
وكرهوه لان فارس مجوس لا كتاب لهم وكانوا يجحدون البعث ويعبدون الاصنام
والروم أهل كتاب وفرح المشركون بذلك وقالوا أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن
وفارس أمّيون وقد ظهر اخواننا من فارس على اخوانكم من الروم فان قاتلتمونا
لنظهرنّ نحن عليكم فنزلت الم غلبت الروم فى أدنى الارض الى قوله فى بضع
سنين فخرج بها أبو بكر الى المشركين وقال لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع
سنين فقال أبى بن خلف كذبت فتراهنا على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا
الاجل ثلاث سنين فأخبر أبو بكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك فقال زد
فى الخطر وأبعد فى الاجل فجعلا مائة قلوص الى تسع سنين فلما خشى أبى أن
يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال انى أخاف أن تخرج من مكة فأقم لى
كفيلا فكفل له ابنه عبد الرحمن بن أبى بكر فلما أراد أبى أن يخرج الى أحد
أتاه عبد الرحمن بن أبى بكر فلزمه قال لا والله لا أدعك تخرج حتى تعطينى
كفيلا فأعطاه كفيلا ثم خرج الى أحد فقتل بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أى مات من جرح جرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلم له فى أحد وغلبت الروم
على فارس يوم الحديبية فأخذ أبو بكر مال الخطر من كفيل أبى وورثته وجاء به
الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال تصدق به وكان ذلك قبل تحريم
القمار* وهذه آية بينة على صحة نبوّته صلّى الله عليه وسلم وعلى ان القرآن
من عند الله تعالى لانها نبأ عن الغيب كذا ذكره فى المنتقى*
انشقاق القمر
وفى السنة التاسعة من المبعث كان انشقاق القمر* فى المواهب اللدنية ان
انشقاق القمر كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين قال العلامة ابن السبكى فى
شرحه لمختصر ابن الحاجب الصحيح عندى ان انشقاق القمر متواتر منصوص عليه فى
القرآن مروى فى الصحيحين وغيرهما من طرق حديث شعبة بن سليمان عن ابراهيم عن
أبى معمر عن ابن مسعود ثم قال وله طرق أخر شتى بحيث لا يمترى فى تواتره
انتهى وجاءت أحاديث انشقاق القمر فى روايات صحيحة من جماعة من الصحابة منهم
ابن مسعود وعلىّ وحذيفة بن جبير بن مطعم وابن عمر وأنس وابن عباس وغيرهم*
وفى الصحيحين من حديث أنس ان أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما قوله شقتتن
بكسر الشين المعجمة أى نصفين وأنس وان لم يشاهد القصة لانه اذ ذاك كان ابن
أربع سنين أو خمس بالمدينة لكن يجوز أن يكون حمل الحديث عمن شاهدها* ومن
حديث ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
اشهدوا* وفى رواية الترمذى من حديث ابن عمر
(1/298)
فى قوله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر
قال قد كان ذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم انشق فلقتين فلقة
دون الجبل وفلقة خلف الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشهدوا*
وقال مجاهد انشق القمر فبقيت فرقة وذهبت فرقة من وراء الجبل* وقال ابن زيد
لما انشق القمر كان يرى نصفه على فعيفعان والنصف الآخر على أبى قبيس كذا فى
دلائل النبوّة وعند الامام أحمد من حديث جبير بن مطعم فصار فرفتين فرقة على
هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقالوا سحرنا محمدا فقالوا ان كان سحرنا
فانه لا يستطيع أن يسحر الناس* وعن عبد الله بن مسعود أنه قال فقال كفار
قريش هذا سحر ابن أبى كبشة قال فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفار فان
محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال فجاء السفار فأخبروهم بذلك رواه
أبو داود والطيالسى ورواه البيهقى بلفظ انشق القمر بمكة فقالوا أسحركم ابن
أبى كبشة فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا رأيناه وعند أبى نعيم
عن ابن عباس قال لما اجتمع المشركون الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام والعاص بن وائل والاسود بن
المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبىّ صلّى الله عليه وسلم ان
كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين فسأل ربه فانشق* وعند البخارى مختصرا من
حديث ابن عباس بلفظ ان القمر انشق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وابن عباس وان لم يشاهد القصة لانه لم يولد اذ ذاك ففى بعض طرقه انه حمل
الحديث عن ابن مسعود وعند مسلم من حديث شعبة عن قتادة بلفظ فأراهم انشقاق
القمر مرّتين وكذا فى مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ مرّتين واتفق الشيخان
عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ فرقتين كما فى حديث جبير عند أحمد وفى
حديث ابن عمر فلقتين باللام كما مرّ وفى لفظ فى حديث جبير فانشق باثنتين*
وفى رواية عن ابن عباس عند أبى نعيم فى الدلائل فصار قمرين ووقع فى نظم
السيرة للحافظ أبى الفضل العراقى وانشق مرّتين بالاجماع* قال الحافظ ابن
حجر وأظنّ قوله بالاجماع يتعلق بالشق لا بمرّتين فانى لا أعلم من جزم من
علماء الحديث بتعدّد الانشقاق فى زمنه صلّى الله عليه وسلم ولعلّ قائل
مرّتين أراد فرقتين وقد وقع فى رواية البخارى من حديث ابن مسعود ونحن بمنى
وهذا لا يعارض قول أنس ان ذلك كان بمكة لانه لم يصرّح بأنه عليه السلام كان
ليلتئذ بمكة فالمراد ان الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا الى المدينة
هذا ما وقع فى المواهب اللدنية* وفى شواهد النبوّة انشق القمر بحيث كانت
فلقة منه على أبى قبيس وفلقة على الجبل الآخر* وفى المواهب اللدنية وما
يذكره بعض القصاص ان القمر دخل فى جيب النبىّ صلّى الله عليه وسلم وخرج من
كمه فليس له أصل كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشى عن شيخه العماد بن كثير*
وفاة أبى طالب
وفى السنة العاشرة من النبوّة أوّل ذى القعدة وقيل للنصف من شوّال السنة
الثامنة كذا فى الاستيعاب مات أبو طالب بعد ما خرج من الحصار بالشعب
بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوما كذا فى سيرة اليعمرى* وفى حياة الحيوان مات
أبو طالب وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم ابن تسع وأربعين سنة وثمانية
أشهر وأحد عشر يوما وأبو طالب ابن بضع وثمانين سنة* وفى المواهب اللدنية
ابن سبع وثمانين سنة وقيل مات فى نصف شوّال من السنة العاشرة* وقال ابن
الجوزى قبل هجرته عليه السلام بثلاث سنين انتهى* وروى عن سعيد بن المسيب عن
أبيه أنه قال لما حضر أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فوحد عنده عبد الله بن أمية وأبا جهل بن هشام فقال يا عم قل لا اله الا
الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال له أبو جهل يا أبا طالب أترغب عن ملة
عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويقول يا عم
قل لا اله الا الله أشهد لك بها عند الله ويقولان له يا أبا طالب أترغب عن
ملة عبد المطلب حتى كان آخر
(1/299)
كلمة تكلم بها أبو طالب أنا أموت على ملة
عبد المطلب ثم مات* وفى المواهب اللدنية روى انه عليه السلام كان يقول له
عند موته يا عم قل لا اله الا الله كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة
فلما رأى أبو طالب حرص رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له يا ابن أخى
والله لولا مخافة قريش يقولون انى انما قلتها جزعا من الموت لقلتها لا
أقولها الا لأسرّك بها فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس اليه يحرّك
شفتيه فأصغى اليه باذنه فقال يا ابن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى
أمرته بها فقال صلى الله عليه وسلم انى لم أسمعه قال ولم يكن العباس حينئذ
مسلما كذا فى رواية ابن اسحاق انه أسلم عند الموت ورواه البيهقى فى الدلائل
من طريق يونس بن بكير عن ابن اسحاق وقال البيهقى انه منقطع والصحيح من
الحديث قد أثبت لأبى طالب الوفاة على الكفر والشرك كما رويناه فى صحيح
البخارى من حديث سعيد بن المسيب حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم على ملة عبد
المطلب وأبى أن يقول لا اله الا الله قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه فأنزل الله تعالى ما كان للنبىّ والذين آمنوا
أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى وأنزل الله فى أبى طالب فقال
لرسول الله صلّى الله عليه وسلم انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من
يشاء* وأجيب أيضا بأنّ أبا طالب لو قال كلمة التوحيد لما نهى الله نبيه عن
الاستغفار له* وفى أنوار التنزيل الجمهور على انّ قوله تعالى انك لا تهدى
من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء نزلت فى أبى طالب فانه لما احتضر جاءه
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال يا عم قل لا اله الا الله كلمة أحجاج
لك بها عند الله قال يا ابن أخى لقد علمت انك لصادق ولكن أكره أن يقال جزع
عند الموت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لاستغفرنّ لك ما لم أنه عنه
فاستغفر له بعد موته حتى نزلت ما كان للنبىّ والذين آمنوا أن يستغفروا
للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم اصحاب الجحيم وقيل
اراد أن يستغفر لامّه فنهى عن ذلك كذا فى العمدة* وفى المواهب اللدنية وفى
الصحيح عن ابن عباس انه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ان ابا طالب
كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك قال نعم وجدته فى غمرات من النار فأخرجته
الى ضحضاح وفى رواية يونس عن ابن اسحاق زيادة قال يغلى منها دماغه حتى يسيل
على قدميه انتهى* وعن ابى سعيد الخدرى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم
ذكر عنده عمه ابو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح
يبلغ كعبه ويغلى منه دماغه* وعن ابن عباس ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم
قال اهون اهل النار عذابا ابو طالب وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه* روى
الاحاديث الثلاثة مسلم وروى البخارى ايضا حديث الضحضاح ولفظه ما اغنيت عن
عمك فانه كان يحوطك ويغضب لك قال نعم هو فى ضحضاح من النار ولولا انا لكان
فى الدرك الاسفل من النار قيل انّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم مسح ابا طالب
بعد موته وأنسى تحت قدميه ولذا ينتعل بنعلين من النار
وصية أبى طالب
وفى المواهب اللدنية* حكى عن هشام بن السائب الكلبى او ابنه انه قال لما
حضر ابا طالب الوفاة جمع اليه وجوه قريش فأوصاهم فقال يا معشر قريش انتم
صفوة الله من خلقه الى أن قال وانى اوصيكم بمحمد خيرا فانه الامين فى قريش
والصدّيق فى العرب وهو الجامع لكل ما اوصيكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان
وانكره اللسان مخافة الشنآن وايم الله كأنى انظر الى صعاليك العرب واهل
الوبر والاطراف والمستضعفين من الناس قد اجابوا دعوته وصدّقوا كلمته
واعظموا امره فخاض بهم غمرات الموت وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا
ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وانّ أعظمهم عليه أحوجهم اليه وأبعدهم منه
أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأصفت له فؤادها وأعطته قيادها يا معشر
قريش كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد سبيله الارشد
(1/300)
ولا يأخذ أحد بهديه الاسعد ولو كان لنفسى
مدّة ولا جلى تاخر لكففت عنه الهزاهز ولدفعت عنه الدواهى ثم هلك* وروى عن
علىّ انه قال لما مات أبو طالب أخبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموته
فبكى ثم قال اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل جبريل
بهذه الآية ما كان للنبىّ والذين آمنوا الآية وقال علىّ فأمرنى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم فاغتسلت وكان علىّ اذا غسل الميت اغتسل* قال ابن عباس
عارض رسول الله صلّى الله عليه وسلم جنازة أبى طالب وقال وصلتك رحم وجزاك
الله خيرا يا عمّ* وفى معالم التنزيل الكفر على أربعة أنواع كفر الانكار
وكفر الجحود وكفر النفاق وكفر العناد أمّا كفر الانكار فهو أن لا يعرف الله
بالقلب ولا يعترف باللسان وأمّا كفر الجحود فهو أن يعرف الله بقلبه ولكن لا
يقرّ بلسانه ككفر ابليس وكفر اليهود بمحمد صلّى الله عليه وسلم من هذا
القبيل قال الله تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به أى جحودا وأمّا كفر
النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولم يعتقد بالقلب وأمّا كفر العناد فهو أن يعرف
