تاريخ
الخميس في أحوال أنفس النفيس * (الركن الثالث فى الوقائع من أول هجرته
صلّى الله عليه وسلم الى وفاته
وفيه أحد عشر موطنا) **
(الموطن الاوّل) * فى وقائع السنة الاولى من الهجرة
وهى السنة التى فى الثامن والعشرين من صفرها أو فى غرّة ربيع الاوّل منها
وقعت الهجرة الى المدينة وهى السنة الرابعة عشر من المبعث والرابعة
والثلاثون من ملك كسرى برويز والتاسعة من ملك هرقل وأوّل هذه السنة المحرم
وفيه فصلان) *
* (الفصل الاوّل فى خروجه صلّى الله عليه وسلم مع أبى بكر من مكة الى الغار
ولبثهما فيه ثلاثة أيام وخروجهما منه الى المدينة وما وقع لهم فى الطريق من
لحوق سراقة اياهما ومرورهما بخيمتى أمّ معبد ولقيهم بريدة بن الحصيب ولقيهم
طلحة أو الزبير فى الطريق وموت براء بن معرور واستقبال أهل المدينة ونزوله
بقباء ولبثه فى بنى عمرو بن عوف وتأسيسه مسجد قباء) * قال أصحاب السير لما
استقرّ رأى قريش بعد المشاورة على قتله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل
وأخبره بذلك وقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه وأذن
الله له عند ذلك
(1/322)
بالخروج الى المدينة كذا فى معالم التنزيل*
وفى رواية قال له جبريل ان الله يأمرك بالهجرة* وفى شواهد النبوّة لما أمر
رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالهجرة سأل جبريل عمن يهاجر معه قال أبو
بكر الصدّيق فمن ذلك اليوم سماه الله صديقا* وعن ابن عباس قال ان الله آذن
نبيه فى الهجرة بهذه الآية وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل
لى من لدنك سلطانا نصيرا أخرجه الترمذى وصححه هو والحاكم كذا فى الوفاء
والمواهب اللدنية* وفى العمدة أمر أن يقول له عند الهجرة وفى سيرة ابن هشام
قال ابن اسحاق وآذن الله تبارك وتعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم عند
ذلك فى الهجرة وكان أبو بكر رجلا ذا مال فكان حين استأذن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فى الهجرة قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تعجل
لعلّ الله أن يجعل لك صاحبا فطمع أبو بكر بأنّ رسول الله صلّى الله عليه
وسلم انما يعنى نفسه حين قال له ذلك فابتاع راحلتين فحبسهما فى داره
يعلفهما اعدادا لذلك فحدّثنى من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أمّ
المؤمنين أنها قالت كان لا يخطأ أن يأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيت
أبى بكر أحد طرفى النهار امّا بكرة وامّا عشية حتى اذا كان اليوم الذى أذن
الله تعالى فيه لرسوله فى الهجرة والخروج من مكة من بين ظهرانى قومه أتانا
رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالهاجرة فى ساعة كان لا يأتى فيها قالت
فلما رآه أبو بكر قال ما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى هذه الساعة
الا لأمر حدث قالت فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله صلّى
الله عليه وسلم عليه وليس عند أبى بكر الا أنا وأختى أسماء بنت أبى بكر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عنى من عندك فقال يا نبىّ الله
انما هى ابنتاى وما ذاك فداك أبى وأمى قال انّ الله تعالى قد أذن لى فى
الخروج والهجرة قالت فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال نعم* وفى
المنتقى قالت عائشة فبينا نحن جلوس فى بيت أبى بكر فى نحر الظهيرة قال قائل
لابى بكر هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا
فيها فقال أبو بكر فدى له أبى وأمّى والله ما جاء به فى هذه الساعة الا أمر
فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال لابى بكر
أخرج من عندك فقال أبو بكر انما هم أهلك بأبى أنت وأمى يا رسول الله قال
فانى قد أذن لى فى الخروج قال أبو بكر الصحبة بأبى أنت وأمّى يا رسول الله
قال نعم* وفى رواية أذن له باذن الله أن يصحبه قالت عائشة رأيت أبا بكر
يبكى من الفرح وما كنت أظنّ الى ذلك الوقت أن يبكى أحد من الفرح قال فخذ
احدى راحلتىّ هاتين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالثمن* قال الواقدى
ثمنها ثمانمائة درهم وان المأخوذة كانت هى القصوى وانها كانت من نعم بنى
قشير كان اشتراها أبو بكر منهم وانها عاشت حتى ماتت فى خلافة ابى بكر
الصدّيق وكانت مرسلة ترعى فى البقيع وكذا فى طبقات ابن سعد أن ثمنها كان
ثمانمائة درهم كذا فى الوفاء* وفى رواية قال ابو بكر عندى ناقتان قد كنت
أعددتهما للخروج فأعطى النبىّ احداهما وهى الجدعاء قاله ابن اسحاق وقال
انها كانت من نعم بنى الحريش وكذا فى رواية ابن حبان انها الجدعاء كذا فى
الوفاء قالت عائشة فجهزناهما احث الجهاز وصنعنا لهما سفرة فى جراب فقطعت
اسماء بنت ابى بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب فلذلك سميت ذات
النطاقين هكذا رواية ابن عباس* وفى رواية عن أسماء قالت فلم نجد لسفرته ولا
لسقائه ما نربطهما به فقلت لابى بكر والله ما أجد شيئا أربط به الانطاقى
قال فشقيه باثنتين فاربطى بواحدة السقاء وبالاخرى السفرة ففعلت فلذلك سميت
ذات النطاقين رواه البخارى وسيجىء غير ذلك* وفى سيرة ابن هشام قال ابن
اسحاق وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبى بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس
فيهما نهاره ثم يأتيهما
اذا أمسى فى الغار بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر وكان يفعل ذلك وأمر عامر
(1/323)
ابن فهيرة مولى أبى بكر أن يرعى عليهما
منحة لابى بكر ليشربا من لبنها واستأجر أبو بكر رجلا من بنى الدئل هاديا
حريتا أى ماهرا بالهداية ليدلهما على الطريق يقال له عبد الله بن الاريقط
الديلى الليثى* قال النووى لا نعلم له اسلاما وفى الرياض النضرة الليث بن
عبد الله بن الاريقط* وفى الوفاء ذهب أبو بكر الى عبد الله بن أريقط قاله
ابن عقبة* وفى تهذيب بن هشام عبد الله بن أرقد وفى رواية الاموى عن ابن
اسحاق أريقد وفى العتبية رقيط من بنى الدئل بن بكر بن كنانة وأمّه امرأة من
بنى سهم بن عمرو وكان مشركا أو قال على دين الكفار فأمنه ودفع اليه
لراحلتين وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال* وفى سيرة ابن هشام بلفظ التثنية فى
استأجرا ودفعا اليه راحلتيهما فكانتا عنده لميعادهما* وفى أنوار التنزيل
الغار ثقب فى أعلا ثور وثور جبل بمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا*
وفى القاموس يقال له ثور أطحل واسم الجبل اطحل نزله ثور بن عبد مناة فنسب
اليه ذلك الجبل ذكر ابن جبير أن جبل ثور من مكة على ثلاثة أميال* وفى معجم
ما استعجم انه من مكة على ميلين وارتفاعه نحو ميل وفى أعلاه الغار الذى
دخله النبىّ صلّى الله عليه وسلم مع أبى بكر وهو المذكور فى القرآن والبحر
يرى من أعلا هذا الجبل وفيه من كل نبات الحجاز وشجره وفيه شجرة البان وفيه
شجرة من حمل منها شيئا لم تلدغه الهامة انتهى* ولما كانت العتمة اجتمع
المشركون بمكة على باب النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثم ترصدوه متى ينام
فيثبون عليه فيهلكونه* وفى الوفاء اجتمعت قريش الى باب الدار فقال أبو جهل
لا تقتلوه حتى تجتمعوا يعنى الخمسة من القبائل الخمس وجعل يقول لهم هذا
محمد كان يزعم لكم انكم ان تابعتموه كنتم ملوك العرب والعجم ويكون لكم فى
الآخرة جنات تأكلون منها وان لم تتابعوه يكون له فيكم ذبح فى الدنيا ويوم
القيامة نار تحرقون فيها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نعم والله كذا
أقول وكذا يكون وأنت أحدهما فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكانهم
واجتماعهم قال لعلىّ نم على فراشى واتشح ببردى الحضرمى الاخضر فانه لا يخلص
اليك شئ تكرهه منهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينام فى برده ذلك
اذا نام* وفى خلاصة الوفاء فلن يخلص اليك منهم أمر فردّ هذه الودائع الى
أهلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته* وفى سيرة ابن هشام قال ابن
اسحاق ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما بلغنى أخبر عليا بخروجه وأمره
أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدّى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الودائع
التى عنده وليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه الاوضعه عنده لما يعلم من صدقه
وأمانته فبات علىّ على فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلم تلك الليلة وخرج
رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الغار ولما خرج قام على رؤسهم وقد ضرب
