سيرة ابن
هشام ت السقا حَدِيثُ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَحُكْمُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي
وَضْعِ الْحَجَرِ
(سَبَبُ بُنْيَانِ قُرَيْشٍ لِلْكَعْبَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ
لِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ [7] ، وَكَانُوا يُهِمُّونَ بِذَلِكَ
لِيُسَقِّفُوهَا وَيَهَابُونَ هَدْمَهَا
__________
[1] تموج: تضطرب.
[2] الفلوج: الظُّهُور على الْخصم والعدو.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَكْثَرهم» .
[4] عجت: ارْتَفَعت أصواتها.
[5] العروج: الصعُود والعلو.
[6] المتلفة: الْمهْلكَة. والحروج: الْكَثِيرَة التَّصَرُّف.
ولورقة فِي هَذَا الْمَعْنى شعر ذكره السهيليّ، وَذكر أَنه من رِوَايَة
يُونُس عَن ابْن إِسْحَاق، مِنْهُ:
أتبكر أم أَنْت العشية رائح ... وَفِي الصَّدْر من إضمارك الْحزن قَادِح
[7] بنيت الْكَعْبَة خمس مَرَّات. الأولى حِين بناها شِيث بن آدم.
وَالثَّانيَِة حِين بناها إِبْرَاهِيم. وَالثَّالِثَة حِين بنتهَا قُرَيْش
هَذِه الْمرة، وَكَانَ ذَلِك قبل الْإِسْلَام بِخمْس سِنِين. وَالرَّابِعَة
حِين احترقت فِي عهد ابْن الزبير
(1/192)
وَإِنَّمَا كَانَتْ رَضْمًا [1] فَوْقَ
الْقَامَةِ، فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا [2] ، وَذَلِكَ أَنَّ
نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزًا لِلْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِي
بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ الَّذِي وُجِدَ عِنْدَهُ الْكَنْزُ
دُوَيْكًا [3] مَوْلًى لِبَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرِو مِنْ خُزَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَقَطَعَتْ قُرَيْشٌ يَدَهُ. وَتُزْعِمُ قُرَيْشٌ
أَنَّ الَّذِينَ سَرَقُوهُ وَضَعُوهُ عِنْدَ دُوَيْكٍ. وَكَانَ الْبَحْرُ
قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إلَى جُدَّةَ لِرَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ الرُّومِ،
فَتَحَطَّمَتْ، فَأَخَذُوا خَشَبَهَا، فَأَعَدُّوهُ لِتَسْقِيفِهَا،
وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ [4] قِبْطِيٌّ نَجَّارٌ، فَتَهَيَّأَ لَهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ بَعْضُ مَا يُصْلِحُهَا. وَكَانَتْ حَيَّةً تَخْرَجُ مِنْ
بِئْرِ الْكَعْبَةِ الَّتِي كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا مَا يُهْدَى لَهَا كُلَّ
يَوْمٍ، فَتَتَشَرَّقُ [5] عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ مِمَّا
يَهَابُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إلَّا
احْزَأَلَّتْ وَكَشَّتْ [6] وَفَتَحَتْ فَاهَا، وَكَانُوا يَهَابُونَهَا.
فَبَيْنَا هِيَ ذَاتُ يَوْمٍ تَتَشَرَّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، كَمَا
كَانَتْ تَصْنَعُ، بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا،
فَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ
قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا، عِنْدَنَا عَامِلٌ رَفِيقٌ، وَعِنْدَنَا
خَشَبٌ، وَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ الْحَيَّةَ.
__________
[ () ] فَلَمَّا قَامَ عبد الْملك بن مَرْوَان هدمها، لِأَنَّهُ لم يعجب
بِمَا فعل ابْن الزبير فِي بنائها، وبناه على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي عهد
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأما الْمَسْجِد الْحَرَام فَأول من بناه عمر بن الْخطاب، ثمَّ زَاد فِيهِ
عُثْمَان، ثمَّ زَاد ابْن الزبير فِي إتقانه لَا فِي سعته، ثمَّ زَاد عبد
الْملك بن مَرْوَان فِي ارْتِفَاع الْمَسْجِد. (رَاجع تَارِيخ مَكَّة
للأزرقى، وَالرَّوْض، وَشرح الْمَوَاهِب) .
[1] الرضم أَن تنضد الْحِجَارَة بَعْضهَا على بعض من غير ملاط.
