سيرة ابن
هشام ت السقا غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي سَنَةِ
خَمْسٍ
(أَمْرُ اللَّهِ لِرَسُولِهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ بِحَرْبِ بَنِي
قُرَيْظَةَ) :
فَلَمَّا كَانَتْ الظُّهْرُ، أَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، مُعْتَجِرًا [3]
بِعِمَامَةِ مِنْ إسْتَبْرَقٍ [4] ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ
[5] ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أَوَقَدْ وَضَعْتَ
السِّلَاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ:
فَمَا وَضَعَتْ الْمَلَائِكَةُ السِّلَاحَ بَعْدُ، وَمَا رَجَعَتْ الْآنَ
إلَّا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُكَ يَا
مُحَمَّدُ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنِّي عَامِدٌ إلَيْهِمْ
فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ.
__________
[1] المرط: الكساء.
[2] كَانَ دُخُول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة
يَوْم الْأَرْبَعَاء، يَوْم مُنْصَرفه من الخَنْدَق، لسبع بَقينَ من ذِي
الْقعدَة. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[3] الاعتجار: أَن يتعمم الرجل دون تلح، أَي لَا يلقى شَيْئا تَحت لحيته.
[4] الإستبرق: ضرب من الديباج غليظ.
[5] الرحالة: السرج.
(2/233)
(دَعْوَةُ الرَّسُولِ الْمُسْلِمِينَ
لِلْقِتَالِ) :
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّنًا،
فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا، فَلَا يُصَلِّيَنَّ
الْعَصْرَ إلَّا بِبَنِي قُرَيْظَةَ.
(اسْتِعْمَالُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ) :
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فِيمَا قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ.
(تَقَدُّمُ عَلِيٍّ وَتَبْلِيغُهُ الرَّسُولَ مَا سَمِعَهُ مِنْ
سُفَهَائِهِمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِرَايَتِهِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ،
وَابْتَدَرَهَا النَّاسُ. فَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَتَّى إذَا
دَنَا مِنْ الْحُصُونِ سَمِعَ مِنْهَا مَقَالَةً قَبِيحَةً لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، لَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَدْنُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ
الْأَخَابِثِ، قَالَ: لِمَ؟ أَظُنُّكَ سَمِعْتُ مِنْهُمْ لِي أَذًى؟ قَالَ:
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَوْ رَأَوْنِي لَمْ يَقُولُوا مِنْ
ذَلِكَ شَيْئًا. فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ حُصُونِهِمْ. قَالَ: يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ، هَلْ
أَخْزَاكُمْ اللَّهُ وَأَنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ؟ قَالُوا:
يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا كُنْتُ جَهُولًا.
(سَأَلَ الرَّسُولُ عَمَّنْ مَرَّ بِهِمْ فَقِيلَ دِحْيَةُ فَعَرَفَ
أَنَّهُ جِبْرِيلُ) :
وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفَرٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ بِالصَّوْرَيْنِ [1] قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى بَنِي
قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: هَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَدْ مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، عَلَى
بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ دِيبَاجٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ
جِبْرِيلُ، بُعِثَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ،
وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَلَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي قُرَيْظَةَ: نَزَلَ عَلَى بِئْرٍ
مِنْ آبَارِهَا مِنْ نَاحِيَةِ أَمْوَالِهِمْ، يُقَالُ لَهَا بِئْرُ أُنَا
[2] .
__________
[1] الصورين: مَوضِع قرب الْمَدِينَة. (عَن مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] أَنا (كهنا أَو كحتى أَو بِكَسْر النُّون الْمُشَدّدَة، ويروى بموحدة
بدل النُّون) : من آبار بنى قُرَيْظَة. (رَاجع الرَّوْض وَشرح الْمَوَاهِب
ومعجم الْبلدَانِ) .
(2/234)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بِئْرُ أَنَّى.
(تَلَاحُقُ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَلَاحَقَ بِهِ النَّاسُ، فَأَتَى رِجَالٌ
مِنْهُمْ [1] مِنْ بَعْدِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُصَلُّوا
الْعَصْرَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا
يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا بِبَنِي قُرَيْظَةَ، فَشَغَلَهُمْ مَا
لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ فِي حَرْبِهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُصَلُّوا،
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتَّى
تَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ. فَصَلَّوْا الْعَصْرَ بِهَا، بَعْدَ الْعِشَاءِ
الْآخِرَةِ، فَمَا عَابَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَا
عَنَّفَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [2] .
حَدَّثَنِي بِهَذَا الحَدِيث أَبى إسْحَاقَ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ مَعْبَدِ
بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ.
(حِصَارُهُمْ وَمَقَالَةُ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ لَهُمْ) :
(قَالَ) [3] : وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ [4] لَيْلَةً، حَتَّى جَهَدَهُمْ
الْحِصَارُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ.
وَقَدْ كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ دَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي
حِصْنِهِمْ، حِينَ رَجَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ، وَفَاءً
لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ بِمَا كَانَ عَاهَدَهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا أَيْقَنُوا
بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ
مُنْصَرِفٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُنَاجِزَهُمْ، قَالَ كَعْبُ ابْن أَسَدٍ
لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنْ الْأَمْرِ مَا
تَرَوْنَ، وَإِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ خِلَالًا ثَلَاثًا، فَخُذُوا
أَيَّهَا شِئْتُمْ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: نُتَابِعُ هَذَا الرجل
ونصدّقه فو الله لَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ،
وَأَنَّهُ لَلَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ، فَتَأْمَنُونَ عَلَى
دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ [5] ، قَالُوا:
لَا نُفَارِقُ حُكْمَ التَّوْرَاةِ أَبَدًا، وَلَا نَسْتَبْدِلُ بِهِ
غَيْرَهُ، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ عَلَيَّ هَذِهِ، فَهَلُمَّ
فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا،
__________
[1] هَذِه الْكَلِمَة «مِنْهُم» سَاقِطَة فِي أ.
[2] يُؤْخَذ من هَذَا أَنه لَا يعاب من أَخذ بِظَاهِر حَدِيث أَو آيَة
وَلَا من استنبط من النَّص معنى يخصصه، كَمَا يُؤْخَذ مِنْهُ أَن كل
مُجْتَهد فِي الْفُرُوع مُصِيب. (رَاجع الرَّوْض وَشرح الْمَوَاهِب) .
[3] زِيَادَة عَن.
[4] وَقيل: خمس عشرَة لَيْلَة، وَقيل بضع عشرَة. (رَاجع الطَّبَقَات وَشرح
الْمَوَاهِب) .
[5] هَذِه الْكَلِمَة «ونسائكم» سَاقِطَة فِي أ.
(2/235)
ثُمَّ نَخْرُجُ إلَى مُحَمَّدٍ
وَأَصْحَابِهِ رِجَالًا مُصْلِتِينَ السُّيُوفَ، لَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا
ثَقَلًا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ
نَهْلِكْ نَهْلِكُ، وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا نَسْلًا نَخْشَى عَلَيْهِ،
وَإِنْ نَظْهَرْ فَلَعَمْرِي لِنَجِدَنَّ [1] النِّسَاءَ وَالْأَبْنَاءَ،
قَالُوا: نَقْتُلُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ! فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ
بَعْدَهُمْ؟ قَالَ: فَإِنْ أَبَيْتُمْ عَلَيَّ هَذِهِ، فَإِنَّ اللَّيْلَةَ
لَيْلَةُ السَّبْتِ، وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ
قَدْ أَمَّنُونَا [2] فِيهَا، فَانْزِلُوا لَعَلَّنَا نُصِيبُ مِنْ
مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غِرَّةً، قَالُوا: نُفْسِدُ سَبْتَنَا عَلَيْنَا،
وَنُحْدِثُ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا إلَّا مَنْ قَدْ
عَلِمْتُ، فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ مِنْ الْمَسْخِ! قَالَ:
مَا بَاتَ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً
مِنْ الدَّهْرِ حَازِمًا.
(أَبُو لُبَابَةَ وَتَوْبَتُهُ) :
(قَالَ) [3] : ثُمَّ إنَّهُمْ بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ ابْعَثْ إلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ [4] بْنَ
عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ
الْأَوْسِ، لِنَسْتَشِيرَهُ فِي أَمْرِنَا، فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ
إلَيْهِ الرِّجَالُ، وَجَهَشَ [5] إلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ
يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا
لُبَابَةَ! أَتَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ [6] ؟ قَالَ:
نَعَمْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ، إنَّهُ الذَّبْحُ [7] . قَالَ
أَبُو لبَابَة: فول الله مَا زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى
عَرَفْتُ
__________
[1] فِي أ: «لنتخذن» .
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أمنُوا» .
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] هُوَ أَبُو لبَابَة بن عبد الْمُنْذر الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَاخْتلف
فِي اسْمه، فَقيل: رِفَاعَة، وَقيل:
مُبشر، وَقيل: بشير، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء، عَاشَ إِلَى خلَافَة على
(رَاجع الِاسْتِيعَاب وَالرَّوْض وَشرح الْمَوَاهِب) .
[5] جهش: بَكَى.
[6] قَالَ الزرقانى: «وَذَلِكَ أَنهم لما حوصروا حَتَّى أيقنوا بالهلكة،
أنزلوا شأس بن قيس فَكَلمهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن ينزلُوا
على مَا نزل بَنو النَّضِير من ترك الْأَمْوَال وَالْحَلقَة وَالْخُرُوج
بِالنسَاء والذراري وَمَا حملت الْإِبِل إِلَّا الْحلقَة، فَأبى رَسُول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: تحقن دماءنا وتسلم لنا
النِّسَاء والذرية وَلَا حَاجَة لنا فِيمَا حملت الْإِبِل، فَأبى صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَن ينزلُوا على حكمه، وَعَاد شأس
إِلَيْهِم بذلك» . (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[7] كَأَن أَبَا لبَابَة فهم ذَلِك من عدم إِجَابَة الرَّسُول لَهُم بحقن
دِمَائِهِمْ، وَعرف أَن الرَّسُول سيذبحهم إِن نزلُوا على حكمه، وَبِهَذَا
أَشَارَ لبني قُرَيْظَة. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
(2/236)
أَنِّي قَدْ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْطَلَقَ أَبُو لُبَابَةَ عَلَى
وَجْهِهِ وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِهِ. وَقَالَ:
لَا أَبْرَحُ مَكَانِي هَذَا حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ مِمَّا
صَنَعْتُ، وَعَاهَدَ اللَّهَ: أَنْ لَا أَطَأَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا،
وَلَا أُرَى فِي بَلَدٍ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيهِ أَبَدًا.
(مَا نَزَلَ فِي خِيَانَةِ أَبَى لُبَابَةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي لُبَابَةَ،
فِيمَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا
أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 8: 27.
(مَوْقِفُ الرَّسُولِ مِنْ أَبِي لُبَابَةَ وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُ، وَكَانَ قَدْ اَسْتَبْطَأَهُ، قَالَ: أَمَا
إنَّهُ [1] لَوْ جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، فَأَمَّا إذْ قَدْ فَعَلَ
مَا فَعَلَ، فَمَا أَنَا بِاَلَّذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى
يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ: أَنَّ تَوْبَةَ أَبَى لُبَابَةَ
نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
السَّحَرِ [2] ، وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ.
(فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ [3] ) : فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السَّحَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ. قَالَتْ:
فَقُلْتُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ،
قَالَ: تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَفَلَا أُبَشِّرُهُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، إنْ شِئْتِ. قَالَ: فَقَامَتْ عَلَى
بَابِ حُجْرَتِهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ،
فَقَالَتْ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ فَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ.
قَالَتْ [4] : فَثَارَ النَّاسُ إلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ فَقَالَ: لَا
وَاَللَّهِ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ، فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجًا إلَى صَلَاةِ
الصُّبْحِ أَطْلَقَهُ.
__________
[1] فِي أ: «أما إِن لَو كَانَ ... إِلَخ» .
[2] هَذِه الْكَلِمَة «من السحر» سَاقِطَة فِي أ.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] فِي م، ر: «قَالَ» .
(2/237)
(مَا نَزَلَ فِي التَّوْبَةِ عَلَى أَبِي
لُبَابَةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَقَامَ أَبُو لُبَابَةَ مُرْتَبِطًا بِالْجِذْعِ
سِتَّ لَيَالٍ. تَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ فِي كُلِّ وَقْتِ صَلَاةٍ،
فَتَحُلُّهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْتَبِطُ بِالْجِذْعِ، فِيمَا
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْآيَةُ [1] الَّتِي نَزَلَتْ فِي
تَوْبَتِهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 9: 102.
(إسْلَامُ نَفَرٍ مِنْ بَنِي هُدَلٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدَ
بْنَ سَعْيَةَ، وَأَسَدَ بْنَ عُبَيْدٍ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هُدَلٍ،
لَيْسُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا النَّضِيرِ، نَسَبُهُمْ فَوْقَ
ذَلِكَ، هُمْ بَنُو عَمِّ الْقَوْمِ، أَسْلَمُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ
الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(أَمْرُ عَمْرِو بْنِ سُعْدَى) :
وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى الْقَرَظِيُ،
فَمَرَّ بِحَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَعَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا رَآهُ
قَالَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: أَنَا عَمْرُو بْنُ سُعْدَى- وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَبَى أَنْ
يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: لَا أَغْدِرُ بِمُحَمَّدِ أَبَدًا-
فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمَةَ حِينَ عَرَفَهُ [2] : اللَّهمّ لَا
تَحْرِمْنِي إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ.
فَخَرَجَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَتَى [3] بَابَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ
ذَهَبَ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ تَوَجَّهَ مِنْ الْأَرْضِ إلَى يَوْمِهِ
هَذَا، فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَأْنُهُ، فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ نَجَّاهُ اللَّهُ بِوَفَائِهِ. وَبَعْضُ
النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أُوثِقَ بِرُمَّةِ [4] فِيمَنْ أُوثِقَ
مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، حِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ
__________
[1] فِي أ: «الْآيَات» .
[2] فِي م، ر: «طرفه» وَهُوَ تَحْرِيف.
[3] فِي أ: «حَتَّى بَات فِي مَسْجِد ... إِلَخ» .
[4] الرمة: الْحَبل الْبَالِي.
(2/238)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَصْبَحَتْ رُمَّتُهُ مُلْقَاةً، وَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تِلْكَ
الْمَقَالَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
(نُزُولُ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ الرَّسُولِ وَتَحْكِيمُ سَعْدٍ) :
(قَالَ) [1] فَلَمَّا أَصْبَحُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَوَاثَبَتْ الْأَوْسُ، فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُمْ [2] مَوَالِينَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ
فَعَلْتَ فِي مَوَالِي إخْوَانِنَا بِالْأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْتُ- وَقَدْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَنِي
قُرَيْظَةَ قَدْ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ
الْخَزْرَجِ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَسَأَلَهُ إيَّاهُمْ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بن سَلُولَ، فَوَهَبَهُمْ لَهُ- فَلَمَّا كَلَّمَتْهُ
الْأَوْسُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا
تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟
قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَذَاكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي خَيْمَةٍ
لِامْرَأَةِ مِنْ أَسْلَمَ [3] ، يُقَالُ لَهَا رُفَيْدَةُ، فِي
مَسْجِدِهِ، كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى
خِدْمَةِ مَنْ كَانَتْ بِهِ ضَيْعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ
أَصَابَهُ السَّهْمُ بِالْخَنْدَقِ: اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ
حَتَّى أَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. فَلَمَّا حَكَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، أَتَاهُ قَوْمُهُ
فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطَّئُوا لَهُ بِوِسَادَةِ مِنْ أَدَمٍ،
وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا جَمِيلًا، ثُمَّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا أَبَا
عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا وَلَّاكَ ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ، فَلَمَّا
أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: لقد أَنى لِسَعْدٍ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي
اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
فَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ، فَنَعَى لَهُمْ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ
إلَيْهِمْ سَعْدٌ، عَنْ كَلِمَتِهِ الَّتِي سَمِعَ مِنْهُ. فَلَمَّا
انْتَهَى سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] فِي م، ر: «إِنَّهُم كَانُوا» .
[3] وَقيل إِنَّهَا أنصارية. (رَاجع الْإِصَابَة وَشرح الْمَوَاهِب) .
(2/239)
قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ- فَأَمَّا
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَيَقُولُونَ: إنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ، وَأَمَّا
الْأَنْصَارُ، فَيَقُولُونَ: قَدْ عَمَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَامُوا إلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا
عَمْرٍو، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
وَلَّاكَ أَمْرَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ فِيهِمْ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ: عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، أَنَّ
الْحُكْمَ فِيهِمْ لَمَا حَكَمْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ: وعَلى من هَا هُنَا؟
فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إجْلَالًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: نَعَمْ، قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحُكْمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ
الرِّجَالُ، وَتُقَسَّمُ الْأَمْوَالُ، وَتُسْبَى الذَّرَارِيُّ
وَالنِّسَاءُ.