الله على أبصارهم* وفى رواية أخذ الله أبصارهم عنه ونزل تلك الليلة أوّل
سورة يس فأخذ قبضة من تراب وجعل ينثره على رؤسهم وهو يقرأ انا جعلنا فى
أعناقهم أغلالا الى قوله فهم لا يبصرون وتلا واذا قرأت القرآن جعلنا بينك
وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ثم أتى منزل ابى بكر فخرجا من
خوخة كانت له فى ظهر البيت وعمدا الى غار ثور* وفى الاستيعاب أذن الله له
فى الهجرة الى المدينة يوم الاثنين وكانت هجرته فى ربيع الاوّل وهو ابن
ثلاث وخمسين سنة وقدم المدينة يوم الاثنين قريبا من نصف النهار فى الضحى
الاعلى لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاوّل هذا قول ابن اسحاق وكذا قال
غيره الا أنه قال كان مخرجه الى المدينة لهلال ربيع الاوّل وقال أبو عمرو
وقد يروى عن ابن شهاب أنه قدم المدينة لهلال ربيع الاوّل وقال عبد الرحمن
ابن المغيرة قدم المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الاوّل* وقال
الكلبى خرج من الغار ليلة الاثنين أوّل يوم من ربيع الاوّل وقدم المدينة
يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت منه
قال أبو عمرو
(1/324)
وهو قول ابن اسحاق الا فى تسمية اليوم فان
ابن اسحاق يقول يوم الاثنين والكلبى يقول يوم الجمعة واتفقا لاثنتى عشرة
ليلة خلت من ربيع الاوّل وغيرهما يقول لثمان خلت منه فالاختلاف أيضا فى
تاريخ قدومه المدينة كما ترى* وفى الصفوة قال يزيد بن حبيب خرج رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من مكة فى صفر وقدم المدينة فى ربيع الاوّل* وفى
الوفاء ذكر موسى بن عقبة عن الزهرى أن الخروج كان فى بقية تلك الليلة وكان
ذلك بعد العقبة بشهرين وليال وقال الحاكم بثلاثة أشهر أو قريبا منها ويرجح
الاوّل ما جزم به ابن اسحاق من انه خرج أوّل يوم من ربيع الاوّل فيكون بعد
العقبة بشهرين وبضعة عشر يوما وكذا جزم به الاموى فقال خرج لهلال ربيع
الاوّل وقدم المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت منه قال فى فتح البارى وعلى هذا
كان خروجه يوم الخميس وهو الذى ذكره محمد بن موسى الخوارزمى لكن قال الحاكم
تواترت الاخبار بأن الخروج كان يوم الاثنين والدخول يوم الاثنين وجمع
الحافظ ابن حجر بينهما بأنّ خروجه من مكة كان يوم الخميس أىّ فى أثناء
ليلته لما قدمناه وخروجه من الغار يعنى غار ثور ليلة الاثنين لانه أقام فيه
ثلاث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الاحد وخرج فى أثناء ليلة الاثنين
كذا فى المواهب اللدنية ومن روى لليلتين لعله لم يحسب أوّل ليلة وكانت مدّة
اقامته صلّى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوّة بضع عشرة سنة ويدل عليه قول
صرمة
ثوى فى قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو ألفى صديقا مؤاتيا
وقال عروة عشرا وقال ابن عباس خمس عشرة سنة* وفى رواية عنه عشر سنين ولم
يعلم بخروجه الا علىّ وآل أبى بكر* وفى سيرة اليعمرى ولما بلغ ثلاثا وخمسين
سنة هاجر من مكة الى المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الاوّل وأقام
المشركون ساعة فجعلوا يتحدّثون فأتاهم آت وقال ما تنتظرون قالوا ننتظر أن
نصبح فنقتل محمدا قال قبحكم الله وخيبكم أو ليس قد خرج عليكم وجعل على
رؤسكم التراب قال أبو جهل أو ليس ذاك مسجى ببرده والآن كلمنا فلما أصبحوا
قام علىّ عن الفراش فقال أبو جهل صدقنا ذلك المخبر فاجتمعت قريش وأخذت
الطرق وجعلت الجعائل لمن جاء به فانصرفت عيونهم ولم يجدوا شيئا وفى رواية
لما قال القائل قد خرج ونثر على رؤسكم التراب فما ترون ما بكم وضع كل رجل
منهم يده على رأسه فاذا فيه التراب ثم جعلوا يتطلعون وينظرون من شق الباب
فيرون عليا على الفراش متسج ببرد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحسبونه
النبىّ صلّى الله عليه وسلم فيحرسونه ويقولون ان هذا المحمد تائم عليه برده
فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فوثبوا عليه فقام علىّ من الفراش فقالوا له أين
صاحبك قال لا علم لى قيل انهم ضربوا عليا وحبسوه ساعة ثم تركوه واقتصوا أثر
النبىّ صلّى الله عليه وسلم فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم وروى أنه لم يبق
أحد من الذين وضع على رؤسهم التراب الا قتل يوم بدر وأنشأ علىّ فى بيوتته
فى بيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم هذه الابيات
وقيت بنفسى خير من وطئ الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول اله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الاله من المكر
وبات رسول الله فى الغار آمنا ... موقى وفى حفظ الاله وفى ستر
وبت أراعيهم وما يثبتوننى ... وقد وطنت نفسى على القتل والاسر
قال الغزالى فى الاحياء ان ليلة بات علىّ بن أبى طالب على فراش رسول الله
صلّى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى الى جبريل وميكائيل انى آخيت بينكما
وجعلت عمر أحد كما أطول من عمر الاخر فأيكما يؤثر صاحبه بحياة فاختار
كلاهما الحياة وأحباها فأوحى الله اليهما أفلا كنتما مثل علىّ بن أبى طالب
آخيت بينه وبين محمد فبات علىّ على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا
الى الارض
(1/325)
فاحفظاه من عدوّه فكان جبريل عند رأسه
وميكائيل عند رجليه ينادى بخ بخ من مثلك يا ابن أبى طالب تباهى بك الملائكة
فأنزل الله تعالى ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤف
بالعباد* وفى عمدة المعانى الاية نزلت فى الزبير والمقداد وقيل فى صهيب
وخباب وعمار ابن ياسر وقيل فى علىّ حين نام على فراش رسول الله صلّى الله
عليه وسلم ليلة الغار* وروى أن أبا بكر حين خرج الى الغار احتمل ماله كله
وكان ذا مال وهو خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه* وفى
الاستيعاب روى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه قال أسلم أبو بكر
وله أربعون ألفا أنفقها كلها على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفى سبيل
الله وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما نفعنى مال الا مال أبى بكر*
وفى معالم التنزيل ان أبا بكر حين انطلق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم
الى الغار جعل يمشى ساعة بين يديه وساعة خلفه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم مالك يا أبا بكر قال أذكر الطلب فأمشى خلفك ثم أذكر الرصد فأمشى بين
يديك وفى دلائل النبوّة فجعل مرّة يمشى أمامه ومرّة خلفه ومرّة عن يمينه
ومرة عن يساره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما هذا يا أبا بكر ما
أعرف هذا من فعلك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب
فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك وكان رسول الله صلّى
الله عليه وسلم قد خلع نعليه فى طريق الغار وكان يمشى على أطراف أصابعه
لئلا يظهر أثرهما على الارض حتى حفيت رجلاه فلما رآه أبو بكر وقد حفيت
رجلاه حمله على كاهله وجعل يشتدّ حتى أتى الغار كذا فى دلائل النبوّة
(قوله) حفيت رجلاه أى رقتا من كثرة المشى ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل
وكان حافيا والا فلا يحتمل بعد المكان ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى
بعدت المسافة ويدل عليه قوله فمشى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلته ولا
يحتمل ذلك مشى ليلة الا تقدير ذلك أو سلوك غير الطريق تعمية على الطلب كذا
فى الرياض النضرة وأما ما وقع فى رواية ابن هشام عن عروة عند ابن حبان
انهما ركبا حتى أتيا المغار فتواريا فلا ينافى مواعدتهما الدليل الديلى بأن
يأتى بالراحلتين بعد ثلاث لاحتمال أن يكون ما ركبا غير راحلتيهما أو اياهما
ثم ذهب بهما عامر بن فهيرة الى الدليل كذا فى الوفاء وأيضا لا ينافى ذلك ما
ذكر من نقب القدم وحمل أبى بكر اياه لاحتمال أن يكون كل واحد منهم فى بعض
الطريق وروى عن أبى بكر أنه قال لعائشة لو رأيتنى ورسول الله صلّى الله
عليه وسلم اذ صعدنا الغار فأما قدما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتفطرتا
وأما قدماى فعادتا كأنهما صفوان قالت عائشة ان رسول الله صلّى الله عليه
وسلم لم يتعوّد الحفية ولا الرعية وروى عن أبى بكر أنه قال نظرت الى قدمى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الغار وقد قطرتا دما فاستبكيت فعلمت أنه
صلّى الله عليه وسلم لم يتعوّد الحفاء والجفوة قال ابن هشام وحدّثنى بعض
أهل العلم أن الحسن البصرى قال انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو
بكر الى الغار ليلا فدخل أبو بكر الى الغار قبل رسول الله صلّى الله عليه
