عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي

ج / 1 ص -306-       تحويل القبلة:
قرئ على الشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم المقدسي وأنا حاضر في الرابعة أخبركم أبو الحسن علي بن النفيس بن بورنداز قراءة عليه ببغداد وأقر به قال: أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى قال: أنا أبو عطاء بن أبي عاصم قال: أنا حاتم بن محمد بن يعقوب ثنا أبو العباس محمد بن محمد بن الحسن الفريزني1 ثنا أبو جعفر وجابر بن عبد الله بن فورجة ثنا مالك بن سليمان الهروي عن يزيد بن عطاء عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: لقد صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعه عشر شهرا وكان الله يعلم أنه يحب أن يوجه نحو الكعبة فلما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إليها صلى رجل معه ثم أتى قوما من الأنصار وهم ركوع نحو بيت المقدس فقال لهم وهم ركوع أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه نحو الكعبة فاستداروا وهم ركوع فاستقبلوها رواه البخاري وغيره من حديث أبي إسحاق عن البراء. ورويناه من طريق ابن سعد ثنا الحسن بن موسى ثنا زهير ثنا أبو إسحاق عن البراء الحديث وفيه وأنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلاها معه قوم فخرج رجل ممن صلاها معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكان يعجبه أن يحول قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح الفاء والزاي.

 

ج / 1 ص -307-       ذلك وفيه أنه مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقد اتفق العلماء على أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة كانت إلى بيت المقدس وأن تحويل القبلة إلى الكعبة كان بها واختلفوا كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس بعد مقدمه المدينة وفى أي صلاة كان التحويل وفى صلاته عليه السلام قبل ذلك بمكة كيف كانت. فأما مدة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بالمدينة فقد رويناه أنه كان ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا وروينا بضعة عشر شهرا1. قال الحربي: ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول فصلى إلى  بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر ثم حولت القبلة في رجب. وكذلك روينا عن ابن إسحاق قال: ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في خبر ذكره، وسنذكره بعد تمام هذا الكلام إن شاء الله تعالى وقال موسى بن عقبة وإبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن القبلة صرفت في جمادى. وقال الواقدي: إنما صرفت صلاة الظهر يوم الثلاثاء في النصف من شعبان. كذا وجدته عن أبي عمر بن عبد البر. والذي رويناه عن الواقدي من طريق ابن سعد ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس. قال ابن سعد: وأنا عبد الله بن جعفر الزهري عن عثمان بن محمد الأخنسي وعن غيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وكان يحب أن يصرف إلى الكعبة فقال: "يا جبريل وددت أن الله صرف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في حاشية الأصل "بلغ مقابلة لله الحمد".

 

ج / 1 ص -308-       وجهي عن قبلة يهود"، فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله، وجعل إذا صلى إلى بيت المقدس يرفع رأسه إلى السماء فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فوجه إلى الكعبة إلى الميزاب. ويقال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ثم أمر أن يوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون ويقال: بل زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعاما وحانت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين ثم أمر أن يوجه إلى الكعبة فاستقبل الميزاب فسمى المسجد مسجد القبلتين وذلك يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا. وفرض صوم شهر رمضان في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا. قال محمد بن عمر وهذا الثبت عندنا. قال القرطبي الصحيح سبعة عشر شهرا وهو قول مالك وابن المسيب وابن إسحاق. وقد روى ثمانيه عشر وروى بعد سنتين وروى بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر والصحيح ما ذكرناه أولا، وأما الصلاة التي وقع فيها تحويل القبلة ففي خبر الواقدي هذا أنها الظهر، وقد ذكرنا في حديث البراء قبل هذا أنها العصر. وقد روينا عن ابن سعد قال: أنا عفان بن مسلم ثنا حماد بن سلمة قال: أنا ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزل {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فمر رجل بقوم من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر فنادى ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا إلى الكعبة. وروينا عن ابن سعد قال: أنا الفضل بن دكين ثنا قيس بن الربيع ثنا زياد بن علاقة عن عمارة بن أوس الأنصاري قال: صلينا إحدى صلاتي العشي فقام رجل على باب المسجد ونحن في الصلاة فنادى: إن الصلاة قد وجهت نحو الكعبة تحول أو تحرف إمامنا نحو الكعبة والنساء والصبيان، وليس في هذين

