دلائل النبوة للبيهقي محققا

بَابُ ذِكْرِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمَا فِي قِصَّتِهِ مِنْ تَنْزِيهِ [ (1) ] أَخِيهِ أُنَيْسٍ وَهُوَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَاعْتِرَافِهِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ مَا فِيهَا مِنِ اكْتِفَاءِ أَبِي ذَرٍّ ثَلَاثِينَ ليلة ويوم بِمَاءِ زَمْزَمَ عَنِ الطَّعَامِ حَتَّى سَمِنَ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ وأخبرنا أَبُو عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رجاء وعمران ابن مُوسَى قَالَا: حَدَّثَنَا [ (2) ] هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ:
«خَرَجْنَا عَنْ [ (3) ] قَوْمِنَا غِفَارٍ وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا ذِي مَالٍ وَذِي هَيْئَةٍ، فَأَكْرَمَنَا خَالُنَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا، فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ، قَالَ: فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا عَلَيْنَا [ (4) ] مَا قِيلَ لَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ، وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ، قَالَ: فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا [ (5) ] فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ فَجَعَلَ يَبْكِي، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا بحضرة
__________
[ (1) ] في (ح) «تبرئة» .
[ (2) ] في (ح) : «قال: أنبأنا» .
[ (3) ] في (ح) : «عن» .
[ (4) ] «فنثا علينا» أي: أشاعه وأفشاه.
[ (5) ] «فقرّبنا صرمتنا» : الصرمة هي القطعة من الإبل، وتطلق أيضا على القطعة من الغنم.

(2/208)


مَكَّةَ، قَالَ: فَنَافَرَ [ (6) ] أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا، فَأَتَيْنَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا، فَأَتَانَا بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا [ (7) ] .
قَالَ: وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا ابْنَ أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَقُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ. قُلْتُ فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يوَجِّهُنِي اللهُ، أُصَلِّي عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ [ (8) ]- فِي حَدِيثِ الْمُقْرِئِ يَعْنِي الثَّوْبَ- حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ، قَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي حَتَّى آتِيَكَ، فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَرَاثَ [ (9) ] عَلَيَّ ثُمَّ أَتَانِي، فَقُلْتُ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ. قَالَ: قُلْتُ مَا يَقُولُ النَّاسُ؟
قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّهُ لَشَاعِرٌ، وَسَاحِرٌ، وَكَاهِنٌ قَالَ: وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ، قَالَ:
فَقَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ وَقَالَ غَيْرُهُ عَلَى أَقْرَاءِ [ (10) ] الشِّعْرِ فو الله مَا يَلْتَئِمُ، عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي، إِنَّهُ شِعْرٌ، وو الله إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
قَالَ قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ كَافِينِي حَتَّى أَنْطَلِقَ فَأَنْظُرَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا لَهُ وَتَجَهَّمُوا، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى قدمت مكة
__________
[ (6) ] فنافر: من المنافرة وهي المفاخرة والمحاكمة، فيفخر كل واحد من الرجلين على الآخر ثم يتحاكما إلى رجل ليحكم أيهما خير وأعز نفرا، وكانت هذه المفاخرة في الشعر: أيهما أشعر.
[ (7) ] (عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا) معناه تراهن هو وآخر: أيهما أفضل، وكان الرهن صرمة ذا وصرمة ذاك، فأيهما كان أفضل أخذ الصرمتين، فتحاكما إلى الكاهن، فحكم بأن أنيسا أفضل، وهو معنى قوله:
فخيّر أنيسا، أي: جعله الخيار والأفضل.
[ (8) ] في (ح) : «كأني جفاء» ، ومعنى «خفاء» : هو الكساء، وجمع أخفية. ككساء وأكسية.
[ (9) ] أي: أبطأ.
[ (10) ] (أقراء الشعر) أي طرقه وأنواعه.

(2/209)


