عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي

ج / 1 ص -109-       ذكر المبعث، متى وجبت له صلى الله عليه وسلم النبوة:
قرئ على أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن بن أبي الفتح الصوري وأنا أسمع أخبركم أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن الحرستاني قراءة عليه وأنتم تسمعون فأقر به قال: أنا أبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن أبي الخضر السلمي سماعا عليه قال: أنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الكناني قال: أنا تمام بن محمد الرازي قال: أنا أحمد بن سليمان ثنا يزيد بن محمد ثنا أبو الجماهر ثنا سعيد بن بشير ثنا قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث". أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي بقراءة والدي عليه وأنا أسمع قال: أنا ابن الحرستاني سماعا وأبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي إجازة قال: أنا وقال ابن الحرستاني: أنبأنا الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي قال: أنا أبو حفص بن مسرور قال: أنا أبو عمرو بن نجيد ثنا محمد بن أيوب الرازي قال: أنا محمد بن سنان العوقي ثنا إبراهيم ابن طهمان عن بديل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد".

 

ج / 1 ص -110-       كم كانت سنه صلى الله عليه وسلم حين بعث:
أخبرنا أبو حفص عمر بن عبد المنعم بن القواس بقراءتي عليه بعربيل بغوطة دمشق قلت له: أخبركم القاضي الإمام أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري قراءة عليه بحضورك في الرابعة فأقر به قال: أنا جمال الإسلام أبو الحسن السلمي قال: أنا أبو نصر الحسين بن محمد بن طلاب قال: أنا أبو الحسين بن جميع ثنا خالد بن محمد بدمياط ثنا محمد بن علي الصائغ ثنا محمد بن بشر التنيسي ثنا الأوزاعي قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين وقبض على رأس الستين وما في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.

 

ج / 1 ص -111-       خبر بعثه عليه السلام إلى الأسود والأحمر:
أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني بقراءة والدي عليه أخبركم أبو علي ضياء بن أبي القاسم عن الخريف قال: أنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري قال: أنا أبو الحسن علي بن عيسى الباقلاني قال: أنا أحمد بن جعفر ثنا الحسن بن الطيب البلخي ثنا قتيبة بن سعيد ثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم: "لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي أما أولهن فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت بالرعب على العدو ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم كلها وكان من قبلي يعظمونها كانوا يحرمونها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة: قيل لي: سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله". قرئ على عبد الرحيم بن يوسف الموصلي وأنا أسمع أخبركم ابن طبرزد قال: أنا ابن الحصين أنا ابن غيلان عن أبي بكر الشافعي ثنا إبراهيم ابن عبد الله بن مسلم ثنا سليمان بن حرب ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع بي من يهودي أو نصراني ثم لم يسلم دخل النار". قال ابن إسحاق فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين وكافة للناس وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله

 

ج / 1 ص -112-       بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه بقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} -أي ثقل ما حملتكم من عهدي- {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. فأخذ الله الميثاق عليهم جميعا بالتصديق له والنصر وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين. وعن عائشة رضي الله عنها أن أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله به كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح وحبب الله إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده. وروينا عن أبي بشر الدولابي قال: حدثني محمد بن حميد أبو قرة ثنا سعيد بن عيسى بن تليد قال: حدثني المفضل بن فضلة عن أبى الطاهر عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمه عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه كان من بدء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام رؤيا فشق ذلك عليه فذكر ذلك لصاحبته خديجة بنت خويلد فقالت له أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا فذكر لها أنه رأى أن بطنه أخرج فطهر وغسل ثم أعيد كما كان قالت هذا خير فأبشر ثم استعلن به جبريل فأجلسه على ما شاء الله أن يجلسه عليه وبشره برسالة ربه حتى اطمأن ثم قال: اقرأ قال: "كيف أقرأ" قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه واتبع الذي جاء به جبريل من عند الله وانصرف إلى أهله فلما دخل على خديجة قال: "أرأيتك الذي كنت أحدثك ورأيته في المنام فإنه جبريل" استعلن فأخبرها بالذي جاءه من الله عز وجل وسمع فقالت: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا فاقبل الذي أتاك الله وأبشر

 

ج / 1 ص -113-       فإنك رسول الله حقا. وروينا من طريق الدولابي عن محمد بن عايذ ثنا محمد بن شعيب عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عطاء بن أبي مسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال بعث الله -عز وجل- محمدا على رأس خمس سنين من بنيان الكعبة وكان أول شيء أراه إياه من النبوة رؤيا في النوم فذكر نحو ما تقدم وفى آخره فلما قضى إليه الذي أمر به انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم منقلبا إلى أهله لا يأتي على حجر ولا شجر إلا سلم عليه سلام عليك يا رسول الله فرجع إلى بيته وهو موقن قد فاز فوزا عظيما الحديث. وروينا من طريق مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إنى لأعرفه الآن". وفى رواية يونس عن ابن إسحاق بسنده إلى أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر" قالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل ذلك بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت خديجة له فقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده وقال: انطلق بنا إلى ورقة فقال: ومن أخبرك؟ قال: خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء من خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض" فقال له: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول لك: ثم ائتني فأخبرني فلما خلا ناداه يا محمد يا محمد قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} قل: لا إله إلا الله فأتى ورقة فذكر له ذلك فقال له ورقة أثبت1 فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "أبشر" في مكان "أثبت".

