عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي

ج / 1 ص -277-       خبر مخيريق:
قال ابن إسحاق: وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد في علمه وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى كان يوم أحد يوم السبت قال: والله يا معشر يهود إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق قالوا: إن اليوم يوم السبت قال: لا سبت لكم ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بأحد وعهد إلى من وراءه من قومه أن قتلت هذا اليوم فأموالي إلى محمد يصنع فيها ما أراه الله فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يقول: "مخيريق خير يهود" وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله فعامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها. وقال الواقدي كان مخيريق أحد بني النضير حبرا عالما فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل ماله له وهو سبعة حوائط1 فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة وهي الميثب والضيافة والدلال وحسنى وبرقة والأعواف ومشربة أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مارية القبطية. وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر قال: حدثت عن صفية ابنة حيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا عليه ثم جاءا من العشي فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم قال: فما نفسك منه قال: عداوته والله ما بقيت. وذكر ابن إسحاق من المنافقين زوي بن الحارث والحارث بن سويد وجلاس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بساتين.

 

ج / 1 ص -278-       ابن سويد وكان ممن تخلف عن غزوة تبوك وقال: لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد وكان في حجر جلاس خلف على أمه فقال له عمير: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي يدا ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عنك لأفضحنك عنها ولئن صمت عنها ليهلكن ديني ولإحداهما أيسر علي من الأخرى، ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال جلاس فحلف جلاس بالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كذب علي عمير وما قلت ما قال فأنزل الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} فزعموا أنه تاب فحسنت توبته. وزاد ابن سعد في هذا الخبر: فقال يعني جلاسا: قد قلته وقد عرض الله علي التوبة فأنا أتوب فقبل ذلك منه، وكان له قتيل في الإسلام فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه ديته فاستغنى بذلك. قال: وكان قد هم أن يلحق بالمشركين قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للغلام: "وفت إذنك". وقال الواقدي: ولم ينزع الجلاس عن خير كان يصنعه إلى عمير فكان ذلك مما عرفت به توبته، وأخوه الحارث هو الذي قتل المجذر بن ذياد البلوي يوم أحد بأبيه سويد بن الصامت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب بقتل الحارث إن ظفر به ففاته فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة، فأنزل الله فيه فيما بلغني عن ابن عباس: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى آخر القصة. وقال الواقدي: إن الحارث أتى مسلما بعد الفتح وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بالمجذر، ومن بني ضبيعة بن زيد بجاد بن عثمان ونبتل بن الحارث وهو الذي قال: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه، فأنزل الله فيه: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} وأبو حبيبة بن الأزعر وكان ممن بنى مسجد الضرار وثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما اللذان عاهدا

 

ج / 1 ص -279-       الله: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر القصة ومعتب الذي قال يوم أحد: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وهو الذي قال يوم الأحزاب كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط فأنزل الله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}. وأنكر ابن هشام دخول ثعلبة ومعتب في المنافقين وعباد بن حنيف أخو سهل وعثمان وجارية بن عامر وابناه مجمع وزيد. وقيل: لا يصح عن مجمع النفاق. وذكر آخرين ومن بني أمية بن زيد وديعة بن ثابت وهو الذي كان يقول: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ومن بني عبد خدام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره وبشر ورافع بن زيد. ومن بني النبيت عمر بن مالك بن الأوس مربع ابن قيظي وأخوه أوس وأوس الذي قال يوم الخندق: إن بيوتنا عورة فائذن لنا فلنرجع إليها، فأنزل الله فيه: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} الآية.
ومن بني ظفر حاطب بن أمية وبشير بن أبير والحارث بن عمرو بن حارثة.
وعند ابن إسحاق بشير وهو أبو طعمة سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه:
{وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} وقزمان حليف لهم وهو المقتول يوم أحد بعد أن أبلى في المشركين قتل نفسه بعد أن أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار. ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة إلا أن الضحاك بن ثابت أتهم بشيء من ذلك ولم يصح. ومن الخزرج من بني النجار رافع بن وديعة وزيد ابن عمرو وعمر بن قيس وقيس بن عمرو بن سهل. ومن بني جشم بن الخزرج الجد بن قيس وهو الذي يقول يا محمد ائذن لي ولا تفتني. ومن بني عوف بن الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأس المنافقين وهو الذي قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلّ} في غزوة بني المصطلق وفيه نزلت سورة المنافقين بأسرها.

