تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس

(الموطن الخامس فى وقائع السنة الخامسة من الهجرة
من

فك سلمان عن الرق وغزوة دومة الجندل ووفاة أم سعد وخسوف القمر وشدّة قريش ووفد بلال بن الحارث المزنى وقدوم ضمام بن ثعلبة وغزوة المريسيع وتنازع جهجاه وقدوم مقيس بن ضبابة ونزول آية التيمم وتزوّج جويرية وافك عائشة رضى الله عنها وغزوة الخندق وغزوة بنى قريظة وقصة أولاد جابر وتزوّج زينب بنت جحش ونزول آية الحجاب وزلزلة المدينة وسقوطه عن فرسه ومسابقة الخيل ونزول فرض الحج والنهى عن ادّخار لحوم الاضاحى) *
* فك سلمان عن الرق
وفى هذه السنة فك رسول الله صلّى الله عليه وسلم سلمان عن الرق قد مرّ ان سلمان أسلم فى السنة الاولى من الهجرة ثم شغله الرق حتى قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم كاتب يا سلمان فكاتب سيده على ثلثمائة نخلة يجبها له وأربعين أوقية من ذهب فأعانه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى اجتمعت عنده ثلثمائة نخلة فغرسها النبىّ صلّى الله عليه وسلم فحملت من عامها الا نخلة غرسها عمر فانتزعها النبىّ وغرسها بيده فحملت فأتى النبى صلّى الله عليه وسلم بمثل بيضة دجاجة من ذهب من بعض الغزوات فقال ما فعل الفارسى المكاتب فدعى سلمان له فقال خذ هذه فأدّ بها ما عليك يا سلمان قال وأين تقع هذه يا رسول الله مما علىّ ولما قال سلمان ذلك أخذها رسول الله فقلبها على لسانه ثم أعطاها سلمان فأخذها فأوفى منها حقهم كله أربعين أوقية* وفى الشفاء نقلا عن كتاب البزار أعطاه مثل بيضة دجاجة بعد أن ردّها على لسانه فوزن منها لمواليه أربعين أوقية وبقى عنده مثل ما أعطاهم انتهى وعتق وشهد الخندق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم لم يفته معه مشهد* وفى بعض الروايات قال سلمان اشترتنى امرأة يقال لها خليسة بنت فلان حليف بنى النجار بثلثمائة درهم فمكثت معها ستة عشر شهرا حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة فبلغنى ذلك بعد خمسة أيام وأنا فى أقصى المدينة فى زمن الخلال بالضم يعنى البلح* قال ابن الاثير فى النهاية البلح أوّل ما يرطب من البسر واحدها بلحة وفى الصحاح البلح قبل البسر لانّ أوّل التمر طلع ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر قال فالتقطت شيئا من الخلال فجعلت فى ثوبى فأقبلت أسأل عنه حتى بلغت دار أبى أيوب ورسول الله داخل وأبو أيوب وامرأته يلتقطان الماء بقطيفة لهم لا يكف أى لا يقطر على النبىّ صلّى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ما تصنع يا أبا أيوب قال وقع حب لنا فانكسر فانصب الماء فخشيت أن تكون نائما أو فى الصلاة فكيف عليك فيؤذيك فقال رسول الله لك ولزوجك الجنة* قال سلمان فقلت هذا والله محمد رسول الله فدنوت منه فسلمت عليه ثم أخذت ذلك الخلال

(1/468)


فوضعته بين يديه وذكر قصة الصدقة والهدية وخاتم النبوّة فأسلم سلمان وأخبر بقصة خليسة قال سلمان فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بن أبى طالب فقال اذهب الى خليسة فقل لها يقول لك محمد امّا أن تعتقى هذا وامّا أن أعتقه فانّ الحكمة تحرّمه عليك فقلت يا رسول الله انها لم تسلم فقال يا سلمان ما تدرى ما حدث بعدك دخل عليها ابن عمها فعرض عليها الاسلام فأسلمت وذكر أنها أعتقته بأمر رسول الله وكافأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن غرس لها ثلثمائة فسيلة وهى صغار النخل كالودى* وفى بعض الروايات انّ سلمان كان يرعى الغنم لسيده وفى بعضها اشتراه أبو بكر فأعتقه وفى بعضها انّ سلمان أسلم بمكة روى أنه قال تداولنى بضعة عشر سيدا من رب الى رب* وروى انه كان من المعمرين أدرك وصى عيسى ابن مريم وعاش ثلثمائة وخمسين سنة وأمّا عيشه مائتين وخمسين فلا يشكون فيه قيل انّ اسمه كان ما هويه وقيل مايه وقيل بهبوذ بن بدخشان من ولد منوجهر الملك توفى بالمدائن فى خلافة عثمان وقيل مات سنة ثنتين وثلاثين وقيل انّ اسلامه كان فى جمادى الاولى من السنة الاولى من الهجرة وانّ مولاه الذى باعه عثمان بن أشهل اليهودى القرظى وقيل انه عاد الى أصفهان فى زمان عمر وقيل كان له أخ بشير ازله نسل ثمة وله ثلاث بنات بنت بأصفهان لها نسل وبنتان بمصر وقيل كان له ابن يقال له كثير*

غزوة دومة الجندل
وفى ربيع الاوّل من هذه السنة وقعت غزوة دومة الجندل بضم الدال من دومة وفتحها وهى مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة قاله ابن سعد* وفى الصحاح الدوم شجر المقل والجندل الحجارة ودومة الجندل اسم حصن وأهل اللغة يقولونه بضم الدال وأصحاب الحديث يفتحونها* قال البكرى سميت بدومى بن اسماعيل كان نزلها وكانت بعد غزوة ذات الرقاع بشهرين وأربعة أيام وسببها انه سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلم ان الاعراب تجمعوا بكثرة فى دومة الجندل يظلمون من مرّ بهم فاستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى وخرج لخمس ليال بقين من شهر ربيع الاوّل فى ألف من أصحابه فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار* قال سعد غزاها النبىّ صلّى الله عليه وسلم ونزل بساحة أهلها فلم يجد الا النعم والشاء فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب فى كل وجه وجاء الخبر أهل دومة فتفرّقوا ونزل عليه السلام بساحتهم فلم يلق بها أحدا فأقام بها أياما وبث السرايا وفرّقها فرجعوا ولم يصب منهم أحدا فرجع ودخل المدينة فى العشرين من ربيع الآخر كذا فى المواهب اللدنية* وقال ابن هشام انّ النبىّ صلى الله عليه وسلم رجع قبل أن يصلها* وفى الوفاء قيل كان منزل أكيدر أوّلا دومة الحيرة وكان يزور أخواله من كلب فخرج معهم للصيد فرفعت له مدينة متهدّمة لم يبق الا حيطانها مبنية بالجندل فأعاد بناءها وغرسوا الزيتون وغيره فيها وسموه دومة الجندل تفرقة بينها وبين دومة الحيرة وكان أكيدر يتردّد بينهما وزعم بعضهم ان تحكيم الحكمين كان بدومة الجندل*

نفيسة
وفى كتاب الخوارج عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال مررت مع أبى موسى بدومة الجندل فقال حدّثنى حبيبى صلّى الله عليه وسلم انه حكم فى بنى اسرائيل فى هذا الموضع حكمان بالجور وانه يحكم فى أمّتى حكمان بالجور فى هذا الموضع قال فما ذهبت الايام حتى حكم هو وعمرو بن العاص فيما حكماه قال فلقيته فقلت يا أبا موسى قد حدّثنى عن رسول الله فقال والله المستعان كذا أورده المجد*

وفاة أم سعد
وفى مدّة غيبته هذه فى الغزوة ماتت أمّ سعد بن عبادة عمرة بنت مسعود من المبايعات ولما قدم المدينة صلّى على قبرها وقال سعد يا رسول الله انّ أمى افتلتت وأظنها لو تكلمت لتصدّقت أتصدّق عنها قال نعم قال أى الصدقة أفضل قال الماء فحفر بئرا وقال هذه لأمّ سعد*

خسوف القمر
وفى هذه السنة انخسف القمر فى جمادى الآخرة وجعل اليهود يضربون بالطساس ويقولون سحر القمر فصلى بهم النبىّ صلّى الله عليه وسلم صلاة الخسوف حتى انجلى القمر رواه

(1/469)


ابن حبان* وفى هذه السنة أصابت قريشا شدّة فبعث اليهم بفضة يتألفهم بها*

وفد بلال بن الحارث
وفى هذه السنة جاء بلال بن الحارث فى أربعة عشر رجلا من مزينة فأسلموا وكان أوّل وافد مسلم بالمدينة فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ارجعوا فأينما تكونوا فأنتم من المهاجرين فرجعوا الى بلادهم
*

وفد ضمام بن ثعلبة
وفى هذه السنة قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ضمام بن ثعلبة من بنى سعد بن بكر وعليه جمع كثير من أكابر أهل السير لكن الحافظ ابن حجر قال فى فتح البارى انّ قدوم ضمام كان فى السنة التاسعة كما ذهب اليه محمد بن اسحاق وسيجىء فى الخاتمة*

غزوة المريسيع
وفى شعبان هذه السنة وفى سيرة ابن هشام فى شعبان سنة ست وقعت غزوة المريسيع بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتانيتين بينهما مهملة مكسورة آخره عين مهملة وهو ماء لبنى خزاعة بيته وبين الفرع يومان وبين الفرع والمدينة ثمانية برد كذا فى سيرة مغلطاى وتسمى غزوة بنى المصطلق بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء المشالة المهملة وكسر اللام بعدها قاف وهو لقب واسمه جذيمة بن سعد بن عمرو بطن من خزاعة وكانت يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس* وقال موسى بن عقبة سنة أربع انتهى قالوا وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع والذى فى مغازى موسى بن عقبة من عدّة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابورى والبيهقى فى الدلائل وغيرهم سنة خمس كذا فى المواهب اللدنية* وفى الوفاء ذكر كثير من أهل السير أنّ غزوة المريسيع كانت فى سنة ست ونقل البخارى عن ابن اسحاق انها فى سنة ست وكذا فى الاكتفاء وأسد الغابة لكن الاصح انّ المريسيع والمصطلق واحدة كلاهما فى سنة خمس بعد غزوة دومة الجندل بخمسة أشهر وثلاثة أيام وهى التى قال فيها أهل الافك ما قالوا وسبب هذه الغزوة انّ بنى المصطلق كانوا ينزلون على بئر يقال لها المريسيع من ناحية قديد الى الساحل وكان سيدهم الحارث بن أبى ضرار دعا قومه ومن قدر عليه على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجابوه وتجمعوا وتهيؤا للحرب والمسير معه فبلغ الخبر رسول الله فأرسل بريدة بن الخصيب الاسلمى ليتحقق ذلك فأتاهم ولقى الحارث وكلمه ورجع الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاخبره بأنهم يريدون الحرب فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس اليهم فأسرعوا الخروج ومعهم ثلاثون فرسا عشرة منها للمهاجرين وعشرون للانصار وخرجت معه عائشة وأمّ سلمة وخرج معهم جماعة من المنافقين واستخلف على المدينة زيد بن حارثة وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان وجعل عمر بن الخطاب على مقدمة الجيش وبلغ الحارث ومن معه خبر مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليهم وأنه قتل عين الحارث الذى كان يأتى بخبر رسول الله فسىء بذلك هو ومن معه وخافوا خوفا شديدا وتفرق الاعراب الذين كانوا معه وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى المريسيع وضربت عليه قبة وتهيؤا للقتال وصف رسول الله أصحابه ودفع راية المهاجرين الى أبى بكر وراية الانصار الى سعد بن عبادة وكان شعار المسلمين يومئذ يا منصور أمت أمت كذا فى الاكتفاء فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر النبىّ صلّى الله عليه وسلم أصحابه فحملوا على الكفار حملة واحدة فقتل منهم عشرة وأسر الباقون وسبوا الرجال والنساء والذرارى وأخذوا النعم والشاء ولم يقتل من المسلمين الا رجل واحد وكانت الابل ألفى بعير والشاء خمسة آلاف والسبى مائتى أهل بيت وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا نضلة الطائى الى المدينة بشيرا بفتح المريسيع ولما رجع المسلمون بالسبى قدم أهاليهم فافتدوهم كذا ذكره ابن اسحاق والذى فى صحيح البخارى أغار على بنى المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وهم على الماء فأصاب يومئذ رجل من الانصار من رهط عبادة بن الصامت رجلا من المسلمين من بنى كلب بن عوف بن عامر بن أمية بن

(1/470)


ليث بن بكر يقال له هشام بن ضبابة وهو يرى انه من العدوّ فقتله خطأ كذا فى الاكتفاء* وفى هذه الغزوة وقع التنازع بين جهجاه وسنان بالمريسيع على الماء بعد انقضاء الحرب والفراغ من بنى المصطلق ونزلت سورة المنافقين* روى انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين لقى بنى المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتلهم كما مرّ ازدحم على الماء جهجاه بن سعد الغفارى وهو كان أجير العمر بن الخطاب يقود له فرسه وسنان بن وبر الجهنى حليف عمرو بن عوف من الخزرج* وفى المدارك كان حليفا لابن أبى فاقتتلا فأعان جهجاها رجل من فقراء المهاجرين يقال له جعال ولطم وجه سنان فاستغاث سنان يا للانصار يا للخزرج واستغاث جهجاه يالكنانة يالقريش فتسارع اليهما القوم وعمدوا الى السلاح فمشى جماعة من المهاجرين الى سنان فقالوا له اعف عن جهجاه ففعل فسكنت الفتنة وانطفأت نائرة الحرب* وفى القاموس جهجاه ممن خرج على عثمان وكسر عصا النبىّ صلّى الله عليه وسلم بركبته فوقعت الاكلة فيها* وفى الشفاء وأخذ جهجاه الغفارى القضيب من يد عثمان ليكسره على ركبته فصاح الناس فأخذته فيها الأكلة فقطعها فمات قبل الحول قال فسمع عبد الله بن أبى بن سلول التنازع فغضب وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ذو الأذن الواعية وهو غلام حديث السن وقال يعنى ابن أبى أفعلوها قد نافرونا وكاثر ونافى بلادنا وقال ما صحبنا محمدا الا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم الا كما قال سمن كلبك يا كلك اما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الاعز منها الاذل يعنى بالاعز نفسه وبالأذل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم أقبل على من حضر من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولتحوّلوا الى غير بلادكم* عبارة الاكتفاء لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال له زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض فى قومك ومحمد فى عز من الرحمن وقوّة من المسلمين قال له عبد الله بن أبى اسكت فانما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال دعنى أضرب عنقه يا رسول الله فقال اذا ترعد آنف كثيرة يثرب فقال ان كرهت أن يقتله مهاجرى فأمر به أنصاريا* وفى الاكتفاء قال عمر فمر به عباد بن بشر فليقتله فقال كيف يا عمر اذا تحدّث الناس انّ محمدا يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل وذلك فى ساعة لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى عبد الله بن أبى فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام الذى بلغنى فقال عبد الله والذى أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وانّ زيدا لكاذب* وفى الاكتفاء وقد مشى عبد الله بن ابى الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين بلغه انّ زيدا بلغه ما سمعه منه فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به وكان عبد الله بن أبى فى قومه شريفا عظيما فقال من حضر من الانصار من أصحابه يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدّق عليه كلام غلام عسى أن يكون الغلام وهم فى حديثه ولم يحفظ ما قاله فعذره النبىّ صلّى الله عليه وسلم* وفى الكشاف روى انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لزيد لعلك غضبت عليه قال لا قال فلعله أخطأ سمعك قال لا قال فلعله شبه عليك قال لا وفشت الملامة فى الانصار لزيد وكذبوه وكان زيد يساير النبىّ صلّى الله عليه وسلم ولم يقرب منه بعد ذلك استحياء فلما استقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه ثم قال يا رسول الله رحت فى ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم أما بلغك ما قال صاحبكم عبد الله بن أبى قال وما قال قال زعم انه ان رجع الى المدينة أخرج الاعز منها الاذل فقال أسيد
بن حضير فأنت والله يا رسول الله

(1/471)