[2] وَقيل إِن الّذي حمل قُريْشًا على بنائها أَن السَّيْل أَتَى من فَوق
الرَّدْم الّذي بِأَعْلَى مَكَّة فأضربه، فخافوا أَن يدخلهَا المَاء. وَقيل
بل كَانَ الّذي حملهمْ على هَذَا احتراقها وَذَلِكَ أَن امْرَأَة أجمرت
الْكَعْبَة فطارت شرارة فِي ثِيَابهَا فأحرقتها. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[3] قد تقدم أَن سَارِقا سرق من مَالهَا فِي زمن جرهم، وَأَنه دخل الْبِئْر
الَّتِي فِيهَا كنزها، فَسقط عَلَيْهِ حجر، فحبسه فِيهَا حَتَّى خرج
مِنْهَا وانتزع المَال مِنْهُ، ثمَّ بعث الله حَيَّة لَهَا رَأس كرأس
الجدي، إِلَى آخر مَا جَاءَ فِي الْخَبَر هُنَاكَ.
وَقد نبهنا على ذَلِك هُنَا ليجتمع بَين يَدي الْقَارئ مَا قيل فِي
الْخَبَر الْوَاحِد مِمَّا يباين بعضه بَعْضًا، مِمَّا ذكر غير مُتَّصِل
فِي الْكتاب.
[4] وَكَانَ اسْم ذَلِك الرجل: باقوم، وَقيل: باقول. (رَاجع الْإِصَابَة،
وَشرح الْمَوَاهِب، وَالرَّوْض) .
[5] تتشرق: تبرز للشمس. وَيُقَال: تشرقت: إِذا قعدت للشمس لَا يحجبك
عَنْهَا شَيْء.
[6] احزألت: رفعت رَأسهَا. وكشت: صوتت باحتكاك بعض جلدهَا بِبَعْض.
13- سيرة ابْن هِشَام- 1
(1/193)
(مَا حَدَثَ لِأَبِي وَهْبٍ عِنْدَ بِنَاءِ
قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ) :
فَلَمَّا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ فِي هَدْمِهَا وَبِنَائِهَا، قَامَ أَبُو
وَهْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ
مَخْزُومٍ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ-
فَتَنَاوَلَ مِنْ الْكَعْبَةَ حَجَرًا، فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ، حَتَّى
رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا تُدْخِلُوا
فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إلَّا طَيِّبًا، لَا يَدْخُلُ فِيهَا
مَهْرُ بِغَيٍّ، وَلَا بَيْعُ رِبًا، وَلَا مُظْلَمَةُ أَحَدٍ مِنْ
النَّاسِ [1] . وَالنَّاسُ يَنْحُلُونَ هَذَا الْكَلَامَ الْوَلِيدَ بْنَ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ أَنَّهُ حُدِّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ
بْنِ أُمِّيَّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ
عَمْرِو ابْن هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ:
أَنَّهُ رَأَى ابْنًا لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ
عَمْرِو يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ: هَذَا ابْنٌ
لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ:
عِنْدَ ذَلِكَ جَدُّ هَذَا، يَعْنِي أَبَا وَهْبٍ، الَّذِي أَخَذَ حَجَرًا
مِنْ الْكَعْبَةِ حَيْنَ أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ لِهَدْمِهَا فَوَثَبَ مِنْ
يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إلَّا
طَيِّبًا، لَا تُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بِغَيٍّ، وَلَا بَيْعَ رِبًا،
وَلَا مُظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ.
(قَرَابَةُ أَبِي وَهْبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو وَهْبٍ خَالُ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ شَرِيفًا، وَلَهُ يَقُولُ شَاعِرٌ مِنْ
الْعَرَبِ:
وَلَوْ بِأَبِي وَهْبٍ أَنَخْتُ مَطِيَّتِي ... غَدَتْ مِنْ نَدَاهُ
رَحْلُهَا غَيْرَ خَائِبٍ
بِأَبْيَضَ مِنْ فَرْعَيْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا حُصِّلَتْ
أَنْسَابُهَا فِي الذَّوَائِبِ [2]
أَبِيٍّ لِأَخْذِ الضَّيْمِ يَرْتَاحُ لِلنَّدَى ... تَوَسَّطَ جَدَّاهُ
فُرُوعَ الْأَطَايِبِ
__________
[1] وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: لَا تجْعَلُوا فِي نَفَقَة هَذَا الْبَيْت
شَيْئا أصبتموه غصبا، وَلَا قطعْتُمْ فِيهِ رحما، وَلَا انتهكتم فِيهِ
ذمَّة أحد بَيْنكُم وَبَين أحد من النَّاس.
[2] الذوائب: الأعالي، وَأَرَادَ بهَا الْأَنْسَاب الْكَرِيمَة.
