تاريخ
الخميس في أحوال أنفس النفيس * (الفصل الثانى فى
انتقاله من قباء الى باطن المدينة
وأوّل جمعة صليت فى الاسلام قبل قدومه المدينة ونزوله على أبى أيوب وسكناه
بداره وبناء المسجد وموت كلثوم بن الهدم واسلام عبد الله بن سلام وموت أسعد
بن زرارة وابتداء خدمة أنس والزيادة فى صلاة الحضر ووعك أبى بكر والاصحاب
واسلام سلمان والمواخاة بين المهاجرين والانصار وموادعته اليهود وموت العاص
بن وائل من مشركى مكة وبعث زيد بن حارثة الى مكة للاتيان بعياله وولادة
النعمان بن بشير وولادة عبد الله بن الزبير وذكر فاطمة بنت النعمان وتكلم
الذئب وابتداء الغزوات وبعث حمزة بن عبد المطلب الى سيف البحر وسرية عبيدة
بن الحارث الى بطن رابغ وبناء عائشة وبعث سعد بن أبى وقاص الى الخرار
وابتداء الاذان والاقامة) *
فى الصحيح عن أنس بعد ما ذكر من اقامته ببنى عمرو بن عوف ثم أرسل الى بنى
النجار فجاؤا متقلدين السيوف وكانوا اخواله يعنى أخوال جدّه عبد المطلب*
وفى رواية فجاؤا فسلموا على النبىّ صلّى الله عليه وسلم وعلى أبى بكر
وقالوا اركبا آمنين مطاعين فركب يوم الجمعة حتى نزل جانب دار أبى أيوب
وسيجىء أنه صلّى الله عليه وسلم لما شخص أى خرج من قباء اجتمعت بنو عمرو بن
عوف فقالوا أخرجت ملالا منا أم تريد دارا خيرا من دارنا قال انى أمرت بقرية
تأكل القرى فخلوها أى ناقته فانها مأمورة حتى أدركته الجمعة فى بنى سالم
فصلاها فى بطن الوادى وادى ذى صلت*
أول خطبة فى الاسلام
وفى سيرة ابن هشام عن ابن اسحاق وادى رانونا وفى غيرها كانوا أربعين وقيل
مائة وكانت هذه أوّل جمعة جمعها فى الاسلام حين قدم المدينة وخطب يومئذ
خطبة بليغة وهى أوّل خطبة فى الاسلام وقيل انه كان يصلى الجمعة فى مسجد
قباء فى اقامته هناك والله أعلم (ذكر تلك الخطبة) روى عن سعيد بن عبد
الرحمن الجمحى أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى أوّل
جمعة صلاها فى المدينة فى بنى سالم بن عوف* الحمد لله أحمده واستعينه
واستغفره وأستهديه وأو من به ولا اكفره واعادى من يكفره واشهد ان لا اله
الا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله ارسله بالهدى والنور
(1/339)
والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم
وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنوّ من الساعة وقرب من الاجل من يطع
الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضلّ ضلالا بعيدا
أوصيكم بتقوى الله فانّ خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة
وان يأمره بتقوى الله فاحذر واما حذركم الله من نفسه ولا افضل من ذلك ذكر
وان تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من
أمر الآخرة ومن يصلح الذى بينه وبين الله من أمره فى السرّ والعلانية لا
ينوى بذلك الا وجه الله يكن له ذكرا فى عاجل امره وذخرا فيما بعد الموت حين
يفتقر المرء الى ما قدّم وما كان سوى ذلك يودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا
بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد والذى صدق قوله وأنجز وعده لا
خلف لذلك فانه يقول ما يبدّل القول لدىّ وما أنا بظلام للعبيد فاتقوا الله
فى عاجل أمركم وآجله فى السرّ والعلانية فانه من يتق الله يكفر عنه سيئاته
ويعظم له أجرا ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما وان تقوى الله توقى مقته
وعقوبته وسخطه وتبيض الوجوه وترضى الرب وترفع الدرجة خذوا بحظكم ولا
تفرّطوا فى جنب الله فقد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين
صدقوا وليعلم الكاذبين فاحسنوا كما أحسن الله اليكم وعادوا اعداءه وجاهدوا
فى الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى
من حىّ عن بينة ولا قوّة الا بالله واكثر واذكر الله واعلموا أنه خير من
الدنيا وما فيها واعملوا لما بعد الموت فانه من يصلح ما بينه وبين الله
يكفه الله ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضى الحق على الناس ولا يقضون
عليه ويملك من الناس ولا يملكون عليه ولا قوّة الا بالله العلىّ العظيم*
كذا أوردها فى المنتقى وفى خلاصة الوفاء وليحيى عن عمارة بن خزيمة أنه صلّى
الله عليه وسلم دعا براحلته يوم الجمعة وحشد المسلمون ولبسوا السلاح وركب
صلّى الله عليه وسلم ناقته القصوى والناس عن يمينه وشماله وخلفه منهم
الماشى والراكب فاعترضت الانصار فما يمرّ بدار الا قالوا هلم الى العز
والمنعة والثروة فيقول لهم خيرا ويدعو ويقول انها مأمورة خلوا سبيلها فمر
ببنى سالم فقام اليه عتبان بن مالك ونوفل بن عبد الله بن مالك العجلانى وهو
آخذ بزمام راحلته يقول يا رسول الله انزل فينا فان فينا العدد والعدّة
والحلقة ونحن أصحاب الفضاء والحدائق والدرك يا رسول الله كان الرجل من
العرب يدخل هذه البحرة خائفا فيلجأ الينا فنقول له قوقل حيث شئت فجعل يتبسم
ويقول خلوا سبيلها فانها مأمورة وقام اليه عبادة ابن الصامت وعباس بن
الصامت بن نضلة بن العجلان فجعلا يقولان يا رسول الله انزل فينا فيقول انها
مأمورة ثم أخذ عن يمين الطريق حتى جاء بنى الحبلى وأراد أن ينزل على عبد
الله بن أبى بن سلول فلما رآه وهو عند مزاحم أى الاطم محتبيا قال اذهب الى
الذين دعوك فانزل عليهم فقال سعد بن عبادة لا تجد يا رسول الله فى نفسك من
قوله فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه عليها ولكن هذه دارى فمرّ ببنى
ساعدة فقال له سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة هلم يا رسول الله
الى العز والثروة والقوّة والجلد وسعد يقول يا رسول الله ليس فى قومى أكثر
عذقا ولا فم بئر منى مع الثروة والجلد والعدد والحلقة فيقول صلّى الله عليه
وسلم بارك الله عليكم ويقول يا أبا ثابت خل سبيلها فانها مأمورة فمضى
واعترضه سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وبشير بن سعد أى من بنى الحارث
بن الخزرج فقالوا يا رسول الله لا تجاوزنا فانا أهل عدد وثروة وحلقة فقال
بارك الله فيكم خلوا سبيلها فانها مأمورة واعترضه زياد بن لبيد وفروة بن
عمرو أى من بنى بياضة
يقولان يا رسول الله هلم الى المواساة والعز والثروة والعدد والقوّة نحن
أهل الدرك فقال خلوا سبيلها فانها مأمورة ثم مرّ ببنى عدى بن النجار وهم
اخواله فقام اليه أبو سليط وصرمة بن أبى انيس فى قومهما فقالا يا رسول الله
نحن اخوالك هلم
(1/340)
الى العدد والمنعة والقوّة مع القرابة لا
تجاوزنا الى غيرنا ليس أحد من قومنا اولى بك منا لقرابتنا لك فقال خلوا
سبيلها فانها مأمورة أو يقال أوّل الانصار اعترضه بنو بياضة ثم بنو سالم ثم
مال الى ابن أبى ثم مرّ على بنى عدى بن النجار حتى انتهى الى بنى مالك بن
النجار ولابن اسحاق اعترض بنى سالم أوّلا ثم وازت راحلته بنى بياضة
واعترضوه ثم وازت دار الحارث كذلك ثم مرّت بدار بنى عدى وهم أخواله لانّ
سلمى بنت عمرو احدى بنى عدى بن النجار كانت أمّ جدّة عبد المطلب وبنو مالك
بن النجار اخوتهم ومنزله صلّى الله عليه وسلم بدار بنى غنم منهم وجاء فى
رواية ان القوم لما تنازعوا أنه صلّى الله عليه وسلم على أيهم ينزل وكل
منهم على أن يكون داره له المنزل قال انى أنزل على أخوال عبد المطلب
وأكرمهم بذلك قيل يشبه أن يكون هذا فى أوّل قدومه من مكة قبل نزوله قباء لا
فى قدومه باطن المدينة* وعن أنس أنه صلّى الله عليه وسلم قال دعوا الناقة
فانها مأمورة فبركت على باب أبى أيوب* وفى سيرة مغلطاى نزل برحله على أبى
أيوب لكونه من أحوال عبد المطلب وعند البعض ان الناقة استناخت به أوّلا
فجاءه ناس فقالوا المنزل يا رسول الله فقال دعوها فانبعثت حتى استناخت عند
موضع المنبر من المسجد ثم تحلحلت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب فقال منزلى أقرب
المنازل فائذن لى أن أنقل رحلك قال نعم فنقل رحله وأناخ الناقة فى منزله*
وقال الواقدى أخذ أسعد بن زرارة بزمامها فكانت عنده* وعن مالك بن أنس أن
الناقة لما أتت موضع المسجد بركت وهو عليها وأخذه صلى الله عليه وسلم الذى
كان يأخذه عند الوحى ثم ثارت من غير أن تزجر وسارت غير بعيد ثم التفتت
فعادت الى المكان الذى بركت فيه أوّل مرّة فبركت فيه فسرى عنه فأمر أن يحط
رحله* وفى رواية كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر
ردفه وملأ من بنى النجار حوله حتى ألقى بفناء أبى أيوب وهو موضع مسجده
اليوم وهو يومئذ مربد للتمر لغلامين يتيمين من بنى النجار كانا فى حجر معاذ
بن عفراء أو أبى أيوب أو أسعد بن زرارة والاخير هو الاصح اسمهما سهل وسهيل
ابنا عمرو ابن عمارة* وفى رواية رافع بن عمرو فبركت عند باب المسجد فلم
ينزل عنها النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثم انبعثت وسارت غير بعيد ورسول الله
صلّى الله عليه وسلم مرخ لها زمامها ثم التفتت خلفها ثم رجعت الى مبركها
الاوّل وبركت فيه ووضعت جرانها على الارض ونزل عنها رسول الله صلّى الله
عليه وسلم وقال هذا ان شاء الله المنزل فاحتمل أبو أيوب رحله ووضعه فى بيته
بعد ما استأذنه صلّى الله عليه وسلم فدعته الانصار الى النزول عليهم فقال
صلّى الله عليه وسلم المرء مع رحله* وفى الوفاء فنزل رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فقال أى الدور أقرب فقال أبو أيوب دارى هذا بابى وقد حططنا رحلك
فيها فقال المرء مع رجله فمضت مثلا فنزل على أبى أيوب خالد بن زيد وسأل عن
المربد فقال معاذ هو ليتيمين لى وسأرضيهما فاشتراه النبىّ صلّى الله عليه
وسلم* وفى شرف المصطفى لما بركت الناقة على باب أبى أيوب خرج جوار من بنى
النجار يضربن بالدف ويقلن* نحن جوار من بنى النجار* يا حبذا محمد من جار*
فقال النبىّ عليه الصلاة والسلام أتحببننى قلن نعم يا رسول الله فقال والله
وأنا أحبكن قالها ثلاثا وفى رواية يعلم الله انى أحبكن* وفى رواية الطبرى
فى الصغير فقال عليه السلام الله يعلم ان قلبى يحبكن* وفى المواهب اللدنية
فرح أهل المدينة بقدومه عليه الصلاة والسلام وأشرقت المدينة بحلوله فيها
وسرى السرور الى القلوب* قال أنس بن مالك لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول
الله عليه الصلاة والسلام المدينة أضاء منها كل شىء ولما كان اليوم الذى
مات فيه أظلم منها كل شىء رواه ابن ماجه قال رزين صعدت ذوات الخدور على
الاجاجير يعنى السطوح عند قدومه صلّى الله عليه وسلم يقلن* وفى الرياض
النضرة لما قدم النبىّ صلّى الله عليه وسلم المدينة جعل الصبيان
والنساء
(1/341)
والولائد يقولون
* طلع البدر علينا* من ثنيات الوداع* وجب الشكر علينا* ما دعا لله داعى*
وفى رواية* أيها المبعوث فينا* جئت بالامر المطاع* قال الطبرى تفرّق
الغلمان والخدم فى الطرق ينادون جاء محمد جاء رسول الله* وفى الرياض النضرة