تخرجه ان شئت هو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فو الله لقد جاء الله بك وانّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه فانه ليرى أنك قد استلبته ملكا وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبى ما كان من أبيه فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله انه بلغنى انك تريد قتل عبد الله بن أبى لما بلغك عنه فان كنت فاعلا فمرنى به فأنا أحمل اليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه منى وانى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أن أنظر الى قاتل عبد الله بن أبى يمشى فى الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر وأدخل النار فقال رسول الله نرفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا* وفى الاكتفاء ثم مشى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ولياتهم حتى أصبح وسار يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا ان وجدوا مس الارض فوقعوا نياما وانما فعل ذلك ليشغل عن الحديث الذى كان بالامس وفى غير الاكتفاء ثم سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم رائحا بالناس حتى نزل على ماء فويق النقيع يقال له نقعاء فهاحت ريح شديدة آذتهم وتخوّفوها وضلت ناقة النبىّ صلّى الله عليه وسلم القصوى وذلك ليلا فقال رسول الله لا تخافوا انما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفى بالمدينة قيل من هو قال رفاعة بن زيد بن التابوت فقال رجل من المنافقين وهو زيد بن اللصيت أحد بنى قينقاع كيف يزعم انه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ألا يخبره الذى يأتيه بالوحى فأتاه جبريل وأخبر بقول المنافق ومكان ناقته وأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه وقال ما أزعم أنى أعلم الغيب وما أعلمه ولكن الله أخبرنى بقول المنافق ومكان ناقتى هى فى الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فاذا هى كما قال فجاؤا بها وآمن ذلك المنافق فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قدمات وكان من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين* وفى المنتقى أوردهما فى السنة التاسعة من الهجرة وذكر فقدان الناقة حين توجهه الى تبوك وهبوب الريح بتبوك وسيجىء فى الموطن التاسع* ولما دنوا من المدينة وفى الوفاء ولما كان بينهم وبين المدينة يوم تعجل عبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول حتى أناخ على مجامع طرق المدينة* فلما جاء عبد الله بن أبى قال له ابنه وراءك قال مالك ويلك قال لا والله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتعلم اليوم من الاعز ومن الاذل فقال له أنت من بين الناس فقال نعم أنا من بين الناس فانصرف عبد الله حتى لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشكى اليه ما صنع ابنه فأرسل صلّى الله عليه وسلم الى ابنه أن خل عنه فدخل المدينة رواه ابن شيبة* وفى المنتقى فتقدّم عبد الله بن عبد الله بن أبى حتى وقف لأبيه على الطريق فلما رآه أناخ به وقال لا أفارقك حتى تقرّ أنك الذليل وأنّ محمدا العزيز فمرّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال دعه فلعمرى لنحسنن صحبته مادام بين أظهرنا* وفى الكشاف ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة اعترضه ابنه حباب وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه وقال ان حبابا اسم شيطان وكان مخلصا وقال وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله الاعز وأنا الاذل فلم يزل حبيسا فى يده حتى أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتخلية* وروى أنه قال لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعزة لأضربن عنقك فقال ويحك أفاعل أنت قال نعم فلما رأى منه الجدّ قال أشهد أنّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنه جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا فلما وافى رسول الله المدينة أنزل الله تعالى سورة اذا جاءك المنافقون فى تصديق زيد وتكذيب عبد الله فلما نزل أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأذن زيد وقال ان الله صدّقك وأوفى بأدنك* وفى الاكتفاء قال هذا
الذى أوفى الله بأذنه* وفى الكشاف فلما نزل لحق رسول الله زيدا من خلفه فعرك أذنه وقال وفت أدنك يا غلام ان الله صدّقك

(1/472)


وكذب المنافقين* وفى معالم التنزيل ولما نزلت هذه الآية وبان كذب عبد الله بن أبىّ قيل له يا أبا حباب انه قد نزل فيك آى شداد فاذهب الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال أمر تمونى أن أومن فآمنت وأمر تمونى أن أعطى زكاة مالى فقد أعطيت فما بقى الا أن أسجد لمحمد فأنزل الله واذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رؤسهم الآية ولم يلبث ابن أبى الا أياما قلائل حتى اشتكى ومات هكذا فى معالم التنزيل والمدارك وأما فى المنتقى فأورد موت عبد الله بن أبى فى السنة التاسعة من الهجرة وسيجىء فى الموطن التاسع وكانت غيبته عليه السلام فى هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوما هكذا فى المواهب اللدنية وقدم المدينة لهلال رمضان* وفى هذه السنة قدم مقيس بن حبابة من مكة متظاهرا بالاسلام فقال يا رسول الله جئتك مسلما وجئتك أطلب دية أخى قتل خطأ فأمر له رسول الله بدية أخيه هشام بن حبابة فأقام عند رسول الله غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم رجع الى مكة مرتدّا*

نزول آية التيمم
وفى هذه السنة نزلت آية التيمم فى الصحيحين من حديث عائشة خرجنا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره فذكرت حديث التيمم قال فى فتح البارى قولها فى بعض أسفاره قال ابن عبد البرّ فى التمهيد يقال انه كان فى غزوة بنى المصطلق وجزم بذلك فى الاستدراك وسبقه الى ذلك ابن سعد وابن حبان وغزوة بنى المصطلق هى غزوة المريسيع وفيها كانت قصة الافك لعائشة وكان ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا فان كان ما جزموا ثابتا حمل على انه سقط منها فى تلك السفرة مرّتين لاختلاف القصتين كما هو بين فى سياقهما قال واستبعد بعض شيوخنا ذلك لان المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها فى الحديث حتى اذا كتابا لبيداء أو ذات الجيش وهما بين مكة وخيبر كما جزم به النووى قال وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التين فانه قال البيداء هو ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة وذات الجيش وراء ذى الحليفة* وقال أبو عبيدة البكرى فى معجمه أدنى الى مكة من ذى الحليفة ثم ساق حديث عائشة هذا ثم قال وذات الجيش من المدينة على بريد قال وبينها وبين العقيق سبعة أميال والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر فاستقام ما قاله ابن التين وقد قال قوم بتعدّد ضياع العقد ومنهم محمد بن حبيب الاخبارى فقال سقط عقد عائشة فى غزوة ذات الرقاع وفى غزوة بنى المصطلق وقد اختلف أهل المغازى فى أى هاتين الغزوتين كانت* قال الداودى كانت قصة التيمم فى غزوة الفتح ثم تردّد فى ذلك* وروى ابن أبى شيبة من حديث ابى هريرة قال لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بنى المصطلق لان اسلام أبى هريرة كان فى السنة السابعة وهى بعدها بلا خلاف وكانّ البخارى يرى ان غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبى موسى وقدومه كان وقت اسلام أبى هريرة* ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الافك ما رواه الطبرانى من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت لما كان من أمر عقدى ما كان وقال أهل الافك ما قالوا خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غزوة أخرى وسقط أيضا عقدى حتى حبس الناس على التماسه فقال لى أبو بكر يا بنية فى كل سفرة تكونين بلاء وعناء على الناس فأنزل الله الرخصة فى التميم فقال أبو بكر انك لمباركة وفى اسناده محمد بن حميد الرازى وفيه مقال وفى سياقه من الفوائد بيان عتاب ابى بكر الذى أبهم فى حديث الصحيحين والتصريح بأن ضياع العقد كان مرّتين فى غزوتين كذا فى المواهب اللدنية* وفى المنتقى نزلت آية التيمم بقرب المدينة فى موضع يقال له ذات الجيش أو البيداء* وفى خلاصة الوفاء ذات الجيش هى على ستة أميال من ذى الحليفة وقيل عشرة وقيل ميلان وهى أحد المنازل النبوية الى بدر انتهى* وفى القاموس ذات الجيش أو أولات الجيش واد قرب المدينة وفيه انقطع عقد عائشة قالت عائشة خرجنا مع رسول الله فى بعض أسفاره حتى اذا كنا بالبيداء

(1/473)


أو ذات الجيش انقطع عقدى فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء وجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذى قد نام فقال حبست رسول الله والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء فقالت عائشة فعاتبنى أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده فى خاصرتى ولا يمنعنى من التحرّك الامكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فخذى فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على غير ماء فأنزل الله عز وجل آية التيمم فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ليلة العقبة ما هذا بأوّل بركتكم يا آل أبى بكر* وفى الصفوة عن ابن عباس سقطت قلادتها يوم الابواء فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين يصبح فى المنزل وأصبح الناس ليس معهم ماء فأنزل الله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا قالت فبعثنا البعير الذى كنت أركب عليه فوجدنا العقد تحته*

تزوّجه صلّى الله عليه وسلم بجويرية
وفى شعبان هذه السنة وقيل فى السادسة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار الخزاعية ثم المصطلقية روى ان جويرية بنت الحارث كانت من جملة سبايا بنى المصطلق ووقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عمه فكاتبته فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى اعانة كتابتها فأدّى عنها وتزوّجها وهى ابنة عشرين سنة وكان اسمها برّة فحوّله رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى جويرية كره أن يقال خرج من عند برّة كذا فى المشكاة بعضه وقد ذكر مثل ذلك فى ميمونة وزينب بنت جحش وزينب بنت أبى سلمة وكان اسم كل واحدة منهنّ برّة فحوّله رسول الله الى هذه وكانت قبل النبى صلّى الله عليه وسلم زوجة ابن عمها عبد الله كذا فى السمط الثمين وفى غيره اسمه ذو الشفر بن مسافع وقيل فى غزوة المريسيع وتزوّجها النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى المراجعة فى أثناء الطريق فى شعبان للسنة الخامسة وقيل فى السادسة من الهجرة وعن عائشة كانت جويرية امرأة ملاحة تأخذها العين فجاءت تسأل رسول الله فى كتابتها فلما قامت على الباب فرأيتها كرهت مكانها وعرفت أن رسول الله سيرى منها مثل الذى رأيت فقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمرى ما لا يخفى عليك ووقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس وانى كاتبته على نفسى فجئت أسألك فى كتابتى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهل لك فيما هو خير فقالت وما هو يا رسول الله قال أؤدّى عنك كتابتك وأتزوّجك قالت قد فعلت قالت فتسامع الناس يعنى ان رسول الله قد تزوّج جويرية فأرسلوا ما فى أيديهم من السبى فأعتقوهم وقالوا أصهار رسول الله لا ينبغى أن تسترق قالت فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها وأعتق بسببها مائة أهل بيت من بنى المصطلق خرجه بهذا السياق أبو داود وسيجىء فى آخر الموطن التاسع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث اليهم بعد اسلامهم الوليد بن عقبة بن أبى معيط الى آخر القصة* قال ابن هشام ويقال اشتراها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس وأعتقها وتزوّجها وأصدقها أربعمائة درهم قال ابن هشام ويقال لما انصرف رسول الله من غزوة بنى المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث فكان بذات الجيش دفع جويرية لرجل من الانصار وأمره بالاحتفاظ بها وقدم رسول الله فأقبل أبوها الحارث بن أبى ضرار بفداء ابنته فلما كان بالعقيق نظر الى الابل التى جاء بها للفداء فرغب فى بعيرين منها فغيبهما فى شعب من شعاب العقيق ثم أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد أصبت ابنتى وهذا فداؤها فقال رسول الله فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق فى شعب كذا وكذا قال الحارث أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أنك رسول الله فو الله ما اطلع على ذلك الا الله تعالى فأسلم الحارث وأسلم معه ابنان له وناس من قومه وأرسل الى البعيرين فجاء بهما فدفع الابل الى النبىّ صلى الله عليه وسلم ودفعت اليه ابنته جويرية وأسلمت فحسن اسلامها فخطبها النبىّ صلّى الله عليه وسلم الى أبيها فزوّجه اياها وأصدقها اربعمائة درهم وكانت قبل النبىّ صلّى الله عليه وسلم عند ابن عمّ لها

(1/474)


يقال له عبد الله كما مر* وعن ابن شهاب قال سبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث يوم المريسيع فحجبها وقسم لها قال أبو عبيدة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم جويرية سنة خمس من الهجرة خرج جميعه أبو عمرو صاحب الصفوة وكانت جويرية عند النبىّ صلّى الله عليه وسلم خمس سنين وعاشت بعده خمسا وأربعين سنة وتوفيت بالمدينة سنة خمسين* وفى رواية ست وخمسين وهى بنت خمس وستين سنة وصلّى عليها مروان بن الحكم وكان حاكما على المدينة من قبل معاوية مروياتها فى الكتب المتداولة سبعة أحاديث منها فى البخارى حديث وفى مسلم حديثان والباقية فى سائر الكتب*

قصة الافك
وفى غزوة المريسيع وقعت قصة افك عائشة* وفى الاكتفاء وأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سفره ذلك يعنى بنى المصطلق حتى اذا كان قريبا من المدينة قال أهل الافك فى الصدّيقة المبرّأة المطهرة عائشة رضى الله عنها ما قالوا* روى عن عائشة انها قالت كان رسول الله اذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه قأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج فيها سهمى فخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب فكنت أحمل فى هودج وأنزل فيه فسرنا حتى اذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأنى أقبلت الى رحلى فلمست صدرى فاذا عقد لى من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدى فحبسنى ابتغاؤه فأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بى فاحتملوا هودجى فرحلوه على بعيرى الذى كنت أركب عليه وهم يحسبون انى فيه وكان النساء اذ ذاك خفافا لم يغشهنّ اللحم انما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدى بعد ما استمرّ الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فيمت منزلى الذى كنت فيه فظننت انهم سيفقدوننى فيرجعون الىّ فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت* وكان صفوان بن المعطل السلمى ثم الذكوانى تخلف من وراء الجيش وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم جعله فى الساقة بالتماسه وكان يصلى حين يرحل الناس ويسير خلف الجيش ويتفقد أشياء الناس من اللقطة والمنسى ويبلغهما الى أصحابهما قالت فأصبح عند منزلى فرأى سواد انسان نائم فعرفنى حين رآنى وكان رآنى قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى فخمرت وجهى بجلبابى والله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه وهوى حتى أناخ راحلته ووطئ يدها فقمت اليها فركبتها فانطلق يقود بى الراحلة حتى أتينا الجيش فى نحر الظهيرة وهم نزول فهلك من هلك من أهل الافك وهم عصبة أى جماعة من العشرة الى الاربعين وهم عبد الله ابن أبى بن سلول رأس المنافقين وحسان بن ثابت الشاعر ومسطح بن أثاثة ابن خالة أبى بكر وزيد بن رفاعة وجمنة بنت جحش أخت زينب ومن ساعدهم* والذى تولى كبر الافك اما عبد الله بن أبى بن سلول قال عروة أخبرت انه كان يشاع ويتحدّث به عنده فيقرّه ويستمعه ويستوشيه قالت عائشة مررنا بملأ من المنافقين وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس فقال عبد الله بن أبى رئيسهم من هذه قالوا عائشة وصفوان قال والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها واما حسان ومسطح وحمنة بنت جحش فانهم شايعوه بالتصريح به والذى بمعنى الذين قوله له عذاب عظيم أى لكل خائض فى حديث الافك نصيب من الاثم على مقدار خوضه والعذاب العظيم اما فى الآخرة فهو لعبد الله لان معظم الشرّ كان منه ويدل عليه افراد الموصول أو فى الدنيا بالحدّ وغيره فهو له ولغيره ولقد ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أبى وحسانا ومسطحا وصار ابن أبى مطرودا مشهورا بالنفاق وحسان أعمى أشلّ اليدين ومسطح مكفوف البصر كذا فى أنوار التنزيل

(1/475)


والكشاف* وفى الكشاف وقعد صفوان لحسان فضربه بالسيف فكف بصره كما سيجىء* وفى صحيح مسلم قال مسروق قلت لعائشة لم تأذنين لحسان يدخل عليك وقد قال الله تعالى والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم قالت فأى عذاب أشدّ من العمى وقالت انه كان ينافح أو يهاجى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم* وفى السمط الثمين روى أن حسان بن ثابت استأذن على عائشة وقد كف بصره فأذنت له فدخل عليها فأكرمته فلما خرج عنها قيل لها اما هذا من القوم قالت انه الذى يقول
فانّ أبى ووالدتى وعرضى ... لعرض محمد منكم فداء
بهذا البيت يغفر الله له كل ذنب خرجه أبو عمرو* وقالت عائشة رضى الله عنها فقد منا المدينة فاشتكيت شهرا والناس يخوضون فى قول أصحاب الافك وأنا لا أشعر بشىء من ذلك ويريبنى فى وجعى انى لا أرى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللطف الذى كنت أرى منه حين أمرض وانما يدخل فيسلم ثم يقول كيف تيكم ثم ينصرف حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح خالة أبى بكر قبل المناصع وكانت متبرزنا لا نخرج الا ليلا الى ليل وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الاول فى البرية فقالت انطلقت أنا وأم مسطح فعثرت فى مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا قالت أى هنتاه أو لم تسمعى ما قال قلت وما قال فأخبرتنى بقول أهل الافك قالت فازددت مرضا على مرضى فلما رجعت الى بيتى دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال كيف تيكم فقلت له أتأذن لى أن آتى أبوىّ وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما فأذن لى رسول الله فقلت لامى يا أماه ماذا يتحدّث الناس فقالت يا بنية هوّنى عليك الامر فو الله لقلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر الا أكثرن عليها فقلت سبحان الله ولقد تحدّث بها فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحى يسألهما ويستشيرهما فى فراق أهله فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذى يعلم من براءة أهله وبالذى يعلم لهم فى نفسه من الودّ فقال أسامة أهلك يا رسول الله وما نعلم منهم الاخيرا وزاد فى الاكتفاء وهذا الكذب والباطل* وأما علىّ فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثيرة وسل الجارية تصدقك فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بريرة فقال أى بريرة هل رأيت من شىء يريبك قالت له بريرة والذى بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فتأتى الداجن فتأكله* وفى الاكتفاء وأما علىّ فقال يا رسول الله ان النساء لكثيرة وانك لتقدر أن تستخلف وسل الجارية فانها ستصدقك فدعا رسول الله بريرة ليسألها فقام اليها علىّ فضربها ضربا شديدا ويقول أصدقى رسول الله فتقول والله ما أعلم الاخيرا وما كنت أعيب على عائشة شيئا الا انى كنت أعجن عجينى فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتى الشاة فتأكله قالت عائشة وكان رسول الله سأل زينب بنت جحش عن أمرى فقال يا زينب ماذا رأيت أو ما علمت فقالت يا رسول الله أحمى سمعى وبصرى والله ما علمت عليها الاخيرا قالت عائشة وهى التى تسامينى من أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع فطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك*