(1/194)
عَظِيمِ رَمَادِ الْقِدْرِ يَمَلَّا
جِفَانَهُ ... مِنْ الْخُبْزِ يَعْلُوهُنَّ مِثْلُ السَّبَائِبِ [1]
(تَجْزِئَةُ الْكَعْبَةِ بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَنَصِيبُ كُلِّ فَرِيقٍ
مِنْهَا) :
ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا جَزَّأَتْ [2] الْكَعْبَةَ، فَكَانَ شِقُّ [3]
الْبَابِ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَزُهْرَةَ، وَكَانَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ
الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِي لِبَنِي مَخْزُومٍ، وَقَبَائِلُ مِنْ
قُرَيْشٍ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ، وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ
وَسَهْمٍ، ابْنَيْ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ،
وَكَانَ شِقُّ الْحَجَرِ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَلِبَنِي
أَسَدِ بْنِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَلِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيٍّ، وَهُوَ الْحَطِيمُ [4] .
(الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَهَدْمُ الْكَعْبَةِ، وَمَا وَجَدُوهُ
تَحْتَ الْهَدْمِ) :
ثُمَّ إنَّ النَّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا وَفَرِقُوا مِنْهُ، فَقَالَ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا، فَأَخَذَ
الْمِعْوَلَ، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهمّ لَمْ تُرَعْ
[5]- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: لَمْ نَزِغْ [6]- اللَّهمّ إنَّا لَا
نُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ. ثُمَّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنَيْنِ،
فَتَرَبَّصَ النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَقَالُوا: نَنْظُرُ، فَإِنْ
أُصِيبَ لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ،
وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ صُنْعَنَا،
فَهَدَمْنَا.
فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ، فَهَدَمَ
وَهَدَمَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إذَا انْتَهَى الْهَدْمُ بِهِمْ إلَى
الْأَسَاسِ، أَسَاسِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَفْضَوْا إلَى
حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَالْأَسْنِمَةِ [7] آخِذٌ بَعْضُهَا بَعْضًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ: أَنَّ
رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ،
__________
[1] السبائب: جمع سبيبة: وَهِي ثِيَاب رقاق بيض، فَشبه الشَّحْم الّذي
يَعْلُو الجفان بهَا.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تجزأت» . أَي تقسمتها بَيتهمْ.
[3] الشق: النَّاحِيَة والجانب.
[4] قيل: سمى حطيما، لِأَن النَّاس يزدحمون فِيهِ حَتَّى يحطم بَعضهم
بَعْضًا، وَقيل بل لِأَن الثِّيَاب كَانَت تجرد فِيهِ عِنْد الطّواف. (عَن
شرح السِّيرَة لأبى ذَر) .
[5] لم ترع: لم تفزع. وَالضَّمِير فِيهَا يعود على الْكَعْبَة.
[6] لم نَزغ: أَي لم نمل عَن دينك وَلَا خرجنَا عَنهُ، يُقَال: زاغ عَن
كَذَا، إِذا خرج عَنهُ.
[7] الأسنمة: جمع سَنَام، وَهُوَ أَعلَى الظّهْر، وَأَرَادَ أَن
الْحِجَارَة دخل بَعْضهَا فِي بعض كَمَا تدخل عِظَام السنام بَعْضهَا فِي
بعض، فشبهها بهَا.
وتروى: «كالأسنة» . وَهِي جمع: سِنَان. شبهها بأسنة الرماح فِي الخضرة.
(1/195)
مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا، أَدْخَلَ
عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنْهَا لِيُقْلِعَ بِهَا أَحَدَهُمَا،
فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْحَجَرُ تَنَقَّضَتْ [1] مَكَّةُ بِأَسْرِهَا،
فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الْأَسَاسِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرُّكْنِ
كِتَابًا بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ حَتَّى قَرَأَهُ
لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَإِذَا هُوَ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ [2]
، خَلَقْتهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَصَوَّرْتُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ، لَا
تَزُولُ حَتَّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا [3] ، مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي
الْمَاءِ وَاللَّبَنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَخْشَبَاهَا: جَبَلَاهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي الْمَقَامِ
كِتَابًا فِيهِ: مَكَّةُ بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامِ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا
مِنْ ثَلَاثَةِ سُبُلٍ، لَا يُحِلُّهَا أَوَّلُ مِنْ أَهْلِهَا [4] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ أَنَّهُمْ
وَجَدُوا حَجَرًا فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، إنْ كَانَ مَا ذَكَرَ حَقًّا،
مَكْتُوبًا فِيهِ:
مَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا يَحْصُدْ غِبْطَةً، وَمَنْ يَزْرَعْ شَرًّا يَحْصُدْ
نَدَامَةً. تَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، وَتُجْزَوْنَ الْحَسَنَاتِ! أَجَلْ،
كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنْ الشَّوْكِ الْعِنَبُ.
