سيرة ابن
هشام ت السقا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
سَنَةَ سَبْعٍ
(خُرُوجُ الرَّسُولِ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ خَيْبَرَ، أَقَامَ بِهَا
شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَجُمَادَيَيْنِ وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ
وَشَوَّالًا، يَبْعَثُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ غَزْوِهِ وَسَرَايَاهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي
الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ
الْقَضَاءِ، مَكَانَ عُمْرَتِهِ الَّتِي صَدُّوهُ عَنْهَا.
(ابْنُ الْأَضْبَطِ عَلَى الْمَدِينَةِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُوَيْفَ بْنَ
الْأَضْبَطِ الدِّيلِيَّ [1]
. (سَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِعُمْرَةِ الْقِصَاصِ) :
وَيُقَالُ لَهَا عُمْرَةُ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُمْ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ، فَاقْتَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ مَكَّةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صَدُّوهُ فِيهِ، مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ [2] .
وَبَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي
ذَلِكَ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ 2: 194.
(خُرُوجُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ صُدُّوا أَوَّلًا مَعَهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ كَانَ صُدَّ
مَعَهُ فِي عُمْرَتِهِ [3] تِلْكَ، وَهِيَ سَنَةَ سَبْعٍ، فَلَمَّا سَمِعَ
بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ خَرَجُوا عَنْهُ، وَتَحَدَّثَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا
أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي عُسْرَةٍ وَجَهْدٍ وَشِدَّةٍ.
__________
[1] وَعند الْوَاقِدِيّ أَن الّذي اسْتعْمل على الْمَدِينَة هُوَ أَبُو
رهم.
[2] كَمَا تسمى أَيْضا: عمْرَة الْقَضِيَّة وَعمرَة الصُّلْح. (رَاجع شرح
الْمَوَاهِب) .
[3] كَانَت عدَّة الْمُسلمين أَلفَيْنِ سوى النِّسَاء وَالصبيان.
(2/370)
(سَبَبُ الْهَرْوَلَةِ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: صَفُّوا لَهُ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ لِيَنْظُرُوا
إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ اضْطَبَعَ [1] بِرِدَائِهِ،
وَأَخْرَجَ عَضُدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً
أَرَاهُمْ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً، ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ،
وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ [2] وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ، حَتَّى إذَا
وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، مَشَى
حَتَّى يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، ثُمَّ هَرْوَلَ كَذَلِكَ
ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى سَائِرَهَا. فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ:
كَانَ النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا صَنَعَهَا
لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ لِلَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُمْ، حَتَّى إذَا
حَجَّ حَجَّةَ [3] الْوَدَاعِ فَلَزِمَهَا، فَمَضَتْ السَّنَّةُ بِهَا.
(ارْتِجَازُ ابْنِ رَوَاحَةَ وَهُوَ يَقُودُ نَاقَةَ الرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ
مَكَّةَ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ دَخَلَهَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
آخِذٌ بِخِطَامِ، [4] نَاقَتِهِ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ
فِي رَسُولِهِ
يَا رَبِّ إنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ [5] ... أَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي
قَبُولِهِ
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى
تَنْزِيلِهِ [6]
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ
خَلِيلِهِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: «
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
» إلَى آخِرِ الْأَبْيَاتِ، لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي غَيْرِ هَذَا
الْيَوْمِ [7] ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ إنَّمَا
أَرَادَ الْمُشْرِكِينَ،
__________
[1] اضطبع بردائه: أَدخل بعضه تَحت عضده الْيُمْنَى، وَجعل طرفه على
مَنْكِبه الْأَيْسَر.
[2] الهرولة: فَوق الْمَشْي وَدون الجرى.
[3] حجَّة: للمرة الْوَاحِد، وَهُوَ شَاذ لِأَن الْقيَاس بِالْفَتْح
(الْقَامُوس الْمُحِيط) .
[4] الخطام: الّذي تقاد بِهِ النَّاقة.
[5] قيله: قَوْله.
[6] أَي نَحن نقاتلكم على تَأْوِيله، كَمَا قتلناكم على إِنْكَار
تَنْزِيله.
[7] أَي يَوْم صفّين، يَوْم قتل عمار بن يَاسر.
(2/371)
وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يُقِرُّوا
بِالتَّنْزِيلِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ عَلَى التَّأْوِيلِ [1] مَنْ أَقَرَّ
بِالتَّنْزِيلِ
(زَوَاجُ الرَّسُولِ بِمَيْمُونَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءِ ابْن أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ أَبِي
الْحَجَّاجِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ
ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَكَانَ الَّذِي زَوَّجَهُ إيَّاهَا الْعَبَّاسُ
بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى أُخْتِهَا أُمِّ
الْفَضْلِ، وَكَانَتْ أُمُّ الْفَضْلِ تَحْتَ الْعَبَّاسِ، فَجَعَلَتْ
أُمُّ الْفَضْلِ أَمْرَهَا إلَى الْعَبَّاسِ، فَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ [2] ، وَأَصْدَقَهَا عَنْ
رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَربع مائَة دِرْهَمٍ.
(إرْسَالُ قُرَيْشٍ حُوَيْطِبًا إلَى الرَّسُولِ يَطْلُبُ مِنْهُ
الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا، فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ ابْن عَبْدِ الْعُزَّى
بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وَدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حِسْلٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَكَانَتْ
قُرَيْشٌ قَدْ وَكَّلَتْهُ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالُوا لَهُ: إنَّهُ قَدْ انْقَضَى
أَجَلُكَ، فَاخْرُجْ عَنَّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ
أَظْهُرِكُمْ، وَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ قَالُوا: لَا
حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِكَ، فَاخْرُجْ عَنَّا. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَلَّفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى
مَيْمُونَةَ، حَتَّى أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفَ [3] ، فَبَنَى بِهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَالِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ فِي
ذِي الْحِجَّةِ.
(مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، فِيمَا
حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ:
__________
[1] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ: «على التَّنْزِيل» .
[2] هَذِه الْكَلِمَة: «بِمَكَّة» سَاقِطَة فِي أ.
[3] سرف (ككتف) : مَوضِع قرب التَّنْعِيم.
(2/372)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ، فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ
مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً 48: 27 يَعْنِي خَيْبَرَ. |