سيرة ابن هشام ت السقا

حَدِيثُ الْحُمْسِ

(الْحُمْسُ عِنْدَ قُرَيْشٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ- لَا أَدْرِي أَقَبْلَ الْفِيلِ أَمْ بَعْدَهُ- ابْتَدَعَتْ رَأْيَ [4] الْحُمْسِ [5] رَأْيًا رَأَوْهُ وَأَدَارُوهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ بَنُو إبْرَاهِيمَ وَأَهْلُ الْحُرْمَةِ، وَوُلَاةُ الْبَيْتِ، وَقُطَّانُ [6] مَكَّةَ وَسَاكِنُهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ مِثْلُ حَقِّنَا، وَلَا مِثْلُ مَنْزِلَتِنَا، وَلَا تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ مِثْلَ مَا تَعْرِفُ لَنَا، فَلَا تُعَظِّمُوا شَيْئًا مِنْ الْحِلِّ كَمَا تُعَظِّمُونَ الْحَرَمَ، فَإِنَّكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَخَفَّتْ الْعَرَبُ بِحُرْمَتِكُمْ، وَقَالُوا قَدْ عَظَّمُوا مِنْ الْحِلِّ مِثْلَ مَا عَظَّمُوا مِنْ الْحَرَمِ. فَتَرَكُوا الْوُقُوفَ عَلَى عَرَفَةَ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْهَا، وَهُمْ يَعْرِفُونَ وَيُقِرُّونَ أَنَّهَا مِنْ الْمَشَاعِرِ [7] وَالْحَجِّ وَدِينِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرَوْنَ لِسَائِرِ الْعَرَبِ أَنْ يَقِفُوا عَلَيْهَا، وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ الْحُرْمَةِ وَلَا نُعَظِّمُ غَيْرَهَا كَمَا نُعَظِّمُهَا نَحْنُ الْحُمْسُ، وَالْحُمْسُ أَهْلُ الْحَرَمِ، ثُمَّ جَعَلُوا لِمِنْ وُلِدُوا مِنْ الْعَرَبِ مِنْ سَاكِنِ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ مِثْلَ الَّذِي لَهُمْ، بِوِلَادَتِهِمْ إيَّاهُمْ، يَحِلُّ لَهُمْ مَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ.
__________
[1] الْقبَاطِي: ثِيَاب بيض كَانَت تصنع بِمصْر وَهِي جمع قبطية، بِضَم الْقَاف وَكسرهَا.
[2] البرود: ضرب من ثِيَاب الْيمن.
[3] وَكَسَاهَا ابْن الزبير قبل الْحجَّاج الديباج، وَكَانَ خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب مِمَّن كساها الديباج قبل الْإِسْلَام. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[4] فِي أ: «أَمر» .
[5] الحمس: جمع: أحمس. والأحمس: المشتد الصلب فِي الدَّين. وَسميت قُرَيْش حمسا لزعمهم بِأَنَّهُم اشتدوا فِي الدَّين، وَكَانُوا قد ذَهَبُوا فِي ذَلِك مَذْهَب التزهد والتأله. فَكَانَت نِسَاؤُهُم لَا ينسجن الشّعْر وَلَا الْوَبر. وسيعرض الْمُؤلف لتفصيل هَذَا بعد قَلِيل.
[6] فِي أ: «قاطن» .
[7] المشاعر: الْمَوَاضِع الْمَشْهُورَة فِي الْحَج، لَا يتم إِلَّا بهَا

(1/199)