الله بقلبه ويعترف بلسانه ولكن لا يدين به ولا يكون منقادا ومطيعا له ككفر
أبى طالب فانه قال
ولقد علمت بأنّ دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا
ودعوتنى وعرفت أنك ناصحى ... ولقد صدقت وكنت فيه أمينا
وجميع الانواع الاربعة المذكورة سواء فى انّ الله تبارك وتعالى لا يغفر
لاصحابها اذا ماتوا عليها نعوذ بالله منها*
وفاة خديجة الكبرى
وفى هذه السنة العاشرة من النبوّة كانت وفاة خديجة الكبرى رضى الله عنها*
روى أنّ خديجة لما مرضت مرض الموت دخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فقال لها يا خديجة أما علمت انّ الله قد زوّجنى معك فى الجنة مريم بنت
عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون قالت فعل ذلك يا رسول الله قال
نعم قالت بالرفاء والبنين* قال أبو حاتم وأبو عمرو والدولابى ماتت خديجة
بمكة قبل هجرة المصطفى الى المدينة بثلاث سنين* وفى سيرة مغلطاى بخمس سنين
وقيل بأربع وقيل بعد الاسراء فكان عليه السلام يسمى ذلك العام عام الحزن
انتهى وحكى أبو عمرو أنّ خديجة توفيت فى شهر رمضان ودفنت بالحجون وهى ابنة
خمس وستين سنة وستة أشهر كذا فى الصفوة* وقال الطبرى فى السمط الثمين وهى
ابنة أربع وستين سنة وستة أشهر وللنبىّ صلّى الله عليه وسلم عند وفاتها تسع
وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما* وقال صاحب الصفوة ونزل صلّى
الله عليه وسلم فى حفرتها ولم يكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها* قال ابن
اسحاق هلكت خديجة وأبو طالب فى عام واحد وكان هلاكهما بعد عشر سنين مضت من
مبعث النبىّ صلّى الله عليه وسلم* وعن عروة ابن الزبير قال توفيت خديجة قبل
أن تفرض الصلاة وذكر الملا فى سيرته أنّ موت خديجة بعد موت أبى طالب بثلاثة
أيام وكذا فى سيرة اليعمرى وحياة الحيوان والسمط الثمين وأسد الغابة وزاد
فيه وقيل بعده بشهر وقيل كان بينهما شهر وخمسة أيام وقيل خمسون يوما وقيل
انها ماتت قبل أبى طالب انتهى ما فى أسد الغابة وقيل بخمسة أشهر فى رمضان
بعد المبعث بعشر سنين على الصحيح ماتت خديجة وكانت مدّة اقامتها معه صلّى
الله عليه وسلم بعد ما تزوّجها خمسا وعشرين سنة على الصحيح كذا فى المواهب
اللدنية أو قيل أربعا وعشرين سنة وستة أشهر وكان موتها قبل الهجرة بثلاث
سنين وثلاثة أشهر ونصف وقيل قبل الهجرة بسنة والله أعلم* وقال عروة ما ماتت
خديجة الا بعد الاسراء وبعد أن صلت الفريصة مع رسول الله صلّى الله عليه
وسلم كذا فى أسد الغابة* وفى كتاب الغزى توفيت خديجة فى دارها التى
(1/301)
تسمى دار خزيمة وكانت مسكن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم وفيها ولدت خديجة أولادها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يزل النبىّ صلّى الله عليه وسلم مقيما فيها حتى هاجر فأخذها عقيل ثم
اشتراها معاوية وهو خليفة فجعلها مسجدا يصلى فيه ويعرف اليوم بمولد فاطمة
وهو أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام* ثم بعد أيام من موت خديجة تزوّجه
عليه السلام بسودة كذا فى المواهب اللدنية روى عن عبد الله بن ثعلبة قال
لما توفى أبو طالب وخديجة وكان بينهما ثلاثة أيام كما مرّ وهو المشهور وقيل
شهر وخمسة أيام اجتمعت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مصيبتان فلزم
بيته وقلّ الخروج ونالت قريش منه ما لم تسكن تنال فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه
فقال يا محمد امض لما أردت واصنع ما كنت صانعا حين كان أبو طالب حيا فقام
أبو لهب بحمايته ومعونته ولم يتعرّض له أحد من خوف أبى لهب حتى جاء عقبة بن
أبى معيط وأبو جهل الى أبى لهب فقالا له أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك فقال
له أبو لهب يا محمد أين مدخل عبد المطلب قال مع قومه فخرج أبو لهب اليهما
فقال سألته فقال مع قومه فقالا يزعم أنه فى النار فقال أبو لهب يا محمد
أيدخل عبد المطلب النار فقال نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب
دخل النار فقال أبو لهب يا محمد والله لا برحت لك عدوّا أبدا وأنت تزعم أنّ
عبد المطلب فى النار فاشتدّ عليه أبو لهب وسائر قريش لما عرفوا وظاهر قوله
فقام أبو لهب بحمايته ومعاونته يخالف ما مرّ فى السنة الرابعة من النبوّة
من قوله تبالك ألهذا دعوتنا الى آخره*
خروجه عليه السلام الى الطائف والى ثقيف
وفى هذه السنة خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الطائف والى ثقيف بعد
ثلاثة أشهر من موت خديجة فى ليال يستنصرهم* وفى رواية لثلاث بقين من شوّال
سنة عشر من النبوّة لما ناله من قريش بعد موت أبى طالب وخديجة وهو مكروب
فلا جرم جعل الله الطائف متنفسا لاهل الاسلام ممن ضاق بمكة الى يوم القيامة
فهى راحة الامّة ومتنفس كل ذى ضيق وغمة سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن
تجد لسنة الله تبديلا* وروى عن محمد بن جبير بن مطعم قال لما توفى أبو طالب
بالغت قريش فى ايذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلّى
الله عليه وسلم حينئذ الى الطائف ومعه زيد بن حارثة وفى معالم التنزيل خرج
وحده وذلك فى ليال بقين من شوّال السنة العاشرة من النبوّة فأقام بالطائف
شهرا كذا فى حياة الحيوان* وقال ابن سعد عشرة أيام كذا فى المواهب اللدنية
لا يدع أحدا من أشراف ثقيف الاجاءه وكلمه ودعاه الى الله فلم يجيبوه الى
طلبته وقالوا يا محمدا خرج من بلدنا وألحق بمحابك من الارض قال محمد بن كعب
القرظى لما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الطائف عمد الى نفر من
ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم اخوة ثلاثة عبد يا ليل بمثناة تحتية
بعدها ألف ثم لام مكسورة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم لام ومسعود وحبيب بنو
عمرو بن عمير كذا فى المنتقى وفى المواهب اللدنية غير هذا وعند أحدهم امرأة
من قريش من بنى جمح فجلس اليهم فدعاهم الى الله عز وجل وكلمهم بما جاءهم به
من نصرته على الاسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم هو يمرط
ثياب الكعبة ان كان الله أرسلك وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك
وقال الثالث والله لا أكلملك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول
لانت أعظم خطرا من أن أردد عليك الكلام وان كنت تكذب ما ينبغى لى أن أكلمك
فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من حير ثقيف فقال لهم
اذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علىّ وكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن
يبلغ قومه ذلك فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى
اجتمع الناس عليه فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى انّ رجليه لتدميان* وفى
المواهب اللدنية قال موسى بن عقبة رجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضبت نعلاه
بالدماء وزاد غيره وكان اذا أذلقته الحجارة قعد الى الارض
(1/302)
فيأخذونه بعضديه فيقيمونه فاذا مشى رجموه
وهم يضحكون وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج فى رأسه شجاجا وألجأوا
النبىّ صلّى الله عليه وسلم الى حائط لعتبة وشيبة ابنى ربيعة ورجع عنه من
كان يتبعه من سفهاء ثقيف وعمد النبىّ صلّى الله عليه وسلم الى ظل شجرة فجلس
فيه محزونا وابنا ربيعة كانا فى الحائط ينظران اليه فلما رأيا ما لقيه من
سفهاء ثقيف تحرّكت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس فقالا
له خذ قطفا من هذا العنب وضعه فى ذلك الطبق ثم اذهب به الى ذلك الرجل وقل
له يأكل منه ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فلما وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده قال بسم الله الرحمن
الرحيم ثم أكل فنظر عداس الى وجهه ثم قال انّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذا
البلد فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن أى البلاد أنت وما دينك قال
أنا نصرانى وأنا رجل من أهل نينوى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمن
قرية الرجل الصالح يونس بن متى قال وما يدريك ما يونس بن متى قال ذلك أخى
كان نبيا وأنا نبىّ فأكب عداس على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل رأسه
ويديه وقدميه وأسلم وينظر اليه ابنا ربيعة فيقول أحدهما للآخر أما غلامك
فقد أفسده عليك فلما جاءهما عداس قالا له ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا
الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدى ما فى الارض خير من هذا الرجل لقد أخبرنى
بأمر لا يعلمه الا نبى ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الطائف
حين يئس من خير ثقيف*
ذكر وفود الجنّ
ولما نزل نخلة وهو موضع على ليلة من مكة صرف اليه سبعة من جنّ نصيبين مدينة
بالشام وقد قام فى جوف الليل يصلى وفى الصحيح انّ الذى آذنه صلّى الله عليه
وسلم بالجنّ ليلة الجنّ شجرة كذا فى المواهب اللدنية وأقام بنخلة أياما ثم
دخل مكة فى جوار مطعم بن عدىّ* وفى أسد الغابة ولما عاد من الطائف أرسل الى
مطعم بن عدىّ يطلب منه أن يجيره فأجاره فدخل المسجد معه وكان رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يشكرها له وكان دخوله من الطائف لثلاث وعشرين ليلة خلت
من ذى القعدة* وفى هذه السنة جاءت وفود الجنّ الى رسول الله صلى الله عليه
وسلم* فى حياة الحيوان لما بلغ عمره خمسين سنة وفى سيرة اليعمرى خمسين سنة
وثلاثة أشهر قدم عليه جنّ نصيبين فأسلموا* وفى الاستيعاب كان رجوعه من
الطائف الى مكة سنة احدى وخمسين من الفيل وفيها قدم عليه جنّ نصيبين بعد
ثلاثة أشهر* وعن ابن عباس قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طائفة
من أصحابه عامدين سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت
عليهم الشهب فرجعت الشياطين الى قومهم فقالوا ما لكم قالوا حيل بيننا وبين
خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء الا شىء
حدث فاضربوا مشارق الارض ومغاربها فانظروا ما هذا الذى حال بينكم وبين خبر
السماء فنهض سبعة نفر من أشراف جنّ نصيبين أو نينوى منهم زوبعة أمير الجنّ
فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا الى وادى نخلة فوافوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر* وفى المدارك وهو قائم فى جوف
الليل يصلى أو فى صلاة الفجر* وفى أنوار التنزيل روى أنهم وافوا رسول الله
صلّى الله عليه وسلم بوادى نخلة وهو موضع على ليلة من مكة عند منصرفه من
الطائف يقرأ فى تهجده انتهى* فلما سمعوا القرآن استمعوا له وهو يقرأ سورة
الجنّ كذا فى سيرة مغلطاى فأولئك حين رجعوا الى قومهم قالوا انا سمعنا
قرآنا عجبا يهدى الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنزل الله على
نبيه قل أوحى الىّ أنه استمع نفر من الجنّ كذا فى الصحيحين* وفى المواهب
اللدنية قال الحافظ ابن كثير هذا صحيح لكن قوله انّ الجنّ كان استماعهم تلك
الليلة فيه نظر فانّ الجنّ كان استماعهم فى ابتداء الايحاء* وفى أنوار
التنزيل فى سورة الاحقاف فى قوله تعالى قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا
أنزل من بعد موسى قيل انما قالوا ذلك
(1/303)
لانهم كانوا يهودا وما سمعوا بأمر عيسى وعن
عائشة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول انّ الملائكة تنزل فى
العنان وهو السحاب فتذكر الامر قضى فى السماء فتسترق الشياطين السمع فتوحيه
الى الكفار فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم رواه البخارى* وعن ابن
عباس قال كان الجنّ يستمعون الوحى فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا فيكون
ما سمعوه حقا ومازادوه باطلا كذا قاله أحمد وكانت النجوم لا يرمى بها قبل
ذلك فلما بعث النبىّ صلّى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يقعد مقعدا الارمى
بشهاب يحرق ما أصاب فشكوا ذلك الى ابليس فقال ما هذا الامن أمر حدث فبعث
جنوده فاذاهم بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم يصلى بين جبلى نخلة فأتوه
فأخبروه فقال ما هذا الحدث الذى حدث فى الارض كذا فى الصفوة* وفى معالم
التنزيل روى أنهم لما رجموا بالشهب بعث ابليس سراياه ليعرف الخبر فكان أوّل
بعث بعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وسادتهم وبعث الى تهامة يقال
انهم كانوا من بنى الشيصبان وهم أكثر الجنّ عددا وهم عامّة جنود ابليس فلما
رجعوا قالوا انا سمعنا قرآنا عجبا* واختلفوا فى عدد أولئك النفر فقال ابن
