عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي ج / 2 ص -181-
فتح مكة شرفها الله تعالى:
كانت في شهر رمضان سنة ثمان. وكان السبب فيها
فيما ذكر ابن إسحاق أن بني بكر بن عبد مناة بن
كنانة عدت على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل
مكة يقال له: الوتير. وكان الذي هاج ما بين
بكر وخزاعة أن رجلا من بني الحضرمي يقال له:
مالك بن عباد -وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود
بن رزن- خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا
عليه فقتلوه وأخذوا ماله فعدت بنو بكر على رجل
من خزاعة فقتلوه فعدت خزاعة قبل الإسلام على
بني الأسود بن رزن الديلي وهم منخر بني كنانة
وأشرافهم سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند
أنصاب الحرم فبيناهم كذلك حجز بينهم الإسلام.
وتشاغل الناس به فلما كان صلح الحديبية بين
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان
فيما شرطوا أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه ومن
أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فدخلت
بنو بكر في عهد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلما كانت الهدنة
اغتنمها بنو الديل بن بكر من خزاعة وأرادوا أن
يصيبوا منهم ثأرا بأولئك النفر الذين أصابوا
منهم في الأسود بن رزن فخرج نوفل بن معاوية
الديلي في بني الديل بن بكر من كنانة حتى بيت
خزاعة وهم على الوتير ماء لهم فأصابوا منهم
رجلا وتحاوروا واقتتلوا ورفدت بني بكر قريش
بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل
مستخفيا. ذكر ابن سعد منهم صفوان بن أمية
وحويطب بن عبد العزى
ج / 2 ص -182-
ومكرز
بن حفص بن الأخيف حتى جاوزوا خزاعة إلى الحرم. فلما انتهوا إليه قالت
بنو بكر: يا نوفل أنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك. فقال: كلمة عظيمة لا
إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا
تصيبون ثأركم فيه وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلا يقال له:
منبه فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بدليل بن ورقاء الخزاعي ودار
مولى لهم يقال له: رافع ولما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا ما
كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق خرج
عمرو بن سالم الخزاعي، قال ابن سعد في أربعين راكبا حتى قدم على رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان ذلك ما هاج فتح مكة فوقف عليه
وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس فقال:
يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجرى مذبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك الموكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
يقول: قتلنا وقد أسلمنا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم ثم عرض رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال:
"إن هذه
السحابة لتستهل بنصر بني كعب" ثم خرج
بديل بن ورقاء في نفر من بني خزاعة حتى قدموا على رسول
ج / 2 ص -183-
الله
صلى الله عليه وسلم فأخبروه وبما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر
عليهم. قلت: لعل الأربعين راكبا الذين ذكر ابن سعد قومهم من خزاعة مع
عمرو بن سالم هم هؤلاء. رجع إلى خبر ابن إسحاق: ثم رجعوا إلى مكة وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم
ليشد العقد ويزيد في المدة. ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه حتى لقوا أبا
سفيان بن حرب بعسفان وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا الذي صنعوا فلما لقي أبو سفيان
بديل بن ورقاء قال من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى النبي صلى
الله عليه وسلم قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بعض هذا الوادي
قال: أوما جئت محمدا قال: لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن
كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها
ففته فرأى فيه النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا ثم خرج أبو
سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على
فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال: يا بنية ما أدري
أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت: بل هو فراش رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس قال: والله لقد أصابك بعدي شر ثم خرج حتى
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا ثم ذهب إلى
أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا
بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال أنا أشفع لكم إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فوالله لو لم أجد إلا الذم لجاهدتكم به. ثم جاء
فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديها فقال:
يا علي إنك أمس القوم بي رحما وإني قد جئت في حاجة فلا أرجع كما جئت
خائبا أشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ويحك يا أبا
سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع
أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك
هذا فيجير بين الناس فيكون
ج / 2 ص -184-
سيد
العرب إلى آخر الدهر قالت: والله ما يبلغ بنبى ذاك أن يجير بين الناس
وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا الحسن إني
أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني قال: والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك
ولكنك سيد بني كنانة فقم وأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال: أوترى ذلك
مغنيا عني شيئا قال: لا والله ما أظنه ولكني لا أجد لك غير ذلك فقام
أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ثم ركب
بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا: منا وراءك قال: جئت محمدا
فكلمته فوالله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا
ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدو. كذا قال ابن إسحاق: قال ابن
هشام: أعدى العدو. ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم وقد أشار علي بشيء
صنعته فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا قالوا: وبم أمرك؟ قال:
أمرني أن أجير بين الناس ففعلت قالوا: فهل أجاز ذلك محمد قال: لا قالوا
ويلك والله إن زاد الرجل على أن لعب بك قال: لا والله ما وجدت غير ذلك
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه
فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: أي بنية أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه
قالت: نعم فتجهز قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري ثم إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم
بالجد والتجهز وقال:
"اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها" فتجهز الناس فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بذلك ثم
أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في قرون رأسها ثم
خرجت به وأتى رسول الله صلى الله عليه سلم الخبر من السماء بما صنع
حاطب فبعث عليا والزبير. وغير ابن إسحاق يقول: بعث عليا والمقداد فقال:
"أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له
في أمرهم"
فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها
ج / 2 ص -185-
والتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي إني أحلف بالله ما كذب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك
فلما رأت الجد منه قالت: أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب
فدفعته إليه فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا حاطبا فقال له:
"ما حملك
على هذا"، فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني ليس
لي في القوم أصل ولا عشيرة ولي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وما يدريك يا
عمر لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم". ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره فاستخلف على المدينة
أبارهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وقال ابن سعد: عبد الله بن أم مكتوم
فخرج لعشر مضين من شهر رمضان فصام وصام الناس معه حتى إذا كانوا
بالكديد أفطر ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف. وعميت الأخبار
عن قريش فهم على وجل وارتقاب فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام
وبديل بن ورقاء يتحبسون الأخبار. وكان العباس بن عبد المطلب قد خرج قبل
ذلك بعياله مسلما مهاجرا فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل
بالجحفة وقيل: بذي الحليفة وكان فيمن خرج ولقي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ببعض الطريق أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن
المغيرة بالأبواء وقيل: بين السقيا والعرج فأعرض عنهما فقالت له أم
سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أخي أشقى الناس بك وقال علي لأبي سفيان
فيما حكاه أبو عمر ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل
له ما قال إخوة يوسف عليه السلام ليوسف:
{تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا
لَخَاطِئِينَ}
فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه. ففعل ذلك أبو سفيان قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ
ج / 2 ص -186-
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}،
وقبل منهما إسلامهما فأنشده أبو سفيان معتذرا أبياتا منها:
لعمرك إني يوم أحمل راية
لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
هداني هاد غير نفسي ودلني
على الله من طردته كل مطرد
فضرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم صدره وقال:
"أنت طردتني كل
مطرد". وكان أبو سفيان بعد ذلك ممن حسن إسلامه فيقال: إنه ما رفع رأسه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حيا، منه، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحبه ويشهد له بالجنة ويقول:
"أرجو أن يكون خلفا من حمزة"،
ويروى أنه لما حضرته الوفاة قال: لا تبكوا علي فلم أنتطف1 بخطيئة منذ
أسلمت. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران2 وقال ابن
سعد نزله عشاء فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار وجعل على الحرس عمر
بن الخطاب رقت نفس العباس لأهل مكة قال فجلست على بغلة رسول الله صلى
الله عليه وسلم البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت لعلي أجد بعض
الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة فوالله إني
لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو
سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا قال: يقول بديل: هذه
والله خزاعة حمشتها3 الحرب فيقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لم أتلطخ.
2 هو واد بين مكة وعسفان.
3 أي: حرضتها.
ج / 2 ص -187-
من أن
تكون هذه نيرانها وعسكرها قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة فعرف
صوتي فقال أبو الفضل: قلت: نعم قال مالك: فداك أبي وأمي قال: قلت:
والله هذا رسول الله في الناس وأصباح قريش والله قال: فما الحيلة فداك
أبي وأمي قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه
البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك فركب خلفي
ورجع صاحباه قال فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من
هذا وإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب
قال من هذا وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان
عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو
رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة فسقت فاقتحمت عن البغلة
فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر فقال: يا رسول
الله هذا أبو سفيان فدعني فلأضرب عنقه قال: فقلت: يا رسول الله إني قد
أجرته ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت:
والله لا يناجيه الليلة رجل دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا
عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا قال: مهلا يا
عباس فوالله لأسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم
وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم من إسلام الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اذهب به يا
عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به"،
فذهبت به فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ويحك يا
أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله"، قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك لقد ظننت أن لو كان مع
الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد قال:
"ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك
ج / 2 ص -188-
أن تعلم
أني رسول الله"، قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما والله هذه فإن في
النفس حتى الآن منها شيئا فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك قال: فشهد شهادة الحق
فأسلم، قال العباس: قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر
فاجعل له شيئا قال:
"نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن، ومن
دخل المسجد فهو آمن"
ثم أمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل1 حتى تمر
به جنود الله فيراها ففعل فمرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال
يا عباس: من هذه؟ فأقول: سليم قال: يقول: ما لي ولسليم. ثم تمر به
القبيلة فيقول: يا عباس ما هؤلاء؟ فأقول: مزينة فيقول: ما لي ولمزينة؟
حتى نفدت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها فإذا أخبرته بهم قال:
ما لي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته
الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد
قال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة.
