عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي

ج / 1 ص -87-         خبر سلمان الفارسي رضي الله عنه:
روينا عن ابن إسحاق قال: حدثني عاصم عن محمود عن ابن عباس قال حدثني سلمان الفارسي من فيه قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان قريته وكنت أحب خلق الله إليه لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فأطلعها وأمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي: ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل أمر من أمري فخرجت أريد ضيعته التى بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت إليك؟ قلت: يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا والله إنه لخير من ديننا قال: فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته وبعثت

 

ج / 1 ص -88-         إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم فقدم عليهم تجار من النصارى، فأخبروني، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فأذنوني بهم قال: فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم قدمت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة فجئته، فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك وأتعلم من علمك وأصلي معك قال أدخل فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه قلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا فصلبوه ورموه بالحجارة وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله فأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان إني قد كنت معك وأحببتك حبا شديدا لم أحبه شيئا قبلك وقد حضرك من الأمر ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني فقال: أي بني والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه ولقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجل بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره فقال لي: أقم عندي فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت: يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني

 

ج / 1 ص -89-         باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني قال: يا بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي فقال: أقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وبم تأمرني قال: يا بني والله ما أعلم بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فائته فإنه على مثل ما نحن عليه فان أحببته فائته فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري فقال: أقم عندي فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصي بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ثم مات وغيب فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه فقالوا: نعم فأعطيتموها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي فكنت عنده فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلدة التى وصف لي صاحبي ولم يحق عندي فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي فأقمت بها وبعث

 

ج / 1 ص -90-         رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق1 لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه قال: يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن مجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي فلما سمعتها أخذتني العرواء2 حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ما تقول فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا أقبل على عملك فقلت لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال، وقد كان عندي شيء جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له أنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذووا حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "كلوا" وأمسك يده فلم يأكل فقلت في نفسي هذه واحدة ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه فقلت في نفسي هاتان اثنتان ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد3 قد تبع جنازة من أصحابه وعلي شملتان لي وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكبت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحول" فتحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يابن عباس فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العذق بالفتح النخلة.
2 أي الرعدة.
3 مقبرة المدينة.

 

ج / 1 ص -91-         ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كاتب يا سلمان" فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفقير1 وأربعين أوقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعينوا أخاكم" فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية2 والرجل بعشرين ودية والرجل بخمسة عشر والرجل بعشر والرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي" ففقرت وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته فخرج معي إليها فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة فأديت النخل وبقي على المال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال: "ما فعل الفارسي المكاتب" فدعيت له فقال: "خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان" قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: "خذها فإن الله سيؤدي بها عنك" فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد. وذكر أبو عمر في خبر سلمان من طريق يزيد بن الحباب قال حدثني حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن سلمان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التى غرسها عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غرسها؟" قالوا: عمر فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمت من عامها. وذكر البخاري رحمه الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو من الفقر وهو حفر البئر وقيل بئر لا ماء فيه أو ماؤه قليل.
2 أي نخلة صغيرة.

 

ج / 1 ص -92-         حديث سلمان كما ذكره ابن إسحاق غير أنه ذكر أن سلمان غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرها فعاشت كلها إلا التى غرس سلمان. هذا معنى حديث البخاري رحمه الله. وعن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره خبره أن صاحب عمورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فسله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصف فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي وغلبوني عليه فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التى يريد أن يدخل إلا منكبه فتناولته فقال من هذا والتفت إلى فقلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم قال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فائته فهو يحملك عليه ثم دخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن كنت صدقتني لقد لقيت عيسى ابن مريم". رواه ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال: حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز قال قال سلمان فذكره. قيل: إن الرجل المطوي الذكر في هذا الإسناد هو الحسن بن عمارة فإن يكنه فهو ضعيف عندهم قاله السهيلي. وقال: وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه السلام نزل بعد ما رفع وأمه وامرأة أخرى عند الجذع الذي فيه الصليب يبكيان فكلمهما وأخبرهما أنه لم يقتل وأن الله رفعه وأرسله إلى الحواريين ووجههم إلى البلاد وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا ولكن لا يعلم به أنه هو حتى ينزل النزول الظاهر فيكسر الصليب ويقتل الخنزير كما جاء في الصحيح والله أعلم. ويروى أنه إذا نزل تزوج امرأة من