 

ج / 1 ص -309-       الخبرين ما يعارض ما قبلهما لأن بلوغ التحويل غير التحويل. وقرئ على أبي عبد الله بن أبي الفتح بن وثاب الصوري وأنا أسمع أخبركم الشيخان أبو مسلم المؤيد بن عبد الرحيم بن أحمد بن محمد بن الإخوة البغدادي نزيل أصبهان وأبو المجد زاهر بن أبي طاهر الثقفي الأصبهاني إجازة قال الأول: أخبرنا أبو الفرج سعيد بن أبي رجاء الصيرفي وقال الثاني: أنا أبو الوفاء منصور بن محمد بن سليم قالا: أنا أبو الطيب عبد الرزاق بن عمر بن موسى بن شمة قال: أنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم قال: أنا علي بن العباس المقانعي عن محمد بن مروان عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير قال: وثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كانوا يصلون الصبح فانحرفوا وهم ركوع.
وأما كيف كانت صلاته صلى الله عليه وسلم قبل تحويل القبلة فمن الناس من قال كانت صلاته صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس من حين فرضت الصلاة بمكة إلى أن قدم المدينة ثم بالمدينة إلى وقت التحويل:
روينا من طريق أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ بالسند المذكور آنفا قال: ثنا علي بن العباس المقانعي عن محمد بن مروان عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن السدي في كتاب الناسخ والمنسوخ له قال: قوله تعالى:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} قال: قال ابن عباس: أول ما نسخ الله تعالى من القرآن حديث القبلة. قال ابن عباس إن الله تبارك وتعالى فرض على رسوله الصلاة ليلة أسرى به إلى بيت المقدس ركعتين ركعتين الظهر والعصر والعشاء والغداة والمغرب ثلاثا فكان يصلي إلى الكعبة ووجهه إلى بيت المقدس قال: ثم زيد في الصلاة بالمدينة حين صرفه الله إلى الكعبة ركعتين رجعتين إلا المغرب فتركت كما هي

 

ج / 1 ص -310-       قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصلون إلى بيت المقدس وفيه قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سنة حتى هاجر إلى المدينة قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يصلي قبل الكعبة لأنها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل قال: وصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر إلى المدينة وبعد ما هاجر ستة عشر شهرا إلى بيت المقدس قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينتظر لعل الله أن يصرفه إلى الكعبة قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليهما السلام: "وددت أنك سألت الله أن يصرفني إلى الكعبة". فقال جبريل: لست أستطيع أن أبتدئ الله جل وعلا بالمسألة ولكن إن سألني أخبرته، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء ينتظر جبريل ينزل عليه قال: فنزل عليه جبريل وقد صلى الظهر ركعتين إلى بيت المقدس وهم ركوع فصرف الله القبلة إلى الكعبة. الحديث، وفيه: فلما صرف الله القبلة؛ اختلف الناس في ذلك فقال المنافقون: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}، وقال بعض المؤمنين: فكيف بصلاتنا التي صلينا نحو بيت المقدس؟ فكيف بمن مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ تقول قبل الله عز وجل منا ومنهم أم لا؟ وقال ناس من المؤمنين: كان ذلك طاعة وهذا طاعة نفعل ما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم وقالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه وهو يريد أن يرضي قومه ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي كنا ننتظر أن يأتي، وقال المشركون من قريش: تحير على محمد دينه فاستقبل قبلتكم وعلم أنكم أهدى منه ويوشك أن يدخل في دينكم فأنزل الله في جميع ذلك الفرق كلها فأنزل في المنافقين: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} -إلى دين الإسلام- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} إلى آخر الآية. وأنزل في المؤمنين: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} يقول

 