 

ج / 1 ص -280-       قال أبو عمر: وزيد بن أرقم هو الذي رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن أبي قوله لئن رجعنا إلى المدينة فأكذبه عبد الله بن أبي وحلف فأنزل الله تصديق زيد بن أرقم فتبادر أبو بكر وعمرو إلى زيد ليبشراه فسبق أبو بكر فأقسم عمرو أن لا يبادره بعدها إلى شيء وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بأذن زيد وقال: "وفت أذنك يا غلام". ووديعة وسويد وداعس من رهط ابن سلول وهم وعبد الله بن أبي الذين كانوا يدسون إلى بني النضير حين حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اثبتوا فوالله لئن أخرجتم لنخرجن معكم القصة. وكان النفاق في الشيوخ ولم يكن في الشباب إلا في واحد وهو قيس بن عمرو بن سهل رجع إلى ابن إسحاق: فكان ممن تعوذ بالإسلام وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد بن حنيف وزيد بن اللصيت ونعمان بن أوفى بن عمرو وعثمان بن أوفى وزيد بن اللصيت هو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه الخبر بما قال عدو الله: "إن قائلا قال: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ولا يدري أين ناقته وإني والله ما أعلم إلا ما علمني ربي وقد دلني الله عليها وهي في هذا الشعب قد حبسها شجرة بزمامها"، فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصف. ورافع بن حريملة وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات: "قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين"، ورفاعة بن زيد بن التابوت وهو الذي اشتدت الريح يوم موته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قافل من غزوة بني المصطلق: "إنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار" وسلسلة بن برهام وكنانة بن صوريا وكان هؤلاء يحضرون المسجد فيسخرون من المسلمين فأمر صلى الله عليه وسلم بإخراجهم منه فأخرجوا ففيهم نزل صدر سورة البقرة إلى المائة منها. قال ابن إسحاق وكتب رسول الله صلى الله

 

ج / 1 ص -281-       عليه وسلم إلى يهود خيبر فيما حدثني مولى لآل زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب موسى وأخيه والمصدق لما جاء به موسى ألا إن الله تعالى قد قال لكم: يا معشر يهود أهل التوراة وإنكم تجدون ذلك في كتابكم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وإني أنشدكم بالله وأنشدكم بما أنزل عليكم وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المن والسلوى وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله ألا أخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل عليكم أن تؤمنوا بمحمد وإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم قد تبين الرشد من الغي فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه ما هو بالذي كنا نذكره لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
قال ابن إسحاق: وقال مالك بن الضيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه

 

ج / 1 ص -282-       وسلم، وذكر لهم ما أخذ الله عليهم له من الميثاق وما عهد الله إليهم فيه والله ما عهد إلينا في محمد عهد وما أخذ له علينا ميثاق فأنزل الله فيه: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقال ابن صلوبا القطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها فأنزل الله في ذلك من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} وقال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ائتنا بكتاب تنزله من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك فأنزل الله في ذلك: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} وكان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله فيهما: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} الآية. ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} الآية. وقال رافع بن حريملة: يا محمد إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا فأنزل الله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}، وقال عبد الله بن صوريا الأعور: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} الآية. وسأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود

 

ج / 1 ص -283-       عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}، الآية. ودعا عليه السلام اليهود إلى الإسلام فقال له: رافع ومالك بن عوف بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فأنزل الله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ولما أصاب الله قريشا يوم بدر جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود في سوق بني قينقاع حين قدم المدينة فقال: "يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا"، قالوا له: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا وأنزل الله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الآية والتي بعدها. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعتهم من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو والحارث بن زيد: وعلى أي دين أنت يا محمد؟ قال: "على ملة إبراهيم ودينه"، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلم إلى التوراة فهي بيننا وبينكم" فأبيا عليه فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} الآية والتي تليها. وقال أحبار يهود: ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت نصارى نجران: ما كان إلا نصرانيا فأنزل الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} الآيات إلى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}. وقال عبد الله بن صيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل الله على محمد غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم فأنزل الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وقال أبو نافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من يهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم

 

ج / 1 ص -284-       إلى الإسلام: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل من نصارى نجران مثله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن يعبد غير الله"، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. ثم ذكر ما أخذ عليهم من الميثاق بتصديقه فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} إلى آخر القصة. ومر شاس بن قيس وكان شيخا قد عسا1 عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج يتحدثون فغاظه ما رأى من إلفتهم وجماعتهم بعد ما كان بينهم من العداوة فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار فأمر فتى شابا من يهود كان معهم فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا حتى تواثب رجلان على الركب أوس بن قيظي من الأوس وجبار بن صخر من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهما: لصاحبه إن شئتم رددتها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة -والظاهرة الحرة- السلاح السلاح، فخرجوا، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر وألف به بينكم"، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله في شاس بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي كبر.

 

ج / 1 ص -285-       قيس: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} الآية. وفى أوس وجبار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وكان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} إلى: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، ودخل أبو بكر بيت المدراس، فقال لفنحاص: اتق الله وأسلم والله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله، فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، فغضب أبو بكر، وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك فشكاه فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له أبو بكر ما كان منه فأنكر قوله ذلك فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الآية. وأنزل في أبي بكر: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا} الآية. وكان كردم بن قيس وأسامة بن حبيب في نفر من يهود يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} -أي التوراة التي فيها تصديق ما جاء محمد- {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} وكان رفاعة ابن زيد بن التابوت من عظماء يهود إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} إلى: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم: "يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي

 

ج / 1 ص -286-       جئتكم به لحق"، قالوا: ما نعرف ذلك فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}، وقال سكين بن عدي بن زيد يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فأنزل الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم فقال لهم: "أما والله إنكم لتعلمون أني رسول الله"، قالوا: ما نعلمه وما نشهد عليه، فأنزل الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى، فأنزل الله تعالى فيهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الآية. ودعاهم إلى الإسلام مرة وحذرهم عقوبة الله فأبوا عليه فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب بعد موسى وما أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله وذلك في قولهما: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} الآية. واجتمع أحبارهم في بيت المدراس فأتوا برجل وامرأة زنيا بعد إحصانهما فقالوا: حكموا فيهما محمدا فإن حكم فيهما بحكمكم من التجبية وهو الجلد بحبل من ليف يطلي بقار ثم نسود وجوههما ثم يحملان على حمارين وجوهما من قبل أدبار الحمارين فإنما هو ملك، فإن حكم فيهما بالرجم فهو نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ففعلوا، فمشى رسول الله صلى الله

 

ج / 1 ص -287-       عليه وسلم حتى أتى بيت المدراس فقال لهم: "أخرجوا إليّ علماءكم"، فأخرجوا له عبد الله بن صوريا فخلا به يناشده هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة قال: اللهم نعم أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ثم جحد ابن صوريا بعد ذلك نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} الآية. وفى بعض طرق هذا الحديث أن حبرا منهم جلس يتلو التوراة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده على آية الرجم فضرب عبد الله بن سلام يده، وقال: هذه آية الرجم أبى أن يتلوها عليك. الحديث. وقال كعب بن أسد وابن صلوبا وابن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر فأتوه فقالوا قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعك يهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} إلى قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: "نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه

 

ج / 1 ص -288-       وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق قال: "بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من أحداثكم"، قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية. وكان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا فكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}. وقال جبل بن أبي قيشير وشمويل بن زيد: يا محمد متى الساعة إن كنت نبيا؟ فأنزل الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} الآية وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى ومحمود بن دحية في نفر منهم فقالوا له: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا؟ وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله فأنزل الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} الآية. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان وعزير بن أبي عزير في جماعة منهم فقالوا: إنا لا نرى ما جئت به متسقا كما تتسق التوراة أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟ فقال لهم: "أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله وأني رسول الله تجدون ذلك مكتوبا عندكم في التوراة"، قالوا: فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، فأنزل علينا كتابا من السماء نقرؤه ونعرفه وإلا جئناك بمثل ما تأتي به فأنزل الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}، وقال قوم منهم لعبد الله بن سلام حين أسلم ما تكون النبوة في العرب ولكن صاحبك ملك منقول ثم جاءوا فسألوه عن ذي القرنين فقص عليهم ما جاءه من الله فيه مما كان قص على قريش