 

ج / 1 ص -93-         جذام ويدفن إذا مات في روضة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: فقر لثلثمائة ودية معناه حفر. وقوله: أحييها له بالفقير قيل: الوجه بالتفقير. وقطن النار خازن النار وخادمها. والعرواء الرعدة. ورأيت بخط جدي -رحمه الله- فيما علقه على نسخته بكتاب السيرة الهشامية من حواشي كتاب أبي الفضل عياض بن موسى وغيره قال الصدفي: العرواء الحمى النافض والبرحاء الحمى الصالب والرحضاء الحمى التى تأخذ بالعروق والمطواء التى تأخذ بالتمطي والثوباء التى تأخذ بالتثاؤب. وذكر ابن إسحاق في خبر زيد بن عمرو بن نفيل قال وكان زيد قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام فكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما رأته تهيأ للخروج وأراده أذنت به الخطاب بن نفيل وكان الخطاب وكلها به فقال: إذا رأيتيه هم بأمر فأذنيني به ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل فجال الشام كلها حتى إذا انتهى إلى راهب بميفعة1 من الأرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية2 فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام فقال: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التى خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية فالحق به فإنه مبعوث الآن هذا زمانه. وقد كان زيد شام اليهودية والنصرانية فلم يرض منها شيئا فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه. قال ابن إسحاق: وكان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله من الإنجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أثبت لهم يحنس3 الحواري حين نسخ لهم الإنجيل من عهد عيسى ابن مريم إليهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أبغضني فقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الميفعة العالي من الأرض.
2 في الظاهرية "علم أهل النصرانية".
3 بضم الياء وفتح الحاء وتشديد النون، ويجوز فيها الفتح والكسر معا.

 

ج / 1 ص -94-         بغض الرب ولولا أني صنعت بحضرتهم صنايع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يغرونني وأيضا للرب ولكن لا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجانا أي باطلا فلولا قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط هذا الذي من عند الرب خرج فهو شهيد علي وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معي على هذا قلت لكم: لكي لا تشكوا. والمنحمنا بالسريانية هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو بالرومية البرقليطس. قال ابن هشام وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التى قبله ولم يكسرها فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي فعثر فقال ابنه: تعس الأبعد يريد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبوه: لا تفعل فإنه نبي واسمه في الوضائع يعني الكتب فلما مات لم يكن له همة إلا أن شد فكسر الخواتم فوجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه فحج وهو الذي يقول:

إليك تغدو قلقا وضينها                معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها

وقد روينا عن دحية بن خليفة الكلبي في توجهه بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم وإن ملك الروم قال لقومه: هذا كتاب النبي الذي بشرنا به المسيح من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وسيأتي بسنده إن شاء الله تعالى عند ذكر كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك. أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المقدسي حضورا في الرابعة بقراءة والدي رحمة الله عليه بالقاهرة وأبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن بن أبي الفتح بقراءتي عليه بمرج دمشق قالا: أنا أبو البركات داود بن أحمد بن محمد بن ملاعب قال أنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي قال: أنا أبو القاسم يوسف بن أحمد بن محمد المهرواني بانتقاء أبي بكر الخطيب البغدادي الحافظ

 