 

ج / 1 ص -114-       رأيت القس في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني" يعني ورقة. وروينا عن أبي بكر الشافعي ثنا محمد بن يونس بن موسى ثنا عثمان بن عمر بن فارس قال: أنا علي بن المبارك الهنائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: سألت جابر بن عبد الله فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}". رواه مسلم عن ابن مثنى عن عثمان بن عمر بن فارس. وروينا من حديث الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: "ما أنا بقارئ" قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}" فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: "زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع ثم قال لخديجة: "أي خديجة ما لي" وأخبرها الخبر قال: "لقد خشيت على نفسي" قالت له: خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم

 

ج / 1 ص -115-       تصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة أخي أبيها وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك قال ورقة بن نوفل: يابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني فيها جذعا يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أومخرجي هم" قال ورقة: نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. رويناه من حديث مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن يونس عنه وهذا لفظه. ورويناه من طريق البخاري وغيره ولفظهم متقارب. وروينا من طريق الدولابي ثنا يونس بن عبد الأعلى ثنا عبد الله بن وهب قال أخبرني يونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها فذكر نحو ما تقدم، وفي آخره ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة كي يلقي نفسه منها تبدى له جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى ذروة تبدى له جبريل فقال مثل ذلك. وعن عبيد بن عمير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر فكان يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله ثم يرجع إلى بيته حتى

 

ج / 1 ص -116-       إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته وذلك الشهر رمضان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبريل بأمر الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ قلت: ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل رفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها فقالت يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يابن عمي واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع فقال ورقة: قدوس قدوس والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان

 

ج / 1 ص -117-       يأتي موسى وأنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع ما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتقاتلنه ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله. وروينا عن أبي بشر ثنا عبد الله بن عبد الرحيم ثنا عبد الملك بن هشام عن زياد قال: قال محمد بن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير أنه حدث عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال: "نعم" قالت: فإذا جاء فأخبرني به فجاءه جبريل عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خديجة هذا جبريل قد جاءني" قالت: قم يابن عم فاجلس على فخذي اليسرى قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها قالت: هل تراه؟ قال: "نعم" قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى قال: فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد على فخذها اليمنى فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم" قالت: فتحول فاجلس في حجري فتحول فجلس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: "نعم" قال فتحسرت فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: "لا" قالت: يابن عم اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان. وفى رواية يونس وروى عطاء بن السائب وأبو بشر وابن إسحاق كلهم عن سعيد بن جبير دخل حديث بعضهم في بعض عن ابن عباس قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون فيه فلما رموا بالشهب وحيل بينهم وبين

 

ج / 1 ص -118-       خبر السماء قالوا: ما هذا إلا لشيء حدث في الأرض وشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله فقال: ما هذا إلا لأمر حدث فائتوني من تربة كل أرض فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون علم ذلك فأتوه من تربة كل أرض فكان يشمها ويرمي بها حتى أتاه الذين توجهوا إلى تهامة بتربة من تربة مكة فشمها وقال من ههنا يحدث الحدث فنظروا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث ثم انطلقوا فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة معه من أصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بهم صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء فولوا إلى قومهم منذرين فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، وذكر تمام الخبر. وقال شعبة عن مغيرة عن إبراهيم النخعي نزلت عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وهو في قطيفة. وقال شيبان عن الأعمش عن إبراهيم أول سورة أنزلت عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وهو قول عائشة وعبيد بن عمير ومحمد بن عباد بن جعفر والحسن البصري وعكرمة ومجاهد والزهري. روينا عن أبي علي بن الصواف ثنا جعفر بن أحمد ثنا محمد بن خالد بن عبد الرحمن ثنا إبراهيم بن عثمان وهو ابن أبي شيبة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان من الأنبياء من يسمع الصوت فيكون نبيا بذلك وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه". أخبرنا عبد الله بن أحمد بن فارس التميمي وغيره سماعا وقراءة قالوا: أنا أبو اليمن الكندي قراءة عليه ونحن نسمع قال: أنا أبو القاسم الحريري قال: أنا أبو طالب العشاري قال: أنا أبو الحسين الواعظ ثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري ثنا بكر بن سهيل ثنا شعيب بن يحيى ثنا الليث بن سعد قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما الذي أوتيت وحيا أوحاه الله عز وجل إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"، وكان نزول جبريل له عليه السلام فيما ذكر يوم الاثنين لسبع في رمضان وقيل لسبع عشرة مضت منه. رواه البراء بن عازب وغيره، وعن أبي هريرة أنه كان في السابع والعشرين من رجب، وقال أبو عمر يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل وقد قيل غير ذلك.