وفى صحيح البخاري إن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة ومعه الراية
قال: ولم ير مثلها ثم جاءت كتيبة هي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير. كذا
وقع عند جميع الرواة ورواه الحميدي في كتابه هي أجل الكتائب وهو
الأظهر.
رجع إلى الأول: فقال أبو سفيان: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن
أخيك اليوم عظيما قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة قال: فنعم إذن.
قال: قلت: النجاء إلى قومك حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش
هذا محمد قد جاءكم فيما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مضيقه، وروي بالمهملة.
ج / 2 ص -189-
لا
قبل1 لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقامت إليه هند بنت عتبة
فأخذت بشاربه فقال: اقتلوا الحميت2 الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم قال:
ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به من دخل
دار أبي سفيان فهو آمن قال: قاتلك الله وما تغني عنا دارك قال: ومن
أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فنفرق الناس إلى دورهم
وإلى المسجد. وذكر الطبري أي النبي صلى الله عليه وسلم وجه حكيم بن
حزام مع أبي سفيان بعد إسلامهما إلى مكة وقال:
"من دخل دار حكيم فهو آمن -وهي بأسفل
مكة-
ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن
-وهي بأعلى مكة-"، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة
ولهذا قال جماعة من أهل العلم منهم الإمام الشافعي رحمه الله إن مكة
مؤمنة وليست عنوة والأمان كالصلح. ورأى أن أهلها كانوا مالكون رباعهم
فلذلك كان يجيز كراءها لأربابها وبيعها وشراءها لأن من أمن فقد حرم
ماله ودمه وذريته وعياله فمكة مؤمنة عند من قال بهذا القول إلا الذين
استثناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين
بأستار الكعبة، وأكثر أهل العلم يرون أن فتح مكة عنوة لأنها إنما أخذت
بالخيل والركاب. والخلاف بين العلماء في جواز أخذ أجر المساكن بمكة أو
المنع منه مشهور معروف، وقد جاء في حديث عن عائشة من طريق إبراهيم بن
مهاجر في مكة أنها مناخ من سبق. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح
الصوري بمرج دمشق قال: أنا أسعد بن سعيد بن روح وعائشة بنت معمر بن
الفاخر إجازة من أصبهان قالا: أخبرتنا أم إبراهيم فاطمة الجوزدانية
سماعا قالت: أنا أبو بكر بن ربذة الضبي قال: أنا أبو القاسم الطبراني
ثنا يوسف بن الحسن بن عبد الرحمن العباداني ثنا نصر بن علي الجهضمي ثنا
وهب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا طاقة.
2 سيأتي تفسيره.
ج / 2 ص -190-
ابن
جرير بن حازم ثنا أبي عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد
بن عمرو بن حزم الأنصاري عن علي بن عبد الله بن العباس عن ابن عباس
قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة
ثلثمائة وستون صنما قد شد لهم إبليس أقدامها برصاص فجاء ومعه قضيب فجعل
يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول:
"جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" حتى مر عليها كلها. ولا خلاف أنه لم يجر فيها قسم ولا غنيمة، ولا
سبي من أهلها أحد لما عظم الله من حرمتها ألا ترى إلى قوله صلى الله
عليه وسلم:
"مكة حرام محرم لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة
من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة". قال أبو عمر: والأصح والله أعلم أنها بلدة مؤمنة أمن أهلها على
أنفسهم وكانت أموالهم تبعا لهم. وقال الأموي: كانت راية رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم الفتح بيد سعد بن عبادة فلما مر بها على أبي سفيان
وكان قد أسلم أبو سفيان فقال سعد إذ نظر إليه اليوم يوم الملحمة اليوم
تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا. فأقبل رسول الله صلى الله عليه
وسلم في كتيبة الأنصار حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله،
أمرت بقتل قومك؛ فإنه زعم سعد ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا أنشدك
الله في قومك؛ فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم. وقال عثمان وعبد الرحمن
بن عوف: يا رسول الله، والله لا نأمن سعدا أن تكون منه في قريش صولة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله فيه قريشا". وقال ضرار بن الخطاب الفهري يومئذ:
يا نبي الهدى إليك لجا
حي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهمُ سعة الأر
ض وعاداهم إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القو
م ونودوا بالصيلم الصلعاء1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تفسير الغريب من كلام المؤلف.