كلام عمر وعثمان وعلى فى حق الافك
وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى تلك الايام كان أكثر أوقاته فى البيت فدخل عليه عمر فاستشاره فى تلك الواقعة فقال عمر يا رسول الله أحمى سمعى وبصرى والله أنا قاطع بكذب المنافقين لان الله عصمك عن وقوع الذباب على جلدك لانه يقع على النجاسات فيتلطخ بها فلما عصمك الله تعالى عن ذلك القدر من القذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون متلطخة بمثل هذه الفاحشة فاستحسن صلّى الله عليه وسلم كلامه* وقال عثمان ان الله ما أوقع ظلك على الارض لئلا يضع انسان قدمه على ذلك الظل أو تكون تلك الارض نجسا فلما لم يمكن أحدا

(1/476)


من وضع القدم على ظلك كيف يمكن أحدا من تلويث عرض زوجتك وقال علىّ يا رسول الله كنا نصلى خلفك فجعلت نعليك فى أثناء الصلاة فخلعنا نعالنا فلما أتممت الصلاة سألتنا عن سبب الخلع فقلنا الموافقة فقلت أمرنى جبريل باخراجهما لعدم طهارتهما فلما أخبرك أن على نعلك قذرا وأمرك باخراج النعل عن رجلك بسبب ما التصق به من القذر فكيف لا يأمرك باخراجها بتقدير أن تكون متلطخة بشىء من الفواحش* وفى المشكاة عن أبى سعيد الخدرى مثله وروى أن أبا أيوب الانصارى قال لامرأته أم أيوب ألا ترين ما يقال فقالت لو كنت بدل صفوان أكنت تظنّ بحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم سوأ قال لا قالت ولو كنت انا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير منى وصفوان خير منك ثم وبخ الله الخائضين فى الافك بقوله ولولا اذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا أى عفافا وصلاحا كما روى آنفا عن عمر وعثمان وعلى وأم أيوب* قيل انما جاز أن تكون امرأة النبىّ كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة لان النبىّ مبعوث الى الكفار ليدعوهم فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه والكفر غير منفر عندهم وأما الفاحشة فمن أعظم المنفرات* قالت عائشة فبينا نحن على ذلك اذ دخل رسول الله علينا فسلم ثم جلس ولم يجلس عندى مذ قيل لى ما قيل قبلها ولقد لبث شهرا ما يوحى اليه فى شأنى بشىء فتشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال أما بعد يا عائشة فانه قد بلغنى عنك كذا وكذا فان كنت بريئة فسيبرئك الله وان كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى اليه فان العبد اذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعى حتى ما أحس منه قطرة فقلت لابى أجب عنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما قال قال والله ما أدرى ما أقول لرسول الله فقلت لأمى أجيبى عنى رسول الله فيما قال قالت والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم* قالت عائشة وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن فقلت انى والله لقد علمت انكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر فى أنفسكم وصدّقتم به فلئن قلت لكم انى بريئة والله يعلم انى لبريئة لا تصدّقوننى بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم انى منه بريئة لتصدّقننى والله لا أجد لى ولكم مثلا الا أبا يوسف حين قال فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ثم تحوّلت واضطجعت على فراشى وأنا أرجو أن يبرئنى الله ولكن والله ما ظننت أن ينزل فى شأنى وحيا يتلى ولأنا أحقر فى نفسى من أن يتكلم الله بالقرآن فى أمرى ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى النوم رؤيا يبرئنى الله بها فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسه ولاخرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله عليه الوحى فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى انه ليتحدر منه العرق مثل الجمان وهو فى يوم شات من ثقل القول الذى أنزل عليه فسرى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يضحك وكانت أوّل كلمة تكلم بها أن قال لى يا عائشة احمدى الله فقد برأك الله* وفى رواية أبشرى يا حميراء فقد أنزل الله براءتك قلت بحمد الله لا بحمدك قالت فقالت لى أمى قومى الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت لا والله لا أقوم اليه ولا أحمد الا الله فأنزل الله عز وجل ان الذين جاؤا بالافك عصبة منكم العشر آيات كذا فى الصحيحين* وفى الكشاف وغيره من التفاسير انه نزل ثمانى عشرة آية وفى رواية سبع عشرة آية* وفى العروة الوثقى وقد برأ الله عائشة أم المؤمنين فى كتابه الكريم فى عدّة آيات أوّلها ان الذين جاؤا بالافك الى قوله أولئك مبرّؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم فلما أنزل فى براءتها هذا قال أبو بكر الصدّيق وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره وكان من فقراء المهاجرين والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذى قال لعائشة ما قال
فأنزل الله ولا يأتل أولو الفضل منكم الى قوله غفور رحيم* روى أنه

(1/477)


صلى الله عليه وسلم قرأها على أبى بكر فقال بلى أحب أن يغفر الله لى فرجع الى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدا* وروى عن عائشة انها قالت والله ان الرجل الذى قيل له ما قيل تعنى صفوان ليقول سبحان الله فو الذى نفسى بيده ما كشفت من كنف أنثى قط قالت ثم قتل بعد ذلك فى سبيل الله* ولقد برّأ الله أربعة بأربعة برأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد وشهد شاهد من أهلها وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذى ذهب بثوبه وبرّأ مريم بانطاق ولدها حين نادى من حجرها انى عبد الله الآية وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام فى كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظركم بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك الالاظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على انافة سيد ولد آدم وخير الاوّلين والآخرين وحجة رب العالمين* روى انه دخل ابن عباس على عائشة فى مرضها وهى خائفة من القدوم على الله فقال لا تخافى فانك ما تقدمين الا على مغفرة ورزق كريم وتلا الخبيثات للخبيثين الى قوله لهم مغفرة ورزق كريم فغشى عليها فرحا بما تلا* وعن عائشة أنها قالت لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهنّ امرأة لقد نزل جبريل بصورتى فى راحته حين أمر رسول الله أن يتزوّجنى ولقد تزوّجنى بكرا وما تزوّج بكرا غيرى ولقد توفى وان رأسه لفى حجرى ولقد قبر فى بيتى وان الوحى ينزل فى أهله فيتفرقون عنه وان كان لينزل عليه وأنا معه فى لحاف واحد وانى ابنة خليفته وصديقه ولقد نزل عذرى من السماء ولقد خلقت طيبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما* وكان مسروق اذا روى عن عائشة قال حدّثتنى الصدّيقة ابنة الصدّيق حبيبة رسول الله المبرّأة من السماء كذا فى معالم التنزيل*

اعطاء الرسول بئر بيرحا لحسان بن ثابت
وذكر ابن اسحاق أن حسان بن ثابت مع ما كان منه فى صفوان بن المعطل من القول السيئ قال مع ذلك شعرا يعرّض فيه بصفوان ومن أسلم من مضر يقول فيه
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
فلما بلغ ذلك ابن المعطل اعترض حسان بن ثابت فضربه بالسيف ثم قال
تلق ذباب السيف عنى فاننى ... غلام اذا هو جيت لست بشاعر
فوثب عند ذلك ثابت بن قيس بن شماس على صفوان فجمع يديه الى عنقه بحبل ثم انطلق به الى دار بنى الحارث بن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال ما هذا قال أما أعجبك ضرب حسان بالسيف والله ما أراه الا قد قتله فقال له ابن رواحة هل علم رسول الله بشىء مما صنعت قال لا والله قال لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه ثم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان فقال صفوان يا رسول الله آذانى وهجانى فاحتملنى الغضب فضربته فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحسان يا حسان أشوّهت على قومى أن هداهم الله للاسلام ثم قال يا حسان أحسن فى الذى أصابك قال هى لك فأعطاه رسول الله عوضا منها بيرحا بالحاء المهملة بعدها ألف مقصورة من غير مدّ وروى فيها الاعراب بالحركات على الراء فى الاحوال الثلاث مع الاضافة الى حاء وأنكره أبو ذرّ وقال انما هى بفتح الراء فى كل حال* قال الباجى عليه أدركت أهل العلم بالمشرق وكذا عند القاضى عياض كذا فى البحر العميق* وهى قصر بنى جديلة اليوم بالمدينة ثم باعها حسان من معاوية بمال عظيم كانت مالا لابى طلحة بن سهل فتصدّق بها الى رسول الله ليضعها حيث يشاء فأعطاها حسان فى ضربته وأعطاه سيرين أمة قبطية ولدت له ابنه عبد الرحمن كذا فى سيرة ابن هشام* وقد روى من وجوه أن اعطاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم اياه سيرين انما كان لذبه بلسانه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم فالله تعالى أعلم* وقال بعد ذلك حسان يمدح عائشة ويعتذر من الذى كان من شأنها

(1/478)


حصان رزان لا تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا ... نبىّ الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حىّ من لؤىّ بن غالب ... كرام المساعى مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله جيبها ... وطهرها من كل سوء وباطل
فان كان ما قد قيل عنى قلته ... فلا رفعت سوطى الىّ أناملى
وان الذى قد قيل ليس بلائط ... بها الدهر بل قول امرئ بى ماحل
فكيف وودّى ما حييت ونصرتى ... لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلهم ... تقاصر عنه سورة المتطاول
رأيتك وليغفر لك الله حرة ... من المحصنات غير ذات غوائل
ولما بلغ قوله وتصبح غرثى من لحوم الغوافل قالت عائشة عند ذلك لكنك لست كذلك رواه مسلم ولما نزلت ان الذين جاؤا بالافك عصبة منكم الآية جلد رسول الله بعد تنازع بين الاصحاب أربعة عبد الله بن أبىّ وحسان بن ثابت ومسطح بن اثاثة وحمنة بنت جحش أخت زينب التى عصمها الله بالورع جلدهم ثمانين ثمانين* وفى رواية وجلد زيد بن رفاعة خامس الاربعة المذكورة كذا فى معالم التنزيل* وفى الاكتفاء قال قائل من المسلمين فى ضرب حسان وصاحبيه فى فريتهم على عائشة رضى الله عنها
لقد ذاق حسان الذى كان أهله ... وحمنة اذ قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذى العرش الكريم فأترحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا ... مخازى تبقى عمموها وفضحوا
وصبت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
وقد ذكر أبو عمرو بن عبد البرّ الحافظ أن قوما أنكروا أن يكون حسان خاض فى الافك أو جلد فيه روى عن عائشة أنها برّأته من ذلك ثم ذكر عن الزبير بن بكار وغيره ان عائشة كانت فى الطواف مع أمّ حكيم بنت خالد بن العاصى وابنة عبد الله بن أبى ربيعة فتداكرن حسانا فابتدرتاه بالسب فقالت لهما عائشة ابن الفريعة تسبان انى لارجو أن يدخله الله الجنة بذبه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلسانه أليس القائل
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء
فان أبى ووالدتى وعرضى ... لعرض محمد منكم وقاء
فقالتها لها أليس ممن لعنه الله فى الدنيا والآخرة بما قال فيك قالت لم يقل شيئا ولكنه القائل
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فان كان ما قد قيل عنى قلته ... فلا رفعت سوطى الىّ أناملى
وفى السمط الثمين قال أبو عمرو هذا عندى أصح لانه لم يشتهر جلد عبد الله ولا جلد من اشتهر من الجميع
*

غزوة الخندق
وفى شوّال هذه السنة وقعت غزوة الخندق سميت بالخندق لحفر النبىّ صلّى الله عليه وسلم الخندق باشارة سلمان الفارسى وسميت بالاحزاب جمع حزب أى طائفة لاجتماع طوائف المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود ومن معهم وهم الذين سماهم الله تعالى بالاحزاب وأنزل الله تعالى فى ذلك صدر سورة الاحزاب كذا فى المواهب اللدنية والوفاء* واختلف فى تاريخها فقال موسى بن عقبة كانت فى شوّال سنة أربع وفى نسخة لعشرة أشهر وخمسة أيام وصححه النووى فى الروضة مع قوله بأن غزوة بنى قريظة فى الخامسة وهو عجيب لما سيأتى من انها كانت عقيب الخندق* وقال ابن

(1/479)


اسحاق غزوة الخندق فى شوّال سنة خمس وبهذا جزم غيره من أهل المغازى وأما البخارى فمال الى قول موسى بن عقبة وقوّاه بقول ابن عمر ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه فيكون بينهما سنة واحدة وأحد كانت سنة ثلاث فتكون الخندق سنة أربع ولا حجة فيه بينهما اذا ثبت لنا انها كانت سنة خمس لاحتمال أن يكون ابن عمر فى أحد كان أوّل ما طعن فى الرابعة عشر وكان في الاحزاب استكمل الخمس عشرة وبهذا أجاب البيهقى* وقال الشيخ ولىّ الدين العراقى المشهور انها فى السنة الرابعة من الهجرة كذا فى المواهب اللدنية* قال أصحاب السير ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بنى النضير من حوالى المدينة تفرّقوا فى البلاد وسكن كل قوم منهم فى ناحية وبعض منهم وهم حيى بن أخطب وأبو رافع غلام بن أبى الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق النضريون ومن تابعهم استوطنوا خيبر فخرج نفر من أشرافهم مثل حيى بن أخطب وكنانة بن الربيع وسلام بن أبى الحقيق النضريين وأبى عامر الفاسق وهوذة بن قيس الوائليين فى رهط من بنى النضير ورهط من بنى وائل قريب من عشرين رجلا وهم الذين حزبوا الاحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قدموا مكة على قريش فاستغووهم واستنصروهم ودعوهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت لهم قريش يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب والعلم بما كنا نختلف فيه نحن ومحمد فأخبرونا أديننا خير أم دينه قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله فيهم ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا الى قوله وكفى بجهنم سعيرا فلما قالوا ذلك لقريش سرّهم ما قالوا وطابت قلوبهم ونشطوا لما دعوهم اليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجابوهم وأجمعوا على ذلك واستعدّوا له ثم خرجت أولئك اليهود من مكة حتى جاؤا غطفان من قيس غيلان بفتح الغين المعجمة اسم قبيلة سميت باسم جدّهم* وفى القاموس قيس عيلان بالفتح أبو قبيلة واسمه الناس بن مضر انتهى فدعوهم الى حرب رسول الله وأخبروهم بأنهم سيكونون معهم عليه وان قريشا قد تابعوهم على ذلك وأجمعوا عليه واجتمعوا معهم وجعلت يهود لغطفان تحريضا على الخروج نصف تمر خيبر كل عام فزعموا أن الحارث ابن عوف أخا بنى مرّة قال لعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ولقومه من غطفان يا قوم أطيعونى ودعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوّه من العرب فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع ونفذوا لامر عيينة على قتال رسول الله وكتبوا الى حلفائهم من بنى أسد فأقبل طليحة الاسدى فيمن تبعه من بنى أسد وهما الحليفان أسد وغطفان وكتب قريش الى رجال من بنى سليم بينهم وبينهم أرحام استمدادا لهم فأقبل أبو الاعور بمن تبعه من سليم مدد القريش ثم كتب اليهود الى حلفائهم من بنى سعد أن يأتوا الى امدادهم فجمع أبو سفيان جيش قريش أربعة آلاف رجل وفيهم ثلثمائة فرس وألف بعير وعقد والواء ودفعوه الى عثمان بن طلحة بن أبى طلحة من بنى عبد الدار فخرج أبو سفيان بقريش ونزلوا مرّ الظهران ولحق بهم من أجابهم من القبائل من بنى سليم وأسلم وأشجع وبنى مرّة وكنانة وفزارة وغطفان فصاروا فى جمع كبير حتى تحزبت وتجمعت عشرة آلاف رجل على ما ذكره ابن اسحاق بأسانيده ولهذا سمى هذه الغزوة غزوة الاحزاب وكان المسلمون ثلاثة آلاف وقيل كان المسلمون ألفا والمشركون أربعة آلاف* وذكر ابن سعد انه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا كذا فى المواهب اللدنية فسارت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب وسارت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فى فزارة والحارث بن عوف بن أبى حارثة المرى

(1/480)