عباس كانوا سبعة من جنّ نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم رسلا
الى قومهم* وفى العمدة ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين وقال قوم
كانوا تسعة وكان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن وفى العمدة أيضا وهم
تسعة من جنّ نصيبين استمعوا القرآن وأجابوا دعوة النبىّ صلّى الله عليه
وسلم وأسماؤهم حسا وبسا وشاصرا وناصرا وأزد وأنين وأحتب وصخب وزوبعة* وفى
الصفوة وهذا الحديث أى حديث رجم الشياطين بالشهب يدل على انّ النجوم ولم
يرم بها الا لمبعث نبينا صلّى الله عليه وسلم وقد روى الزهرى أنه كان يرمى
بها قبل ذلك ولكنها غلظت حين بعث النبىّ صلّى الله عليه وسلم وقد مرّ مثله
فى هذا الركن الثانى فى مبعثه صلّى الله عليه وسلم* وفى المدارك عن سعيد
ابن جبير ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجنّ ولا رآهم وانما
كان يتلو فى صلاته فمرّوا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله
باستماعهم وقيل بل أمر الله رسوله أن ينذرهم ويقرأ عليهم فصرف اليه نفرا
منهم وقال انى أمرت أن أقرأ على الجنّ وكان ذلك بمكة بشعب الحجون الى آخر
الحديث المروى عن عبد الله بن مسعود كما سيجىء الآن* وفى المنتقى قال
العلماء انّ الجنّ أتوا النبىّ صلّى الله عليه وسلم مرّتين احداهما بنخلة
كما مرّ آنفا والثانية بمكة وهى ما روى انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أمر أن ينذر الجنّ ويدعوهم الى الله ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله اليه
نفرا من الجنّ من نينوى وجمعوهم له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انى
أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فأيكم يتبعنى قالها ثلاثا فالصحابة أطرقوا
فاتبعه عبد الله بن مسعود وقال عبد الله ولم يحضر معنا أحد فانطلقنا حتى
اذا كنا بأعلا مكة دخل النبىّ صلّى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون
وخط لى خطا وقال لى لا تخرج عنه حتى أعود اليك ثم انطلق حتى قام فافتتح
القرآن فجعلت أرى مثل النسور تهوى وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله
صلّى الله عليه وسلم وغشيته أسودة كثيرة حالت بينى وبينه حتى ما أسمع صوته
ثم طفقوا يتقطعون كقطع السحاب ذاهبين ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم
مع الفجر ثم انطلق الىّ وقال أنمت قلت لا يا رسول الله ولقد هممت مرارا أن
أستغيث بالناس حين سمعتك تقرع بعصاك تقول اجلسوا قال ولو خرجت لم آمن عليك
أن يختطفك بعضهم ثم قال هل رأيت شيئا قلت نعم رأيت رجالا سودا مستثفرى ثياب
بيض فقال أولئك جنّ نصيبين* وفى المدارك كانوا اثنى عشر ألفا والسورة التى
قرأها عليهم اقرأ باسم ربك انتهى قال صلّى الله عليه وسلم سألونى المتاع
والمتاع الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وورثة وبعرة فقالوا يا رسول الله
يقذرها الناس فنهى صلّى الله عليه
(1/304)
وسلم أن يستنجى بالعظم والروث قال فقلت يا
رسول الله وما يغنى ذلك عنهم قال انهم لا يجدون عظما الا وجدوا عليه لحمه
يوم أكل ولاروثة الا وجدوا فيها حبها يوم أكلت فقلت يا رسول الله سمعت لغطا
شديدا قال ان الجنّ تدارأت فى قتيل قتل بينهم فتحا كموا الىّ فقضيت بينهم
بالحق ثم تبرّز رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم أتانى فقال هل معك ماء
فقلت يا رسول الله ليس معى الا أداوة فيها شىء من نبيذ التمر فاستدعاه
فصببت على يده فتوضأ فقال تمرة طيبة وماء طهور كذا فى المنتقى وفى كتاب
الغزى بأعلا مكة مسجد يقال له مسجد الجنّ ومسجد البيعة أيضا يقال ان الجنّ
بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك وفى مقابل مسجد الجنّ مسجد يقال
له مسجد الشجرة يقال ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم دعا شجرة كانت فى ذلك
المسجد فأقبلت تخط الارض حتى وقفت بين يديه ثم أمرها فرجعت
* تزوّجه صلّى الله عليه وسلم سودة وعائشة
وفى شوّال هذه السنة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم سودة وعائشة فى
أسد الغابة لابن الاثير تزوّج صلّى الله عليه وسلم بعد خديجة سودة بنت زمعة
قال الزهرى تزوّجها قبل عائشة وهو بمكة وبنى بها بمكة أيضا وقال غيره تزوّج
عائشة قبل سودة وانما ابتنى بسودة قبل عائشة لصغر عائشة وتزوّج عائشة بمكة
وبنى بها بالمدينة سنة اثنتين* وفى المواهب اللدنية تزوّج سودة بمكة بعد
موت خديجة قبل أن يعقد على عائشة هذا قول قتادة وأبى عبيدة ولم يذكر ابن
قتيبة غيره ويقال تزوّجها بعد عائشة ويجمع بين القولين بأنه صلّى الله عليه
وسلم عقد على عائشة قبل سودة ودخل بسودة قبل عائشة والتزويج يطلق على كل
واحد من العقد والدخول وان كان المتبادر الى الفهم من التزويج العقد دون
الدخول وفى سيرة اليعمرى تزوّج عائشة بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث
وهى بنت ست أو سبع وللبخارى توفيت خديجة قبل مخرج النبىّ صلّى الله عليه
وسلم بثلاث سنين فلبث سنتين أو قريبا من ذلك ونكح عائشة وهى بنت ست ثم بنى
بها وهى بنت تسع سنين روى أنه لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة
عثمان بن مظعون فقالت يا رسول الله الا تزوّج قال من قالت ان شئت بكرا وان
شئت ثيبا قال فمن البكر قالت ابنة أحب خلق الله اليك بنت أبى بكر قال ومن
الثيب قالت سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال فاذهبى
فاذكريهما علىّ فدخلت بيت أبى بكر وقالت يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم
من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت أرسلنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أخطب عليه عائشة قالت انتظرى أبا بكر حتى يأتى فجاء أبو بكر فقالت ماذا
أدخل الله عليكم من الخير والبركة قال وما ذاك قالت أرسلنى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قال وهل تصلح له انما هى ابنة أخيه فرجعت
الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك قال ارجعى اليه فقولى له
أنا أخوك وأنت أخى فى الاسلام وابنتك تصلح لى فرجعت فذكرت ذلك له فقال
انتظرى قالت أمّ رومان ان مطعم بن عدى قد كان ذكرها على ابنه فو الله ما
وعد وعدا قط فاخلفه قط تعنى أبا بكر فدخل أبو بكر على مطعم بن عدى وعنده
امرأته أمّ الفتى فقالت يا ابن أبى قحافة لعلك مصبئ صاحبنا تدخله فى دينك
الذى أنت عليه ان تزوّج ابنه ابنتك فقال أبو بكر لمطعم بن عدى أقول هذه
تقول قال انها تقول ذلك فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان فى نفسه من عدته
التى وعده فرجع فقال لخولة ادعى لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدعته
فزوّجها اياه وعائشة يومئذ بنت ست سنين كما مرّ ثم خرجت خولة فدخلت على
سودة بنت زمعة فقالت ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك
قالت أرسلنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخطبك عليه قالت وددت أن يكون
ذلك ادخلى على أبى واذكرى ذلك له وكان شيخا كبيرا وقد تخلف عن الحج فدخلت
عليه فذكرت له ذلك قال كفؤ كريم فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فزوّجها اياه فجاء أخوها عبد الله بن زمعة من الحج فجعل
(1/305)
يحثى فى رأسه التراب فقال بعد أن أسلم
لعمرى انى سفيه يوم أحثى فى رأسى التراب أن تزوّج رسول الله صلى الله عليه
وسلم سودة بنت زمعة كذا فى المنتقى* روى ان سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد
شمس كانت قد أسلمت بمكة فى أوائل البعثة وكانت قبل النبىّ صلّى الله عليه
وسلم زوجة ابن عمها سكران بن عمرو بن عبد شمس وولدت له ابنا اسمه عبد
الرحمن قتل فى حرب جلولا وهو اسم قرية من قرى فارس وتلك الحرب وقعت هناك
وسكران عدّ من الصحابة وكانت سودة هاجرت مع زوجها سكران الى الحبشة وبعد
مدّة عادت الى مكة ورأت فى المنام ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم أتاها
ووضع رجله على رقبتها فلما انتبهت أخبرت زوجها قال ان صدقت فانا أموت
ويتزوّجك محمد ثم رأت فى المنام انها اتكأت ووقع عليها القمر من السماء
فأخبرت بها زوجها قال ان كنت صدقت فأنا أموت قريبا وتتزوجين زوجا آخر فمرض
فى ذلك اليوم ومات بعد أيام ثم تزوّجها النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى
السنة العاشرة من النبوّة بعد وفاة خديجة مرويات سودة فى الكتب المتداولة
خمس أحاديث واحد منها فى البخارى والباقية مروية فى السنن الاربع وتوفيت فى
آخر خلافة عمر وقيل فى زمان معاوية والاوّل أشهر*
ابتداء اسلام الانصار وبيعة العقبة الاولى
وفى السنة الحادية عشر من النبوّة كان ابتداء اسلام الانصار روى ان رسول
الله صلّى الله عليه وسلم كان يخرج ويتبع آثار الناس فى منازلهم بعكاظ
ومجنة وذى المجاز فى الموسم ويقول من يؤوينى من ينصرنى حتى أبلغ رسالة ربى
فله الجنة وفى سيرة مغلطاى فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى انه ليسأل عن
القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردّونه أقبح ردّ ويؤذونه ويقولون قومك أعلم
بك وكان ممن سمى لنا من تلك القبائل بنو عامر بن صعصعة ومحارب بن حفصة
وفزارة وغسان ومرّة وحنيفة وسلّم وعبس وبنو نضر والبكاء وكندة وكعب والحارث
بن كعب وعذرة والحضارمة الى أن أراد الله اطهار دينه فساقه عليه الصلاة
والسلام الى هذا الحى من الانصار وهو لقب اسلامى لنصرتهم النبىّ صلّى الله
عليه وسلم وانما كانوا يسمون أولاد قيلة والاوس والخزرج فأسلم اثنان أسعد
بن زرارة وقيس بن ذكوان انتهى كلام مغلطاى فخرج فى هذا الموسم يعرض نفسه
على القبائل كما كان يصنع فى كل موسم فبينا هو عند العقبة اذ لقى جماعة من
الخزرج فقال من انتم قالوا من الخزرج قال أفلا تجلسون حتى أكملكم قالوا بلى
فجلسوا معه فدعاهم الى الله عز وجل وعرض عليهم الاسلام وتلا عليهم القرآن
وكان أولئك قد سمعوا من اليهود انه قد أظلنا زمان نبىّ يبعث* وفى المواهب
اللدنية كان من صنع الله ان اليهود كانوا معهم فى بلادهم وكانوا أهل كتاب
وكان الاوس والخزرج أكثر منهم فكانوا اذا كان بينهم شىء قالوا ان نبيا
سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه فلما كلمهم قال بعضهم لبعض
والله انه النبىّ الذى يعدكم به اليهود فلا يسبقنكم اليه فأسلم منهم ستة
نفر كلهم من الخزرج وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث بن رفاعة
وهو ابن عفراء ورافع بن مالك بن العجلان وقطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن
عامر بن نابى وجابر بن عبد الله بن ذئاب فقال لهم النبىّ صلّى الله عليه
وسلم تمنعون ظهرى حتى أبلغ رسالة ربى فقالوا يا رسول الله انما كانت بعاث
العام الاوّل يوم من أيامنا اقتتلنا به وان تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا
عليك اجتماع فدعنا حتى نرجع الى عشائرنا لعل الله يصلح ذات بيننا وندعوهم
الى ما دعوتنا وموعدنا وموعدك الموسم العام القابل وانصرفوا الى بلادهم
ويسمى هذا ابتداء اسلام الانصار ومقتضى ما سنذكره بعد المعراج أن تسمى هذه
بيعة العقبة الاولى كذا فى الوفاء ولما قدموا المدينة على قومهم ذكروا لهم
رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودعوهم الى الاسلام حتى فشافيهم الاسلام فلم
يبق دار من دور الانصار الا فيها ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم*
ذكر قصة المعراج
وفى السنة الثانية عشر من النبوّة وقع المعراج وما تضمنه وفرضت الصلوات
الخمس فى الاسراء وستجىء كيفيتها وفى الاستيعاب
(1/306)
وسيرة مغلطاى بعد سنة ونصف من حين رجوعه من
الطائف قاله ابن قتيبة* وقال ابن شهاب عن ابن المسيب قبل خروجه الى المدينة
بسنة* وفى المواهب اللدنية لما كان فى شهر ربيع الاوّل أسرى بروحه وجسده
يقظة من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى ثم عرج به من المسجد الاقصى الى
فوق سبع سموات ورأى ربه بعين رأسه وأوحى اليه ما أوحى وفرض عليه الصلوات
الخمس ثم انصرف فى ليلته الى مكة فأخبر بذلك فصدّقه الصدّيق وكل من آمن
بالله وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس فمثله الله له فجعل ينظر
اليه ويصفه وسيجىء تفصيل ذلك كله* اختلف العلماء فى الاسراء هل هو اسراء
واحد فى ليلة واحدة يقظة أو مناما أو اسرا آن كل واحد فى ليلة مرّة بروحه
وبدنه يقظة ومرّة مناما أو يقظة بروحه وجسده من المسجد الحرام الى المسجد
الاقصى ثم مناما من المسجد الاقصى الى العرش أو هى أربع اسرا آت* وفى سيرة
مغلطاى اختلف فى المعراج والاسراء هل كانا فى ليلة واحدة أم لا وهل كانا أو