(رِضَاءُ الرَّسُولِ بِحُكْمِ سَعْدٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو ابْن سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ
عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ
بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ [1] .
(سَبَبُ نُزُولِ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ فِي رَأْيِ ابْنِ
هِشَامٍ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ صَاحَ وَهُمْ مُحَاصِرُو
بَنِي قُرَيْظَةَ: يَا كَتِيبَةَ الْإِيمَانِ، وَتَقَدَّمَ هُوَ
وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأَذُوقَنَّ مَا
ذَاقَ حَمْزَةُ أَوْ لَأُفْتَحَنَّ حِصْنَهُمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ،
نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
(مَقْتَلُ بَنِي قُرَيْظَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ اسْتَنْزَلُوا، فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ بِنْتِ
الْحَارِثِ [2] ، امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] الأرقعة: السَّمَوَات، الْوَاحِدَة: رقيع.
[2] قَالَ السهيليّ: «وَاسْمهَا: كيسة بنت الْحَارِث بن كريز بن حبيب بن
عبد شمس. وَكَانَت تَحت مُسَيْلمَة الْكذَّاب، ثمَّ خلف عَلَيْهَا عبد الله
بن عَامر بن كريز» .
وَقَالَ الزرقانى: «هِيَ رَملَة بنت الْحَارِث بن ثَعْلَبَة بن الْحَارِث
بن زيد، زَوْجَة معَاذ بن الْحَارِث ابْن رِفَاعَة، تكَرر ذكرهَا فِي
السِّيرَة. والواقدي يَقُول: رَملَة بنت الْحَدث (بِفَتْح الدَّال
الْمُهْملَة) . وَلَيْسَت هِيَ كيسة بنت الْحَارِث» .
(2/240)
إلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ، الَّتِي هِيَ
سُوقُهَا الْيَوْمَ، فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ، ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهِمْ،
فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ، يُخْرَجُ بِهِمْ إلَيْهِ
أَرْسَالًا [1] ، وَفِيهِمْ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ،
وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، رَأْسُ الْقَوْمِ، وهم ستّ مائَة أَو سبع مائَة،
وَالْمُكْثِرُ لَهُمْ يَقُولُ: كَانُوا بَين الثمان مائَة وَالتسع مائَة.
وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَالًا: يَا كَعْبُ، مَا
تَرَاهُ يُصْنَعُ بِنَا؟ قَالَ: أَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ؟
أَلَا تَرَوْنَ الدَّاعِيَ لَا يَنْزِعُ، وَأَنَّهُ مَنْ ذُهِبَ بِهِ
مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ؟ هُوَ وَاَللَّهِ الْقَتْلُ! فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
الدَّأْبُ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
(مَقْتَلُ ابْنِ أَخْطَبَ وَشِعْرُ ابْنِ جَوَّالٍ فِيهِ) :
وَأُتِيَ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ عَدُوِّ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ
لَهُ فَقَّاحِيَّةٌ [2]- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَقَّاحِيَّةٌ: ضَرْبٌ مِنْ
الْوَشَى- قَدْ شَقَّهَا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ
(أُنْمُلَةٍ) [3] لِئَلَّا يُسْلَبَهَا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ
بِحَبْلِ. فَلَمَّا نَظَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ،
وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلُ اللَّهَ يُخْذَلْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَمْرِ
اللَّهِ، كِتَابٌ وَقَدَرٌ وَمَلْحَمَةٌ كَتَبَهَا [4] اللَّهُ عَلَى بَنِي
إسْرَائِيلَ، ثُمَّ جَلَسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
فَقَالَ جَبَلُ بْنُ جَوَّالٍ الثَّعْلَبِيُّ [5] :
لَعَمْرُكَ مَا لَامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّهُ مَنْ
يَخْذُلُ اللَّهُ يُخْذَلْ
لَجَاهَدَ حَتَّى أَبْلَغَ النَّفْسَ عُذْرَهَا ... وَقَلْقَلَ يَبْغِي
الْعِزَّ كُلَّ مُقَلْقَلِ [6]
__________
[1] أَرْسَالًا، أَي طَائِفَة بعد طَائِفَة.
[2] فقاحية: تضرب إِلَى الْحمرَة، أَي على لون الْورْد حِين هم أَن يتفتح
(اللِّسَان) .
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] فِي أ: «كتبت» .
[5] كَانَ ابْن جوال هَذَا من بنى ثَعْلَبَة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن
ريث بن غطفان، وَكَانَ يَهُودِيّا فَأسلم، وَكَانَت لَهُ صُحْبَة. (رَاجع
الرَّوْض والاستيعاب) .
[6] قلقل: تحرّك.
16- سيرة ابْن هِشَام- 2
(2/241)
(قَتَلَ مِنْ نِسَائِهِمْ امْرَأَةً
وَاحِدَةً) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إلَّا
امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَتْ: وَاَللَّهِ إِنَّهَا لعندي تحدّث مَعِي،
وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْتُلُ رِجَالَهَا فِي السُّوقِ، إذْ هَتَفَ هَاتِفٌ
بِاسْمِهَا: أَيْنَ فُلَانَةُ؟ قَالَتْ: أَنَا وَاَللَّهِ قَالَتْ: قُلْتُ
لَهَا: وَيلك، مَالك؟ قَالَتْ: أُقْتَلُ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ:
لِحَدَثِ أَحْدَثْتُهُ، قَالَتْ: فَانْطَلَقَ بِهَا، فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا
[1] ، فَكَانَتْ عَائِشَة تَقول: فو الله مَا أَنْسَى عَجَبًا مِنْهَا،
طِيبَ نَفْسِهَا، وَكَثْرَةَ ضَحِكِهَا، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا
تُقْتَلُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ الَّتِي طَرَحَتْ الرَّحَا عَلَى خَلَّادِ
بْنِ سُوَيْدٍ، فَقَتَلَتْهُ.
(شَأْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ،
كَمَا ذَكَرَ لِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَتَى الزُّبَيْرَ [2] بْنَ
بَاطَا الْقُرَظِيُّ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ- وَكَانَ
الزُّبَيْرُ قَدْ مَنَّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ [3] . ذَكَرَ لِي بَعْضُ وَلَدِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ
مَنَّ عَلَيْهِ يَوْمَ بُعَاثٍ، أَخَذَهُ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ
خَلَّى سَبِيلَهُ- فَجَاءَهُ ثَابِتٌ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ: يَا
أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَلْ تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ
مِثْلِي مِثْلَكَ، قَالَ: إنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَجْزِيَكَ بِيَدِكَ
عِنْدِي، قَالَ: إنَّ الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ، ثُمَّ أَتَى ثَابِتُ
بْنُ قَيْسٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِلزُّبَيْرِ عَلَيَّ مِنَّةٌ،
وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا، فَهَبْ لِي دَمَهُ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَكَ، فَأَتَاهُ
فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
وَهَبَ لِي دَمَكَ، فَهُوَ لَكَ، قَالَ: شَيْخُ كَبِيرٌ لَا أَهْلَ لَهُ
وَلَا وَلَدٌ، فَمَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ؟ قَالَ: فَأَتَى ثَابِتٌ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي
__________
[1] قَالَ أَبُو ذَر: «هِيَ امْرَأَة الْحسن الْقرظِيّ» .
[2] قَالَ السهيليّ: «هُوَ الزبير، بِفَتْح الزاى وَكسر الْبَاء، جد الزبير
بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فِي الْمُوَطَّأ فِي كتاب النِّكَاح.
وَاخْتلف فِي الزبير بن عبد الرَّحْمَن، فَقيل: الزبير، بِفَتْح الزاى
وَكسر الْبَاء، كاسم جده، وَقيل الزبير» .
[3] فِي أ: «ذكر» .
(2/242)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَبْ [1] لِي
امْرَأَتَهُ وَوَلَدَهُ، قَالَ: هُمْ لَكَ. قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ
وَهَبَ لِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ سلم أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ، فَهُمْ
لَكَ، قَالَ: أَهْلُ بَيْتٍ بِالْحِجَازِ لَا مَالَ لَهُمْ، فَمَا
بَقَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَا لَهُ، قَالَ: هُوَ
لَكَ. فَأَتَاهُ ثَابِتٌ فَقَالَ: قَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَكَ، فَهُوَ لَكَ، قَالَ: أَيْ ثَابِتٌ، مَا
فَعَلَ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيَّةٌ يَتَرَاءَى فِيهَا
عَذَارَى الْحَيِّ، كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا
فَعَلَ سَيِّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ:
قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقَدِّمَتُنَا إذَا شَدَدْنَا،
وَحَامِيَتُنَا إذَا فَرَرْنَا، عَزَّالُ بْنُ سَمَوْأَلَ؟ قَالَ: قُتِلَ،
قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمُجْلِسَانِ؟ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ
وَبَنِيَّ عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، قَالَ:
ذَهَبُوا قُتِلُوا؟ قَالَ: فَأَنِّي أَسْأَلُكَ يَا ثَابِتُ بِيَدِي
عِنْدَكَ إلَّا ألحقتنى بالقوم، فو الله مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ
هَؤُلَاءِ مِنْ خَيْرٍ، فَمَا أَنَا بِصَابِرِ للَّه فَتْلَةَ دَلْوٍ
نَاضِحٍ [2] حَتَّى أَلْقَى الْأَحِبَّةَ. فَقَدَّمَهُ ثَابِتٌ، فَضُرِبَ
عُنُقُهُ.
فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَوْلَهُ «أَلْقَى الْأَحِبَّةَ»
. قَالَ: يَلْقَاهُمْ وَاَللَّهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا (فِيهَا)
[3] مُخَلَّدًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قِبْلَةَ دَلْوٍ [4] نَاضِحٍ. (و) [3] قَالَ زُهَيْرُ
بْنُ أَبِي سَلْمَى فِي «قِبْلَةٍ» :
وَقَابِلٍ يَتَغَنَّى كُلَّمَا قَدَرَتْ ... عَلَى الْعَرَاقَى يَدَاهُ
قَائِما دفقا [5]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: وَقَابِلٌ يُتَلَقَّى، يَعْنِي قَابِلَ
الدَّلْوِ يَتَنَاوَلُ [6] .
__________
[1] فِي أ: «يَا رَسُول الله، امْرَأَته وَولده» .
[2] الناضح: الْحَبل الّذي يسْتَخْرج عَلَيْهِ المَاء من الْبِئْر
بالسانية. وَأَرَادَ بقوله لَهُ: فتلة دلو نَاضِح، مِقْدَار مَا يَأْخُذ
الرجل الدَّلْو إِذا أخرجت فيصبها فِي الْحَوْض، يفتلها أَو يردهَا إِلَى
مَوْضِعه.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] قَالَ أَبُو ذَر: «وَمن رَوَاهُ: قبْلَة، بِالْقَافِ وَالْبَاء، فَهُوَ
بِمِقْدَار مَا يقبل الرجل الدَّلْو، ليصبها فِي الْحَوْض ثمَّ يصرفهَا،
وَهَذَا كُله لَا يكون إِلَّا عَن استعجال وَسُرْعَة» .
[5] الْقَابِل: الّذي يقبل الدَّلْو. ودفق المَاء صبه، والعراقي: جمع
عرقوة، وَهِي الْعود الّذي يكون فِي أدنى الدَّلْو.
[6] كَذَا وَردت هَذِه الْعبارَة الَّتِي تلى بَيت زُهَيْر مروية عَن ابْن
هِشَام فِي أَكثر الْأُصُول، وَهِي
(2/243)
(أَمْرُ عَطِيَّةَ وَرِفَاعَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ كُلًّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ، قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ أَنْ
يُقْتَلَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ كُلُّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ، وَكُنْتُ
غُلَامًا، فَوَجَدُونِي لَمْ أُنْبِتْ، فَخَلَّوْا سَبِيلِي.
قَالَ (ابْنُ إسْحَاقَ) [1] : وَحَدَّثَنِي أَيُّوبُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَخُو بَنِي
عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ: أَنَّ سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ، أُمَّ
الْمُنْذِرِ، أُخْتَ سليط بن أُخْت سُلَيْطِ بْنِ قَيْسٍ- وَكَانَتْ إحْدَى
خَالَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ صَلَّتْ
مَعَهُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَبَايَعَتْهُ بَيْعَةَ النِّسَاءِ- سَأَلَتْهُ
رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلَ الْقُرَظِيَّ، وَكَانَ رَجُلًا قَدْ بَلَغَ،
فَلَاذَ [2] بِهَا، وَكَانَ يَعْرِفُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، هَبْ لِي رِفَاعَةَ، فَإِنَّهُ
قَدْ زَعَمَ أَنَّهُ سَيُصَلِّي وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ، قَالَ:
فَوَهَبَهُ لَهَا، فَاسْتَحْيَتْهُ.
(قَسْمُ فَيْءِ بَنِي قُرَيْظَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَسَمَ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ
وَأَبْنَاءَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلَمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
سُهْمَانَ الْخَيْلِ وَسُهْمَانَ الرِّجَالِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا
الْخُمُسَ، فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ
وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ، وَلِلرَّاجِلِ، مَنْ لَيْسَ لَهُ فَرَسٌ، سَهْمٌ.
وَكَانَتْ الْخَيْلُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ
فَرَسًا، وَكَانَ أَوَّلَ فَيْءٍ وَقَعَتْ فِيهِ السُّهْمَانُ، وَأُخْرِجَ
مِنْهَا الْخُمْسُ، فَعَلَى سُنَّتِهَا وَمَا مَضَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَقَعَتْ الْمَقَاسِمُ، وَمَضَتْ
السُّنَّةُ فِي الْمَغَازِي.
__________
[ () ] فِي «أ» على الْوَجْه الْآتِي: «قَالَ ابْن هِشَام: هُوَ تَفْسِير
بَيت زُهَيْر، ويعنى قَابل الّذي يتلَقَّى الدَّلْو إِذا خرج من الْبِئْر.
والناضح: الْبَعِير الّذي يستقى المَاء لسقي النّخل، وَهَذَا الْبَيْت فِي
قصيدة لَهُ» .
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] لَاذَ بهَا: التجأ إِلَيْهَا.
(2/244)
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ أَخَا بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ بِسَبَايَا مِنْ سَبَايَا بَنِي قُرَيْظَةَ إلَى نَجْدٍ،
فَابْتَاعَ لَهُمْ بِهَا خَيْلًا وَسِلَاحًا.
(شَأْنُ رَيْحَانَةَ) :
(قَالَ) [1] : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ اصْطَفَى لِنَفْسِهِ مِنْ نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرِو
بْنِ خُنَافَةَ [2] ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ [3] ،
فَكَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا،
وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ تَتْرُكُنِي فِي مِلْكِكَ، فَهُوَ أَخَفُّ
عَلَيَّ وَعَلَيْكَ، فَتَرَكَهَا. وَقَدْ كَانَتْ حِينَ سَبَاهَا قَدْ
تَعَصَّتْ بِالْإِسْلَامِ، وَأَبَتْ إلَّا الْيَهُودِيَّةَ، فَعَزَلَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ
لِذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا. فَبَيْنَا هُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ، إذْ سَمِعَ
وَقْعَ نَعْلَيْنِ خَلْفَهُ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا لِثَعْلَبَةَ بْنِ
سَعْيَةَ يُبَشِّرُنِي بِإِسْلَامِ رَيْحَانَةَ، فَجَاءَهُ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ، فَسَرَّهُ ذَلِكَ مِنْ
أَمْرِهَا.
(مَا نَزَلَ فِي الْخَنْدَقِ وَبَنِيَّ قُرَيْظَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [4] : وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ
الْخَنْدَقِ، وَأَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، الْقِصَّةَ فِي
سُورَةِ الْأَحْزَابِ، يَذْكُرُ فِيهَا مَا نَزَلَ مِنْ الْبَلَاءِ،
وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَكِفَايَتِهِ إيَّاهُمْ حِينَ فَرَّجَ ذَلِكَ
عَنْهُمْ، بَعْدَ مَقَالَةِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ
تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً 33: 9.
وَالْجُنُودُ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ
الْجُنُودُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الرِّيحِ
الْمَلَائِكَةَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ
وَمن أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» 33: 10.
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول وَشرح الْمَوَاهِب مضبوطة بالعبارة. وَفِي
أ: «جنافة» .
[3] وَقيل: كَانَت من بنى النَّضِير متزوجة فِي قُرَيْظَة رجلا يُقَال لَهُ
الحكم. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[4] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
(2/245)
فَاَلَّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ
بَنُو قُرَيْظَةَ، وَاَلَّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ
قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ. يَقُولُ اللَّهُ (تَبَارَكَ و) [1] تَعَالَى:
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً،
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً 33: 11- 12 لِقَوْلِ
مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ إذْ يَقُولُ مَا قَالَ. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً 33: 13
لِقَوْلِ أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ وَمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ قَوْمِهِ
«وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا» : أَيْ الْمَدِينَةِ.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَقْطَارُ: الْجَوَانِبُ، وَوَاحِدُهَا: قُطْرٌ،
وَهِيَ الْأَقْتَارُ، وَوَاحِدُهَا: قَتَرٌ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
كَمْ مِنْ غِنًى فَتَحَ الْإِلَهُ لَهُمْ بِهِ ... وَالْخَيْلُ مُقْعِيَةٌ
عَلَى الْأَقْطَارِ [2]
وَيُرْوَى: «عَلَى الْأَقْتَارِ» . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
«ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ 33: 14» : أَيْ الرُّجُوعَ إلَى الشِّرْكِ
لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً.