فى بنى مرّة ومسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبد الله بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه فى قومه من أشجع وتكامل لهم ولمن استمدّوه فأمدّهم جمع عظيم هم الذين سماهم الله الاحزاب فلما سمع بهم النبىّ صلّى الله عليه وسلم وبما أجمعوا له من الامر ضرب الخندق على المدينة وكان الذى أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسى وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله وهو يومئذ حرّ قال يا رسول الله انا كنا بفارس اذا حوصرنا خندقنا علينا فعبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جيشه واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم ودفع لواء المهاجرين الى زيد بن حارثة ولواء الانصار الى سعد بن عبادة فخرج من المدينة فى ثلاثة آلاف رجل وعرض أصحابه وردّ الى المدينة من استصغره من أولاد الصحابة وأذن لبعضهم فى الخروج مثل عبد الله ابن عمر وزيد بن ثابت وأبى سعيد الخدرى والبراء بن عازب وهم يومئذ أبناء خمس عشرة سنة فطلب النبىّ صلّى الله عليه وسلم موضعا صالحا للخندق* وفى خلاصة الوفاء كان أحد جانبى المدينة عورة وسائر جوانبها مشتبكة بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدوّ منها فاختار ذلك الجانب المكشوف للخندق وجعل معسكره تحت جبل سلع وجعل المسلمون ظهورهم الى جبل سلع وضربت له صلّى الله عليه وسلم قبة من أديم أحمر على القرن فى موضع مسجد الفتح والخندق بينه وبين المشركين فخط أوّلا موضع الخندق ثم قسمه فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا* وفى رواية لكل عشرة رجال عشرة أذرع فاستعار من يهود بنى قريظة لحفر الخندق المعاول والفؤس والمكاتل والقدوم والمرو المسحاة وغير ذلك وكانت يومئذ بينهم وبين النبىّ صلّى الله عليه وسلم مهادنة ومعاهدة وهم يكرهون مسير قريش الى المدينة* وفى خلاصة الوفاء وعمل فيه جميع المسلمين وهم يومئذ ثلاثة آلاف* قال الطبرى وأتباعه حفر النبىّ صلى الله عليه وسلم الخندق طولا من أعلا وادى بطحان غربى الوادى مع الحرة الى غربى مصلى العيد ثم الى مسجد الفتح ثم الى الجبلين الصغيرين اللذين فى غربى الوادى ومأخذه قول ابن النجار والخندق باق فيه قناة تأتى من عين قباء الى النخل الذى بالسنح حوالى مسجد الفتح وفى الخندق نخل أيضا وقد انطم أكثره وتهدّمت حيطانه* الحاصل ان الخندق كان شامى المدينة من طرف الحرّة الشرقية الى طرف الغربية* وعن أنس قال جعل المهاجرون والانصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يعمل فيه مع أصحابه* وعن سهل بن سعد قال كنا مع رسول الله وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتافنا* وفى رواية كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم ينقل التراب حتى وارى التراب جلدة بطنه* وفى رواية بعض بطنه* وفى رواية شعر صدره وكان كثير الشعر* وفى رواية ينقل التراب يوم الخندق حتى اغمر أو اغبر بطنه وهو يقول أو يرتجز بكلمات ابن رواحة
والله لولا الله ما اهتدينا* وفى رواية* لا همّ لولا أنت ما اهتدينا* ولا تصدّقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا* وثبت الاقدام ان لاقينا* ان الاولى قد رغبوا علينا** وفى رواية*
ان الذين قد بغوا علينا ... اذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته أبينا أبينا رواه الشيخان* وفى حديث سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى أنه صلّى الله عليه وسلم حين ضرب فى الخندق قال* بسم الله وبه بدينا* ولو عبدنا غيره شقينا* حبذاربا وحبذا دينا* قال فى النهاية يقال بديت بالشىء بكسر الدال أى بدأت به فلما خفف الهمزة كسر الدال فانقلبت الهمزة ياء وليس من باب الياء* وعن أبى قتادة انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعمار حين يحفر الخندق فجعل يمسح رأسه ويقول بؤس ابن سمية تقتلك الفئة الباغية رواه مسلم* وروى ان حفر

(1/481)


الخندق كان فى زمان عسرة وعام مجاعة حتى انّ الاصحاب كانوا يشدّون فى بطونهم الحجر من الجهد والضعف الذى بهم من الجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا* وعن أبى طليحة شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بطنه عن حجرين ذكره الترمذى فى الشمائل ولهذا أشار صاحب البردة بقوله
وشدّ من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الادم
قيل الحجر يدفع الجوع* وعن أنس خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الخندق فاذا المهاجرون والانصار يحفرون الخندق فى غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال اللهمّ لا خير الاخير الآخرة فبارك فى الانصار والمهاجرة* وفى رواية فاكرم الانصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
* وفى رواية ما حيينا أبدا فحفروا الخندق وفرغوا منه بعد ستة أيام* وفى المواهب اللدنية قد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا فى عمل الخندق قريبا من عشرين يوما وعند الواقدى أربعا وعشرين* وفى الروضة للنووى خمسة عشر يوما* وفى الهدى النبوى لابن القيم أقاموا شهرا* روى أنه صلى الله عليه وسلم كان عين للمهاجرين أن يحفروا من موضع كذا الى موضع كذا وعين للانصار أن يحفروا من موضع كذا الى موضع كذا وتحاجّ الفريقان فى سلمان الفارسى وكل فريق قالوا سلمان منا ونحن أحق به وكان سلمان رجلا قويا يحسن حفر الخندق فلما سمع النبىّ مقالة الفريقين قال سلمان منا أهل البيت* روى انه كان يعمل فى حفر الخندق عمل الرجلين* وفى رواية كان يحفر كل يوم خمسة أذرع من الخندق وعمقها أيضا خمسة أذرع فعانه قيس بن صعصعة فصرع وتعطل من العمل فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ويجمع وضوءه فى ظرف ويغتسل سلمان بتلك الغسالة ويكفأ الاناء خلف ظهره ففعل فنشط فى الحال كما ينشط البعير من العقال* وروى انه كان عمرو بن عوف وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزنى وستة من الانصار فى أربعين ذراعا فحفروا حتى اذا كانوا تحت ذباب عرضت لهم* ذباب كغراب وكتاب لغتان* قال البكرى ذباب جبل بجبانة المدينة وهو الجبل الذى عليه مسجد الراية واسمه ذو ناب أيضا* وفى رواية أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء* وفى المواهب اللدنية كدية شديدة وهى بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على المثناة التحتية القطعة الصلبة* وفى رواية مرو عظيمة كسرت حديدهم فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك وهو ضارب عليه قبة تركية فهبط مع سلمان الخندق وبطنه معصوب بحجر ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا كما مرّ والتسعة على شفير الخندق فأخذ المعول من سلمان فضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء منها ما بين لابتيها يعنى المدينة حتى لكانّ مصباحا فى بيت مظلم فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكبيرة فتح وكبر المسلمون ثم ضربها الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها فكبر رسول الله تكبيرة فتح وكبر المسلمون ثم ضربها الثالثة فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكبيرة فتح وكبر المسلمون فأخذ بيد سلمان ورقى قال سلمان بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى القوم فقال أرأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله قال ضربت ضربتى الأولى فبرق الذى رأيتم أضاءت لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أتياب الكلاب وأخبرنى جبريل ان أمّتى

(1/482)


ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتى الثانية فبرق الذى رأيتم أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب فأخبرنى جبريل ان أمّتى ظاهرة عليها ثم ضربتها ضربتى الثالثة فبرق الذى رأيتم أضاءت لى قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرنى جبريل انّ أمّتى ظاهرة عليها فابشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون منهم معتب بن قشير ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وانها تفتح لكم وأنتم انما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزل القرآن واذ يقول المنافقون والدين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا وأنزل الله فى هذه القصة قل اللهمّ مالك الملك الآية ووقع عند أحمد والنسائى أخذ المعول وقال بسم الله ثم ضرب ضربة فبشر ثلثها فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله انى لأبصر قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس وانى والله لأبصر قصور المدائن البيض الآن ثم ضرب الثالثة فقال بسم الله فقطع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله انى لأبصر أبواب صنعاء اليمن من مكانى هذا الساعة كذا فى المواهب اللدنية* وفى الاكتفاء اشتدّ عليهم فى بعض الخندق كدية فشكوها الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدعا باناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضر فو الذى بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما تردّ مسحاة ولا فأسا* ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة بين الجرف ورباعة فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن حتى نزلوا بذنب نعمى الى جانب أحد* وفى خلاصة الوفاء عن ابن اسحاق ان عيينة بن حصن فى غطفان نزلوا الى جانب أحد بباب نعمان* وفى تهذيب ابن هشام عند نزولهم بنعمى ونعمان بالضم وعين مهملة واد بجانب أحد يصب هو ونعمى فى الغابة وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ثلاثة آلاف رجل من المسلمين يوم الاثنين لثمان ليال مضين من ذى القعدة حتى جعلوا ظهورهم الى سلع فضرب هناك عسكره والخندق بينهم وبين المشركين وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة ولواء الانصار بيد سعد بن عبادة وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق وبنى قريظة حم لا ينصرون كذا فى سيرة ابن هشام وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعث الحرس الى المدينة خوفا على الذرارى من بنى قريظة كذا فى المواهب اللدنية وأمر رسول الله بالنساء والذرارى حتى رفعوا فى الآطام وخرج عدوّ الله حيى بن أخطب النضرى بالتماس من أبى سفيان حتى أتى كعب بن أسد القرظى صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم وكان كعب قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه وعاهدهم على ذلك فلما سمع كعب بحيى بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه حيى فأبى كعب أن يفتح له فناداه حيى ويحك يا كعب افتح لى فقال كعب ويحك يا حيى انك أمرؤ مشؤم وانى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أرمنه الا وفاء وصدقا قال ويحك افتح لى أكلمك قال ما أنا بفاعل قال والله ما أغلقت الباب الا لخشيتك أن آكل معك فاغضب الرجل ففتح له فقال يا كعب ويحك جئتك بعز الدهر وببحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الاسيال من رومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى الى جانب أحد قد عاهدونى وعاقدونى أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه فقال له كعب بن أسد جئتنى بذل الدهر بجهام هراق ماءه وبرعد وببرق ليس فيه شىء فدعنى ومحمدا وما أنا عليه فلم أر من محمد الا وقاء وصدقا فلم يزل حيى ابن أخطب بكعب

(1/483)


يفتل فى الذروة والغارب حتى سمح له على ان أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا ان أدخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك فنقض كعب عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما انتهى الخبر الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله حسبنا الله ونعم الوكيل وبعث صلّى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أحد بنى عبد الاشهل وهو يومئذ سيد الاوس وسعد بن عبادة أحد بنى ساعدة وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بلحارث وخوّات بن جبير أخو بنى عمرو بن عوف ليعرفوا الخبر فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على اخبث ما بلغهم عنهم قالوا من رسول الله تبرؤا من عقده وعهده وقالوا لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا فيه حدّة فقال له سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بينهم وبيننا أربى من المشاتمة ثم أقبل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبروه وقالوا عضل والقارة أى كغدرهما بأصحاب الرجيع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين ولما فشا بين المسلمين خبر نقض عهد بنى قريظة اشتدّ الخوف وعظم عند ذلك البلاء فبينماهم على ذلك اذ جاءتهم جنود يعنى الاحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوازها اثنى عشر ألفا كذا فى أنوار التنزيل فجاء بنو أسد وغطفان وفزارة واليهود من فوقهم من جهة المدينة وقائدهم حارث بن عوف وعبينة بن حصن الفزارى وجاء قريش وكنانة من جانب أسفل الوادى وقائدهم أبو سفيان بن حرب* وقال ابن عباس كان الذين جاؤهم من فوقهم بنو قريظة ومن أسفل منهم قريش وغطفان كذا فى الوفاء ومن هيبة كثرتهم وشدّة شوكتهم رعبت قلوب ضعفاء أهل الاسلام وزاغت أبصارهم* وفى الاكتفاء حتى ظنّ المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين وحتى قال قائل منهم كان محمد يعدنا أن نملك كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب الى الغائط كما قال الله تعالى اذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا فلما بلغت الاحزاب وجنود الاعراب شفير الخندق ورأوه تعجبوا منه اذ لم يكن أمر الخندق متعارفا بين العرب فأقاموا بظاهر المدينة على الخندق وحاصروا المسلمين عشرين أو أربعة وعشرين أو سبعة وعشرين يوما* وفى الاكتفاء وأقام عليه المشركون قريبا من شهر ولم يكن بينهم حرب الا الرمى بالنبل والحصار واستعان بنو قريظة من قريش ليبيتوا المدينة فعلم به النبىّ صلّى الله عليه وسلم فبعث سلمة بن الاسلم فى مائتى رجل وزيد بن حارثة فى ثلثمائة رجل حتى حرسوا حصون المدينة ومحلاتها وكان جماعة من المنافقين مثل أوس القيظى ومتابعيه ينفرون جيش الاسلام ويقولون ارجعوا الى منازلكم واعتلوا بأنّ منازلكم عورة خالية عن المحافظة فانها خارج المدينة ونحن نخاف أن يظفر بها جيش العدوّ كما أخبر عنه قوله تعالى واذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبىّ يقولون انّ بيوتنا عورة وما هى بعورة ان يريدون الا فرارا* روى انه كان عباد بن بشر مع جمع من الصحابة فى أيام المحاصرة يحرسون خيمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كل ليلة وكان المشركون يتناوبون الحرب لكن الله تعالى لم يمكنهم من عبور الخندق فان شجعان الصحابة كانوا يمنعونهم بالنبال والاحجار وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم بنفسه فى الليالى يحرس بعض مواضع الخندق* روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت كان فى الخندق موضع لم يحسنوا ضبطه اذ أعجلهم الحال وكان يخاف عليه عبور الاعداء منه وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يختلف ويحرسه بنفسه ويقول

(1/484)


لا أخاف أن يعبر المشركون من موضع الا من هذا الموضع وكان يختلف عليه ورجع مرّة من الخندق فكنت أستد فئة فقال ليت رجلا صالحا يحرس الليلة هذا الموضع اذ سمع قعقعة السلاح فقال من هذا قال سعد بن أبى وقاص فأمره أن يحرس الليلة هذا الموضع فذهب سعد يحرسه فنام النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى نفخ وكان اذا نام نفخ* وعن أمّ سلمة أنها قالت كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة من ليالى الخندق يصلى فى خيمته فخرج منها فنظر فسمعته يقول هؤلاء ركب المشركين يحومون حول الخندق فأمر عباد بن بشر ومن معه أن يحوموا حول الخندق ثم قال اللهمّ ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم فذهب عباد وأصحابه حتى انتهوا الى شفير الخندق فرأوا أبا سفيان مع جمع من المشركين قد اقتحموا بمضيق من الخندق وقوم من المسلمين يرمونهم بالنبل والحجر فاعانهم عباد وأصحابه ورموا المشركين حتى ولوا هاربين فرجع عباد وأصحابه الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو يصلى فلما فرغ أخبروه بذلك قالت فنام رسول الله حتى نفخ وما استيقظ حتى أذن بلال الفجر فخرج وصلّى الفجر مع الجماعة* وعن أم سلمة كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم نائما فى خيمته ذات ليلة فلما كان نصف الليل كثر الصياح وارتفعت الاصوات وسمعت قائلا يقول يا خيل الله اركبوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين فى تلك الغزوة يا خيل الله اركبى* وفى رواية كان صلى الله عليه وسلم قال لهم ان بيتكم العدوّ فليكن شعاركم حم لا ينصرون فوجه الجمع أن يقال ان هذا كان شعار الانصار والله أعلم* وفى سيرة ابن هشام كان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبنى قريظة حم لا ينصرون* فانتبه صلّى الله عليه وسلم وخرج من خيمته وسأل الحرس ما شأن الناس وما هذا الصياح قال عباد هذا صوت عمرو بن عبدودّ العامرى والليلة نوبته فبعثه النبىّ صلّى الله عليه وسلم اليه فذهب عباد والنبىّ صلّى الله عليه وسلم واقف خارج الخيمة ينتظر الخبر فرجع وقال يا رسول الله هذا عمرو بن ودّ فى جمع من المشركين يرمون المسلمين بالنبل والحجارة فدخل النبىّ صلّى الله عليه وسلم خيمته ولبس سلاحه فخرج وركب فرسه وناس بين يديه حتى بلغوا ذلك الموضع ثم رجعوا مع جراحات كثيرة قد أصابتهم فرقد النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى سمعته ينفخ ثم سمعت صياحا فاستيقظ النبىّ صلّى الله عليه وسلم فبعث اليه عباد بن بشر فرجع فقال هذا ضرار بن الخطاب بن مرداس الفهرى فى جمع من المشركين يقاتلون المسلمين ويرمونهم بالنبال والاحجار فلبس النبىّ صلّى الله عليه وسلم سلاحه وتوجه الى ذلك الموضع واشتغل بقتالهم حتى الصباح ثم رجع وقال هربوا مع جراحات كثيرة قالت أم سلمة قد كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غزوات عديدة مثل المريسيع وخيبر والحديبية وفتح مكة وحنين والطائف ولم تكن غزوة من تلك الغزوات شديدة على النبىّ صلّى الله عليه وسلم مثل الخندق لقد أصابه تعب ومشقة كثيرة وأصاب المسلمين جراحات كثيرة وكان الزمان زمان برد وعسرة* روى أنه لما اشتدّ البلاء رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلم أن يعطى غطفان وفزارة ثلث ثمار المدينة حتى يرجعا عنه ويخذلا قريشا فبعث الى عيينة بن حصن الفزارى والحارث بن عوف وهما قائدا فزارة وغطفان وشرط لهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه فجرى بينه وبينهما المراوضة فى الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح* وفى رواية ان عيينة وحارثا مع نفر من قومهما أتيا النبىّ صلّى الله عليه وسلم لامر المصالحة فجرى بينه وبينهم الصلح فأمر النبى عثمان بن عفان حتى كتب كتاب الصلح ولم يقع الاشهاد ولما أرادوا أن يكتبوا الشهادة جاء اسيد بن حضير فرأى عيينة ابن حصن الفزارى قد مدّ رجله بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلم ما جاء له فأقبل الى عيينة

