عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي

ج / 2 ص -11-         بعث الرجيع:
وكان في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ابن سعد روينا من طريق البخاري قال: حدثني موسى بن إسماعيل فثنا إبراهيم قال: أنا ابن شهاب قال: أخبرني عمرو بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، وكان من أصحاب أبي هريرة عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب1 حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه، فقالوا: تمر يثرب فاتبعوا آثارهم فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى موضع فأحاط بهم القوم فقالوا: انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق وأن لا نقتل منكم أحدا. فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ثم قال: اللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم أن لي بهؤلاء أسوة يريد القتلى فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فانطلق بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا قتله فاستعار خبيب من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها فأعارته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا وقع في الصحيح، قال بعض الحفاظ صوابه خاله لا جده.

 

ج / 2 ص -12-         فدرج بني1 لها وهي غافلة حتى أتاه فوجدته مجلسه على فخده والموسى بيده قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب فقال: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك قالت والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده وأنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبا؛ فلما خرجوا به من الحرم؛ ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، وقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم أنشأ يقول:

فلست أبالي حين أقتل مسلما                على أي شق كان لله مصرعي

وذلك في ذات الآله وإن يشأ                     يبارك على أوصال شلو ممزع

ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يؤتوا شيء منه يعرف؛ وكان قتل عظيما من عظمائهم فبعث الله لعاصم مثل الظلة من لدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئا. كذا روينا في هذا الخبر من طريق البخاري في جامعه وفيه أن خبيبا هذا قتل الحارث بن عامر يوم بدر وليس ذلك عندهم بمعروف. وإنما الذي قتل الحارث بن عامر خبيب بن إساف بن عنبة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج. خبيب بن عدي لم يشهد بدرا عند أحد من أرباب المغازي. وروينا عن ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرءوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم نفرا ستة من أصحابه، وهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسم هذا الصبي أبو الحسين بن الحارث بن عامر بن نوفل، ومن ولده عبد  الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسن المحدث.

 

ج / 2 ص -13-         ابن عبد المطلب وخالد بن البكير الليثي حليف بني عدي بن كعب وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف وحبيب بن عدي أخو بني جحجبا بن كلفة بن عمرو بن عوف وزيد بن الدثنة أخو بني بياضة وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع -ماء لهذيل- غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقتلوا القوم فقالوا لهم: إنا والله لا نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم فأبوا فأما مرثد وخالد وعاصم فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا وقاتلوا حتى قتلوا، فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن فيه الخمر. قال أبو جعفر الطبري: وجعلت لمن جاءت برأسه مائة ناقة.
رجع إلى خبر ابن إسحاق: فمنعه الدبر فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فنأخذه فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا. وأما زيد بن الدثنة وخبيب وابن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحيوة فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبر بالظهراني رحمه الله، وأما خبيب وزيد فقدموا بهما مكة فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه، وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فأخرجه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم خارج الحرم؛ ليقتله، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له

 

ج / 2 ص -14-         أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك، فقال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لجالس في أهلي، قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتله نسطاس يرحمه الله. ورأيت في كتاب ذيل المذيل لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري لحسان بن ثابت يرثي أصحاب الرجيع الستة:

ألا ليتني فيها شهدت ابن طارق                وزيدًا وما تغني الأماني ومرثدا

ودافعت عن حبي خبيب وعاصم                 وكان شفاء لو تداركت خالدا

وذكر ابن سعد أن البعث كانوا عشرة وذكر الستة الذين ذكرناهم وزاد ومعتب بن عبيد وهو أخو عبد  الله بن طارق لأمه ولم يذكر الباقين. وذكر ابن عقبة أيضا معتب بن عبيد فيهم وذكر أن الذي قيل له: أتحب أن محمدا مكانك هو خبيب بن عدي حين رفع على الخشبة فقال لا والله فضحكوا منه. قال: وقال خبيب: اللهم إني لا أجد إلى رسولك رسولا غيرك فأبلغه مني السلام وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو جالس في ذلك اليوم الذي قتلا فيه: "وعليكما -أو- عليك السلام خبيب؛ قتلته قريش"، ولا يدرون أذكر زيد بن الدثنة معه أم لا؟ وزعموا أنهم رموا زيد بن الدثنة بالنبل وأرادوا فتنته، فلم يزدد إلا إيمانا وتثبيتا، وزعموا أن عمرو بن أمية الضمري دفن خبيبا، قال أبو عمر: وروى عمرو بن أمية الضمري، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبيب بن عدي لأنزله من الخشبة فصعدت خشبته ليلا، فقطعت عنقه وألقيته، فسمعت وجبة1 خلفي فالتفت فلم أر شيئا، وقال ابن عقبة -واشترك في ابتياع خبيب: زعموا أبو إهاب بن عزيز وعكرمة بن أبي جهل والأخنس بن شريق وعبيدة بن حكيم بن الأوقص وأمية بن أبي عتبة وبنو الحضرمي وصفوان بن أمية بن خلف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي صوتا.

 

ج / 2 ص -15-         وهم أبناء من قتل من المشركين يوم بدر ودفعوه إلى عقبة بن الحارث فسجنه في داره... الحديث. وكان فيما أنزل الله تعالى في المنافقين الذين كانوا يلمزونهم وفيهم من القرآن: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى أن ذكرهم فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية. ومما قاله حسان يهجو هذيلا:

لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك             أحاديث كانت في خبيب وعاصم

أحاديث لحيان صلوا بقبيحها                     ولحيان ركابون شر الجرائم

هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت                 أمانتهم ذا عفة ومكارم

قبيلته ليس الوفاء بهمهم                        وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم

إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم                   بمجرى مسيل الماء بين المخارم

محلهم دار البوار ورأيهم                           إذا نابهم أمر كرأي البهائم

الدبر ذكر النحل1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هامش الأصل "بلغ مقابلة لله الحمد".

 

ج / 2 ص -16-         قصة بئر معونة:
وكان في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد عند ابن إسحاق. قال: وكان من حديثهم كما حدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم1 وغيرهم من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام وقال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخشى أهل نجد عليهم"، قال أبو براء: أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخي بني ساعدة المعبق ليموت في أربعين، وعن غير ابن إسحاق في سبعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم كلا البلدين منها قريب وهي إلى حرة بني سليم أقرب فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل، فقتله ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلا فأجابوه إلى ذلك ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم رحمهم الله إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار فإنهم تركوه وبه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله عبد  الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.

 

ج / 2 ص -17-         رمق فارتث1 من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا رحمه الله. وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل آخر من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف. قال ابن هشام هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح، قال ابن إسحاق: فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا فأقبلا ينظران فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟ قال نرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل القوم حتى قتل رحمه الله وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقوة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه فكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية وقد سألهما حين نزلا ممن أنتما فقالا: من بني عامر فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أن قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت قتيلين لأدينهما"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه. وقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر بن الطفيل:

بني أم البنين ألم يرعكم                    وأنتم من ذوائب أهل نجد

تهكم عامر بأبي براء                           ليخفره وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي                  فما أحدثت في الحدثان بعدي

أبوك أبو الحروب أبو براء                       وخالك ماجد حكم بن سعد


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ارتث مبنيا للمجهول أي حمل من المعركة رثيثا أي جريحا وبه رمق.