وسلم فلمس الغار لينظر أفيه سبع أوحية ليقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
بنفسه* وفى معالم التنزيل قال أبو بكر يا رسول الله مكانك حتى استبرئ الغار
وكان ذلك الغار مشهورا بكونه مسكن الهوام والوحش قال ادخل فدخل فرأى غارا
مظلما فجلس وجعل يلتمس بيده كلما وجد حجرا أدخل فيه اصبعه حتى انتهى الى
حجر كبير فأدخل رجله الى فخذه فأخرجه* وفى رواية كلما وجد حجرا شق ثوبه
فألقمه اياه حتى فعل ذلك بثوبه كله فبقى حجر فألقمه عقبه* وفى الرياض
النضرة فجعل الحيات والافاعى يضربنه ويلسعنه انتهى وعلى كلا التقديرين
لدغته الحية تلك الليلة قال أبو بكر فلما ألقمت عقبى الجحر لدغتنى الحية
وان
كانت اللدغة أحب الىّ من أن يلدغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم
(1/326)
انتهى ثم قال أبو بكر ادخل يا رسول الله
فانى سوّيت لك مكانا فدخل فاضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأما أبو
بكر فكان متألما من لدغة الحية ولما أصبحا رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلم
على أبى بكر أثر الورم فسأل عنه فقال من لدغة الحية فقال النبىّ صلّى الله
عليه وسلم هلا أخبرتنى قال كرهت أن أوقظك فسجه النبىّ صلّى الله عليه وسلم
بيده فذهب ما به من الورم والالم ثم قال فأين ثوبك يا أبا بكر فأخبره بما
فعل فعند ذلك رفع النبىّ صلّى الله عليه وسلم يديه فقال اللهم اجعل أبا بكر
فى درجتى يوم القيامة فأوحى الله اليه قد استجاب لك كذا فى المنتقى خرجه
الحافظ أبو الحسين بن بشر والملا فى سيرته عن ميمون بن مهران عن ضبة بن
محصن الغنوى* وعن ابن عباس قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحمك الله
صدّقتنى حين كذبنى الناس ونصرتنى حين خذلنى الناس وآمنت بى حين كفر بى
الناس وآنستنى فى وحشتى فأى منة لاحد علىّ مثلك خرجه فى فضائله ذكره فى
الرياض النضرة* وفى معالم التنزيل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لابى
بكر أنت صاحبى فى الغار وصاحبى على الحوض* قال الحسن بن الفضل من قال ان
أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو كافر لانكاره نص
القرآن وفى سائر الصحابة اذا أنكر يكون مبتدعا لا كافرا* وفى المشكاة عن
عمر بن الخطاب أنه قال لما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الغار
قال أبو بكر والله لا تدخله حتى أدخل قبلك فان كان فيه شىء أصابنى دونك
فدخل فكسبه فوجد فى جانبه تقبا فشق ازاره فسدّها وبقى منها اثنان فألقمهما
رجليه ثم قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ادخل فدخل رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ووضع رأسه فى حجر أبى بكر ونام فلدغ أبو بكر فى رجله من
الحجر ولم يتحرّك مخافة أن ينتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسقطت
دموعه على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانتبه فقالى مالك يا أبا بكر
قال لدغت فداك أبى وأمى فتفل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذهب ما
يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته رواه رزين وفى حديث الخجندى ثم قال أبو
بكر بعد سدّ الحجر انزل يا رسول الله دليل على أن باب الغار من أعلاه كذا
فى الرياض النضرة* وحكى الواقدى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما دخل
الغار دعا بشجرة كانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار فحجبت أعين
الكفار* وذكر ثابت بن قاسم فى الدلائل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
لما دخل الغار وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة قال هشام هى شجرة
معروفة وهى أمّ غيلان فحجبت عن الغار أعين الكفار وعن أبى حنيفة أنها تكون
مثل قامة الانسان لها خيطان وزهر أبيض يحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته
ولينه لانه كالقطن وخرج أبو بكر البزار فى مسنده من حديث أبى مصعب المكى
قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يحدّثون أن النبىّ
صلّى الله عليه وسلم لما كانت ليلة بات فى الغار أمر الله تبارك وتعالى
شجرة أو قال الراءة فنبتت فى وجه الغار فسترت وجه النبى صلّى الله عليه
وسلم وأمر الله العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأمر الله حمامتين وحشيتين
فوقعتا بفم الغار فعششتا على بابه* قال السهيلى وحمام الحرم من نسلهما كذا
فى سيرة مغلطاى* وفى معالم التنزيل حتى باضتافى أسفل النقب* وفى القصة أنبت
الله ثمامة على فم الغار* وفى المواهب اللدنية أخرج أبو نعيم فى الحلية عن
عطاء ابن ميسرة قال نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان طالوت يطلبه
ومرّة على النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى الغار انتهى قيل وكذا نسجت على
الغار الذى دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه النبىّ صلى الله عليه وسلم لقتل
سفيان بن خالد بن نبيح الهذلى بالعرنة فقتله ثم احتمل رأسه ودخل فى غار
فنسجت عليه العنكبوت وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين* وفى تاريخ
ابن عساكران العنكبوت
(1/327)
نسجت أيضا على عورة زيد بن على بن الحسين
بن على بن أبى طالب لما صلب عريانا فى سنة احدى وعشرين ومائة وسيأتى فى
الخاتمة أنه قتل بالكوفة فى المصاف وكان قد خرج وبايعه خلق فحاربه نائب
العراق يوسف بن عمر وظفر به يوسف فقتله وصلبه عريانا وبقى جسده مصلوبا أربع
سنين* روى أن المشركين كانوا يعلمون محبة النبىّ صلّى الله عليه وسلم لابى
بكر رضى الله عنه فذهبوا لطلبه فوقفوا على بابه وفيهم أبو جهل فخرجت اليهم
أسماء بنت أبى بكر فقالوا لها أين أبوك قالت لا أدرى فرفع أبو جهل يده وكان
فاحشا خبيثا فلطم خدّها لطمة خرج منها قرطها فسقط ثم انصرفوا فوقعوا فى
طلبهما* وفى الاكتفاء ولما فقدت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلبوه
بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة يتبعون أثره فى كل وجه فوجد الذى ذهب
قبل ثور أثره هناك فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى الى ثور وشق على قريش
خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجزعوا لذلك فطفقوا يطلبونه بأنفسهم
فيما قرب منهم ويرسلون من يطلبه فيما بعد عنهم وجعلوا مائة بعير لمن ردّه
عليهم ولما انتهوا الى فم الغار وقد كانت العنكبوت ضربت على بابه بعشاش
بعضها على بعض بعد أن دخله رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال قائل منهم
ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف ما أربكم فى الغار ان عليه لعنكبوتا أقدم من
ميلاد محمد* وفى الشفاء وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد محمد
قالوا فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتل العنكبوت وقال انها جند
من جنود الله* وفى رواية أقبل فتيان من مشركى قريش من كل بطن رجل بعصيهم
وسيوفهم ومعهم قائف من قافة بنى مدلج وهم المشهورون بالقيافة بين العرب
فالتمسوا أثرهما فوجدوه وقصوه الى أن بلغ قرب جبل ثور ففقدوه هناك فقال
القائف ما أدرى أين وضعا أقدامهما بعد هذا ولما دنوا من الغار قال القائف
والله ما جاوز مطلوبكم من هذا الغار فعند ذلك حزن أبو بكر فقال له رسول
الله صلّى الله عليه وسلم لا تحزن ان الله معنا قال يا رسول الله لو نظر فى
موضع قدميه لرآنا* وفى رواية لا بصرنا تحت قدميه* وفى الرياض النضرة فيه
دلالة على أن باب الغار كان من أعلاه فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلم
يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما* وفى تفسير الكورانى قد روى أنه
عليه السلام لما رآى بالصدّيق اضطرابا قال له انظر الى جانب الغار فنظر
فرأى بحرا على ساحله سفينة* وفى معالم التنزيل لم يكن حزن أبى بكر جبنا منه
وانما كان اشفاقا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ان أقتل فأنا رجل
واحد وان قتلت هلكت الامّة* وفى معالم التنزيل أيضا فجعل الطلب يضربون
يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا الغار انكسر بيضة الحمام وتفسخ بيت
العنكبوت* وفى الشفاء وقعت حمامتان على فم الغار فقالت قريش لو كان فيه أحد
لما كان هناك الحمام روى أن المشركين لما مرّوا على باب الغار طارت
الحمامتان فلما رأوا بيضة الحمام ونسج العنكبوت قالوا ذلك فلما سمع النبىّ
صلّى الله عليه وسلم حديثهم علم أن الله قد حمى حماهما بالحمام وصرف عنهما
كيدهم بالعنكبوت
وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمى
فالصدق فى الغار والصدّيق لم يرما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خيرا لبرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم
ولله در القائل
والعنكبوت أجادت حوك حلتها ... فما تخال خلال النسج من خلل
وما أحسن قول النقيب
(1/328)
ودود القزان نسجت حريرا ... يجمل لبسه فى
كل شى
فان العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبى
ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك كذا فى المواهب اللدنية* روى ابن وهب أن حمام
مكة أظلت النبىّ صلّى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا لها بالبركة ونهى عن
قتل العنكبوت وقال هى جند من جنود الله* وفى العمدة روى عن أبى بكر رضى
الله عنه أنه قال لا أزال أحب العنكبوت منذ رايت النبىّ صلّى الله عليه
وسلم أحبها ويقول جزى الله العنكبوت عنا خيرا فانها نسجت علىّ وعليك يا أبا
بكر فى الغار حتى لم يرنا المشركون الا أن البيوت تطهر من نسجها لما روى عن
علىّ أنه قال طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فان تركه فى البيت يورث الفقر*
وفى الاكتفاء وأتى المشركون من كل بطن حتى اذا كانوا من النبىّ صلّى الله
عليه وسلم على قدر أربعين ذراعا معهم قسيهم وعصيهم تقدّم أحدهم فنظر فرآى
حمامتين فرجع فقال لاصحابه ليس فى الغار شىء رأيت حمامتين على فم الغار
فعرفت أن ليس فيه أحد فسمع قوله النبىّ صلّى الله عليه وسلم فعلم أن الله
قد دارأ بهما عنه فأثنى عليهما وفرض جزاءهما وانحدرن فى حرم الله ففرّخن
أحسبه قال فأضل كل حمام فى الحرم من فراخهما وفى حياة الحيوان ان حمام
الحرم من نسل تلك الحمامتين* روى أيضا أن أبا بكر لما رآى القائف اشتدّ
حزنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال ان قتلت فانما أنا رجل واحد
الى آخر ما سبق فعند ذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تحزن ان
الله معنا يعنى بالنصرة فأنزل الله سكينته أى أمنه الذى يسكن عنده القلوب
عليه أى على النبىّ صلّى الله عليه وسلم أو على أبى بكر وهو الاظهر لانه
كان منزعجا وأيده يعنى النبىّ صلّى الله عليه وسلم بجنود لم تروها يعنى
الملائكة أنزلهم يحرسونه فى الغار وليصرفوا وليضربوا وجوه الكفار وأبصارهم
عن رؤيته وألقوا الرعب فى قلوبهم حتى انصرفوا خائبين كذا فى معالم التنزيل*
أنظر لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حزن الصدّيق قد اشتدّ لكن لا
على نفسه قوّى قلبه ببشارة لا تحزن ان الله معنا وكانت تحفة ثانى اثنين
مدخرة له فهو الثانى فى الاسلام والثانى فى بذل النفس والعمر وسبب الموت
ولما وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بماله ونفسه جوزى بمواراته معه فى
رمسه وقام مؤذن التشريف ينادى على منائر الامصار ثانى اثنين اذهما فى الغار
ولقد أحسن حسان بن ثابت حيث قال
وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به اذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من الخلائق لم يعدل به بدلا
وتأمّل فى قول موسى عليه السلام لبنى اسرائيل كلا ان معى ربى سيهدين وقول
النبىّ صلّى الله عليه وسلم للصدّيق ان الله معنا فموسى خص بشهود المعية
ولم يتعدّ منه الى أتباعه ونبينا صلّى الله عليه وسلم تعدّى منه الى
الصدّيق لم يقل معى لانه أمدّ أبا بكر بنوره فشهد سرّ المعية ومن ثم سرى سر
السكينة الى أبى بكر والا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلى والشهود وأين معية
الربوبية فى قصة موسى عليه السلام من معية الالهية فى قصة نبينا صلّى الله
عليه وسلم قاله العارف شمس الدين بن اللبان كذا فى المواهب اللدنية عن ابن
عباس رضى الله عنهما قال كان أبو بكر مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى
الغار فعطش عطشا شديدا فشكى الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال له النبى
صلّى الله عليه وسلم اذهب الى صدر الغار فاشرب قال أبو بكر فانطلقت الى صدر
الغار فشربت ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك ثم عدت
الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال شربت فقلت نعم قال ألا أبشرك يا أبا
بكر قلت بلى يا رسول الله قال ان الله تبارك وتعالى أمر الملك الموكل
بأنهار الجنة أن اخرق نهرا من جنة
(1/329)
الفردوس الى صدر الغار ليشرب أبو بكر فقلت
يا رسول الله ولى عند الله هذه المنزلة فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم
نعم وأفضل والذى بعثنى بالحق لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين
نبيا خرجه الملا فى سيرته كذا فى الرياض النضرة ثم أمر أبو جهل مناديا
ينادى فى أعلا مكة وأسفلها من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير أو جاء
بابن أبى قحافة أو دل عليه فله مائة بعير فلم يزل المشركون يطوفون على جبال
مكة يطلبونهما وكان مكثهما فى الغار ثلاث ليال وقيل بضعة عشر يوما والاوّل
هو المشهور كذا فى المواهب اللدنية وكان عبد الله بن أبى بكر وفى معالم
التنزيل عبد الرحمن ابن أبى بكر وهو مخالف لرواية غيره شابا خفيفا ثقفا
لقنا يختلف عليهما فيبيت عندهما بالغار ويدلج من عندهما بالسحر فيصبح مع
قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكاد ان به الاوعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك
حين يختلط الظلام وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من مكة اذا أمست بما
يصلحهما وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر يرعى عليهما منحة من غنم كانت
لابى بكر فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان فى رسل وهو لبن
المنحة فيرجع عنهما بغلس فيرعاها فلا يتفطن له أحد من الرعيان ففعل ذلك كل
ليلة من الليالى الثلاث* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق كان عامر بن
فهيرة مولى أبى بكر يرعى فى رعيان أهل مكة فاذا أمسى أراح عليهما غنم أبى
بكر فاحتلبا وذبحا فاذا غدا عبد الله بن أبى بكر من عندهما تبع عامر بن
فهيرة أثره بالغنم حتى يعفى عليه فخرج معهما حتى قدم المدينة فاستشهد يوم
بئر معونة كما سيجىء فى الموطن الرابع* وفى الاستيعاب وأسد الغابة عامر بن
فهيرة مولى أبى بكر كان مولدا من مولدى الازد أسود اللون مملوكا للطفيل بن
عبد الله بن سخبرة أخى عائشة لامّها وكان من السابقين الى الاسلام أسلم وهو
مملوك وكان حسن الاسلام عذب فى الله اشتراه أبو بكر فأعتقه وكان يرعى فى
ثور فى رعيان أهل مكة الى آخر ما ذكر فى رواية ابن هشام آنفا* فلما سار
النبى صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر من الغار الى المدينة هاجر معه فأردفه
أبو بكر خلفه وشهد بدرا وأحدا وقتل يوم بئر معونة وهو ابن أربعين سنة قتله
عامر بن الطفيل ذكر ذلك كله موسى بن عقبة وابن اسحاق عن ابن شهاب ويقال
قتله جبار بن سلمى كما سيجىء فى الموطن الرابع فى سرية المنذر الى بئر
معونة ان شاء الله تعالى*
(ذكر خروجهما من الغار وتوجههما الى المدينة
وما وقع لهما فى الطريق)
* ولما مضت ثلاث ليال وسكن عنهما الناس جاء الدليل بالراحلتين صبح ثلاث
بالسحر الى باب الغار كما وعده* قال أبو الحسن بن البراء خرج رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من الغار ليلة الاثنين لغرة شهر ربيع الاوّل* وذكر
محمد بن سعد أنه خرج من الغار ليلة الاثنين لا ربع ليال خلون من ربيع
الاوّل كما مرّ كذا فى سيرة مغلطاى ودلائل النبوّة* وفى سيرة ابن هشام
أتاهما صاحبهما الذى استأجراه ببعيريهما وبعير له وأتتهما أسماء بنت أبى
بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصا ما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فاذا
ليس فيها عصام فحلت نطاقها فجعلته عصا ما علقتها به فكان يقال لاسماء بنت
أبى بكر ذات النطاقين لذلك* قال ابن هشام سمعت غير واحد من أهل العلم يقول
ذات النطاقين وتفسيره انها لما أرادت تعليق السفرة شقت نطاقها باثنتين
فعلقت السفرة بواحدة وانتطقت بالاخرى كما مرّ فى أوائل الفصل الاوّل وجاء
عامر بن فهيرة ليخدمهما فى الطريق* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق فلما
قرب أبو بكر الراحلتين الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدّم له أفضلهما
ثم قال اركب فداك أبى وأمى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انى لا أركب
بعيرا ليس لى قال فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى قال لا ولكن بالثمن
الذى ابتعتها به قال أخذتها بكذا وكذا قال قد أخذتها بذلك قال هى لك يا