خرج أهل المدينة حتى ان العواتق لفوق البيوت يقلن أيهم هو أيهم هو* وفى
خلاصة الوفاء ثنية الوداع بفتح الواو معروف شامى المدينة خلف سوقها القديمة
بين مسجد الراية ومشهد النفس الزكية قرب سلع* وقال عياض هى موضع بالمدينة
بطريق مكة وقيل واد بمكة والاوّل أصح* وفى المواهب اللدنية أنشىء هذا الشعر
عند قدومه رواه البيهقى فى الدلائل وأبو الحسن بن مقرى فى كتاب الشمائل له
عن ابن عائشة وذكره الطبرى فى الرياض النضرة عن الفضل بن الجمحى قال سمعت
ابن عائشة يقول أراه عن أبيه فذكر وقال خرجه الحلوانى على شرط الشيخين
وسميت ثنية الوداع لانّ المسافر من المدينة كان يشيع اليها ويودّع عندها
قديما* وصحح القاضى عياض هذا واستدل عليه بقول نساء الانصار حين قدم عليه
الصلاة والسلام* طلع البدر علينا* من ثنيات الوداع* فدل على انه اسم قديم
وقال شيخ الاسلام الولى ابن العراقى ففى صحيح البخارى وسنن أبى داود
والترمذى عن السائب بن يزيد قال لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من
تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع قال وهذا صريح بأنها من جهة الشأم*
وقال ابن القيم فى الهدى النبوى هذا وهم من بعض الرواة فان ثنية الوداع
انما هى من جهة الشأم لا يراها القادم من مكة ولا يمرّ بها الا اذا توجه
الى الشأم وانما وقع ذلك عند قدومه من تبوك انتهى لكن قال زين الدين
العراقى يحتمل أن تكون الثنية التى من كل جهة يصل اليها المشيعون يسمونها
ثنية الوداع انتهى* قال مؤلف الكتاب يشبه أن يكون هذا هو الحق ويؤيده جمع
الثنيات اذ لو كان المراد بها الموضع الذى هو من جهة الشأم لم يجمع ولا
مانع من تعدّد وقوع هذا الشعر مرّة عند قدومه عليه الصلاة والسلام من مكة
ومرّة عند قدومه من تبوك فلا ينافى ما فى صحيح البخارى وغيره ولا ما قاله
ابن القيم عن جابر أنه كان لا يدخل أحد المدينة الا من ثنية الوداع فان لم
يعشر بها مات قبل أن يخرج فاذا وقف على الثنية قيل قد ودّع فسميت ثنية
الوداع حتى قدم عروة بن الورد فلم يعشر ثم دخل فقال يا معشر يهود ما لكم
وللتعشير قالوا لا يدخلها أحد من غير أهلها فلم يعشر بها الا مات ولا
يدخلها أحد من ثنية الوداع الا قتله الهزال فلما ترك عروة التعشير تركه
الناس ودخلوا من كل ناحية كذا فى الوفاء* وعن أنس لما قدم رسول الله صلّى
الله عليه وسلم لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه صلّى الله عليه وسلم ولابن
اسحاق عن أبى أيوب الانصارى لما نزل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى
بيتى نزل فى السفل وأنا وأمّ أيوب فى العلو فقلت يا نبىّ الله بأبى أنت
وأمّى انى أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتى فاظهر أنت فكن فى العلو
وننزل نحن ونكون فى السفل فقال يا أبا أيوب ان الارفق بنا وبمن يغشانا أن
نكون فى سفل البيت قال فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى سفله وكنا
فوقه فى المسكن فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأمّ أيوب يقطيفة لنا
ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوّفا أن يقطر على رأس رسول الله صلّى
الله عليه وسلم منه شىء فيؤذيه وذكر غيره ان أبا أيوب لم يزل يتضرع للنبىّ
عليه الصلاة والسلام حتى تحوّل الى العلو وأبو أيوب فى السفل* وفى الصفوة
عن أفلج مولى أبى أيوب انّ رسول الله عليه الصلاة والسلام لما نزل عليه نزل
أسفل وأبو أيوب فى العلو فانتبه ابو أيوب ذات ليلة فقال نمشى فوق رأس رسول
الله عليه الصلاة والسلام فتحوّل فباتوا فى جانب فلما أصبح ذكر ذلك للنبىّ
عليه الصلاة والسلام فقال النبىّ عليه الصلاة والسلام الاسفل أرفق بى فقال
أبو أيوب
(1/342)
لا أعلو سقيفة أنت تحتها فتحوّل أبو أيوب
فى السفل والنبىّ عليه الصلاة والسلام فى العلو وسيجىء وفاته فى الخاتمة فى
خلافة معاوية وأفاد ابن سعد أن اقامته عليه الصلاة والسلام بهذه الدار سبعة
أشهر بتقديم السين وقيل الى صفر من السنة الثانية* وقال الدولابى شهرا كذا
فى سيرة مغلطاى وقد ابتاع داره هذه وبيته المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث
من ابن ابى أفلح مولى أبى أيوب الانصارى بألف دينار فتصدّق بها وهو فى شرقى
المسجد المقدّس ثم بيعت فاشتراها الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك
العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب بن شادى أى عرصة دار أبى أيوب هذه وبناها
مدرسة للمذاهب الاربعة تعرف اليوم بالمدرسة الشهابية وفى ايوان قاعتها
الصغرى الغربى خزانة صغيرة جدّا مما يلى القبلة فيها محراب يقال انها مبرك
ناقته عليه الصلاة والسلام* قال ابن اسحاق ان هذا البيت بناه تبع الاوّل
لما مرّ بالمدينة للنبىّ عليه الصلاة والسلام ينزله اذا قدم المدينة وترك
فيها أربعمائة عالم وكتب كتابا للنبىّ عليه الصلاة والسلام ودفعه الى
كبيرهم وسأله أن يدفعه للنبىّ عليه الصلاة والسلام فتداول البيت الملاك الى
أن صار الى أبى أيوب وان أبا أيوب من ذرّية الحبر الذى أسلمة تبع كتابه*
وفى رواية أرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام الى ملأ بنى النجار فقال يا
بنى النجار ثامنونى بحائطكم قالوا والله لا نطلب ثمنه الا من الله عز وجل*
وفى خلاصة الوفاء قال الغلامان بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله
عليه الصلاة والسلام أن يقبله هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير ذهبا
ودفعها أبو بكر الصدّيق* وفى رواية أدّاها من مال أبى بكر وكان قد خرج من
مكة بماله كله كذا فى المواهب اللدنية* وعن النوار بنت مالك أمّ زيد بن
ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله عليه الصلاة والسلام
يصلى بالناس الصلوات الخمس ويجمع بهم فى مسجد ابناه فى مربد سهل وسهيل ابنى
رافع بن عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار قالت فأنظر الى
رسول الله عليه الصلاة والسلام لما قدم صلّى بهم فى ذلك المسجد وبناه فهو
مسجده اليوم ونقل ابن سيد الناس عن ابن اسحاق ان الناقة بركت على باب مسجده
عليه الصلاة والسلام وهو يومئذ ليتيمين من بنى مالك بن النجار فى حجر معاذ
بن عفراء سهل وسهيل ابنى عمرو* وقال أحمد بن يحيى البلادرى فنزل رسول الله
عليه الصلاة والسلام عند أبى أيوب ووهبت له الانصار كل فضل كان فى خططها
وقالوا يا نبىّ الله ان شئت فخذ منازلنا فقال لهم خيرا وكان أبو امامة أسعد
بن زرارة يجمع بمن يليه فى مسجد له فكان رسول الله عليه الصلاة والسلام
يصلى بهم ثم انه سأل أسعد أن يبيع أرضا متصلة بذلك المسجد كانت فى يده
ليتيمين فى حجره يقال لهما سهل وسهيل ابنا رافع*
(ذكر بناء المسجد)
* قال المجد ذكر البيهقى المسجد فقال كان جدارا مجدّر اليس عليه سقف وقبلته
الى بيت المقدس وكان أسعد بن زرارة بناه وكان يصلى بأصحابه فيه ويجمع بهم
فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلّى
الله عليه وسلم بالنخل التى فى الحديقة وبالغرقد أن يقطع وكان قبور جاهلية
فأمر بها فنبشت وأمر بالعظام أن تغيب وكان فى المربد ماء مستنجل فسيروه حتى
ذهب والمستنجل ممشى ماء المطر* وفى الصحيحين أن النبىّ عليه الصلاة والسلام
لما أخذه كان موضع نخل وقبور للمشركين وخرب فأمر بالنخل فقطعت وبالقبور
فتبشت وبالخرب فسويت وصفوا النخل قبلة المسجد أى جعلوها سوارى فى جهة
القبلة ليسقف عليها وجعلوا عضادتيه حجارة وأسند ابن زبالة عن حسن بن محمد
الثقفى قال بينا رسول الله عليه الصلاة والسلام يبنى أساس مسجد المدينة
ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ فمرّ بهم رجل فقال يا رسول الله ما معك الا
هؤلاء الرهط فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام هؤلاء ولاة الامر من بعدى
وروى أبو يعلى برجال الصحيح عن عائشة قالت لما أسس
(1/343)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسجد
المدينة جاء بحجر فوضعه وجاء أبو بكر بحجر فوضعه وجاء عمر بحجر فوضعه وجاء
عثمان بحجر فوضعه قالت فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أمر
الخلافة من بعدى وتقدّم فى تأسيس مسجد قباء نحوه من غير ذكر أمر الخلافة*
وقال الاقشهرى فى روضته ان جبريل أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم وقال يا
محمد انّ الله يأمرك أن تبنى له بيتا وأن ترفع بنيانه بالرهص والحجارة
والرهص الطين الذى يتخذ منه الجدار وفى القاموس الرهص بكسر الراء العرق
الاسفل من الحائط والطين الذى يبنى به بعض على بعض فقال كم أرفعه يا جبريل
قال سبعة أذرع وقيل خمسة أذرع ولما ابتدأ فى بنائه أمر بالحجارة فأخذ حجرا
فوضعه بيده أوّلا ثم أمر أبا بكر فجاء بحجر فوضعه الى جنب حجر النبىّ صلّى
الله عليه وسلم ثم عمر كذلك ثم عثمان كذلك ثم عليا روى البيهقى فى دلائل
النبوّة عن سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لما بنى النبى
صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجرا ثم قال ليضع أبو بكر حجره الى جنب حجرى
ثم ليضع عمر حجره الى جنب حجر أبى بكر ثم ليضع عثمان حجره الى جنب حجر عمر
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هؤلاء الخلفاء من بعدى وفى الشفاء رفعت
له الكعبة حين بنى مسجده وعن مكحول قال لما كثر أصحاب رسول الله عليه
الصلاة والسلام قالوا اجعل لنا مسجدا فقال وثمامات عريش كعريش أخى موسى
صلوات الله عليه والامر أعجل من ذلك وفى الصحيح كان المسجد على عهد رسول
الله صلّى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه جريد وعمده خشب النخل فضرب
اللبن وعجن الطين نقل المجد عن رواية محمد بن أسعد قال جاء رجل يحسن عمل
الطين وكان من حضر موت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحم الله امرأ
أحسن صنعته وقال له الزم أنت هذا الشغل فانى أراك تحسنه وفى كتاب يحيى من
طريق ابن زبالة عن الزهرى كان رجل من أهل اليمامة يقال له طلق من بنى حنيفة
يقول قدمت على النبىّ عليه الصلاة والسلام وهو يبنى مسجده والمسلمون يعملون
فيه معه وكنت صاحب علاج وخلط طين فأخذت المسحاة أخلط الطين والنبىّ عليه
الصلاة والسلام ينظر الىّ ويقول انّ هذا الحنفى لصاحب طين وروى أحمد عن طلق
بن على قال بنيت المسجد مع رسول الله عليه الصلاة والسلام فكان يقول قربوا
اليمامى من الطين فانه أحسنكم له مسكا وأشدّكم منكبا وعنه أيضا قال جئت الى
النبىّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه يبنون المسجد قال فكأنه لم يعجبه عملهم
قال فأخذت المسحاة فخلطت بها الطين فكانه أعجبه أخذى المسحاة وعملى فقال