ج / 2 ص -191-
إن سعدا يريد قاصمة الظهـ
ـر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغيـ
ـظ رمانا بالنسر والعواء
وغر الصدر لا يهم بشيء
غير سفك الدما وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت
عنه هند بالسوءة السواء
إذ ينادي بذل حي قريش
وابن حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى
يا حماة اللواء أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخز
رج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش
فقعة القاع في أكف الإماء
فانهينه فإنه أسد الأسـ
ـد لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يدير لنا الأمـ
ـر سكوتا كالحية الصماء
فأرسل رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة فنزع اللواء من يده وجعله بيد قيس
ابنه ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه إذ صار
إلى ابنه قيس. قال أبو عمر وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى
الراية للزبير إذ نزعها من سعد.
رجع إلى الخبر عن ابن إسحاق: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد
بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس فكان خالد على المجنبة
اليمني. وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب
وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وروينا في صحيح مسلم أن أبا عبيدة كان على
البياذقة يعني الرجالة. قال ابن إسحاق ودخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة وضربت له هناك قبة. وكان صفوان بن
أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو
ج / 2 ص -192-
قد
جمعوا أناسا بالخندمة ليقاتلوا. وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني
بكر يعد سلاحا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلح منه فقالت
له امرأته لماذا تعد ما أرى قال لمحمد وأصحابه قالت: والله ما أراه
يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فمالي عله
هذا سلاح كامل واله
وذو غرارين سريع السله
ثم شهد الخندمة مع صفوان
وسهيل وعكرمة فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد وناوشوهم
شيئا من القتال فقتل كرز بن جابر الفهري وحبيش بن خالد بن ربيعة بن
أصرم الخزاعي وكانا في خيل خالد بن الوليد فشدا عنه فسلكا طريقا غير
طريقه فقتلا جميعا. وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء وأصيب من المشركين
قريب من اثني عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلا ثم انهزموا. وقال ابن سعد:
قتل أربعة وعشرون رجلا من قريش وأربعة من هذيل، قال: فخرج حماس منهزما
حتى دخل بينه ثم قال لامرأته أغلقي علي بأبي قالت: وأين ما كنت تقول؟
فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمهْ
إذ فر صفوان وفر عكرمهْ
واستقبلتنا بالسيوف المصلمهْ
يقطعن كل ساعد وجمجمهْ
ضربا فلا تسمع إلا غمغمهْ
لهم نهيت حولنا وهمهمهْ
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمهْ
أخبرنا أبو الفضل
الموصلي بقراءة والدي رحمهما الله عليه قال: أنا الشيخ أبو
ج / 2 ص -193-
علي
حنبل بن عبد الله بن الفرج بن سعادة الرصافي المكبر سماعا عليه بسفح
قاسيون سنة اثنتين وستمائة قال أنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد
الواحد بن الحصين الشيباني قال: أنا أبو علي الحسن بن علي بن المذهب
قال: أنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي قال: أنا عبد
الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي حدثنا بهز وهاشم ثنا سليمان بن
المغيرة عن ثابت قال هاشم: حدثني ثابت ثنا عبد الله بن رباح قال: وفدت
وفود إلى معاوية أنا فيهم وأبو هريرة فذكر حديثا. وفيه قال: فقال أبو
هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معاشر الأنصار قال: فذكر فتح مكة
قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة قال: فبعث الزبير على
إحدى المجنبتين وبعث خالدا على المجنبة1 الأخرى وبعث أبا عبيدة بن
الجراح على الحسر2 فأخذوا بطن الوادي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في
كتيبة قال:
"قد وبشت3
قريش
أوباشها" قال: فقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أصيبوا
أعطينا سئلنا. وفيه فقال:
"يا أبا هريرة"
قلت: لبيك
يا رسول الله قال: فقال: "اهتف لي يا
للأنصار ولا يأتني إلا أنصاري"
فهتف بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ترون إلى
أوباش قريش وأتباعهم" ثم قال:
"بيديه إحداهما على الأخرى احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا" قال: فقال
أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء وما أحذ
يوجه إلينا منهم شيئا قال: فقال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء
قريش لا قريش بعد اليوم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من أغلق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الكتيبة.