فَتَضَعَّفْتُ [ (11) ] رَجُلًا مِنْهُمْ فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ [ (12) ] : الصَّابِئُ قَالَ:
فَأَشَارَ إِلَى الصابي [ (13) ] . قَالَ فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، قَالَ: فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعَتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ، فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وَغَسَلَتُ عَنِّي الدَّمَ، فَدَخَلْتُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَا ابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَالِي طَعَامٌ إِلَّا ماء زمزم، فسمنت حتى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي [ (14) ] وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ [ (15) ] قَالَ فَبَيْنَمَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ [ (16) ] إِضْحِيَانٍ [ (17) ] قَدْ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَصْمِخَةِ [ (18) ] أَهْلِ مَكَّةَ، فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرُ امْرَأَتَيْنِ فَأَتَتَا عَلَيَّ وَهُمَا يَدْعُوَانِ إِسَافًا ونَائِلَةَ، قَالَ: فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي طَوَافِهِمَا فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْأُخْرَى، قَالَ فَمَا تَنَاهَيَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا، وَقَالَ غَيْرُهُ فَمَا ثَنَاهُمَا ذَلِكَ عَمَّا قَالَا قَالَ: فَأَتَيَا عَلَيَّ فَقُلْتُ: هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَةِ [ (19) ] غَيْرَ أَنِّي لَا أُكَنِّي، فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ [ (20) ] وَتَقُولَانِ:
__________
[ (11) ] يعني: نظرت إلى أضعفهم فسألته، لأن الضعيف مأمون الفائلة.
[ (12) ] في (ح) : «يدعونه» .
[ (13) ] (الصابئ) : منصوب على الإغراء، أي: انظروا وخذوا هذا الصابئ.
[ (14) ] (عكن بطني) جمع عكنة، وهو الطيّ في البطن من السمن، معنى تكسرت: أي انثنت وانطوت طاقات لحم بطنه.
[ (15) ] سخفة: بفتح السين وضمها: هي رقة الجوع وضعفه وهزاله.
[ (16) ] (قمراء) مقمرة.
[ (17) ] (أضحيان) : أي مضيئة، منوّرة.
[ (18) ] أصمخة، ويقال: أسمخة: المراد هنا: الآذان، أي ناموا. قال تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي: أنمناهم.
[ (19) ] (هن مثل الخشبة) الهن، والهنة بتخفيف نونهما، هو كناية عن كل شيء، وأكثر ما يستعمل كناية عن الفرج والذكر، فقال لهما: أو مثل الخشبة في الفرج، وأراد بذلك: سب إساف ونائلة وغيظ الكفار بذلك.
[ (20) ] (الولولة) الدعاء بالويل.

(2/210)


لو كان ها هنا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا.
قَالَ فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا هَابِطَانِ مِنَ الْجَبَلِ، فَقَالَا لَهُمَا: مَا لَكُمَا؟ قَالَتْا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، قَالَ: مَا قَالَ لَكُمَا؟ قَالَتَا: قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلَأُ الْفَمَ [ (21) ] .
فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ هُوَ وَصَاحِبُهُ فَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ، ثُمَّ صَلَّى، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَأَتَيْتُهُ فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ.
ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ، قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبِينِهِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي [كَرِهَ] أَنِ انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ، قَالَ: فَأَهْوَيْتُ لِآخُذَ بِيَدِهِ فَقَدَعَنِي [ (22) ] صَاحِبُهُ وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ متى كنت هاهنا؟
قلت قد كنت هاهنا منذ ثلاثين ليلة ويوم قَالَ: فَمَنَ كَانَ يُطْعِمُكَ؟ قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ! ائْذَنْ لِي فِي إِطْعَامِهِ اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَ فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا حَتَّى فَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ فَكَانَ ذَاكَ أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا، قَالَ: فَغَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ [ (23) ] ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: إِنِّي قَدْ وُجِّهْتُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ [ (24) ] لَا أَحْسَبُهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ ينفعهم
__________
[ (21) ] تملأ الضم أي عظيمة لا شيء أقبح منها.
[ (22) ] (قد عني) كفّني.
[ (23) ] (غبرت ما غبرت) : أي بقيت ما بقيت.
[ (24) ] (وجّهت لي أرض) أي: أريت جهتها.

(2/211)


بِكَ، وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ أَخِي أُنَيْسًا فَقَالَ لِي: مَا صَنَعْتَ؟
قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: فَمَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكِ [ (25) ] فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، ثُمَّ أَتَيْنَا أُمَّنَا، فَقَالَتْ مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: ثُمَّ احْتَمَلْنَا حَتَّى أتينا قومنا غفار فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، قَالَ: وَكَانَ سَيِّدَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَقَالَ بَقِيَّتُهُمْ إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أَسْلَمْنَا.
قَالَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ بَقِيَّتُهُمْ وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ إِخْوَانُنَا، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَأَسْلَمُوا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ:
غِفَارٌ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ [ (26) ] عَنْ هَدَّابِ بْنِ خَالِدٍ.
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الرُّومِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ مَلَكِ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: «كُنْتُ رُبُعَ [ (27) ] الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَأَنَا الرَّابِعُ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَقُلْتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَرَأَيْتُ الِاسْتِبْشَارَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلّم» . [ (28) ]
__________
[ (25) ] أي: لا أكرهه، بل أدخل فيه.
[ (26) ] أخرجه مسلم في صحيحه، فِي: 44- كِتَابِ الْفَضَائِلِ (28) بَابُ من فضائل أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللهُ عنه- حديث رقم (132) ، ص (1919) ، وأخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (5: 174) .
[ (27) ] في (ح) : «رابع» .
[ (28) ] أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3: 341- 342) .، والهيثمي في مجمع الزوائد (9:
327) .