رسول الله وقد مرّ أن ثمنها ثمانمائة درهم* قيل الحكمة فيه انه صلّى الله
عليه وسلم أحب أن لا تكون هجرته الا بمال نفسه فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر
عامر بن فهيرة مولاه
(1/330)
ليخدمهما فى الطريق* وفى سيرة ابن هشام قال
ابن اسحاق ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقد وكان ماهرا بالطريق فسلك
بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج*
وفى رواية ثم عارض الطريق على أمج ثم نزل من قديد خيام أمّ معبد عاتكة بنت
خالد الخزاعية من بنى كعب* قال ابن اسحاق ثم اجتاز بهما حتى عارض الطريق
بعد أن أجاز قديدا ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الحرار ثم سلك بهما
ثنية المرة ثم سلك بهما لقفا* قال ابن هشام لفتا قال ابن اسحاق ثم أجاز
بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة مجاج ويقال لجاج فيما قال ابن هشام ثم
سلك بهما مزجج مجاج ثم تبطن بهما مزجج من ذى العضوين بفتح العين المهملة
وسكون الضاد المعجمة ويقال بسكون الصاد المهملة فيما قاله ابن هشام ثم بطن
بهما ذى كشد ثم أخذ بهما على الجد اجد ثم على الاجرد ثم سلك بهما ذا سلم من
بطن أعدا مدلجة بعمين ثم على الغبا بيد قال ابن هشام ويقال الغبابيب ويقال
العشبانة قال ابن هشام ثم أجاز بهما الفاجة ويقال الفاخة فيما قال ابن هشام
ثم هبط بهما المعرج وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم فحمل رسول الله صلّى الله
عليه وسلم رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل وقيل يقال له ابن الرداة
وفى نسخة ابن الرداح الى المدينة وبعث معه غلاما له يقال له مسعود بن هنيدة
ثم خرج بهما دليلهما من المعرج فسلك بهما ثنية العائر عن يمين ركونة ويقال
ثنية القاير فيما قال ابن هشام حتى هبط بهما على بطن ديم ثم قدم بهما قباء
على بنى عمرو بن عوف لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاوّل يوم الاثنين
حين اشتدّ الضحى وكادت الشمس تعتدل كما سيجىء واتفق فى مسيرة قصة سراقة
عارضهم يوم الثلاثاء بقديد ذكره ابن سعد كما سيجىء* قال أبو بكر فأدلجنا
يعنى من الغار فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فضربت
ببصرى هل أرى ظلا نأوى اليه فاذا أنا بصخرة فأهويت اليها فاذا بقبة ظلها
مديد فدخلت اليها فسوّيته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وفرشت فروة وقلت
اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فاذا أنا
براعى غنم لرجل من قريش كنت أعرفه فحلب شيئا من اللبن ثم أتيت به رسول الله
صلّى الله عليه وسلم فشرب حتى رضيت* وفى المواهب اللدنية واجتاز صلّى الله
عليه وسلم فى وجهه ذلك بعبد يرعى غنما فكان من شأنه ما رويناه من طريق
البيهقى بسنده عن قيس بن النعمان قال فلما انطلق النبىّ صلّى الله عليه
وسلم وأبو بكر مستخفين مرّا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن فقال ما عندى
شاة تحلب غير أن ههنا عناقا حملت أوّل وما بقى لها لبن فقال ادع بها
فاعتقلها صلّى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت وجاء أبو بكر بمجن
فسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعى ثم حلب فشرب فقال الراعى بالله من أنت فو
الله ما رأيت مثلك فقال أو تراك تكتم علىّ حتى أخبرك قال نعم قال فانى محمد
رسول الله قال فأنت الذى تزعم قريش أنه صابئ قال انهم ليقولون ذلك قال
فأشهد انك نبىّ وانّ ما جئت به حق وانه لا يفعل ما فعلت الا نبىّ وأنا
متبعك قال انك لن تستطيع ذلك يومك فاذا بلغك انى قد ظهرت فأتنا أورد فى
المواهب اللدنية قصة العبد الراعى بعد قصة أم معبد قال أبو بكر ثم قلت آن
الرحيل فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم الا سراقة بن مالك بن
جعشم فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا قال لا تحزن ان الله معنا حتى
اذا دنا منا وكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة فقلت يا رسول الله
هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال لم تبكى قلت أما والله ما على نفسى أبكى
ولكنى أبكى عليك فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال اللهم
اكفناه بما شئت فساخت قوائم فرسه الى بطنها فى أرض صلد فوثب عنها وقال يا
محمد قد علمت ان هذا عملك فادع الله أن ينجينى مما أنا فيه فو الله لا عمين
على
من ورائى من الطلب وهذه كنانتى فخذ منها سهما فانك ستمرّ بابلى وغنمى فى
موضع
(1/331)
كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم لا حاجة لى بها فأطلق فرجع الى أصحابه وجعل لا يلقى
أحدا الا قال كفيتم ماههنا ولا يلقى أحد الا ردّه كذا فى المنتقى* وفى
رواية دعا عليه فقال اللهم اصرعه فصرعت فرسه ثم قامت تحمحم وفى مزيل الخفاء
اسم هذه الفرس العود وقيل كانت أنثى* وفى سيرة مغلطاى فلما راحوا من قديد
تعرض لهما سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى* وفى المواهب اللدنية ثم تعرض
لهما بقديد سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى وفى رواية عن سراقة أنه قال
جاءنا رسل قريش انهم جعلوا فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبى بكر دية
فى كل واحد منهما مائة ابل لمن قتله أو أسره فبينا أنا جالس فى مجلس من
مجالس قومى أقبل رجل حتى قام علينا فقال يا سراقة انى قد رأيت آنفا أسودة
بالساحل أظنها محمدا وأصحابه* وفى سيرة ابن هشام قال والله لقد رأيت ركبة
ثلاثة مرّوا علىّ آنفا انى لأراهم محمدا وأصحابه قال فأو مأت اليه بعينى أن
اسكت انتهى قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت انهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا
وفلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت فى المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت
جاريتى أن تخرج بفرسى وهى من وراء أكمة فتحبسها علىّ وأخذت رمحى فخرجت به
من ظهر البيت فخططت بزجه الارض وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسى* وفى سيرة
ابن هشام قال سراقة وكنت أرجو أن أردّه على قريش وآخذ المائة قال فركبتها
فرفعتها تقرب بى حتى دنوت منهم فعثرت بى فخررت عنها فقمت فأهويت يدى الى
كنانتى فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذى أكره
فركبت فرسى وعصيت الازلام ولم أزل أجدّ فى الطلب تقرب بى حتى سمعت قراءة
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر كثير الالتفات ساخت
يدا فرسى فى الارض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد
تخرج يديها فلما استوت قائمة ظهر لاثر يديها غبار ساطع الى السماء مثل
الدخان* وفى سيرة ابن هشام كالاعصار فاستقسمت بالازلام فخرج الذى أكره
فناديت بالامان فوقفوا فركبت فرسى حتى جئتهم ووقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت
من الحبس عنهم أن سيظهر أمر محمدا صلّى الله عليه وسلم فقلت له ان قومك قد
جعلوا فيك الدية فأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد
والمتاع فلم يرزآنى ولم يسألانى شيئا الا أن قال أخف عنا فسألت أن يكتب لى
كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب فى رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم كذا فى المنتقى* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق قال سراقة
عرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع منى وانه ظاهر قال فناديت القوم فقلت أنا
سراقة بن جعشم أنظرونى أكلمكم فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم منى شىء
تكرهونه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لابى بكر قل له ما تبتغى منا
قال فقال لى ذلك أبو بكر فقلت تكتب لى كتابا يكون آية بينى وبينكم قال اكتب
له يا أبا بكر قال فكتب لى كتابا فى عظم أو فى رقعة أو فى حزقة ثم ألقاه
الىّ فأخذته فجعلته فى كنانتى ثم رجعت فسكت فلم أذكر شيئا مما كان حتى اذا
كان فتح مكة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفرغ من حنين والطائف خرجت
ومعى الكتاب لالقاه فلقيته بالجعرانة قال فدخلت فى كتيبة من خيل الانصار
فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون اليك اليك ماذا تريد قال فدنوت من رسول
الله صلّى الله عليه وسلم وهو على ناقته والله لكأنى أنظر الى ساقه فى غرزه
فكأنما جمارة قال فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابك لى أنا
سراقة ابن جعشم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم وفاء وبرّادن منى