(1/485)


وقال يا عين الهجرس أتمدّ رجلك بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فو الله لولا مجلس رسول الله لانفذت جنبك بهذا الرمح ثم أقبل بوجهه الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان كان هذا شيئا أمرك الله به لا بدّ لنا من عمل به أو أمرا تحبه فاصنع ما شئت ما نقول فيه شيئا وان كان غير ذلك فو الله ما نعطيهم الا السيف متى كانوا يطعمون منا شيئا فسكت النبىّ صلّى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا فدعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فيه فقالا مثل ما قال أسيد بن حضير فقالا يا رسول الله أشىء أمرك الله به أم أمر تصنعه لنا قال بل شىء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك الا لانى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكايدوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم فقال سعد ابن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الاوثان لا نعرف الله ولا نعبده وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة الاقرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالاسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم الا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فقال رسول الله فأنت وذلك فتناول سعد الصحيفة وأخذها من عثمان فمحاما فى الكتاب ومزق الكتاب ثم قال ليجتهدوا علينا فرجع عيينة ابن حصن والحارث بن عوف خائبين خاسرين وعلما أن لا يدلهم على المدينة بوجه من الوجوه لما رأوا من اخلاص الانصار واتفاقهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل فى أمرهما فتور وتزلزل* وروى ان فوارس من قريش وشجعانهم منهم عمرو بن عبدودّ أخو بنى عامر بن لؤى وعكرمة بن أبى جهل وهبيرة بن أبى وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بنى محارب قد تلبسوا يوما للقتال وخرجوا على خيلهم ومرّوا على بنى كنانة وقالوا تهيئوا للحرب يا بنى كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ثم أقبلوا نحو الخندق تعنق بهم خيلهم والجيش على أثرهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا والله ان هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثم قصدوا مكانا ضيقا من نواحى الخندق فضربوا خيولهم فاقتحمت فيه من تلك الناحية الضيقة فعبروه فجالت بهم خيولهم فى السبخة بين الخندق وسلع وأبو سفيان وخالد بن الوليد وفوج من رؤساء قريش وكنانة وغطفان كانوا مصطفين على الخندق فقال عمرو بن عبدودّ لابى سفيان ما لكم لا تعبرون قال أبو سفيان ان احتيج الى عبورنا نعبر أيضا وكان عمرو بن عبدودّ من مشاهير الابطال وشجعان العرب وكانوا يعدلونه بألف رجل وقد كان قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فجال وطلب المبارزة والاصحاب ساكتون كأنما على رؤسهم الطير لانهم كانوا يعلمون شجاعته*

مبارزة علىّ لعمرو بن عبد ودّ
وفى الاكتفاء ذكر ابن اسحاق فى غير رواية البكائى ان عمرو بن عبدودّ لما نادى يطلب من يبارزه قام علىّ وهو مقنع بالحديد فقال أنا له يا رسول الله فقال له اجلس انه عمرو ثم نادى عمرو وجعل يوبخهم ويقول أين جنتكم التى تزعمون انه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون الىّ رجلا فقام علىّ فقال أنا له يا رسول الله فقال له اجلس انه عمرو ثم نادى الثالثة وقال
ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز ... ووقفت اذ جبن المشجع وقفة الرجل المناجز
وكذاك الثانى لم أزل ... متسرعا نحو الهزاهز
ان الشجاعة فى الفتى ... والجود من خير الغرائز
فقام علىّ وقال أنا له يا رسول الله فقال انه عمرو فقال وان كان عمرا فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمشى اليه علىّ وهو يقول
لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

(1/486)


ذونية وبصيرة ... والصدق منجى كل فائز
انى لارجو أن اقسيم عليك نائحة الجنائز ... من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز
* فقال عمرو من أنت قال أنا علىّ قال ابن عبد مناف قال أنا على بن أبى طالب قال غيرك يا ابن أخى من أعمامك من هو أسنّ منك فانى اكره أن أهريق دمك فقال علىّ لكنى والله ما أكره أن أهريق دمك فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علىّ مغضبا ويقال انه كان على فرسه فقال له علىّ كيف أقاتلك وأنت على فرسك ولكن انزل معى فنزل عن فرسه ثم أقبل نحوه فاستقبله علىّ رضى الله عنه بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علىّ على حبل العاتق فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم التكبير فعرف أن عليا قتله* وفى القاموس كان علىّ ذا شجتين فى قرنى رأسه احداهما من عمرو ابن ودّ والثانية من ابن ملجم ولذا يقال له ذو القرنين* وفى رواية لما أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلىّ أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه عمامته وقال اللهم أعنه عليه* وفى رواية رفع عمامته الى السماء وقال الهى أخذت عبيدة منى يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا علىّ أخى وابن عمى فلا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين فمشى اليه علىّ فى نفر من المسلمين حتى أخذوا على الثغرة التى اقتحموا منها فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم فلما وقف عمرو وخيله قال له علىّ يا عمرو سمعت انك تعاهد الله أن لا يدعوك رجل من قريش الى خلتين الا أخذت منه احداهما* وفى الاكتفاء الى احدى الخلتين الا أخذتها منه قال أجل فقال علىّ فانى أدعوك الى الله والى رسوله والى الاسلام قال لا حاجة لى فى ذلك قال فارجع الى ديارك واترك القتال معنا فان انتظم أمر محمد وظفر على أعدائه فقد أسعدته وأمددته والا فحصل مطلوبك من غير قتاله قال عمرو ان نساء قريش لا يقلن هذا كيف وقد قدرت على استيفاء نذرى وأنا أرجع ولم أف به وقد كان عمرو جرح يوم بدر وأفلت هاربا ونذر أن لا يدّهن حتى ينتقم من محمد فقال علىّ فانى أدعوك الى النزال فقال له يا ابن أخى فو الله ما أحب أن أقتلك قال علىّ ولكنى أحب أن أقتلك فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه وسل سيفه وعقره وضرب وجهه ثم أقبل على علىّ فتنازلا وتجاولا فقتله علىّ وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت الخندق هاربة وفى رواية ثم حمل ضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبى وهب على علىّ وهو أقبل اليهما فأما ضرار فلما نظر الى وجه علىّ ولى هاربا وبعد ذلك سئل عن سبب فزاره قال خيل لى أن الموت يرينى صورته وأما هبيرة فثبت فى مقاتلته حتى أصابه أثر السيف فعند ذلك ألقى درعه وهرب* وفى رواية حمل الزبير بن العوّام وعمر بن الخطاب بعد قتل علىّ عمرا على بقية أصحاب عمرو وقد كان ضرار بن الخطاب يفرّ وعمر يشتدّ فى أثره فكرّ ضرار راجعا وحمل على عمر بالرمح ليطعنه ثم أمسك وقال يا عمر هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ويدلى عندك غير مجزى بها فاحفظها* وفى معالم التنزيل وأما نوفل ابن عبد الله فضرب فرسه ليدخل الخندق فوقع فيه مع فرسه فتحطما جميعا* وفى المنتقى فتورّط فيه* وفى الوفاء وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى فبارزه الزبير فقتله ويقال قتله علىّ ورجعت بقية الخيول منهزمة* وفى روضة الاحباب اقتحم الخندق نوفل حين الفرار فسقط فيه فرماه المسلمون بالحجارة فصرخ يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل اليه علىّ فضربه بالسيف فقطعه نصفين وجرح من الكفار يومئذ منبه بن عثمان أصابه سهم فمات منه بمكة وفرّ عكرمة وهبيرة ومرداس وضرار حتى انتهوا الى جيشهم فأخبروهم بقتل عمرو ونوفل فتوهن من ذلك قريش

(1/487)


وخاف أبو سفيان وكادت أن تهرب فزارة وتفرّقت غطفان* وفى معالم التنزيل طلب المشركون جيفة نوفل بالثمن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم خذوه فانه خبيث الجيفة خبيث الدية وروى ان عليا لما قتل عمرا لم يسلبه فجاءت اخت عمرو حتى قامت عليه فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت ما قتله الا كفؤ كريم ثم سألت عن قاتله قالوا علىّ بن أبى طالب فأنشأت هذين البيتين
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... لكنت أبكى عليه آخر الابد
لكنّ قاتله من لا يعاب به ... من كان يدعى قديما بيضة البلد
وروى ان الكفار فى ذلك اليوم أو فى يوم آخر اتفقوا وشرعوا فى القتال من جميع جوانب احندق فقاتلوا سائر اليوم حتى فاتت صلاة الظهر والعصر والمغرب عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وبعد ذلك أمر بالاقامة لكل صلاة وقضوها* وفى الهداية ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهنّ مرتبة ثم قال صلوا كما رأيتمونى وقد صح عن علىّ أنه قال قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق ملأ الله عليهم بيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غابت الشمس وقيل اقتتلوا ثلاثة أيام قتالا شديدا حتى حجز الليل بينهم سيما فى اليوم الثالث حين شغلهم القتال عن صلاة العصر والمغرب وقيل والظهر وذلك قبل نزول صلاة الخوف وهو قوله تعالى فان خفتم فرجالا أو ركبانا* وفى شمائل الترمذى روى أنه كان يوم الخندق رجل من الكفار معه ترس وكان سعد راميا وكان الرجل يقول كذا وكذا بالترس يغطى جبهته فنزع له سعد بسهم فلما رفع رأسه رماه سعد لم يخطئ هذه منه يعنى جبهته وانقلب وأشال برجله فضحك النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه يعنى من فعله بالرجل قالت عائشة كنا يوم الخندق فى حصن بنى حارثة وهو من أحرز حصون المدينة وكانت أمّ سعد بن معاذ معنا فى الحصن وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلص قد خرجت منها ذراعه كلها وفى يده حربة وهو يقول البث قليلا تلحق الهيجا جمل* وفى الاكتفاء فى يده حربة يرقد بها أى يسرع بها فى نشاط وهو يقول
البث قليلا تشهد الهيجا جمل ... لا بأس بالموت اذا حان الاجل
كذا فى المنتقى* وفى الصفوة عن عائشة قالت خرجت يوم الخندق أقفو أثر الناس فسمعت وبيد الارض من ورائى فالتفت فاذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة فجلست الى الارض فمرّ سعد وهو يرتجز
البث قليلا تدرك الهيجا جمل ... ما أحسن الموت اذا جاء الاجل
فقالت أمّه يا بنىّ الحق فقد والله أخرت قالت فقلت لها والله يا أمّ سعد لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هى وخفت عليه حيث أصاب السهم منه قالت فرمى سعد يومئذ بسهم فقطع منه الاكحل وزعموا أنه لم ينقطع من أحد قط الا لم يزل يبض دما ولم يرقأ حتى يموت* الاكحل بفتح الهمزة والحاء المهملة بينهما كاف ساكنة عرق فى وسط الذراع* قال الخليل هو عرق الحياة يقال ان فى كل عضو منه شعبة فهو فى اليد الاكحل وفى الظهر الابهر وفى الفخذ النسا* وكان الذى رماه حبان بن قيس ابن العرقة أحد بنى عامر بن لؤى فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة قال سعد عرق الله وجهك فى النار* وحبان بن العرقة وقد تفتح الراء وهى أمّه قلابة لقبت بها لطيب ريحها كذا فى القاموس قال ابن اسحاق عن عبد الله بن كعب بن مالك انه كان يقول ما أصاب سعدا يومئذ الا أبو أسامة الجشمى حليف بنى مخزوم* قال ابن هشام ويقال ان الذى رمى سعد اخفاجة بن عاصم بن حبان كذا فى سيرة ابن هشام ثم قال سعد اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها فانه لا قوم أحب

(1/488)


الىّ أن اجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لى شهادة ولا تمتنى حتى تقرّ عينى أو قال تشفينى من بنى قريظة وكانوا حلفاء سعد ومواليه فى الجاهلية فرقأ كمله* ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق أمر بقبة من أدم ضربت على سعد فى المسجد* وعن جابر قال رمى سعد بن معاذ فى أكحله فحسمه النبىّ صلّى الله عليه وسلم وعنه قال رمى أبى بن كعب يوم الاحزاب على أكحله فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنه بعث رسول الله الى أبى بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه عليه روى الاحاديث الثلاثة مسلم كذا فى المشكاة*

لطيفة
وروى ابن اسحاق عن عباد الزهرى انه كانت صفية بنت عبد المطلب فى فارع حصن قالت وحسان معنا وفيه من النساء والصبيان فمرّ بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون فى نحور عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا الينا عنهم اذ أتانا آت قلت يا حسان ان هذا اليهودى كما ترى يطيف بالحصن وانى والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود وقد شغل عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل اليه فاقتله فقال يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت اليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت الى الحصن فقلت يا حسان انزل فسلبه فانه لم يمنعنى من سلبه الا أنه رجل قال مالى فى سلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب كذا فى المنتقى* وفى الوفاء روى الطبرانى ورجاله ثقات عن رافع بن خديج قال لم يكن حصن أحصن من حصن بنى حارثة فجعل النبىّ صلّى الله عليه وسلم النساء والصبيان والذرارى فيه وقال ان ألم بكنّ أحد فألمعن بالسيف فجاءهنّ رجل من بنى حارثة بن سعد يقال له نجدان أحد بنى جحاش على فرس حتى كان فى أصل الحصن ثم جعل يقول انزلن الىّ خير لكن فحرّكن السيف فأبصره أصحاب رسول الله فابتدر الحصن قوم فيهم رجل من بنى حارثة يقال له ظفر بن رافع فقال يا نجدان ابرز فبرز اليه فحمل عليه فقتله وأخذ رأسه وذهب به الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم* وفى الوفاء قال حسان لا والله ما ذاك فىّ ولو كان فىّ لخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت صفية فأربط السيف على ذراعى ثم تقدّمت اليه حتى قتلته وقطعت رأسه فقالت له خذ الرأس فارم به على اليهود قال ما ذاك فىّ فأخذت هى الرأس فرمت به اليهود فقالت اليهود قد علمنا أن لم يكن يترك أهله خلوفا ليس معهم أحد فتفرّقوا وذهبوا وروى الطبرانى هذه القصة عن صفية فى غزوة أحد وفى اسناده اثنان قال الهيتمى لم أعرفهما وبقية اسناده ثقات والمذكور فى كتب السير انّ هذه القصة فى الخندق وانّ بعضهم كان بحصن بنى حارثة وبعضهم بفارع* قال السهيلى محمل هذا الحديث عند الناس أن حسانا كان جبانا شديد الجبن وقد دفع بعض العلماء هذا وأنكره وقال لو صح هذا لهجى حسان به فانه كان يهاجى الشعراء وكانوا يردّون عليه فما عيره أحد بجبن وان صح فلعل حسانا كان متعللا فى ذلك اليوم بعلة منعته عن شهود القتال هذا وروى الطبرانى برجال الصحيح عن عروة مرسلا ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم أدخل النساء يوم الاحزاب أطما من آطام المدينة وكان حسان بن ثابت رجلا جبانا فأدخله مع النساء فأغلق الباب وذكر القصة* وفى أسد الغابة لابن الاثير كان حسان من أجبن الناس حتى ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم جعله مع النساء فى الآطام يوم الخندق وأقام النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدّة لتظاهر عدوّهم عليهم واتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم ثم ان نعيم بن مسعود بن عامر الاشجعى الغطفانى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم

(1/489)


