سيرة ابن
هشام ت السقا ذِكْرُ لُقَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ
(سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَرَمْيُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا اشْتَدَّ أَمْرُهُمْ
لِلشَّقَاءِ الَّذِي أَصَابَهُمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُمْ، فَأَغْرَوْا
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُفَهَاءَهُمْ،
فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ، وَرَمَوْهُ بِالشِّعْرِ وَالسِّحْرِ
وَالْكِهَانَةِ وَالْجُنُونِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُظْهِرٌ لِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَسْتَخْفِي بِهِ، مُبَادٍ لَهُمْ
بِمَا يَكْرَهُونَ مِنْ عَيْبِ دِينِهِمْ، وَاعْتِزَالِ أَوْثَانِهِمْ،
وَفِرَاقِهِ إيَّاهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
(حَدِيثُ ابْنِ الْعَاصِ عَنْ أَكْثَرِ مَا رَأَى قُرَيْشًا نَالَتْهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا
رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟ قَالَ:
حَضَرْتُهُمْ، وَقَدْ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي [3] الْحِجْرِ،
فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا:
مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ
قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا،
وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ
عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا: فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إذْ
طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ
يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا
بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ [4]
__________
[1] كَذَا فِي أوفي سَائِر الْأُصُول: «من الْحق» .
[2] المدلي: الْمُرْسل الدَّلْو. والنازع: الجاذب لَهَا.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: يوافي الْحجر، وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] غَمَزُوهُ: طعنوا فِيهِ.
(19) - سيرة ابْن هِشَام- 1
(1/289)
بِبَعْضِ الْقَوْلِ. قَالَ: فَعَرَفْتُ
ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ
بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ
بِمِثْلِهَا، فَوَقَفَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،
أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ [1] .
قَالَ: فَأَخَذَتْ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلَّا
كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ
وَصَاةً [2] قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ [3] بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنْ
الْقَوْلِ، حَتَّى إنَّهُ لِيَقُولَ:
انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِم، فو الله مَا كُنْتَ جَهُولًا. قَالَ:
فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إذَا
كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ:
ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ، وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إذَا
بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ
طَلَعَ (عَلَيْهِمْ) [4] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَوَثَبُوا إلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَحَاطُوا بِهِ،
يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، لِمَا كَانَ يَقُولُ
مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ: أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ:
فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمِجْمَعِ رِدَائِهِ. قَالَ:
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَهُ، وَهُوَ يَبْكِي
وَيَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ؟ ثُمَّ
انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا
نَالُوا مِنْهُ قَطُّ.
(بَعْضُ مَا نَالَ أَبَا بَكْرٍ فِي سَبِيلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ:
(لَقَدْ) [4] رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ صَدَعُوا [5] فَرْقَ
[6] رَأْسِهِ، مِمَّا جَبَذُوهُ بِلِحْيَتِهِ وَكَانَ رَجُلًا. كَثِيرَ
الشَّعْرِ.
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَالنِّهَايَة لِابْنِ الْأَثِير (مَادَّة رفأ) .
وَلَعَلَّه مجَاز عَن الْهَلَاك. وَمِنْه فِي حَدِيث الْقَضَاء:
من تصدى للْقَضَاء وتولاه، فقد تعرض للذبح فليتحذره. وَفِي سَائِر
الْأُصُول: «الذَّبِيح» .
[2] الوصاة: الْوَصِيَّة.
[3] يرفؤه: يهدئه ويسكنه ويرفق بِهِ وَيَدْعُو لَهُ.
[4] زِيَادَة عَن أ.
[5] صدعوا: شَقوا.
[6] الْفرق: حَيْثُ يتفرق الشّعْر من مقدم الْجَبْهَة إِلَى وسط الرَّأْس.
(1/290)
(أَشَدُّ مَا أُوذِيَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَشَدَّ
مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ
أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا
كَذَّبَهُ وَآذَاهُ، لَا حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَتَدَثَّرَ مِنْ
شِدَّةِ مَا أَصَابَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ [1] 74: 1- 2. |