دعوا الحنفى فانه من أصنعكم للطين* وأسند ابن زبالة فى خبر ابن شهاب فى أخذ
المربد قال فبناه مسجدا وضرب لبنه من بقيع الخبجبة بخاء معجمة وجيم وباءين
تحت كل منهما نقطة واحدة موضع يسار بقيع الغرقد ناحية بئر أبى أيوب
بالمناصع وهى مبرز النساء فى المدينة ليلا قبل اتخاذ الكنف والخبجبة شجرة
تنبت هناك وبقيع الغرقد هو بقيع المقبرة قال الاصمعى قطعت غرقدات فى هذا
الموضع حين دفن فيه عثمان بن مظعون فسمى بقيع الغرقد لهذا والغرقد شجرة وفى
الوفاء بقيع الخبجبة ما كان الخارج من المدينة الى البقيع اذا مشى فى
البقيع فجهة مشهد أمير المؤمنين عثمان وجعل مشهد ابراهيم ابن النبىّ عليه
الصلاة والسلام على يمينه يكون على يساره طريق تمرّ بطرف الكومة تنتهى بعد
رأس العطفة التى على يمينه الى حديقة تعرف قديما بأولاد الصيفى بها بئر
ينزل اليها بدرج تعرف ببئر أيوب قديما وحديثا وقيل بقيع الخبجبة غير ما ذكر
وعن أمّ سلمة قالت بنى رسول الله عليه الصلاة والسلام مسجده فقرب اللبن وما
يحتاجون اليه فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام فوضع رداءه فلما رأى ذلك
المهاجرون الاوّلون والانصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون
ويعملون ويقولون
(1/344)
لئن قعدنا والنبىّ يعمل* ذاك اذا للعمل
المضلل* وينقلون الصخرة ويحملون اللبنة والنبىّ عليه الصلاة والسلام معهم
ينقل اللين ويقول* هذا الجمال لا جمال خيبر* هذا أبرّ ربنا وأطهر* ويقول
اللهم ان الاجر أجر الآخرة* فارحم الانصار والمهاجرة* وفى رواية الصحيح
فجعلوا ينقلون الصخرة وهم يرتجزون والنبىّ عليه الصلاة والسلام معهم يقول*
اللهمّ لا خير الاخير الآخرة* فانصر الانصار والمهاجرة* ويذكر أن هذا البيت
لعبد الله بن رواحة وعن الزهرى بلغنى ان الصحابة كانوا يرتجزون به وكان
النبىّ عليه الصلاة والسلام ينقل معهم ويقول* اللهم لا خير الا خير الآخرة*
فارحم المهاجرين والانصار* وكان لا يقيم الشعر قال الله تعالى وما علمناه
الشعر وما ينبغى له وفعل ذلك احتسابا وترغيبا فى الخير ليعمل الناس كلهم
ولا يرغب أحد بنفسه عن نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان عثمان بن
عفان رجلا نظيفا متنظفا وكان يحمل اللبنة فيجا فى بها عن ثوبه فاذا وضعها
نفض كمه ونظر الى ثوبه فان أصابه شىء من التراب نفضه فنظر اليه على بن أبى
طالب فأنشأ يقول
لا يستوى من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها وهو لا يدرى من يعنى بها فمرّ بعثمان
فقال يا ابن سمية بمن تعرّض ومعه جريدة فقال لتكفنّ أو لاعترضنّ بها وجهك
فسمعه النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو جالس فى ظل بيت أمّ سلمة* وفى كتاب
يحيى فى ظل بيته فغضب صلّى الله عليه وسلم ثم قال ان عمار بن ياسر جلدة ما
بين عينى وأنفى فاذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ ووضع يده بين عينيه فكف
الناس عن ذلك ثم قالوا لعمار انّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم قد غضب فيك
ونخاف أن ينزل فينا القرآن فقال أنا أرضيه كما غضب فقال يا رسول الله مالى
ولاصحابك قال مالك ولهم قال يريدون قتلى يحملون لبنة لبنة ويحملون علىّ
اللبنتين والثلاث فأخذ بيده فطاف فى المسجد وجعل يمسح وفرته بيده من التراب
ويقول يا ابن سمية لا يقتلك أصحابى ولكن تقتلك الفئة الباغية وقد ذكر ابن
اسحاق بنحوه كما فى تهذيب ابن هشام قال وسألت غير واحد من أهل العلم بالشعر
عن هذا الرجز فقالوا بلغنا أنّ علىّ بن أبى طالب ارتجز به فلا ندرى أهو
قائله أم غيره وانما قال ذلك على مطايبة ومباسطة كما هو عادة الجماعة اذا
اجتمعوا على عمل وليس ذلك طعنا وأخرج ابن أبى شيبة من مرسل أبى جعفر الخطمى
قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبنى فى المسجد وعبد الله بن رواحة
يقول* أفلح من يعمر المساجدا* فيقولها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيقول
ابن رواحة* يتلو القران قائما وقاعدا* فيقولها رسول الله صلّى الله عليه
وسلم* وفى الصحيح فى ذكر بناء المسجد كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين
لبنتين فرآه النبىّ صلّى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول ويح
عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ويقول عمار
أعوذ بالله من الفتن فقتل عمار فى حرب معاوية بصفين تحت راية علىّ كذا فى
شرح المقاصد وسيجىء فى الخاتمة فى خلافة علىّ* وفى خلاصة الوفاء روى يحيى
فى خبر عن أسامة بن زيد عن أبيه قال كان الذين أسسوا المسجد جعلوا طوله مما
يلى القبلة الى مؤخره مائة ذراع وفى الجانبين الآخرين أى العرض مثل ذلك
فكان مربعا ويقال انه كان أقل من مائة ذراع* وفى كتاب رزين ما لفظه عن جعفر
بن محمد عن أبيه قال كان بناء مسجد النبى صلّى الله عليه وسلم بالسميط لبنة
لبنة ثم بالسعيدة لبنة ونصف أخرى ثم كثروا فقالوا يا رسول الله لو زيد فيه
ففعل فبنى بالذكر والانثى وهما لبنتان مختلفتان وكانوا رفعوا أساسه قريبا
من ثلاثة أذرع بالحجارة وجعلوا طوله مما يلى القبلة الى مؤخره مائة ذراع
وكذا فى العرض وكان مربعا* وفى رواية جعفر ولم يسطح فشكوا الحرّ وجعلوا
خشبه وسواريه جذوعا وظللوا بالجريد ثم بالخصف فلما وكف عليهم طينوه بالطين
وجعلوا وسطه رحبة وكان جداره قبل أن يظلل قامة وشيئا
(1/345)
وذكر ابن زبالة ويحيى أن النبىّ صلّى الله
عليه وسلم كان يبنى مسجده بالسميط لبنة لبنة ثم ان المسلمين كثروا فبناه
بالسعيدة فقالوا يا رسول الله لو أمرت من يزيد فيه قال نعم فأمر به فزيد
فيه وبنى جداره بالانثى والذكر ثم اشتدّ عليهم الحرّ فقالوا يا رسول الله
لو أمرت بالمسجد فظلل قال نعم فأمر به فأقيمت فيه سوارى من جذوع النخل ثم
طرحت عليها العوارض والخصف والاذخر فعاشوا فيه وأصابتهم الامطار فجعل
المسجد يكف عليهم قالوا يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين فقال لا عريش
كعريش موسى وروى البيهقى عن الحسن فى بيان عريش موسى قال اذا رفع يده بلغ
العريش يعنى السقف وأورد رزين قال ابنو الى عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات
وظلة كظلة موسى والامر أعجل من ذلك قيل وما ظلة موسى قال اذا قام فيه أصاب
رأسه السقف فلم يزل المسجد كذلك حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وكان جداره قبل أن يظلل قامة فكان اذا فاء الفىء ذراعا وهو قدمان يصلى
الظهر فاذا كان ضعف ذلك صلّى العصر* وفى الاحياء لما أراد صلّى الله عليه
وسلم أن يبنى مسجد المدينة أتاه جبريل فقال ابنه سبعة أذرع طولا فى السماء
ولا تزخرفه ولا تنقشه وقد نقل الاقشهرى فى ارتفاعه سبعة أذرع وقيل خمسة
وجعل قبلته الى بيت المقدس وجعل له ثلاثة أبواب باب فى مؤخره أى جهة القبلة
اليوم ويدخل منه عامة أصحابه وباب يدعى باب عاتكة ويقال له باب الرحمة وباب
يدخل منه النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو باب آل عثمان اليوم أى المعروف
اليوم بباب جبريل وهذان البابان لم يغيرا بعد صرف القبلة ولما صرفت سدّ
الباب الذى كان خلفه وفتح هذا الباب حذاءه أى محاذاة المسدود خلف المسجد أى
تجاهه فأقام عند أبى أيوب سبعة أشهر حتى أتمّ مسجده ومكنه ثم انتقل اليه*
وفى خلاصة الوفاء روى يحيى عن خارجة بن زيد بن ثابت وهو أحد سبعة فقهاء
المدينة وقد نظمهم البعض فى بيت واحد
ألا كل من لا يقتدى بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
أنه قال بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعين ذراعا فى ستين ذراعا ولبن
لبنه من بقيع الخبجبة وجعل له جدارا وجعل سواريه شقة شقة وجعل وسطه رحبة
وبنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل
وكان باب عائشة مواجه الثنأم وكان بمصراع واحد من عرعر أوساج كذا ذكره ابن
زبالة عن محمد بن هلال ولما تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم نساءه بنى
لهنّ حجرا وهى تسعة أبيات قال أهل السير ضرب النبىّ صلّى الله عليه وسلم
الحجرات ما بين بيت عائشة وبين القبلة والشرق الى الشأم ولم يضربها فى
غربيه وكانت خارجة من المسجد مديرة به الا من الغرب وكانت أبوابها شارعة فى
المسجد* وعن محمد بن هلال قال أدركت بيوت أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم
كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر مستطيرة الى القبلة والى الشرق والشأم ليس
فى غربى المسجد شىء منها وفى دلائل النبوّة قال عطاء الخراسانى أدركت حجر
أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر
أسود* وفى شرف المصطفى لابن الجوزى أن منازل أزواج النبىّ صلّى الله عليه
وسلم كانت كلها فى الشق الايسر الى وجه الامام فى وجه المنبر أى الى جهة
الشأم وفى دلائل النبوّة قال محمد بن عمر كانت لحارثة بن النعمان منازل قرب
المسجد حوله وكلما أحدث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهلا تحول له حارثة
عن منزله حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ابن سعد
أوصت سودة بيتها لعائشة وباع أولياء صفية بنت حيى بيتها من معاوية بمائة
ألف وثمانين ألف درهم واشترى معاوية من عائشة منزلها بمائة ألف وثمانين
ألفا وقيل ثمانية آلاف وشرطت سكناها
(1/346)
حياتها وحمل اليها المال فما قامت من
مجلسها حتى فرقته وقيل اشتراه ابن الزبير من عائشة وبعث اليها خمسة أجمال
تحمل المال وشرط لها سكناها فى حياتها ففرقت المال فقيل لها لو خبأت منه
درهما فقالت لو ذكرتمونى فعلت وتركت حفصة بيتها فورثه ابن عمر فلم يأخذ
ثمنا فأدخل فى المسجد وأسند يحيى عن عيسى بن عبد الله عن أبيه أن بيت فاطمة
رضى الله عنها فى الزور الذى فى المقبرة بينه وبين بيت النبىّ صلّى الله
عليه وسلم خوخة وذكر يحيى قال كان بيت فاطمة فى موضع مخرج النبىّ صلّى الله
عليه وسلم وكانت فيه كوّة الى بيت عائشة وكان رسول الله صلّى الله عليه
وسلم اذا قام الى المخزج اطلع من الكوّة الى فاطمة فعلم خبرهم وأن فاطمة
قالت لعلىّ ان ابنىّ أمسيا عليلين فلو نظرت لنا اذ ما نستصبح به فخرج علىّ
الى السوق فاشترى لهم أدما وجاء به الى فاطمة فاستصبحت به فدخلت عائشة
المخرج فى جوف الليل فأبصرت المصباح عندهم فذكر الراوى كلاما وقع بينهما
فلما أصبحوا سألت فاطمة النبىّ صلّى الله عليه وسلم أن يسدّ الكوّة فسدّها
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسند يحيى عقب ذلك قالت عائشة يا رسول الله
تدخل الكنيف فلا نرى شيئا من الاذى فقال الارض تبلع ما يخرج من الانبياء من
الاذى فلا يرى منه شىء أفاد يحيى أن المراد من المخرج موضع الكنيف وأفهم
ذلك أن المخرج المذكور كان خلف حجرة عائشة بينها وبين بيت فاطمة وذلك يقتضى