(الْقَبَائِلُ الَّتِي دَانَتْ مَعَ قُرَيْشٍ بِالْحُمْسِ) :
وَكَانَتْ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ قَدْ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ: أَنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنْشَدَنِي لعَمْرو بن معديكرب
أَعَبَّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا ... بِتَثْلِيثَ مَا نَاصَيْتَ بَعْدِي الْأَحَامِسَا
[1] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَثْلِيثُ: مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِهِمْ. وَالشِّيَارُ: [2] (السِّمَانُ) الْحِسَانُ.
يَعْنِي بِالْأَحَامِسِ: بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَبِعَبَّاسٍ: عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ أَغَارَ عَلَى بَنِي زُبَيْدٍ بِتَثْلِيثَ. وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ قَصِيدَةٍ لِعَمْرٍو.
وَأَنْشَدَنِي لِلَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ الدَّارِمِيِّ فِي [3] يَوْمِ جَبَلَةَ:
أَجْذِمْ [4] إلَيْكَ إنَّهَا بَنُو عَبْسٍ ... الْمَعْشَرُ الْجِلَّةُ [5] فِي الْقَوْمِ الْحُمْسُ
لِأَنَّ بَنِي عَبْسٍ كَانُوا يَوْمَ جَبَلَةَ حُلَفَاءَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ.

(يَوْمَ جَبَلَةَ) :
وَيَوْمُ جَبَلَةَ: يَوْمٌ كَانَ بَيْنَ بَنِي حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَبَيْنَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ [6] ، فَكَانَ الظَّفَرُ فِيهِ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى بَنِي حَنْظَلَةَ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ بْنُ عُدَسَ [7] ، وَأُسِرَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ
__________
[1] ناصيت: أخذت بناصيتهم ونازعتهم. وَمِنْه حَدِيث عَائِشَة: لم تكن وَاحِدَة من نسَاء النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناصينى غير زَيْنَب: أَي تنازعني وتبارينى.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] وَكَانَ يَوْم جبلة قبل الْإِسْلَام بِأَرْبَعِينَ سنة، وَهُوَ عَام مولد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَاجع العقد الفريد، وَالرَّوْض) .
[4] أَجْذم: زجر مَعْرُوف للخيل.
[5] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والجلة: العظماء. وَفِي أ: «الْحلَّة» بِالْحَاء الْمُهْملَة. والحلة: الَّذين يسكنون فِي الْحل.
[6] ذكر ابْن عبد ربه فِي كِتَابه «العقد الفريد» يَوْم شعب جبلة هَذَا. وَقَالَ إِنَّه كَانَ لعامر وَعَبس على ذبيان وَتَمِيم.
[7] هُوَ بِضَم الدَّال عِنْد الْجَمِيع إِلَّا أَبَا عُبَيْدَة، فَإِنَّهُ عِنْده بِفَتْحِهَا، وكل عدس فِي الْعَرَب، فَإِنَّهُ مَفْتُوح الدَّال. (رَاجع الرَّوْض، وَشرح السِّيرَة لأبى ذَر، ومؤتلف الْقَبَائِل ومختلفها لِابْنِ حبيب) .

(1/200)


وَانْهَزَمَ عَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ عُدَسَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ. فَفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ لِلْفَرَزْدَقِ:
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعَوْا يَا لَدَارِمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.