2 جمع حاسر وهو الذي لا زرع عليه.
3 أي: جمعت جموعا من قبائل شتى.
ج / 2 ص -194-
بابه
فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، قال: فغلق الناس أبوابهم،
قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه ثم طاف
بالبيت قال: وفي يده قوس آخدا بسية القوس1 فأتى في طوافه على صنم إلى
جنب البيت يعبدونه قال: فجعل يطعن بها في عينه ويقول:
"جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدئ الباطل
وما يعيد"،
قال: ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت فرفع يديه فجعل يذكر الله
بما شاء أن يذكره ويدعوه قال والأنصار تحته قال: يقول بعضهم لبعض: أما
الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قال: وجاء الوحي وكان إذا
جاء الوحي لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى يقضي. قال هاشم: فلما قضى الوحي رفع رأسه ثم قال:
"يا معشر
الأنصار قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته"، قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله قال:
"فما اسمي إذن إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم فالمحيا
محياكم والممات مماتكم"،
قال: فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن
بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم".
رواه أبو داود عن الإمام أحمد بن حنبل وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا
إلا من قاتلهم إلا أنه قد عهد في نفر سماهم بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار
الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وعبد العزي بن خطل
وعكرمة بن أبي جهل والحويرث بن نقيد بن وهب بن عبد بن قصي ومقيس بن
صبابة وهبار بن الأسود وقينتا ابن خطل كانتا تغنيان ابن خطل يهجو رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبني عبد المطلب: فأما ابن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سية القوس: ما عطف من طرفيها.
ج / 2 ص -195-
أبي
سرح فكان ممن أسلم قبل ذلك وهاجر وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم ارتد مشركا وصار إلى قريش فلما كان يوم الفتح فر إلى
عثمان وكان أخاه من الرضاعة أرضعت أمه عثمان فغيبه حتى أتى به رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن الناس فاستأمنه له فصمت رسول
الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال:
"نعم"،
فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله:
"ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه"، فقال رجل من الأنصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله فقال:
"إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة أعين". قلت: وكان بعد ذلك ممن حسن إسلامه ولم يظهر منه شيء ينكر عليه وهو
آخر النجباء العقلاء الكرماء من قريش وكان فارس بني عامر بن لؤي المقدم
فيهم وولاه عمر بن الخطاب ثم عثمان رضي الله عنهم. وأما ابن خطل فإنما
أمر بقتله فإنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا
وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى لهم يخدمه وكان مسلما فنزل
منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا فيصنع له طعاما فنام فاستيقظ ابن
خطل ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا. وكانت له قينتان
فرتنا وقريبة وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر
بقتلهما معه فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي. وروينا عن
ابن جميع حدثنا محمد بن أحمد الخولاني بمكة ثنا أحمد بن رشدين قال:
حدثني أبي عن أبيه عن ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما
نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال:
"اقتلوه". قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما.
وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن فاتبعته امرأته أم حكيم بنت
الحارث بن هشام فردته فأسلم وحسن إسلامه وكان يعد من فضلاء الصحابة.
وأما الحويرث بن نقيد فكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
فقتله
ج / 2 ص -196-
علي بن
أبي طالب يوم الفتح. وأما مقيس بن صبابة فكان قد أتى النبي صلى الله
عليه وسلم مسلما قبل ذلك ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله بأخيه هشام
بن صبابة بعد أن أخذ الدية وكان الأنصاري قتل أخاه مسلما خطأ في غزوة
ذي قرد1 وهو يرى أنه من العدو. وقد تقدم ذلك في غزوة ذي قرد وأبيات
مقيس في ذلك ثم لحق بمكة مرتدا فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله
الليثي وهو ابن عمه. قال أبو عمرو من سنته صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا أعفى أحدا قتل بعد أخذ الدية هذا من المسلمين". وأما مقيس فارتد أيضا. وأما هبار بن الأسود فهو الذي عرض لزينب
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفهاء من قريش حين بعث بها أبو
العاص زوجها إلى المدينة فأهوى إليها هبار هذا ونخس بها فسقطت على صخرة
فألقت ذا بطنها واهراقت الدماء فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت سنة
ثمان فقال عليه السلام:
"إن وجدتم هبارا فأحرقوه بالنار" ثم قال:
"اقتلوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار".