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ،
وَكانَ عَهْدُ الله مَسْؤُلًا 33: 14- 15، فَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَهُمْ
الَّذِينَ هَمُّوا أَنْ يَفْشَلُوا يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ بَنِي سَلِمَةَ
حَيْنَ هَمَّتَا بِالْفَشَلِ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ عَاهَدُوا اللَّهَ أَنْ
لَا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا أَبَدًا، فَذَكَرَ لَهُمْ الَّذِي أَعْطَوْا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لَا
تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ
اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً، أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً، وَلا
يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ 33: 16- 18: أَيْ أَهْلَ
النِّفَاقِ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا، وَلا
يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا 33: 18:
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] مقعية: أَي سَاقِطَة على أجنابها تروم الْقيام، كَمَا تقعى الْكلاب على
أذنابها وأفخاذها.
(2/246)
أَيْ إلَّا دَفْعًا وَتَعْذِيرًا [1]
«أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ 33: 19» : أَيْ لِلضَّغَنِ الَّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ
«فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ 33: 19» : أَيْ
إعْظَامًا لَهُ وَفَرَقًا مِنْهُ «فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ 33: 19» : أَيْ فِي الْقَوْلِ بِمَا لَا تُحِبُّونَ،
لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ آخِرَةً، وَلَا تَحْمِلهُمْ حِسْبَةٌ [2] ،
فَهُمْ يَهَابُونَ الْمَوْتَ هَيْبَةَ مَنْ لَا يَرْجُو مَا بَعْدَهُ.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَلَقُوكُمْ: بَالَغُوا فِيكُمْ بِالْكَلَامِ،
فَأَحْرَقُوكُمْ وَآذَوْكُمْ. تَقُولُ الْعَرَبُ: خَطِيبٌ سَلَّاقٌ،
وَخَطِيبٌ مُسْلِقٌ وَمِسْلَاقٌ. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ ابْنِ
ثَعْلَبَةَ:
فِيهِمْ الْمجد والسّماحة والنجدة ... فِيهِمْ وَالْخَاطِبُ السَّلَّاقُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
«يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا 33: 20» قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ
«وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي
الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا
قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا 33: 20» .
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ 33: 21» : أَيْ لِئَلَّا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ
عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا عَنْ مَكَانٍ هُوَ بِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَصِدْقَهُمْ وَتَصْدِيقَهُمْ بِمَا
وَعَدَهُمْ اللَّهُ مِنْ الْبَلَاءِ يَخْتَبِرُهُمْ [3] بِهِ، فَقَالَ:
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ [4] قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا
إِيماناً وَتَسْلِيماً 33: 22: أَيْ صَبْرًا عَلَى الْبَلَاءِ وَتَسْلِيمًا
لِلْقَضَاءِ، وَتَصْدِيقًا لِلْحَقِّ، لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَدَهُمْ وَرَسُولُهُ [5] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] التعذير: أَن يفعل الرجل الشَّيْء بِغَيْر نِيَّة، وَإِنَّمَا يُرِيد
أَن يُقيم بِهِ الْعذر عِنْد من يرَاهُ.
[2] كَذَا فِي «أ» . والحسبة (بِالْكَسْرِ) : طلب الْأجر. وَفِي سَائِر
الْأُصُول: «حَسَنَة» .
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ليختبر» .
[4] هَذِه الْجُمْلَة: «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ 33: 22»
من الْآيَة سَاقِطَة فِي أ.
[5] فِي أ: «لما كَانَ الله وعدهم الله وَرَسُوله» .
(2/247)
ثُمَّ قَالَ: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ»
: أَيْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، وَرَجَعَ إلَى رَبِّهِ، كَمَنْ [1]
اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَضَى نَحْبَهُ: مَاتَ، وَالنَّحْبُ: النَّفْسُ،
فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمْعُهُ: نُحُوبٌ. قَالَ ذُو
الرُّمَّةِ:
عَشِيَّةَ فرّ الحارثيّون بعد مَا ... قضى نحبه فِي [2] ملتقى الْخَيل هوبر
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَهَوْبَرُ: مِنْ بَنِي الْحَارِثِ
بْنِ كَعْبٍ، أَرَادَ: يَزِيدَ ابْن هَوْبَرٍ. وَالنَّحْبُ (أَيْضًا) :
النَّذْرُ. قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطْفِيِّ:
بِطِخْفَةَ جَالَدْنَا [3] الْمُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيَّةَ بِسْطَامٍ
جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ
يَقُولُ: عَلَى نَذْرٍ كَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ فَقَتَلَتْهُ،
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَبِسْطَامٌ: بِسْطَامُ بْنُ قَيْسِ
بْنِ مَسْعُودٍ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ ابْنُ ذِي الْجَدَّيْنِ.
حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّهُ كَانَ فَارِسَ رَبِيعَةَ بْنِ
نِزَارٍ. وَطِخْفَةُ: مَوْضِعٌ بِطَرِيقِ الْبَصْرَةِ [4] وَالنَّحْبُ
(أَيْضًا) : الْخِطَارُ، وَهُوَ: الرِّهَانُ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَإِذْ نَحَبَتْ كَلْبٌ عَلَى النَّاسِ أَيُّنَا ... عَلَى النَّحْبِ
أَعْطَى لِلْجَزِيلِ وَأَفْضَلُ
وَالنَّحْبُ (أَيْضًا) : الْبُكَاءُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يُنْتَحَبُ.
وَالنَّحْبُ (أَيْضًا) : الْحَاجَةُ وَالْهِمَّةُ، تَقُولُ: مَا لِي
عِنْدَهُمْ نَحْبٌ. قَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ الْيَرْبُوعِي:
وَمَا لِي نَحْبٌ عِنْدَهُمْ غَيْرَ أَنَّنِي ... تَلَمَّسْتُ مَا تَبْغِي
من الشّدن الشّجر [5]
وَقَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ، أَحَدُ بَنِي تَيْمِ اللَّاتِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ
وَائِلٍ.
__________
[1] فِي أ: «لمن» .
[2] هَذِه الْكَلِمَة: «فِي» سَاقِطَة فِي أ. وَلَا يَسْتَقِيم الْوَزْن
بِدُونِهَا.
[3] فِي أ: «خالدنا» .
[4] هَذِه الْعبارَة: «بطرِيق الْبَصْرَة» سَاقِطَة فِي أ.
[5] الشدن: الْإِبِل منسوبة إِلَى شدن، مَوضِع بِالْيمن. وَالشَّجر:
الَّتِي فِي أعينها حمرَة.
(2/248)
قَالَ ابْنُ هِشَام: هَؤُلَاءِ موَالٍ
بَنِي حَنِيفَةَ [1] :
وَنَجَّى يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ رَكْضٌ ... دِرَاكٌ بَعْدَ مَا وَقَعَ
اللِّوَاءُ [2]
وَلَوْ أَدْرَكْنَهُ لَقَضَيْنَ نَحْبًا [3] ... بِهِ وَلِكُلِّ مُخْطَأَةٍ
وِقَاءُ
وَالنَّحْبُ (أَيْضًا) : السَّيْرُ الْخَفِيفُ الْمُرُّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [4] : «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ 33: 23» : أَيْ
مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ نَصْرِهِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَا مَضَى
عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَما بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا 33: 23: أَيْ مَا شَكُّوا وَمَا تَرَدَّدُوا فِي دِينِهِمْ،
وَمَا اسْتَبْدَلُوا بِهِ غَيْرَهُ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ، أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ 33: 24- 25: أَيْ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ
لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ
اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ 33: 25- 26: أَيْ بَنِي قُرَيْظَةَ «مِنْ صَياصِيهِمْ 33: 26» ،
وَالصَّيَاصِي: الْحُصُونُ وَالْآطَامُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ، وَبَنُو
الْحِسْحَاسِ مِنْ بَنِي أَسَدِ ابْن خُزَيْمَةَ:
وَأَصْبَحَتْ الثِّيرَانُ صَرْعَى وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ
يَبْتَدِرْنَ الصَّيَاصِيَا [5]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالصَّيَاصِيُّ (أَيْضًا) :
الْقُرُونُ. قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
وِسَادَةَ رَهْطِي حَتَّى بَقِيتُ ... فَرْدًا كَصَيْصِيَةِ الْأَعْضَبِ
[6]
يَقُولُ: أَصَابَ الْمَوْتُ سَادَةَ رَهْطِي [7] . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ أَبُو دَواُدَ الْإِيَادِيُّ [8] :
__________
[1] فِي م، ر: «هُوَ مولى أَبى حنيفَة الْفَقِيه» .
[2] الركض: الجرى. ودراك: متتابع.
[3] فِي م، ر: «وَلَو أَدْرَكته لقضيت» .
[4] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «يلتقطن» . وَزيد فيهمَا بعد هَذَا الْبَيْت:
«ويروى يبتدرون» .
[6] الأعضب: المكسور الْقرن.
[7] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[8] فِي الْأُصُول: «أَبُو دَاوُد» وَهُوَ تَحْرِيف.
(2/249)
فَذَعَرْنَا سُحْمَ الصَّيَاصِي
بِأَيْدِيهِنَّ ... نَضْحٌ مِنْ الْكُحَيْلِ وَقَارُ [1]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ [2] . وَالصَّيَاصِي (أَيْضًا) :
الشَّوْكُ الَّذِي لِلنَّسَّاجِينَ، فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ.
وَأَنْشَدَنِي لِدُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ الْجُشَمِىِّ، جُشَمُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ:
نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالرِّمَاحُ [3] تَنُوشُهُ [4] ... كَوَقْعِ الصَّيَاصِي
فِي النَّسِيجِ الْمُمَدَّدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالصَّيَاصِيُّ (أَيْضًا) :
الَّتِي تَكُونُ فِي أَرْجُلِ الدِّيَكَةِ نَاتِئَةً كَأَنَّهَا الْقُرُونُ
الصِّغَارُ، وَالصَّيَاصِي (أَيْضًا) : الْأُصُولُ. أَخْبَرَنِي أَبُو
عُبَيْدَةَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: جَذَّ اللَّهُ صِيصِيَتَهُ: أَيْ
أَصْلَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً 33: 26» : أَيْ قَتَلَ الرِّجَالَ،
وَسَبَى الذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ، «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ
وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها 33: 27» : يَعْنِي
خَيْبَرَ «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً 33: 27» .
(وَفَاةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَا ظَهَرَ مَعَ ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا انْقَضَى شَأْنُ بَنِي قُرَيْظَةَ
انْفَجَرَ بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ جُرْحُهُ، فَمَاتَ مِنْهُ شَهِيدًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [5] : حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ
الزُّرَقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي: أَنَّ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قُبِضَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مِنْ جَوْفِ
اللَّيْلِ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةِ مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا
مُحَمَّدُ، مَنْ
__________
[1] ذعرنا، من الذعر، وَهُوَ الْفَزع. والسحم: السود. والصياصي: الْقُرُون.
وَيُرِيد «بسحم الصَّيَاصِي» . الوعول الَّتِي فِي الْجبَال. ونضح: لطخ.
والكحيل: القطران. والقار: الزفت أَرَادَ مَا فِي أيديها من السوَاد. فشبهه
بالكحيل والقار.
[2] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[3] فِي أ: «وَالرِّيح» وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] تنوشه: تتناوله من قرب.
[5] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
(2/250)
هَذَا الْمَيِّتُ الَّذِي فُتِحَتْ لَهُ
أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَاهْتَزَّ لَهُ [1] الْعَرْشُ؟ قَالَ: فَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا يَجُرُّ
ثَوْبَهُ إلَى سَعْدٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [2] : وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ: أَقْبَلَتْ
عَائِشَةُ قَافِلَةً مِنْ مَكَّةَ، وَمَعَهَا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ،
فَلَقِيَهُ مَوْتُ امْرَأَةٍ لَهُ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا بَعْضَ الْحُزْنِ،
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ [3] : يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا يَحْيَى،
أَتَحْزَنُ عَلَى امْرَأَةٍ وَقَدْ أُصِبْتُ بِابْنِ عَمِّكَ، وَقَدْ
اهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ! قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا
أَتَّهِمُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ رَجُلًا
بَادِنًا، فَلَمَّا حَمَلَهُ النَّاسُ وَجَدُوا لَهُ خِفَّةً، فَقَالَ
رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ [4] : وَاَللَّهِ إنْ كَانَ لَبَادِنَا،
وَمَا حَمَلْنَا مِنْ جِنَازَةٍ أَخَفَّ مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إنَّ لَهُ حَمَلَةً
غَيْرَكُمْ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ اسْتَبْشَرَتْ
الْمَلَائِكَةُ بِرُوحِ سَعْدٍ، وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ. قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو ابْن الْجَمُوحِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا دُفِنَ سَعْدٌ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَبَّحَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ
__________
[1] قَالَ السهيليّ عِنْد الْكَلَام على اهتزاز الْعَرْش: «وَقد تكلم
النَّاس فِي مَعْنَاهُ وظنوا أَنه مُشكل. وَقَالَ بَعضهم: الاهتزاز
(هَاهُنَا) : بِمَعْنى الاستبشار بقدوم روحه. وَقَالَ بَعضهم: يُرِيد
حَملَة الْعَرْش وَمن عِنْده من الْمَلَائِكَة، استبعادا مِنْهُم لِأَن
يَهْتَز الْعَرْش على الْحَقِيقَة. وَلَا بعد فِيهِ، لِأَنَّهُ مَخْلُوق،
وَيجوز عَلَيْهِ الْحَرَكَة والهزة، وَلَا يعدل عَن ظَاهر (اللَّفْظ) مَا
وجد إِلَيْهِ سَبِيل. وَحَدِيث اهتزاز الْعَرْش لمَوْت سعد صَحِيح. قَالَ
أَبُو عمر: هُوَ ثَابت من طرق متواترة. وَمَا روى من قَول الْبَراء بن
عَازِب فِي مَعْنَاهُ: أَنه سَرِير سعد اهتز، لم يلْتَفت إِلَيْهِ
الْعلمَاء، وَقَالُوا: كَانَت بَين هذَيْن الْحَيَّيْنِ من الْأَنْصَار
ضغائن، وَفِي لفظ الحَدِيث: اهتز عرش الرَّحْمَن. رَوَاهُ أَبُو الزبير عَن
جَابر، يرفعهُ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ عَن طَرِيق الْأَعْمَش عَن أَبى
صَالح وأبى سُفْيَان، كِلَاهُمَا عَن جَابر. وَرَوَاهُ من الصَّحَابَة
جمَاعَة غير جَابر، مِنْهُم أَبُو سعيد الخدريّ وَأسيد بن حضير ورميثة بنت
عَمْرو، ذكر ذَلِك التِّرْمِذِيّ، وَالْعجب لما روى عَن مَالك رَحمَه الله،
من إِنْكَاره للْحَدِيث، وكراهيته للتحدث بِهِ مَعَ صِحَة نَقله، وَكَثْرَة
الروَاة لَهُ. وَلَعَلَّ هَذِه الرِّوَايَة لم تصح عِنْد مَالك، وَالله
أعلم» .
[2] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[3] فِي م، ر: «يَا عَائِشَة» وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] كَذَا فِي أوالاستيعاب فِي تَرْجَمَة سعد بن معَاذ، وَفِي سَائِر
الْأُصُول: «الْمُسلمين» .
(2/251)
فَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مِمَّ سَبَّحْتُ؟ قَالَ: لَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا
الْعَبْدِ الصَّالِحِ قَبْرُهُ، حَتَّى فَرَّجَهُ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ: وَمَجَازُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ عَائِشَةَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ لِلْقَبْرِ
لَضَمَّةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهَا نَاجِيًا لَكَانَ سَعْدَ بْنَ
مُعَاذٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلِسَعْدِ يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ:
وَمَا اهْتَزَّ عَرْشُ اللَّهِ مِنْ مَوْتِ هَالِكٍ ... سَمِعْنَا بِهِ
إلَّا لِسَعْدٍ أَبِي عَمْرٍو
وَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ، حِينَ اُحْتُمِلَ نَعْشُهُ وَهِيَ تَبْكِيهِ-
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وَهِيَ كُبَيْشَةُ بِنْتُ رَافِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ
بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْأَبْجَرِ [1] ، وَهُوَ
خُدْرَةُ [2] ابْن عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ:
وَيْلُ أُمِّ سَعْدٍ سَعْدًا [3] ... صَرَامَةً وَحَدَّا [4]
وَسُوْدُدًا وَمَجْدًا ... وَفَارِسًا مُعَدَّا
سُدَّ بِهِ مَسَدَّا ... يَقُدُّ هَامًا قَدَّا [5]
يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ نَائِحَةٍ
تَكْذِبُ، إلَّا نَائِحَةَ [6] سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
(شُهَدَاءُ يَوْمِ الْخَنْدَقِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمْ يَسْتَشْهِدْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ إلَّا سِتَّةُ نَفَرٍ.
(مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ) :
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَنَسُ بْنُ
أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ.
ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
(مِنْ بَنِي جُشَمَ) :
وَمِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ:
الطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَثَعْلَبَةُ ابْن غَنْمَةَ. رَجُلَانِ.
__________
[1] فِي الِاسْتِيعَاب: «كَبْشَة بنت رَافع بن عبيد بن ثَعْلَبَة بن عبيد
بن الأبجر» .
[2] فِي أ: «الأنجر وَهُوَ جدرة» وَهُوَ تَصْحِيف.
[3] كسرت اللَّام من «ويل» إتباعا لكسرة الْمِيم من «أم» .
[4] فِي أ: «وجدا» .
[5] هَذَا الشّطْر سَاقِط فِي أ.
[6] فِي أ: «نَاحيَة» وَهُوَ تَحْرِيف.
(2/252)
(مِنْ بَنِي النَّجَّارِ) :
وَمِنْ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي دِينَارٍ: كَعْبُ بْنُ زَيْدٍ،
أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَقَتَلَهُ.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَهْمُ غَرْبٍ وَسَهْمٌ غَرْبٌ، بِإِضَافَةِ وَغَيْرِ
إضَافَةٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيْنَ جَاءَ وَلَا مَنْ رَمَى
بِهِ [1] .
(قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ) :
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
(مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ) :
مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ،
فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ عُثْمَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ.
(عَرْضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرَّسُولِ شِرَاءَ جَسَدِ نَوْفَلٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: نَوْفَلُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَهُمْ جَسَدَهُ، وَكَانَ اقْتَحَمَ
الْخَنْدَقَ، فَتَوَرَّطَ [2] فِيهِ، فَقُتِلَ، فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى جَسَدِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا حَاجَةَ لَنَا فِي جَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ، فَخَلَّى بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَهُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَسَدِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فِيمَا بَلَغَنِي
عَنْ الزُّهْرِيِّ.
(مِنْ بَنِي عَامِرٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، ثُمَّ مِنْ
بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: عَمْرُو ابْن عَبْدِ وُدٍّ، قَتَلَهُ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
يَوْمَئِذٍ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ وَابْنَهُ حِسْلَ بْنَ عَمْرٍو.
__________
[1] هَذِه الْعبارَة: «قَالَ ابْن هِشَام ... رمى بِهِ» سَاقِطَة فِي أ.
[2] تورط فِيهِ: انتشب.
(2/253)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عَمْرُو
بْنُ عَبْدِ وُدٍّ، وَيُقَالُ: عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ.
(شُهَدَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: خَلَّادُ
بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًى،
فَشَدَخَتْهُ شَدْخًا شَدِيدًا، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ.
وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مُحْصَنِ بْنِ حَرْثَانَ، أَخُو بَنِي أَسَدِ
بْنِ خُزَيْمَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُحَاصِرٌ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ
الَّتِي يَدْفِنُونَ فِيهَا الْيَوْمَ، وَإِلَيْهِ دَفَنُوا أَمْوَاتَهُمْ
فِي الْإِسْلَامِ.
(بَشَّرَ الرَّسُولُ الْمُسْلِمِينَ بِغَزْوِ قُرَيْشٍ) :
وَلَمَّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْ الْخَنْدَقِ، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي: لَنْ
تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّكُمْ
تَغْزُونَهُمْ. فَلَمْ تَغْزُهُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ
الَّذِي يَغْزُوهَا، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ.
مَا قِيلَ مِنْ الشِّعْرِ فِي أَمْرِ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ
(شِعْرُ ضِرَارٍ) :
وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ
بْنِ فِهْرٍ، فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ:
وَمُشْفِقَةٌ تَظُنُّ بِنَا الظَّنُونَا ... وَقَدْ قُدْنَا عَرَنْدَسَةً
طَحُونَا [1]
كَأَنَّ زُهَاءَهَا أُحُدٌ إذَا مَا ... بَدَتْ أَرْكَانُهُ
لِلنَّاظِرِينَا [2]
تَرَى الْأَبْدَانَ فِيهَا مُسْبِغَاتٍ ... عَلَى الْأَبْطَالِ وَالْيَلَبَ
الْحَصِينَا [3]
وَجُرْدًا كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَاتٍ ... نَؤُمُّ بهَا الغواة الخاطئينا
[4]
__________
[1] العرندسة: الشَّدِيدَة الْقُوَّة. يُرِيد: كَتِيبَة. والطحون: الَّتِي
تطحن كل مَا مرت بِهِ.
[2] زهاؤها: تَقْدِير عَددهَا.
[3] الْأَبدَان (هُنَا) : الدروع: ومسبغات: كَامِلَة. واليلب: الترسة أَو
الدرق.
[4] الجرد: الْخَيل الْعتاق. والقداح: السِّهَام. والمسومات: الْمُرْسلَة،
وَيُقَال: هِيَ الغالية الأسوام. ونؤم: نقصد.
(2/254)
كَأَنَّهُمْ إذَا صَالُوا وَصُلْنَا ...
بِبَابِ الْخَنْدَقَيْنِ مُصَافِحُونَا [1]
أُنَاسٌ لَا نَرَى فِيهِمْ رَشِيدًا ... وَقَدْ قَالُوا أَلَسْنَا
رَاشِدِينَا
فَأَحْجَرْنَاهُمُ شَهْرًا كَرِيتًا ... وَكُنَّا فَوْقَهُمْ
كَالْقَاهِرِينَا [2]
نُرَاوِحُهُمْ وَنَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ ... عَلَيْهِمْ فِي السِّلَاحِ
مُدَجَّجِينَا [3]
بِأَيْدِينَا صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٌ ... نَقُدُّ بهَا المفارق والشّؤنا [4]
كَأَنَّ وَمِيضَهُنَّ مُعَرَّيَاتٍ ... إذَا لَاحَتْ بِأَيْدِي
مُصْلِتِينَا [5]
وَمِيضُ عَقِيقَةٍ لَمَعَتْ بِلَيْلٍ ... تَرَى فِيهَا الْعَقَائِقَ
مُسْتَبِينَا [6]
فَلَوْلَا خَنْدَقٌ كَانُوا لَدَيْهِ ... لَدَمَّرْنَا عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَا
وَلَكِنْ حَالَ دُونَهُمْ وَكَانُوا ... بِهِ مِنْ خَوْفِنَا
مُتَعَوِّذِينَا
فَإِنْ نَرْحَلْ فَإِنَّا قَدْ تَرَكْنَا ... لَدَى أَبْيَاتِكُمْ سَعْدًا
رَهِينَا
إذَا جَنَّ الظَّلَامُ سَمِعْتَ نَوْحَى ... عَلَى سَعْدٍ يُرَجِّعْنَ
الْحَنِينَا [7]
وَسَوْفَ نَزُورُكُمْ عَمَّا قَرِيبٍ ... كَمَا زُرْنَاكُمْ
مُتَوَازِرِينَا [8]
بِجَمْعٍ مِنْ كِنَانَةَ غَيْرَ عُزْلٍ ... كَأُسْدِ الْغَابِ قَدْ حَمَتِ
الْعَرِينَا [9]
(شِعْرُ كَعْبٍ فِي الرَّدِّ على ضرار) :
فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ:
وَسَائِلَةٍ تُسَائِلُ مَا لَقِينَا ... وَلَوْ شَهِدَتْ رَأَتْنَا
صَابِرِينَا
__________
[1] المصافحة: أَخذ الرجل بيد الرجل عِنْد السَّلَام.
[2] أحجرناهم: حصرناهم. وشهرا كريتا: تَاما كَامِلا.
[3] المدجج (بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا) : الْكَامِل السِّلَاح.
[4] الصوارم: السيوف. ومرهفات: قَاطِعَة. وَنقد: تقطع. والمفارق: جمع مفرق،
وَهُوَ حَيْثُ ينفرق الشّعْر فِي أَعلَى الْجَبْهَة. وَيُرِيد «بالشئون» .
مجمع الْعِظَام فِي أَعلَى الرَّأْس.
[5] الوميض: اللمعان. والمصلت: الّذي جرد سَيْفه من غمده.
[6] الْعَقِيقَة: السحابة الَّتِي تشق عَن الْبَرْق.
[7] النوحى: جمَاعَة النِّسَاء اللَّاتِي يَنحن.
[8] متوازرين: متعاونين.
[9] الْعَزْل: الَّذين لَا سلَاح مَعَهم، الْوَاحِد: أعزل. والغاب جمع
غابة، وَهِي الأجمة والعرين:
مَوضِع الْأسد.
(2/255)
صَبَرْنَا لَا نَرَى للَّه عَدْلًا ...
عَلَى مَا نَابَنَا مُتَوَكِّلِينَا
وَكَانَ لَنَا النَّبِيُّ وَزِيرَ صِدْقٍ ... بِهِ نَعْلُو الْبَرِيَّةَ
أَجْمَعِينَا
نُقَاتِلُ مَعْشَرًا ظَلَمُوا وَعَقُّوا ... وَكَانُوا بِالْعَدَاوَةِ
مُرْصِدِينَا [1]
نُعَاجِلُهُمْ إذَا نَهَضُوا إلَيْنَا ... بِضَرْبٍ يُعْجِلُ
الْمُتَسَرِّعِينَا
تَرَانَا فِي فَضَافِضَ سَابِغَاتٍ ... كَغُدْرَانِ الْمَلَا
مُتَسَرْبِلِينَا [2]
وَفِي أَيْمَانِنَا بِيضٌ خِفَافٌ ... بِهَا نَشْفِي مُرَاحَ
الشَّاغِبِينَا [3]
بِبَابِ الْخَنْدَقَيْنِ كَأَنَّ أُسْدًا ... شَوَابِكُهُنَّ يحمين العرينا
[4]
فوارسنا إذَا بَكَرُوا وَرَاحُوا ... عَلَى الْأَعْدَاءِ شُوسًا
مُعْلَمِينَا [5]
لِنَنْصُرَ أَحَمْدًا وَاَللَّهَ حَتَّى ... نَكُونَ عِبَادَ صِدْقٍ
مُخْلِصِينَا
وَيَعْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ حِينَ سَارُوا ... وَأَحْزَابٌ أَتَوْا
مُتَحَزِّبِينَا
بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ... وَأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى
الْمُؤْمِنِينَا
فَإِمَّا تَقْتُلُوا سَعْدًا سَفَاهًا ... فَإِنَّ اللَّهَ خَيْرُ
الْقَادِرِينَا
سَيُدْخِلُهُ جِنَانًا طَيِّبَاتٍ ... تَكُونُ مُقَامَةً لِلصَّالِحِينَا
كَمَا قَدْ رَدَّكُمْ فَلًّا شَرِيدًا ... بِغَيْظِكُمْ خَزَايَا
خَائِبِينَا [6]
خَزَايَا لَمْ تَنَالُوا ثَمَّ خَيْرًا ... وَكِدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا
دَامِرِينَا [7]
بِرِيحِ عَاصِفٍ هَبَّتْ عَلَيْكُمْ ... فَكُنْتُمْ تَحْتَهَا
مُتَكَمِّهِينَا [8]
(شِعْرُ ابْنِ الزِّبَعْرَى) :
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ، فِي يَوْمِ
الْخَنْدَقِ:
__________
[1] المرصد: الْمعد لِلْأَمْرِ عدته.
[2] الفضافض: الدروع المتسعة. وسابغات: كَامِلَة. والملا (مَقْصُور) :
المتسع من الأَرْض.
ومتسربلون: لابسون للدروع.
[3] المراح: النشاط.
[4] الشوابك: الَّتِي يتشبث بهَا فَلَا يفلت.
[5] الشوس: جمع أشوس، وَهُوَ الّذي ينظر نظر المتكبر بمؤخر عينه. والمعلم
(بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا) : الّذي أعلم نَفسه بعلامة الْحَرْب ليشتهر
بهَا.
[6] الفل: الْقَوْم المنهزمون. والشريد: الطريد.
[7] دامرين: هالكين.
[8] العاصف: الرّيح الشَّدِيدَة. والمتكمه: الْأَعْمَى الّذي لَا يبصر.
(2/256)
حَتَّى الدِّيَارَ مَحَا مَعَارِفَ
رَسْمِهَا ... طُولُ الْبِلَى وتراوح الأحقاب [1]
فَكَأَنَّمَا كَتَبَ الْيَهُودُ رُسُومَهَا ... إلَّا الْكَنِيفَ
وَمَعْقِدَ الْأَطْنَابِ [2]
قَفْرًا كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَلْهُو بِهَا ... فِي نِعْمَةٍ بِأَوَانِسٍ
أَتْرَابِ [3]
فَاتْرُكْ تَذَكُّرَ مَا مَضَى مِنْ عِيشَةٍ ... وَمَحِلَّةٍ خَلْقِ
الْمَقَامِ يَبَابِ [4]
وَاذْكُرْ بَلَاءَ مَعَاشِرٍ وَاشْكُرْهُمْ ... سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ
مِنْ الْأَنْصَابِ [5]
أَنْصَابِ مَكَّةَ عَامِدِينَ لِيَثْرِبِ ... فِي ذِي غَيَاطِلَ جَحْفَلٍ
جَبْجَابِ [6]
يَدَعُ الْحُزُونَ مَنَاهِجًا مَعْلُومَةً ... فِي كُلِّ نَشْرٍ ظَاهِرٍ
وَشِعَابِ [7]
فِيهَا الْجِيَادُ شَوَازِبٌ مَجْنُوبَةٌ ... قُبُّ الْبُطُونِ لَوَاحِقُ
الْأَقْرَابِ [8]
مِنْ كُلِّ سَلْهَبَةٍ وَأَجْرَدَ سَلْهَبٍ ... كَالسِّيدِ بَادَرَ
غَفْلَةَ الرُّقَّابِ [9]
جَيْشُ عُيَيْنَةَ قَاصِدٌ بِلِوَائِهِ ... فِيهِ وَصَخْرٌ قَائِدُ
الْأَحْزَابِ
قَرْمَانُ كَالْبَدْرَيْنِ أَصْبَحَ فِيهِمَا ... غَيْثُ الْفَقِيرِ
وَمَعْقِلُ الْهُرَّابِ [10]
حَتَّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَدَوْا ... لِلْمَوْتِ كُلَّ
مُجَرَّبٍ قَضَّابِ [11]
__________
[1] الأحقاب: الدهور، الْوَاحِد: حقب.
[2] الكنيف: الحظيرة والزرب الّذي يصنع لِلْإِبِلِ، وسمى كنيفا، لِأَنَّهُ
يكنفها، أَي يَسْتُرهَا والأطناب: الحبال الَّتِي تشد بهَا الأخبية وبيوت
الْعَرَب. وَيُرِيد «بمعقدها» : الْأَوْتَاد الَّتِي ترْبط بهَا.
[3] الأتراب: جمع ترب وَهن المتساويات فِي السن.
[4] اليباب: القفر.
[5] قَالَ أَبُو ذَر: «الأنصاب هُنَا: الْحِجَارَة الَّتِي يعلم بهَا
الْحرم. والأنصاب (أَيْضا) : حِجَارَة كَانُوا يذبحون لَهَا ويعظمونها» .
[6] يُرِيد «بِذِي غياطل» : جَيْشًا كثير الْأَصْوَات. والغياطل: جمع
غيطلة، وَهِي الصَّوْت هُنَا.
وجحفل: جَيش. وجبجاب: كثير.
[7] الحزون: جمع حزن، وَهُوَ مَا ارْتَفع من الأَرْض. والمناهج: جمع
مَنْهَج، وَهُوَ الطَّرِيق الْبَين.
والنشر: الْمُرْتَفع من الأَرْض، وَيُقَال فِيهِ نشز أَيْضا. (وَهِي
رِوَايَة) . والشعاب: جمع شعب، وَهُوَ المنخفض بَين جبلين.
[8] الشوازب: الضامرة. والمجنوبة: المقودة. وَقب: ضامرة. ولواحق: ضامرة
(أَيْضا) .
والأقراب: جمع قرب، وَهُوَ الخاصرة وَمَا يَليهَا.
[9] السلهبة: الطَّوِيلَة. وَالسَّيِّد: الذِّئْب.
[10] قرمان: فحلان سيدان. وَمَعْقِل الهراب: ملجؤهم.
[11] ارْتَدُّوا: تقلدوا. وكل مجرب: أَي كل سيف قد جرب. والقضاب:
الْقَاطِع.