أن يكون محله فى الزوراء أعنى الموضع المزور شبيه المثلث فى بناء عمر بن
عبد العزيز فى جهة الشأم وكان بابه فى المربعة التى فى القبر وعن سليمان
قال مسلم لا تنس حظك من الصلاة اليها فانه باب فاطمة الذى كان علىّ يدخل
اليها منه قال ابن النجار وبيت فاطمة اليوم حوله مقصورة وفيه محراب وهو خلف
حجرة النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال السيد السمهودى المقصورة اليوم دائرة
على بيت فاطمة وعلى حجرة عائشة والمحراب الذى ذكره خلف حجرة عائشة من جهة
الزوراء بينه وبين موضع يحترمه الناس ولا يدوسونه بأرجلهم يذكر أنه موضع
قبر فاطمة رضى الله عنها على أحد الاقوال* وأما الصفة بضم الصاد وتشديد
الفاء فظلة فى مؤخر مسجد النبىّ صلّى الله عليه وسلم يأوى اليها المساكين
على أشهر الاقوال كذا قاله القاضى عياض وقال الحافظ الذهبى ان القبلة قبل
أن تحوّل كانت فى شمالى المسجد فلما حولت القبلة بقى حائط المسجد الاوّل
مكان أهل الصفة وقال الحافظ ابن حجر الصفة مكان فى مؤخر المسجد النبوى مظلل
أعدّ لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل وكانوا يكثرون فيه ويقلون
بحسب من يتزوّج منهم أو يموت أو يسافر وقد سرد أسماءهم أبو نعيم فى الحلية
فزادوا على المائة* وروى البيهقى عن عثمان بن اليمان قال لما كثر المهاجرون
بالمدينة ولم يكن لهم دار ولا مأوى أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسجد وسماهم أصحاب الصفة وكان يجالسهم ويؤانسهم وكان المسجد على هذه
الهيئة فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يزد فيه أبو بكر شيئا
ولما كان زمان خلافة عمر وكثر الناس وضاق المسجد عنهم وسعه عمر وزاد فيه
ولم يغير فى جنس الآلة فبناه على ما بنى فى عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا* وفى تاريخ اليافعى أن زيادته كانت فى
سنة سبع عشرة وذكر غيره أنه زاد فى هذه السنة فى المسجد الحرام ولم يتعرّض
لتاريخ زيادة فى مسجد المدينة روى أن عمر جعل له ستة أبواب ثم غير عثمان
فيه ووسعه وزاد فيه زيادات كثيرة وكان أوّل عمله فى شهر ربيع الاوّل سنة
تسع وعشرين وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال محرم سنة ثلاثين فكان مدّة عمله
عشرة أشهر قال أهل السير جعل عثمان طول المسجد مائة وستين ذراعا وعرضه مائة
وخمسين ذراعا وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والجص وجعل عمده من حجارة
منقوشة وجعل سقفه من خشب الساج وجعل أبوابه ستة كما كانت فى زمن عمر ثم زاد
فيه الوليد بن عبد الملك بن مروان فى أيام خلافته
وجعله
(1/347)
أوسع فجعل طوله مائتى ذراع وعرضه فى مقدّمه
مائتين وفى مؤخره مائة وثمانين ذراعا وأدخل فيه بيوت أزواج النبى صلّى الله
عليه وسلم المتصلة بالمسجد* قالوا هدم المسجد نائب الوليد على المدينة عمر
بن عبد العزيز سنة احدى وتسعين وبناه بالحجارة المنقوشة ومكث فى بنائه ثلاث
سنين وقد فرغ منه سنة ثلاث وتسعين وهى السنة التى عزل فيها عمر عن المدينة
ثم زاد فيه المهدى العباسى مائة دراع من جهة الشأم فقط دون الجهات الثلاث
الأخر وكان ابتداء زيادته سنة احدى وستين ومائة* قال ابن زبالة ويحيى فرغ
من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة ثم جدّده المأمون وزاد فيه واتفق
بنيانه أيضا فى سنة ثنتين ومائتين والى يومنا هذا ابناء المأمون وللمسجد
اليوم أربعة أبواب باب جبريل وباب النساء وأوّل من أحدثه فى المسجد عمر بن
الخطاب حين زاد فيه وباب الرحمة وباب السلام واذا عرفت حال المسجد
والزيادات والتغييرات الواقعة فيه فينبغى أن تعتنى على محافظة الصلوات فيما
كان فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فان الحديث الوارد فى فضيلة
الصلاة فيه وهو صلاة فى مسجدى هذا أفضل أو خير من ألف صلاة فيما سواه من
المساجد الا المسجد الحرام انما يتناول ما كان فى زمن النبىّ صلّى الله
عليه وسلم لكن اذا صليت بالجماعة فالتقدّم الى الصف الاوّل ثم ما يليه أفضل
كذا فى ايضاح المناسك للنووى وسيجىء قصة قصد الافرنج قبر النبىّ صلّى الله
عليه وسلم فى الخاتمة فى خلافة المستنجد بالله فى سنة سبع وخمسين وخمسمائة
ونذكر فى خلافة المستنجد بالله قصة قصد الروافض قبر صاحبيه لتناسب القصتين
وان لم يذكر المحب الطبرى تاريخ الثانية ونذكر قصة احتراق المسجد النبوى
مرّتين فى الخاتمة فى خلافة المعتصم بالله فى سنة أربع وخمسين وستماسة*
موت كلثوم بن الهدم
وفى هذه السنة مات كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بعد قدوم رسول الله صلّى
الله عليه وسلم المدينة بزمان قليل قبل موت أسعد بن زرارة فهو أوّل من مات
من الانصار بعد قدوم النبىّ صلّى الله عليه وسلم وكان شريفا كبير السنّ كان
أسلم قبل قدومه صلّى الله عليه وسلم وهاجر ولما هاجر النبىّ صلّى الله عليه
وسلم الى المدينة نزل عليه هو وجماعة منهم أبو عبيدة عامر بن الجراح
والمنذرين الاسود والخباب بن الارت*
اسلام عبد الله بن سلام
وفى هذه السنة فى أوّل قدومه صلّى الله عليه وسلم المدينة أسلم عبد الله بن
سلام ويكنى أبا يوسف وكان اسمه فى الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول
الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام*
وفى البخارى من حديث عائشة التصريح بأنه جاء قبل دخوله صلّى الله عليه وسلم
دار أبى أيوب لما سمع بقدومه صلّى الله عليه وسلم ثم رجع الى أهله ثم قال
عليه السلام لابى أيوب اذهب فهيئ لنا مقيلا فقال قوما على بركة الله أى هو
وأبو بكر قالت فلما جاء نبىّ الله صلّى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن
سلام فقال أشهد أنك رسول الله فأسلم وسيجىء وفاته فى الخاتمة فى خلافة
معاوية فى سنة ثلاث وأربعين* وفى الاكتفاء كان من حديث عبد الله بن سلام
واسلامه وكان حبرا عالما انه قال لما سمعت برسول الله صلّى الله عليه وسلم
عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوكف له فكنت مسرّا لذلك صامتا عليه حتى
قدم المدينة فلما نزل بقباء فى بنى عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه
وأنا فى رأس نخلة لى أعمل فيها وعمتى خالدة بنت الحارث تحتى جالسة فلما
سمعت بقدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كبرت فقالت لى عمتى حين سمعت
تكبيرتى خيبك الله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت فقلت لها أى
عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به فقالت أى ابن أخى
هو النبىّ الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة فقلت لها نعم قالت فذاك
اذا ثم رحت الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت الى أهلى
فأمرتهم فأسلموا وكتمت اسلامى من يهود الى آخر ما يجىء من الحديث* قال أنس
لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة أخبر عبد الله بن سلام
بقدومه وهو بأرض يخترف فأتاه فقال انى سائلك عن أشياء لا يعلمها
(1/348)
الا نبىّ فان أخبرتنى بها آمنت بك وان لم
تعلمهنّ عرفت أنك لست بنبىّ قال وما هنّ فسأله عن الشبه وعن أوّل شىء يأكله
أهل الجنة وعن أوّل شىء يحشر الناس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أخبرنى بهنّ جبريل آنفا قال عبد الله ذاك عدوّ اليهود وسيجىء سبب عداوته
فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم أما الشبه فاذا سبق ماء الرجل ماء المرأة
ذهب بالشبه واذا سبق ماء المرأة ماء الرجل ذهبت بالشبه وأما أوّل شىء يأكله
أهل الجنة فزائدة كبد الحوت وأما أوّل شىء يحشر الناس فنار تجىء من قبل
المشرق فتحشرهم الى المغرب فأمسك عبد الله وقال أشهد أنك لرسول الله وانك
قد جئت بالحق وقد علمت يهود أنى سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم
فادعهم فسلهم عنى قبل أن يعلموا أنى أسلمت فانهم ان يعلموا أنى قد أسلمت
قالوا فىّ ما ليس فىّ فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليهم فدخلوا
عليه فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا معشر اليهود ويلكم اتقوا
الله فو الذى لا اله الا هو انكم لتعلمون أنى رسول الله حقا وانى قد جئتكم
بحق فأسلموا قالوا ما نعلمه قال فأىّ رجل فيكم عبد الله بن سلام وفى
الاكتفاء قال عبد الله بن سلام فأدخلنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى
بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم أى رجل حصين بن سلام فيكم
قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا* وفى المشكاة خيرنا وابن
خيرنا وسيدنا وابن سيدنا قال أفرأيتم ان أسلم قالوا حاشا الله ما كان ليسلم
وفى المشكاة أعاذه الله من ذلك قال أفرأيتم ان أسلم قالوا حاشا الله ما كان
ليسلم كرّر عليهم ثلاثا فيقولون له ذلك قال يا ابن سلام اخرج عليهم فخرج
فقال يا معشر اليهود اتقوا الله فو الذى لا اله الا هو انكم لتعلمون انه
لرسول الله وانه لجاء بحق فقالوا كذبت* وفى رواية قالوا هو شرّنا وابن شرنا
فأخرجهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال عبد الله هذا ما كنت أخاف يا
رسول الله وفى الاكتفاء قال فأظهرت اسلامى واسلام أهل بيتى وأسلمت عمتى
خالدة فحسن اسلامها انتهى ونصبت أحبار اليهود العداوة للنبىّ صلّى الله
عليه وسلم بغيا وحسدا منهم حيى بن أخطب وأبو رافع الاعور وكعب بن الاشرف
وعبد الله بن صوريا والزبير بن باطا وشمويل ولبيد بن الاعصم وغيرهم ودخل
منهم جماعة فى الاسلام نفاقا وانضاف اليهم من الاوس والخزرج منافقون* وفى
الكشاف روى أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله صلّى الله
عليه وسلم وسأله عمن يهبط عليه بالوحى قال جبريل قال ذاك عدوّنا ولو كان
غيره لآمنا بك وقد عادانا مرارا وأشدّها انه أنزل على نبينا أن بيت المقدس
سيخر به بخت نصر فبعثنا من يقتله وهو رجل من أقوياء بنى اسرائيل فلقيه
ببابل غلاما مسكينا فدفعه عنه جبريل وقال ان كان ربكم أمره بهلاككم فانه لا
يسلطكم عليه وان لم يكن اياه فعلى أى حق تقتلونه فصدّقه صاحبنا ورجع الينا
وكبر بخت نصر وقوى وغزانا وحرق بيت المقدس وفى رواية قال أمره الله أن يجعل
النبوّة فينا فجعلها فى غيرنا وفى رواية قال بعث جبريل الى أولاد اسرائيل
فأدى الى أولاد اسماعيل* وفى القاموس عبد الله بن صوريا كبوريا من أحبار
الشأم أسلم ثم كفر* وفى الحدائق عن أبى هريرة قال أتى رسول الله صلّى الله
عليه وسلم بيت المدراس فقال أخرجوا الىّ أعلمكم فقام عبد الله بن صوريا
فخلا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فناشده بدينه وبما أنعم الله عليهم
وأطعمهم من المنّ والسلوى وظللهم به من الغمام أتعلم انى رسول الله قال