(اخْتِلَافُ قُرَيْشٍ فِيمَنْ يَضَعُ الْحَجَرَ وَلُعْقَةَ الدَّمِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتْ
الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا، كُلُّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ
بَنَوْهَا، حَتَّى بَلَغَ الْبُنْيَانِ مَوْضِعَ الرُّكْنِ [5] ،
فَاخْتَصَمُوا فِيهِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى
مَوْضِعِهِ دُونَ الْأُخْرَى، حَتَّى تَحَاوَزُوا [6] وَتَحَالَفُوا،
وَأَعَدُّوا لِلْقِتَالِ، فَقَرَّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً
مَمْلُوءَةً دَمًا، ثُمَّ تَعَاقَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيِّ
__________
[1] تنقضت: اهتزت.
[2] فِي أ: «ذُو مَكَّة» .
[3] الأخشبان: جبلان بِمَكَّة.
[4] يُرِيد لَا يحلهَا ابْتِدَاء بعض أَهلهَا. وَفِي ذَلِك إِشَارَة إِلَى
مَا كَانَ من استحلال قُرَيْش الْقِتَال فِيهَا أَيَّام ابْن الزبير وحصين
بن نمير، ثمَّ الْحجَّاج بعده، وَلذَلِك قَالَ ابْن أَبى ربيعَة:
أَلا من لقلب معنى غزل ... يحب الْمحلة أُخْت الْمحل
يعْنى بِالْمحل: عبد الله بن الزبير لقتاله فِي الْحرم. (رَاجع الرَّوْض
الْأنف) .
[5] يُرِيد بالركن: الْحجر الْأسود. وسمى ركنا، لِأَنَّهُ مبْنى فِي
الرُّكْن.
[6] كَذَا فِي أ. وتحاوزوا: انْحَازَتْ كل قَبيلَة إِلَى جِهَة. وَفِي
سَائِر الْأُصُول: «تحاوروا» بالراء الْمُهْملَة.
(1/196)
ابْن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ عَلَى الْمَوْتِ،
وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدَّمِ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ،
فَسُمُّوا لَعَقَّةَ الدَّمِ. فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ
لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا، ثُمَّ إنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ،
وَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا.
(إشَارَةُ أَبِي أُمِّيَّةَ بِتَحْكِيمِ أَوَّلِ دَاخِلٍ فَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَزَعَمَ بَعْضُ أهل الرِّوَايَة: أَن أَبَا أُمِّيَّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ
[1] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُوم، وَكَانَ عامئذ أَسَنَّ
قُرَيْشٍ كُلِّهَا، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ
فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ [2] هَذَا
الْمَسْجِدِ يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ، فَفَعَلُوا. فَكَانَ أَوَّلَ
دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا:
هَذَا الْأَمِينُ، رَضِينَا، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَيْهِمْ
وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلُمَّ
إلَيَّ ثَوْبًا، فَأُتِيَ بِهِ، فَأَخَذَ الرُّكْنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ
بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:
لِتَأْخُذَ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ [3] مِنْ الثَّوْبِ، ثُمَّ
ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَفَعَلُوا: حَتَّى إذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ،
وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ، ثُمَّ بَنَى [4] عَلَيْهِ.
__________
[1] ويروى أَن المشير على قُرَيْش مهشم بن الْمُغيرَة، ويكنى أَبَا
حُذَيْفَة.
[2] هُوَ بَاب بنى شيبَة، وَكَانَ يُقَال لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة: بَاب
بنى عبد شمس، وَيُقَال لَهُ الْآن: بَاب السَّلَام وَفِي رِوَايَة: أول من
يدْخل بَاب الصَّفَا.