ج / 1 ص -95-         عليه قال: أنا أبو سهل محمود بن عمر العكبري ثنا أبو صالح سهل بن إسماعيل الموسوي ثنا أبو العباس عبد الله بن وهب الغزي بالرملة ثنا محمد بن أبي السري العسقلاني ثنا شيخ بن أبي خالد البصري ثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام لا إله إلا الله محمد رسول الله". وروينا عن محمد بن سعد قال أخبرنا محمد بن عمر حدثني العطاف بن خالد عن خالد بن سعيد قال: قال تميم الداري كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى بعض حاجتي فأدركني الليل فقلت أنا في جوار عظيم هذا الوادي فلما أخذت مضجعي إذا مناد ينادي لا أراه عذ بالله فإن الجن لا تجير أحدا على الله تعالى فقلت: أيم تقول؟ فقال: قد خرج رسول الأميين رسول الله وصلينا خلفه بالحجون وأسلمنا واتبعناه وذهب كيد الجن ورميت بالشهب فانطلق إلى محمد فأسلم فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبا به وأخبرته الخبر فقال: صدقوك نجده يخرج من الحرم ومهاجره الحرم وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه قال تميم: فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت.

 

ج / 1 ص -96-         خبر قس بن ساعدة الإيادي:
قرئ على الشيخة الأصيلة أمة الحق شامية ابنة الإمام الحافظ أبي على الحسن بن محمد بن محمد بن محمد البكري وأنا أسمع بالقاهرة قالت أنا أبو محمد عبد الجليل بن أبي غالب بن أبي المعالي بن مندوية الأصبهاني قراءة عليه وأنا أسمع سنة عشر وستمائة قال أنا أبو المحاسن نصر بن المظفر بن الحسين البرمكي الجرجاني سماعا عليه سنة تسع وأربعين وخمسمائة قال: أنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن النقور قال أنا أبو الحسن علي بن عمر بن محمد بن الحسن الحربي ثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ثنا محمد بن حسان بن خالد السمتي أبو جعفر سنة ثمان وعشرين ومائتين وفيها توفي ثنا محمد بن الحجاج اللخمي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قدم وفد عبد قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيكم يعرف قس بن ساعدة الأيادي" قالوا: كلنا يا رسول الله يعرفه قال: "فما فعل" قالوا: هلك قال: "ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول": أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور أقسم قس قسما حتما لئن كان في الأمر رضا ليكونن سخطا إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا". ثم قال: "أيكم يروي شعره؟" فأنشدوه:

في الذاهبين الأوليـ                            ـن من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا                                 للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها                            تمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إليّ                          ولا من الباقين غابر

أيقنت إني لا محا                              لة حيث صار القوم صائر

وقرأت على أبي الفتح يوسف بن يعقوب الشيباني بدمشق أخبركم أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي قراءة عليه وأنتم تسمعون قال: أنا الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن السمرقندي قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ثنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي ثنا أبو العباس الوليد بن سعيد بن حاتم بن عيسى الفسطاطي بمكة من حفظه وزعم أن له خمسا وتسعين سنة في ذي الحجة سنة ست وستين وثلثمائة على باب إبراهيم قال ثنا

ج / 1 ص -97-         محمد بن عيسى بن محمد الأخباري ثنا أبي عيسى بن محمد بن سعيد القرشي ثنا علي بن سليمان عن سليمان بن علي عن علي بن عبد الله عن عبد الله بن عباس قال: قدم الجارود بن عبد الله وكان سيدا في قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والذى بعثك بالحق لقد وجدت صفتك في الإنجيل ولقد بشر بك ابن البتول فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله قال فآمن الجارود وآمن من قومه كل سيد فسر النبي صلى الله عليه وسلم بهم وقال: "يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قسا" قالوا كلنا نعرفه يا رسول الله وأنا من بين يدي القوم كنت أقفو أثره كان من أسباط العرب فصيحا عمر سبعمائة سنة أدرك من الحواريين سمعان فهو أول من تأله من العرب كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله ثم أنشأ يقول:

هاج للقلب من جواه ادكار                                 وليال خلالهن نهار

في أبيات آخرها:

والذي قد ذكرت دل على الله                         نفوسا لها هدي واعتبار

فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلك يا جارود فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق1 وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه فقال أبو بكر: يا رسول الله فإني أحفظه كنت حاضرا ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته: يا أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا إنه من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت مطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمع وأشتات وآيات بعد آيات إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ليل ذاج وسماء ذات أبراج وأرض ذات رتاج وبحار ذات أمواج ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا أقسم قس قسما لا حانثا فيه ولا آثما إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ونبيا قد حان حينه وأظلكم أوانه فطوبى لمن آمن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ما في لونه بياض إلى سواد.

 

ج / 1 ص -98-         به فهداه وويل لمن خالفه وعصاه ثم قال: تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية يا معشر إياد أين الآباء والأجداد وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيد وزخرف ونجد وغره المال والولد؟ أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال: أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالا وأطول منكم آجالا وأبعد منكم آمالا؟ طحنهم الثرى بكلكله ومزقهم بتطاوله فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها الذئاب العاوية كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود ثم أنشأ يقول:

في الذاهبين الأوليـ                            ـن من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا                                 للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها                            تمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إليّ                          ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا                              لة حيث صار القوم صائر

قال: ثم جلس وقام رجل أشدق أجش1 الصوت فقال: لقد رأيت من قس عجبا خرجت أطلب بعيرا لي حتى إذا عسعس الليل وكاد الصبح أن يتنفس هتف بي هاتف يقول:

يأيها الراقد في الليل الأحم                      قد بعث الله نبيا في الحرم

من هاشم أهل الوفاء والكرم                    يجلو دجنات الليالي والبهم2

قال فأدرت طرفي فما رأيت شخصا فأنشأت أقول

يأيها الهاتف في داجي الظلم                   أهلا وسهلا بك من طيف ألم

بين هداك الله في لحن الكلم                   من ذا الذي تدعو إليه تغتنم

قال فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول ظهر النور وبطل الزور وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحبور صاحب النجيب الأحمر والتاج المغفر والوجه الأزهر والحاجب الأقمر والطرف الأحور صاحب قول شهادة أن لا إله الا الله فذلك محمد المبعوث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: غليظ.
2 دجنات أي: ظلمات، وإليهم جمع لبهم وهي السود.

 

ج / 1 ص -99-         إلى الأسود والأحمر أهل المدر والوبر ثم أنشأ يقول:

الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبث       ولم يخلنا سدا من بعد عيسى واكترث

أرسل فينا أحمدًا خير نبي قد بعث           صلى عليه الله ما حج له ركب وحث

قال: ولاح الصباح وإذا بالفنيق1 يشقشق2 إلى النوق فملكت خطامه وعلوت سنامه حتى إذا لغب فنزل في روضة خضرة فإذا أنا بقس بن ساعدة في ظل شجرة وبيده قضيب من أراك ينكث به في الأرض وهو يقول:

يا ناعي الموت والملحود في جدث             عليهم من بقايا بزهم حرق

دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم                   فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا

حتى يعودوا بحال غير حالهم                     خلقا جديدا كما من قبله خلقوا

منهم عراة ومنهم في ثيابهم                    منها الجديد ومنها المنهج الخلق

قال: فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام فإذا أنا بعين حرارة في أرض خوارة ومسجد بين قبرين وأسدين عظيمين يلوذان به وإذا بأحدهما قد سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء فضربه بالقضيب الذي في يده وقال له: ارجع ثكلتك أمك حتى يشرب الذي ورد قبلك فرجع ثم ورد بعده فقلت له: ما هذان القبران قال هذان قبرا أخوين كانا لي يعبدان الله عز وجل معي في هذا المكان لا يشركان بالله شيئا فأدركهما الموت فقبرتهما وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما ثم نظر إليهما وجعل يقول:

خليلي هبا طالما قد رقدتما                     أجدكما لا تقضيان كراكما

ألم تعلما أني بسمعان مفردا                   وما لي فيه من خليل سواكما

مقيم على قبريكما لست بارحا                طوال الليالي أو يجيب صداكما


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح الفاء وكسر النون وهو الجمل المكرم لا يركب ولا يهان لكرامته.
2 أي: يخرج شقشقته من جوفه فينفخها فتظهر من شقه عند هياجه.