أحدهما يقظة أو مناما وهل كان المعراج مرّة أو مرّات والصحيح ان الاسراء
كان فى اليقظة بجسده وانه مرّات متعدّدة وانه رأى ربه بعين رأسه صلّى الله
عليه وسلم* واختلف فى تاريخ الاسراء فى أى سنة كان وفى أى شهر وفى أى يوم
من الشهر وفى أى ليلة من الاسبوع فأما سنة الاسراء فقال الزهرى كان ذلك بعد
المبعث بخمس سنين حكاه القاضى عياض ورجحه القرطبى والنووى وقيل قبل الهجرة
بسنة قاله ابن حزم وادّعى فيه الاجماع رواه ابن الاثير فى أسد الغابة عن
ابن عباس وأنس وحكاه البغوى فى معالم التنزيل عن مقاتل وقيل قبل الهجرة
بسنة وخمسة أشهر قاله السدّى وأخرجه من طريق الطبرى والبيهقى فعلى هذا يكون
فى شوّال وفى أسد الغابة قال السدّى قبل الهجرة بستة أشهر وقيل كان قبل
الهجرة بسنة وثلاثة أشهر فعلى هذا يكون فى ذى الحجة وبه جزم ابن فارس وقيل
قبل الهجرة بثلاث سنين ذكره ابن الاثير كذا فى المواهب اللدنية* وأما شهر
الاسراء فقيل ربيع الاوّل قاله ابن الاثير والنووى فى شرح مسلم وقيل ربيع
الآخر قاله الحربى والنووى فى فتاويه وقيل رجب حكاه ابن عبد البرّ وقبله
ابن قتيية وبه جزم النووى فى الروضة وعن الواقدى رمضان وعن السدّى
والماوردى شوّال وعن ابن فارس ذو الحجة كما مرّ وأما ان الاسراء فى أى يوم
من الشهر كان فعن ابن الاثير ليلة سبع من ربيع الاوّل وعن الحربى فى ثالث
عشرى ربيع الآخر وقيل ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر وعن الواقدى فى سابع
عشر من رمضان وأما ليلة الاسراء فقيل ليلة الجمعة وقيل ليلة السبت وعن ابن
الاثير ليلة الاثنين وقال ابن دحية ان شاء الله يكون ليلة الاثنين ليوافق
المولد والمبعث والمعراج والهجرة والوفاة فان هذه أطوار الانتقالات وجودا
ونبوّة ومعراجا وهجرة ووفاة كذا فى المواهب اللدنية* وفى سيرة اليعمرى ولما
بلغ احدى وخمسين سنة وتسعة أشهر أسرى به من بين زمزم والمقام وكذا فى حياة
الحيوان وانما كان ليلا لتظهر الخصوصية بين جليس الملك ليلا وجليسه نهارا
واختلف فى الموضع الذى أسرى به منه صلّى الله عليه وسلم فقيل أسرى به من
بيته وقيل من بيت أمّ هانئ بنت أبى طالب لما روى أنه صلّى الله عليه وسلم
كان نائما فى بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسرى به ورجع من ليلته وقص
القصة عليها وقال مثل لى النبيون فصليت بهم وبيتها بين الصفا والمروة ومن
قال هذين القولين قال الحرم كله مسجد والمراد بالمسجد الحرام فى الآية
الحرم وعن ابن عباس الحرم كله مسجد وقيل أسرى به من المسجد الحرام والمراد
بالمسجد فى الآية هو المسجد نفسه وهو ظاهر فقد قال صلّى الله عليه وسلم
بينا انا فى المسجد الحرام فى الحجر عند البيت بين النائم واليقظان اذ
أتانى جبريل بالبراق وقد عرج بى الى السماء فى تلك الليلة قيل الحكمة فى
المعراج ان الله تعالى أراد
أن يشرف بأنوار محمد صلّى الله عليه وسلم السموات كما شرف ببركاته الارضين
فسرى به الى المعراج وسئل
(1/307)
أبو العباس الدينورى لم أسرى بالنبىّ صلّى
الله عليه وسلم الى البيت المقدس قبل ان عرج به الى السماء فقال لان الله
تعالى كان يعلم ان كفار قريش كانوا يكذبونه فيما يخبرهم به من أخبار
السموات فأراد أن يخبرهم من الارض قد بلغوها وعاينوها وعلموا ان النبىّ
صلّى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فلما أخبرهم بأخبار بيت المقدس
على ما هو عليه لم يمكنهم ان يكذبوه فى أخبار السماء بعد أن صدّقوه فى
أخبار الارض* واختلف السلف والعلماء فى أنه هل كان اسراء بروحه أو جسده على
ثلاثة أقوال أحدها انه ذهبت طائفة الى انه اسراء بالروح وانه رؤيا منام مع
اتفاقهم على أن رؤيا الانبياء وحى وحق والى هذا ذهب معاوية وحكى عن الحسن
فى غير المشهور وحجتهم قوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التى أريناك الآية وما
حكوا عن عائشة ما فقدت جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقوله صلّى الله
عليه وسلم بينا أنا نائم وقول أنس وهو نائم فى المسجد الحرام وذكر القصة ثم
قال فى آخرها فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام* وفى العروة الوثقى وحديث عائشة
صحيح فى المعراج الذى اتفق للنبىّ صلّى الله عليه وسلم على فراشها فى
المدينة وقالت ما فقدت جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقول ابن عباس
أيضا صحيح فى المعراج المكى الذى أخبر به نص التنزيل بقوله سبحان الذى أسرى
بعبده الآية لقوله تعالى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى* والثانى انه
ذهب معظم السلف والمسلمين الى انه اسرى بروحه وجسده وفى اليقظة وهذا هو
الحق وهو قول ابن عباس وجابر وانس وحذيفة وعمر وابى هريرة ومالك بن صعصعة
وابى حبة البدرى وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيب وابن
شهاب وابن زيد والحسن فى المشهور وابراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج
وهو قول الطبرى وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين وهذا قول أكثر
المتأخرين من الفقهاء والمحدّثين والمتكلمين والمفسرين* والثالث انه فى
المنام قالت طائفة كان الاسراء بالجسد يقظة الى بيت المقدس والى السماء
بالروح فى المنام قال القاضى عياض الحق والصحيح انه اسراء بالجسد والروح فى
القصة كلها وعليه تدل الآية وصحيح الاخبار ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة الى
التأويل الا عند الاستحالة وليس فى الاسراء بجسده وحال يقظته استحالة اذ لو
كان منا ما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده وقوله ما زاع البصر وما طغى ولو
كان منا ما لما كان فيه آية ولا معجزة ولما استبعده الكفار ولا كذبوه فيه
ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم وافتبتنوا به اذ مثل هذا من المنامات لا ينكر
بل لم يكن ذلك منهم الا وقد علموا ان خبره انما كان عن جسمه وحال يقظته الى
ما ذكر فى الحديث من ذكر صلاته بالانبياء ببيت المقدس فى رواية انس أو فى
السماء على ما روى غيره وذكر مجىء جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح
السماء فيقال من معك فيقول محمد ولقائه الانبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم
به وشأنه فى فرض الصلاة ومراجعته مع موسى فى ذلك ووصوله الى سدرة المنتهى
ودخوله الجنة ورؤيته فيها ما ذكره* قال ابن عباس هى رؤيا عين رآها النبىّ
صلّى الله عليه وسلم لا رؤيا منام* وعن الحسن بينا أنا جالس فى الحجر جاءنى
جبريل فهمزنى بعقبه فقمت فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعى وذكر ذلك ثلاثا
فقال فى الثالثة فأخذ بعضدى فجرّنى الى باب المسجد فاذا بدابة وذكر خبر
البراق* وعن أم هانئ قالت ما أسرى برسول الله صلّى الله عليه وسلم الا وهو
فى بيتى تلك الليلة صلّى العشاء الآخرة ونام فلما كان قبيل الفجر أهبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلّى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانئ
لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادى ثم جئت بيت المقدس وصليت
فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون فهذا كله بين فى انه بجسمه صلّى
الله عليه
وسلم* وعن أبى بكر من رواية شدّاد بن أوس عنه انه قال للنبىّ صلّى الله
عليه وسلم ليلة اسرى به طلبتك يا رسول الله البارحة فى مكانك فلم أجدك
فأجابه ان جبريل حمله الى المسجد الاقصى
(1/308)
وعن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم صليت ليلة أسرى بى مقدّم المسجد ثم دخلت الصخرة فاذا بملك قائم معه
آنية ثلاث وذكر الحديث وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة فتحمل على ظواهرها
وعن أبى ذر عنه صلّى الله عليه وسلم فرج سقف بيتى وأنا بمكة فنزل جبريل
فشرح صدرى ثم غسله بماء زمزم الى آخر القصة ثم أخذ بيدى فعرج بى قيل الحق
ان المعراج مرّتان مرّة فى النوم وأخرى فى اليقظة قال محيى السنة وما أراه
الله فى النوم قبل الوحى ثم عرج به فى اليقظة بعد الوحى بسنة تحقيقا لرؤياه
كما انه رأى فتح مكة فى المنام سنة ست من الهجرة ثم كان تحقيقه سنة ثمان
كذا فى شرح المشكاة للطيبى روى ان النبى صلّى الله عليه وسلم حدّث عن ليلة
أسرى به قال بينا هو يصلى فى الحطيم أو فى الحجر مضطجعا اذ أتاه آت فشق ما
بين ثغرة نحره الى شعر عانته فاستخرج قلبه ثم أتى بطست من ذهب مملوءة
ايمانا فغسل قلبه ثم حشى ثم أعيد الى مكانه* قيل الحكمة فى شق الصدر مرّتين
أما فى الصغر فليصير قلبه كقلوب الانبياء فى الانشراح وأما فى الاسراء
فليصير حاله كحال الملائكة وقيل شرح الصدر فى صباه لاستخراج الهوى منه وفى
الاسراء لاستدخال الايمان فيه ثم أتى بدابة طويلة بيضاء تسمى البراق وفى
حياة الحيوان كان البراق أبيض وبغلته شهباء وهى التى أكثرها بياض اشارة الى
تخصيصه بأشرف الالوان وسمى براقا لنصوع لونه وشدّة بريقه وقيل لسرعة حركته
تشبيها ببرق السحاب* وقال القاضى غياض لكونها ذات لونين وفى الصحيح انه
دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض بضع خطوه عند أقصى طرفه* قال صاحب المنتقى
الحكمة فى كونه على هيئة بغل ولم يكن على هيئة فرس التنبيه على أن الركوب
فى سلم وأمن لا فى حرب وخوف أو لاظهار الآية فى الاسراع العجيب فى دابة لا
يوصف شكلها بالاسراع ويؤخذ من قوله يضع خطوه عند أقصى طرفه انه أخذ من
الارض الى السماء فى خطوة واحدة والى السموات السبع فى سبع خطوات وبه يردّ
على من استبعد من المتكلمين احضار عرش بلقيس فى لحظة واحدة وقال انه أعدم
ثم أوجد وعلله بأن المسافة البعيدة لا يمكن قطعها فى هذه اللحظة وهذا أوضح
دليل على الرد عليه وكانت مضطربة الاذنين وجهها كوجه الانسان وجسدها كجسد
الفرس ناصيتها من ياقوت أحمر عيناها كالزهرة أذناها من زمرد أخضر* وفى
رواية أذناها كاذن الفيل وعنقها كعنق البعير وصدرها كصدر البغل* وفى رواية
وصدرها كأنه من ياقوت أحمر وظهرها كأنه صفرة البيضة يبرق من غاية صفائه لها
جناحان كجناح النسر فيهما من كل لون نصفها الاوّل من كافور والآخر من مسك
وقوائمها كقوائم الثور وفى رواية كقوائم الفرس وفى رواية كقوائم البعير
وحوافرها كحوافر الثور وفى رواية أظلافها كظلف البقر وذنبها كذنب البقر وفى
رواية كذنب البعير وفى رواية كذنب الغزال لا ذكر ولا أنثى عدوها كالريح
وخطوها كالبرق لجامها وسرجها من در مضروب على سرجها حجلة من نور كأنها
ياقوت أحمر وفى رواية عليها سرج من سروج الجنة وفى رواية وعلى فخذيها
ريشتان يستران ساقيها* وفى زبدة الاعمال لها جناحان فى فخذيها قيل هى
البراق التى ركبها جبريل والانبياء عليهم السلام يركبونها* وفى حياة
الحيوان روى ان ابراهيم عليه السلام كان يزور ولده اسماعيل على البراق وانه
ركب هو واسماعيل وهاجر حين أتى بهما الى البيت الحرام ومن غاية سرعته وخفة
مشيه يضع قدميه أو خطوه عند أقصى طرفه وفى رواية يقع حافره عند أقصى طرفه
وفى رواية عند منتهى طرفه وفى رواية خطوها عند منتهى البصر لا تمرّ بشىء
ولا يجد ريحها شىء الا حيى ثم ان البراق وان كان يركبها الانبياء لكن لم
تتصف بوضع الحافر عند منتهى طرفها الا عند ركوب النبىّ صلّى الله عليه وسلم
كذا فى المنتقى* وفى رواية أتاه جبريل ومعه خمسون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح
ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بيت أمّ هانئ ومعه
(1/309)
ميكائيل فقال قم يا محمد فان الجبار يدعوك
وأخذ جبريل بيده وأخرجه من المسجد الحرام فاذا هو بالبراق واقفا بين الصفا
والمروة فقال له جبريل اركب يا محمد هذه براق ابراهيم التى كان يجئ عليها
الى طواف الكعبة فأخذ جبريل ركابها وميكائيل عنانها فأراد النبىّ صلّى الله
عليه وسلم أن يركبها وفى رواية فذهب يركبها فاستصعبت عليه قيل استصعابها
لبعد العهد بالانبياء لطول الفترة بين عيسى ومحمد وهذا مبنى على أن
الانبياء عليهم السلام ركبوها وفيه خلاف وقيل لانها لم تذلل قبل ذلك ولم
يركبها أحد وقيل تيها وزهوا بركوب النبىّ صلّى الله عليه وسلم كذا فى مزيل
الخفاء فقال لها جبريل اسكنى فو الله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد
وفى رواية قال لها جبريل أبمحمد تفعلى هذا فارفض عرقا كذا فى الشفاء فركبها
النبىّ صلّى الله عليه وسلم* وفى حياة الحيوان اختلف الناس هل ركب جبريل
معه عليه فقيل نعم كان رديفه صلّى الله عليه وسلم وقيل لا لان النبىّ صلّى
الله عليه وسلم المخصوص بشرف الاسراء وانطلق به جبريل حتى أتى به بيت
المقدس فربطها بالحلقة التى ربط بها الانبياء دوابهم ثم دخل المسجد الاقصى
فصلى بهم ركعتين فانطلق به جبريل الى الصخرة فصعد به عليها فاذا معراج الى