[3] أَي بِنَاحِيَة من زواياه. وَلما فعلوا كَانَ فِي ربع عبد منَاف عتبَة
بن ربيعَة، وَكَانَ فِي الرّبع الثَّانِي زَمعَة، وَفِي الثَّالِث أَبُو
حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة، وَفِي الرَّابِع قيس بن عدي. وَقد تمّ بِنَاء
الْكَعْبَة قبل الْهِجْرَة بثمان عشرَة سنة، بعد أَن حلت كلمة الْوِفَاق
مَحل الشقاق، ورضى الْكل بِحكمِهِ صلوَات الله عَلَيْهِ. وَإِلَى قَضِيَّة
التَّحْكِيم يُشِير قَول هُبَيْرَة بن أَبى وهب المَخْزُومِي:
تشاجرت الْأَحْيَاء فِي فصل خطة ... جرت بَينهم بالنحس من بعد أسعد
تلاقوا بهَا بالبغض بعد مَوَدَّة ... وأوقد نَارا بَينهم شَرّ موقد
فَلَمَّا رَأينَا الْأَمر قد جد جده ... وَلم يبْق شَيْء غير سل المهند
رَضِينَا وَقُلْنَا الْعدْل أول طالع ... يَجِيء من الْبَطْحَاء من غير
موعد
ففاجأنا هَذَا الْأمين مُحَمَّد ... فَقُلْنَا رَضِينَا بالأمين مُحَمَّد
[4] وَأما وضع الرُّكْن حِين بنيت الْكَعْبَة فِي أَيَّام ابْن الزبير، فقد
وَضعه فِي الْموضع الّذي هُوَ فِيهِ الْآن حَمْزَة بن عبد الله بن الزبير،
وَأَبوهُ يصلى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِد، اغتنم شغل النَّاس عَنهُ
بِالصَّلَاةِ لما أحس مِنْهُم التنافس فِي ذَلِك وَخَافَ الْخلاف، فأقره
أَبوهُ. رَاجع (الرَّوْض الْأنف) .
(1/197)
(شِعْرُ الزَّبِيرِ فِي الْحَيَّةِ الَّتِي
كَانَتْ قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا) :
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تسمّى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قبل أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي: الْأمين. فَلَمَّا فرغوا من الْبُنيان،
وبنوها على مَا أَرَادوا، قَالَ الزّبير بن عبد الْمطلب، فِيمَا كَانَ من
أَمر الحيّة الَّتِي كَانَت قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا:
عَجِبْتُ لِمَا تَصَوَّبَتْ الْعُقَابُ ... إلَى الثُّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا
اضْطِرَابُ
وَقَدْ كَانَتْ يَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ ... وَأَحْيَانًا يَكُونُ لَهَا
وِثَابُ [1]
إذَا قُمْنَا إلَى التَّأْسِيسِ شَدَّتْ ... تُهَيِّبُنَا الْبِنَاءَ
وَقَدْ تُهَابُ
فَلَمَّا أَنَّ خَشِينَا الرِّجْزَ [2] جَاءَتْ ... عُقَابٌ تَتْلَئِبُّ
[3] لَهَا انْصِبَابُ
فَضَمَّتْهَا إلَيْهَا ثُمَّ خَلَّتْ ... لَنَا الْبُنْيَانَ لَيْسَ لَهُ
حِجَابُ
فَقُمْنَا حَاشِدِينَ إلَى بِنَاءٍ ... لَنَا مِنْهُ الْقَوَاعِدُ
وَالتُّرَابُ
غَدَاةَ نَرْفَعُ التَّأْسِيسَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ عَلَى مُسَوِّينَا [4]
ثِيَابُ [5]
أَعَزَّ بِهِ الْمَلِيكُ بَنِي لُؤَيٍّ ... فَلَيْسَ لِأَصْلِهِ مِنْهُمْ
ذَهَابُ
وَقَدْ حَشَدَتْ هُنَاكَ بَنُو عَدِيٍّ ... وَمُرَّةُ قَدْ تَقَدَّمَهَا
كِلَابُ
فَبَوَّأَنَا [6] الْمَلِيكُ بِذَاكَ عِزًّا ... وَعِنْدَ اللَّهِ
يُلْتَمَسُ الثَّوَابُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
وَلَيْسَ عَلَى مَسَاوِينَا [7] ثِيَابُ
(ارْتِفَاعُ الْكَعْبَةِ وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ) :
وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَمَانِي عَشْرَةَ ذِرَاعًا،
__________
[1] الوثاب: الْوُثُوب.
[2] الرجز: الْعَذَاب. ويروى: «الزّجر» وَهُوَ الْمَنْع.
[3] تتلئب: تتَابع فِي انقضاضها.
[4] كَذَا فِي أ. يُرِيد بِهِ مسوى الْبُنيان. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«مسوبنا» بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ تَصْحِيف.
[5] لقد كَانُوا ينقلون الْحِجَارَة عُرَاة ويرون ذَلِك دينا، وَأَنه من
بَاب التشمير وَالْجد فِي الطَّاعَة.
[6] بوأنا: أحلنا وأوطننا.
[7] يُرِيد بالمساوي: السوآت.
(1/198)
وَكَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ [1] ، ثُمَّ كُسِيتِ الْبُرُودَ [2] ،
وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ [3] . |