 

ج / 1 ص -289-       وهم كانوا ممن أمر قريشا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه حين بعثوا إليهم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وأتى رهط منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه فغضب حتى امتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه فجاءه جبريل فسكنه وأنزل عليه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورة فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا كيف خلقه وكيف ذراعه وكيف عضده فغضب أشد من غضبه الأول فأتاه جبريل من الله تعالى بقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية. وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش غطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وأبو عمار ووحوح بن عامر وهوذة بن قيس فأما وحوح وأبو عمار وهوذة فمن بني وائلة وسائرهم من بني النضير فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه ومن اتبعه فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} إلى قوله: {مُلْكًا عَظِيمًا}.
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يوؤل أمرهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رجلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل أسقفهم وخيرهم وحبرهم وإمامهم فكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس فبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم

 

ج / 1 ص -290-       فلما وجهوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى جنبه أخ له يقال له كوز بن علقمة فعثرت بغلة أبي حارثة فقال كوز1: تعس إلا بعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو حارثة بل أنت تعست قال: ولم يا أخي؟ قال: بلى والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر فقال له كوز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك، فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات2 جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب، فقال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم"، فصلوا إلى المشرق وكان تسمية الأربعة عشر السيد والعاقب وأبو حارثة وأوس والحارث وزيد وقيس ويزيد ونبيه وخويلد وعمرو وخالد وعبد الله ويحنس، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة والعاقب والأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف في أمرهم يقولون: هو الله ويقولون: هو ولد الله ويقولون: هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية فهم يحتجون في قولهم: هو الله بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طائرا، وذلك كله بأمر الله تبارك وتعالى؛ وليجعله آية للناس، ويحتجون في قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الكاف وآخره زاي. كذا قيده ابن ماكولا، وهو كور بن علقمة. وأما كرز بن علقمة بالراء بدل الواو فهو صحابي غيره.
2 من ثياب اليمن.

 

ج / 1 ص -291-       وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن، فلما كلمه الحبران؛ قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلما"، قالا: قد أسلمنا قال: "إنكما لم تسلما فأسلما" قالا: بلى قد أسلمنا قبلك قال: "كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير"، قالا: فمن أبوه يا محمد فصمت فلم يجبهما فأنزل الله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر من ملاعنتهم أن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتك بما تريد أن تفعل فيما دعوتنا إليه فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ما ترى فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبث صغيرهم وأنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني العشية ابعث معكم القوي الأمين" فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن يكون صاحبها فرحت إلى الظهر مهجرا فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه ويساره فجعلت أتطاول ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال: "اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه"، قال عمر فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه.

 

ج / 1 ص -292-       خبر عبد الله بن أبي بن سلول وأبي عامر الفاسق:
وكان يقال له: الراهب.
قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان لم يجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين حتى جاء الإسلام وغيره ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع أبو عامر عبد عمر بن صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد وهو أبو حنظلة الغسيل يوم أحد وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فكان يقال له: الراهب فشقيا بشرفهما، أما ابن أبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم فجاءهم الله برسوله وهم على ذلك فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلبه ملكا عظيما، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق، وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام فخرج منهم إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تقولوا: الراهب ولكن قولوا: الفاسق"، وكان قد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج إلى مكة: ما هذا الذي جئت به؟ قال: "جئت بالحنيفية دين إبراهيم عليه السلام"، قال: فأنا عليها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لست عليها"، قال: بلى إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها، قال: "ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية"، قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجل"، فكان هو ذلك، خرج إلى مكة فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام، فمات بها طريدا غريبا وحيدا.