 

ج / 2 ص -18-         أم البنين هي أم أبي البراء من بني عامر بن صعصعة فحمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه بالرمح فوقع في فخذه فأشواه1 ووقع عن فرسه، فقال هذا عمل أبي براء إن أنامت فدمي لعمي فلا يتبعن به وأن أعش فسأرى رأيي، قال أبو عمر ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ثمامة بن عبد الله بن أنيس عن أنس بن مالك أن حرام بن ملحان وهو خال أنس طعن يوم بئر معونة في رأسه فتلقى دمه بكفه ثم نضحه2 على رأسه ووجهه وقال: فزت ورب الكعبة، وقيل: إن حرام بن ملحان ارتث يوم بئر معونة فقال الضحاك بن سفيان الكلابي وكان مسلما يكتم إسلامه لامرأة من قومه هل لك في رجل إن صح كان نعم المراعي فضمته إليها فعالجته فسمعته يقول:

أتت عامر ترجو الهوادة بيننا                    وهل عامر إلا عدو مداجن

إذا ما رجعنا ثم لم تك وقعة                     بأسيافنا في عامر أو نطاعن

فلا ترجونا أن تقاتل بعدنا                        عشائرنا والمقربات الصوافن

فوثبوا عليه، فقتلوه والأول أصح، وقتل يومئذ عامر بن فهيرة قتله عامر بن الطفيل من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما قدم عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "من الرجل الذي لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه ثم وضع"، فقال له: هو عامر بن فهيرة. وروى ابن المبارك عن يونس عن ابن شهاب قال: زعم عروة بن الزبير أن عامر بن فهيرة قتل يومئذ فلم يوجد جسده حين دفنوا يرون أن الملائكة دفنته رحمه الله والله أعلم بالصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل.
2 أي: رشه.

 

ج / 2 ص -19-         وممن استشهد يوم بئر معونة:
عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق وهو ابن أربعين سنة قديم الإسلام سلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم. والحكم بن كيسان مولى بني مخزوم. والمنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح. وأبو عبيدة بن عمرو بن محصن. والحارث بن الصمة بن عمرو ابنا عتيك بن عمرو بن مبذول. وأبي بن معاذ بن أنس بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن مالك بن النجار وأخوه أنس. وابن إسحاق وابن عقبة يسميانه أوسا، والواقدي يقول إن أنسا هذا مات في خلافة عثمان. وأبو شيخ ابن أبي بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحرام وسليم ابنا ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، واسم ملحان مالك، وهما أخوا أم سليم أم أنس بن مالك وأخوا أم حرام امرأة عبادة بن الصامت ومالك وسفيان ابنا ثابت من الأنصار من بني النبيت، وذلك مما انفرد به محمد بن عمر الواقدي لم يوجد ذكر مالك وسفيان في شهداء بئر معونة عن غير محمد بن عمر وعروة بن أسما بن الصلت من بني عمرو بن عوف من حلفائهم، وقطبة بن عبد عمرو بن مسعود بن كعب بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة وهو أميرهم، ومعاذ بن ماعص بن قيس بن خلدة بن عامر بن زريق وأخوه عائذ، وغير الواقدي يقول: جرح معاذ ببدر ومات منه بالمدينة، وقيل في عائذ: مات باليمامة، ومسعود بن سعد بن قيس بن خلدة بن عامر بن زريق عند الواقدي، وأما ابن القداح فقال مات بخيبر، وخالد بن ثابت بن النعمان بن الحارث بن عبد رزاح بن ظفر، وقيل بل قتل خالد بن ثابت بمؤتة، وسفيان بن حاطب بن أمية بن رافع بن سويد بن حرام بن الهيثم بن ظفر، وسعد

 

ج / 2 ص -20-         ابن عمرو بن ثقف واسمه كعب بن مالك بن مبذول وابنه الطفيل وابن أخيه سهل بن عامر بن سعد بن عمرو بن ثقف، وعبد الله بن قيس بن صرمة بن أبي أنس بن صرمة بن مالك بن عدي بن النجار، ونافع بن بديل ورقاء الخزاعي وفيه يقول عبد الله بن رواحة يرثيه:

رحم الله نافع بن بديل                        رحمة المبتغي ثواب الجهاد

صابرا صادق اللقاء إذا ما                      أكثر القوم قال قول السداد

ذكر هؤلاء المستشهد بن أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه ذيل المذيل من رواية ابن عبد البر عن أبي عمر أحمد بن محمد بن الجسور عن أبي بكر أحمد بن الفضل بن العباس الخفاف عنه ومن أصل أبي عمر بن عبد البر نقلت، وعند ابن سعد فيهم الضحاك بن عبد عمرو بن مسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار بن النجار، وذكر ابن القداح فيهم عمرو بن معبد بن الأزعر بن زيد بن العطاف بن ضبيعة من بني عمرو بن عوف واسمه عند ابن إسحاق عمرو، وهو عند ابن القداح عمير، وذكر ابن الكلبي خالد بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار في شهداء بئر معونة، وذكر أبو عمر النمري في الاستيعاب سهيل بن عامر بن سعد فيهم وأظنه سهل بن عامر الذي ذكرناه على أنه ذكر ذلك في ترجمتين إحداهما في باب سهل والأخرى في باب سهيل، والمختلف في قتله في هذه الواقعة مختلف في حضوره فأرباب المغازي متفقون على أن الكل قتلوا إلا عمرو بن أمية الضمري، وكعب بن زيد بن قيس بن مالك بن كعب بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار فإنه جرح يوم بئر معونة ومات بالخندق، وقال ابن سعد لما أحيط بهم قالوا: اللهم إنا لا نجد من يبلغ رسولك منا السلام غيرك فأقرئه منا السلام فأخبره جبريل عليه السلام بذلك فقال: "وعليهم السلام" وقال: فقد عمرو بن أمية عامر بن فهيرة من بين القتلى فسأل عنه عامر بن الطفيل فقال: قتله رجل من بني كلاب يقال له: جبار بن سلمى فلما قتله قال: فزت والله ورفع إلى السماء فأسلم جبار بن سلمى لما رأى من قتل عامر بن فهيرة ورفعه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة وارت جثته وأنزل عليين". وروينا

ج / 2 ص -21-         عن ابن سعد قال: أنا الفضل بن دكين فثنا سفيان بن عيينة عن عاصم قال سمعت أنس بن مالك قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة. وروينا من طريق مسلم قال: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله، قال أنس: أنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنا قرأناه ثم نسخ بعد "أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه"؛ كذا وقع في هذه الرواية وهو يوهم أن بني لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة وليس كذلك، وإنما أصاب هؤلاء رعل وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم. وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع وإنما أتى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم كلهم في وقت واحد فدعا على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاء واحدا.

 

ج / 2 ص -23-         غزوة بني النضير:
وهي عند ابن إسحاق في شهر ربيع الأول على رأس خمسة أشهر من وقعة أحد، وقال البخاري: قال الزهري عن عروة كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد. قال موسى بن عقبة: وكانوا قد دسوا إلى قريش في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضوهم على القتال ودلوهم على العورة. قال ابن إسحاق وغيره: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك القتيلين اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في ديتهما قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه1، ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد؛ فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضى الله عنهم. وقال ابن سعد: فقال سلام بن مشكم يعني لليهود: لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه.
رجع إلى خبر ابن إسحاق قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فلما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الظاهرية زيادة "اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك فجلس إلى ظل جدار من جدر دورهم".

 

ج / 2 ص -24-         استلبس النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا من المدينة مقبلا، فسألوه فقال: رأيته داخلا إلى المدينة فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه فأخبر الخبر هم بما كانت أرادت يهود من الغدر به. قال ابن عقبة ونزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ} الآية. رجع إلى خبر ابن إسحاق فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما قال ابن هشام، وقال ثم سار بالناس حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال ونزل تحريم الخمر. قال ابن إسحاق فتحصنوا منه في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها، وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة بن مالك بن أبي قوقل وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة1 ففعل فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل يهدم بيته عن نجاف بابه2 فيضمه على بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له خاصة يضعها حيث يشاء، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمرو3 بن كعب بن عم عمرو بن جحاش وأبو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحلقة بسكون اللام هي السلاح عاما وقيل الدروع.
2 أسكفة الباب.
3 لعل صوابه "بن عمير" كما ذكره المؤلف في غزوة تبوك وكما هو عند ابن عبد البر وابن هشام والذهبي.