اللهم نعم وان القوم يعرفون ما أعرف فان صفتك ونعتك لمبين فى التوراة
ولكنهم حسدوك قال فما يمنعك أنت قال أكره خلاف قومى وعسى أن يتبعوك ويسلموا
فأسلم*
موت أسعد بن زرارة
وفى هذه السنة وقيل فى السنة الثانية مات أسعد بن زرارة بالذبحة وهو أحد
النقباء الاثنى عشر فى ليلة العقبة وبيعتها مات قبل أن يفرغ رسول الله صلّى
الله عليه وسلم من بناء مسجده ودفن بالبقيع والانصار يقولون هو أوّل من دفن
بالبقيع والمهاجرون
(1/349)
يقولون أوّل من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون
وكان عثمان رضيع رسول الله صلّى الله عليه وسلم توفى فى شعبان على رأس
ثلاثين شهرا من الهجرة وقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم خدّه وسماه
السلف الصالح وعن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل عثمان بن
مظعون وهوميت قالت فرأيت دموع رسول الله صلّى الله عليه وسلم تسيل على خدّ
عثمان بن مظعون كذا فى الصفوة ويمكن الجمع بأن أوّل من دفن بالبقيع من
الانصار أسعد بن زرارة ومن المهاجرين عثمان بن مظعون*
ابتداء خدمة أنس
وفى هذه السنة كان ابتداء خدمة أنس لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فى
الوفاء كانت الانصار يتقرّبون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدايا
رجالهم ونساؤهم وكانت أمّ سليم تتأسف على ذلك وما كان لها شىء فجاءت بابنها
أنس وقالت يخدمك أنس يا رسول الله قال نعم والذى فى الصحيح عن أنس قال قدم
رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم وأخذ أبو طلحة بيدى
فانطلق بى الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان أنسا
غلام كيس فليخدمك قال فخدمته عشر سنين الحديث وقد يجمع بأنّ أمّ سليم جاءت
به أوّلا وانطلق به ابو طلحة ثانيا لانه وليه وعصبته وهذا غير مجيئه به
لخدمته فى غزوة خيبر كما يفهمه لفظ الحديث*
الزيادة فى صلاة الحضر
وفى هذه السنة بعد شهر من مقدمه صلّى الله عليه وسلم لاثنتى عشرة ليلة خلت
من ربيع الاوّل وفى سيرة مغلطاى من ربيع الآخر قال الدولابى يوم الثلاثاء
وقال السهيلى بعد الهجرة بعام أو نحوه زيد فى صلاة الحضر ركعتان ركعتان
وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها وصلاة المغرب لانها وتر النهار وأقرت
صلاة السفر وتركت على الفريضة الاولى* وفى سيرة مغلطاى وكانت الصلاة قبل
الاسراء صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها انتهى وقيل انما فرضت أربعا
ثم خففت عن المسافر ويدل عليه حديث ان الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وقيل
انما فرضت فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين وهو قول ابن عباس قال فرض الله
الصلاة على لسان نبيكم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين رواه مسلم وغيره
كذا فى المواهب اللدنية وفى الوفاء الذى عليه الاكثرون ان الصلاة نزلت
بتمامها من بدء الامر والله أعلم*
وعك أبى بكر والصحابة
وفى هذه السنة وعك ابو بكر وغيره من الصحابة* فى المواهب اللدنية أورد وعك
أبى بكر قبل بناء المسجد روى ان هواء المدينة كان عفنا وخما يكون فيها
الوباء وكانت مشهورة بالوباء فى الجاهلية فادا دخلها غريب فى الجاهلية يقال
له ان أردت أن تسلم من الوعك والوباء فانهق نهق الحمار فادا فعل سلم
فاستوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق أمزجتهم فمرض كثير من الغرباء
وضعفوا حتى لم يقدروا على الصلاة قياما وكان المشركون والمنافقون يقولون
أضناهم حمى يثرب* وفى سنن النسائى وسيرة ابن هشام ان الصدّيق لما قدم
المدينة أخذته الحمى وعامر بن فهيرة وبلالا قالت عائشة فدخلت عليهم وهم فى
بيت واحد قبل أن يضرب علينا الحجاب فقلت يا أبت كيف أصبحت فقال* كل امرئ
مصبح فى أهله* والموت أدنى من شراك نعله* ففلت انالله ان أبى ليهذى فقلت
لعامر كيف تجدك فقال* لقد وجدت الموت قبل ذوقه* والمرء يأتى موته من فوقه*
وفى رواية ان الجبان موته من فوقه* كل امرئ مجاهد بطوقه* كالثور يحمى أنفه
بروقه* الطوق الطاقة والروق القرن قالت فقلت هذا والله لا يدرى ما يقول ثم
قلت لبلال كيف أصبحت وكان بلال اذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولى اذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لى شامة وطفيل
ثم يقول اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا
الى أرض الوباء المراد بالوادى وادى مكة وفى رواية بفخ بتشديد الخاء
المعجمة واد بمكة ومجنة سوق بأسفل مكة وجليل نبت
(1/350)
ضعيف وشامة وطفيل بكسر الفاء جبلان مشرفان
على مجنة* وفى المواهب اللدنية شامة وطفيل عينان بقرب مكة قالت عائشة فدخلت
على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته فقال اللهم حبب الينا المدينة
كحبنا مكة أو أشدّ حبا وصححها وبارك لنا فى صاعها ومدّها وانقل حماها الى
مهيعة وهى الجحفة وفى هذا وقولها قبل أن يضرب علينا الحجاب اشعار بأن وعك
أبى بكر وصاحبيه كان بعد بناء المسجد انتهى فأجاب الله لنبيه دعاءه فجعل
هواءها صحيحا موافقا لامزجة الغرباء ونقل وباءها وحماها وعفونة هوائها الى
جحفة وهى يومئذ كانت دار اليهود ولم يكن بها مسلم يقال كانت لا يدخلها أحد
الاحمّ وفى الصفوة كان المولود يولد بالجحفة فما يبلغ الحلم حتى تصرعه
الحمى كذا فى الصحيحين ولهذا عدلوا الطريق الى رابغ* وعن عبد الله بن عمر
أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال رأيت امرأة وفى رواية كانّ امرأة ثائرة
الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت* وفى رواية حتى أقامت بمهيعة فأوّلتها ان
وباء المدينة نقل الى مهيعة وهى الجحفة* وفى القاموس مهيعة كمرحلة ويقال
مهيعة كمعيشة كلتاهما بالمثناة التحتية اسم للجحفة* وفى تشويق الساجد
الجحفة بضم الجيم واسكان الحاء قرية خربة تسمى مهيعة على نحو خمس مراحل من
مكة وهى ميقات أهل الشأم ومصر والمغرب وهى بقرب رابغ بالغين المعجمة
ومحاذية له على يسار الذاهب الى مكة* وفى معجم ما استعجم بين الجحفة والبحر
نحو ستة أميال وغدير خم على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة عن الطريق وهذا
الغدير تصب فيه عين ماء وحوله شجر كثير ملتف وهى الغيضة التى تسمى خم
وبغدير خم قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم لعلىّ من كنت مولاه فعلىّ مولاه
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وكان ذلك منصرفه من حجة الوداع
*
اسلام سلمان الفارسى
وفى هذه السنة أسلم سلمان الفارسى وفى رواية فى جمادى الاولى منها روى أن
سلمان كان رجلا فارسيا من أهل أصفهان من قرية يقال لها خبى وكان أبوه
مجوسيا دهقان قريته وكان يحبه وكان يحبسه فى بيته كما تحبس الجارية فى
بيتها فوّض اليه أمرا يقاد النار وتعهدها وكانت لابيه ضيعة عظيمة فشغل يوما
فى بنيان له عن أمر الضيعة وأرسل سلمان اليها فأمره فيها ببعض ما يريد فخرج
سلمان يريد الضيعة فمرّ بكنيسة من كنائس النصارى فسمع أصواتهم فيها وهم
يصلون فدخل عليهم ينظر ما يصنعون فلما رآهم أعجبته صلاتهم ورغب فى أمرهم
فقال هذا والله خير من الذى نحن عليه فمكث عندهم حتى غربت الشمس وترك ضيعة
أبيه فسألهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشأم ثم رجع الى أبيه فسأله أبوه
أين كنت يا بنى قال مررت بقوم يصلون فى كنيسة لهم أعجبنى ما رأيته من دينهم
قال أى بنى ليس ذاك الدين خيرا من دينك ودين آبائك قال كلا والله انه لخير
من ديننا فخافه فجعل فى رجله قيدا ثم حبسه فى بيته فبعث سلمان دسيسا الى
النصارى فقال لهم اذا قدم عليكم من الشام ركب تجار من النصارى فأخبرونى بهم
فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروه بقدوم التجار وارادتهم
الرجوع الى الشأم فألقى سلمان الحديد من رجله ثم خرج معهم حتى قدم الشأم
وسأل من أفضل أهل هذا الدين فقالوا الأسقف فى الكنيسة فجاء فأقام عنده
فخدمه حتى مات وكان رجل سوء فلما مات هو نصبوا مكانه رجلا آخر فأقام سلمان
عنده فلما حضرته الوفاة أوصى به الى رجل بالموصل فلحق سلمان بصاحب الموصل
فأقام عنده وخدمه ولما حضرته الوفاة أوصى به الى رجل من نصيبين فلحق سلمان
بصاحب نصيبين وأقام عنده وخدمه ولما حضرته الوفاة أوصى به الى رجل بعمورية
فلحق سلمان بصاحب عمورية وأقام عنده واكتسب بها فحصل له بقرات وغنيمات فلما
حضرته الوفاة استوصاه سلمان فقال له يا بنى والله ما أعلم أحدا من الناس
فيه خير ومعرفة بهذا الدين آمرك أن تأتيه ولكن أظلك زمان نبىّ هو مبعوث
بدين ابراهيم عليه السلام يخرج بأرض العرب يهاجر الى أرض بين حرّتين بينهما
(1/351)
نخل به علامات ظاهرة يأكل الهدية ولا يأكل
الصدقة بين كتفيه خاتم النبوّة فان استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ثم
مات ومكث سلمان بعمورية ما شاء الله ثم مرّ به نفر من بنى بكر أو بنى كلب
فقال لهم أتحملوننى الى أرض العرب أعطيكم بقراتى هذه وغنيماتى قالوا نعم
فأعطاهم اياها فحملوه حتى اذا قدموا به وادى القرى باعوه من يهودى فأقام
سلمان عنده ورأى بها النخل فرجا أن يكون البلد الذى وصف له صاحبه بعمورية
فبينما هو عنده اذ قدم عليه ابن عم له من المدينة من بنى قريظة فاشتراه منه
فاحتمله الى المدينة فقال سلمان فو الله لما رأيتها عرفتها بوصف صاحبى
بعمورية فأقام بها سلمان فبعث الله رسوله بمكة فأقام بها ما أقام لم يسمع
له سلمان ذكرا مع ما به من شغل سيده وخدمته ثم هاجر رسول الله صلّى الله
عليه وسلم الى المدينة فبينما كان سلمان فى رأس نخل لسيده يعمل فيه بعض
العمل وسيده جالس تحت النخل اذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان
قاتل الله بنى قيلة يعنى الانصار والله انهم الآن مجتمعون بقباء على رجل
قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون انه نبىّ قال سلمان فلما سمعتها أخذتنى
العرواء أى الرعدة حتى ظننت انى ساقط على سيدى فنزلت عن النخلة فجعلت أقول
لابن عمه ماذا تقول فغضب سيدى فلكمنى لكمة شديدة ثم قال مالك ولهذا أقبل
على عملك قلت لا شىء انما أردت أن استبثه عما قال وقد كان عند سلمان شىء من
الرطب قد جمعه فلما أمسى اخذه ثم ذهب به الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وهو بقباء ثم دخل عليه فقال له انه قد بلغنى أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك
غرباء ذو حاجة وهذا شىء كان عندى للصدقة فرأيتكم احق به من غيركم فقرّبه
منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه كلوا وأمسك يده فلم يأكل
فقال سلمان فى نفسه هذه واحدة ثم انصرف عنه وجمع شيئا وتحوّل رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من قباء الى المدينة فجاءه سلمان به فقال انى رأيتك لا