ج / 1 ص -311-       إلا لنبتلي بها وإنما كان قبلتك التي تبعث بها إلى الكعبة ثم تلا: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} قال: من اليقين قال المؤمنون: كانت القبلة الأولى طاعة وهذه طاعة فقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال: صلاتكم لأنكم كنتم مطيعين في ذلك ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} -يقول تنتظر جبريل حتى ينزل عليك- {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} -يقول تحبها- {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} -نحو الكعبة- {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي إنك تبعث بالصلاة إلى الكعبة. وأنزل الله في اليهود: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}، قال: لئن جئتهم بكل آية أنزلها الله في التوراة في شأن القبلة أنها إلى الكعبة ما تبعوا قبلتك، قال وأنزل الله في أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، قال: يعرفون أن قبلة النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل عليهما السلام قبل الكعبة كذلك هو مكتوب عندهم في التوراة وهم يعرفونه بذلك كما يعرفون أبناءهم وهم يكتمون ذلك وهم يعلمون أن ذلك هو الحق يقول الله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} يقول: من الشاكين قال: ثم أنزل في قريش وما قالوا فقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} -قال لكيلا يكون لأحد من الناس حجة- {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني قريشا، وذلك قول قريش قد عرف محمد أنكم أهدى منه فاستقبل قبلتكم ثم قال: {فَلا تَخْشَوْهُم} قال: فحين قالوا يوشك أن يرجع إلى دينكم يقول: "لا تخشوا أن أردكم في دينهم"، قال: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} أي أظهر دينكم على الأديان كلها. كل هذا عن السدي من كتابه في الناسخ والمنسوخ وهو يروي لنا بالإسناد المذكور وهو يروي عن أبي مالك عن ابن عباس ثم يتخلل سياق خبره فوائد عن بعض رواة الكتاب ثم يقول جامعه عند انقضائها، وعوده إلى الأول رجع إلى السدي ثم يقول عنه قال ابن عباس: كذا قال ابن

 

ج / 1 ص -312-       عباس كذا في أخبار متعددة متغايرة فيحتمل أن يكون ذلك عنده عن أبي مالك عن ابن عباس ويحتمل الانقطاع ولو كان ذلك في خبر واحد لكان أقرب إلى الاتصال، والسدي هذا هو الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن يروى عن أنس وعبد خير روى عنه الثوري وشعبة وزائدة، وكان يجلس بالمدينة في مكان يقال له السد فنسب إليه، احتج به مسلم ووثقه بعضهم وتكلم فيه آخرون. والسدي الصغير هو محمد بن مروان المذكور في الإسناد إليه مضعف عندهم. وقال آخرون: إنه عليه السلام صلى أول ما صلى إلى الكعبة ثم إنه صرف إلى بيت المقدس. قال أبو عمر: ذكر سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم إنه صرف إلى بيت المقدس فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه عليه السلام بثلاث وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه ستة عشر شهرا ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة. وقال ابن شهاب: وزعم ناس والله أعلم أنه كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل وراء ظهره الكعبة وهو بمكة ويزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة حتى خرج منها فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس. قال أبو عمر وأحسن من ذلك قول من قال أنه عليه السلام كان يصلى بمكة مستقبل القبلتين يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس. وقد روينا ذلك من طريق مجاهد عن ابن عباس. قرأت على الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل بن الواسطي بسفح قاسيون أخبركم الشيخ أبو البركات داود بن أحمد بن محمد بن ملاعب البغدادي وأبو الفضل عبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران بن الزاهري سماعا عليهما الأول بالشام والثاني بالعراق قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبيد الله بن زهير بن البسري بن الزاغوني زاد ابن ملاعب وأبو منصور أنوشتكين بن عبد الله الرضواني قال: أنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن البسري وقال ابن الزاغوني: أنا الشريف أبو نصر محمد بن محمد الزينبي

 

ج / 1 ص -313-       قالا: أنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص ثنا يحيى ثنا الحسن بن يحيى الأرزي أبو على بالبصرة ثنا يحيى بن حماد ثنا أبو عوانة عن سليمان يعني الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف إلى الكعبة. وروينا عن ابن سعد قال: أنا هاشم بن القاسم ثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: ما خالف نبي نبيا قط في قبلة ولا في سنة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس من حين قدم المدينة ستة عشر شهرا ثم قرأ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}. وقد ذكرنا فيما سلف حديث البراء بن معرور وتوجهه إلى الكعبة وفيه دليل على أن الصلاة كانت يومئذ إلى بيت المقدس ولما كان صلى الله عليه وسلم يتحرى القبلتين جميعا لم يتبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة. قال السهيلي وكرر الباري سبحانه وتعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف اليهود؛ لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم وأهل الريب والنفاق اشتد إنكارهم له لأنه كان أول نسخ نزل وكفار قريش؛ لأنهم قالوا: ندم محمد على فراق ديننا، وكانوا يحتجون عليه فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل، وقد فارق قبلة إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود فقال الله له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، على الاستثناء المنقطع أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون وذكر الآيات إلى قوله: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء. وروينا من طريق أبي داود في كتاب الناسخ والمنسوخ له قال: حدثنا أحمد بن صالح ثنا عنبسة عن يونس عن ابن شهاب قال: كان سليمان بن عبد الملك لا يعظم أيلياء1 كما يعظمها أهل البيت قال: فسرت معه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بيت المقدس.