السماء لم ير مثله حسنا ومنه تعرج الملائكة وقيل تعرج منه الارواح اذا قبضت
فليس شىء أحسن منه اذا رآه أرواح المؤمنين لم تتمالك أن تخرج وهو الذى يمدّ
اليه ميتكم عينيه اذا احتضر كذا فى سيرة ابن هشام أصله وفى رواية أحد طرفيه
على صخرة بيت المقدس وأعلاه ملصق وفى رواية والآخر ملصق بالسماء احدى
جنبتيه ياقوتة حمراء والاخرى زبرجدة خضراء درجة له من فضة ودرجة من ذهب
ودرجة من زمرّد مكال بالدرّ واليواقيت* وفى كيفية عروجه الى السماء اختلاف
قيل عرج به الى السماء على البراق اظهارا لكرامته ولم يزل راكبا اظهارا
لقدرته تعالى وقيل نزل أيضا راكبا على البراق كما روى عن حذيفة ما زايل ظهر
البراق حتى رجع وقيل احتمله جبريل على جناحه ثم ارتفع به الى السماء من ذلك
المعراج حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك
قال محمد قيل وقد أرسل اليه قال نعم قيل مرحبا فنعم المجىء جاء ففتح فلما
دخل فاذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة اذا نظر قبل يمينه ضحك
واذا نظر قبل يساره بكى فقال جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلم فردّ عليه
السلام ثم قال مرحبا بالابن الصالح والنبىّ الصالح ثم قال جبريل هذا آدم
وهذه الاسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين هم أهل الجنة والاسودة
التى عن شماله أهل النار ثم صعد الى السماء الثانية وهكذا كان يستفتح جبريل
فى كل سماء فيفتح فيدخل فيرى فيها نبيا ففى الثانية يحيى وعيسى وهما ابنا
خالة وفى الثالثة يوسف وفى الرابعة ادريس وفى الخامسة هارون وفى السادسة
موسى فلما اجتاز عنه النبىّ صلّى الله عليه وسلم بكى قيل له ما يبكيك قال
أبكى لان غلاما بعث بعدى يدخل الله الجنة من أمّته أكثر ممن يدخلها من
أمّتى ثم صعد الى السماء السابعة فرأى فيها ابراهيم ثم رفعت له سدرة
المنتهى فاذا نبقها مثل قلال هجر وورقها كاذان الفيلة فاذا أربعة انهار
نهران باطنان ونهران ظاهران قال جبريل أما الباطنان فنهران فى الجنة وأما
الظاهران فالنيل والفرات* وفى الكشاف سدرة المنتهى هى شجرة نبق فى السماء
السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر وورقها كآذان الفيول تتبع من أصلها
الانهار التى ذكرها الله فى كتابه يسير الراكب فى ظلها سبعين عاما لا
يقطعها* وفى المدارك وجه تسميتها كأنها فى منتهى الجنة وآخرها وقيل لم
يجاوزها أحد واليها ينتهى علم الملائكة وغيرهم ولا يعلم أحد ما وراءها وقيل
تنتهى اليها أرواح الشهداء* وفى بعض الروايات انها فى السماء السادسة* قال
القاضى عياض كونها فى السابعة هو الاصح وقال النووى يمكن الجمع بأن أصلها
فى السادسة ومعظمها فى السابعة ثم رفع له البيت المعمور وهو بيت فى السماء
السابعة محاذ
(1/310)
للكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا
يعودون اليه هكذا فى الصحيحين وغيرهما من كتب الاحاديث يذكر البيت المعمور
بعد سدرة المنتهى وأما فى الكشاف وغيره من كتب التفاسير فالبيت المعمور
الضراح فى السماء الرابعة حيال الكعبة وقيل فى الاولى وقيل فى السادسة
ولمسلم فى صحيحه بعد صعوده الى السماء السابعة رأى فيها ابراهيم مسند اظهره
الى البيت المعمور وسلم على كل منهم اذا رآه وهو يردّ ثم يقول مرحبا بالاخ
الصالح والنبىّ الصالح الا آدم وابراهيم فانهما قالا بالابن الصالح كما مرّ
فى السماء الدنيا* وفى رواية عن طريق ابن عباس ثم عرج به حتى ظهر مستوى
يسمع فيه صريف الاقلام ثم أتى باناء من خمر واناء من عسل واناء من لبن فأخذ
اللبن فقال جبريل هى الفطرة التى أنت عليها وأمتك* وفى رواية بعد استصعاب
البراق فركبها حتى أتى الحجاب الذى يلى الرحمن تعالى فبينا هو كذلك اذ خرج
ملك من الحجاب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا جبريل من هذا قال
والذى بعثك بالحق انى لا قرب الخلق مكانا وان هذا الملك ما رأيته منذ خلقت
قبل ساعتى هذه ولما جاوز سدرة المنتهى قال له جبريل تقدّم يا محمد فقال له
النبىّ صلّى الله عليه وسلم تقدّم أنت يا جبريل أو كما قال قال جبريل يا
محمد تقدّم فانك أكرم على الله منى فتقدّم النبىّ صلّى الله عليه وسلم
وجبريل على أثره حتى بلغه الى حجاب منسوج بالذهب فحركه جبريل فقيل من هذا
قال جبريل قيل ومن معه قال محمد قال ملك من وراء الحجاب الله أكبر الله
أكبر قيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر أنا أكبر فقال ملك أشهد أن لا
اله الا الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا الله لا اله الا أنا فقال
ملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أرسلت محمدا
فقال ملك حىّ على الصلاة حىّ على الفلاح فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى دعا
الىّ عبدى فأخرج ملك يده من وراء الحجاب فرفعه فتخلف جبريل عنه هناك* وفى
رواية فما زال يقطع مقاما بعد مقام وحجابا بعد حجاب حتى انتهى الى مقام
تخلف عنه فيه جبريل فقال يا جبريل لم تخلفت عنى قال يا محمد وما منا الا له
مقام معلوم لو دنوت أنملة لاحترقت وفى هذه الليلة بسبب احترامك وصلت الى
هذا المقام والا فمقامى المعهود عند السدرة فمضى النبىّ صلّى الله عليه
وسلم وحده وكان يقطع الحجب الظلمانية حتى جاوز سبعين ألف حجاب غلظ كل حجاب
مسيرة خمسمائة سنة وما بين كل حجاب أيضا مسيرة خمسمائة سنة فوقف البراق عن
المسير فظهر له رفرف أخضر غلب نوره على نور الشمس فرفع النبىّ صلّى الله
عليه وسلم على ذلك الرفرف وذهب به الى قرب العرش* وفى رواية كان يقال له
ادن منى ادن منى حتى قيل له فى تلك الليلة ألف مرة يا محمد ادن منى ففى كل
مرة منها كان يترقى حتى بلغ مرتبة دنا ومنها ترقى الى مرتبة فتدلى ومنها
ترقى حتى وصل الى منزله قاب قوسين أو أدنى كما قال تعالى ثم دنا أى دنا
محمد الى ربه تعالى أى قرب بالمنزلة والمرتبة لا بالمكان فانه تعالى منزه
عنه وانما هو قرب المنزلة والدرجة والكرامة والرأفة فتدلى أى سجد له تعالى
لانه كان قد وجد تلك المرتبة بالخدمة فزاد فى الخدمة وفى السجدة عدة القرب
ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه أن يكون ساجدا
قال بعض أهل التحقيق ثم دنا اشارة الى مقام نفسه الزكية فتدلى اشارة الى
مقام قلبه المطهر فكان قاب قوسين اشارة الى مقام روحه الطيب أو أدنى اشارة
الى مقام سرّه المنوّر نفسه فى مقام الخدمة وقلبه فى مقام المحبة وروحه فى
مقام القربة وسرّه فى مقام المشاهدة حياة نفسه بالخدمة وصفاء قلبه بالمحبة
وبقاء روحه بالقربة وغذاء سرّه بالمشاهدة لو نظرت نفسه الى وجوده لبقيت بلا
خدمة ولو نظر قلبه الى نفسه لبقى بلا محبة ولو نظرت روحه الى قلبه لبقى بلا
قربة ولو نظر سرّه الى روحه لبقى بلا مشاهدة وسئل أبو الحسين النورى عن
معنى هذه الآية أجاب بأنه لم يسعه جبريل فمن النورى ثم قال
(دنا) فى الافهام
(1/311)
القاصرة يقال اذا كان لشخص بعد عن شىء ولا
بعد ثمة (فتدلى) يقال اذا كان مكان ولا مكان ثمة (فكان) عبارة عن الزمان
ولا عبارة ولا زمان ثمة (قاب قوسين) اشارة الى المقدار ولا اشارة ولا مقدار
ثمة (أو) كلمة شك ولا شك ثمة (أدنى) مبالغة فى أن قرب شخص أقرب من الآخر
ولا أدنى معه ثمة فان العبارة والافهام قاصرة من ادراك تقرير ذلك ولم يعبر
أهل المعرفة عن ذلك المقام الا بهذا المقدار دنا عبدا فتدلى فردا دنا مكيا
فتدلى ملكيا دنا قرشيا فتدلى عرشيا دنا مجاهدا فتدلى مشاهدا دنا طالبا
فتدلى واصلا دنا ومعه الرحمة فتدلى ومعه المرحمة دنا افتقارا فتدلى افتخارا
دنا مناديا فتدلى مناجيا دنا مادحا فتدلى ممدوحا دنا شاكرا فتدلى مشكورا
وقيل أحدهما صفة الله والاخرى صفة محمد صلّى الله عليه وسلم ومعناه كان هو
يتقرّب الى الله والله يقربه وكان هو يتكلم والله يسمعه وكان هو يسأله
والله يعطيه وكان هو يشفع والله يشفعه فكان قاب قوسين أو أدنى كناية عن
تأكيد القرية وتقرير المحبة وبسبب التقريب الى الفهم أدّى فى صورة التمثيل
وهذا مقام ليس فوقه مقام وللسالكين من الامّة المرحومة المحمدية من هذا
المقام نصيب كما ورد بيانه فى الحديث القدسى لا يزال عبدى يتقرب الىّ
بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به
ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها ولهذا كان النبىّ صلّى الله عليه
وسلم اذا ضجر وضاق صدره عن الخلق يقول أرحنا يا بلال ويقول جعلت قرّة عينى
فى الصلاة ولذا قيل الصلاة معراج المؤمن كذا فى روضة الاحباب* واختلف فى
مناجاته تعالى وكلامه مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقوله تعالى فأوحى الى
عبده ما أوحى الى ما تضمنته الاحاديث فأكثر المفسرين على أن الموحى الله
الى جبريل وجبريل الى محمد* وذكر عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال أوحى الله
اليه بلا واسطة ونحوه عن الواسطى وعلى هذا ذهب بعض المتكلمين الى أن محمدا
صلّى الله عليه وسلم كلم ربه فى الاسراء وحكى عن الاشعرى وعن ابن مسعود
وذكر النقاش عن ابن عباس فى قصة الاسراء عنه صلّى الله عليه وسلم فى قوله
دنا فتدلى قال فارقنى جبريل فانقطعت الاصوات عنى فسمعت كلام ربى وهو يقول
ليهد أروعك يا محمد أدن أدن وفى قوله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله
الآية قالوا هى على ثلاثة أقسام من وراء حجاب كتكليم موسى وبارسال الملائكة
كحال جميع الانبياء وأكثر أحوال نبينا عليه وعليهم السلام* الثالث قوله
وخيا ولم يبق من أقسام الكلام الا المشافهة مع المشاهدة ثم انه تعالى أخفى
من الخلق كل ما نسب اليه فى تلك الليلة اشارة الى أنه حبيبه الخاص فقال فى
حال مشاهدته لسدرة المنتهى اذ يغشى السدرة ما يغشى وفى الآيات التى أراه
لقد رأى من آيات ربه الكبرى وفى التكلم معه فأوحى الى عبده ما أوحى أى أوحى
الى عبده محمد فى ذلك المقام* وللعلماء فى بيان ما أوحى خلاف قال بعضهم وهم
أهل الاحتياط الاقرب الى الصواب أن لا يعين لانه لو كانت الحكمة والمصلحة
فى اظهاره وتعيينه لما أبهمه وقال الآخرون لا بأس بذكر ما بلغنا فى خبر أو
أثر أو من جهة الاستدلال والاستنباط ومن ذلك ما ورد فى حديث صحيح ثلاثة
أشياء أحدها فريضة الصلوات الخمس وهذا دليل على أن أفضل الاعمال الصلوات
الخمس لانها فرضت فى ليلة المعراج بغير واسطة جبريل والثانى خواتيم سورة
البقرة والثالث أن يغفر لامّة محمد صلّى الله عليه وسلم كل الذنوب غير
الشرك* وورد فى حديث آخر رأيت ربى فى أحسن صورة أى صفة فقال فيم يختصم
الملأ الا على يا محمد قلت أنت أعلم أى رب فتجلى لى بالتجلى الخاص الذى عبر
عنه صلّى الله عليه وسلم بهذه العبارة فوضع كفه بين كتفىّ فوجدت بردها بين
ثديىّ فعلمت ما فى السماء والارض ثم قال فيم يختصم الملأ الاعلى يا محمد
قلت فى الكفارات والدرجات قال وما الكفارات قلت المشى على الاقدام الى
الجماعات والجلوس فى المساجد خلف الصلوات وابلاغ الوضوء أما كنه فى المكاره
من
يفعل ذلك
(1/312)
يعش بخير ويمت بخير ويخرج من خطيئته كيوم
ولدته أمّه ثم قيل له اذا صليت الصلاة قل اللهمّ انى اسألك الطيبات وترك
المنكرات وفعل الخيرات وحب المساكين وان تغفر لى وترحمنى وتتوب على واذا
اردت بقوم أو بعبادك فتنة فتوفنى أو فاقبضنى غير مفتون ثم قال وما الدرجات
يا محمد قلت افشاء السلام واطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام وفى
حديث آخر أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم لما فاز بالقرب والكرامة فى تلك
الليلة قيل يا محمد انا وانت وما سوى ذلك خلقتها لاجلك فقال النبىّ صلى
الله عليه وسلم انت وانا وما سوى ذلك تركتها لاجلك وقيل اوحى الله اليه كن
آيسا من الخلق فليس بأيديهم شىء واجعل صحبتك معى فان مرجعك الىّ ولا تجعل
قلبك متعلقا بالدنيا فما خلقتك لها* وفى المدارك الذى أوحى اليه انّ الجنة
محرّمة على الانبياء حتى تدخلها أنت وعلى الامم حتى تدخلها أمّتك* وفى
رواية عنه صلّى الله عليه وسلم بعد ما تخلف عنه جبريل انه تجاوز ذلك المقام
مقدار خمسمائة عام حتى سمع داعيا يقول تقدّم يا أكرم الخلق على الله فتقدّم
حتى بلغ امام العرش ورأى عظمته فاعتراه خوف واستولى عليه رعب فسمع النداء
يقول ادن يا محمد فدنا فقطرت عليه من العرش قطرة ما أخطأت فمه فوقعت على
لسانه فكانت أحلى من كل شىء فأراه الله بها علم الاوّلين والآخرين فحصلت
للسانه طلاقة بعد ما اعتراه عى وكلالة من مشاهدة عظمة الله وهيبته ثم سمع
النداء يقول حىّ ربك فألهمه الله تعالى أن قال* التحيات المباركات الصلوات
الطيبات لله وفى رواية التحيات لله والصلوات والطيبات فسمع الله يقول
السلام عليك أيها النبىّ ورحمة الله وبركاته قال النبىّ صلّى الله عليه
وسلم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقالت الملائكة أشهد أن لا اله
الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله* وفى رواية وحده لا شريك له وأشهد انّ
محمدا عبده ورسوله ثم أعطى خواتيم سورة البقرة ووقع له فى تلك الليلة كلمات
ومقالات مع ربة تعالى يطول الكلام بذكرها فاقتصرنا على نبذ منها* وفى
الشفاء عن أبى حمراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسرى بى الى
السماء اذا على العرش مكتوب لا اله الا الله محمد رسول الله أيدته بعلىّ ثم
فرضت عليه وعلى أمّته فى كل يوم وليلة خمسين صلاة وستجىء كيفيتها* واختلف
أيضا فى رؤية النبىّ صلّى الله عليه وسلم ربه تعالى فأنكرتها عائشة* روى عن
مسروق أنه قال لعائشة يا أمّ المؤمنين هل رأى محمد صلّى الله عليه وسلم ربه
قالت لقد قف شعرى مما قلت ثم قرأت لا تدركه الابصار الآية وقال جماعة بقول
عائشة وهو المشهور عن ابن مسعود ومثله عن أبى هريرة فى قوله ما كذب الفؤاد
ما رأى انه رأى جبريل له ستمائة جناح ويؤيد ذلك ما قال أبو ذرّ سألت رسول
الله صلّى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نور أنى أراه* وفى العروة الوثقى
قال أبو ذرّ سألته عن رؤية ربه ليلة المعراج قال لابل نورا أرى* وفى معالم
التنزيل والمدارك انّ جبريل كان يأتى النبىّ صلّى الله عليهما وسلم فى صورة
الآدميين كما كان يأتى النبيين فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن
يريه نفسه على صورته التى جبل عليها فأراه نفسه مرّتين مرّة فى الارض ومرّة
فى السماء امّا ما فى الارض ففى الافق الاعلى والمراد بالاعلى جانب المشرق*
وفى المشكاة برواية الترمذى ومرّة فى أجياد* وفى نهاية الجزرى الاجياد موضع
بأسفل مكة معروف من شعابها انتهى وذلك أى بيان رؤيته فى الافق الاعلى انّ
محمدا صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق وله ستمائة
حناح فسدّ الافق الى المغرب فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مغشيا عليه
فنزل جبريل فى صورة الآدميين فضمه الى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وهو
قوله ثم دنا فتدلى وأمّا ما فى السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من
الانبياء على تلك الصورة الا محمد صلّى الله عليه وسلم* وفى المدارك وذلك
ليلة المعراج وقال بامتناع رؤيته
(1/313)
فى الدنيا جماعة من الفقهاء والمحدّثين
والمتكلمين* وعن ابن عباس أنه رآه سبحانه بعين رأسه* وروى عطاء عنه أنه رآه
بقلبه كذا ذكرهما فى المدارك* وعن أبى العالية أنه رآه بفؤاده مرّتين* وذكر
ابن اسحاق أنّ ابن عمر أرسل الى ابن عباس يسأله هل رأى محمد ربه فقال نعم
والاشهر عنه أنه رأى ربه بعينه* قال الماوردى قيل انّ الله تعالى قسم كلامه
ورؤيته بين موسى ومحمد فرآه محمد مرّتين وكلمه موسى مرّتين* قال عبد الله
بن الحارث اجتمع ابن عباس وكعب بعرفة فقال ابن عباس امّا نحن بنى هاشم
فنقول انّ محمدا رأى ربه مرّتين فكبر كعب حتى جاوبته الجبال وقال انّ الله
قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلمه موسى ورآه محمد بقلبه* وروى شريك عن
أبى ذرّ فى تفسير الآية ما كذب الفؤاد ما رأى قال رأى النبىّ صلّى الله
عليه وسلم ربه* وحكى السمرقندى عن محمد بن كعب القرظى وربيع بن أنس أنّ
النبىّ صلّى الله عليه وسلم سئل هل رأيت ربك قال رأيته بفؤادى ولم أره
بعينى* وحكى عبد الرزاق أنّ الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه* وحكى
ابن اسحاق أنّ مروان سأل أبا هريرة هل رأى محمد ربه فقال نعم* وحكى النقاش
عن أحمد بن حنبل أنه قال أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه رآه حتى انقطع
نفسه يعنى نفس أحمد* وقال سعيد بن جبير لا أقول رآه ولا لم يره* وقال أبو
الحسن على بن اسماعيل الاشعرى وجماعة من أصحابه أنه رأى الله ببصره وعينى
رأسه ووقف بعض المشايخ فى هذا كما وقف ابن جبير وقال ليس عليه دليل واضح
ولكنه جائز* قال القاضى أبو الفضل والحق الذى لا امتراء فيه انّ رؤيته
تعالى فى الدنيا جائزة عقلا اذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة وليس فى
الشرع دليل قاطع على استحالتها ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذى لا يعلمه
الا من علمه الله تعالى ثم بعد ما فرضت عليه خمسون صلاة أذن له بالرجوع
فرجع من حيث جاء حتى بلغ منزل جبريل فقال له جبريل ابشر يا محمد فانك خير
خلق الله ومصطفاه بلغك الليلة الى مرتبة لم يبلغها أحدا من خلقه قط لا ملكا
مقربا ولا نبيا مرسلا هنيئا لك هذه الكرامة ثم ذهب به جبريل الى الجنة
والنار. وأراه منازلهما وما فى الجنة من الحور والقصور والغلمان والولدان
والاشجار والاثمار والازهار والانهار والبساتين والرياحين والرياض والحياض
والغرف والشرف وما فى النار من السلاسل والاغلال والانكال والحيات والعقارب
والزفير والشهيق والغساق واليحموم وتفاصيلها تؤدّى الى التطويل* ثم رجع
فمرّ بموسى فسأله بما أمرت قال أمرت بخمسين صلاة كل يوم وليلة قال ان أمّتك
لا تستطيع وانى والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى اسرائيل أشدّ المعالجة
فارجع الى ربك فسله التخفيف لامّتك فرجع وقال يا رب خفف عن أمّتى فوضع عنه
ربه عشرا فرجع الى موسى فقال مثله فرجع الى ربه فوضع عنه عشرا فلم يزل يرجع
بين ربه وبين موسى حتى قال يا محمدا نهنّ خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة
عشر فذلك خمسون صلاة ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فان عملها كتبت
له عشرا ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم نكتب شيئا فان عملها كتبت سيئة واحدة*
فرجع الى موسى فقال بم أمرت قال بخمس صلوات كل يوم قال ان أمّتك لا تستطيع
خمس صلوات فارجع الى ربك فسله التخفيف قال سألت ربى حتى استحييت ولكنى أرضى
وأسلم ولما جاوز عن موسى سمع مناديا ينادى فيقول أمضيت فريضتى وخففت عن
عبادى وهى خمس وهنّ خمسون ثم يقول يا محمد قد جعلت صلاتك وصلاة أمّتك قياما
وركوعا وسجودا وتشهدا وقراءة وتسبيحا وتهليلا تشتمل عبادتهم على سائر
عبادات الملائكة من لدن عرشى الى منتهى الثرى فيكون لهم بالقيام ثواب
القائمين وبالركوع ثواب الراكعين وبالسجود ثواب الساجدين وبالتشهد ثواب
المتشهدين ولهم بالقراءة والتسبيح ثواب المسبحين والقارئين
(1/314)
وبالتهليل ثواب المهللين ولدىّ مزيد كذا فى
المنتقى* وروى أنه صلّى الله عليه وسلم لما رجع كان جبريل عليه السلام
رفيقه حتى دخل بيت أمّ هانئ* وروى عمر بن الخطاب عن النبىّ صلّى الله عليه
وسلم أنه قال ثم رجعت الى خديجة وما تحوّلت عن جانبها* وفى رواية عاد صلّى
الله عليه وسلم الى بيت المقدس ومعه جبريل حتى أتى به مكة الى فراشه وبقيت
من الليل ساعات* وفى زين القصص عن عمار كان زمان ذهابه ومجيئه ثلاث ساعات*
وعن وهب بن منبه ومحمد بن اسحاق أربع ساعات والله اعلم* وعن عائشة انها
قالت لما اسرى بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم اصبح يحدّث بذلك فارتدّ تاس ممن
كان آمن به وضعف ايمانهم واليه اشار قوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التى
اريناك الا فتنة للناس وسبب ارتدادهم انهم كانوا يرون العير تذهب شهرا من
مكة الى الشأم مدبرة وتجىء شهرا مقبلة فاستحالوا عند عقولهم القاصرة قطع
تلك المسافة البعيدة فى زمان قليل ببعض الليل فارتدّوا والاستحالة مدفوعة
لما ثبت فى الهندسة ان ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الارض
مائة ونيفا وستين مرّة ثم انّ طرفها الاسفل يصل موضع طرفها الاعلى فى أقل
من ثانية وقد برهن فى الكلام ان الاجسام متساوية فى قبول الاعراض والله
تعالى قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة فى بدن
النبىّ صلّى الله عليه وسلم أو فيما يحمله والتعجب من لوازم المعجزات كذا
فى أنوار التنزيل وأيضا قال أهل الهيئة ان الفلك الاعظم فى مقدار زمان
يتلفظ الانسان بلفظة واحدة يقطع ألفا واثنين وثلاثين فرسخا* وروى أنه لما
رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة أسرى به وكان بذى طوى قال يا جبريل
ان قومى لا يصدّقونى قال يصدّقك أبو بكر وهو الصدّيق* وعن ابن عباس أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم لما أصبح جلس فى الحجر معتزلا حزينا لما انه كان
يعلم ان قومه يكذبونه فبينما هو جالس كذلك اذ مرّ به أبو جهل فجلس اليه
فقال له كالمستهزئ يا محمد هل استفدت من شىء جديد قال نعم سافرت البارحة*
وفى رواية أسرى بى الليلة الى بيت المقدس ومنه الى السموات قال أبو جهل
سافرت الليلة الى بيت المقدس وأصبحت بين أظهرنا بمكة قال نعم فلم ير أبو
جهل أنه ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث قال أتحدّث قومك بما حدّثتنى قال
نعم فصاح أبو جهل يا معشر بنى كعب بن لؤى هلموا فانتقضت المجالس فجاؤا حتى
جلسوا اليهما قال فحدّث قومك بما حدّثتنى قال نعم أسرى بى الليلة قالوا الى
أين قال الى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين أظهرنا قال نعم فوقعوا فى
التعجب والاستغراب وقالوا ان هذا لشىء عجاب وبعضهم من كثرة انكارهم يصفقون
وبعضهم من قلة اعتبارهم يضحكون وبعضهم يضعون أيديهم على رؤسهم تعجبا فان
هذا الامر يرى عندهم محالا وعجبا وارتدّ ناس ممن كان قد آمن به وصدّقه* وعن
عائشة رضى الله عنها سعى رجال من المشركين وهم أبو جهل وأتباعه الى أبى بكر
فقالوا له هل لك فى صاحبك يزعم انه أسرى به الى بيت المقدس ومنه الى
السموات فقال أو قال ذلك قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق قالوا أتصدّقه
أنه ذهب الى الشأم ورجع قبل أن يصبح قال نعم انى أصدّقه فيما هو أبعد من
ذلك أصدّقه بخبر السماء فى غدوة وروحة* قال بعضهم فمن ذلك اليوم سمى أبو
بكر صدّيقا* وعن أبى هريرة أنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقد
رأيتنى فى الحجر وقريش تسألنى عن مسراى فسألتنى عن أشياء من بيت المقدس لم
أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط فرفعه الله لى أنظر اليه فما يسألوننى
عن شىء الا أنبأتهم ونحوه عن جابر كذا فى الشفاء* وعن عائشة قالوا يا محمد
هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد الاقصى فشرع ينعت حتى اذا التبس قال فجىء
بالمسجد وأنا أنظر اليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد وأنا أنظر اليه
فقال القوم امّا النعت فو الله لقد أصاب فيه وهذا أبلغ فى المعجزة ولا
استحالة فيه فقد أحضر عرش بلقيس فى طرفة عين فقالوا أخبرنا
(1/315)
عن عيرنا فهى أهم الينا من ذلك هل لقيت
منها شيئا قال نعم مررت على عير بنى فلان وهى بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم
وهم فى طلبه وفى رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ثم وضعته فسلوهم هل
وجدوا الماء فى القدح حين رجعوا قالوا هذه آية* قال ومررت بعير بنى فلان
وفلان راكبان قلوصا لهما* وفى رواية قعودا لهما بذى مر فنفر البعير منى
فرمى بفلان فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك فقالوا هذه آية أخرى قالوا أخبرنا
عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدّتها واجمالها وهيئتها فقال
كنت فى شغل عن ذلك ثم مثل لى بعدّتها واجمالها ومن كان فيها وكانوا
بالجرورة قال نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه
غرارتان مخططتان يطلع عند طلوع الشمس* وفى المواهب اللدنية يقدمهم جمل ادم
عليه مسح أسود وغرارتان سودا وان قالوا هذه آية أخرى ثم خرجوا نحو ثنية
كداء حتى يكذبونه فاذا بقائل يقول هذه الشمس قد طلعت وقال الآخر هذه العير
قد أقبلت كما قال محمد يقدمها فلان وفلان كذا فى المنتقى* وفى رواية
البيهقى أشرف الناس ينتظرون حتى اذا كان قريب من نصف النهار أقبلت العير
فلم يؤمنوا وقالوا ما سمعنا بمثل هذا قط ان هذا الاسحر مبين* وفى رواية
سألوه أيضا عن عير الشأم ليستدل به على تكذيبه أو تصديقه فيما قال عليه
السلام فوصفهم وقال يقدمون يوم الاربعاء فكان ذلك اليوم وما قدموا حتى كادت
الشمس أن تغرب فدعا الله تعالى فحبسها حتى قدموا مكّة فعلموا صدقه ومع ذلك
لم يصدّقوه فى الخبر وما آمنوا كذا فى سيرة مغلطاى* وفى حياة الحيوان حبست
الشمس مرّتين لنبينا صلّى الله عليه وسلم احداهما يوم الخندق حين شغلوا عن
صلاة العصر حتى غربت الشمس فردّها الله عليه كما رواه الطحاوى وغيره
والثانية صبيحة الاسراء حين انتظروا العير التى أخبر بوصولها مع شروق الشمس
ذكره القاضى عياض فى غير الشفاء وحبست ليوشع بن نون وحبست لداود ذكره
الخطيب فى كتاب النجوم وضعف رواية وحبست لسليمان ذكره البغوى فى معالم