قال فدنوت منه وأسلمت وأورد فى المواهب اللدنية قصة سراقة بعد قصة أم معبد
روى ان أبا جهل لما سمع قصة سراقة أنشأ هذين البيتين وبعث بهما اليه
(1/332)
بنى مدلج انى أخاف سفهيكم ... سراقة يستغوى
بنصر محمد
عليكم به أن لا يفرق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسودد
وسراقة أيضا أنشأ هذين البيتين وبعث بهما الى أبى جهل
أبا حكم واللات ان كنت شاهدا ... لامر جوادى اذ تسيح قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا ... نبى ببرهان فمن ذا يكاتمه
معجزة
وفى الاكتفاء وسراقة بن مالك هذا الذى أظهر الله فيه أثرا من الآثار
الشاهدة له عليه الصلاة والسلام بأن الله أطلعه من الغيب فى حياته على ما
ظهر مصداقه بعد وفاته وذلك انه روى سفيان بن عيينة عن أبى موسى عن الحسن ان
رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك كيف بك اذا لبست سوارى
كسرى قال فلما أتى عمر بسوارى كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه
اياهما وكان سراقة رجلا ازب كثير شعر الساعدين فقال له ارفع يديك فقل الله
أكبر الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول أنا رب الناس
وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم اعرابيا من بنى مدلج ورفع عمر بها صوته*
قصة أم معبد
ومما وقع لهم فى الطريق مرورهم بخيمتى أمّ معبد عاتكة بنت خالد الخزاعية*
وفى المشكاة ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا الى
المدينة هو وأبو بكر ومولى أبى بكر عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله الليثى
مروا على خيمتى أمّ معبد الخزاعية انتهى وكانت بقديد وفى معجم ما استعجم من
قديد الى المشلل ثلاثة أميال بينهما خيمتى امّ معبد* وفى خلاصة الوفاء قديد
كزبير قرية جامعة بطريق مكة كثيرة المياه وكانت أمّ معبد امرأة برزة جلدة
تحتبى بفناء الخيمة تسقى وتطعم فسألوها تمرا ولحما ليشتروا منها فلم يصيبوا
عندها شيئا من ذلك وكان القوم مرملين مسنتين فقالت والله لو كان عندنا ما
أعوزتكم القرى فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى شاة فى كسر الخيمة
فقال ما هذه الشاة يا امّ معبد قالت شاة خلفها الجهد عن الغنم قال هل بها
من لبن قالت هى أجهد من ذلك قال اتأذنين لى أن أحلبها قالت نعم بأبى أنت
وأمى ان رأيت بها حلبا فاحلبها فدعا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فمسح بيده المباركة ضرعها وسمى الله عز وجل ودعا لها فى شانها فتفاجت عليه
ودرّت واجترت ودعا باناء يريض الرهط فحلب ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى
رويت وسقى أصحابه حتى رووا ثم شرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم آخرهم ثم
أراضوا ثم حلب ثانيا بعد بدء حتى امتلأ الاناء ثم غادره عندها ثم بايعها
وارتحلوا كذا ذكره البغوى فى شرح السنة وابن عبد البرّ فى الاستيعاب وقال
ابن الجوزى فى الوفاء قال لها هات قدحا فجاءت بقدح فحلب فيه حتى امتلأ فأمر
أبا بكر ان يشرب فقال ابو بكر بل أنت اشرب يا رسول الله قال ساقى القوم
آخرهم شربا فشرب أبو بكر ثم حلب فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم حلب
فشربت امّ معبد ثم حلب فقال ارفعى هذا لابى معبد اذا جاءك ثم ركبوا وساروا
وقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هز الاضحى
مخهنّ قليل فلما رأى ابو معبد اللبن عجب وقال من أين لك هذا اللبن يا امّ
معبد والشاء عازب حيال لا حلوب بالبيت قالت لا والله الا أنه مرّ بنا رجل
مبارك من حاله كذا وكذا قال صفيه لى يا امّ معبد قالت رأيت رجلا ظاهر
الوضاءة ابلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة وفى رواية نحلة ولم تزربه صعلة
وفى رواية صقلة وسيم قسيم فى عينيه دعج وفى أشفاره عطف وفى صوته صحل وفى
عنقه سطع وفى لحيته كثاثة أزج أقرن ان صمت فعليه الوقار وان تكلم سما وعلاه
البهاء أكمل الناس وابهاه من بعيد وأحسنه واعلاه من قريب حلو المنطق فصل لا
نزر ولا هذر كانّ منطقه خرزات نظمن يتحدّرن ربعة لا تشنؤه من طول ولا
تقتحمه
(1/333)
العين من قصر غصن بين غصنين وهو انضر
الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفونه ان قال أنصتبوا لقوله وان أمر
تبادروا لامره محفود محشود لا عابس ولا مفند* قال أبو معبد هذا والله صاحب
قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولا فعلنّ ان
وجدت الى ذلك سبيلا ثم هاجرت هى وزوجها فأسلما وكان أهلها يؤرّخون بيوم
الرجل المبارك كذا فى شرح السنة لمحيى السنة* وفى خلاصة الوفاء فخرج أبو
معبد فى أثرهم ليسلم فيقال أدركهم ببطن ريم فبايعه وانصرف* وفى الصفوة قال
عبد الملك فبلغنا ان أمّ معبد هاجرت الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم
وأسلمت* قال رزين أقامت قريش أياما ما يدرون أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلم الى أىّ جهة توجه وأىّ طريق سلك حتى سمعوا بعد ذهابهما من مكة بأيام
فى صباح هاتفا أقبل من أسفل مكة بأبيات ويغنى بغناء العرب عاليا بين السماء
والارض والناس يسمعون الصوت ويتبعونه ولا يدرون صاحبه حتى خرج من أعلا مكة
وهو يقول
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتى أمّ معبد
هما نزلا بالهدى ثم اهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمّة من محمد
فيا لقصى ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسودد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا اختكم عن شاتها وانائها ... فانكم ان تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريحا ضرّة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يردّدها فى مصدر ثم مورد
وقيل سمعوا هاتفا على أبى قبيس بصوت جهورى يقول هذه الابيات ولما سمع حسان
بن ثابت قال فى جوابه هذه الابيات
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسرى اليه ويغتدى
ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا ... عمى وهداة يهتدون بمهتد
لقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبىّ يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله فى كل مشهد
وان قال فى يوم مقالة غائب ... فتصديقها فى اليوم أو فى ضحى غد
ليهن أبا بكر سعادة جدّه ... بصحبته من يسعد الله يسعد
وفى رواية عن أمّ معبد أنها قالت طلعت علينا أربعة على راحلتين فنزلوا بى
فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشاة اريد ذبحها فاذا هى ذات درّ
فأذيتها منه فلمس ضرعها وقال لا تذبحيها فأرسلتها وجئت بأخرى فذبحتها
وطبختها لهم فأكل هو وأصحابه وملأت سفرتهم منها ما وسعت وبقى عندنا لحمها
أو أكثر وبقيت الشاة التى لمس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ضرعها عندنا
الى زمان عمر وهى السنة الثامنة عشر من الهجرة وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا
وما فى الارض لبن*
قصة العوسجة
وروى الزمخشرى فى ربيع الابرار عن هند بنت الجون نزل رسول الله صلّى الله
عليه وسلم خيمة خالتها أمّ معبد فقام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم
تمضمض ومج فى عوسجة الى جانب الخيمة فأصبحنا وهى كأعظم دوحة وجاءت بثمر
كأعظم
(1/334)
ما يكون فى لون الورس ورائحة العنبر وطعم
الشهد ما أكل منها جائع الاشبع ولا ظمآن الا روى ولا سقيم الا برئ ولا أكل
من ورقها بعير ولا شاة الا درّ لبنها فكنا نسميها المباركة وينتابنا من
البوادى من يستشفى بها ويتزوّد منها حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها
وصغر ورقها ففزعنا فما راعنا الا نعى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم
انها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك من أسفلها الى أعلاها وتساقط ثمرها
وذهبت نضرتها فما شعرنا الا بقتل أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه فما
أثمرت بعد ذلك وكنا ننتفع بورقها ثم أصبحنا واذا بها قد نبع من ساقها دم
غبيط وقد ذبل ورقها فبينا نحن فزعون مهمومون اذ أتانا خبر مقتل الحسين بن
على ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة
كما شهر أمر الشاة فى قصة هى أعلى القصص* ومما وقع لهم فى الطريق انه أقبل
النبىّ صلّى الله عليه وسلم الى المدينة وهو مردف أبا بكر وهو شيخ يعرف
والنبىّ صلّى الله عليه وسلم شاب لا يعرف فيلقى الرجل أبا بكر فيقول يا أبا
بكر من هذا بين يديك فيقول هذا الذى يهدينى السبيل فيحسب السائل أنه يعنى
به الطريق وانما يعنى سبيل الخيبر وفى نهاية ابن الاثير لقيهما فى الهجرة