(2/212)


بَابُ ذِكْرِ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ وَعْظِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ. إِيَّاهُ حَتَّى أَلْقَى الله عَزَّ وَجَلَّ فِي نَفْسِهِ الْإِيمَانَ بِمَا قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ حَدَّثَنِي رجل من أَسْلَمَ وَكَانَ وَاعِيَةً «أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عِنْدَ الصَّفَا فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ وَنَالَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْعَيْبِ لِدِينِهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ. رَفَعَ الْقَوْسَ، فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً شَجَّهُ مِنْهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ مِنْهُ، فَقَالُوا: مَا نَرَاكَ يَا حَمْزَةُ إِلَّا قَدْ صَبَأْتَ، فَقَالَ حَمْزَةُ وَمَا يَمْنَعُنِي وَقَدِ اسْتَبَانَ لِي مِنْهُ. أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُ حَقٌّ، فو الله لَا أَنْزِعُ فَامْنَعُونِي إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ فَإِنِّي وَاللهِ لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا [ (1) ] .
فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ فَكَفُّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مِنْهُ وَقَالَ حَمْزَةُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا [ (2) ] . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ
__________
[ (1) ] قصة إسلام حَمْزَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي سيرة ابن هشام (1: 312) ، والبداية والنهاية (3: 33) .
وغيرها.
[ (2) ] ذكر السهيلي في الروض الأنف قطعة له هي:
حمدت الله حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدين الحنيف

(2/213)


رَجَعَ حَمْزَةُ إِلَى بَيْتِهِ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ اتَّبَعْتَ هَذَا الصَّابِئَ وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ، لَلْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا صَنَعْتَ، فَأَقْبَلَ عَلَى حَمْزَةَ بثه وقال: مَا صَنَعْتُ؟ اللهُمَّ إِنْ كَانَ رُشْدًا فَاجْعَلْ تَصْدِيقَهُ فِي قَلْبِي، وَإِلَّا فَاجْعَلْ لِي مِمَّا وَقَعَتُ فِيهِ مَخْرَجًا. فَبَاتَ بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِتْ بِمِثْلِهَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ حَتَّى أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي! إِنِّي قَدْ وَقَعْتُ فِي أَمْرٍ لَا أَعْرِفُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ وَإِقَامَةُ مِثْلِي عَلَى مَا لَا أَدْرِي مَا هُوَ أَرُشْدٌ هُوَ أَمْ غَيٌّ شَدِيدٌ، فَحَدِّثْنِي حَدِيثًا فَقَدِ اشْتَهَيْتُ يَا ابْنَ أَخِي أَنْ تُحَدِّثَنِي.
فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَذَكَّرَهُ، وَوَعَظَهُ، وَخَوَّفَهُ، وَبَشَّرَهُ، فَأَلْقَى اللهُ فِي نَفْسِهِ الْإِيمَانَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الصَّادِقُ شَهَادَةَ الصِّدْقِ.
فَأَظْهِرْ يَا ابْنَ أَخِي دِينَكَ، فو الله مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مَا أَظَلَّتِ السَّمَاءُ وَأَنِّي عَلَى دِينِيَ الْأَوَّلِ، فَكَانَ حَمْزَةُ [رَضِيَ اللهُ عَنْهُ] [ (3) ] مِمَّنْ أَعَزَّ اللهُ [عَزَّ وَجَلَّ] [ (4) ] بِهِ الدين» .
__________
[ () ]
لدين جاء من ربّ عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا ... تحدّر دمع ذي اللّب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها ... بآيات مبيّنة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغسوه بالقول الضعيف
فلا والله نسلمه لقوم ... ولمّا نقض فيهم بالسيوف
ونترك منهم قتلى بقاع ... عليها الطير كالورد العكوف
وقد خبرت ما صنعت ثقيف ... به فجزى القبائل من ثقيف
إله الناس شرّ جزاء قوم ... ولا أسقاهم صوب الخريف
[ (3) ] ليست في م.
[ (4) ] الزيادة من (م) .

(2/214)