 

ج / 2 ص -25-         سعيد1 بن وهب أسلما فاحرزا أموالهم بذلك، ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم تر إلى ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني"، فجعل يامين جعلا لمن يقتله فقتل ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر، قال ابن عقبة ولحق بنو أبي الحقيق بخيبر ومعهم آنية كثيرة من فضة قد رآها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين خرجوا بها وعمد حيي بن أخطب حتى قدم مكة على قريش فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنصرهم وبين الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أهل النفاق وما بينهم وبين اليهود. وفيما ذكر ابن سعد من الخبر عن بني النضير أنهم حين هموا بغدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمه الله بذلك ونهض سريعا إلى المدينة بعث إليهم محمد بن مسلمة: "أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر وقد أجلتكم عشرا فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه"، فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون وأرسلوا إلى ظهر2 لهم بذي الجدر وتكاروا من ناس من أسجع إبلا فأرسل إليهم ابن أبي لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم فإن معي ألفين من قومي ومن العرب يدخلون حصنكم فيموتون من آخرهم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع حيي فيما قال ابن أبي فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير وكبر المسلمون لتكبيره وقال: "حاربت يهود"، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فصلى العصر بفناء بني النضير وعلي يحمل رايته واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان فيئسوا من نصرهم فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم وقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فقال: "لا أقبله اليوم ولكن اخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة"، فنزلت يهود على ذلك وكان حاصرهم خمسة عشر يوما فكانوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله "سعد" كما في تجريد الذهبي وتلقيح ابن الجوزي و الاستيعاب وسيرة ابن هشام.
2 أي: إبل.

 

ج / 2 ص -26-         يخربون بيوتهم بأيديهم ثم أجلاهم عن المدينة وولي إخراجهم محمد بن مسلمة وحملوا النساء والصبيان وتحملوا على ستمائة بعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش"، فلحقوا بخيبر وحزن المنافقون عليهم حزنا شديدا وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال والحلقة فوجد من الحلقة خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا، وكانت أموال بني النضير صفيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبسا لنوائبه ولم يخمسها ولم يسهم منها لأحد وقد أعطى ناسا من أصحابه ووسع في الناس منها، وذكر أبو عبد الله الحاكم في كتاب الإكليل له بإسناده إلى الواقدي عن معمر بن راشد عن الزهري عن خارجة بن زيد عن أم العلاء قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في القرعة فكان في منزلي حتى توفي قالت: فكان المسلمون والمهاجرون في دورهم وأموالهم فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: "ادع لي قومك"، فقال ثابت: الخزرج يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنصار كلها"، فدعا له الأوس والخزرج فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم وأثرتهم على أنفسهم ثم قال: "إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من في منازلكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم"، فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا: يا رسول الله بل بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار"، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفاء الله عليه وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار شيئا إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف وأبا دجانة وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق وكان سيفا له ذكر عندهم. وذكر أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتاب فتوح البلدان له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "ليست لإخوانكم من المهاجرين أموال فإن شئتم قسمت هذه وأموالكم

 

ج / 2 ص -27-         بينكم وبينهم جميعا وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه فيهم خاصة"، فقالوا: بل أقسم هذه فيهم وأقسم لهم من أموالنا ما شئت فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال أبو بكر رضي الله عنه: جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال الغنوي:

جزى الله عنا جعفرا حين أزلفت                  بنا نعلنا في الواطئين فزلت

أبوا أن يملونا ولو أن أمنا                            تلاقى الذي يلقون منا لملت

قال: وكانت أموال بني النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يزرع تحت النخل في أرضهم فيدخر من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة وما فضل جعله في الكراع والسلاح. وروينا من طريق البخاري قال: حدثني إسحاق قال: أنا حبان فثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، قال: ولها يقول حسان بن ثابت:

وهان على سراة بني لؤي                          حريق بالبويرة مستطير

فأجابه أبو سفيان بن الحارث:

أدام الله ذلك من صنيع                       وحرق في نواحيها السعير

ستعلم أينا منها بتره                         ونعلم أي أرضينا تضير1

هذه رواية البخاري، وقال أبو عمرو الشيباني وغيره: إن أبا سفيان بن الحارث قال:

لعز على سراة بني لؤي                          حريق بالبويرة مستطير

ويروى بالبويلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روي بالضاد المعجمة بمعنى تضر، وروي بالصاد المهملة بمعنى تشق وتقطع.