17- سيرة ابْن هِشَام- 2
(2/257)
شَهْرًا وَعَشْرًا قَاهِرِينَ مُحَمَّدًا
... وَصِحَابُهُ فِي الْحَرْبِ خَيْرُ صِحَابِ
نَادَوْا بِرِحْلَتِهِمْ صَبِيحَةَ قُلْتُمْ ... كِدْنَا نَكُونُ بِهَا
مَعَ الْخُيَّابِ
لَوْلَا الْخَنَادِقَ غَادَرُوا مِنْ جَمْعِهِمْ ... قَتْلَى لِطَيْرٍ
سُغَّبٍ [1] وَذِئَابِ
(شِعْرُ حَسَّانَ) :
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ:
هَلْ رَسْمُ دَارِسَةِ الْمَقَامِ يَبَابِ [2] ... مُتَكَلِّمٌ لِمُحَاوِرِ
[3] بِجَوَاب
قفر عفارهم السَّحَابِ رُسُومَهُ ... وَهُبُوبُ كُلِّ مُطِلَّةٍ مِرْبَابِ
[4]
وَلَقَدْ رَأَيْت بهَا الحاول يَزِينُهُمْ ... بِيضُ الْوُجُوهِ ثَوَاقِبُ
الْأَحْسَابِ [5]
فَدَعْ الدِّيَارَ وَذِكْرَ كُلِّ خَرِيدَةٍ ... بَيْضَاءَ آنِسَةِ
الْحَدِيثِ كَعَابِ [6]
وَاشْكُ الْهُمُومَ إلَى الْإِلَهِ وَمَا تَرَى ... مِنْ مَعْشَرٍ ظَلَمُوا
الرَّسُولَ غِضَابِ
سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ وَأَلَّبُوا ... أَهْلَ الْقُرَى
وَبَوَادِيَ الْأَعْرَابِ [7]
جَيْشُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ حَرْبٍ فِيهِمْ ... مُتَخَمِّطُونَ بِحَلَبَةِ
الْأَحْزَابِ [8]
حَتَّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَجَوْا ... قَتْلَى الرَّسُولِ
وَمَغْنَمَ الْأَسْلَابِ
وَغَدَوْا عَلَيْنَا قَادِرِينَ بِأَيْدِهِمْ ... رُدُّوا بِغَيْظِهِمْ
عَلَى الْأَعْقَابِ [9]
بِهُبُوبِ مُعْصِفَةٍ تُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ ... وَجُنُودِ رَبِّكَ سَيِّدِ
الْأَرْبَابِ [10]
فَكَفَى الْإِلَهُ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَهُمْ ... وَأَثَابَهُمْ فِي
الْأَجْرِ خَيْرَ ثَوَابِ
__________
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وسغب: جائعة. وَفِي أ: «شعب» .. وَهُوَ
تَصْحِيف.
[2] اليباب: القفر.
[3] كَذَا فِي أ. والمحاور: الّذي يراجعك وَيتَكَلَّم مَعَك. وَفِي سَائِر
الْأُصُول: «لمحارب» .
[4] عَفا: تغير ودرس. ورهم: جمع رهمة، وَهِي الْمَطَر، ومطلة: مشرقة.
ومرباب: دائمة ثَابِتَة.
[5] الْحُلُول: الْبيُوت المجتمعة. وثواقب: مشرقة، وَمِنْه قَوْله
تَعَالَى: «النَّجْمُ الثَّاقِبُ 86: 3» .
[6] الخريدة: الْمَرْأَة الناعمة. والكعاب: الَّتِي نهد ثديها فِي أول مَا
ينهد.
[7] ألبوا: جمعُوا.
[8] متخمطون: مختلطون. قَالَ أَبُو ذَر: «وَيُقَال: المتخمط: الشَّديد
الْغَضَب المتكبر» . والحلبة جمَاعَة الْخَيل الَّتِي تعد للسباق.
[9] الأيد: الْقُوَّة.
[10] المعصفة: الرّيح الشَّدِيدَة.
(2/258)
مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا فَفَرَّقَ
جَمْعَهُمْ ... تَنْزِيلُ نَصْرٍ مَلِيكِنَا الْوَهَّابِ
وَأَقَرَّ عَيْنَ مُحَمَّدٍ وَصِحَابِهِ ... وَأَذَلَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ
مُرْتَابِ
عَاتِي الْفُؤَادِ مُوَقَّعٍ ذِي رِيبَةٍ ... فِي الْكُفْرِ لَيْسَ
بِطَاهِرِ الْأَثْوَابِ [1]
عَلِقَ الشَّقَاءُ بِقَلْبِهِ فَفُؤَادُهُ ... فِي الْكُفْرِ آخِرُ هَذِهِ
الْأَحْقَابِ
(شِعْرُ كَعْبٍ) :
وَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَيْضًا، فَقَالَ:
أَبْقَى لَنَا حَدَثُ الْحُرُوبِ بَقِيَّةً ... مِنْ خَيْرِ نِحْلَةِ
رَبِّنَا الْوَهَّابِ [2]
بَيْضَاءَ مُشْرِفَةَ الذُّرَى وَمَعَاطِنًا ... حُمُّ الْجُذُوعِ
غَزِيرَةُ الْأَحْلَابِ [3]
كَاللُّوبِ يُبْذَلُ جَمُّهَا وَحَفِيلُهَا ... لِلْجَارِ وَابْنِ الْعَمِّ
وَالْمُنْتَابِ [4]
وَنَزَائِعًا مِثْلَ السَّرَاحِ نَمَى بِهَا ... عَلَفُ الشَّعِيرِ
وَجِزَّةُ الْمِقْضَابِ [5]
عَرِيَ الشَّوَى مِنْهَا وَأَرْدَفَ نَحْضَهَا ... جُرْدُ الْمُتُونِ
وَسَائِرُ الْآرَابِ [6]
قُودًا تَرَاحُ إلَى الصِّيَاحِ إذْ غَدَتْ ... فِعْلَ الضِّرَاءِ تَرَاحُ
لِلْكَلَّابِ [7]
وَتَحُوطُ سَائِمَةَ الدِّيَارِ وَتَارَةً ... تُرْدِي الْعِدَا وَتَئُوبُ
بِالْأَسْلَابِ [8]
__________
[1] عاتى الْفُؤَاد: قاسيه. وموقع: ذُو هيب، وَأَصله من التوقيع فِي ظهر
الدَّابَّة، وَهُوَ انسلاخ يكون فِيهِ.
[2] النحلة: الْعَطاء.
[3] الذرى: الأعالي. ويعنى بهَا: الْآطَام. ويعنى «بالمطاعن» : منابت
النّخل عِنْد المَاء، تَشْبِيها لَهَا بمطاعن الْإِبِل، وَهِي مباركها حول
المَاء. وحم: سود. وَيُرِيد «بالجذوع» : أعناقها. والأحلاب:
مَا يحلب مِنْهَا.
[4] اللوب: جمع لوبة، وَهِي الْحرَّة، وَهِي أَرض ذَات حِجَارَة سود.
وجمها: مَا اجْتمع من لَبنهَا.
والمنتاب: القاصد الزائر.
[5] النزائع: الْخَيل الْعَرَبيَّة الَّتِي حملت من أرْضهَا إِلَى أَرض
أُخْرَى. والسراح: الذئاب، الْوَاحِد سرحان. وجزة المقضاب: أَي مَا يجز
لَهَا من النَّبَات فتطعمه، والمقضاب: من القضب، وَهُوَ الْقطع.
[6] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والشوى: القوائم. والنحض: اللَّحْم. وجرد
الْمُتُون: ملس الظُّهُور.
والآراب: جمع إرب، وَهُوَ كل عُضْو مُسْتَقل بِنَفسِهِ. وَفِي أ «وَسَار
فِي الْآرَاب» .
[7] قَود: طوال، الْوَاحِد: أَقُود وقوداء. وتراح: تنشط. وَالضَّرَّاء:
الْكلاب الضارية فِي الصَّيْد وَالْكلاب الصَّائِد صَاحب الْكلاب،
الْوَاحِد: كالب.
[8] السَّائِمَة: الْمَاشِيَة الْمُرْسلَة فِي المرعى إبِلا كَانَت أَو
غَيرهَا. وتردى: تهْلك. وتئوب: ترجع.
(2/259)
حُوشُ الْوُحُوشِ مُطَارَةٌ عِنْدَ
الْوَغَى ... عُبْسُ اللِّقَاءِ مبينَة الإنجاب [1]
علقت عَلَى دَعَةٍ فَصَارَتْ بُدَّنًا ... دُخْسَ الْبَضِيعِ خَفِيفَةَ
الْأَقْصَابِ [2]
يَغْدُونَ بِالزَّغْفِ الْمُضَاعَفِ شَكَّةً ... وَبِمُتْرَصَاتِ فِي
الثِّقَافِ صِيَابِ [3]
وَصَوَارِمٌ نَزَعَ الصَّيَاقِلَ غُلْبَهَا ... وَبِكُلِّ أَرْوَعَ مَاجِدْ
الْأَنْسَابِ [4]
يَصِلُ الْيَمِينَ بِمَارِنٍ مُتَقَارِبٍ ... وُكِلَتْ وَقِيعَتُهُ إلَى
خَبَّابِ [5]
وَأَغَرَّ أَزْرَقَ فِي الْقَنَاةِ كَأَنَّهُ ... فِي طُخْيَةِ
الظَّلْمَاءِ ضَوْءُ شِهَابِ [6]
وَكَتِيبَةٍ يَنْفِي الْقِرَانَ قَتِيرُهَا ... وتردّ حدّ قواحز
النُّشَّابِ [7]
جَأْوَى مُلَمْلَمَةً كَأَنَّ رِمَاحَهَا [8] ... فِي كُلِّ مَجْمَعَةٍ
ضَرِيمَةُ غَابِ [9]
يَأْوِي إلَى ظِلِّ اللِّوَاءِ كَأَنَّهُ ... فِي صَعْدَةِ الْخَطِّيِّ
فَيْءُ عُقَّابِ [10]
أَعْيَتْ أَبَا كَرْبٍ وَأَعْيَتْ تُبَّعًا ... وَأَبَتْ بَسَالَتُهَا
عَلَى الْأَعْرَابِ [11]
وَمَوَاعِظٌ مِنْ رَبِّنَا نُهْدَى بِهَا ... بِلِسَانِ أَزْهَرَ طَيِّبِ
الْأَثْوَابِ [12]
عُرِضَتْ عَلَيْنَا فَاشْتَهَيْنَا ذِكْرَهَا ... مِنْ بَعْدِ مَا عُرِضَتْ
عَلَى الْأَحْزَابِ
حِكَمًا يَرَاهَا الْمُجْرِمُونَ بِزَعْمِهِمْ ... حَرَجًا وَيَفْهَمُهَا
ذَوُو الْأَلْبَابِ [13]
__________
[1] الحوش: النافرة. والمطارة: المستخفة. والوغى: الْحَرْب. والإنجاب:
الْكَرم وَالْعِتْق.
[2] الْبدن: السمان. ودخس: كَثِيرَة اللَّحْم. والبضيع: اللَّحْم.
والأقصاب: الأمعاء، الْوَاحِد:
قصب.
[3] الزغف: الدروع اللينة: والمترصات. الشديدات وصياب: صائبة.
[4] صوارم: سيوف قَاطِعَة. وغلبها: خشونتها وَمَا عَلَيْهَا من الصدأ.
والأروع: الّذي يروع بِكَمَالِهِ وجماله. والماجد: الشريف.
[5] المارن: الرمْح اللين. ووقيعته: صَنعته وتطريقه وتحديده. وخباب: اسْم
قين.
[6] يعْنى بالأغر الْأَزْرَق: سِنَانًا. والطخية: شدَّة السوَاد.
[7] الْقرَان: تقارن النبل واجتماعه. والقتير: مسامير حلق الدرْع. وَيُرِيد
الدروع. وقواحز النشاب: النبال الَّتِي تصيب الأفخاذ.
[8] جأوى (الأَصْل فِيهِ الْمَدّ وَقصر للضَّرُورَة) : يخالط سوادها خمرة.
وململة: مجتمعة.
[9] كَذَا فِي شرح السِّيرَة لأبي ذَر. والضريمة: اللهب المتوقد. وَفِي
الْأُصُول: «صريمة» بالصَّاد الْمُهْملَة.
[10] الصعدة: الْقَنَاة المستوية. والخطى: الرماح. والفيء: الظل.
[11] أَبُو كرب وَتبع: ملكان من مُلُوك الْيمن. وبسالتها: شدتها.
[12] الْأَزْهَر: الْأَبْيَض.
[13] حرجا: حَرَامًا. والألباب: الْعُقُول.
(2/260)
جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا
... فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ [1]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا ... فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ
الْغَلَّابِ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ
شَكَرَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ عَلَى قَوْلِكَ هَذَا. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ:
مَنْ سَرَّهُ ضَرْبٌ يُمَعْمِعُ بَعْضُهُ ... بَعْضًا كَمَعْمَعَةِ
الْأَبَاءِ الْمُحْرَقِ [2]
فَلْيَأْتِ مَأْسَدَةً تُسَنُّ سُيُوفُهَا [3] ... بَيْنَ الْمَذَادِ [4]
وَبَيْنَ جَزْعِ [5] الْخَنْدَقِ
دَرِبُوا بِضَرْبِ الْمُعْلِمِينَ وَأَسْلَمُوا ... مُهُجَاتِ أَنْفُسِهِمْ
لِرَبِّ الْمَشْرِقِ [6]
فِي عُصْبَةٍ نَصَرَ الْإِلَهُ نَبِيَّهُ ... بِهِمْ وَكَانَ بِعَبْدِهِ
ذَا مَرْفِقِ [7]
فِي كُلِّ سَابِغَةٍ تَخُطُّ [8] فُضُولُهَا ... كَالنَّهْيِ هَبَّتْ
رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ [9]
بَيْضَاءُ مُحْكِمَةٌ كَأَنَّ قَتِيرَهَا ... حَدَقُ الْجَنَادِبِ ذَاتُ
شَكٍّ مُوثَقِ [10]
__________
[1] سخينة: لقب قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة. وَذكروا أَن قصيا كَانَ إِذا
ذبح ذَبِيحَة أَو نحر نحيرة بِمَكَّة أَتَى بعجزها فَصنعَ مِنْهُ خزيرة-
وَهُوَ لحم يطْبخ ببر- فيطعمه النَّاس، فسميت قُرَيْش بهَا سخينة. وَقيل:
إِن الْعَرَب كَانُوا إِذا أسنتوا أكلُوا العلهز. وَهُوَ الْوَبر وَالدَّم،
وتأكل قُرَيْش الخزيرة، فنفست عَلَيْهِم ذَلِك، فلقبوهم سخينة. (رَاجع
الرَّوْض) .
[2] المعمعة: صَوت التهاب النَّار وصريفها. والأباء: الْقصب، وَيُقَال.
الأغصان الملتفة.
[3] المأسدة: مَوضِع الْأسود، ويعنى بهَا هُنَا مَوضِع الْحَرْب.
[4] كَذَا فِي أ. والمذاد: مَوضِع بِالْمَدِينَةِ حَيْثُ حفر الخَنْدَق،
وَقيل هُوَ بَين سلع وَخَنْدَق الْمَدِينَة.
وَفِي سَائِر الْأُصُول: «المزاد» وَهُوَ تَحْرِيف.
[5] كَذَا فِي أ. والجزع: الْجَانِب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الْجذع»
وَهُوَ تَحْرِيف.
[6] المعلمون الَّذين: يعلمُونَ أنفسهم فِي الْحَرْب بعلامة يعْرفُونَ
بهَا. والمهجات: الْأَنْفس، الْوَاحِدَة: مهجة ولرب الْمشرق: يُرِيد لرب
الْمشرق وَالْمغْرب، فَحَذفهُ للْعلم بِهِ.
[7] الْعصبَة الْجَمَاعَة:
[8] فِي أ: «يحط» بِالْحَاء الْمُهْملَة.
[9] السابغة: الدروع الْكَامِلَة. وتخط فضولها: ينجر على الأَرْض مَا فضل
مِنْهَا. والنهى: الغدير من المَاء. والمترقرق: الّذي تصفقه الرّيح،
فَيَجِيء وَيذْهب.
[10] القتير: مسامير الدروع. وَالْجَنَادِب: ذُكُور الْجَرَاد. وَالشَّكّ:
إحكام السرد.