 

ج / 1 ص -100-                      أبكيكما طول الحياة وما الذي       يرد على ذي لوعة أن بكاكما

كأنكما والموت أقرب غائب                  بروحي في قبريكما قد أتاكما

أمن طول نوم لا تجيبان داعيا              كأن الذي يسقى العقار1 سقاكما

فلو جعلت نفس لنفس وقاية              لجدت بنفسي أن تكون فداكما

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسا إني أرجو أن يبعثه الله عز وجل أمة وحده"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أى: الخمر.
2 قال الحافظ ابن كثير قصة قس لها طرق كلها ضعيفة وهي مع ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة.

خبر سواد بن قارب، وكان يتكهن في الجاهلية:
قرأت على أبي عبد الله بن أبي الفتح بن وثاب الصوري بالزعيزعية1 بمرج دمشق قلت له: أخبركم الشيخان المؤيد هشام بن عبد الرحيم بن أحمد بن محمد البغدادي نزيل أصبهان وأم حبيبة عائشة بنت معمر بن الفاخر القرشية إجازة قالا: أنا أبو الفرج سعيد ابن أبي الرجاء الصيرفي قراءة عليه ونحن نسمع بأصبهان قال: أنا أبو نصر إبراهيم بن محمد بن علي الأصبهاني الكسائي قال: أنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن المقرئ قال: أنا أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ثنا يحيى بن حجر بن النعمان السامي ثنا علي بن منصور الأنباري عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالسا إذ مر به رجل فقيل: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار قال ومن هذا قالوا: هذا سواد بن قارب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم ففتح فسكون فكسر فكسر ففتح بتشديد من قرى مرج دمشق.

 

 

ج / 1 ص -101-       الذى أتاه رئيه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأرسل إليه عمر رضى الله عنه فقال له: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم قال: أنت الذي أتاك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟ قال: فغضب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين فقال عمر: سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك فأخبرني بإتيانك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئيي فضربني برجله قال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتطلابها                                    وشدها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى                           ما صادق الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم                         ليس قداماها كأذنابها

قال: قلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتخبارها                                  وشدها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى                           ما مؤمن الجن ككفارها

فارحل إلى الصفوة من هاشم                        بين روابيها وأحجارها

قال: قلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتجساسها                           وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى                       ما خير الجن كأنجاسها

 

ج / 1 ص -102-                                 فارحل إلى الصفوة من هاشم       واسم بعينك إلى رأسها

فقمت فقلت قد امتحن الله قلبي فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة فإذا رسول الله وصحبه حوله فدنوت فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله قال: "هات" فأنشأت أقول:

أتاني نجيبي بعد هدء ورقدة                  ولم يك فيما قد بلوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة                        أتاك رسول من لؤي بن غالب

فشمرت من ذيلي الإزار ووسطت           بي الذعلب1 الوجناء بين السباسب

فأشهد أن الله لا رب غيره                     وأنك مأمون على كل غائب

وأنك أدنى المرسلين وسيلة                 إلى الله يابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل                 وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة           سواك بمغن عن سواد بن قارب

قال ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤي الفرح في وجوههم. قال فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فالتزمه وقال قد كنت اشتهي أن أسمع هذا الحديث منك فهل يأتيك رئيك اليوم قال: أما منذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله من الجن ثم أنشأ عمر يقول: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم: آل ذريح وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا يا آل ذريح أمر نجيح صائح يصيح بلسان فصيح يشهد أن لا إله إلا الله. وقد روينا خبر سواد هذا من طريق البخاري ثنا يحيى بن سليمان قال حدثني ابن وهيب قال حدثني عمر أن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر فذكر الخبر أخصر مما سقناه وفى الألفاظ اختلاف. قال السهيلي ولسواد بن قارب هذا مقام حميد في دوس حين بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما. قال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذعلب بكسر الدال المشددة وسكون العين وكسر اللام الناقة السريعة.