تأكل صدقة وهذه هدية اكرمتك بها فأكل وأمر اصحابه فأكلوا منها فقال سلمان
فى نفسه هاتان اثنتان ثم جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو ببقيع
الغرقد وقد تبع جنازة رجل من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس فى أصحابه
فسلم عليه ثم استدار خلفه ينظر الى ظهره هل يرى الخاتم الذى وصفه له صاحبه
بعمورية فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم استدبر عرف انه يستثبت فى
شىء وصف له فألقى رداءه عن ظهره فنظر الى الخاتم فانكب عليه يقبله ويبكى
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تحوّل فتحوّل فقص عليه قصته فأعجب
رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه فأسلم سلمان* وفى شواهد
النبوّة لما جاء سلمان الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم ليسلم لم يفهم
النبىّ صلّى الله عليه وسلم كلامه فطلب ترجمانا فأتى بتاجر من اليهود كان
يعلم الفارسية والعربية فمدح سلمان النبىّ صلّى الله عليه وسلم وذمّ اليهود
فغضب اليهودى وحرّف الترجمة فقال ان سلمان يشتمك فقال النبىّ صلّى الله
عليه وسلم هذا الفارسى جاء ليؤذينا فنزل جبريل وترجم كلام سلمان فقال
النبىّ صلّى الله عليه وسلم ذلك لليهودى فقال يا محمد اذا كنت تعرف
الفارسية فما حاجتك الىّ قال ما كنت أعلمها قبل فالآن علمنى جبريل أو كما
قال فقال اليهودى يا محمد قد كنت قبل هذا أتهمك فالآن تحقق عندى أنك رسول
الله فقال أشهد أن لا اله الا الله وأشهد انك رسول الله ثم قال النبىّ
لجبريل علم سلمان العربية قال قل له ليغمض عينيه وليفتح فاه ففعل سلمان
فتفل جبريل فى فيه فشرع سلمان يتكلم بالعربى الفصيح* قال ثم شغل سلمان الرق
حتى فاته بدر وأحد حتى عتق فى السنة الخامسة من الهجرة كما سيجىء فى الموطن
الخامس*
ذكر المواخاة بين المهاجرين والانصار
وفى هذه السنة بعد قدوم النبىّ صلّى الله عليه وسلم المدينة بخمسة أشهر وهو
يبنى المسجد وقيل بعده وقيل قبله* وفى أسد الغابة بعد ثمانية أشهر آخى بين
المهاجرين والانصار فقعدوا عقد المواخاة والمعاونة
(1/352)
والمواساة وقيل كتبوا فيه كتابا وكان ذلك
فى دار أنس* وفى رواية كان فى المسجد على ان يتوارثوا بعد الممات دون ذوى
الارحام وكانوا تسعين رجلا خمسة وأربعون من المهاجرين وخمسة وأربعون من
الانصار والتأم شمل الحيين الاوس والخزرج ببركة النبىّ صلّى الله عليه وسلم
بعد ما كان بينهما أمور عظام ومخالفات كثيرة وما وجدنا فى الكتب من أساميهم
هذه أبو بكر بن أبى قحافة مع خارجة ابن زيد الانصارى اخى الحارث بن الخزرج
وعمر بن الخطاب مع عتبان بن مالك الانصارى الخزرجى وعثمان بن عفان مع أوس
بن ثابت الانصارى وابو عبيدة بن الجراح اسمه عامر بن عبد الله مع سعد بن
معاذ سيد الاوس الانصارى الاشهلى والزبير بن العوام مع سلمة بن سلام
الانصارى الاشهلى وطلحة ابن عبيد الله مع كعب بن مالك الانصارى اخى بنى
سلمة وعبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع الانصارى اخى الحارث بن الخزرج
وسلمان الفارسى مع ابى الدرداء عويمر بن ثعلبة الانصارى اخى بلحارث بن
الخزرج* وقال ابن هشام عويمر بن عامر ويقال عويمر بن زيد وسعيد بن زيد بن
عمرو بن نفيل مع أبى بن كعب الانصارى أخى بنى النجار ومصعب بن عمير بن هاشم
مع أبى أيوب خالد بن زيد الانصارى النجارى وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع
عباد بن بشر الانصارى الاشهلى وعمار بن ياسر مع حذيفة بن النجار الانصارى
اخى بنى عبس ويقال بل عمار بن ياسر مع ثابت بن قيس بن شماس الانصارى أخى
بلحارث بن الخزرج وأبوذر وقد اختلف فى اسمه ونسبه اختلافا كثيرا فقيل جندب
ابن جنادة ويقال بريد بن جندب ويقال برير ويقال بر بن جنادة كذا قاله ابن
اسحاق وقيل بريد بن جندب أيضا عن ابن اسحاق ويقال جندب بن عبد الله ويقال
جندب بن سكن ويقال غير ذلك والمشهور المحفوظ جندب بن جنادة الغفارى كذا فى
الاستيعاب وأسد الغابة وقال ابن هشام سمعت غير واحد من العلماء يقول أبو
ذرّ جندب بن جنادة انتهى مع المنذر بن عمرو الانصارى أخى بنى ساعدة بن كعب
بن الخزرج قاله ابن اسحاق وحاطب بن أبى بلتعة اللخمى حليف بنى أسد بن عبد
العزى مع عويمر بن ساعدة أخى بنى عمرو بن عوف وجعفر بن أبى طالب مع معاذ بن
جبل اخى بنى سلمة قاله ابن اسحاق وقال ابن هشام وكان جعفر بن أبى طالب
يومئذ غائبا بأرض الحبشة وبلال المؤذن مولى أبى بكر مع أبى رويحة عبد الله
بن عبد الرحمن الخثعمى هذا هو المشهور بين المؤرّخين* ونقل الشيخ ابن حجر
فى شرح صحيح البخارى عن ابن عبد البر أنه كانت المؤاخاة مرّتين الاولى قبل
الهجرة بمكة بين المهاجرين خاصة روى الحاكم ابن عبد الله النيسابورى حديثا
يدل على ما قاله ابن حجر وهو حديث أبى عمرو قال آخى النبىّ عليه الصلاة
والسلام بين أبى بكر وعمر وبين طلحة والزبير وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف
وفى رواية بين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة فقال على يا رسول الله
آخيت بين أصحابك فمن أخى قال أنا أخوك وفى رواية أنت أخى فى الدنيا والآخرة
وهؤلاء كلهم من المهاجرين والثانية ما تقدّم من المؤاخاة بين المهاجرين
والانصار وكانت هذه المؤاخاة قبل وقعة بدر ولما وقعت وقعة بدر أنزل الله
تعالى وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض فنسخت هذه الآية ما كان قبلها
وانقطعت المؤاخاة فى الميراث ورجع كل انسان الى نسبه وورثه ذوو رحمه*
ذكر موادعة اليهود
وفى هذه السنة بعد ما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة بخمسة
أشهر وادع اليهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم أن لا
يعينوا عليه أحدا وان دهمه بها عدوّ نصروه
موت العاص بن وائل من مشركى مكة
وفى هذه السنة مات من مشركى مكة بمكة العاص بن وائل السهمى والوليد بن
المغيرة روى عن الشعبى لما احتضر الوليد بن المغيرة جزع فقال له أبو جهل يا
عم ما يجزعك قال والله ما بى من جزع من الموت ولكنى أخاف أن يظهر دين ابن
أبى كبشة بمكة قال أبو سفيان لا تخف أنا ضامن أن لا يظهر وفى هذه السنة ولد
زياد بن
(1/353)
أبية وقتل كسرى النعمان بن المنذر وتوفى
أبو لهب وولد المسور بن مخرمة كذا فى سيرة مغلطاى
بعت زيد بن حارثة الى مكة
وفى هذه السنة بعث رسول الله زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما خمسمائة درهم
وبعيرين فقد ما عليه بفاطمة وأمّ كلثوم بنتيه وسودة زوجته وأمّ أيمن زوج
زيد بن حارثة واسامة بن زيد وخرج عبد الله بن ابى بكر معهم بعيال ابى بكر
وهم عائشة وامّها امّ رومان واختها اسماء زوج الزبير وهى حامل بعبد الله
ابن الزبير فولدته بقباء قبل نزولهم المدينة فكان اوّل مولود ولد من
المهاجرين بالمدينة كما سيجىء وقال رزين ان ابا بكر ارسل عبد الله بن اريقط
مع زيد بن حارثة ليأتيه بعائشة وامّ رومان أمّها وعبد الرحمن وقال بعضهم
ووجدوا طلحة بن عبيد الله على خروج فخرج معهم فقدموا كلهم فلما قدموا
المدينة انزلهم فى بيت حارثة بن النعمان*
ولادة النعمان بن بشير وعبد الله بن الزبير
وفى هذه السنة ولد النعمان بن بشير وهو اوّل مولود ولد فى الاسلام من
الانصار وفى هذه السنة ولد عبد الله بن الزبير* وفى الوفاء جاءت امّه اسماء
بنت ابى بكر بعد الهجرة فنفست به بقباء فى شوّال فى السنة الاولى من
الهجرة* وقال الذهيى تبعا للواقدى انه ولد فى شوّال سنة اثنتين كذا اورد فى
المواهب اللدنية وتاريخ اليافعى* وفى اسد الغابة ولد عبد الله بن الزبير
بالمدينة على رأس عشرين شهرا من الهجرة وقيل فى السنة الاولى وسيجىء قتله
فى الخاتمة* وقال الحافظ ابن حجر المعتمد انه ولد فى السنة الاولى للحديث
المتفق عليه* وفى بعض الكتب ولد بعد الهجرة بعشرين شهرا وهو أوّل مولود ولد
للمهاجرين بالمدينة بعد الهجرة أذن أبو بكر فى أذنه وكبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم والمسلمون وكانوا قد تحدّثوا فيما بينهم بأنّ اليهود قد
سحرتهم وقيل انّ اليهود قالت انا سحرناهم فلا يولد لهم مولود فكذبهم الله
ففرح المسلمون بولادته وكان تكبيرهم حين الولادة للفرح* وفى الرياض النضرة
ان أسماء لما هاجرت الى المدينة كانت حبلى به فنزلت بقباء فولدته هناك ثم
خرجت حتى أتت به النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو جالس فوضعته فى حجره ثم
دعا بتمرة فمضغها ثم تفل فى فيه ثم حنكه بها ودعا له بالبركة وكان أوّل ما
دخل فى جوفه ريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم كذا فى المشكاة* وعن عائشة
أنّ أمّه أسماء لما ولدته أتت به رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليحنكه
فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منها فوضعه فى حجره قالت عائشة فمكثنا
ساعة نلتمسها يعنى تمرة قبل أن نجدها فمضغها ثم بصقها فى فيه فأوّل شىء دخل
بطنه ريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت أسماء ثم مسحه رسول الله صلّى
الله عليه وسلم وسماه عبد الله ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان ليبايع
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمره بذلك الزبير فتبسم رسول الله صلّى
الله عليه وسلم حين رآه مقبلا ثم بايعه أخرجه البخارى كذا فى الرياض
النضرة* وفى حياة الحيوان روى السهيلى انه لما ولد عبد الله بن الزبير نظر
اليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال هو هو فلما سمعت بذلك أسماء أمسكت
عن ارضاعه فقال لها النبىّ صلّى الله عليه وسلم أرضعيه ولو بماء عينيك كبش
بين الذئاب ذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه* وذكر الدار قطنى
وغيره أعطى النبىّ صلّى الله عليه وسلم ابن الزبير وهو غلام دم محاجمه
ليدفنه فشربه فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلم من خالط دمه دمى لم تمسه
النار ويل لك من الناس وويل للناس منك* أورده فى النجم الوهاج والقاضى عياض
فى الشفاء* وفى المواهب اللدنية عن ابن الزبير قال احتجم رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فقال اذهب فغيبه فذهبت به فشربته فأتيته فقال ما صنعت قلت
غيبته قال لعلك شربته قلت نعم قال ويل لك من الناس وويل للناس منك وفيه
دلالة على طهارة بوله ودمه صلّى الله عليه وسلم* وفى الرياض النضرة لا تمسك
النار الاقسم اليمين وكان أطلس عديم اللحية ولا شعر فى وجهه وكان صوّاما
قوّاما طويل الصلاة وصولا للرحم عظيم المجاهدة والشجاعة ومن مجاهدته
المنقولة انه كان يحيى الدهر أجمع ليلة قائما
(1/354)