فقال يا رسول الله انى قد أسلمت وان قومى لم يعلموا باسلامى فمرنى بما شئت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم انما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ان استطعت فان الحرب خدعة فخرج نعيم حتى أتى بنى قريظة وكان لهم نديما فى الجاهلية فقال لهم يا بنى قريظة قد عرفتم ودّى اياكم وخاصة ما بينى وبينكم قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم ان قريشا وغطفان قد جاؤا لحرب محمد وقد ظاهر تموهم عليهم وان قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون أن تحوّلوا الى غيره وان قريشا وغطفان اموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره ان رأوا نهزة أصابوها وان كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به ان خلابكم فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا بعض أشرافهم رهنا يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه فقالوا لقد أشرت برأى ونصح ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبى سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش يا معشر قريش قد عرفتم ودّى اياكم وفراقى محمدا وقد بلغنى أمر رأيت حقا علىّ أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا علىّ ما أقول لكم قالوا نفعل قال اعلموا ان معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا اليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم فأرسل محمد اليهم أن نعم فان بعث اليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم لا تدفعوا اليهم منكم رجلا واحدا* ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان أنتم أهلى وعشيرتى وأحب الناس الىّ فلا أراكم تتهمونى قالوا صدقت قال فاكتموا علىّ قالوا نفعل ثم قال لهم ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم به فلما كانت ليلة السبت من شوّال سنة خمس وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم انه أرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان الى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل فى نفر من قريش وغطفان وقالوا لهم انا لسنا بدار مقام هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا اليهم ان اليوم يوم السبت وهو يوم لا يعمل فيه شىء وكان قد أحدث فيه بعض الناس حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذى نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فانا نخشى انكم اذا اشتدّ عليكم القتال أسرعتم السير الى بلادكم وتركتمونا والرجل فى بلادنا فلا طاقة لنا بذلك فلما رجعت اليهم الرسل وأخبروهم بالذى قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان والله ان الذى حدثكم نعيم بن مسعود لحق فأرسلوا الى بنى قريظة انا والله لا ندفع اليكم رجلا واحدا من رجالنا فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا وقاتلوا فقالت بنو قريظة حين انتهت اليهم الرسل وأخبروهم بهذا الخبر ان الذى ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم الا القتال فان وجدوا فرصة انتهزوها وان كان غير ذلك تشمروا الى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل فى بلادكم فأرسلوا الى قريش وغطفان والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فأبوا عليهم وخذل الله بينهم* روى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حوصر بضع عشرة ليلة* وفى الوفاء ذكر موسى بن عقبة ان مدّة الحصار كانت عشرين يوما حتى أصاب كل امرئ منهم الكرب فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى مسجد الاحزاب* وعن جابر بن عبد الله الانصارى ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم دعا فى مسجد الفتح يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء فقال اللهمّ منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الاحزاب اللهمّ اهزمهم وزلزلهم فاستجيب له يوم الاربعاء بين الصلاتين الظهر والعصر فعرف البشر فى وجهه صلّى الله عليه وسلم فأجلوا* قال جابر ولم ينزل بى أمر غائظ الا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فاعرف الاجابة* وفى مسند الامام أحمد عن أبى سعيد

(1/490)


الخدرى قال قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شىء فنقوله قد بلغت القلوب الحناجر قال نعم اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا فضرب الله وجوه أعدائة بالريح فهزمهم* وفى معالم التنزيل قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الاحزاب انطلقى ننصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت الشمال ان الحرّ لا يسرى بالليل وكانت الريح التى أرسلت عليهم الصبا* وعن ابن عباس عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور فبعث الله عليهم فى تلك الليلة الشاتية ريحا باردة فأحصرتهم وسفت التراب فى وجوههم وأرسل عليهم جنودا لم يروها وهم الملائكة وكانوا ألفا ولم تقاتل يومئذ ولكن قلعت الاوتاد وقطعت أطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وجالت الخيل بعضها فى بعض وكثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم وقذف الله فى قلوبهم الرعب فانهزموا من غير قتال* وفى ينبوع الحياة لابن ظفر قيل انه صلّى الله عليه وسلم دعا فقال يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همى وغمى وكربى فانك ترى ما نزل بى وبأصحابى فأتاه جبريل وبشره بأن الله سبحانه يرسل عليهم ريحا وجنودا فأعلم أصحابه ورفع يده به قائلا شكرا شكرا وهبت ريح الصبا ليلا فقلعت الاوتاد وألقت عليهم الابنية وكفأت القدور وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصباء وسمعوا فى أرجاء عسكرهم التكبير وقعقعة السلاح فارتحلوا هرابا فى ليلتهم وتركوا ما استنقلوه من متاعهم قال فذلك قوله تعالى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها كذا فى المواهب اللدنية* وروى عن حذيفة أنه قال لقد رأيتنى ليلة الاحزاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال من يقوم فيذهب الى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة فما قام منا رجل ثم صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت الينا فقال مثله فسكت القوم وما قام رجل ثم صلّى هو يا من الليل ثم التفت الينا فقال من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقى فى الجنة فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة البرد وشدّة الجوع فلما لم يقم أحد دعانى فقال يا حذيفة فلم يكن لى بدّ من القيام حين دعانى فقلت لبيك يا رسول الله فقمت حتى أتيته وان جنبتى لتضطربان فمسح رأسى ووجهى ثم قال ائت هؤلاء القوم حتى تأتينى بخبرهم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع الىّ* وفى رواية لا تذعرهم علىّ* وفى رواية قال يا حذيفة اذهب فادخل فى القوم فانظر ما يفعلون ولا تذعرهم علىّ ثم قال اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته فأخذت سهمى وشددت علىّ أسلابى ثم انطلقت أمشى نحوهم كأنى أمشى فى حمام فذهبت فدخلت فى القوم وقد أرسل الله عليهم ريحا وجنود الله تفعل بهم الريح ما تفعل فلا تقرّ لهم قدرا ولا نارا ولا بناء فرأيت أبا سفيان قاعدا يصطلى أو قال يصلى ظهره بالنار فأخذت سهما فوضعته فى كبد قوسى فأردت أن أرميه ولو رميته لا صبته فذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تحدثن شيئا حتى ترجع الىّ ولا تذعرهم علىّ فرددت سهمى فى كنانتى فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر كل امرئ من جليسه قال حذيفة فأحذت بيد الرجل الذى الى جنبى فقلت من أنت قال أنا فلان بن فلان* وذكر ابن عقبة انه فعل ذلك بمن على جانبيه يمينا ويسارا قال وبدرتهم بالمسئلة خشية أن يفطنوا* فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم قام وقال يا معشر قريش انكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكرهه ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فانى مرتحل ثم قام الى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلقه الا وهو قائم ولولا عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الىّ أن لا تحدث شيئا حتى تأتينى ثم شئت لقتلته بسهم ولما سمعت فزارة وغطفان بما فعلت قريش انصرفت الى بلادها* وفى الوفاء فحملت قريش

(1/491)


واستمرّوا راجعين الى بلادهم* وعن الكلبى أنه قال ان الملائكة اتبعوا الاحزاب حتى بلغوا الروحاء يكبرون فى أدبارهم فهربوا لا يلوون على شىء والله أعلم* وفى الصفوة عن عائشة رضى الله عنها بعث الله الريح على المشركين وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة ولحق عيينة بن حصن ومن معه بنجد ورجعت بنو قريظة فتحصنوا فى صياصيهم ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى المدينة فأمر بقبة من أدم فضربت على سعد ابن معاذ فى المسجد كما سيجىء* قال حذيفة فرجعت الى رسول الله كأنى أمشى فى الحمام ورأيت فى أثناء الطريق عشرين راكبا عليهم عمائم بيض قالوا لى أخبر صاحبك أن الله كفاك جيش العدوّ كذا فى روضة الاحباب* قال حذيفة أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو قائم يصلى فلما سلم أخبرته فضحك حتى بدت نواجذه يعنى أنيابه فى سواد الليل فلما أخبرته قررت فذهب عنى الدفاء فأدنانى النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأنا منى عند رجليه وألقى علىّ طرف ثوبه وألزق صدرى ببطن قدميه وفى رواية ألبسنى من فضل عباءة كانت عليه يصلى فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس بحضرته أحد من العساكر* وفى الوفاء قال مالك لم يستشهد من المسلمين يوم الخندق الا أربعة أو خمسة* وقال ابن اسحاق لم يستشهد يوم الخندق من المسلمين الاستة نفر من بنى عبد الاشهل سعد بن معاذ وأنس بن أوس بن عتيك وعبد الله بن سهل ثلاثة نفر ومن بنى جشم بن الخزرج ثم من بنى سلمة الطفيل بن النعمان وثعلبة بن غنمة رجلان ومن بنى النجار ثم من بنى دينار كعب بن زيد أصابه سهم غرب فقتله وقتل من المشركين ثلاثة نفر من بنى عبد الدار ابن قصى منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة ومن بنى مخزوم ابن يقظة نوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق فتورّط فيه فقتل فغلب المسلمون على جسده وسأل المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده فقال صلّى الله عليه وسلم لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنه فخلى بينهم وبينه* قال ابن هشام اعطوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى جسده عشرة آلاف درهم فيما بلغنى عن الزهرى* وفى معالم التنزيل فطلب المشركون جيفة نوفل بالثمن فقال رسول الله خذوه فانه خبيث الجيفة خبيث الدية وقد مرّ ومن بنى عامر بن لؤى ثم من بنى مالك بن حسل عمرو بن عبدودّ قتله على بن أبى طالب* قال ابن هشام وحدّثنى الثقة انه حدث عن ابن شهاب الزهرى أنه قال قتل على بن أبى طالب يومئذ عمرو بن ودّ وابنه حسل بن عمرو وكان من المناوشات بين الفريقين أن مات بعض بنى عمرو بن عوف من أهل قباء فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليدفنوه فأذن لهم فلما خرجوا الى الصحراء لدفن ميتهم وافقوا ضرار بن الخطاب وجماعة من المشركين بعثهم أبو سفيان ليمتاروا له من بنى قريظة على ابل له فحملوا على بعضها قمحا وعلى بعضها شعيرا وعلى بعضها تمرا وتبنا للعلف فلما رجعوا وبلغوا ساحة قباء وافقوا الذين كانوا يدفنون ميتهم فناهضهم المسلمون وغلبوهم وجرح ضرار جراحات فهرب هو وأصحابه وساق المسلمون الابل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان للمسلمين فى ذلك سعة من النفقة وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوما وقيل أربعة وعشرين يوما وقيل عشرين وقيل سبعة وعشرين وقيل قريبا من شهر كما مرّ* قال صلّى الله عليه وسلم لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا وكان كذلك فهو معجزة وانصرف عليه السلام من غزوة الخندق يوم الاربعاء لسبع ليال بقين من ذى القعدة كذا فى المواهب اللدنية*

غزوة بنى قريظة
وفى ذى القعدة من هذه السنة وقعت غزوة بنى قريظة قال أهل السير لما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الليل وقد انصرف الاحزاب مدلجين انصرف صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون من الخندق الى المدينة يوم الاربعاء

(1/492)


كما سبق ذكره ووضعوا عنهم السلاح فلما كان الظهر أتاه جبريل معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة بيضاء عليها رحاله عليها قطيفة من ديباج ورسول الله صلّى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش وهى تغسل رأسه* وفى رواية فى بيت فاطمة وقد اغتسل ويريد أن يتطيب اذ جاءه جبريل* وفى رواية كان فى بيت عائشة ساعتئذ وهى تغسل رأسه وقد غسلت شقه* روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت سمعت صوت رجل يسلم علينا من خارج البيت فقام صلّى الله عليه وسلم مستعجلا وخرج من البيت فتبعته الى الباب فرأيت دحية الكلبى على بغلة بيضاء على وجهه الغبار* وفى رواية على ثناياه النقع فجعل النبى صلّى الله عليه وسلم يمسحه بردائه ويحدّثه فلما عاد الى البيت قال هذا جبريل أمرنى بالمسير الى بنى قريظة* وفى الوفاء ذكر ابن عقبة ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فى المغتسل عند ما جاءه جبريل وهو يرجل رأسه وقد رجل احد شقيه فجاءه جبريل على فرس عليه اللامة وأثر الغبار حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز فخرج اليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له جبريل غفر الله لك قد وضعت السلاح قال نعم قال جبريل ما وضعت الملائكة السلاح بعد وفى المنتقى بعد أربعين ليلة وما رجعت الآن الا من طلب القوم* وفى المنتقى كان الغبار على وجهه وفرسه فجعل النبى صلّى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهه ووجه فرسه انتهى قال جبريل ان الله يأمرك بالمسير الى بنى قريظة فانى عامد اليهم فمزلزل بهم وكذا فى الاكتفاء* وفى المواهب اللدنية وعند ابن عائذ قم فشدّ عليك سلاحك فو الله لادقنهم دق البيض على الصفا* وفى الوفاء فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار فى زقاق بنى غنم حى من الانصار* وفى البخارى قال أنس كأنى أنظر الى الغبار ساطعا فى سكة بنى غنم من موكب جبريل وزقاقهم عند موضع الجنائز شرقى المسجد* وفى رواية ابن سعد فجاء جبريل فقال يا رسول الله انهض الى بنى قريظة فقال ان فى أصحابى جهدا قال انهض اليهم فلأضعضعنهم* وفى المنتقى قال جبريل وانّى عامد الى بنى قريظة فاشهد اليهم فانى قد قلعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم فى زلزال وبلبال فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مناديا ينادى يا خيل الله اركبى* وفى رواية نادى ان من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر الا فى بنى قريظة وقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بن أبى طالب براية اليهم ولبس صلّى الله عليه وسلم لأمته وبيضته وشدّ السيف فى وسطه وألقى الترس من وراء كتفه وأخذ رمحه وركب فرسه واسمه لحيف واجتنب فرسين* وأما ما فى شمائل الترمذى كان صلّى الله عليه وسلم يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه اكاف ليف فالتوفيق بين الروايتين ممكن واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم فسار على أثر علىّ والاصحاب تهيئوا وخرجوا وكان عددهم قريبا من ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثين فرسا ولما بلغ بنى النجار فى الطريق رآهم قد تسلحوا وصفوا على الطريق فقال من أمركم بلبس السلاح قالوا دحية الكلبى قال ذاك جبريل عليه السلام ذهب ليزلزل حصونهم وفى المنتقى ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصورين قبل أن يصل الى بنى قريظة* فى القاموس الصوران موضع بقرب المدينة* وفى خلاصة الوفاء يقال الصوران بالفتح ثم السكون للنخل المجتمع الصغار موضع فى أقصى بقيع الغرقد مما يلى طريق بنى قريظة مرّ به النبىّ صلّى الله عليه وسلم متوجها الى بنى قريظة* وفى المنتقى سأل رسول الله أصحابه بالصورين هل مرّبكم أحد قالوا مرّ بنادحية بن خليفة الكلبى على بغلة بيضاء عليها رحاله وعليها قطيفة ديباج فقال صلّى الله عليه وسلم ذاك جبريل بعث الى بنى قريظة يزلزل حصونهم ويقذف الرعب فى قلوبهم وقد كان علىّ ابتدر الناس وسار حتى اذا دنا من الحصن غرز هناك الراية فشرعت اليهود فى السب من فوق

(1/493)


الحصن* وفى المنتقى سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فترك علىّ أبا قتادة عند الراية ورجع حتى لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الطريق فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الاخابث قال لم أظنك سمعت لى منهم أذى قال نعم يا رسول الله قال لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا وانتهى المسلمون الى بنى قريظة فيما بين المغرب والعشاء وبعض الاصحاب صلوا العصر فى الطريق رعاية للوقت وحملوا نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على التعجيل والمبالغة فى المسير وبعضهم قضوا العصر ببنى قريظة رعاية لظاهر النهى وما عاب أحدا من الفريقين ولا عنفهم* وفى المنتقى ولما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنى قريظة نزل على بئر من آبارهم فى ناحية فتلاحق به الناس فأتاه بعض الناس بعد صلاة العشاء الاخرة ولم يصلوا العصر لقوله عليه السلام لا يصلين أحد العصر الا ببنى قريظة فصلوها بعد العشاء الآخرة فما عاتبهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد كان حيى بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم حين رجعت قريش وغطفان من الخندق وفاء لكعب بن أسد بما عاهد* ولما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حصونهم قال يا اخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته انزلوا على حكم الله ورسوله* وفى رواية قال اخسؤا أخسأكم الله أى ابعدوا أبعدكم الله من رحمته قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا ولا فحاشا قبل هذا ولما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قولهم هذا سقطت العنزة من يده والرداء عن كتفه وجعل يتأخر استحياء مما قال لهم وقال أسيد بن حضير يا أعداء الله نحن لن نبرح من ههنا حتى تموتوا من الجوع وأنتم انحجرتم مثل الثعلب فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم سعد بن أبى وقاص حتى رماهم ساعة بالنبل ثم رجع الى معسكره وكانوا يقاتلونهم فى كل يوم من جوانب الحصن ويرمونهم بالنبل والحجارة فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ذلك خمسا وعشرين ليلة كذا فى الصفوة* وفى رواية خمس عشرة ليلة وعند ابن سعد عشرة* وفى معالم التنزيل احدى وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله فى قلوبهم الرعب فأمسكوا عن القتال وأرسلوا نباش بن قيس الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسألوا النزول كما نزل بنو النضير وأن يخرجوا مع نسائهم وأبنائهم من هذا البلد ولك الاموال والاسلحة والامتعة والدواب فأبى النبىّ صلّى الله عليه وسلم الا النزول على أن يفعل بهم ما يريد ولما رجع النباش وبلغهم الخبر وأيقنوا ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم جمع رئيسهم كعب بن أسد أشراف بنى قريظة وقال يا معشر اليهود انه قد نزل بكم من الامر ما ترون وانى أعرض عليكم خلالا ثلاثة فحذوا أيتها شئتم قالوا وما هى قال نتابع هذا الرجل ونصدّقه فو الله لقد تبين لكم انه نبىّ مرسل وانه الذى تجدونه فى كتابكم وابن حواس وكان من علماء التوراة اذ بلغ هذه الديار أخبركم بظهوره بها وآمن به وأوصاكم بمتابعته ونصرته وقال لكم ان أدركتم زمانه بلغوه سلامى فآمنوا به فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فاذا أبيتم هذا فهلموا لنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج على محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف ولم نترك وراءنا ثقلايهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فان نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه وان نغلب عليه لنتخذن النساء والابناء الاخر قالوا كيف نقتل هؤلاء المساكين فما فى العيش بعدهم خير قال فان أبيتم هذا فتعالوا فانّ هذه الليلة ليلة السبت وانه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها يحسبون ان اليهود لا تقاتل فى السبت فانزلوا عليهم فلعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرّة قالوا كيف نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا الا من علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف
عليك* قال