رجل بكراع فقال من أنتم فقال أبو بكر باغ وهاد عرّض ببغاء الابل أى طلبه
وهداية الطريق وهو يريد طلب الدين والهداية من الضلالة* ومما وقع لهم فى
الطريق انه لقيهم بريدة بن الخصيب الاسلمى* وفى الوفاء روى ابن الجوزى فى
شرف المصطفى من طريق البيهقى موصولا الى بريدة انه لما جعلت قريش مائة من
الابل ان أخذ النبىّ صلّى الله عليه وسلم ويردّه عليهم حين توجه الى
المدينة سمع بريدة بذلك فحمله الطمع على الخروج لقصده صلّى الله عليه وسلم
فركب فى سبعين من أهل بيته من بنى سهم فتلقى رسول الله وكان رسول الله صلّى
الله عليه وسلم لا يتطير وكان يتفاءل فقال من أنت فقال أنا بريدة بن الخصيب
فالتفت النبىّ صلّى الله عليه وسلم الى أبى بكر فقال يا أبا بكر برد أمرنا
وصلح ثم قال ممن أنت قال من أسلم قال صلّى الله عليه وسلم سلمنا قال ممن
قال من بنى سهم قال خرج سهمك يا أبا بكر فقال بريدة للنبىّ صلّى الله عليه
وسلم من أنت قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله فقال بريدة
أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله فأسلم بريدة وأسلم من كان
معه جميعا قال بريدة الحمد لله أسلم بنو سهم طائعين غير مكرهين فلما أصبح
قال بريدة يا رسول الله لا تدخل المدينة الا معك لواء فحل عمامته ثم شدّها
فى رمح ثم مشى بين يديه حتى دخلوا المدينة فقال يا نبىّ الله ننزل على من
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان ناقتى هذه مأمورة أين تنزل كذا فى
شرف المصطفى لابن الجوزى*
خبر بريدة بن الحصيب
وفى شواهد النبوّة أخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلم بنزوله بعده بخراسان
بمدينة بناها ذو القرنين يقال لها مرو وبموته بها وبكونه يوم الحشر قائدا
لاهل المشرق فكان كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزل بريدة فى بعض
الغزوات بمرو وتوفى بها بعد الهجرة بستين سنة وقبره هناك معروف قريب من قبر
حكم بن عمرو الغفارى وهو أيضا من أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلم وكان
حاكما وقاضيا بمرو وتوفى بها بعد الهجرة بخمسين سنة قال بعض أصحاب الحديث
الاحاديث التى وردت فى شأن البلدان لم يتحقق صحتها الا حديث بريدة بن
الخصيب* ومما وقع لهم فى الطريق ما روى عن عروة أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم لقى طلحة بن عبيد الله والزبير فى الطريق فى ركب من المسلمين
كانوا تجارا قافلين من الشأم فكسا طلحة أو الزبير رسول الله صلّى الله عليه
وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا* قال الحافظ ابن حجر ويحتمل ان كلامن طلحة
والزبير أهدى لهما والذى فى السير هو طلحة والاولى الجمع وعند ابن أبى شيبة
ما يؤيده والا فما فى الصحيح أصح كذا فى الوفاء* وفى هذه السنة قبل قدوم
رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة بشهر مات البراء بن معرور وهو أحد
النقباء وأوّل من تكلم ليلة العقبة فلما قدم رسول الله انطلق
(1/335)
بأصحابه فصلى على قبره وقال اللهمّ اغفر له
وارحمه وارض عنه وقد فعلت وهو أوّل من مات من النقباء وأوّل صلاة على
الميت*
(ذكر استقبال أهل المدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومكثه بقباء فى
بنى عمرو بن عوف وتأسيس مسجد قباء)
* عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة الى الحرّة فينتظرون حتى
يردّهم حرّ الظهيرة* قال ابن اسحاق وذلك فى أيام حارّة فانقلبوا يوما بعد
ما أطالوا انتظارهم فلما أووا الى بيوتهم أو فى رجل من اليهود على أطم من
الآطام لامر ينظر اليه فبصر برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين
يزول بهم السراب فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب وفى
رواية يا بنى قيلة يعنى الانصار هذا جدّكم يعنى حظكم* وفى رواية صاحبكم
الذى تنتظرونه* وفى رواية بعث النبىّ صلّى الله عليه وسلم الى الانصار من
يخبرهم بقدومه كما سيجىء فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين نحو قباء حتى نزل أعلا
المدينة فى حىّ يقال لهم بنو عمرو بن عوف وهم أهل قباء* وفى الوفاء قباء
معدود من العالية وكانّ حكمته التفاؤل له ولدينه بالعلو وذلك يوم الاثنين
من ربيع الاوّل نهارا عند الاكثر* وفى سيرة أبى محمد عبد الملك بن هشام عن
زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن اسحاق المطلبى قال قدم علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين حين أشتدّ الضحى وكادت الشمس
تعتدل لاثنتى عشرة ليلة مضت من ربيع الاوّل وهو التاريخ فيما قال ابن هشام
قال ابن اسحاق ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن ثلاث وخمسين سنة وذلك
بعد أن بعثه الله بثلاث عشرة سنة* وفى أسد الغابة كان مقامه بمكة عشر سنين
وقيل ثلاث عشرة سنة وقيل خمس عشرة سنة والاكثر ثلاث عشرة سنة وقال ابن
الكلبى خرج من الغار أوّل ربيع الاوّل وقدم المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت
منه يوم الجمعة* وفى المنتقى تنازع القوم أيهم ينزل عليه فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم أنزل الليلة على بنى النجار أخوال عبد المطلب لاكرمهم
بذلك فلما أصبح غدا حيث أمر* وفى الوفاء روى رزين عن أنس قال كنت اذ قدم
رسول الله المدينة ابن تسع سنين فأسمع الغلمان والولائد يقولون جاء رسول
الله صلّى الله عليه وسلم فنذهب فلا نرى شيئا حتى جاء رسول الله صلّى الله
عليه وسلم وأبو بكر فمكثا فى خرب فى طرف المدينة* وفى رواية فنزلا جانب
الحرة فأرسلا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الانصار فاستقبلهما زها
خمسمائة من الانصار حتى انتهوا اليهما* وفى خلاصة الوفاء فنزل فى بنى عمرو
بن عوف بقباء على كلثوم ابن الهدم وكان يومئذ مشركا وبه جزم ابن زبالة
ولرزين نزل فى ظل نخلة ثم انتقل الى دار كلثوم أخى بنى عمرو بن عوف* وفى
رواية نزل على سعد بن خيثمة وجه الجمع بين الروايتين أن يقال انه كان نزل
على كلثوم بن الهدم ولكن عينوا له مسكنا فى دار سعد بن خيثمة يكون للناس
فيه وذلك لان سعدا كان عزبالا أهل له ويسمى منزله منزل الغرباء* قال المطرى
وبيت سعد بن خيثمة أحد الدور التى قبلى مسجد قباء وهى التى تلى المسجد فى
قبلته يدخلها الناس اذا زاروا مسجد قباء ويصلون فيها وهناك أيضا دار كلثوم
بن الهدم وفى تلك العرصة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم نازلا قبل
خروجه الى المدينة وكذلك أهله وأهل أبى بكر حين قدموا بعد خروج رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من مكة وهنّ سودة وعائشة وأمّها أمّ رومان واختها
أسماء وهى حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بقباء قبل نزولهم المدينة انتهى
ونزل أبو بكر بالسنخ على حبيب بن أساف أحد بنى الحارث بن الخزرج وقيل على
خارجة بن زيد بن أبى زهير روى مجمع بن يعقوب عن أبيه وعن سعيد بن عبد
الرحمن بن رقيش عن عبد الرحمن بن زيد بن حارثة قالا نزل النبىّ صلّى الله
عليه وسلم بظهر حرتنا ثم ركب
(1/336)
فأناخ على عذق عند بئر غرس قبل أن تبزغ
الشمس (قوله) عند بئر غرس الظاهر أنه تصحيف ولعله بئر غدق لبعد بئر غرس عن
منزله صلّى الله عليه وسلم بقباء بخلاف بئر غدق قيل كان أوّل ما سمع من
النبىّ صلى الله عليه وسلم أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الارحام
وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام وأكثر أهل السير على أن ذلك
اليوم كان يوم الاثنين وشذ من قال يوم الجمعة من ربيع الاوّل فى الضحوة
الكبرى قريبا من نصف النهار* وفى نسخة طاهر بن يحيى ان قدومه كان قبل أن
تبزغ الشمس وما يعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أبى بكر عليهما ثياب
بيض متشابهة فجعل الناس يقفون عليهم حتى بزغت الشمس من ناحية أطمهم الذى
يقال له شنف فأمهل أبو بكر ساعة ثم قام فستر رسول الله صلّى الله عليه وسلم
بردائه فعرف القوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم* قال محمد بن معاذ قلت
لمجمع بن يعقوب ان الناس يرون أنه جاء بعد ما ارتفع النهار وأحرقتهم الشمس
قال مجمع هكذا أخبرنى أبى وسعيد بن عبد الرحمن يريد أنهما قالا ما بزغت
الشمس الا وهو فى منزله صلّى الله عليه وسلم* وفى مسلم ان قدومهم كان ليلا
والذى قاله الاكثرون نهارا* وفى الصفوة قال ابن اسحاق دخلها حين ارتفع
الضحى وكادت الشمس تعتدل كما مرّ فى قول ابن هشام حيث قال وهو التاريخ وفى
الصحيح انهم لما قدموا جليس النبىّ صلّى الله عليه وسلم تحت شجرة صامتا
وقام أبو بكر لامر الناس أى يتلقاهم فطفق من جاء من الانصار ممن لم يكن رأى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر ويرحبه يحسب أنه النبىّ صلى
الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأقبل أبو
بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله*
ذكر تاريخ الهجرة
واختلفوا فى أن يوم نزوله أى يوم من الشهر فبعضهم على أنه أوّل الشهر على
ما روى موسى بن عقبة عن ابن شهاب وقيل لليلتين خلتا من شهر ربيع الاوّل
ونحوه عن أبى معشر لكن قال ليلة الاثنين ومثله عن ابن البرقى وثبت ذلك فى
أواخر صحيح مسلم وقيل لاثنتى عشرة ليلة خلت منه حكاه ابن الجوزى فى شرف
المصطفى عن الزهرى فقال قال الزهرى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم
المدينة يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاوّل وبه جزم النووى
وكذا ابن النجار* وفى شرف المصطفى لابن الجوزى عن ابن عباس ولد رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين ورفع الحجر يوم
الاثنين وخرج مهاجرا يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين وقبض يوم
الاثنين* وفى روضة الاقشهرى قال ابن الكلبى خرج من الغار يوم الاثنين أوّل
يوم من ربيع الاوّل وقدم المدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت منه قال
أبو عمر وهو قول ابن اسحاق الا فى تسمية اليوم وعن أبى بكر بن حزم لثلاث
عشرة ليلة خلت من ربيع الاوّل ويجمع بين هذا وبين الذى قبله بالحمل على
الاختلاف فى رؤية الهلال ونقل ابن زبالة عن ابن شهاب ان نزوله على بنى عمرو
بن عوف كان فى النصف من ربيع الاوّل وقيل كان قدومه فى سابعه ولما نزل رسول
الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر ابن فهيرة على كلثوم قال لمولى له
يا نجيح اطعمنا رطبا فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم اسم نجيح
التفت الى أبى بكر وقال أنجحت أو أنجحنا فأتوا بقنو من أمّ جردان فيه رطب
منصف وفيه زهو فقال ما هذا فقال عذق أمّ جردان فقال صلّى الله عليه وسلم
اللهمّ بارك فى أمّ جردان* واختلف فى أنه صلّى الله عليه وسلم كم يوما أقام
فى بنى عمرو بن عوف فعن قوم من بنى عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين
يوما حكاه ابن زبالة* وفى البخارى من حديث أنس أقام فيهم أربع عشرة ليلة
وهو المراد بما فى رواية عائشة بقولها بضع عشرة ليلة* وقال موسى بن عقبة
ثلاثا* وقال عروة ثلاث ليال الثلاثاء والاربعاء والخميس كما جزم به ابن
حبان* وقال ابن اسحاق أقام فيهم خمسا* وفى ذخائر العقبى لم يقم بقباء الا
ليلة أو ليلتين* قال الحافظ ابن حجر أنس ليس من بنى عمرو بن عوف فانه من
الخزرج وقد جزم
(1/337)
بأربع عشرة ليلة فهو أولى بالقبول وأمر
النبىّ صلّى الله عليه وسلم بالتاريخ فكتب من حين الهجرة فى ربيع الاوّل
رواه الحاكم فى الاكليل قال ابن الجزار وتعرف بعام الاذن وهو معضل والمشهور
ان ذلك كان فى خلافة عمرو أن عمر قال الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخ
بها وابتدأ من المحرم بعد اشارة على وعثمان بذلك وأفاد السهيلى انّ الصحابة
أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى لمسجد أسس على التقوى من أوّل يوم*
وفى الاستيعاب ومن مقدمه الى المدينة أرخ التاريخ فى زمان عمرو أقام علىّ
بمكة بعد مخرجه عليه السلام ثلاث ليال وأيامها حتى أدّى للناس ودائعهم التى
كانت عند النبىّ صلّى الله عليه وسلم وخلفه لردّها ثم خرج فلحق النبىّ صلّى
الله عليه وسلم بقباء فنزل على كلثوم بن الهدم وانما كانت اقامة علىّ بقباء
مع النبىّ ليلة أو ليلتين* وفى روضة الاحباب وكان علىّ يسير بالليل ويختفى
بالنهار وقد نقبت قدماه فمسحهما النبىّ صلّى الله عليه وسلم ودعا له
بالشفاء فبرئتا فى الحال وما اشتكاهما بعد اليوم قط* وفى الوفاء وكان
لكلثوم بن الهدم بقباء مربد والمربد الموضع الذى يبسط فيه التمر لييبس
فأخذه منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسسه وبناه مسجدا كما رواه ابن
زباله وغيره* وفى الصحيح عن عروة فلبث فى بنى عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة
واسس المسجد الذى أسس على التقوى* وفى رواية عبد الرزاق قال الذين بنى فيهم
المسجد الذى أسس على التقوى هم بنو عمر بن عوف وكذا فى حديث ابن عباس عند
ابن عائذ ولفظه ومكث فى بنى عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا وكان
يصلى فيه ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو المسجد الذى أسس على التقوى وروى ابن
أبى شيبة عن جابر قال لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة ولذا قيل المتقدّمون فى
الهجرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم والانصار بقباء قد بنوا
مسجدا يصلون فيه يعنى هذا المسجد فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وورد قباء صلّى بهم فيه الى بيت المقدس ولم يحدث فيه شيئا أى فى مبدأ الامر
لان ابن أبى شيبة روى ذلك ثم روى أنه صلّى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء
وقدّم القبلة الى موضعها اليوم وقال جبريل بؤم بى البيت* وقد اختلف فى
المراد بقوله تعالى لمسجد أسس على التقوى من أوّل يوم فالجمهور على أن
المراد به مسجد قباء ولا ينافيه قوله صلّى الله عليه وسلم لمسجد المدينة هو
مسجدكم هذا اذ كل منهما أسس على التقوى* وفى الكبير عن جابر بن سمرة قال
لما سأل أهل قباء النبىّ صلّى الله عليه وسلم ان بينى لهم مسجدا قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ليقم بعضكم فليركب الناقة فقام أبو بكر فركبها
فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد فقام عمر فركبها فلم تنبعث فرجع فقعد فقال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ليقم بعضكم فيركب الناقة فقام علىّ فلما وضع رجله
فى غرز الركاب وثبت به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ارخ زمامها
وابتنوا على مدارها فانها مأمورة وروى الطبرى عن جابر قال لما قدم رسول
الله صلّى الله عليه وسلم المدينة قال لاصحابه انطلقوا الى أهل قباء نسلم
عليهم فرحبوا به ثم قال يا أهل قباء ائتونى بأحجار من الحرّة فجمعت عنده
أحجار كثيرة ومعه عنزة فحط قبلتهم فأخذ حجرا فوضعه ثم قال يا أبا بكر خذ
حجرا فضعه الى جنب حجرى ثم قال يا عمر خذ حجرا فضعه الى جنب حجر أبى بكر ثم
قال يا عثمان خذ حجرا فضعه الى جنب حجر عمر كأنه أشار الى ترتيب الخلافة
كما سيجىء فى بناء مسجد المدينة ثم التفت الى الناس فقال وضع رجل حجره حيث
أحب على ذلك الخط وروى الترمذى عن أسيد بن ظهير عن النبىّ صلّى الله عليه
وسلم قال الصلاة فى مسجد قباء كعمرة وعن عائشة بنت سعد بن أبى وقاص قالت
سمعت أبى يقول لأن أصلى فى مسجد قباء ركعتين أحب الىّ من أن آتى بيت المقدس
مرّتين لو يعلمون ما فى قباء لضربوا
اليه أكاد الابل
(1/338)
وورد فى الصحيحين عن ابن عمر أنه قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم
يزور قباء أو يأتى قباء راكبار أو ماشيا وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يقول من صلّى فيه كان كعدل عمرة* وعن سهل بن حنيف قال
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من تطهر فى بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى
فيه صلاة كان له كأجر عمرة أخرجه ابن ماجة وعن عمرو بن شيبة بسند جيد ورواه
أحمد والحاكم وقال صحيح الاسناد وللبخارى والنسائى ان رسول الله صلّى الله
عليه وسلم كان يأتى مسجد قباء كل سبت راكبا أو ماشيا وكان عبد الله يفعله
وروى ابن زبالة أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم صلى الى الاسطوانة الثالثة
فى مسجد قباء التى فى الرحبة وعن سعيد بن عبد الرحمن قال كان المسجد فى
موضع الاسطوانة المخلفة الخارجة فى رحبة المسجد* قال ابن رقيش حدّثنى نافع
ان ابن عمر كان اذا جاء مسجد قباء صلّى الى الاسطوانة المخلفة يقصد بذلك
مسجد النبىّ صلّى الله عليه وسلم الاوّل* وروى ابن زبالة عن عبد الملك بن
بكير عن ابن أبى ليلى عن أبيه أن رسول الله صلّى فى مسجد قباء الى
الاسطوانة الثالثة فى الرحبة اذا دخلت من الباب الذى بفناء دار سعد بن أبى
خيثمة* قلت الباب المذكور هو المسدود اليوم يظهر رسمه من خارج المسجد فى
جهة المغرب وكان شارعا فى الرواق الذى يلى الرحبة من السقف القبلى
فالاسطوانة الثالثة فى الرحبة هى الاسطوانة التى عندها اليوم محراب فى رحبة
المسجد لانطباق الوصف المذكور عليها فهى المرادة بقول الواقدى كان المسجد
فى موضع الاسطوانة المخلفة الخارجة فى رحبة المسجد وهى التى كان ابن عمر
يصلى اليها ذكر ذلك كله فى الوفاء |