(2/261)
جَدْلَاءُ يَحْفِزُهَا نِجَادُ مُهَنَّدٍ
... صَافِي الْحَدِيدَةِ صَارِمٌ ذِي رَوْنَقِ [1]
تِلْكُمْ مَعَ التَّقْوَى تَكُونُ لِبَاسَنَا ... يَوْمَ الْهِيَاجِ
وَكُلَّ سَاعَةِ مَصْدَقِ
نَصِلُ السُّيُوفَ إذَا قَصُرْنَ بِخَطْوِنَا ... قُدُمًا وَنُلْحِقُهَا
إذَا لَمْ تَلْحَقْ
فَتَرَى الْجَمَاجِمَ ضَاحِيًا هَامَاتُهَا ... بَلْهَ الْأَكُفَّ
كَأَنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ [2]
نَلْقَى الْعَدُوَّ بِفَخْمَةٍ [3] مَلْمُومَةٍ ... تَنْفِي الْجُمُوعَ
كَفَصْدِ رَأْسِ الْمَشْرِقِ [4]
وَنُعِدُّ لِلْأَعْدَاءِ كُلَّ مُقَلَّصٍ ... وَرْدٍ وَمَحْجُولِ
الْقَوَائِمِ أَبْلَقِ [5]
تُرْدِى بِفُرْسَانٍ كَأَنَّ كُمَاتَهُمْ ... عِنْدَ الْهِيَاجِ أُسُودُ
طَلٍّ مُلْثِقِ [6]
صُدَقٌ يُعَاطُونَ الْكُمَاةَ حُتُوفَهُمْ ... تَحْتَ الْعِمَايَةِ
بِالْوَشِيجِ الْمُزْهِقِ [7]
أَمَرَ الْإِلَهُ بِرَبْطِهَا لِعَدُوِّهِ ... فِي الْحَرْبِ إنَّ اللَّهَ
خَيْرُ مُوَفِّقِ
لِتَكُونَ غَيْظًا لِلْعَدُوِّ وَحُيَّطَا ... لِلدَّارِ إنْ دَلَفَتْ
خُيُولُ النُّزَّقِ [8]
وَيُعِينُنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ بِقُوَّةٍ ... مِنْهُ وَصِدْقِ الصَّبْرِ
سَاعَةَ نَلْتَقِي
وَنُطِيعُ أَمْرَ نَبِيِّنَا وَنُجِيبُهُ ... وَإِذَا دَعَا لِكَرِيهَةٍ
لَمْ نُسْبَقْ
وَمَتَى يُنَادِ إلَى الشَّدَائِدِ نَأْتِهَا ... وَمَتَى نَرَ
الْحَوْمَاتِ فِيهَا نُعْنِقْ [9]
__________
[1] الجدلاء: الدرْع المحكمة النسج. ويحفزها: يرفعها ويشمرها. والنجاد:
حمائل السَّيْف وصارم قَاطع. والرونق: اللمعان.
[2] الجماجم: الرُّءُوس. وضاحيا: بارزا للشمس. وبله: اسْم فعل بِمَعْنى
اترك ودع، وَيصِح نصب «الأكف» بِهِ، أَو جَرّه على أَنه مصدر مُضَاف لَهُ.
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَيُرِيد «بالفخمة» : الكتيبة. وَفِي
سَائِر الْأُصُول: «فَحْمَة» بِالْحَاء الْمُهْملَة.
[4] الملمومة: المجتمعة، والمشرق: جبل بَين الصريف والعصيم من أَرض ضبة
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[5] المقلص: الْفرس الْخَفِيف.
[6] تردى: تسرع. والكماة: الشجعان. والطل: الضَّعِيف من الْمَطَر. والملثق:
مَا يكون عَن الطل من زلق وطين، والأسد أجوع مَا تكون وأجرأ فِي ذَلِك
الْحِين.
[7] يُرِيد بالعماية: سَحَابَة الْغُبَار وظلمته. والوشيج: الرماح.
والمزهق: الْمَذْهَب للنفوس. وَقد وَردت هَذِه الْكَلِمَة بالراء
الْمُهْملَة.
[8] حيط: جمع حَائِط، وَهُوَ اسْم الْفَاعِل من حاط يحوط. ودلفت: قربت.
والنزق: الغاضبون السيئو الْخلق، الْوَاحِد: نازق.
[9] الحومات: مَوَاطِن: الْقِتَال، الْوَاحِدَة: حومة. ونعنق: نسرع.
(2/262)
مَنْ يَتَّبِعْ قَوْلَ النَّبِيِّ
فَإِنَّهُ ... فِينَا مُطَاعُ الْأَمْرِ حَقُّ مُصَدَّقِ
فَبِذَاكَ يَنْصُرنَا وَيُظْهِرُ عِزَّنَا ... وَيُصِيبُنَا مِنْ نَيْلِ
ذَاكَ بِمِرْفَقِ
إنَّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا ... كَفَرُوا وَضَلُّوا عَنْ
سَبِيلِ الْمُتَقِّي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ:
تِلْكُمْ مَعَ التَّقْوَى تَكُونُ لِبَاسَنَا
وَبَيْتَهُ:
مَنْ يَتَّبِعْ قَوْلَ النَّبِيِّ
أَبُو زَيْدٍ. وَأَنْشَدَنِي:
تَنْفِي الْجُمُوعَ كَرَأْسِ قُدْسِ الْمَشْرِقِ [1]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ
الْخَنْدَقِ:
لَقَدْ عَلِمَ الْأَحْزَابُ حِينَ تَأَلَّبُوا ... عَلَيْنَا وَرَامُوا
دِينَنَا مَا نُوَادِعُ [2]
أَضَامِيمُ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أُصْفِقَتْ ... وَخِنْدِفُ لَمْ
يَدْرُوا بِمَا هُوَ وَاقِعُ [3]
يَذُودُونَنَا عَنْ دِينِنَا وَنَذُودُهُمْ ... عَنْ الْكُفْرِ
وَالرَّحْمَنُ رَاءٍ وَسَامِعُ [4]
إذَا غَايَظُونَا فِي مَقَامٍ أَعَانَنَا ... عَلَى غَيْظِهِمْ نَصْرٌ مِنْ
اللَّهِ وَاسِعُ
وَذَلِكَ حِفْظُ اللَّهِ فِينَا وَفَضْلُهُ ... عَلَيْنَا وَمَنْ لَمْ
يَحْفَظْ اللَّهُ ضَائِعُ
هَدَانَا لِدِينِ الْحَقِّ وَاخْتَارَهُ لَنَا ... وللَّه فَوْقَ
الصَّانِعِينَ صَنَائِعُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ
الْخَنْدَقِ:
أَلَا أَبْلِغْ قُرَيْشًا أَنَّ سَلْعًا ... وَمَا بَيْنَ الْعُرَيْضِ إلَى
الصِّمَادِ [5]
__________
[1] أَشَارَ السهيليّ إِلَى أَن هَذِه الرِّوَايَة أولى وَقَالَ: لِأَن قدس
جبل مَعْرُوف من نَاحيَة الْمشرق.
[2] تألبوا: تجمعُوا. ونوادع: نصالح ونهادن.
[3] أضاميم: جماعات انْضَمَّ بَعْضهَا إِلَى بعض. ويروى: أصاميم.
والأصاميم: الخالصون فِي أنسابهم وأصفقت: اجْتمعت وتوافقت على الْأَمر.
[4] يذودوننا: يدفعوننا ويمنعوننا.
[5] سلع: جبل بسوق الْمَدِينَة. والعريض: وَاد بِالْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو
ذَر: «وَيحْتَمل أَن يكون تَصْغِير عرض، وَاحِد الْأَعْرَاض، وَهِي أَوديَة
خَارج الْمَدِينَة فِيهَا النّخل وَالشَّجر» . والصماد (بِالْفَتْح
وَالْكَسْر) :
جبل. قَالَ أَبُو ذَر: «وَيُمكن أَن يكون جمع صَمد، وَهُوَ الْمُرْتَفع من
الأَرْض» .
(2/263)
نَوَاضِحُ فِي الْحُرُوبِ مُدَرَّبَاتٌ ...
وَخَوْصٌ ثُقِّبَتْ مِنْ عَهْدِ عَادِ [1]
رَوَاكِدُ يَزْخَرُ الْمُرَّارُ فِيهَا ... فَلَيْسَتْ بِالْجِمَامِ وَلَا
الثِّمَادِ [2]
كَأَنَّ الْغَابَ وَالْبَرْدِيَّ فِيهَا ... أَجَشُّ إذَا تَبَقَّعَ
لِلْحَصَادِ [3]
وَلَمْ نَجْعَلْ تِجَارَتَنَا اشْتِرَاءَ ... الْحَمِيرِ لِأَرْضِ دَوْسٍ
أَوْ مُرَادِ [4]
بِلَادٌ لَمْ تَثُرْ إلَّا لِكَيْمَا ... نُجَالِدُ إنْ نَشِطْتُمْ
لِلْجِلَادِ [5]
أَثَرْنَا سِكَّةَ الْأَنْبَاطِ فِيهَا ... فَلَمْ تَرَ مِثْلَهَا
جَلَهَاتِ وَادِ [6]
قَصَرْنَا كُلَّ ذِي حُضْرٍ وَطَوْلٍ ... عَلَى الْغَايَاتِ مُقْتَدِرٍ
جَوَادِ [7]
أَجِيبُونَا إلَى مَا نَجْتَدِيكُمْ ... مِنْ الْقَوْلِ الْمُبَيَّنِ
وَالسَّدَادِ [8]
وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ ... لَكُمْ مِنَّا إلَى شَطْرِ
الْمَذَادِ [9]
نُصَبِّحُكُمْ بِكُلِّ أَخِي حُرُوبٍ ... وَكُلِّ مُطَهَّمٍ [10] سَلِسِ
الْقِيَادِ
__________
[1] يعْنى بالنواضح: حدائق نخل تسقى بالنضح. والخوص: الْآبَار الضيقة.
وثقبت: حفرت.
[2] رواكد: ثَابِتَة دائمة. ويزخر: يَعْلُو ويرتفع. والمرار: نهر. قَالَ
أَبُو ذَر: وَمن رَوَاهُ «المداد» يعْنى المَاء الّذي يمدها. والجمام جمع
جمة، وَهِي الْبِئْر الْكَثِيرَة المَاء. والثماد: المَاء الْقَلِيل.
وَرِوَايَة الشّطْر الأول من هَذَا الْبَيْت فِي أ: «
رواكد تزجر المران
إِلَخ» .
[3] الغاب: الشّجر الملتف. والبردي: نَبَات ينْبت فِي البرك تصنع مِنْهُ
الْحصْر الْغِلَاظ. وأجش عالى الصَّوْت. وتبقع: صَارَت فِيهِ بقع صفر.
[4] دوس وَمُرَاد: قبيلتان من الْيمن.
[5] لم تثر: لم تحرث.
[6] السِّكَّة: النّخل الْمُصْطَفّ، والأنباط: قوم من الْعَجم. أَي حرثناها
وغرسناها كَمَا تفعل الأنباط فِي أمصارها لَا تخَاف عَلَيْهَا كيد كائد.
وجلهات الْوَادي: مَا استقبلك مِنْهُ إِذا نظرت إِلَيْهِ من الْجَانِب
الآخر، الْوَاحِد: جلهة. وَقَالَ السهيليّ: «جلهات الْوَادي: مَا كشفت
عَنهُ السُّيُول فأبرزته، وَهُوَ من الجله.
وَهُوَ انحسار الشّعْر عَن مقدم الرَّأْس» .
[7] الْحَضَر: الجرى. وَيُرِيد «بِذِي الْحَضَر» : الْخَيل. ويروى: «خطر»
أَي قدر.
[8] نجديكم: نطلب ...
[9] الشّطْر: النَّاحِيَة وَالْقَصْد. والمذاد: مَوضِع بِالْمَدِينَةِ
حَيْثُ حفر الخَنْدَق، وَقيل هُوَ بَين سلع وَخَنْدَق الْمَدِينَة.
[10] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والمطهم: الْفرس التَّام الْخلق. وَفِي أ:
«مطهر» .
(2/264)
وَكُلِّ طِمِرَّةٍ خَفِقٌ حَشَاهَا ...
تَدِفُّ دَفِيفَ [1] صَفْرَاءِ الْجَرَادِ [2]
وَكُلِّ مُقَلَّصِ الْآرَابِ نَهْدٍ ... تَمِيمِ الْخَلْقِ مِنْ أُخْرٍ
وَهَادِي [3]
خُيُولٌ لَا تُضَاعُ إذَا أُضِيعَتْ ... خُيُولُ النَّاسِ فِي السَّنَةِ
الْجَمَادِ [4]
يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُصْغِيَاتٍ ... إذَا نَادَى إلَى الْفَزَعِ
الْمُنَادِي [5]
إذَا قَالَتْ لَنَا النُّذُرُ اسْتَعِدُّوا ... تَوَكَّلْنَا عَلَى رَبِّ
الْعِبَادِ
وَقُلْنَا لَنْ يُفَرِّجَ مَا لَقِينَا ... سِوَى ضَرْبُ الْقَوَانِسِ
وَالْجِهَادِ [6]
فَلَمْ تَرَ عُصْبَةً فِيمَنْ لَقِينَا ... مِنْ الْأَقْوَامِ مِنْ قَارٍ
وَبَادِي [7]
أَشَدَّ بَسَالَةً مِنَّا إذَا مَا ... أَرَدْنَاهُ وَأَلْيَنَ فِي
الْوِدَادِ [8]
إذَا مَا نَحْنُ أَشْرَجْنَا عَلَيْهَا [9] ... جِيَادَ الْجُدْلِ [10] فِي
الْأُرَبِ الشِّدَادِ [11]
قَذَفْنَا فِي السَّوَابِغِ كُلَّ صَقْرٍ ... كَرِيمٍ غَيْرِ مُعْتَلِثِ
الزِّنَادِ [12]
__________
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول، وَيُقَال: دف الطَّائِر: إِذا حرك جناحيه
ليطير. وَفِي أ «تذف ذفيف» .
بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.
[2] صفراء الْجَرَاد: الخيفانة مِنْهَا، وَهِي الَّتِي أَلْقَت سرأها، أَي
بيضها، وَهِي أخف طيرانا.
[3] المقلص: المنشمر الشَّديد، والآراب: قطع اللَّحْم، الْوَاحِدَة: أربة
(بِضَم الْهمزَة) . والنهد:
الغليظ. وَالْهَادِي: الْعُنُق. يُرِيد أَنه تَامّ الْخلق من مقدمه ومؤخره.
[4] السّنة الجماد: سنة الْقَحْط.
[5] مصغيات: مستمعات.
[6] القوانس: أعالى بيض الْحَدِيد.
[7] الْقَارِي: من كَانَ من أهل الْقرى. والبادي: من كَانَ من أهل
الْبَادِيَة.
[8] البسالة: الشدَّة والشجاعة.
[9] أشرجنا: ربطنا.
[10] الجدل: جمع جدلاء، وَهِي الدرْع المحكمة النسج.
[11] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والأرب: جمع أربة، وَهِي الْعقْدَة
الشَّدِيدَة. ويروى: الأزب:
بالزاء، وَهُوَ الشَّديد الضّيق. وَفِي أ: «الْأَدَب» وَهُوَ تَحْرِيف.
[12] السوابغ: الدروع الْكَامِلَة. واعتلث الرجل زندا: أَخذه من شجر لَا
يدرى أيوري أم لَا.
يصفه بِحسن الاستعداد للحرب.
(2/265)
أَشَمَّ [1] كَأَنَّهُ أَسَدٌ عَبُوسٌ ...
غَدَاةَ بَدَا [2] بِبَطْنِ الْجَزَعِ غَادِي [3]
يُغَشِّي هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُذَكَّى ... صَبِيَّ السَّيْفِ مُسْتَرْخِي
النِّجَادِ [4]
لِنُظْهِرَ دِينَكَ اللَّهمّ إنَّا ... بِكَفِّكَ فَاهْدِنَا سُبُلَ
الرَّشَادِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ بَيْتُهُ:
قَصَرْنَا كُلَّ ذِي حُضْرٍ وَطَوْلٍ
وَالْبَيْتُ الَّذِي يَتْلُوهُ، وَالْبَيْتُ الثَّالِثُ مِنْهُ،
وَالْبَيْتُ الرَّابِعُ مِنْهُ، وَبَيْتُهُ:
أَشَمَّ كَأَنَّهُ أَسَدٌ عَبُوسٌ
وَالْبَيْتُ الَّذِي يَتْلُوهُ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ.
(شِعْرُ مُسَافِعٍ فِي بُكَاءِ عَمْرٍو) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ وَهْبِ
بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، يَبْكِي عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ،
وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إيَّاهُ:
عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ كَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ ... جَزَعَ الْمَذَادَ وَكَانَ
فَارِسَ يَلْيَلِ [5]
سَمْحُ الْخَلَائِقِ مَاجِدٌ ذُو مِرَّةٍ ... يَبْغِي الْقِتَالَ بِشِكَّةِ
لَمْ يَنْكُلْ [6]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ حِينَ وَلَّوْا عَنْكُمْ ... أَنَّ ابْنَ عَبْدٍ
فِيهِمْ لَمْ يَعْجَلْ
حَتَّى تَكَنَّفَهُ الْكُمَاةُ وَكُلُّهُمْ ... يَبْغِي مَقَاتِلَهُ
وَلَيْسَ بِمُؤْتَلِي [7]
وَلَقَدْ تَكَنَّفَتْ الْأَسِنَّةُ فَارِسًا ... بِجُنُوبِ سَلْعٍ غَيْرَ
نَكْسٍ أَمْيَلِ [8]
تَسَلُ النِّزَالَ عَلَيَّ فَارِسَ غَالِبٍ ... بِجُنُوبِ سَلْعٍ، لَيْتَهُ
لَمْ يَنْزِلْ
__________
[1] الأشم: الْعَزِيز، وَأَصله من الشمم، وَهُوَ ارْتِفَاع قَصَبَة الْأنف.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وبدا: ظهر. وَفِي أ: «ندي» ، وندي
الصَّوْت: ارْتَفع. يُرِيد إِذا ارْتَفع صَوت غاد طَالب للغوث. ويروى:
«يرى» .