فلم يوجد ثم أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه وصحب النبي صلى الله عليه
وسلم. وذكر الزبير أنه لما أسلم وقدم مهاجرا جعلوا يسبونه فذكر ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"سب من سبك" فانتهوا عنه". وأما قينتا بن خطل فرتنا وقريبة فقتلت إحداهما
واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأخرى فأمنها فعاشت مدة ثم ماتت
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما سارة فاستؤمن لها أيضا فأمنها
عليه السلام فعاشت إلى أن أوطأها رجل فرسا بالأبطح في زمن عمر فماتت.
واستجار بأم هانئ بنت أبي طالب رجلان قيل هما الحارث بن هشام وزهير بن
أبي أمية وقيل: أحدهما جعدة بن هبيرة فأجارتهما فأراد علي قتلهما فدخلت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الضحى فذكرت ذلك له فأمضى
جوارها وقال:
"قد أجرنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما قتله في غزوة بني المصطلق، وتابع المؤلف هنا ابن عبد البر في
الاستيعاب.
ج / 2 ص -197-
من أجرت
وآمنا من أمنت". وأسلمت أم هانئ يوم الفتح وهي شقيقة علي بن أبي طالب وعقيل وجعفر
وطالب أمهم فاطمة بنت أسد قيل: اسمها فاختة وقيل: هند. ومن حجة من قال:
إن اسمها هند قول زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي حين فر يوم الفتح
ولم يسلم ولحق بنجران ومات على شركه في أبيات أولها:
أشاقتك هند أم جفاك سؤالها
كذاك النوى أسبابها وانفتالها
وقد أرفت في رأس حصن ممرد
بنجر أن يسري بعد نوم خيالها
وعاذلة هبت علي تلومني
وتعذلني بالليل ضل ضلالها
لئن كنت قد تابعت دين محمد
وعطفت الأرحام منك حبالها
فكوني على أعلى سحيق بهضبة
ممنعة لا يستطاع قلالها
فإني من قوم إذا جد جدهم
على أي حال أصبح اليوم حالها
وإني لأحمي من وراء عشيرتي
إذا كثرت تحت العوالي مجالها
وطارت بأيدي القوم بيض كأنها
مخاريق ولدان يطيش ظلالها
وإن كلام المرء في غير كنهه
لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
ج / 2 ص -199-
بقية الخبر عن فتح مكة:1
لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء
البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمححن2 في يده فلما قضى
طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد
بها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ثم وقف على باب الكعبة فقال:
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق الله وعده ونصر عبده وهزم
الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا
سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتيل الخطأ شبيه العمد السوط والعصى
ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها يا معشر
قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم
وآدم من تراب"،
ثم تلا هذه الآية:
{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم" قالوا: خيرا
أخ كريم وابن أخ كريم ثم قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ثم جلس في المسجد
فقام إليه علي ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا
الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال: رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"أين عثمان بن طلحة؟" فدعي له فقال:
"هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء".
وروينا عن عثمان بن طلحة من طريق ابن سعد قال: كنا نفتح الكعبة في
الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في حاشية الأصل "بلغ مقابلة لله الحمد".
2 أي: بعصا معقفة الرأس.
ج / 2 ص -200-
يعني
النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فغلظت
عليه ونلت منه وحلم عني ثم قال يا عثمان:
"لعلك سترى هذا
المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت"،
فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال:
"بل عمرت وعزت يومئذ" ودخل
الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال.
وفيه أنه عليه السلام قال له يوم الفتح:
"يا عثمان أن
ائتني بالمفتاح" فأتيته به
فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال:
"خذوها تالدة
خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته
فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف". قال
عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال:
"ألم يكن الذي قلت لك؟" قال:
فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة:
"لعلك سترى هذا
المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت"،
فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله. وروينا عن سعيد بن المسيب أن العباس
تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم فدفعه رسول الله صلى
الله عليه وسلم لعثمان ودخل النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ الكعبة
ومعه بلال فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن
هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع
هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق
لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه
الحصباء فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "لقد علمت الذي
قلتم"، ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله والله ما
اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك. وروينا عن ابن إسحاق من طريق
زياد البكائي قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي
قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير جئته
فقلت له: يا هذا إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح
مكة فلما كان الغد من يوم الفتح عدت
ج / 2 ص -201-
خزاعة
على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فينا خطيبا فقال:
"يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من
حرام إلى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك
فيها دما ولا يعضد بها شجرا"؛
الحديث. وفيه فقال عمرو لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ فنحن أعلم بحرمتها
منك إنها لا تمنع سافك دم ولا خالع طاعة ولا مانع جزية"؛ الحديث. قلت:
الذي وقع في الصحيح أن هذا الخبر لعمرو بن سعيد بن العاص مع أبي شريح
لا لعمرو بن الزبير وهو الصواب. والوهم فيه عن من دون ابن إسحاق. وقد
رواه يونس بن بكير عنه على الصواب.