التنزيل فى سورة ص كذا فى مزيل الخفاء* وفى سيرة مغلطاى ذكر الطحاوى ان
الشمس ردّت له فى بيت أسماء بنت عميس حين شغل عن صلاة العصر* اعلم انه ليس
لاحد من أهل القبلة اختلاف فى وقوع المعراج للنبىّ صلّى الله عليه وسلم فمن
أنكر المعراج يكفر لانه انكار لنص القرآن قال الله تعالى سبحان الذى أسرى
بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى وأيضا ورد فيه الاحاديث
الصريحة المشهورة القريبة من حدّ التواتر وأمّا منكر المعراج الى السموات
فمبتدع ضال عند أئمة الدين* وفى هذه السنة فرضت الصلوات الخمس ليلة الاسراء
وقد مرّ كيفيتها*
ذكر بيعة العقبة الثانية
وفى هذه السنة الثانية عشر وقعت بيعة العقبة الاولى ومقتضى ما قدّمناه قبل
المعراج أن تكون هذه الثانية كذا فى الوفاء والمواهب اللدنية* ولما كان
العام المقبل الموعد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم عامئذ الى الموسم
فلقيه اثنا عشر رجلا* وفى الاكليل أحد عشر رجلا وهى العقبة الثانية فيهم
خمسة من الستة المذكورة وهم أبو أمامة وعوف بن عفراء ورافع بن مالك وقطبة
ابن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر بن نابى ولم يكن فيهم جابر بن عبد الله بن
ذئاب لم يحضرها والسبعة تتمة الاثنى عشرهم معاذ بن الحارث ورفاعة وهو ابن
عفراء أخو عوف المذكور وذكوان بن عبد القيس الزرقى وقيل انه رحل الى رسول
الله صلّى الله عليه وسلم الى مكة فسكنها معه فهو مهاجرى أنصارى قتل يوم
أحد وعبادة بن الصامت بن قيس وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوى والعباس
بن عبادة بن نضلة وهؤلاء من الخزرج ومن الاوس رجلان أبو الهيثم بن التيهان
من بنى عبد الاشهل وعويمر بن ساعدة فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء أى وفق
بيعتهنّ التى نزلت بعد فتح مكة وهى أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا
نزنى ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا
(1/316)
ولا نعصيه فى معروف والسمع والطاعة فى
العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرة علينا وأن لا ننازع الامر أهله وأن
نقول بالحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم قال عليه السلام فان وفيتم
فلكم الجنة ومن غشنى وفعل من ذلك شيئا كان أمره الى الله ان شاء عذبه وان
شاء عفا عنه ولم يفرض يومئذ القتال ثم انصرفوا الى المدينة وبعث رسول الله
صلّى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير الى المدينة يعلم أهلها الاحكام
ويقرئ القرآن فنزل على أسعد بن زرارة وفى المواهب اللدنية أظهر الله
الاسلام أى فى المدينة وكان أسعد بن زرارة يجتمع بالمدينة بمن أسلم وكتبت
الاوس والخزرج الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم ابعث الينا من يقرئنا القرآن
فبعث اليهم مصعب بن عمير فأسلم خلق كثير وفشا الاسلام فيهم وكتب الى رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يستأذنه أن يجمع بهم فأذن له فجمع بهم فى دار سعد
بن خيثمة وكان أوّل من جمع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ثم قدم مصعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم
مع السبعين الذين وافوه كما سيجىء فى العقبة الثانية فأقام مصعب بمكة قليلا
ثم قدم قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا فهو أوّل من
قدمها والله أعلم*
(ذكر صفة مصعب بن عمير)
* كان رقيق البشرة ليس بالطويل ولا بالقصير قتل يوم أحد وهو ابن أربعين سنة
أو يزيد شيئا كذا فى الصفوة وسيجىء فى الموطن الثالث فى غزوة أحد*
ذكر بيعة العقبة الكبرى
وفى ذى الحجة من السنة الثالثة عشر من النبوّة قبل الهجرة بثلاثة أشهر وقعت
بيعة العقبة الكبرى وبعضهم يسميها العقبة الثانية ومقتضى ما قدّمناه أن
تسمى الثالثة كذا فى الوفاء وفى التاريخ الاوسط للبخارى انّ أهل مكة سمعوا
هاتفا يهتف قبل اسلام سعد بن معاذ وهو يقول
فان يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف
وفى رواية من الأمن لا يخشى خلاف مخالف فقالت قريش لو علمنا من السعدان قال
عند ذلك
أيا سعد سعد الاوس ان كنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا الى داعى الهدى وتمنيا ... على الله فى الفردوس منية عارف
قال أهل السير فى السنة الثالثة عشر من النبوّة قدم مكة فى موسم الحج قريب
من خمسمائة نفر وفى رواية ثلثمائة نفر من الاوس والخزرج وخرج معهم مصعب بن
عمير الى مكة واتفق منهم سبعون رجلا قال ابن سعد يزيدون رجلا أو رجلين
وامرأتان نسيبة بنت كعب أمّ عمارة وأسماء بنت عمر وقال ابن اسحاق ثلاثة
وسبعون رجلا وامرأتان وقال الحاكم خمس وسبعون نفسا لاقوا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فواعدهم أن يحضروا شعب العقبة فى الليلة الثالثة من ليالى
التشريق للمبايعة* وفى الصفوة جاء قوم من أهل العقبة يطلبون رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فقيل لهم هو فى بيت العباس فدخلوا عليه فقال لهم العباس انّ
معكم من قومكم هو مخالف لكم فأخفوا أمركم حتى يتصدع هذا الحاج ونلتقى نحن
وأنتم فنوضح لكم هذا الامر فتدخلون فيه على أمر بين فوعدهم رسول الله صلّى
الله عليه وسلم الليلة التى فى صبيحتها النفر الآخر وفى رواية فواعدوه
العقبة من أوسط أيام التشريق والمعنى واحد أن يوافيهم أسفل العقبة وأمرهم
أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا ولما فرغوا من الحج وكانت الليلة
الموعودة خرج القوم بعد هدء الناس* وفى المنتقى باتوا تلك الليلة فى رحالهم
حتى اذا مضى ثلث الليل خرجوا من رحالهم لميعاد رسول الله صلّى الله عليه
وسلم يتسللون مستخفين تسلل القطا حتى اجتمعوا فى الشعب عند العقبة ثلاثة
وسبعين رجلا ومعهم امرأتان أمّ عمارة بنت كعب احدى نساء بنى مازن وأسماء
بنت عمرو بن عدىّ احدى نساء بنى سليم وقد سبقهم رسول الله صلّى الله عليه
وسلم ومعه العباس
(1/317)
وليس معه غيره وهو يومئذ على دين قومه الا
أنه يحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويوثق له فلما جلس واجتمعوا له كان أوّل من
تكلم العباس فقال يا معشر الخزرج وكانت الاوس والخزرج تدعى الخزرج قد دعوتم
محمدا الى ما دعوتموه ومحمد من أعز الناس فى عشيرته يمنعه والله من كان على
قوله ومن لم يكن كذلك منعه للحسب والشرف وقد أبى محمد الناس كلهم غيركم*
وفى وفاء الوفاء وقد أبى الا الانحياز اليكم فان كنتم أهل قوّة وجلد ونظر
بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة فانها سترميكم عن قوس واحدة فارتاؤا
رأيكم وائتمروا أمركم فلا تفرّقوا الا عن اجتماع فانّ أحسن الحديث أصدقه
وأخرى صفوا لى الحرب كيف تقاتلون عدوّكم فأسكت القوم وتكلم عبد الله بن
عمرو بن حزام فقال نحن والله أهل الحرب غذينا بها ومرّينا وورثناها عن
آبائنا كابرا عن كابر نرمى بالنسل حتى تفنى ثم نطاعن بالرماح حتى تكسر ثم
نمشى بالسيوف فنضرب بها حتى يموت الاعجل منا أو من عدوّنا فقال العباس هل
فيكم دروع قالوا نعم شاملة وقال البراء بن معرور قد سمعنا ما قلت والله لو
كان فى أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكن نريد الوفاء والصدق ويذل المهج
وأنفسنا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن الشعبى قال انطلق رسول الله
صلّى الله عليه وسلم بالعباس الى السبعين عند العقبة تحت الشجرة فقال
العباس ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة فانّ عليكم من المشركين عينا وان
يعلموا بكم فيفضحوكم فقال قائلهم وهو أسعد يا محمد سل لربك ما شئت ثم سل
لنفسك وأصحابك ما شئت ثم أخبرنا مالنا من الثواب على الله اذا فعلنا ذلك
فقال أسألكم لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأسألكم لنفسى ولاصحابى أن
تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم قالوا فما لنا اذا فعلنا
ذلك قال الجنة قالوا فلك ذلك* وفى المنتقى تكلم رسول الله صلّى الله عليه
وسلم فتلا القرآن ودعا الى الله ورغب فى الاسلام ثم قال أبايعكم أو قال
بايعونى قالوا على أىّ شىء نبايعك يا رسول الله قال بايعونى على السمع
والطاعة فى النشاط والكسل والنفقة فى العسر واليسر وعلى الامر بالمعروف
والنهى عن المنكر وأن تقولوا فى الله ولا تخافوا لومة لائم وعلى أن تمنعونى
مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم وأزواجكم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال
والذى بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه العزيز فينا فبايعوا رسول الله
صلّى الله عليه وسلم والعباس آخذ بيد رسول الله يؤكد له البيعة على الانصار
وقالوا فنحن والله أهل الحرب والحلقة ورثناها كابرا عن كابر فعرض فى الحديث
أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله انّ بيننا وبين الناس يعنى اليهود
حبالا وانا قاطعوها فهل عسيت ان نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع الى
قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم
والهدم الهدم وفى رواية المحيا محياكم والممات مماتكم أنتم منى وأنا منكم
أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال أخرجوا منكم اثنى عشر رجلا نقيبا
يكونون على قومهم فأخرجوا اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء
كفالة الحواريين لعيسى ابن مريم قالوا نعم روى عن عاصم بن عمرو بن قتادة
انّ القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال العباس ابن
عبادة بن نضلة الانصارى يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل
قالوا نعم قال انكم تبايعونه على حرب الاسود والاحمر من الناس فان كنتم
ترون أنكم اذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن وهو
والله خزى الدنيا والآخرة ان فعلتم وان كنتم ترون انكم وافون له بما
دعوتموه اليه على نهك الاموال وقتل الاشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا
والآخرة قالوا فانا نأخذه على مصيبة الاموال وقتل الاشراف فما لنا بذلك يا
رسول الله ان نحن وفينا قال الجنة قالوا ابسط
(1/318)
يدك فبسط يده فبايعوه قال عاصم بن عمرو
والله ما قال العباس ذلك الا ليشدّ العقد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم
فى أعناقهم وقال عبد الله بن أبى بكر والله ما قال العباس ذلك الا ليؤخر
القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبى بن سلول فيكون أقوى لامر
القوم فالله أعلم أىّ ذلك كان فبنو النجار يزعمون أنّ أبا أمامة أسعد بن
زرارة كان أوّل من ضرب على يده وبنو عبد الاشهل يقولون بل ابو الهيثم ابن
التيهان قال كعب بن مالك أوّل من ضرب على يدى رسول الله صلّى الله عليه
وسلم البراء بن معرور ثم تتابع القوم قال كعب فلما بايعنا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط يا أهل
الجباجب هل لكم فى مذمم والصبأة معه قد جمعوا على حربكم فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم هذا أزب العقبة وفى رواية ابن أزب العقبة لا فرغنّ لك
أى عدوّ الله ارجعوا الى رحالكم نصركم الله فقال له العباس بن عبادة بن
نضلة والذى بعثك بالحق لئن شئت لنميلنّ غدا على أهل منى بأسيافنا فقال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا الى رحالكم فرجعنا الى
مضاجعنا فنمنا عليها فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤنا فى منازلنا
فقالوا يا معشر الخزرج انا قد بلغنا انكم جئتم الى صاحبنا هذا فتستخرجونه
من بين أظهرنا وتبايعون على حربنا والله ما من حىّ من العرب أبغض الينا ان
تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم قال فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون
لهم بالله ما كان من هذا شىء وما علمناه وقد صدقوا لم يعلموا ثم انّ قريشا
أتوا عبد الله بن أبى بن سلول فذكروا له ما قد سمعوا من أصحابه فقال وما
كان قومى ليتفوّتوا علىّ بمثل هذا وما علمته ثم انهم قالوا لرسول الله صلّى
الله عليه وسلم أتخرج معنا قال ما أمرت به قال رزين وقد قيل وقع بين قريش
والانصار كلام فى سبب خروج النبىّ صلّى الله عليه وسلم معهم ثم ألقى الرعب
فى قلوب قريش فقالوا ليس يخرج معكم الا فى بعض أشهر السنة ولا تتحدّث العرب
بأنكم غلبتمونا فقالت الانصار الامر فى ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم
ونحن سامعون لامره فأنزل الله على رسوله وان يريدوا أن يخدعوك فانّ حسبك
الله أى ان كان كفار قريش يريدون المكربك فسيمكر الله بهم فانصرفت الانصار
الى المدينة* وفى سيرة ابن هشام قال ونفر الناس من منى فتفتش القوم الخبر