ج / 1 ص -103-       ومن هذا الباب خبر سوداء بنت زهرة بن كلاب وذلك أنها حين ولدت ورآها أبوها زرقاء سيماء أمر بوأدها وكانوا يئدون من البنات ما كانت على هذه الصفة فأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك فلما حفر لها الحافر وأراد دفنها سمع هاتفا يقول لا تئد الصبية وخلها في البرية فالتفت فلم ير شيئا فعاد لدفنها فسمع الهاتف يسجع بسجع آخر في المعنى فرجع إلى أبيها وأخبره بما سمع فقال: إن لها لشأنا وتركها فكانت كاهنة قريش فقالت يوما لبني زهرة: إن فيكم نذيرة أو تلد نذيرا فاعرضوا علي بناتكم فعرضن عليها فقالت: في كل واحدة منهن قولا ظهر بعد حين حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب فقالت: هذه النذيرة أو ستلد نذيرا. وهو خبر طويل ذكر الزبير يسيرا منه. وذكره بطوله أبو بكر النقاش.

خبر مازن بن الغضوبة:
أخبرنا علي بن محمد التغلبي قال: أنا محمد بن غسان بن غافل وغيره قالا: أنا علي بن الحسن الدمشقي قال: أنا الشيخان أبو القاسم زاهر وأبو بكر وجيه ابنا طاهر بن محمد الشحاميان بنيسابور قالا: أنا أبو حامد أحمد بن الحسن الأزهري قال: أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي قال: أنا أبو عمران موسى بن العباس الجويني ثنا علي بن حرب ثنا المنذر هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن عبد الله العماني عن مازن بن الغضوبة قال: كنت أسدن صنما بسمال قرية بعمان فعترنا ذات يوم عنده عتيرة وهي الذبيحة فسمعنا صوتا من الصنم يقول:

يا مازن اسمع تسر                               ظهر خير وبطن شر

بعث نبي من مضر                                بدين الله الكبر

فدع نحيتا من حجر                               تسلم من حر سقر

 

ج / 1 ص -104-       قال: ففزعت لذلك فقلت: إن في هذا لعجبا. قال: ثم عترت بعد أيام عتيرة فسمعت صوتا من الصنم يقول:
أقبل إلي أقبل، تسمع ما لا يجهل، هذا نبي مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كي تعدل، عن حر نار تشعل، وقودها بالجندل.
فقلت: إن في هذا لعجبا1 وإنه لخير يراد بي فبينا نحن كذلك إذ قدم رجل من أهل الحجاز قلنا ما الخبر وراءك؟ قال: ظهر رجل يقال له: أحمد يقول لمن أتاه: أجيبوا داعي الله فقلت: هذا نبأ ما سمعته فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وركبت راحلتي فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإسلام فأسلمت وقلت:

كسرت بادر أجذاذا وكان لنا                      ربا نطيف به ضلا بتضلال

بالهاشمي هدانا من ضلالتنا                   ولم يكن دينه مني على بال

يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها                       أني لمن قال ربي بادر قالي

يعنى بعمرو بني الصامت وإخوتها بني الخظامة. قال مازن فقلت: يا رسول الله إني مولع بالطرب وبشرب الخمر وبالهلوك من النساء وألحت علينا السنون فذهبن بالأموال وهزلن الذراري والعيال وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحيا2 ويهب لي ولدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وبالخمر ريا لا إثم فيه وبالعهر عفة الفرج وائته بالحيا وهب له ولدا" قال مازن فأذهب الله عني ما كنت أجد وتعلمت شطر القرآن وحججت حججا وأخصبت عمان ووهب الله لي حيان بن مازن وأنشدت أقول:

إليك رسول الله خبت مطيتي                   تجوب الفيافي من عمان إلى العرج

لتشفع لي يا خير من وطئ الحصى          فيغفر لي ربي وأرجع بالفلج

إلى معشر خالفت في الله دينهم              فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ "إن هذا لعجبا".
2 أي: المطر.