 

ج / 1 ص -119-       ذكر فوائد تتعلق بهذه الأخبار:
حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين المتفق عليه بين أهل النقل مما فيه إقامته عليه السلام بالمدينة عشرا وأما إقامته بمكة فمختلف في مقدارها. وسيأتي ذلك في آخر الكتاب عند ذكر وفاته عليه السلام.
وأما سنه عليه السلام حين نبئ فالمروي عن ابن عباس وجبير بن مطعم وقباث بن أشيم وعطاء وسعيد بن المسيب كالمروي عن أنس وهو الصحيح عند أهل السير وغيرهم: قال أبو القاسم السهيلي وقد روى أنه نبئ لأربعين وشهرين وفى حديث عمرو بن شعيب فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى والمراد والله أعلم ينتظرون فراغه من الصلاة وأما حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين فقد كان انقطع منذ نزلت
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وذلك قبل تبوك والله أعلم، وحديث جابر بن سمرة: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي"، هذا هو المعروف بغير زيادة. وقد روي أن ذلك الحجر هو الحجر الأسود. يحتمل أن يكون هذا التسليم حقيقة وأن يكون الله أنطقه بذلك كما خلق الحنين في الجذع ويحتمل أن يكون مضافا إلى ملائكة يسكنون هناك من باب {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}

 

ج / 1 ص -120-       فيكون من مجاز الحذف وهو علم ظاهر من أعلام النبوة على كلا التقديرين. وفى حديث عبيد بن عمير في خبر نزول جبريل عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فجاءني وأنا نائم" فهذه حالة. وحديث عائشة وغيرها أنه كان في اليقظة فهذه حالة ثانية ولا تعارض لجواز الجمع بينهما بوقوعهما معا ويكون الإتيان في النوم توطئة للإتيان في اليقظة. وقد قالت عائشة: أول ما بدئ به عليه السلام من الوحي الرؤيا الصادقة. وعن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ثم وكل به جبريل فجاءه بالقرآن والوحي فهذه حالة ثالثة لمجيء الوحي، ورابعة وهي أن ينفث في روعه الكلام نفثا كما قال عليه السلام: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"، وخامسة وهي أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه وقيل: إن ذلك يستجمع قلبه عند تلك الصلصلة فيكون أوعى لما يسمع. وسادسة وهي أن يكلمه الله من وراء حجاب إما في اليقظة كما في ليلة الإسراء وإما في النوم كما في حديث معاذ: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملا الأعلى"، وكان الملك يأتيه عليه السلام تارة في صورته له ستمائة جناح كما روي وتارة في صورة دحية الكلبي. فهذه حالات متعددة ذكر معناه السهيلي. وقوله: "فغطني" ويروى "فسأبني" ويروى "سأتثني" ويروى "فزعتني" وكلها واحد وهو الخنق والغم. والناموس صاحب سر الملك. وقال بعضهم الناموس صاحب سر الخير والجاسوس صاحب سر الشر. ومؤزرا من الأزر وهو القوة والعون. واليأفوخ مهموز ولا يقال: في رأس الطفل يأفوخ حتى يشتد وإنما يقال له الغاذية. وفترة الوحي لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة قال أبو القاسم السهيلي وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أنها كانت سنتين ونصف سنة والله أعلم.

 

ج / 1 ص -121-       ذكر صلاته عليه السلام أول البعثة:
قال ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ليريه كيف الطهور للصلاة ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يتوضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل فصلت بصلاته كذا ذكره ابن إسحاق مقطوعا وقد وصله الحارث بن أبي أسامة: ثنا الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال: حدثني أبي زيد بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل عليه السلام فعلمه الوضوء فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح1 بها فرجه قال السهيلي، وقد رويناه من طريق ابن ماجه عن إبراهيم بن محمد الفريابي عن حسان بن عبد الله عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري بسنده بمعناه، وقد روى نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس رضي الله عنهم. وفى حديث ابن عباس وكان ذلك أول من الفريضة، وعن مقاتل بن سليمان فرض الله في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرض الخمس ليلة المعراج؛ وأما إمامة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رش.

 

ج / 1 ص -122-       جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم عند البيت ليريه أوقات الصلوات الخمس فليس هذا موضع الحديث وإن كان ابن إسحاق وضعه هنا من طريق ابن عباس لاتفاق أصحاب الحديث الصحيح على أن هذه الواقعة كانت صبيحة الإسراء وهو بعد هذا بأعوام كما سيأتي مبينا عند ذكر أحاديث المعراج والإسراء إن شاء الله تعالى.