[3] الْجزع: جَانب الْوَادي وَمَا انعطف مِنْهُ.
[4] المذكى: الّذي بلغ الْغَايَة فِي الْقُوَّة. وَصبي السَّيْف: وَسطه.
والنجاد: حمائل السَّيْف.
[5] جزع: قطع. والمذاد: مَوضِع. (رَاجع الْحَاشِيَة رقم 4 ص 261 من هَذَا
الْجُزْء) ويليل: وَاد ببدر.
[6] الْمرة: الشدَّة وَالْقُوَّة. والشكة: السِّلَاح. وَلم ينكل: لم يرجع
من هَيْبَة وَلَا خوف.
[7] تكنفه: أحَاط بِهِ: وَلَيْسَ بمؤتلى: لَيْسَ بمقصر.
[8] سلع: جبل بسوق الْمَدِينَة. قَالَ الْأَزْهَرِي: مَوضِع قرب
الْمَدِينَة (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
والنكس: الضَّعِيف من الرِّجَال. والأميل: الّذي لَا رمح مَعَه، وَقيل:
الّذي لَا ترس مَعَه.
(2/266)
فَاذْهَبْ عَلَيَّ فَمَا ظَفِرْتُ
بِمِثْلِهِ ... فَخْرًا وَلَا لَاقَيْتَ مِثْلَ الْمُعْضِلِ [1]
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِفَارِسٍ مِنْ غَالِبٍ ... لَاقَى حِمَامَ الْمَوْتِ
لَمْ يَتَحَلْحَلْ [2]
أَعْنِي الَّذِي جَزَعَ الْمَذَادَ بِمُهْرِهِ ... طَلَبًا لِثَأْرِ
مَعَاشِرٍ لَمْ يُخْذَلْ
(شِعْرُ مُسَافِعٍ فِي تَأْنِيبِ الْفُرْسَانِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ
عَمْرٍو) :
وَقَالَ مُسَافِعٌ أَيْضًا يُؤَنِّبُ فُرْسَانَ عَمْرٍو الَّذِينَ كَانُوا
مَعَهُ، فَأَجْلَوْا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ
عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ وَالْجِيَادُ يَقُودُهَا ... خَيْلٌ تُقَادُ لَهُ
وَخَيْلٌ تُنْعَلُ [3]
أَجْلَتْ فَوَارِسُهُ وَغَادَرَ رَهْطُهُ ... رُكْنًا عَظِيمًا كَانَ
فِيهَا أَوَّلُ [4]
عَجَبًا وَإِنْ أَعْجَبْ فَقَدْ أَبْصَرْتُهُ ... مَهْمَا تَسُومُ عَلَيَّ
عَمْرًا يَنْزِلُ [5]
لَا تَبْعَدَنَّ فَقَدْ أُصِبْتُ بِقَتْلِهِ ... وَلَقِيتُ قَبْلَ
الْمَوْتِ أَمْرًا يَثْقُلُ
وَهُبَيْرَةُ الْمَسْلُوبُ وَلَّى مُدْبِرًا ... عِنْدَ الْقِتَالِ
مَخَافَةً أَنَّ يُقْتَلُوا
وَضِرَارٌ كَأَنَّ الْبَأْسَ مِنْهُ مُحْضَرًا ... وَلَّى كَمَا وَلَّى
اللَّئِيمُ الْأَعْزَلُ [6]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا
لَهُ. وَقَوْلُهُ: «عَمْرًا يَنْزِلُ» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
(شِعْرُ هُبَيْرَةَ فِي بُكَاءِ عَمْرٍو وَالِاعْتِذَارُ مِنْ فِرَارِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَعْتَذِرُ
مِنْ فِرَارِهِ، وَيَبْكِي عَمْرًا، وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيٍّ إيَّاهُ:
لَعَمْرِي مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّدًا ... وَأَصْحَابَهُ جُبْنًا
وَلَا خِيفَةَ الْقَتْلِ
وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ ... لِسَيْفِي غَنَاءً إنْ
ضَرَبْتُ وَلَا نَبْلِي
وَقَفْتُ فَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِي مُقَدَّمًا ... صَدَدْتُ كَضِرْغَامِ
هِزَبْرٍ أَبِي شَبْلِ [7]
__________
[1] المعضل: الْأَمر الشَّديد.
[2] لم يَتَحَلْحَل: لم يبرح مَكَانَهُ.
[3] تنعل: تلبس النِّعَال من الْحَدِيد لتقوى.
[4] أجلت: تَفَرَّقت وَوَلَّتْ.
[5] تسوم: تطلب وتكلف.
[6] الأعزل: الّذي لَا سلَاح مَعَه.
[7] الضرغام: الْأسد. والهزير: الشَّديد. والشبل: ولد الْأسد.
(2/267)
ثَنَى عِطْفِهِ عَنْ قِرْنِهِ حِينَ لَمْ
يجد ... مكرّا وَقد مَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي [1]
فَلَا تَبْعُدْنَ يَا عَمْرُو حَيًّا وَهَالِكًا ... وَحُقَّ لِحُسْنِ
الْمَدْحِ مِثْلُكَ مِنْ مِثْلِي
وَلَا تَبْعَدَنْ يَا عَمْرُو حَيًّا وَهَالِكًا ... فَقَدْ بِنْتَ
مَحْمُودَ الثَّنَا مَاجِدَ الْأَصْلِ [2]
فَمَنْ لِطِرَادِ الْخَيْلِ تُقْدَعُ بِالْقَنَا ... وَلِلْفَخْرِ يَوْمًا
عِنْدَ قَرْقَرَةَ الْبَزْلِ [3]
هُنَالِكَ لَوْ كَانَ ابْنُ عَبْدٍ لَزَارَهَا ... وَفَرَّجَهَا حَقًّا
فَتًى غَيْرُ مَا وَغْلِ [4]
فَعَنْكَ عَلَيَّ لَا أَرَى مِثْلَ مَوْقِفٍ ... وَقَفْتُ عَلَى نَجْدِ
الْمُقَدَّمِ كَالْفَحْلِ [5]
فَمَا ظَفِرَتْ كَفَّاكَ فَخْرًا بِمِثْلِهِ ... أَمِنْتُ بِهِ مَا عِشْتُ
مِنْ زَلَّةِ النَّعْلِ
(شِعْرٌ آخَرُ لِهُبَيْرَةَ فِي بُكَاءِ عَمْرٍو) :
وَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَبْكِي عَمْرَو بْنَ عَبْدُ ودٍ،
وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيٍّ إيَّاهُ:
لَقَدْ عَلِمْتُ عُلْيَا لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... لَفَارِسُهَا عَمْرٌو
إذَا نَابَ نَائِبُ
لَفَارِسُهَا عَمْرٌو إذَا مَا يَسُومُهُ ... عَلِيٌّ وَإِنَّ اللَّيْثَ
لَا بُدَّ طَالِبُ [6]
عَشِيَّةَ يَدْعُوهُ عَلِيٌّ وإنّه ... لفارسها إِذا خَامَ عَنْهُ
الْكَتَائِبُ [7]
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي إنَّ عَمْرًا تَرَكْتُهُ ... بِيَثْرِبَ لَا زَالَتْ
هُنَاكَ الْمَصَائِبُ
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي الْفَخْرِ بِقَتْلِ عَمْرٍو) :
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَفْتَخِرُ بِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ عَبْدُ
ودٍ:
بَقِيَّتُكُمْ عَمْرٌو أَبَحْنَاهُ بِالْقَنَا ... بِيَثْرِبَ نَحْمِي
وَالْحُمَاةُ قَلِيلُ
وَنَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ بِكُلِّ مُهَنَّدٍ ... وَنَحْنُ وُلَاةُ الْحَرْبِ
حِينَ نَصُولُ
وَنَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ بِبَدْرٍ فَأَصْبَحَتْ ... مَعَاشِرُكُمْ فِي
الْهَالِكِينَ تَجُولُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا
لِحَسَّانَ.
__________
[1] الْعَطف: الْجَانِب. والقرن: الّذي يقاومك فِي شدَّة أَو قتال.
[2] الثنا: الذّكر الطّيب. ويروى: النثا.
[3] تقدع: تكف. والقرقرة: من أصوات فحول الْإِبِل. والبزل: الْإِبِل
القوية. وضربه مثلا للمفاخرين إِذا رفعوا أَصْوَاتهم بالفخر.
[4] الوغل: الْفَاسِد من الرِّجَال.
[5] فعنك: اسْم فعل بِمَعْنى تبَاعد. والنجد: الشجاع.
[6] يسومه: يكلفه.
[7] خام: جبن وَرجع.
(2/268)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ
بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدُ ودٍ:
أَمْسَى الْفَتَى عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ يَبْتَغِي ... بِجُنُوبِ يَثْرِبَ
ثَأْرَهُ لَمْ يُنْظَرْ [1]
فَلَقَدْ وَجَدْتَ سُيُوفَنَا مَشْهُورَةً ... وَلَقَدْ وَجَدْتَ
جِيَادَنَا لَمْ تُقْصَرْ [2]
وَلَقَدْ لَقِيتَ غَدَاةَ بَدْرٍ عُصْبَةً ... ضَرَبُوكَ ضَرْبًا غَيْرَ
ضَرْبِ الْحُسَّرِ [3]
أَصْبَحْتُ لَا تُدْعَى لِيَوْمِ عَظِيمَةٍ ... يَا عَمْرُو أَوْ لِجَسِيمِ
أَمْرٍ مُنْكَرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا
لِحَسَّانَ [4] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا هِدْمٍ رَسُولًا ... مُغَلْغَلَةً تَخُبُّ بِهَا
الْمَطِيُّ [5]
أَكُنْتُ وَلِيَّكُمْ فِي كُلِّ كُرْهٍ ... وَغَيْرِي فِي الرَّخَاءِ هُوَ
الْوَلِيُّ
وَمِنْكُمْ شَاهِدٌ وَلَقَدْ رَآنِي ... رُفِعْتُ لَهُ كَمَا اُحْتُمِلَ
الصَّبِيُّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِرَبِيعَةَ بْنِ
أُمَيَّةَ الدَّيْلِيُّ، وَيُرْوَى فِيهَا آخِرُهَا
كَبَبْتَ الْخَزْرَجِيَّ عَلَى يَدَيْهِ ... وَكَانَ شِفَاءَ نَفْسِي
الْخَزْرَجِيُّ
وَتُرْوَى أَيْضًا لِأَبِي أُسَامَةَ الْجُشَمِيِّ.
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبُكَاءُ ابْنِ مُعَاذٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي يَوْمِ بَنِي
قُرَيْظَةَ يَبْكِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَيَذْكُرُ حُكْمَهُ فِيهِمْ:
لَقَدْ سَجَمَتْ مِنْ دَمْعِ عَيْنِي عَبْرَةٌ ... وَحُقَّ لِعَيْنِي أَنْ
تَفِيضَ عَلَى سَعْدٍ [6]
قَتِيلٌ ثَوَى فِي مَعْرَكٍ فُجِعَتْ بِهِ ... عُيُونٌ ذَوَارِي الدَّمْعِ
دَائِمَةُ الْوَجْدِ [7]
__________
[1] لم ينظر: لم يُمْهل وَلم يُؤَخر.
[2] لم تقصر: لم تكف.
[3] الحسر: جمع حاسر، وَهُوَ الّذي لَا درع لَهُ، ويروى. «الخشر»
بِالْخَاءِ والشين المعجمتين، وهم الضُّعَفَاء من النَّاس، كَمَا يرْوى:
«الخسر» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالسِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ جمع خاسر.
[4] وَقد بحثنا عَنْهَا فِي ديوَان حسان فَلم نجدها.
[5] المغلغلة: الرسَالَة تحمل من بلد إِلَى بلد. وتخب: تسرع.
[6] سجمت: سَالَتْ.
[7] ثوى: أَقَامَ. والمعرك: مَوضِع الْقِتَال. وذوارى الدمع: تسكبه.
والوجد: الْحزن.
(2/269)
عَلَى مِلَّةِ الرَّحْمَنِ وَارِثَ جَنَّةٍ
... مَعَ الشُّهَدَاءِ وَفْدُهَا أَكْرَمُ الْوَفْدِ
فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدَّعْتنَا وَتَرَكْتنَا ... وَأَمْسَيْتُ فِي غَبْرَاءِ
مُظْلِمَةِ اللَّحْدِ [1]
فَأَنْتَ الَّذِي يَا سَعْدُ أُبْتُ بِمَشْهَدٍ ... كَرِيمٍ وَأَثْوَابِ
الْمَكَارِمِ وَالْحَمْدِ
بِحُكْمِكَ فِي حَيَّيْ قُرَيْظَةَ بِاَلَّذِي ... قَضَى اللَّهُ فِيهِمْ
مَا قَضَيْتُ عَلَى عَمْدِ
فَوَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ حُكْمَكَ فِيهِمْ ... وَلَمْ تَعْفُ إذْ ذُكِرْتُ
مَا كَانَ مِنْ عَهْدِ
فَإِنْ كَانَ رَيْبُ الدَّهْرِ أَمْضَاكَ فِي الْأُلَى ... شَرَوْا هَذِهِ
الدُّنْيَا بِجَنَّاتِهَا الْخُلْدِ
فَنِعْمَ مَصِيرُ الصَّادِقِينَ إذَا دُعُوا ... إلَى اللَّهِ يَوْمًا
لِلْوَجَاهَةِ وَالْقَصْدِ
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي بُكَاءِ ابْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ) :
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا، يَبْكِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ،
وَرِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ الشُّهَدَاءِ، وَيَذْكُرُهُمْ بِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ
الْخَيْرِ:
أَلَا يَا لَقَوْمِي هَلْ لِمَا حُمَّ دَافِعُ ... وَهَلْ مَا مَضَى مِنْ
صَالِحِ الْعَيْشِ رَاجِعُ [2]
تَذَكَّرْتُ عَصْرًا قَدْ مَضَى فَتَهَافَتَتْ ... بَنَاتُ الْحَشَى
وَانْهَلَّ مِنِّي الْمَدَامِعُ [3]
صَبَابَةُ [4] وَجْدٍ ذَكَّرَتْنِي أَحِبَّةً [5] ... وَقَتْلَى مَضَى [6]
فِيهَا طُفَيْلٌ [7] وَرَافِعُ
وَسَعْدٌ فَأَضْحَوْا فِي الْجِنَانِ وَأَوْحَشَتْ ... مَنَازِلُهُمْ
فَالْأَرْضُ مِنْهُمْ بَلَاقِعُ [8]
وَفَوْا يَوْمَ بَدْرٍ لِلرَّسُولِ وَفَوْقَهُمْ ... ظِلَالُ الْمَنَايَا
وَالسُّيُوفُ اللَّوَامِعُ
دَعَا فَأَجَابُوهُ بِحَقٍّ وَكُلُّهُمْ ... مُطِيعٌ لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ
وَسَامِعُ
فَمَا نَكَلُوا [9] حَتَّى تَوَلَّوْا جَمَاعَةً ... وَلَا يَقْطَعَ
الْآجَالَ إلَّا الْمَصَارِعُ [10]
__________
[1] يُرِيد «بالغبراء» : الْقَبْر. واللحد: مَا يشق للْمَيت فِي جَانب
الْقَبْر.
[2] حم: قدر (بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول فيهمَا) .
[3] تهافتت: سَقَطت بِسُرْعَة. وَبَنَات الحشى: الْقلب وَمَا اتَّصل بِهِ.
وانهل: سَالَ وانصب.
[4] الصبابة: رقة الشوق.
[5] كَذَا فِي ديوانه. وَفِي الْأُصُول: «أخوة» .
[6] فِي الدِّيوَان: «مضوا» .
[7] فِي الدِّيوَان «نفيع» . وَلم يسْبق لَهُ ذكر.
[8] بَلَاقِع: قفار خَالِيَة.
[9] فِي الدِّيوَان: « «
فَمَا بدلُوا حَتَّى توافوا جمَاعَة
» .