 

ج / 1 ص -105-                            وكنت امرأ بالرعب والخمر مولعا           شبابي حتى إذن الجسم بالنهج

فبدلني بالخمر خوفا وخشية1                  وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي

فأصبحت همي في الجهاد ونيتي              فلله ما صومي ولله ما حجي

وروينا عن زمل بن عمرو العذري قال: كان لبني عذرة صنم يقال له: خمام فكانوا يعظمونه وكان في بني هند بن حرام بن ضبة بن عبد بن كثير بن عذرة وكان سادنه رجلا يقال له: طارق وكانوا يعترون عنده فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتا يقول يا بني هند بن حرام ظهر الحق وأودى خمام ودفع الشرك الإسلام. قال: ففزعنا لذلك وهالنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا وهو يقول يا طارق يا طارق بعث النبي الصادق بوحي ناطق صدع صادعة بأرض تهامة لناصريه السلامة ولخاذليه الندامة هذا الوداع مني إلى يوم القيامة. قال زمل فوضع الصنم لوجهه. قال زمل فابتعت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من قومي وأنشدته شعرا قلته:

إليك رسول الله أعملت نصها                أكلفها حزنا وقوزا من الرمل

لأنصر خير الناس نصرا مؤزرا                 وأعقد حبلا من حبالك في حبلي

وأشهد أن الله لا شيء غيره                أدين له ما أثقلت قدمي نعلي

في خبر ذكره وروينا عن ابن هشام أن بعض أهل العلم حدثه أنه كان لمرداس أبي عباس بن مرداس السلمي وثن يعبده وهو حجر يقال له: ضمار فلما حضر مرداس قال لعباس أي بني اعبد ضمار فإنه ينفعك ويضرك فبينما عباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول:

قل للقبائل من سليم كلها                 أودى ضمار وعاش أهل المسجد

إن الذي ورث النبوة والهدى                بعد ابن مريم من قريش مهتد

أودى ضمار وكان يعبد مرة                  قبل الكتاب إلى النبي محمد

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "وعفة" ولعله غلط.

 

ج / 1 ص -106-       فحرق العباس ضمار ولحق بالنبى صلى الله عليه وسلم وروى أبو جعفر العقيلي عن رجل من بني لهب يقال له: لهيب أو لهيب بن مالك قال حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة فقلت: بأبي وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له: خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا له: يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمي بها فإنا قد فزعنا لذلك وخفنا سوء عاقبتها فقال: ائتونى بسحر، أخبركم الخبر، ألخير أم ضرر، أو لأمن أو حذر. قال: فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه يا خطر يا خطر فأومأ إلينا أمسكوا فأمسكنا فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه خامره عقابه عاجله عذابه أحرقه شهابه زايله جوابه يا ويله ما حاله بلبله بلباله عاوده خباله تقطعت حباله وغيرت أحواله. ثم أمسك طويلا يقول يا معشر بني قحطان:

أخبركم بالحق والبيان                      أقسمت بالكعبة والأركان

والبلد المؤتمن السدان                    قد منع السمع عتاة الجان

بثاقب بكف ذي سلطان                    من أجل مبعوث عظيم الشان

يبعث بالتنزيل والفرقان                     وبالهدى وفاضل القرآن

تبطل به عبادة الأوثان

قال: فقلت: ويحك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك؟ فقال:

أرى لقومي ما أرى لنفسي                     أن يتبعوا خير نبي الإنس

برهانه مثل شعاع الشمس                      يبعث في مكة دار الحمس

بمحكم التنزيل غير اللبس

 