حتى الصباح وليلة راكعا حتى الصباح وليلة
ساجدا حتى الصباح وكان يواصل الصوم سبعا ويصوم يوم الجمعة فلا يفطر الا
ليلة الجمعة الاخرى ويصوم بالمدينة ولا يفطر الا بمكة ويصوم بمكة ولا يفطر
الا بالمدينة وبينهما مائتا ميل كذا فى معجم ما استعجم وكان أوّل ما يفطر
عليه لبن لقحة بسمن بقر وصبر كذا فى الصفوة*
شجاعة عبد الله بن الزبير
ومن شجاعته المنقولة ما ذكره الذهبى فى دول الاسلام انّ عثمان فى خلافته
لما عزل نائب مصر عمرو بن العاص واستعمل عليها عبد الله بن أبى سرح سار عبد
الله بالجيوش الى المغرب فالتقى هو والكفار وهم نحو مائتى ألف وملكهم جرجير
وكان المصاف بسيطلة بقرب مدينة القيروان فقتل جرجير ونزل النصر وكانت وقعة
هائلة عظيمة بحيث طلع سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار من الغنيمة وكيفيتها ما
قال مصعب بن الزبير حدّثنى أبى والزبير بن حبيب قالا قال عبد الله بن
الزبير هجم علينا جرجير فى مائة وعشرين ألفا واختلف الجند على ابن أبى سرح
وخافوا كثرة العدد وأحاط بنا العدوّ وكنا عشرين ألفا فرأيت أنا غرة من
جرجير بصرت به خلف جيوشه على برذون أشهب معه جاريتان تظللان عليه بريش
الطواويس بينه وبين عسكره فلاة من الارض فأتيت أميرنا ابن أبى سرح فندب لى
فرسانا فاخترت منهم ثلاثين وقلت لهم اثبتوا هنا وحملت على جرجير وقلت احمو
الى ظهرى وخرجت الى جرجير وهو يظن انى رسول اليه فلما دنوت منه عرف الشر
فوثب على برذونه وساق موليا فأدركته فطعنته فسقط ثم ضربته بالسيف ونصبت
رأسه على رمحى وكبرت وقد كبر المسلمون فحملوا وركينا أكتاف العدوّ وتمزقوا
وذلك بشجاعة عبد الله بن الزبير رضى الله عنه وسيجىء خلافته فى الخاتمة فى
سنة أربع وستين وقتله فى سنة ثلاث وسبعين*
قصة فاطمة بنت النعمان
وفى هذه السنة ما روى انه كانت امرأة من بنى النجار يقال لها فاطمة بنت
النعمان كان لها تابع من الجنّ وكان يأتيها فأتاها بعد ما هاجر النبىّ عليه
الصلاة والسلام الى المدينة فانقض على الحائط فقالت له ما لك لا تأتى كما
كنت تأتى قال جاء النبىّ الذى يحرم الزنا والحرام*
تكلم الذئب
وفى هذه السنة تكلم ذئب خارج المدينة ينذر برسول الله عليه الصلاة والسلام*
عن أبى هريرة أنه قال جاء ذئب الى غنم فأخذ منها شاة فطلبه الراعى حتى
انتزعها منه فصعد الذئب على تل فاقعى واستنفر وقال عمدت الى رزق رزقنيه
الله انتزعته منى فقال الرجل بالله ان رأيت كاليوم ذئب يتكلم قال الذئب
أعجب من هذا رجل فى النخلات بين الحرّتين يخبركم بما مضى وما هو كائن عندكم
وكان الراعى يهوديا فجاء الى النبىّ عليه الصلاة والسلام فأخبره خبره
وصدّقه النبىّ عليه الصلاة والسلام وقال انها أمارة من أمارات بين يدى
الساعة أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله
بعده* وفى حياة الحيوان قال ابن عبد البركام الذئب من الصحابة ثلاثة رافع
بن عمير وسلمة بن الاكوع واهبان بن أوس*
ابتداء الغزوات
وفى هذه السنة ابتداء الغزوات* اعلم انه جرت عادة المحدّثين وأهل السير
واصطلاحاتهم غالبا بأن يسموا كل عسكر حضره النبىّ صلّى الله عليه وسلم
بنفسه الكريمة غزوة وما لم يحضره بل أرسل بعضا من أصحابه الى العدوّ سرية
وبعثا* وأفاد فى فتح البارى أن السرية بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد
التحتانية هى التى تخرج بالليل والسارية التى تخرج بالنهار وقيل سميت بذلك
يعنى السرية لانها تخفى ذهابها وهذا يقتضى انها أخذت من السر ولا يصح
لاختلاف المادّة وهى قطعة من الجيش تخرج منه وتعود اليه كذا فى المواهب
اللدنية* وفى القاموس السرية من خمسة أنفس الى ثلثمائة أو أربعمائة* وفى
المواهب اللدنية من مائة الى خمسمائة فما زاد على خمسمائة يقال له منسر
بالنون ثم المهملة وفى السامى فى الاسامى المنسر والمقنب من الثلاثين الى
الاربعين* وفى المواهب اللدنية فان زاد على ثمانمائة يسمى جيشا فان زاد على
أربعة آلاف يسمى جحفلا والخميس الجيش العظيم الكثير وكذا المجر والمدهم
والعرمرم كذا
(1/355)
فى سامى الاسامى وفى المواهب اللدنية وما
افترق من السرية يسمى بعثا والكثيبة والفيلق ما اجتمع ولم ينتشر* وفى سر
الادب فى ترتيب العساكر عن أبى بكر الخوارزمى عن ابن خالويه أقل العساكر
الجريدة وهى قطعة جردت من سائرها لوجه مّا ثم السرية أكثر منها وهى من
خمسين الى أربعمائة ثم الكثيبة وهى من مائة الى ألف ثم الجيش وهو من ألف
الى أربعة آلاف وكذلك العريق والجحفل ثم الخميس وهو من أربعة آلاف الى اثنى
عشر ألفا والعسكر يجمعها* وجملة غزواته التى غزاها عليه السلام بنفسه مختلف
فيها ففى سيرة اليعمرى وابن هشام والاكتفاء والمواهب اللدنية سبع وعشرون
كما قاله ابن اسحاق غزوة ودان وهى غزوة الابواء ثم غزوة بواط من ناحية رضوى
ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع ثم غزوة بدر الصغرى الاولى بطلب كرز بن جابر
ثم غزوة بدر الكبرى القتال ثم غزوة بنى سليم حتى بلغ الكدر ثم غزوة السويق
لطلب أبى سفيان بن حرب ثم غزوة غطفان وهى غزوة ذى أمر ثم غزوة بحران معدان
بالحجاز ثم غزوة أحد ثم غزوة حمراء الاسد ثم غزوة بنى النضير ثم غزوة ذات
الرقاع من نخل ثم غزوة بدر الأخرى ثم غزوة دومة الجندل ثم غزوة الخندق ثم
غزوة بنى قريظة ثم غزوة بنى لحيان من هذيل ثم غزوة ذى قرد ثم غزوة بنى
المصطلق من خزاعة وهى غزوة المرييسع ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصدّه
المشركون ثم غزوة خيبر ثم غزوة عمرة القضاء ثم غزوة الفتح ثم غزوة حنين ثم
غزوة الطائف ثم غزوة تبوك قاتل صلّى الله عليه وسلم فى تسع غزوات منها بدر
وأحد والخندق وبنى قريظة وبنى المصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف وهذا
الترتيب عن ابن اسحاق وخالفه ابن عقبة فى بعضه كذا فى الاكتفاء وسيرة ابن
هشام وسيجىء بالتفصيل ان شاء الله تعالى* وقيل جميع غزواته أربع وعشرون
وقيل احدى وعشرون وقيل تسع عشرة غزوة* وفى خلاصة السير للمحب الطبرى وجملة
المشهور منها اثنتان وعشرون غزوة* وقال ابن اسحاق وأبو معشر وموسى بن عقبة
وغيرهم المشهور انه غزا خمسا وعشرين غزوة بنفسه* وفى عمدة المعانى وأسد
الغابة وكانت جملة غزواته ستا وعشرين غزوة وقاتل فى تسع منها أوفى اثنتى
عشرة وهى بدر وأحد والمريسيع والخندق وبنو قريظة وخيبر وفتح مكة وحنين
والطائف هذا على قول من قال فتحت مكة عنوة* وفى سيرة اليعمرى قاتل منها فى
سبع وعدّ ما عدا خيبر وفتح مكة* وفى الصفوة قاتل أيضا بوادى القرى وبنى
النضير* وفى خلاصة الوفاء البعوث والسرايا خمسون أو نحوها وكذلك فى سيرة
اليعمرى* وفى المواهب اللدنية وكانت سراياه التى بعث بها سبعا وأربعين سرية
وفى موضع آخر منه فجميع سراياه وبعوثه نحو ستين ومغازيه سبع وعشرون* وفى
الاكتفاء وسيرة ابن هشام وكانت بعوثه وسراياه ثمانية وثلاثين ما بين بعث
وسرية* وفى أسد الغابة لابن الاثير خمسة وثلاثين واختلف أيضا فى أوّل
الغزوات فمحمد بن اسحاق وجماعة على ان أوّلها غزوة الابواء ثم بواط ثم
العشيرة* وروى البخارى أيضا فى صحيحه عن ابن اسحاق بهذا الترتيب ورجحه
الحافظ ابن حجر فى فتح البارى شرح صحيح البخارى وقيل أوّل ما غزا العشيرة*
بعث حمزة بن عبد المطلب الى سيف البحر
وفى رمضان هذه السنة على رأس سبعة أشهر من الهجرة وقيل فى ربيع الاوّل سنة
ثنتين بعث حمزة بن عبد المطلب الى سيف البحر وكان أوّل بعوثه عليه السلام
قال ابن اسحاق بعث رسول الله حمزة بن عبد المطلب الى سيف البحر من ناحية
العيص فى ثلاثين راكبا من المهاجرين قيل ومن الانصار وفيه نظر لانه لم يبعث
من الانصار حتى غزابهم بدرا ليتعرّض عير قريش فلقى أبا جهل بالساحل فى
ثلثمائة راكب من أهل مكة فلما تصافوا حجز بينهما مجدى بن عمرو الجهنى وكان
موادعا للفريقين حليفا لهما ثم انصرفوا من غير قتال وكان حامل لواء حمزة
أبو مرثد الغنوى* وفى المواهب اللدنية وكان عليه السلام قد عقد له لواء
أبيض واللواء هو
(1/356)
العلم الذى يحمل فى الحرب يعرف به موضع
صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش وقد يدفعه الى مقدم العسكر وقد صرّح جماعة
من أهل اللغة بترادف اللواء والراية لكن روى أحمد والترمذى عن ابن عباس
كانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض ومثله عن
الطبرانى عن بريدة وعن ابن عدى عن أبى هريرة وزاد مكتوب فيه لا اله الا
الله محمد رسول الله وهو ظاهر فى التغاير ولعل التفرقة بينهما عرفية* وذكر
ابن اسحاق وكذا أبو الاسود عن عروة أنّ أوّل ما حدثت الرايات يوم خيبر وما
كانوا يعرفون قبل ذلك الا الاولوية انتهى وهكذا قدم بعضهم سرية حمزة هذه
على سرية عبيدة وقال لواء حمزة أوّل لواء عقد فى الاسلام* وقال المداينى
أوّل سرية بعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية حمزة بن عبد المطلب فى
ربيع الاوّل من سنة اثنتين الى سيف البحر من أرض جهينة خرجه أبو عمرو وصاحب
الصفوة ولفظه أوّل لواء عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحمزة حين قدم
المدينة* وقال ابن اسحاق ان ذلك لعبيدة بن الحارث واليه أشار ابن هشام فى
سيرته وانما اشتبه ذلك على الناس لان بعثه وبعث عبيدة كانا معا والنبىّ
صلّى الله عليه وسلم شيعهما جميعا فأشكل أمرهما فكل من قال ذلك فى واحد
منهما فهو صادق كذا فى ذخائر العقبى وهذا يشكل بقوله ان بعث عبيدة كان على
رأس ثمانية أشهر لكن يحتمل أن يكون صلّى الله عليه وسلم عقد رايتهما معا ثم
تأخر خروج عبيدة الى رأس الثمانية لامر اقتضاه والله أعلم* وقال أبو عمرو
ان أوّل راية عقدت لعبد الله بن جحش* وفى شوّال هذه السنة على رأس ثمانية
أشهر كانت سرية عبيدة بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف بن قصى الى بطن
رابغ بالغين المعجمة ويعرف بودّان*
سرية عبيدة بن الحارث الى بطن رابغ
روى انّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم عقد لواء أبيض لابن عم عبد المطلب
عبيدة بن الحارث بن المطلب وأمره على ستين رجلا من المهاجرين ليس فيهم من
الانصار واحد وقد مرّ الخلاف فى انه أوّل راية راية حمزة وكان حامل اللواء
مسطح بن اثاثة ورمى فيها سعد بن أبى وقاص بسهم فكان أوّل سهم رمى به فى
الاسلام وكان ذلك قبل غزوة الابواء على القول الراجح وأوردها ابن هشام فى
سيرته والكلاعى فى الكتفاء بعد غزوة الابواء فى السنة الثانية فى ربيع
الاوّل حيث قال ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أى من غزوة الابواء
الى المدينة فأقام بها بقية صفر وصدرا من شهر ربيع الاوّل وبعث فى مقامه
ذلك عبيدة ابن الحارث وقيل بعثه من الابواء وذكر أبو الاسود فى مغازيه عن
عروة انّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم لما وصل الى الابواء بعث عبيدة بن
الحارث فى ستين رجلا وذكر القصة فيكون ذلك فى السنة الثانية وبه صرّح بعض
أهل السير* وفى سيرة ابن هشام بعثه حين أقبل من غزوة الابواء قبل أن يصل
الى المدينة فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرّة فلقى جمعا عظيما
من قريش وكان أميرا على المشركين أبو سفيان بن حرب وقيل عكرمة بن أبى جهل
وقيل مكرز بن حفص فترموا بالنبل وكان أوّل من رمى فى وجوه المشركين بسهم
سعد بن أبى وقاص كما مرّ ولم يقع بينهم ضرب السيوف فظنّ المشركون ان
للمسلمين مددا فخافوا وانهزموا ولم يتبعهم المسلمون فانحاز من المشركين الى
المسلمين رجلان المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان المازنى وكانا مسلمين
لكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار الى المسلمين*
بناؤه عليه السلام بعائشة
وفى هذه السنة بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبى بكر
الصدّيق رضى الله عنهما وسنذكر تمام نسبها فى الخاتمة فى خلافة أبى بكر ان
شاء الله تعالى وأمّها أمّ رومان بنت عامر بن عويمر وكنيتها أمّ عبد الله
كناها النبىّ صلّى الله عليه وسلم باسم ابن أختها عبد الله بن الزبير وكان
البناء بها على رأس تسعة أشهر وقيل ثمانية عشر شهرا فى شوّال كذا فى
المواهب اللدنية وتاريخ اليافعى وكذا فى الوفاء من غير لفظ شوّال* وفى أسد
الغابة وبنى بها فى المدينة سنة اثنتين* وفى المشكاة عن عائشة
(1/357)
أنها قالت تزوّجنى رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فى شوّال وبنى بى فى شوّال فأى نساء رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان أحظى عنده منى* وعن عائشة ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم تزوّجها
وهى بنت سبع سنين وزفت اليه وهى بنت تسع سنين ولعبها معها ومات عنها وهى
بنت ثمانى عشرة سنة وقيل البناء بها فى الثامن والعشرين من ذى الحجة وقيل
زفافها وقع فى السنة الثانية والاوّل أصح وكان البناء بها يوم الاربعاء ضحى
فى منزل أبى بكر بالسنخ* وخرج الشيخان عن عائشة أنها قالت تزوّجنى رسول
الله صلّى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست سنين فقدمنا المدينة فنزلنا فى بنى
الحارث بن الخزرج فوعكت فتمزق شعرى فأتتنى أمى أم رومان وانى لفى أرجوحة مع
صواحب لى فصرخت بى فأتيتها ما أدرى ما تريد منى فأخذت بيدى حتى أو قفتنى
على باب الدار وأنا أنهج حتى سكن بعض نفسى ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به
وجهى ورأسى ثم أدخلتنى الدار فاذا نسوة من الانصار فى البيت فقلن على الخير
والبركة فأسلمتنى اليهنّ فأصلحن من شأنى فلم يرعنى الا رسول الله صلّى الله
عليه وسلم ضحى فأسلمتنى اليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين كذا فى المواهب
اللدنية* وفى المواهب اللدنية أيضا بنى بعائشة فى البيت الذى يليه شارعا
الى المسجد وجعل سودة بنت زمعة فى البيت الآخر الذى يليه الى الباب الذى
يلى آل عثمان ثم تحوّل عليه السلام من دار أبى أيوب الى مساكنه التى بناها*
روى انه عليه السلام ما أولم على عائشة بشىء غير أن قدحا من لبن أهدى اليه
من بيت سعد بن عبادة فشرب النبىّ صلى الله عليه وسلم بعضه وشربت عائشة منه*
وروى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أرى عائشة فى المنام مرتين أو ثلاثا فى
سرقة من حرير يجىء بها الملك فيقول هذه امرأتك وللترمذى جاء جبريل بصورتها
فى سرقة حرير خضراء فقال هذه زوجتك فى الدنيا والآخرة* وفى البخارى عن
عائشة أنها قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أريتك فى المنام مرّتين
اذا رجل يحملك فى سرقة حرير فيقول هذه امرأتك فاكشفها فاذا هى أنت فأقول ان
يكن هذا من عند الله يمضه* وروى انه صلّى الله عليه وسلم قال يا عائشة هذا
جبريل يقرئك السلام فقالت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته وكانت من خير
مفتى الصحابة وفقهائهم وفصحائهم وبلغائهم حتى نقل عن بعض السلف ان ربع
الاحكام الشرعية علم منها* وفى الاخبار خذوا ثلثى دينكم من هذه الحميراء*
وروى عن عروة بن الزبير أنه قال ما رأيت أحدا أعلم بمعانى القرآن وبالفريضة
وأحكام الحلال والحرام وشعر العرب وعلم النسب من عائشة وهذان البيتان من
أشعارها قالتهما فى مدح النبىّ صلّى الله عليه وسلم
فلو سمعوا فى مصر أوصاف خدّه ... لما بذلوا فى سوم يوسف من نقد
لوامى زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع القلوب على الايدى
ومن كلماتها ينبغى للاخ أن يكون خيرا لاخيه منه لنفسه ألا ترى ان موسى سأل
لهارون عليهما السلام النبوّة وروى ان رجلا سألها متى أعلم انى محسن قالت
اذا علمت انك مسىء فقال متى أعلم انى مسىء قالت اذا علمت انك محسن وقالت
أديموا قرع باب الملك يفتح لكم قيل كيف نديمه قالت بالجوع والظمأ ومن
كلماتها النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع عتيقه وروى أنها كانت تقرأ القرآن
فلما بلغت هذه الآية لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون قالت
والله أطلب ذكرى وصفتى فى القرآن فلم تزل تختم القرآن وتتفكر فى معانى
الآيات حتى قالت انّ الله قد أطلعنى على ذكرى وصفتى فى القرآن قيل وما هو
قالت هو وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن
يتوب عليهم ولم يتزوّج النبىّ صلّى الله عليه وسلم بكرا غيرها فمكثت عنده
تسع سنين ولم يولد منها ولد وما قيل انها أسقطت من النبىّ صلّى الله عليه
وسلم سقطا فسماه عبد الله وكناها بأم
(1/358)
عبد الله فغير ثابت وتوفى النبىّ صلّى الله
عليه وسلم عنها ولها ثمانى عشرة سنة وعاشت بعده سبعا وأربعين سنة قال
الواقدى وتوفيت عائشة بالمدينة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان
سنة ثمان وخمسين وقال غيره سبع وخمسين من الهجرة فى أيام معاوية وسيجىء
ومدّة عمرها ثلاث وستون سنة وهو الصحيح وقيل ست وستون كذا فى الصفوة
والمنتقى وحضر جنازتها أكثر أهل المدينة وصلّى عليها أبو هريرة وكان خليفة
مروان بالمدينة* وفى شواهد النبوّة عن عائشة أنها قالت يا رسول الله ائذن
لى أن أدفن بعد وفاتك بجنبك فقال كيف تدفنين هناك وما فيه الا موضع قبرى
وقبر أبى بكر وقبر عمر وقبر عيسى ابن مريم ودفنت بالبقيع مع صاحباتها
بمقتضى وصيتها ودخل فى قبرها قاسم بن محمد بن أبى بكر وعبد الله بن عبد
الرحمن بن أبى بكر مروياتها فى الكتب المتداولة ألفان ومائتان وعشرة أحاديث
المتفق عليها منها مائة وأربعة وستون حديثا وفرد البخارى أربعة وخمسون
حديثا وفرد مسلم ثمانية وستون حديثا والباقية فى سائر الكتب*
بعث سعد بن أبى وقاص الى الخرار
وفى ذى القعدة من هذه السنة على رأس سبعة أشهر بعث رسول الله صلّى الله
عليه وسلم سعد بن أبى وقاص فى عشرين رجلا الى الخرار بخاء معجمة وراءين
مهملتين واد بالحجاز يصب فى الجحفة* وقال أبو عمرو وكانت بعد بدر* وقال ابن
حزم نحوه كذا فى سيرة مغلطاى يعترض عيرا لقريش وعقد له لواء أبيض حمله
المقداد بن عمرو فخرجوا على أقدامهم يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى
انتهوا اليه صبح خامسه فلم يجدوا شيئا وقد سبقتهم العير بيوم* وفى رواية قد
مرّت بالامس فرجعوا الى المدينة*
ابتداء الاذان
وفى هذه السنة شرع الاذان قال ابن المنذر ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم
كان يصلى بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة الى أن هاجر الى المدينة وكان
الناس بها كما فى السير وغيرها انما يجتمعون الى الصلاة لتحين مواقيتها من
غير دعوة* وأخرج ابن سعدان بلالا كان ينادى للصلاة بقوله الصلاة جامعة
وشاور النبىّ صلّى الله عليه وسلم أصحابه فيما يجمعهم للصلاة وكان ذلك فيما
قيل فى السنة الثانية فأرى عبد الله بن ثعلبة بن عبد ربه الخزرجى الاذان
والاقامة على الوجه المتعارف قال عبد الله لما أجمع رسول الله صلّى الله
عليه وسلم أن يضرب بالناقوس لجمع الناس للصلاة وهو له كاره لموافقته
النصارى رأيت فى المنام رجلا عليه ثوبان أخضران وفى يده ناقوس يحمله قلت له
يا عبد الله تبيع هذا الناقوس قال ما تصنع به قلت ندعو به للصلاة قال أفلا
أدلك على خير من ذلك فقلت بلى قال تقول الله أكبر الله أكبر الى آخره ثم
استأخر غير بعيد فقال تقول اذا أقيمت الصلاة الله أكبر الله أكبر الى آخرها
وزاد فيها بعد الفلاح قد قامت الصلاة مرّتين فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال ان هذه لرؤيا حق ان شاء الله ثم أمر
بالتأذين وكان بلال يؤذن بذلك ويدعو رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى
الصلاة فجاءه ذات غداة ودعا الى صلاة الفجر فقيل انّ رسول الله صلّى الله
عليه وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته الصلاة خير من النوم فأدخلت هذه
الكلمة فى التأذين لصلاة الفجر* وفى رواية لما صرفت القبلة الى الكعبة أمر
بالاذان وذلك ان الناس كانوا لا يدرون كيف يفعلون لتجتمع الناس للصلاة فذكر
بعضهم البوق وبعضهم الناقوس وبعضهم النار فبيناهم على ذلك رأى عبد الله بن
زيد الخزرجى فى المنام كيفية الاذان والاقامة على الوجه الذى ذكر فلما أصبح
أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى فقال له قم مع بلال فألق
عليه ما قيل لك فليؤذن بذلك ففعل وجاء عمر بن الخطاب فقال قد رأيت مثل الذى
رأى عبد الله فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم فلله الحمد فعلى هذه الرواية
يكون الاذان قد وقع فى السنة الثانية من الهجرة لانه قيل فيها لما صرفت
القبلة وقد صح ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم
(1/359)
وأصحابه صلوا الى بيت المقدس ستة عشر شهرا* وذكر ابن شهاب عن عبيد بن عمير
ان عمر بن الخطاب بينا هو يريد أن يشترى خشبتين للناقوس عند ما ائتمر به
النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه اذ رأى فى المنام أن لا تجعلوا الناقوس
بل أذنوا بالصلاة فذهب عمر الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم ليخبره بالذى
رأى فما راعه الا بلال يؤذن وقد جاء النبىّ صلّى الله عليه وسلم الوحى بذلك
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين أخبره سبقك بذلك الوحى كذا فى
الاكتفاء* وفى المواهب اللدنية فان قلت هل أذن عليه السلام بنفسه قط أجاب
السهيلى بأنه روى الترمذى ورفعه الى أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أذن
مرّة فى سفر وصلّى بهم على رواحلهم الحديث قال فنزع بعض الناس بهذا الحديث
الى أنه عليه السلام أذن بنفسه وكذا جزم النووى بأنه أذن مرّة فى سفر والله
أعلم
* |