[10] نكلوا: رجعُوا هائبين. والمصارع: أَي مصَارِع الْقَتْلَى
(2/270)
لِأَنَّهُمْ يَرْجُونَ مِنْهُ شَفَاعَةً
... إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا النَّبِيُّونَ شَافِعُ
فَذَلِكَ يَا خَيْرَ الْعِبَادِ بَلَاؤُنَا [1] ... إجَابَتُنَا للَّه
وَالْمَوْتُ نَاقِعُ [2]
لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إلَيْكَ وَخَلْفُنَا [3] ... لِأَوَّلِنَا فِي
مِلَّةِ [4] اللَّهِ تَابِعُ
وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُلْكَ للَّه وَحْدَهُ ... وَأَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ
لَا بُدَّ وَاقِعُ
(شِعْرٌ لِحَسَّانَ فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ) :
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ [5] :
لَقَدْ لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ مَا سَآهَا ... وَمَا وَجَدَتْ لِذُلٍّ مِنْ
نَصيرِ [6]
أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ كَانَ فِيهِ ... سِوَى مَا قَدْ أَصَابَ بَنِي
النَّضِيرِ
غَدَاةَ أَتَاهُمْ يَهْوَى إلَيْهِمْ ... رَسُولُ اللَّهِ كَالْقَمَرِ
الْمُنِيرِ
لَهُ خَيْلٌ مُجَنَّبَةٌ تَعَادَى ... بِفُرْسَانٍ عَلَيْهَا كَالصُّقُورِ
[7]
تَرَكْنَاهُمْ وَمَا ظَفِرُوا بِشَيْءِ ... دِمَاؤُهُمْ عَلَيْهِمْ
كَالْغَدِيرِ [8]
فَهُمْ صَرْعَى تَحُومُ [9] الطَّيْرُ فِيهِمْ ... كَذَاكَ يُدَانُ [10]
ذُو الْعَنَدِ الْفَجُورِ [11]
فَأَنْذِرْ مِثْلَهَا نُصْحًا قُرَيْشًا ... مِنْ الرَّحْمَنِ إنْ قَبِلَتْ
نَذِيرِى [12]
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ:
لَقَدْ لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ مَا سَآهَا ... وَحَلَّ بِحِصْنِهَا ذُلٌّ
ذَلِيلُ
__________
[1] فِي الدِّيوَان: «ومشهدنا فِي الله» .
[2] بلاؤنا: اختبارنا. وناقع: ثَابت.
[3] الْقدَم الأولى: أَي السَّبق إِلَى الْإِسْلَام. وخلفنا، أَي آخِرنَا.
[4] فِي الدِّيوَان «فِي طَاعَة» .
[5] هَذِه الْعبارَة: «فِي يَوْم بنى قُرَيْظَة» . سَاقِطَة فِي أ.
[6] مَا سآها: يُرِيد مَا ساءها، فَقلب. وَالْعرب تفعل ذَلِك فِي بعض
الْأَفْعَال، يَقُولُونَ: رأى وَرَاء، بِمَعْنى وَاحِد على جِهَة الْقلب.
[7] الْخَيل المجنبة، هِيَ الَّتِي تقاد وَلَا تركب. وتعادي: تجرى وتسرع.
[8] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: العبير، وَهُوَ الزَّعْفَرَان.
[9] تحوم: تَجْتَمِع حَولهمْ محلقة.
[10] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. ويدان: يجزى. وَفِي أ: «يدين» .
[11] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والعند: الْخُرُوج عَن الْحق. وَفِي أ: «
كَذَلِك دين ذِي العند الفخور،
[12] النذير: الْإِنْذَار.
(2/271)
وَسَعْدٌ كَانَ أَنْذَرَهُمْ بِنُصْحٍ ...
بِأَنَّ إلَهَكُمْ رَبٌّ جَلِيلُ
فَمَا بَرِحُوا بِنَقْضِ الْعَهْدِ حَتَّى ... فَلَاهُمْ فِي بِلَادِهُمُ
الرَّسُولُ [1]
أَحَاطَ بِحِصْنِهِمْ مِنَّا صُفُوفٌ ... لَهُ مِنْ حَرِّ وَقْعَتِهِمْ
صَلِيلُ [2]
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ:
تَفَاقَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا ... وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ
نَصِيرُ [3]
هُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ ... وَهُمْ عُمْيٌ مِنْ التَّوْرَاةِ
بُورُ [4]
كَفَرْتُمْ بِالْقُرْانِ وَقَدْ أَتَيْتُمْ ... بِتَصْدِيقِ الَّذِي قَالَ
النَّذِيرُ
فَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ
مُسْتَطِيرُ [5]
(شِعْرُ أَبِي سُفْيَانَ فِي الرَّدِّ عَلَى حَسَّانَ) :
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
فَقَالَ:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرَّقَ فِي طَرَائِقِهَا
السَّعِيرُ [6]
سَتَعْلَمُ أَيُّنَا مِنْهَا بِنُزْهِ [7] ... وَتَعْلَمُ أَيَّ
أَرْضَيْنَا تَضِيرُ [8]
فَلَوْ كَانَ النَّخِيلُ بِهَا رِكَابًا ... لَقَالُوا لَا مُقَامَ لَكُمْ
فَسِيرُوا
(شِعْرُ ابْنِ جَوَّالٍ فِي الرَّدِّ عَلَى حَسَّانَ) :
وَأَجَابَهُ جَبَلُ بْنُ جَوَّالٍ الثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا، وَبَكَى
النَّضِيرَ وَقُرَيْظَةَ، فَقَالَ:
أَلَا يَا سَعْدُ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ ... لِمَا لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ
وَالنَّضِيرُ
لَعَمْرُكَ إنَّ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ ... غَدَاةَ تَحَمَّلُوا لَهُوَ
الصَّبُورُ
فَأَمَّا الْخَزْرَجِيُّ أَبُو حُبَابٍ ... فَقَالَ لِقَيْنُقَاعَ لَا
تَسِيرُوا
__________
[1] فلاهم: قَتلهمْ بِالسُّيُوفِ.
[2] الصليل: الصَّوْت.
[3] تفاقد معشر: فقد بَعضهم بَعْضًا، وَهُوَ دُعَاء عَلَيْهِم. وَفِي أ:
«تعاهد» .
[4] بور: ضلال، أَو هلكى
[5] سراة الْقَوْم: خيارهم، والبويرة: مَوضِع بنى قُرَيْظَة.
[6] الطرائق: النواحي. والسعير: النَّار الملتهبة.
[7] النزه: الْبعد.
[8] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وتضير: تضر. وَفِي أ «تصير» أَي تشق وتقطع.
(2/272)
وَبُدِّلَتْ الْمَوَالِي مِنْ حُضَيْرٍ ...
أُسَيْدًا وَالدَّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ [1]
وَأَقْفَرَتْ الْبُوَيْرَةُ مِنْ سَلَامٍ ... وَسَعْيَةَ وَابْنِ أَخْطَبَ
فَهِيَ بُورُ
وَقَدْ كَانُوا بِبَلْدَتِهِمْ ثِقَالًا ... كَمَا ثَقُلَتْ بِمِيطَانِ
الصُّخُورِ [2]
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو حَكَمٍ سَلَامٌ ... فَلَا رَثُّ السِّلَاحِ وَلَا
دَثُورُ [3]
وَكُلُّ الْكَاهِنَيْنِ وَكَانَ فِيهِمْ ... مَعَ اللِّينِ الْخَضَارِمَةُ
الصُّقُورُ [4]
وَجَدْنَا الْمَجْدَ قَدْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ ... بِمَجْدٍ لَا تُغَيِّبُهُ
الْبُدُورُ [5]
أَقِيمُوا يَا سَرَاةَ الْأَوْسِ فِيهَا ... كَأَنَّكُمْ مِنْ الْمَخْزَاةِ
عُورُ [6]
تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لَا شَيْءَ فِيهَا ... وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ
تَفُورُ
مَقْتَلُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
(اسْتِئْذَانُ الْخَزْرَجِ الرَّسُولَ فِي قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ)
:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [7] : وَلَمَّا انْقَضَى شَأْنُ الْخَنْدَقِ،
وَأَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ،
وَهُوَ أَبُو رَافِعٍ فِيمَنْ حَزَّبَ الْأَحْزَابُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ الْأَوْسُ قَبْلَ أُحُدٍ قَدْ
قَتَلَتْ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، فِي عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْرِيضِهِ عَلَيْهِ، اسْتَأْذَنَتْ
الْخَزْرَجُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ
سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُوَ بِخَيْبَرِ، فَأَذِنَ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [7] : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ
شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،
قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَيْنِ
__________
[1] الموَالِي، الحلفاء. وحضير وَأسيد: قبيلتان.
[2] ميطان: جبل من جبال الْمَدِينَة مُقَابل الشوران، بِهِ بِئْر مَاء.
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[3] الرث: الْخلق. والدثور: الدارس الْمُتَغَيّر.
[4] الكاهنان: حَيَّان. والخضارمة: الأجواد الكرماء، الْوَاحِد: خضرم.
[5] البدور: الشُّهُور والدهور.
[6] عور: جمع أَعور.
[7] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
18- سيرة ابْن هِشَام- 2
(2/273)
الْحَيَّيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ،
وَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، كَانَا يَتَصَاوَلَانِ [1] مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، لَا
تَصْنَعُ الْأَوْسُ شَيْئًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَنَاءً [2] إلَّا قَالَتْ الْخَزْرَجُ: وَاَللَّهِ لَا
تَذْهَبُونَ بِهَذِهِ فَضْلًا عَلَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَلَا يَنْتَهُونَ
حَتَّى يُوقِعُوا مِثْلَهَا، وَإِذَا فَعَلَتْ الْخَزْرَجُ شَيْئًا قَالَتْ
الْأَوْسُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا أَصَابَتْ الْأَوْسَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ فِي عَدَاوَتِهِ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ الْخَزْرَجُ:
وَاَللَّهِ لَا تَذْهَبُونَ بِهَا فَضْلًا عَلَيْنَا أَبَدًا، قَالَ:
فَتَذَاكَرُوا: مَنْ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْعَدَاوَةِ كَابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَذَكَرُوا ابْنَ أَبِي
الْحُقَيْقِ، وَهُوَ بِخَيْبَرِ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُمْ.
(النَّفَرُ الَّذِينَ خَرَجُوا لِقَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
وَقِصَّتُهُمْ) :
فَخَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الْخَزْرَجِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ خَمْسَةُ نَفَرٍ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَمَسْعُودُ ابْن سِنَانٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَخُزَاعِيُّ
بْنُ أَسْوَدَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَسْلَمَ. فَخَرَجُوا وَأَمَّرَ
عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَقْتُلُوا وَلِيدًا أَوْ
امْرَأَةً، فَخَرَجُوا حَتَّى إذَا قَدِمُوا خَيْبَرَ، أَتَوْا دَارَ ابْنِ
أَبِي الْحُقَيْقِ لَيْلًا، فَلَمْ يَدْعُوَا بَيْتًا فِي الدَّارِ إلَّا
أَغْلَقُوهُ عَلَى أَهْلِهِ. قَالَ:
وَكَانَ فِي عِلِّيَّةٍ لَهُ إلَيْهَا عَجَلَةٌ [3] قَالَ: فَأَسْنَدُوا
فِيهَا [4] ، حَتَّى قَامُوا عَلَى بَابِهِ، فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ،
فَخَرَجَتْ إلَيْهِمْ [5] امْرَأَتُهُ، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا:
نَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ نَلْتَمِسُ الْمِيرَةَ. قَالَتْ: ذَاكُمْ صَاحِبكُمْ،
فَادْخُلُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ، أَغْلَقْنَا
عَلَيْنَا وَعَلَيْهَا الْحُجْرَةَ، تَخَوُّفًا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ
مُجَاوَلَةٌ [6] تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، قَالَتْ:
__________
[1] يتصاولان: يتفاخران، إِذا فعل أَحدهمَا شَيْئا فعل الآخر مثله.
[2] غناء: مَنْفَعَة.
[3] العجلة: جذع النَّخْلَة ينقر فِي مَوضِع مِنْهُ وَيجْعَل كالسلم فيصعد
عَلَيْهِ إِلَى العلالي والغرف.
[4] أسندوا فِيهَا: علوا.
[5] فِي م، ر: «إِلَيْهَا» وَهُوَ تَحْرِيف.
[6] المجاولة: حَرَكَة تكون بَينهم وَبَينه.
(2/274)
فَصَاحَتْ امْرَأَتُهُ، فَنَوَّهَتْ بِنَا
[1] وَابْتَدَرْنَاهُ، وَهُوَ عَلَى فرَاشه بأسيافنا، فو الله مَا
يَدُلُّنَا عَلَيْهِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ [2] إلَّا بَيَاضُهُ كَأَنَّهُ
قُبْطِيَّةٌ [3] مُلْقَاةٌ. قَالَ: وَلَمَّا صَاحَتْ بِنَا امْرَأَتُهُ،
جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَرْفَعُ عَلَيْهَا سَيْفَهُ، ثُمَّ يَذْكُرُ
نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُفُّ يَدَهُ،
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَرَغْنَا مِنْهَا بِلَيْلٍ. قَالَ: فَلَمَّا
ضَرَبْنَاهُ بِأَسْيَافِنَا تَحَامَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَنْفَذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
قَطْنِي قَطْنِي: أَيْ حَسْبِي حَسْبِي. قَالَ: وَخَرَجْنَا، وَكَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عتِيك رجلا سيء الْبَصَرِ، قَالَ: فَوَقَعَ مِنْ
الدَّرَجَةِ فوثئت [4] يَده وثأ شَدِيدًا- وَيُقَالُ: رِجْلُهُ، فِيمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وَحَمَلْنَاهُ حَتَّى نَأْتِيَ بِهِ مَنْهَرًا [5]
مِنْ عُيُونِهِمْ، فَنَدْخُلَ فِيهِ. قَالَ:
فَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ، وَاشْتَدُّوا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَنَا،
قَالَ: حَتَّى إذَا يَئِسُوا رَجَعُوا إلَى صَاحِبِهِمْ، فَاكْتَنَفُوهُ
وَهُوَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ. قَالَ: فَقُلْنَا: كَيْفَ لَنَا بِأَنْ
نَعْلَمَ بِأَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَدْ مَاتَ؟ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ
مِنَّا: أَنَا أَذْهَبُ فَأَنْظُرُ لَكُمْ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ فِي
النَّاسِ. قَالَ: فَوَجَدْتُ امْرَأَتَهُ وَرِجَالَ يَهُودَ حَوْلَهُ وَفِي
يَدِهَا الْمِصْبَاحُ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ، وَتُحَدِّثُهُمْ وَتَقُولُ:
أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ ابْنِ عَتِيكٍ، ثُمَّ أَكْذَبْتُ
نَفْسِي وَقُلْتُ: أَنَّى ابْنُ عَتِيكٍ بِهَذِهِ الْبِلَادِ؟ ثُمَّ
أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَتْ:
فَاظَ [6] وَإِلَهِ يَهُودَ، فَمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلِمَةٍ كَانَتْ أَلَذَّ
إلَى نَفْسِي مِنْهَا. قَالَ: ثُمَّ جَاءَنَا الْخَبَرُ فَاحْتَمَلْنَا
صَاحِبَنَا فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ عَدُوِّ اللَّهِ، وَاخْتَلَفْنَا
عِنْدَهُ فِي قَتْلِهِ، كُلُّنَا يَدَّعِيهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاتُوا أَسْيَافَكُمْ، قَالَ:
فَجِئْنَاهُ بِهَا، فَنَظَرَ إلَيْهَا فَقَالَ لَسَيْفُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُنَيْسٍ: هَذَا قَتَلَهُ، أَرَى فِيهِ أَثَرَ الطَّعَامِ.
__________
[1] نوهت بِنَا: رفعت صَوتهَا تشهر بِنَا. ويروى: فوهت.
[2] فِي أ: «الْبَيْت» .
[3] الْقبْطِيَّة (بِضَم الْقَاف وَكسرهَا) : ضرب من الثِّيَاب الْبيض تصنع
بِمصْر.
[4] وثئت: أصَاب عظمها شَيْء لَيْسَ بِكَسْر، وَقيل: هُوَ أَن يصاب
اللَّحْم دون الْعظم.
[5] المنهر: مدْخل المَاء من خَارج الْحصن إِلَى دَاخله.
[6] فاظ: مَاتَ.
(2/275)
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ وَابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ)
:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ يَذْكُرُ
قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَقَتْلَ سَلَّامِ بْنِ أَبِي
الْحُقَيْقِ:
للَّه دَرُّ عِصَابَةٍ لَاقَيْتَهُمْ ... يَا بْنَ الْحُقَيْقِ وَأَنْتَ
يَا بن الْأَشْرَفِ [1]
يَسْرُونَ بِالْبِيضِ الْخِفَافِ إلَيْكُمْ ... مَرَحًا كَأُسْدٍ فِي
عَرِينٍ مُغْرِفِ [2]
حَتَّى أَتَوْكُمْ فِي مَحِلِّ بِلَادِكُمْ ... فَسَقَوْكُمْ حَتْفًا
بِبِيضِ ذُفَّفِ [3]
مُسْتَبْصِرِينَ [4] لِنَصْرِ دِينِ نَبِيِّهِمْ ... مُسْتَصْغِرِينَ
لِكُلِّ أَمْرٍ مُجْحِفٍ [5]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ: «ذُفَّفِ» ، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ. |