(1/494)


كعب ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه ليلة واحدة من الدهر حازما ثم انهم بعثوا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ابعث الينا أبا لبابة عبد المنذر الاوسى أخا بنى عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الاوس نستشيره فى أمرنا* وفى معالم التنزيل وكان أبو لبابة مناصحا لهم لانّ ماله وعياله وولده كانت فى بنى قريظة فأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما رأوه قام اليه الرجال واستقبلوه ونهض اليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه من شدّة المحاصرة وتشتت أحوالهم فرق لهم فقالوا يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده الى حلقه انه الذبح* وفى معالم التنزيل قالوا يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده الى حلقه انه الذبح فلا تفعلوه قال أبو لبابة فو الله ما زالت قدماى حتى عرفت انى خنت الله ورسوله*

ارتباط أبى لبابة الى عمود من عمد المسجد
وفى المواهب اللدنية ومضى أبو لبابة الى المدينة فارتبط فى المسجد الى عمود من عمده وقال لا أبرح من مكانى هذا حتى يتوب الله علىّ مما صنعت وحلف أن لا يطأ بنى قريظة أبدا ولا أرى فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا وأقام مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته فى وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فتربطه بالجذع* وقال أبو عمرو يرفعه الى عبد الله ابن أبى بكر ان أبا لبابة ارتبط الى جذع موضع اسطوانة التوبة يسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه فما كاد يسمع وكاد يذهب بصره وكانت ابنته تحله اذا حضرت الصلاة واذا أراد أن يذهب لحاجته ثم يأتى فتردّه الى الرباط وحلف لا يحل نفسه حتى يحله رسول الله صلّى الله عليه وسلم* وفى رواية قال لا أبرح من مكانى هذا ولا يطلقنى أحد فى غير وقت الصلاة حتى يتوب الله علىّ مما صنعت ويقال ان هذه الحالة جرت له حين تخلف من تبوك كذا فى سيرة مغلطاى* فلما سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال امّا لو جاءنى لاستغفرت له فأمّا اذا فعل ذلك فما أنا الذى أطلقه حتى يتوب الله عليه فبعد ما رجعوا عن بنى قريظة أنزل الله فى توبته فيما روى عن عبد الله بن أبى قتادة يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول الآية* وفى الاكتفاء الآية التى نزلت فى توبة أبى لبابة وآخرون اعترفوا بذنوبهم الى آخرها فأنزلت توبته سحرا فى بيت أمّ سلمة قالت أمّ سلمة فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى السحر يضحك فقلت مم تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك قال تيب على أبى لبابة فقلت ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال بلى ان شئت فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب كذا فى المنتقى فقالت يا أبا لبابة ابشر فقد تاب الله عليك فثار الناس اليه ليطلقوه قال لا والله حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذى يطلقنى بيده فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خارجا الى الصبح فحله فعاهد الله أن لا يطأ بنى قريظة أبدا وقال لا يرانى الله فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا كذا فى المنتقى كما مرّ* وفى خلاصة الوفاء وقيل سبب ارتباطه بها تخلفه فى غزوة تبوك فلما جاء النبىّ صلّى الله عليه وسلم جاءه فأعرض عنه فارتبط بسارية التوبة التى عند باب أمّ سلمة سبعا بين يوم وليلة رواه البيهقى فى الدلائل عن سعيد بن المسيب كذا فى سيرة مغلطاى* وروى أيضا عن ابن عباس فى قوله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال كان عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله فى غزوة تبوك فلما حضر رجوع النبىّ صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسوارى المسجد فقال النبىّ من هؤلاء قالوا هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك الحديث وفيه توبة الله عليهم واطلاقهم ونقل ابن النجار ان السارية التى ربط اليها ثمامة بن أثال الخثعمى هى السارية التى ارتبط اليها أبو لبابة* وعن محمد بن كعب ان النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يصلى نوافله الى اسطوانة التوبة ولا بن ماجه عن ابن عمر انه صلّى الله عليه وسلم اذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير وراء اسطوانة التوبة مما يلى القبلة يستند اليها* ونقل عياض عن ابن المنذران مالك بن أنس كان له موضع فى المسجد قال وهو مكان عمر بن الخطاب وهو الذى

(1/495)


كان يوضع فيه فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلم اذا اعتكف* وفى خبر لابن زبالة ان اسطوانة التوبة بينها وبين القبر اسطوانة وان ابن عمر كان يقول هى الثانية من القبر قال ابن زبالة بينها وبين القبر الشريف عشرون ذراعا* قلت فهى الرابعة من المنبر والثانية من القبر والثالثة من القبلة والخامسة فى زماننا من رحبة المسجد وهى بين اسطوانة عائشة وبين الاسطوانة اللاصقة بشباك الحجرة وكان فيها محراب من الجص يميزها من غيرها زال بعد الحريق الثانى انتهى* ثم ان ثعلبة بن شعبة وأسد بن شعية وأسد بن عمير وهم نفر من هذيل ليسوا من بنى قريظة ولا من بنى النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التى نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأحرزوا دماءهم وأموالهم وكان اسلامهم فيما زعموا عما كان ألقاه اليهم من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن الهيبان القادم اليهم قبل الاسلام متوكفا لخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومحققا لنبوّته فنفع الله هؤلاء الثلاثة بذلك واستنقذهم به من النار وخرج فى تلك الليلة عمرو بن سعد القرظى فمرّ بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليهم محمد بن مسلمة فلما رأوه قالوا من هذا قال أنا عمرو بن سعد وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال لا أغدر بمحمد أبدا فقال محمد بن مسلمة حين عرفه اللهمّ لا تحرمنى عثرات الكرام ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلم يدر أين توجه من أرض الله الى اليوم فذكر شأنه لرسول الله فقال ذاك رجل نجاه الله بوفائه وبعض الناس يزعم انه كان أوثق برمّة فيمن أوثق من بنى قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأصبحت رمّة ملقاة ولا يدرى أين ذهب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلك المقالة والله أعلم أى ذلك كان كذا فى الاكتفاء* ولما استشار بنو قريظة أبا لبابة وهو أشار الى القتل قالوا ننزل على حكم سعد بن معاد فتواثب الاوس وقالوا يا رسول الله ان بنى قريظة موالينا دون الخزرج وقد أحسنت الى موالى الخزرج بالامس يعنى بنى قينقاع فأحسن الى موالينا وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل بنى النضير حاصر بنى قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام الحبر وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكم رسول الله فأراد صلّى الله عليه وسلم قتلهم فشفع فيهم عبد الله بن أبى بن سلول وبالغ فى السؤال وألح حتى وهبهم له رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما مرّ فلما تكلم الاوس فى بنى قريظة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا ترضون يا معشر الاوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى قال فذلك سعد بن معاذ فأخرجت بنو قريظة من الحصن وجمعت أمتعتهم وأقمشتهم وأسلحتهم قيل كان السيف ألفا وخمسمائة والدرع ثلثمائة والرمح ألفا والترس خمسمائة والاثاث والامتعة والنواضح والمواشى كثيرة فجلس النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى موضع وبعث الى المدينة من يأتى بسعد بن معاذ وكان أصابه سهم بالخندق فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم سعد أن يجعلوه فى خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة فى مسجده وكانت تداوى الجرحى تحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين وقال صلّى الله عليه وسلم اجعلوه فى خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب فلما حكمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بنى قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار عليه اكاف من ليف قد أوطؤا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن فى مواليك فان رسول الله ما ولاك ذاك الا لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال انى سعد أى لا تأخذه فى الله لومة لائم* وفى الصفوة وسعد لا يرجع اليهم شيئا حتى اذا دنا من دورهم التفت اليهم وقال قد آن لى أن لا
أبالى فى الله لومة لائم* وفى الوفاء لقد آن لسعد أن لا تأخذه فى الله لومة لائم ولما سمعوا كلامه علموا انه سيحكم

(1/496)


بالقتل فرجع بعض من كان معه من قومه الى دار بنى عبد الاشهل فنعى لهم رجال بنى قريظة قبل أن يصل اليهم سعد من كلمته التى سمع منه* ولما انتهى سعد الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين قال قوموا الى سيدكم فأمّا المهاجرون من قريش فيقولون انما أراد الانصار وأمّا الانصار فيقولون قد عم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسلمين فقالوا اليه فقالوا يا أبا عمرو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ان الحكم فيهم ما حكمت قالوا نعم قال وعلى من هاهنا فى الناحية التى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اجلالا له فقال رسول الله نعم قال سعد فانى حكمت فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الاموال وتسبى الذرارى والنساء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة* الرقيع السماء سميت بذلك لانها رقعت بالنجوم* ووقع فى البخارى قال قضيت فيهم بحكم وربما قال بحكم الملك بكسر اللام* وفى رواية ابن صالح لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذى حكم به من فوق سبع سموات* وفى حديث جابر عند ابن عائذ فقال احكم فيهم يا سعد فقال الله والرسول أحق بالحكم قال قد أمرك الله أن تحكم فيهم* وفى هذه القصة جواز الاجتهاد فى زمنه صلّى الله عليه وسلم وهى مسئلة اختلف فيها أهل أصول الفقه والمختار الجواز سواء كان فى حضرته صلّى الله عليه وسلم أم لا وانصرف صلّى الله عليه وسلم يوم الخميس لسبع ليال كما قاله الدمياطى أو لخمس كما قاله مغلطاى خلون من ذى الحجة كذا فى المواهب اللدنية* وفى رواية وكان مما حكم به سعد أن تكون ديارهم للمهاجرين فلامه الانصار على ذلك قال أردت أن يكونوا مستغنين عن دياركم ثم أمر النبى صلّى الله عليه وسلم حتى ذهبوا برجال بنى قريظة الى المدينة مقرنين فى الاصفاد حتى يرى ضعفاء الاسلام قوّة الدين وعزة ملة سيد المرسلين فحبسوهم فى دارين بعضهم فى دار قلابة بنت الحارث امرأة من بنى النجار وبعضهم فى دار أسامة بن زيد ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى سوق المدينة التى هى سوقها اليوم فأمر فخندق فيها خنادق ثم بعث اليهم وجىء بهم أرسالا فضربت أعناقهم بحيث تهراق دماؤهم فى تلك الخنادق وفيهم عدوّ الله حيى بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة قاله ابن اسحاق وسبعمائة عند ابن عائذ* وقال السهيلى المكثر يقول كانوا ما بين ثمانمائة الى سبعمائة* وفى حديث جابر عند الترمذى والنسائى وابن حبان انهم كانوا أربعمائة مقاتل وقالوا لكعب بن أسدوهم يذهب بهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يا كعب ما تراه يصنع بنا قال أفى كل موطن لا تعقلون ألا ترون ان الداعى لا ينزع وان من ذهب به منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل كذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله وأتى بحيى بن أخطب وعليه حلة تفاحية وقد شققها عليه من كل جانب قطعة قطعة كموضع الانملة لئلا تسلب مجموعة يداه الى عنقه بحبل فلما نظر الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أما والله ما قصرت فى عداوتك* وفى الاكتفاء أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس انه لا بأس بأمر الله وتقديره كتاب الله وقدره ملحمة كتبت على بنى اسرائيل ثم جلس فضرب عنقه* وعن عائشة رضى الله عنها قالت لم يقتل من نساء بنى قريظة الا امرأة واحدة وانها كانت عندى تتحدّث معى وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقتل رجالهم فى السوق اذ هتف هاتف باسمها اين فلانة قالت أنا والله قلت لها ويلك مالك قالت أقتل قلت ولم ولا تقتل امرأة قالت لحدث أحدثته انى كنت زوجة رجل من بنى قريظة وكان بينى وبين زوجى كأشد ما يتحاب الزوجان فلما اشتدّ أمر المحاصرة قلت لزوجى يا حسرتى على أيام الوصال كادت أن تنقضى وتتبدل
بليالى

(1/497)


الفراق وما أصنع بالحياة بعدك قال زوجى والله لقد غلب علينا محمد سيقتل الرجال ويسبى النساء والذرارى فان كنت صادقة فى دعوى المحبة فتعالى فان جماعة من المسلمين جالسون فى ظل حصن الزبير بن باطا فألقى عليهم حجر الرحا لعله يصيب واحدا منهم فيقتله فان ظفروا بنا يقتلونك بذلك ففعلت كذلك فهربت تلك الجماعة وأصاب الحجر خلاد بن سويد فقتل فالآن يطلبوننى للقصاص فكانت عائشة تقول ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثرة ضحك وقد عرفت أنها تقتل* قال الواقدى وكان اسم تلك المرأة نباتة امرأة الحكم القرظى وكانت قتلت خلاد بن سويد رمت عليه رحا فدعا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضرب عنقها بخلاد بن سويد* وفى الوفاء واستشهد يوم بنى قريظة من المسلمين خلاد بن سويد من بنى الحارث بن الخزرج كما مرّ ومات فى الحصار أبو سنان بن محصن الاسدى أخو عكاشة بن محصن فدفنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى مقبرة بنى قريظة التى يدفن فيها المسلمون لما سكنوها اليوم واليه دفنوا أمواتهم فى الاسلام كذا قاله ابن اسحاق ولم يصب من المسلمين غير هذين* وروى محمد بن اسحاق عن الزهرى ان الزبير بن باطا القرظى وكان يكنى بأبى عبد الرحمن كان قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس فى الجاهلية يوم بعاث فأخذه فجر ناصيته ثم خلى سبيله فجاءه ثابت لما قتل بنو قريظة وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفنى قال وهل يجهل مثلى مثلك قال انى أريد أن أجزيك بيدك عندى قال ان الكريم يجزى الكريم قال ثم أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستوهبه فقال يا رسول الله قد كان للزبير عندى يد وله علىّ منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لى دمه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو لك فأتاه فقال له ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد وهب لى دمك قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال امرأته وولده يا رسول الله قال هما لك فأتاه فقال انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهب لى امرأتك وولدك قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ماله يا رسول الله قال هو لك فأتاه فقال ان رسول الله أعطانى مالك فقال أى ثابت ما فعل الذى كان وجهه مرآة مضيئة تتراآى فيها عذارى الحى كعب بن أسد قال قتل قال فما فعل سيد الحاضر والبادى حيى بن أخطب قال قتل قال فما فعل مقدّمتنا اذا شددنا وحاميتنا اذا فررنا عزال بن شموال قال قتل قال فما فعل المجليان يعنى كعب بن قريظة وبنى عمرو بن قريظة قال ذهبوا وقتلوا وكان يقول ما فعل فلان وفلان يذكر صناديد قومه ويصفهم ويقول ثابت قتلوا قال فانى أسئلك بيدى عندك يا ثابت الا الحقتنى بالقوم فو الله ما فى العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر قلبة دلو ناضح حتى ألقى الاحبة فقدّمه ثابت فضرب عنقه* فلما بلغ أبا بكر الصدّيق قوله ألقى الاحبة قال يلقاهم والله فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا* قال وكان علىّ والزبير يضربان أعناق بنى قريظة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس هناك وقد كان عليه السلام أمر بقتل من نبت شعر عانته منهم* وفى الاكتفاء أمر بقتل كل من أنبت منهم* قال عطية القرظى وكنت غلاما فوجدونى لم أنبت فخلوا سبيلى وكان رفاعة بن سموال القرظى رجلا قد بلغ فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت احدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد صلت الى القبلتين معه وبايعت بيعة النساء فقالت يا رسول الله بأبى أنت وأمى هب لى رفاعة فانه زعم انه سيصلى ويأكل لحم الجمل فوهبه لها فاستحيته* ولما فرغ من قتل بنى قريظة قسم نساءهم وأبناءهم على المسلمين وأعلم فى ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللرجال من ليس له فرس سهم وكانت الخيل يوم بنى قريظة ستة وثلاثين فرسا

(1/498)


وكان أموال بنى قريظة أوّل ما وقع فيها السهمان وأخرج منه الخمس فعلى سنتهما وما مضى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها وقعت المقاسم ومضت السنة فى المغازى واصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو القرظى وكانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى توفى عنها وهى فى ملكه وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يريد أن يتزوّجها ويضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول الله بل تتركنى فى ملكك فهو أخف علىّ وعليك فتركها وقد كانت حين سباها كرهت الاسلام وأبت الا اليهودية فاجتنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنها ووجد فى نفسه من أمرها كدورة فبينا هو مع أصحابه اذ سمع وقع نعلين خلفه فقال ان هذا ثعلبة بن شعبة يبشرنى باسلام ريحانة فجاء فقال يا رسول الله قد أسلمت ريحانة ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سعد بن زيد الانصارى أخا بنى عبد الاشهل بسبايا بنى قريظة الى نجد فاشترى له بها خيلا وسلاحا وفى رواية باع بعض بنى قريظة من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف*

