عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي

ج / 2 ص -5-            غزوة حمراء الأسد:
وهي صبيحة يوم الأحد عند ابن إسحاق لست عشرة مضت من شوال عند ابن سعد لثمان خلون من شوال من صبيحة أحد والخلاف عندهم في أحد كما سبق. قال ابن إسحاق وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس طلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على خوات لي سبع وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف على خواتك فتحلفت عليهن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبة ليظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما قال ابن هشام، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة وقد مر به كما حدثني عبد الله بن أبي بكر؛ معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله قد عافاك فيهم وكان معبد قد رأى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى حمراء الأسد ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء فأخبرهم بخروج رسول

 

ج / 2 ص -6-            الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم ففت1 ذلك في أعضاد قريش وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه صلى الله عليه وسلم فتمادوا إلى مكة وظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه صبرا2 وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو بحمراء الأسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة: "والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب"، قال ابن هشام: ويقال: إن زيد بن حارثة وعمار بن ياسر قتلا معاوية بن المغيرة بعد حمراء الأسد كان لجأ إلى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه على أنه وجد بعد ثلاث قتل فأقام بعد ثلاث وتوارى، فبعثهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا"، فوجداه فقتلاه، وقال ابن سعد ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل فدفعه إلى علي بن أبي طالب ويقال لي أبي بكر الصديق وخرج وهو مجروح في وجهه ومشجوج في جبهته ورباعيته قد شظيت3 وشفته السفلى قد كلمت4 في باطنها وهو متوهن منكبه يعني الأيمن من ضربة ابن قمئة وركبتاه مجحوشتان5 وحشد أهل العوالي ونزلوا حيث أتاهم الصريخ وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وخرج الناس معه فبعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد قال: وللقوم زجل6 وهم يأتمرون بالرجوع وصفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك فبصروا بالرجلين فعطفوا عليهما فقتلوهما ومضوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أضعفهم.
2 القتل صبرا هو أن يمسك شيء من ذوات الروح فيرمي بشيء حتى يموت.
3 أي: كسرت.
4 أي جرحت.
5 أي انخدش جلدهم.
6 أي صوت.

 

ج / 2 ص -7-            نار حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معكسرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله تبارك وتعالى بذلك عدوهم، وكان دليله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد ثابت بن الضحاك بن ثعلبة من الخزرج وليس بأخي أبي جبيرة بن الضحاك ذاك أوسي من بني عبد الأشهل وله حديث في النهي عن المزارعة رواه مسلم، ومن الناس من يجعل ذلك الحديث لثابت هذا وليس بشيء.

 

ج / 2 ص -8-            سرية أبي سلمة بن عبد الأسد:
روينا عن ابن سعد قال: ثم سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي إلى قطن وهو جبل بناحية فيد -ماء لبني أسد بن خزيمة- في هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعونهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سلمة وعقد له لواء وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار، وقال:
"سر حتى تنزل أرض بني أسد فأغر عليهم قبل أن تلاقي عليك جموعهم"، فخرج فأغذ1 السير ونكب عن سنن الطريق وسبق الأخبار وانتهى إلى أدنى قطن فأغار على سرح لهم فضمه رعاء لهم مماليك ثلاثة وأفلت سائرهم فجاءوا جميعهم فحذروهم فتفرقوا في كل ناحية، ففرق أبو سلمة أصحابه ثلاث فرق في طلب النعم والشاء فآبوا إليه سالمين قد أصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا أحدا فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أسرع.

 

ج / 2 ص -9-            سرية عبد الله بن أنيس:
قال ابن سعد: ثم سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي عرنة: خرج من المدينة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سفيان بن خالد الهذلي ثم اللحياني وكان ينزل عرنة وما والاها في ناس من قومه قد جمع الجموع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس ليقتله فقال صفه لي يا رسول الله فقال: "إذا رأيته هبته وفرقت1 منه وذكرت الشيطان"، قال: وكنت لا أهاب الرجال فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم فأذن لي فأخذت سيفي وخرجت أعتزي إلى خزاعة حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي ووراءه الأحابيش ومن ضوى2 إليه فعرفته بنعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهبته فرأيتني أقتر عرقا فقلت صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من بني خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك فقال: أجل إني لأجمع له فمشيت معه ساعة وحدثته فاستحلى حديثي حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته، فقتلته وأخذت رأسه ثم دخلت غارا في الجبل وضربت العنكبوت علي وجاء الطلب، فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين ثم خرجت فكنت أسير الليل وأتوارى بالنهار حتى قدمت المدينة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فلما رآني قال: "أفلح الوجه"، قلت: أفلح وجهك يا رسول الله فوضعت رأسه بين يديه وأخبرته خبري، فدفع إلي عصا فقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي خفت.
2 أي أوى.

 

ج / 2 ص -10-         "تخصر بهذه في الجنة" فكانت عنده فلما حضرته الوفاة أوصى أهله أن يدرجوها في كفنه ففعلوا، وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم. وقال ابن عقبة: جعلوها في كفنه بين جلده وثيابه. وقال موسى بن عقبة أيضا فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بموته قبل قدوم عبد الله بن أنيس. قال ابن هشام: وقال عبد الله بن أنيس في ذلك:

تركت ابن ثور كالحوار وحوله                    نوائح تفري كل جيب مقدد

تناولته والطعن خلفي وخلفه                  بأبيض من ماء الحديد مهند

أقول له والسيف يعجم رأسه                   أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد

وقلت له خذها بضربة ماجد                     حنيف على دين النبي محمد

وكنت إذا همَّ النبي بكافر                        سبقت إليه باللسان وباليد

قوله: يعجم رأسه من قولهم: فلان يعجم التمرة أي يلوكها ويعضها. والقعدد: الجبان. قال ابن عقبة ولا ندري من أين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى ابن نبيح أمن المدينة أم من غيرها.