 

ج / 1 ص -314-       وهو ولي عهد قال: ومعه خالد بن يزيد بن معاوية قال سليمان وهو جالس: فيها والله إن في هذه القبلة التى صلى إليها المسلمون والنصارى لعجبا قال خالد بن يزيد: أما والله إني لأقرأ الكتاب الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم وأقرأ التوراة فلم تجدها اليهود في الكتاب الذي أنزل الله عليهم ولكن تابوت السكينة على الصخرة فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه فكانت صلاتهم إلى الصخرة على مشاورة منهم. وروى أبو داود أيضا أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة فقال أبو العالية: إن موسى عليه السلام كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام فكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه، وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة وأخبر أبو العالية أنه صلى في مسجد ذي القرنين وقبلته إلى الكعبة.
قلت: قد تقدم في حديث البراء أن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم تحويل القبلة ثم أتى قوما من الأنصار فأخبرهم وهم ركوع فاستداروا، ولم يسم المخبر في ذلك الخبر والرجل هو عباد بن نهيك بن إساف الشاعر بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو النبيت بن مالك بن الأوس عمر في الجاهلية زمانا وأسلم وهو شيخ كبير فوضع النبي صلى الله عليه وسلم عنه الغزو وهو الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين في الظهر ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة يوم صرفت القبلة ثم أتى قومه بني حارثة وهم ركوع في صلاة العصر فأخبرهم بتحويل القبلة فاستداروا إلى الكعبة. وقد ذكر أبو عمر هذا الرجل بذلك لكنه لم يرفع نسبه إنما قال: عباد بن نهيك فقط ونسبه الخطمي فلم يصنع شيئا فخطمة هو عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس ليس هذا منه هذا حارثي وبنو خطمة تأخر إسلامهم.

 

ج / 1 ص -315-       ذكر فرض صيام شهر رمضان وزكاة الفطر وسنة الأضحية:
روينا عن ابن سعد قال: أنا محمد بن عمر ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي عن الزهري عن عروة عن عائشة. قال الواقدي: وأنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: وأنا عبد العزيز بن محمد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده قالوا: نزل فرض شهر رمضان بعدما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السنة بزكاة الفطر وذلك قبل أن تفرض الزكاة في الأموال وأن تخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من زبيب أو مدان من بر وكان يخطب صلى الله عليه وسلم قبل الفطر بيومين فيأمر بإخراجها قبل أن يغدو إلى المصلى وقال: "أغنوهم" يعني المساكين عن طواف هذا اليوم وكان يقسمها إذا رجع، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد يوم الفطر بالمصلى قبل الخطبة، وصلى العيد يوم الأضحى وأمر بالأضحية وأقام بالمدينة عشر سنين يضحي في كل عام قالوا: وكان يصلي العيدين قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة وكان يجعل العنزة1 بين يديه وكانت العنزة للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة فأخذها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى اشترى كبشين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العنزة مثل نصف الرمح أو أكبر شيئًا.

 

ج / 1 ص -316-       سمينين أقرنين أملحين1 فإذا صلى وخطب يؤتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فيذبحه بيده بالمدية ثم يقول: "هذا عن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ"، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه هو عن نفسه ثم يقول: "هذا عن محمد وآل محمد"، فيأكل هو وأهله منه ويطعم المساكين فكان يذبح عند طرف الزقاق عند دار معاوية. قال محمد بن عمر وكذلك تصنع الأئمة عندنا بالمدينة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأملح هو الذي بياضه أكثر من سواده، وقيل: هو النقي البياض.