 

ج / 2 ص -28-         ذكر ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير بن العوام وأبا سلمة البويلة من أرضهم فأجابه حسان:

أدام الله ذلكم حريقا                            وضرم في طوائفها السعير

هم أوتوا الكتاب فضيعوه                       فهم عمي عن التوراة بور

هذه أشبه بالصواب من الرواية الأولى.

 

ج / 2 ص -29-         غزوة ذات الرقاع:
قال ابن إسحاق ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع، وقال الوقشي: الصواب شهري ربيع وبعض جمادى. ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان واستعمل على المدينة أباذر الغفاري ويقال: عثمان بن عفان فيما قال ابن هشام وقال: حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع وقيل: لأن أقدامهم نقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان تشبه الرقاع. قال ابن إسحاق: فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بالناس. قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلاها وبين الرواة خلف في صلاة الخوف ليس هذا موضعه. رجع إلى الأول قال ابن إسحاق: حدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب يقال له: غورث قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا قالوا: بلى وكيف تقتله؟ قال: أفتك به قال: فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمد أنظر إلى سيفك هذا؟ قال:
"نعم"، فأخذه فاستله، ثم جعل يهزه ويهم فيكبته الله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: "لا وما أخاف منك؟"، قال: وفي يدي السيف، قال: "لا بل يمنعني الله منك"، قال: ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرده عليه فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ}، الآية. وقد رواه من حديث جابر أيضا أبو عوانة وفيه: فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من يمنعك؟"، قال: كن خير آخذ. قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"

 

ج / 2 ص -30-         قال الأعرابى: أعاهدك أني لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس، قلت: وقد تقدم في غزوة ذي أمر خبر لرجل يقال له: دعنور بن الحارث من بني محارب يشبه هذا الخبر؛ قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصيف، فقال: من يمنعك مني اليوم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "من يمنعك مني"، قال: لا أحد؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم أتى قومه فجعل يدعوهم إلى الإسلام ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ}، الآية؛ والظاهر أن الخبرين واحد، وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في أمر بني النضير كما سبق فالله أعلم، وفى انصرافه عليه السلام من هذه الغزوة أبطأ جمل جابر بن عبد الله به فنخسه النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق متقدما بين يدي الركاب، ثم قال: "أتبيعنيه"، فابتاعه منه وقال له: "لك ظهره إلى المدينة"، فلما وصل إلى المدينة أعطاه الثمن ووهب له الجمل1. وقال ابن سعد: قالوا: قدم قادم المدينة بجلب له فأخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنمار وثعلبة قد جمعوا لهم الجموع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربعمائة من أصحابه ويقال: سبعمائة فمضى حتى أتى محالهم بذات الرقاع، فلم يجد في محالهم إلا نسوة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعال بن سراقة بشيرا لسلامته وسلامة المسلمين، قال: وغاب خمس عشرة ليلة. وروينا في صحيح البخاري من حديث أبي موسى أنهم نقبت أقدامهم فلفوا عليها الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع وجعل حديث أبي موسى هذا حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر وذلك أن أبا موسى إنما قدم مع أصحاب السفينتين بعد هذا بثلاث سنين، والمشهور في تاريخ غزوة ذات الرقاع ما قدمناه وليس في خبر أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك. وغورث مقيد بالغين معجمة ومهملة وهو عند بعضهم مصغر بالعين المهملة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في البخاري أن اشتراء جمل جابر كان بطريق تبوك، قال الحافظ ابن حجر في شرحه جزم ابن إسحاق عن وهب بن كيسان أنه في ذات الرقاع وأهل المغازي لمثل هذا.