فوجدوه قد كان قال ابن اسحاق وخرجوا فى طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة
بأذاخر والمنذر بن عمر وأخا بنى ساعدة ابن كعب بن الخزرج وكلاهما كان نقيبا
وقيل انّ قريشا بدالهم فخرجوا فى آثارهم فأدركوا منهم رجلين كانا تخلفا فى
أمر فردّوهما الى مكة المنذر والعباس بن عبادة فأدركهما جبير بن مطعم
والحارث ابن أمية فخلصاهما فلحقا بأصحابهما وفى رواية انّ الرجلين هما
المنذر وسعد بن عبادة فأمّا المنذر فأعجز القوم ونجا وأمّا سعد فأخذوه
وربطوا يديه الى عنقه بشسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه
ويجذبونه بجمته وكان ذا شعر كثير ثم خلصه منهم جبير بن مطعم والحارث بن
أمية لانه كان يجير لهما تجارتهما ويمنعهم أن يظلموا ببلده*
هجرة أبى بكر الى الحبشة
وفى هذه السنة هاجر أبو بكر الى الحبشة روى أنه لما ابتلى المسلمون وكثر
ايذاء المشركين واضرارهم استأذن ابو بكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وخرج نحو أرض الحبشة ولما بلغ برك الغماد لقى ابن الدغنة اسمه ربيعة وهو
سيد القارة قال أبن تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر أخرجنى قومى فأريد أن
أسيح فى الارض فأعبد ربى فقال ابن الدغنة فانّ مثلك يا أبا بكر لا يخرج
فانك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق
فأنا لك جار ارجع فاعبد ربك ببلدك فرجع أبو بكر فى جوار ابن الدغنة ومكث
بمكة يعبد ربه فى داره ويصلى فيها ويقرأ ما يشاء ولا يستعلن بصلاة ولا يقرأ
فى غير داره ثم بداله فبنى مسجدا بفناء داره وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن
فتنقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون اليه وكان
(1/319)
أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه اذا قرأ
القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين وخافوا أن تفتن نساؤهم وأبناؤهم
فأرسلوا الى ابن الدغنة أن قل لابى بكر أن يقتصر على أن يعبد ربه فى داره
ولا يعلن بالصلاة فانا قد خشينا أن تفتن نساؤنا وأبناؤنا فانهه فان قبل فعل
وان أبى الا أن يعلن بذلك فسله أن يردّ اليك ذمّتك ولسنا مقرّين لابى بكر
الاستعلان فأتى ابن الدغنة أبا بكر وقال له ما قال له المشركون قال أبو بكر
انى أردّ اليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى والنبىّ صلّى الله عليه وسلم
يومئذ بمكة*
(ذكر هجرة أصحابه الى المدينة)
* قال أهل السير لما أبرم عقد المبايعة بين النبىّ صلّى الله عليه وسلم
وبين أهل المدينة ولم يقدر أصحابه أن يقيموا بمكة من ايذاء المشركين ولم
يصبروا على جفوتهم رخص لهم فى الهجرة الى المدينة* وفى الصحيحين قال عليه
السلام رأيت انى مهاجر من مكة الى أرض بها نخل فذهب وهلى الى اليمامة أو
هجر فاذا هى المدينة يثرب ووقع للبيهقى من حديث صهيب رأيت دار هجرتكم سبخة
بين ظهرانى حرّتين فامّا أن تكون هجر أو يثرب ولم يذكر اليمامة* قال بعض
العلماء أرى النبىّ صلّى الله عليه وسلم دار هجرته بصفة تجمع المدينة
وغيرها ثم أرى الصفة المختصة بالمدينة فتعينت ثم أذن النبىّ صلّى الله عليه
وسلم لاصحابه فى الهجرة الى المدينة وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له فى الخروج
فتوجه بين العقبتين جماعة منهم ابن أمّ مكتوم ثم عمار بن ياسر ثم بلال وسعد
ابن أبى وقاص ويقال انّ أوّل من هاجر الى المدينة أبو سلمة بن عبد الاسد
المخزومى زوج أمّ سلمة وذلك انه أوذى لما رجع من الحبشة فعزم على الرجوع
اليها ثم بلغه قصة الاثنى عشر من الانصار فتوجه الى المدينة فقدمها بكرة
وقدم بعده عامر بن ربيعة عشية ثم توجه مصعب بن عمير ليفقه من أسلم من
الانصار ثم توالى خروجهم بعد العقبة الاخيرة فخرجوا أرسالا منهم عمر بن
الخطاب وأخوه زيد ابن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وصهيب وحمزة بن عبد المطلب
وزيد بن حارثة وعبيدة بن الحارث وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام
وعثمان بن عفان وغيرهم لم يبق معه صلّى الله عليه وسلم الا أبو بكر الصدّيق
وعلى بن أبى طالب كذا قال ابن اسحاق وغيره* وفى بعض كتب السير أوّل من هاجر
الى المدينة أبو سلمة بن عبد الاسد المخزومى قبل بيعة العقبة بسنة ثم قدم
المدينة بعد أبى سلمة عامر ابن ربيعة مع امرأته ليلى ثم عبد الله بن جحش ثم
أبو أحمد بن جحش ثم تتابع الاصحاب الى المدينة أرسالا* وفى سيرة مغلطاى عن
ابن اسحاق ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد بن الخطاب وعباس بن أبى ربيعة وطلحة
بن عبيد الله وصهيب وزيد بن حارثة وأبو مرثد كناز بن الحصين وابنه مرثد
وأنسة وأبو كبيشة وعبيدة بن الحارث وأخوه الطفيل وحصين ومسطح بن أثاثة
وسويبط وعبد الرحمن بن عوف والزبير ابن العوّام وأبو سبرة وأبو حذيفة بن
عتبة وسالم مولاه وعتبة بن غزوان وعثمان بن عفان انتهى وبقى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم وأبو بكر وعلىّ بمكة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم
ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة ولم يتخلف معه بمكة أحد من المسلمين الا أخذ
وحبس أو فتن الا على بن أبى طالب وأبو بكر وابو بكر كثيرا ما كان يستأذن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الهجرة فيقول له رسول الله صلّى الله
عليه وسلم لا تعجل لعلّ الله أن يجعل لك صاحبا فرجا أبو بكر أن يكون ذلك
الصاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم* وفى صحيح البخارى تجهز أبو بكر قبل
المدينة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رسلك فانى لارجو أن
يؤذن لى فقال له أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبى أنت وأمى قال نعم فحبس أبو بكر
نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده
ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر لتسمنا وينتظر أنه صلّى الله عليه وسلم متى
يؤمر بالهجرة الى المدينة روى انّ أبا بكر رأى فى المنام فى بعض تلك الايام
انّ القمر نزل من السماء بطحاء مكة ودخل البلد الحرام فأضاءت منه أمّ القرى
(1/320)
وما حولها ثم صعد الى السماء فنزل المدينة
وأشرقت أرض يثرب بنوره وكثير من الكواكب تحرّكت موافقات له ثم انّ ذلك
القمر مع تلك الكواكب الجمة صعدت الى الهواء وهبطت فى حرم مكة وأرض يثرب
مضيئة بعد كما كانت الا ثلثمائة وستين بيتا وفى رواية أربعمائة بيت* ولما
انتهى ذلك القمر الى البلد الحرام استنار ما حول الحرم أيضا ثم سار القمر
نحو المدينة ودخل منزل عائشة فانشقت الارض وتوارى فيها فلما انتبه أبو بكر
غلبة البكاء اذ كان ماهرا فى معرفة تعبير الرؤيا ومشهورا بين العرب بهذا
الفنّ فنظر بنظر الاعتبار فى تعبير تلك الرؤيا فعلم ان ذلك القمر شمس فلك
الرسالة وانّ تلك الكواكب اللوامع أصحابه وأقر باؤه الذين يختارون الغربة
بموافقته ويهاجرون الى المدينة ورجوع ذلك القمر مع تلك الكواكب الى مكة
دليل على ان فتح مكة سيحصل له ودخوله منزل عائشة علامة انها تشرف بشرف
فراشه فى المدينة وانشقاق الارض وتوارى القمر فيها مشير الى أن وفاته صلّى
الله عليه وسلم تكون بالمدينة ويدفن فى بيت عائشة فاعترى أبا بكر من هذه
الرؤية غمان أحدهما غم الهجرة من دياره وترك وطنه المألوف والثانى غم
مفارقة النبىّ صلّى الله عليه وسلم فتفكر فى نفسه فقال أمّا مفارقة النبىّ
صلّى الله عليه وسلم فأمر صعب وأمّا الغربة فلا أباليها اذا كنت معه صلّى
الله عليه وسلم كما قيل
لو ضمنى بيت نمل والحبيب به ... لكان ذلك لى روض وبستان
وأطيب الارض ما للقلب فيه هوى ... سم الخياط مع المحبوب ميدان
وقيل
رحب الفلاة مع الاعداء ضيقة ... سم الخياط مع الاحباب ميدان
فترصد رفاقته وانتظر صحبته صلّى الله عليه وسلم* ومن تعبيرات أبى بكر ما
ذكر فى حياة الحيوان انّ عائشة رضى الله عنها رأت ثلاثة أقمار سقطن فى
حجرها فقال لها أبو بكر ان صدقت رؤياك فانه يدفن فى بيتك ثلاثة من خيار أهل
الارض فلما دفن النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى بيتها قال لها أبو بكر هذا
أحد أقمارك وهو خيرها والله أعلم*
(ذكر مشاورة قريش فى اخراجه أو حبسه أو قتله
واخبار جبريل بذلك اياه صلى الله عليه وسلم واذنه له بالهجرة)
* قال أصحاب السير لما رأت قريش انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصابوا
منعة وأصحابا بغير بلدهم ونزلوا دارا ووجدوا مهاجرا قريبا يهاجر اليه بقية
أصحابه عرفوا انه قد عزم أن يلحق بهم وسيحميه المدنيون فخافوا خروجه اليهم
وحذروا تفاقم أمره فاجتمعوا بدار الندوة للمشاورة وهى دار قصى بن كلاب
وكانت قريش لا تقضى أمرا الا فيها وفيها يتشاورون وحجبوا الناس عن الدخول
اليهم لئلا يدخل أحد من بنى هاشم فيطلع على حالهم فزعم ابن دريد فى الوشاح
انهم كانوا خمسة عشر رجلا* وفى المولد لابن دحية كانوا مائة رجل ولما قعدوا
للتشاور تبدى لهم ابليس فى صورة شيخ نجدى جليل فوقف على باب الدار فلما
رأوه قالوا من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذى تواعدتم له فحضر معكم
ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأى ونصح* وفى معالم التنزيل سمعت
باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منى رأيا ونصحا قالوا ادخل فدخل معهم
وقد اجتمع فيها أشراف قريش من كل قبيلة وفى رواية تبدى لهم الشيطان فى صورة
شيخ نجدى لابس مرقع وجلس* وفى المواهب اللدنية تمثل لهم الشيطان فى صورة
شيخ نجدى لانهم قالوا كما ذكره بعض أهل السير لا يدخلن فى المشاورة معكم
أحد من أهل تهامة لانّ هواهم مع محمد فلذلك تمثل فى صورة شيخ نجدى قالوا من
الشيخ ومن أدخلك فى خلوتنا هذه بغير اذننا قال أنا شيخ من قبيلة نجد وجدت
وجوهكم مليحة ورائحتكم طيبة أردت أن أسمع كلامكم وأقتبس منه شيئا ولقد أعرف
مقصودكم وان كنتم
(1/321)
تكرهون جلوسى معكم فاخرج قالت قريش بعضهم لبعض هذا رجل من نجد لا من مكة
فلا يضركم حضوره معكم فشرعوا فى الكلام وقال بعضهم لبعض ان هذا الرجل يعنى
محمدا صلّى الله عليه وسلم قد كان من أمره ما كان وانا والله لا نأمن منه
الوثوب علينا بمن اتبعوه فأجمعوا فيه رأيا فقال أبو البخترى ابن هشام* وفى
رواية قال هشام بن عمرو رأيى أن تحبسوه فى بيت وتشدّوا وثاقه وتسدّوا بابه
غير كوّة تلقون اليه طعامه وشرابه منها وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه
كما هلك من الشعراء من كان قبله كزهير والنابغة فصرخ عدوّ الله الشيخ
النجدى فقال بئس الرأى رأيتم والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب الى
أصحابه فوثبوا وانتزعوه من أيديكم قالوا صدق الشيخ* وقال هشام بن عمرو وفى
رواية أبو البخترى رأيى أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا
يضرّكم ما صنع واسترحتم فقال الشيخ النجدى والله ما هذا لكم برأى ألم تروا
حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به فو الله لو
فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حىّ من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله
وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير بهم حتى يطؤكم بهم فقالوا صدق والله الشيخ فقال
أبو جهل والله انّ لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا
أبا الحكم فقال رأيى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا فينا
ثم نعطى كل فتى سيفا صار ما ثم يعمدون اليه فيضربونه ضربة رجل واحد
فيقتلونه فنستريح منه فانهم اذا فعلوا ذلك تفرّق دمه فى القبائل كلها فلا
تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم قال
الشيخ النجدى القول ما قال هذا الفتى هو أجودكم رأيا لا رأى لكم غيره* وفى
خلاصة الوفاء وصوّب ابليس قول أبى جهل لما اختلفوا فيما يفعلون بالنبىّ
صلّى الله عليه وسلم أرى أن يعطى خمسة رجال من خمسة قبائل سيفا سيفا
فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرّق دمه فى هذه البطون فلا يقدر لكم بنو هاشم
على شئ فتفرّقوا على رأى أبى جهل مجمعين على قتله فأخبر جبريل بذلك رسول
الله صلّى الله عليه وسلم* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق وكان مما أنزل
الله فى ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو
يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وقوله عز وجل أم
يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قال ابن هشام المنون الموت وريب المنون ما
يريب ويعرض منها قال أبو ذئب الهذلى
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
الاعتاب الارضاء |