ج / 1 ص -107-       فقلنا له: يا خطر وممن هو؟ فقال: والحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حكمه طيش ولا في خلقه هيش1 يكون في جيش وأى جيش من آل قحطان وآل أيش. فقلنا بين لنا من أي قريش هو؟ فقال: والبيت ذي الدعائم إنه لمن نجل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم وقتل كل ذي ظالم ثم قال: هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان. ثم قال: الله أكبر جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر. ثم سكت وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة فقال: لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وأنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده". قال السهيلي المعنى وصابه مثل وشاح وأشاح وتكون الهمزة بدلا من واو مكسورة. وروينا من طريق ابن ماجه ثنا محمد بن يحيى ثنا إسرائيل ثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أن قريشا أتوا امرأة كاهنة فقالوا لها: أخبرينا أشبهنا أثرا بصاحب المقام فقال: إن أنتم جررتم كساء على هذه السهلة ثم مشيتم عليها أنبأتكم فجروا كساء ثم مشى الناس عليها فأبصرت أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هذا أقربكم إليه شبها ثم مكثوا بعد ذلك عشرين سنة أو ما شاء الله ثم بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن أبي خيثمة ثنا موسى ثنا حماد عن حميد عن عكرمة أن نفرا من قريش مروا بجزيرة من جزائر البحر فإذا هم بشيخ من جرهم فقال: ممن أنتم قلنا نحن من أهل مكة من قريش فقال الشيخ ذات يوم: لقد طلع الليلة نجم لقد بعث فيكم نبي قال: فنظروا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث تلك الليلة. قرئ على أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن المقدسي وأنا أسمع بغوطة دمشق أخبرتكم أم النور عين الشمس بنت أحمد بن أبي الفرج الثقفي إجازة قالت: أنا أبو الفتح إسماعيل بن الفضل بن أحمد بن الأخشيد قراءة عليه ثنا الشيخ الزكي أبو القاسم الفضل بن أحمد بن أحمد بن محمود الثقفي ثنا أبو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ليس عنده حدة وسرعة غضب.

 

ج / 1 ص -108-       بكر أحمد بن يوسف بن إبراهيم الثقفي ثنا أبو علي الحسن بن محمد بن أله المعدل ثنا عمرو بن علي ثنا عبيد الله بن عبد المجيد ثنا القاسم بن الفضل ثنا أبو نضرة عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه قال: بينما راع يرعى بالجزيرة إذ عرض الذئب لشاة من شائه فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه فقال ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي، فقال الراعي: هل أعجب من ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين1 يحدث الناس بأنباء ما قد سبق فساق الراعي شاءه فأتى المدينة فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثه بما قال الذئب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"صدق الراعي إن من أشراط الساعة كلام السباع الإنس والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل شراك نعله وعذبة صوته ويخبره بما صنع أهله". وذكر الواقدي بإسناد له قال كان أبو هريرة يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم. وفيه قال أبو هريرة رضي الله عنه فبينا الخثعميون عند صنمهم إذ سمعوا هاتفا يهتف:

يأيها الناس ذوو الأجسام                         ومسندو الحكم إلى الأصنام

أكلكم أوره كالكهام                                 أما ترون ما أرى أمامي

من ساطع يجلو دجى الظلام                   ذاك نبي سيد الأنام

من هاشم في ذروة السنام                     مستعلن بالبلد الحرام

جاء بهد الكفر بالإسلام                           أكرمه الرحمن من إمام

قال أبو هريرة فأمسكوا عنه ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا فلم تمض بهم ثالثة حتى فجئهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند صنمهم. قال ابن إسحاق وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر في العرب قالت له جنب انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا إليه في أسفل جبل فنزل عليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم جعل ينزو ثم قال: أيها الناس إن الله أكرم محمدا واصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء. والأخبار في هذا كثيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المدينة لأنها بين حرتين عظيمتين؛ والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود.