سيرة ابن
هشام ت السقا مباداة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قومه، وَمَا كَانَ مِنْهُم
(أَمْرُ اللَّهِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُبَادَاةِ
قَوْمِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْسَالًا
مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، حَتَّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ
بِمَكَّةَ، وَتُحَدِّثَ بِهِ. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ
رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ
مِنْهُ، وَأَنْ يُبَادِيَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ،
وَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمْرَهُ وَاسْتَتَرَ بِهِ إلَى أَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِإِظْهَارِ دِينِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ- فِيمَا بَلَغَنِي- مِنْ مَبْعَثِهِ،
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ:
فَاصْدَعْ [1] بِما تُؤْمَرُ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 15: 94.
وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ 6: 51
__________
[ () ] عبد الله بن جدعَان التَّيْمِيّ مِنْهُم، فَأعْتقهُ، فَأَقَامَ
مَعَه بِمَكَّة حَتَّى هلك عبد الله بن جدعَان، وَبعث النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأما صُهَيْب وَولده، فيزعمون أَنه إِنَّمَا
هرب من الرّوم حِين عقل وَبلغ، فَقدم مَكَّة فحالف عبد الله بن جدعَان،
وَأقَام مَعَه إِلَى أَن هلك.
[1] قَالَ السهيليّ: «وَالْمعْنَى: اصدع بِالَّذِي تُؤمر بِهِ، وَلكنه لما
عدي الْفِعْل إِلَى الْهَاء حسن حذفهَا، وَكَانَ الْحَذف هَاهُنَا أحسن من
ذكرهَا، لِأَن «مَا» فِيهَا من الْإِبْهَام أَكثر مِمَّا يَقْتَضِيهِ
«الّذي» . وَقَوْلهمْ «مَا» مَعَ الْفِعْل بِتَأْوِيل الْمصدر، رَاجع إِلَى
معنى «الّذي» إِذا تأملته، وَذَلِكَ أَن «الّذي» تصلح فِي كل مَوضِع تصلح
فِيهِ «مَا» الَّتِي يسمونها المصدرية. نَحْو قَول الشَّاعِر:
عَسى الْأَيَّام أَن يرجعن ... قوما كَالَّذي كَانُوا
أَي كَمَا كَانُوا. فَقَوْل الله عز وَجل إِذن: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ
15: 94» : إِمَّا أَن يكون مَعْنَاهُ: بِالَّذِي تُؤمر بِهِ من التَّبْلِيغ
وَنَحْوه، وَإِمَّا أَن يكون مَعْنَاهُ: اصدع بِالْأَمر الّذي تؤمره، كَمَا
تَقول: عجبت ... من الضَّرْب الّذي تضربه، فَتكون «مَا» هَاهُنَا عبارَة
عَن الْأَمر الّذي هُوَ أَمر الله تَعَالَى، وَلَا يكون للباء فِيهِ دُخُول
وَلَا تَقْدِير. وعَلى الْوَجْه الأول تكون «مَا» مَعَ صلتها عبارَة عَمَّا
هُوَ فعل للنّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْأَظْهَر أَنَّهَا مَعَ صلتها، عبارَة عَن الْأَمر الّذي هُوَ قَول
الله ووحيه، بِدَلِيل حذف الْهَاء الراجعة إِلَى مَا، وَإِن كَانَت
بِمَعْنى الّذي فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، إِلَّا أَنَّك إِذا أردْت معنى
الْأَمر لم تحذف إِلَّا الْهَاء وَحدهَا، وَإِذا أردْت معنى الْمَأْمُور
بِهِ حذفت بَاء وهاء، فَحذف وَاحِد أيسر من حذفين، مَعَ أَن صدعه وَبَيَانه
إِذا علقته بِأَمْر الله ووحيه كَانَ حَقِيقَة، وَإِذا علقته بِالْفِعْلِ
الّذي أَمر بِهِ كَانَ مجَازًا، وَإِذا صرحت بِلَفْظ الّذي
(1/262)
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ
جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 26: 214- 215.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ 15: 89.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اصْدَعْ: اُفْرُقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ،
يَصِفُ أُتُنَ [1] وَحْشٍ وَفَحْلَهَا:
وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ
وَيَصْدَعُ [2]
أَيْ يُفَرَّقُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيُبَيِّنُ أَنْصِبَاءَهَا. وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ رُؤْبَةُ ابْن الْعَجَّاجِ:
أَنْتَ الْحَلِيمُ وَالْأَمِيرُ الْمُنْتَقِمُ ... تَصْدَعُ بِالْحَقِّ
وَتَنْفِي مَنْ ظَلِمْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ [3] فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
(خُرُوجُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ إلَى
شِعَابِ مَكَّةَ، وَمَا فَعَلَهُ سَعْدٌ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّوْا، ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ،
فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ، إذْ ظَهَرَ
عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَنَاكَرُوهُمْ،
وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ حَتَّى قَاتَلُوهُمْ، فَضَرَبَ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ
بِلَحْيِ [4] بَعِيرٍ، فَشَجَّهُ [5] ، فَكَانَ أوّل دم هريق فِي
الْإِسْلَامِ.
__________
[ () ] لم يكن حذفهَا بذلك الْحسن، وتأمله فِي الْقُرْآن تَجدهُ كَذَلِك،
نَحْو قَوْله تَعَالَى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ 2: 33. وَإِنَّمَا كَانَ الْحَذف مَعَ «مَا» أحسن لما
قدمْنَاهُ من إبهامها، فَالَّذِي فِيهَا من الْإِبْهَام قربهَا من «مَا»
الَّتِي هِيَ للشّرط لفظا وَمعنى.
[1] الأتن: جمع أتان، وَهِي الْأُنْثَى من الْحمر.
[2] الربابة (بِكَسْر الرَّاء) : خرقَة تلف فِيهَا القداح. وَتَكون أَيْضا
جلدا. واليسر: الّذي يدْخل فِي الميسر. والقداح: جمع قدح، وَهُوَ السهْم.
[3] هَذَا على أَنَّهُمَا من مشطور الرجز.
[4] اللحى: الْعظم الّذي على الْفَخْذ، وَهُوَ من الْإِنْسَان: الْعظم
الّذي تنْبت عَلَيْهِ اللِّحْيَة.
[5] شجه: جرحه.
(1/263)
(إظْهَارُ قَوْمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْعَدَاوَةَ لَهُ، وَحَدَبُ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَصَدَعَ بَهْ كَمَا أَمَرَهُ
اللَّهُ، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ-
فِيمَا بَلَغَنِي- حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ
ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ، وَأَجْمَعُوا خِلَافَهُ وَعَدَاوَتَهُ،
إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَهُمْ
قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ، وَحَدِبَ [1] عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ،
وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرِ
اللَّهِ، مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ، لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ. فَلَمَّا
رَأَتْ قُرَيْشٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَا يَعْتِبُهُمْ [2] مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، مِنْ فِرَاقِهِمْ
وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ
عَلَيْهِ، وَقَامَ دُونَهُ، فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ
أَشْرَافِ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا
رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ
كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ. وَأَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ
بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَاسْمُهُ الْعَاصِ بْنُ
هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ ابْن عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ
بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: الْعَاصِ بْنُ هَاشِمٍ [3] .
__________
[1] أصل الحدب: الانحناء فِي الظّهْر، ثمَّ استعير فِيمَن عطف على غَيره
ورق لَهُ، كَمَا قَالَ النَّابِغَة:
حدبت على بطُون ضبة كلهَا ... إِن ظَالِما فيهم وَإِن مَظْلُوما
وَقد يكون الحدب أَيْضا مُسْتَعْملا فِي معنى الْمُخَالفَة إِذا قرن
بالقعس، كَقَوْل الشَّاعِر:
وَإِن حدبوا فاقعس وَإِن هم تقاعسوا ... لينتزعوا مَا خلف ظهرك فاحدب
[2] لَا يعتبهم من شَيْء: أَي لَا يرضيهم، يُقَال: استعتبني فأعتبته: أَي
أرضيته وأزلت العتاب عَنهُ.
[3] قَالَ السهيليّ: «الّذي قَالَه ابْن إِسْحَاق، هُوَ قَول ابْن
الْكَلْبِيّ، والّذي قَالَه ابْن هِشَام، هُوَ قَول الزبير بن أَبى بكر
وَقَول مُصعب، وَهَكَذَا وجدت فِي حَاشِيَة كتاب الشَّيْخ أَبى بَحر
سُفْيَان بن الْعَاصِ» .
(1/264)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْأَسْوَدُ بْنُ
الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ
بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَأَبُو جَهْلٍ- وَاسْمُهُ
عَمْرٌو، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ- بْنَ هِشَامِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ
يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ ابْن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَالْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ
يَقَظَةَ ابْن مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ
ابْنَا الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَالْعَاصِ بْنُ
وَائِلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْعَاصِ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ [1] بْنِ سَعِيدِ
بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
(وَفْدُ قُرَيْشٍ مَعَ أَبِي طَالِبٍ فِي شَأْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ. فَقَالُوا: يَا أَبَا
طَالِبٍ، إنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا،
وَسَفَّهُ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ
عَنَّا، وَإِمَّا أَنَّ تُخِلِّي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى
مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، فَنَكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ
أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلًا،
فَانْصَرَفُوا عَنْهُ.
(اسْتِمْرَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
دَعْوَتِهِ، وَرُجُوعُ وَفْدِ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ ثَانِيَةً) :
وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا هُوَ
عَلَيْهِ، يُظْهِرُ دِينَ اللَّهِ، وَيَدْعُو إلَيْهِ، ثُمَّ شَرَى [2]
الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ
وَتَضَاغَنُوا [3] ، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهَا، فَتَذَامَرُوا [4] فِيهِ، وَحَضَّ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ
مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا لَهُ:
يَا أَبَا طَالِبٍ، إنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا،
وَإِنَّا قَدْ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهُ
عَنَّا، وَإِنَّا وَاَللَّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ
آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا، حَتَّى
تَكُفَّهُ عَنَّا، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى
يَهْلِكَ أَحَدُ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: هِشَام.
[2] شرى: كثر وَاشْتَدَّ.
[3] تضاغنوا: تعادوا.
[4] تذامروا: حض بَعضهم بَعْضًا.
(1/265)
الْفَرِيقَيْنِ، أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ.
(ثُمَّ) [1] انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ
قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ وَلَا خِذْلَانِهِ.
(طَلَبُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْكَفَّ عَنْ الدَّعْوَةِ وَجَوَابُهُ لَهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ
قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إنَّ
قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي كَانُوا
قَالُوا لَهُ، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنْ
الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ، قَالَ: فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ بَدَاءٌ [2]
أَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ
وَالْقِيَامِ مَعَهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي
يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي [3] عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا
الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا
تَرَكْتُهُ. قَالَ: ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَى ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو
طَالِبٍ، فَقَالَ: أَقْبِلْ يَا بن أَخِي، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اذْهَبْ يَا بن
أَخِي، فَقُلْ مَا أَحْبَبْت، فو الله لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءِ أَبَدًا.
(مَشْيُ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ ثَالِثَةً بِعُمَارَةَ بْنِ
الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيِّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنَّ أَبَا
طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَإِسْلَامَهُ، وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ
وَعَدَاوَتِهِمْ، مَشَوْا إلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، فَقَالُوا لَهُ- فِيمَا بَلَغَنِي- يَا أَبَا طَالِبٍ، هَذَا
عُمَارَةُ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أ. والبداء: الِاسْم من بدا. يُرِيد: ظهر لَهُ رأى، فَسمى
الرأى بداء، لِأَنَّهُ شَيْء يَبْدُو بعد مَا خَفِي. وَفِي سَائِر
الْأُصُول: «بَدو» .
[3] قَالَ السهيليّ: «خص الشَّمْس بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا الْآيَة
المبصرة، وَخص الْقَمَر بالشمال لِأَنَّهَا الْآيَة الممحوة وَقد قَالَ عمر
رَحمَه الله لرجل قَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَن الشَّمْس
وَالْقَمَر يقتتلان، وَمَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا نُجُوم، فَقَالَ عمر: مَعَ
أَيهمَا كنت؟ فَقَالَ: مَعَ الْقَمَر، قَالَ: كنت مَعَ الْآيَة الممحوة،
اذْهَبْ فَلَا تعْمل لي عملا. وَكَانَ عَاملا لَهُ فَعَزله، فَقتل الرجل
فِي صفّين مَعَ مُعَاوِيَة، واسْمه حَابِس بن سعد.
وَخص رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النيرين حِين ضرب الْمثل
بهما، لِأَن نورهما محسوس، والنور الّذي جَاءَ بِهِ من عِنْد الله» .
(1/266)
ابْن الْوَلِيدِ، أَنْهَدُ [1] فَتًى فِي
قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ فَلَكَ عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ،
وَاِتَّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ إلَيْنَا ابْنَ أَخِيكَ
هَذَا، الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ
جَمَاعَةَ قَوْمِكَ، وَسَفَّهُ أَحْلَامَهُمْ، فَنَقْتُلَهُ، فَإِنَّمَا
هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي [2]
! أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي
تَقْتُلُونَهُ! هَذَا وَاَللَّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. قَالَ: فَقَالَ
الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ:
وَاَللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وَجَهَدُوا
عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ
تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ:
وَاَللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي
وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، أَوْ كَمَا
قَالَ. فَحَقَبَ [3] الْأَمْرُ، وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ
الْقَوْمُ، وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُطْعِمِ وَمَنْ خَذَلَهُ
مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ) :
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ، يُعَرِّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ
عَدِيٍّ، وَيَعُمُّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَمَنْ
عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ، وَمَا
تَبَاعَدَ مِنْ أَمرهم:
أَلا قل لِعَمْرٍو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ
حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ [4]
مِنْ الْخُورِ [5] حَبْحَابٌ [6] كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يَرُشُّ عَلَى
السَّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ
__________
[1] أنهد: أَشد وَأقوى. وأصل هَذِه الْكَلِمَة للتقدم، يُقَال: نهد ثدي
الْجَارِيَة، أَي برز قدما.
[2] تسوموننى: تكلفوننى.
[3] حقب: زَاد وَاشْتَدَّ: وَهُوَ من قَوْلك. حقب الْبَعِير: إِذا راغ
عَنهُ الحقب من شدَّة الْجهد وَالنّصب، وَإِذا عسر عَلَيْهِ الْبَوْل
أَيْضا لشدَّة الحقب على ذَلِك الْموضع
[4] يُرِيد: أَي أَن بكرا من الْإِبِل أَنْفَع لي مِنْكُم، فليته لي بَدَلا
من حياطتكم، كَمَا قَالَ طرفَة فِي عَمْرو ابْن هِنْد:
لَيْت لنا مَكَان الْملك عَمْرو ... رغوثا حول قبتنا تخور
[5] الخور: الضِّعَاف.
[6] كَذَا فِي الْأُصُول. والحبحاب: الْقصير. ويروى: «جبجاب» بِالْجِيم.
وَهُوَ الْكثير الهدر.
كَمَا يرْوى «خبخاب» بِالْخَاءِ، وَهُوَ الضَّعِيف.
(1/267)
تَخَلَّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ
بِلَاحِقِ ... إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ [1]
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمِّنَا ... إذَا سُئِلَا قَالَا إلَى
غَيْرِنَا الْأَمْرُ
بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجَمَا [2] ... كَمَا جُرْجِمَتْ مِنْ
رَأْسِ ذِي [3] عَلَقِ الصَّخْرِ [4]
أَخُصُّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ
مَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
هُمَا أَغْمَزَا [5] لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا ... فَقَدْ أَصْبَحَا
مِنْهُمْ أَكُفُّهُمَا [6] صِفْرُ [7]
هُمَا أَشْرَكَا فِي الْمَجْدِ مَنْ لَا أَبَا لَهُ ... مِنْ النَّاسِ
إلَّا أَنْ يُرَسَّ [8] لَهُ ذِكْرُ
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمْ ... وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى
إذَا بغى النّصر
فو الله لَا تَنْفَكُّ مِنَّا عَدَاوَةٌ ... وَلَا مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ
نَسْلِنَا شَفْرُ [9]
فَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُهُمْ وَعُقُولُهُمْ ... وَكَانُوا كَجَفْرٍ
بِئْسَ مَا صَنَعَتْ جَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا.
(ذِكْرُ مَا فَتَنَتْ بَهْ قُرَيْشٌ الْمُؤْمِنِينَ وَعَذَّبَتْهُمْ عَلَى
الْإِيمَانِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى
مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ
__________
[1] الْوَبر: دويبة على شكل الْهِرَّة. يُشبههُ بهَا لصغره، وَيحْتَمل أَن
يكون أَرَادَ أَنه يصغر فِي الْعين لعلو الْمَكَان وَبعده.
[2] تجرجم: سقط وَانْحَدَرَ.
[3] ذُو علق: جبل فِي ديار بنى أَسد.
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «صَخْر» . وعَلى الرِّوَايَة
الأولى يكون حذف التَّنْوِين من «علق لالتقاء الساكنين، كَمَا قرئَ: قُلْ
هُوَ الله أَحَدٌ، الله الصَّمَدُ 112: 1- 2. بِحَذْف التَّنْوِين من «أحد»
. وعَلى الرِّوَايَة الثَّانِيَة يكون ترك صرف «علق» على أَنه اسْم بقْعَة،
وَإِمَّا لِأَنَّهُ اسْم علم، وَترك صرف الِاسْم الْعلم سَائِغ فِي
الشّعْر، وَإِن لم يكن مؤنثا وَلَا أعجميا، نَحْو قَول عَبَّاس بن مرداس:
وَمَا كَانَ حصن وَلَا حَابِس ... يَفُوقَانِ مرداس فِي الْمجمع
[5] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وأغمز فلَان فِي فلَان: إِذا اسْتَضْعَفَهُ
وعابه وَصغر شَأْنه. وَفِي أ:
«أغمرا» .
[6] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أكفهم» .
[7] الصفر: الْخَالِي.
[8] يرس: يذكر. يُقَال: رسست الحَدِيث، إِذا حدثت بِهِ فِي خَفَاء.
[9] شفر: أحد.
(1/268)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى
مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ، وَيَفْتِنُونَهُمْ
عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْهُمْ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ،
حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي هَاشِمٍ
وَبَنِيَّ الْمُطَّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، مِنْ مَنْعِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقِيَامِ دُونَهُ،
فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ
إلَيْهِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ، عَدُوِّ اللَّهِ
الْمَلْعُونِ.
(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي مَدْحِ قَوْمِهِ لِحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ) :
فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مَا سَرَّهُ فِي جَهْدِهِمْ
مَعَهُ، وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ، جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ
قَدِيمَهُمْ، وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِمْ، وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ، لِيَشُدَّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ،
وَلِيَحْدَبُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَالَ:
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ
سِرُّهَا وَصَمِيمُهَا [1]
وَإِنْ حَصَلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا [2] ... فَفِي هَاشِمٍ
أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا ... هُوَ الْمُصْطَفَى مَنْ
سِرِّهَا وَكَرِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثَّهَا وَسَمِينُهَا ... عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ
وَطَاشَتْ حُلُومُهَا [3]
وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً ... إذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ
الْخُدُودِ نُقِيمُهَا [4]
وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلَّ يَوْمٍ كَرِيهَةً ... وَنَضْرِبُ عَنْ
أَجْحَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا [5]
بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذَّوَاءُ وَإِنَّمَا ... بِأَكْنَافِنَا
تَنْدَى وَتَنْمَى أُرُومُهَا [6]
__________
[1] سرها، وَسطهَا. وصميمها: خالصها.
[2] وَفِي رِوَايَة: «أَنْسَاب» .
[3] الغث: فِي الأَصْل، اللَّحْم الضَّعِيف فاستعاره هُنَا لمن لَيْسَ نسبه
هُنَالك. وطاشت: ذهبت.
[4] ثنوا: عطفوا. وصعر الخدود: المائلة. يُقَال: صعر خَدّه، إِذا أماله
إِلَى جِهَة، فعل المتكبر قَالَ الله تَعَالَى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ
لِلنَّاسِ 31: 18.
[5] كَذَا فِي الْأُصُول. يُرِيد بهَا حصونها ومعاقلها. وَفِي رِوَايَة:
«أحجارها» . والأحجار: جمع حجر، وَالْحجر (هُنَا) : مستعار، وَإِنَّمَا
يُرِيد: عَن بيوتها ومساكنها.
[6] الذواء: الّذي جَفتْ رطوبته. والأروم: جمع أرومة، وَهِي الأَصْل.
(1/269)
|