 

ج / 1 ص -317-       ذكر المنبر وحنين الجذع:
قرأت على الشيخة الأصيلة أم محمد مؤنسة خاتون بنت السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بالقاهرة قلت لها: أخبرتك الشيخة أم هانئ عفيفة بنت أحمد بن عبد الله الفارقانية إجازة فأقرت به قالت: أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الواحد الصباغ قال: أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا أبو علي بن الصواف ثنا الحسين بن عمر ثنا أبي ثنا المعلى بن هلال عن عمار الدهني1 عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أم سلمة أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة"، قال: وكانت أساطين المسجد من دوم وظلاله من جريد النخل وكانت الأسطوانة تلي المنبر عن يسار المنبر إذا استقبلته دومة، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسند ظهره إليها يوم الجمعة إذا خطب الناس قبل أن يصنع منبر. فأول يوم وضع المنبر استوى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا في الساعة التي كان يستند فيها إلى الأسطوانة ففقدته الأسطوانة فجارت جوار الثور أو خارت خوار الثور والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فنزل النبي صلى الله عليه وسلم إليها فأتاها فوضع يده عليها وقال لها: اسكني أو اسكتي ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم- إلى منبره. وقرأت على أبي الفتح يوسف بن يعقوب الشيباني بسفح قاسيون أخبركم أبو العباس الخضر بن كامل بن سالم بن سبيع قراءة عليه وأنتم تسمعون سنة ست أو سبع وستمائة وأبو اليمن زيد بن الحسن الكندي إجازة إن لم يكن سماعا قال الأول: أنا أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي وقال الثانى: أنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الدال المهملة نسبة إلى دهن بن معاوية حي من بجيلة.

 

ج / 1 ص -318-       أبو الفتح محمد بن محمد بن البيضاوي قالا: أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن هزازمرد. "ح" وقرأت على أبي النور إسماعيل بن نور بن قمر الهيتي أخبركم الشيخ أبو نصر موسى ابن الشيخ عبد القادر الجيلي قراءة عليه وأنت تسمع فأقر به قال: أنا أبو القاسم سعيد بن أحمد بن الحسن بن البناء قال: أنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن البسري قالا: أنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص ثنا عبد الله يعني البغوي ثنا شيبان بن فروخ ثنا مبارك بن فضالة ثنا الحسن عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة مسندا ظهره إليها فلما كثر الناس قال: "ابنوا لي منبرا" قال: فبنوا له عتبتان فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس: وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تحن حنين الواله فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكنت فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه لمكانه من الله عز وجل فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. قال: القاضي عياض رواه من الصحابة بضعة عشر منهم أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وسهل بن سعد وأبو سعيد الخدري وبريدة وأم سلمة والمطلب بن أبي وداعة كلهم يحدث بمعنى هذا الحديث، قال الترمذي وحديث أنس صحيح وفي حديث جابر فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، وفى رواية أنس حتى ارتج المسجد بخواره، وفى رواية سهل وكثر بكاء الناس لما رأوا فيه، وفى رواية المطلب حتى تصدع وانشق حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت، زاد غيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا بكى لما فقد من الذكر"، وزاد غيره: "والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة" تحزنا على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به فدفن تحت المنبر. وفى حديث أبي أنه أخذه

 

ج / 1 ص -319-       أبي فكان عنده إلى أن أكلته الأرض وعاد رفاتا، وفى حديث بريدة فقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك خوص وثمرة وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك"، ثم أصغى له عليه السلام يستمع ما يقول فقال: بل تغرسنى في الجنة فسمعه من يليه فقال عليه السلام: "قد فعلت" وأخبرنا عبد الرحيم بن يوسف الموصلي بقراءة والدي عليه قال: أنا ابن طبرزذ قال: أنا ابن عبد الباقي قال: أنا الجوهري قال: أنا ابن الشخير ثنا العباس بن أحمد ثنا محمد بن أبان ثنا أبو القاسم ابن أبي الزناد عن سلمة بن وردان قال سمعت أبا سعيد بن المعلى يقول: سمعت عليا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"، ورويناه من حديث جابر وفيه: "وأن منبري على ترعة من ترع الجنة"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في حاشية الأصل "بلغ مقابلة لله الحمد".