وفاة سعد بن معاذ رضى الله عنه
ولما انقضى شأن بنى قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ وذلك دعاء سعد بعد أن حكم فى بنى قريظة ما حكم فقال اللهم انك قد علمت انه لم يكن قوم أحب الىّ أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقنى لها وان كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضنى اليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى خيمته التى ضربت عليه فى المسجد كذا فى المنتقى* وفى البخارى انه دعا فقال اللهم انك تعلم انه ليس أحد أحب الىّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك اللهم انى أظنّ انك قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتى فيها فانفجرت من ليلته وكان ضرب النبىّ صلّى الله عليه وسلم له خيمة فى المسجد ليعوده من قريب وفى المسجد خيمة من بنى غفار فلم يرعهم الا الدم يسيل عليهم فقالوا يا أهل الخيمة ما هذا الذى يأتينا من قبلكم فاذا سعد يعد وجرحه دم فمات منها شهيدا وقد بين سبب انفجار جرح سعد فى مرسل حميد بن هلال عند ابن سعد ولفظه انه مرّت به عنزة وهو مضطجع فأصاب ظلفها موضع الفجر فانفجرت حتى مات كذا فى المواهب اللدنية* وفى الاكتفاء ذكروا ان جبريل اتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قبض سعد من جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال يا محمد من هذا الميت الذى فتحت له أبواب السماء واهتزله العرش فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم سريعا يجرّ ثوبه الى سعد بن معاذ فوجده قد مات وفى الصحيحين اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ وكان سعد رجلا بادنا فلما حمله الناس وجدوا له خفة فقال رجال من المنافقين والله ان كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ان له حملة غيركم والذى نفس محمد بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتزله العرش ولسعد يقول رجل من الانصار
وما اهتز عرش الله من موت هالك ... سمعنا به الا لسعد أبى عمرو
وفى رواية لما مات سعد بن معاذ وكان رجلا جسيما جزلا جعل المنافقون وهم يمشون خلف سريره يقولون ما رأينا كاليوم رجلا أخف منه قال أتدرون لم ذاك لحكمه فى بنى قريظة فذكروا ذلك للنبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال والذى نفسى بيده لقد كانت الملائكة تحمل سريره وحضر جنازته سبعون ألف ملك وعن عائشة رضى الله عنها قالت فحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضى الله عنهم والذى نفس محمد بيده لا عرف بكاء عمر من بكاء أبى بكر وانى لفى حجرتى وكانوا كما قال الله تعالى رحماء بينهم* وفى رواية سأل الراوى كيف كان يصنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت كانت عنه لا تدمع لكبنه كان اذا وحد فانما يأخذ بلحيته وأخرج ابن سعد عن أبى سعيد الخدرى قال كنت فيمن حفر قبره فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق محمد بن المنكدر عن

(1/499)


محمد بن شرحبيل بن حسنة قال قبض انسان يومئذ بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها ثم نظر اليها بعد ذلك فاذا هى مسك فلما وضعوه فى قبره قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبحان الله سبحان الله حتى عرف ذلك فى وجهه فقال الحمد لله لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد ضمه ضمة ثم فرّج الله عنه كذا فى المواهب اللدنية* وفى الاكتفاء قال جابر بن عبد الله لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسبح الناس معه وكبر فكبر الناس معه فقالوا يا رسول الله لم سبحت قال لقد تضايق على هذا الرجل الصالح قبره حتى فرجه الله عنه ويروى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ان للقبر ضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ* وفى الصفوة سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل يكنى أبا عمرو وأمّه كبشة بنت رافع من المبايعات أسلم سعد على يد مصعب بن عمير فأسلم باسلامه بنو عبد الاشهل وهى أوّل دار أسلمت من الانصار وشهد بدرا وأحدا وثبت مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم يومئذ ورمى يوم الخندق ثم انفجر كلمه بعد ذلك فمات شهيدا فى شوّال سنة خمس من الهجرة وهو ابن سبع وثلاثين سنة وصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودفن بالبقيع* وعن البراء قال أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم بثوب حرير فجعلوا يتعجبون من حسنه ولينه فقال صلّى الله عليه وسلم لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة أفضل أو خير من هذا أخرجاه فى الصحيحين وقالت أمّ سعد حين احتمل نعشه وهى تبكيه
* ويل ام سعد سعدا* صرامة وحدا* وسوددا ومجدا* وفارسا معدّا* سدّ به مسدّا*
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كل نائحة تكذب الانائحة سعد بن معاذ*

قصة احياء أولاد جابر
وفى هذه السنة أو فى غيرها وقعت قصة أولاد جابر بن عبد الله الانصارى* فى شواهد النبوّة عن جابر بن عبد الله انه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الى القرى فأجابه النبىّ صلّى الله عليه وسلم ففرح جابر فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجلس وكان لجابر داجن فذبحه ليشويه وكان له ابنان فقال كبيرهما للصغير هلم أورك كيف ذبح أبى الحمل فأضجع الصغير وربط يديه ورجليه فذبحه وحز رأسه وجاء به الى أمه فلما رأته أمه دهشت وبكت فخاف الصبى وهرب على السطح فتبعته أمه فزاد خوفه فرمى نفسه من السطح فهلك فسكتت المرأة وأدخلت ابنيها البيت وغطتهما بمسح فى ناحية من البيت واشتغلت بطبخ الحمل وكانت تخفى الحزن وتظهر السرور ولم يعلم جابر ما وقع فلما تمّ الطبخ وقرب الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى جبريل وقال يا محمد ان الله يأمرك أن تأكل مع أولاد جابر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك لجابر فطلب جابر ابنيه فقالت امرأته انهما ليسا بحاضرين فأخبر جابر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ان الله يأمرك باحضارهما فرجع جابر الى امرأته وأخبرها بذلك فعند ذلك بكت المرأة وكشفت الغطاء عنهما فلما رآهما جابر تحير وبكى وأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزل جبريل وقال يا محمد ان الله يأمرك أن تدعو لهما ويقول منك الدعاء ومنا الاجابة والاحياء فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحييا باذن الله تعالى كذا فى شواهد النبوّة لكنها لم تشتهر اشتهارا* وفى المواهب اللدنية أخرج أبو نعيم ان جابرا ذبح شاة وطبخها وثرد فى جفنة وأتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأكل القوم وكان صلّى الله عليه وسلم يقول لهم كلوا ولا تكسروا عظما ثم انه عليه السلام جمع العظام ووضع يده عليها ثم تكلم بكلمات فاذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها*

تزوّج النبىّ صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش
وفى ذى القعدة من هذه السنة على ما فى المنتقى تزوّج صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بن ذئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كثير بن غنم بن ذوزان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر* وفى تاريخ اليافعى أورد تزوّجه زينب بنت جحش فى السنة الثالثة من الهجرة* وفى أسد الغابة لابن الاثير فى سنة خمس نزلت آية الحجاب

(1/500)


فى ذى القعدة وآية الحجاب نزلت فى قصة تزويج زينب فيكون تزويجها فى ذى القعدة* روى الدار قطنى ان زينب جحش كان اسمها برة بالفتح وكان اسم أبيها برة بالضم فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم لو كان أبوك مؤمنا لسميته باسم رجل منا ولكنى قد سميته جحشا كذا فى حياة الحيوان وأمّها أميمة بنت عبد المطلب وكانت زينب ممن هاجر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكانت امرأة جميلة بيضاء فيها حدة فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة وكان عبد الخديجة اشتراه لها حكيم بن حزام بن أخى خديجة بسوق عكاظ فى الجاهلية بأربعمائة دينار فلما تزوّجها النبىّ صلى الله عليه وسلم وهبته له فقبضه اليه فأعتقه وتبناه وكان يقال له زيد بن محمد وستجىء قصته فى سرية مؤتة من الموطن الثامن فلما خطب زينب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد ظنت انه يخطبها لنفسه فرضيت ولما علمت انه يخطبها لزيد أبت هى وأخوها عبد الله بن جحش وقالت أنا ابنة عمتك يا رسول الله أرادت انها ابنة أميمة بنت عبد المطلب فلا أرضاه لنفسى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انى قد رضيته لك فأنزل الله عز وجل وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم وقيل نزلت فى أم كلثوم بنت عتبة وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلم كذا فى أنوار التنزيل فلما نزلت الآية زضيت زينب وأخوها عبد الله بذلك وجعلت أمرها للنبىّ صلّى الله عليه وسلم فأنكحها صلّى الله عليه وسلم زيدا ودخل بها وساق لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا وازارا وملحفة وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر ومكثت عند زيد ما شاء الله ثم ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى بيت زيد يطلبه فلم يجده وأبصر زينب قائمة فى درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش فوقعت فى نفسه فأعجبه حسنها فقال سبحان الله مقلب القلوب وانصرف وسمعت زينب بالتسبيحة فلما جاء زيد ذكرتها لزيد ففطن زيد فألقى فى نفسه كراهيتها والرغبة عنها فى الوقت* وفى رواية فى وقت رآها فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال انى أريد أن أفارق صاحبتى فقال مالك أرابك منها شىء قال لا والله يا رسول الله ما رأيت منها الاخيرا ولكنها تتعاظم علىّ لشرفها وتؤذينى بلسانها فقال له صلّى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجك واتق الله فى أمرها ثم طلقها زيد وعن زينب قالت لما وقعت فى قلب النبىّ صلّى الله عليه وسلم لم يستطعنى زيد وما امتنعت منه غير ما يمنعه الله منى فلا يقدر علىّ* وعن أنس لما انقضت عدّة زينب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد ما أجد احدا أوثق فى نفسى منك اذهب فاذكرنى لها* وفى رواية اخطب علىّ زينب قال زيد فلما قال ذلك عظمت فى نفسى فذهبت اليها فجعلت ظهرى الى الباب فقلت يا زينب ابشرى فان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطبك* وفى رواية بعثنى يذكرك ففرحت بذلك وقالت ما أنا بصانعة شيئا* وفى رواية ما كنت لاحدث شيئا حتى أؤامر ربى عز وجل فقامت الى مسجد لها فصلت ركعتين وناجت ربها فقالت اللهم ان رسولك يخطبنى فان كنت أهلا له فزوّجنى منه فنزل القرآن وهو فلما قضى زيد منها وطرا زوّجناكها فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغير اذن* وفى رواية فانطلق زيد حتى أتاها وهى تخمر عجينها قال فلما رأيتها عظمت فى صدرى حتى لا استطيع أن أنظر اليها فقلت ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهرى ونكصت على عقبى فقلت يا زينب أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكرك* وفى رواية لما انقضت عدّتها قال له يا زيد ائت زينب فاخبرها ان الله سبحانه قد زوّجنيها فانطلق زيد واستفتح الباب فقالت من هذا قال زيد قالت وما حاجة زيد الىّ وقد طلقنى فقال أرسلنى رسول الله صلّى الله عليه
وسلم فقالت مرحبا برسول الله صلّى الله عليه وسلم ففتحت له فدخل عليها وهى تبكى فقال زيد لا أبكى الله عينك قد كنت نعمت المرأة

(1/501)


ان كنت لتبرين قسمى وتطيعين أمرى وتتبعين دعوتى فقد أبد لك الله خيرا منى قالت من هو قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخرّت ساجدة* وفى رواية ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان جالسا يتحدّث مع عائشة أخذته غشية فسرى عنه وهو يتبسم ويقول من يذهب الى زينب ويبشرها ان الله قد زوّجنيها من السماء وتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم واذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك القصة كلها قالت عائشة رضى الله عنها فأخذنى ما قرب وما بعد لما يبلغنى من جمالها وأخرى هى أعظم الامور وأشرفها ما صنع لها زوّجها الله من السماء وقلت هى تفتخر علينا بهذا فخرجت سلمى خادمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم تشتد فتحدّثها بذلك فاعطتها أوضاحا عليها كذا فى المنتقى قال وكانت زينب تفتخر على أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم تقول زوّجكنّ أهاليكنّ وزوّجنى الله عز وجل من فوق سبع سموات* وفى رواية قالت ان الله عز وجل انكحنى من السماء كذا فى الصفوة* وفى أنوار التنزيل ان الله تعالى تولى انكاحى وأنتن زوّجكنّ أولياؤكنّ وما أو لم على امرأة من نسائه أكثر وأفضل مما أو لم على زينب أو لم عليها بتمر وسويق وشاة ذبحها وأطعم الناس الخبز واللحم فأمر لنا أن ندعو الناس فترادفوا أفواجا يأكل فوج فيخرج ثم يدخل فوج حتى امتد النهار أطعمهم خبزا ولحما حتى تركوه فخرج الناس وبقى رجال جلوسا فى البيت يتحدّثون بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبث هنيهة ثم رجع والقوم جلوس فشق ذلك عليه وعرف فى وجهه ذلك فنزلت آية الحجاب فى قصة زينب* فى الصحيحين من حديث أنس وكذا فى المنتقى والوفاء قال أنس لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهنّ ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك قال أنس فما أدرى أنا أخبرته ان القوم قد خرجوا أو أخبرنى قال فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بينى وبينه ونزل الحجاب فمكثت زينب عند النبىّ صلّى الله عليه وسلم ست سنين والمشهور انها ماتت فى سنة عشرين من الهجرة بعد ما مضى من عمرها ثلاث وخمسون سنة وقيل ماتت سنة احدى وعشرين وهى أوّل من مات من أزواجه صلّى الله عليه وسلم بعده فلما أخبرت عائشة بموتها قالت ذهبت حميدة مفيدة فقيدة مفزع اليتامى والارامل ولما توفيت أمر عمر بن الخطاب بالنداء يا أهل المدينة احضروا جنازة أمكم وصلّى عليها عمر ودفنت بالبقيع ودخل قبرها اسامة بن زيد ومحمد بن عبد الله بن جحش ومحمد بن طلحة بن عبيد الله بن أختها مروياتها فى الكتب المتداولة أحد عشر حديثا المتفق عليه منها حديثان والتسعة الباقية فى سائر الكتب*

وقوع الزلزلة بالمدينة
وفى هذه السنة زلزلت المدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله عز وجل يستعتبكم فأعتبوه كذا فى أسد الغابة*

سقوطه صلّى الله عليه وسلم عن فرسه
وفى ربيع الاوّل أو فى ذى الحجة من هذه السنة سقط صلّى الله عليه وسلم عن فرسه فجحشت ساقه وجرحت فخذه اليمنى ولما رجع الى المدينة أقام فى البيت خمسا يصلى قاعدا* وفى رواية والاصحاب يقتدون به قياما فأمرهم بالجلوس وقال انما جعل الامام اماما ليؤتمّ به فاذا ركع فاركعوا واذا سجد فاسجدوا واذا جلس فاجلسوا لكن عند أكثر العلماء هذا الحديث منسوخ لانه صح أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم صلّى فى مرض موته جالسا والاصحاب اقتدوا به قياما والنبىّ صلّى الله عليه وسلم قرّره*

مسابقة الخيل
وفى هذه السنة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالسبق بين ما ضمر من الخيل وبين ما لم يضمر* عن عبد الله بن عمر أجرى النبىّ صلّى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل فأرسلها من الحفيا بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء يمدّ ويقصر وكان أمدها ثنية الوداع وهو خمسة أميال أو ستة أو سبعة وأجرى ما لم يضمر فأرسلها من ثنية الوداع وكان أمدها مسجد بنى زريق وهو ميل أو نحوه وكان ابن عمر ممن سابق فيها قال فوثب بى فرسى جدارا وعن أنس كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق أو لا تكاد تسبق فجاء اعرابى على قعود فسبقها فشق ذلك

(1/502)


على المسلمين حتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال حق على الله أن لا يرتفع شىء من الدنيا الا وضعه رواه البخارى*

نزول فرض الحج
وفى هذه السنة فرض الحج على القول الصحيح أى نزلت فريضة الحج فيها لكن أخره رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى السنة العاشرة من غير مانع فانه خرج فى السنة السابعة فى ذى القعدة لقضاء العمرة ولم يحج وفتح مكة فى رمضان السنة الثامنة ولم يحج وبعث أبا بكر أميرا على الحاج فى السنة التاسعة وحج صلّى الله عليه وسلم فى السنة العاشرة* وفى الوفاء قد اختلف فى وقت فرض الحج فقيل قبل الهجرة وهو غريب والمشهور بعدها وقيل سنة خمس وجزم به الرافعى فى موضع وكذا فى المنتقى قال فى سنة خمس وقيل فى ست وصححه الرافعى فى موضع آخر وكذا النووى وهو قول الجمهور وقيل فى سبع وقيل فى ثمان وكذا فى مناسك الكرمانى أيضا ورجحه جماعة من العلماء وقيل فى تسع وصححه عياض*

النهى عن ادخار لحوم الاضاحى
وفى هذه السنة دفت دافة العرب أى اجتمعت جموعها فنهى النبىّ صلى الله عليه وسلم عن ادّخار لحوم الاضاحى فوق ثلاث كذا فى الوفاء ثم رخص لهم فى الادّخار ما بدا لهم والله أعلم تم الى هنا انتهى الجزء الاوّل من تاريخ الخميس ويليه الجزء الثانى وأوّله (الموطن السادس) يسر الله حسن اتمامه بفضله وانعامه

(1/503)