(يَوْمُ ذِي نَجَبٍ) :
ثُمَّ الْتَقَوْا يَوْمَ ذِي نَجَبٍ [1] ، فَكَانَ الظَّفَرُ لِحَنْظَلَةَ عَلَى بَنِي عَامِرٍ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ حَسَّانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيُّ، وَهُوَ ابْنُ [2] كَبْشَةَ. وَأُسِرَ يَزِيدُ بْنُ الصَّعَقِ الْكِلَابِيُّ وَانْهَزَمَ الطُّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ. فَفِيهِ يَقُولُ الْفَرَزْدَقُ: [3]
وَمِنْهُنَّ إذْ نَجَّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ ... عَلَى قُرْزَلٍ [4] رَجْلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا هَامَةَ ابْنِ خُوَيْلِدٍ [5] ... نُزِيدُ عَلَى أُمِّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمَ
[6] وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
فَقَالَ جَرِيرٌ:
وَنَحْنُ خَضَبْنَا لِابْنِ كَبْشَةَ تَاجَهُ ... وَلَاقَى امْرَأً فِي ضَمَّةِ الْخَيْلِ مِصْقَعًا
[7] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَحَدِيثُ يَوْمِ جَبَلَةَ وَيَوْمِ ذِي نَجَبٍ أَطْوَلُ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَإِنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْتُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ الْفِجَارِ.
__________
[1] ذُو نجب (محركة) : وَاد قرب ماوان. (رَاجع مَا يعول عَلَيْهِ، ومعجم الْبلدَانِ) .
[2] كَذَا فِي أهنا وَفِيمَا سَيَأْتِي من جَمِيع الْأُصُول وَفِي سَائِر الْأُصُول هُنَا: «أَبُو كَبْشَة» .
[3] نسب هَذَا الشّعْر فِي مُعْجم الْبلدَانِ عِنْد الْكَلَام على ذِي نجب لسحيم بن وثيل الريَاحي.
[4] قرزل (بِالضَّمِّ) : اسْم فرس لطفيل بن مَالك. وَكَانَ طفيل يُسمى: فَارس قرزل.
[5] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي مُعْجم الْبلدَانِ:
وَنحن ضربنا هَامة ابْن خويلد ... يزِيد وضرجنا عُبَيْدَة بِالدَّمِ
[6] أم الْفِرَاخ الجواثم: يُرِيد الهامة، وَهِي البوم، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الرجل إِذا قتل خرجت من رَأسه هَامة تصيح: اسقوني اسقوني، حَتَّى يُؤْخَذ بثأره.
[7] المصقع (هُنَا) : مَأْخُوذ من قَوْلهم صقعه: إِذا ضربه على شَيْء مصمت.

(1/201)


(مَا زَادَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْحُمْسِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ ابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ، حَتَّى قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ يَأْتَقِطُوا الْأَقِطَ [1] ، وَلَا يَسْلَئُوا [2] السَّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعَرٍ، وَلَا يَسْتَظِلُّوا إنْ اسْتَظَلُّوا إلَّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ [3] مَا كَانُوا حُرُمًا، ثُمَّ رَفَعُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلِّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ، إذَا جَاءُوا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا، وَلَا يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمُوا أَوَّلَ طَوَافِهِمْ إلَّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ، فَإِنَّ لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا شَيْئًا طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَإِنْ تَكَرَّمَ مِنْهُمْ مُتَكَرِّمٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَ الْحُمْسِ، فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ الْحِلِّ، أَلْقَاهَا إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ، ثُمَّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا، وَلَمْ يَمَسَّهَا هُوَ، وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَبَدًا.

(اللَّقَى عِنْدَ الْحُمْسِ وَشِعْرٌ فِيهِ) :
فَكَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمِّي تِلْكَ الثِّيَابَ اللَّقَى [4] . فَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَرَبَ، فَدَانَتْ بِهِ. وَوَقَفُوا عَلَى عرفَاتٍ، وَأَفَاضُوا مِنْهَا، وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً: أَمَّا الرِّجَالُ فَيَطُوفُونَ عُرَاةً، وأمّا النِّسَاء فضع إحْدَاهُنَّ ثِيَابَهَا كُلَّهَا إلَّا دِرْعًا مُفَرَّجًا [5] عَلَيْهَا، ثُمَّ تَطُوفُ فِيهِ. فَقَالَتْ امْرَأَةٌ [6] مِنْ الْعَرَبِ، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
__________
[1] الأقط (مُثَلّثَة ويحرك وككتف وَرجل وإبل) : شَيْء يتَّخذ من المخيض الغنمي. وَجمعه أقطان.
وأقط الطَّعَام: عمله بِهِ.
[2] سلأت السّمن واستلأته: إِذا طبخ وعولج، وَالِاسْم: السلاء (بِالْكَسْرِ مَمْدُود) .
[3] بيُوت الْأدم: الأخبية الَّتِي تصنع من الْجلد.
[4] اللقى: الشَّيْء الْملقى المطرح، وَيُقَال: المنسي. وَجمعه: ألقاء.
[5] المفرج: المشقوق من قُدَّام أَو خلف.
[6] يُقَال إِن هَذِه الْمَرْأَة هِيَ ضباعة بنت عَامر بن صعصعة، ثمَّ من بنى سَلمَة بن قُشَيْر، وَيذكر أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبهَا، فَذكرت لَهُ عَنْهَا كبرة فَتَركهَا. وَلَعَلَّ الّذي أَخّرهَا عَن أَن تكون أما للْمُؤْمِنين وزوجا لرَسُول رب الْعَالمين، تكريم الله لنَبيه، وَعلمه بغيرته، وَالله أغير مِنْهُ، لما فِي قَوْلهَا:
الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله
من شَيْء فِيهِ مَا فِيهِ. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .

(1/202)


وَمَنْ طَافَ مِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحِلِّ أَلْقَاهَا، فَلَمْ يَنْتَفِعُ بِهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ.
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَذْكُرُ شَيْئًا تَرَكَهُ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَا يَقْرَبُهُ، وَهُوَ يحبّه [1] :
كفى جزنا كَرَّى عَلَيْهَا كَأَنَّهَا [2] ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ
[3] يَقُولُ: لَا تُمَسُّ.

(حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الطَّوَافِ، وَإِبْطَالُ عَادَاتِ الْحُمْسِ فِيهِ) :
فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ حَيْنَ أَحْكَمَ لَهُ دِينَهُ، وَشَرَعَ لَهُ سُنَنَ حَجِّهِ: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 2: 199 يَعْنِي قُرَيْشًا. وَالنَّاسُ: الْعَرَبُ.
فَرَفَعَهُمْ فِي سُنَّةِ الْحَجِّ إلَى عَرَفَاتٍ وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالْإِفَاضَةِ مِنْهَا.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيمَا كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى النَّاسِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَلَبُوسِهِمْ عِنْدَ الْبَيْتِ، حَيْنَ طَافُوا عُرَاةً، وَحَرَّمُوا مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْحِلِّ مِنْ الطَّعَامِ: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [4] 7: 31- 32. فَوَضَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْحُمْسِ، وَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْهُ عَلَى [5] النَّاسِ بِالْإِسْلَامِ، حَيْنَ بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ،
__________
[1] وَمن اللقى حَدِيث فَاخِتَة أم حَكِيم بن حزَام، وَكَانَت دخلت الْكَعْبَة، وَهِي حَامِل تمّ بِحَكِيم بن حزَام، فأجاءها الْمَخَاض، فَلم تستطع الْخُرُوج من الْكَعْبَة، فَوَضَعته فِيهَا، فلفت فِي الأقطاع هِيَ وجنينها، وَطرح مثبرها وثيابها الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا، فَجعلت لَقِي لَا تقرب. والمثبر، بِفَتْح الْمِيم: مسْقط الْوَلَد.
[2] فِي أ: ... عَلَيْهِ كَأَنَّهُ.
[3] حَرِيم: محرم، لَا يُؤْخَذ وَلَا ينْتَفع بِهِ.
[4] المُرَاد بالزينة فِي الْآيَة اللبَاس وَعدم التعري. وَقَوله تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا 2: 60. إِشَارَة إِلَى مَا كَانَت الحمس حرمته من طَعَام الْحَج إِلَى طَعَام أحمسى.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عَن» .

(1/203)


عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَمِّهِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَإِنَّهُ لَوَاقِفٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ بِعَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ مِنْ بَيْنَ قَوْمِهِ حَتَّى يَدْفَعُ مَعَهُمْ مِنْهَا تَوْفِيقًا [1] مِنْ اللَّهِ لَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.