وحين افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على الصفا يدعو وقد
أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها فلما فرغ من دعائه قال:
"ماذا قلتم؟"
قالوا: لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال النبي صلى
الله عليه وسلم:
"معاذ الله
المحيا محياكم والممات مماتكم". ذكره
ابن هشام وذكر أن فضالة بن عمير بن الملوح أراد قتل النبي صلى الله
عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"أفضالة؟"
قال: نعم فضالة يا رسول الله قال:
"ماذا كنت تحدث به نفسك؟" قال:
لا شيء كنت أذكر الله فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:
"استغفر الله"،
ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن
صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه. قال فضالة فرجعت إلى أهلي
فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هم إلى الحديث فقلت: لا وانبعث
فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا
يأبى عليك الله والإسلام
ج / 2 ص -202-
لو ما رأيت محمدا وقبيله
بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا
والشرك يغشى وجهه الإظلام
وفر يومئذ صفوان بن أمية
فاستأمن له عمير ين وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه
وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر
فرده، فقال: يا رسول الله اجعلني بالخيار شهرين فقال:
"أنت بالخيار
أربعة أشهر". وكانت أم
حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت واستأمنت له رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأمنه فلحقته باليمن فردته وأقرهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو وصفوان على نكاحهما الأول. قال ابن سعد: ثم بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم
وحانت الظهر فأذن بلال فوق ظهر الكعبة وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا تغز قريش
بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة"،
يعني على الكفر ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحزورة1 فقال: "إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". وبث رسول
الله صلى الله عليه وسلم السرايا إلى الأصنام التي حول مكة فكسرها منها
العزى ومناة وسواع وبوانة وذو الكفين. ونادى مناديه بمكة من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره. ومما قيل من الشعر
يوم الفتح قول حسان بن ثابت:
عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء2
ديار من بني الحسحاس قفر
تعفيها الروامس والسماء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح الحاء وسكون الزاي وفتح الواو والراء. قال الدارقطني: هكذا
صوابه والمحدثون يفتحون الزاي ويشددون الواو وهو تصحيف.
2 سيأتي تفسير الغريب من كلام المؤلف.
ج / 2 ص -203-
وكانت لا يزال بها أنيس
خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف
يؤرقني إذا هب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته
فليس لقلبه منها شفاء
كأن سبيئة من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوما
فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا
إذا "ما"1 كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا
وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصغيات
على أكتافها الأسل الظلماء
تظل جيادنا متمطرات
يلطمهن بالخمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
يعين الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد أرسلت عبدا
يقول الحق إن نفع البلاء
شهدت به فقوموا صدقوه
فقالوا لا نقوم ولا نشاء
وقال الله قد يسرت جندا
هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد
سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا
ونضرب حين تختلط الدماء
ألا أبلغ أبا سفيان عني
مغلغلة فقد برح الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبدا
وعبد الدار سادتها الإماء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "ما" غير موجودة في الأصل.
ج / 2 ص -204-
هجوت محمدا فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركا برا حنيفا
أمين الله شيمته الوفاء
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه
وبحرى لا تكدره الدلاء
وقال أنس بن زنيم: يعتذر
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قال فيهم عمرو بن سالم من أبيات:
وما حملت من ناقة فوق رحلها
أبرَّ وأوفى ذمة من محمد
أحث على خير وأسبغ نائلا
إذا راح كالسيف الصقيل المهند
وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله
وأعطى لرأس السابق المتجرد
تعلم رسول الله أنك مدركي
وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادر
على كل صرم متهمين ومنجد
تعلم بأن الركب ركب عويمر
هم الكاذبون المخلفو كل موعد
ونبوا رسول الله أني هجوته
فلا حملت سوطي إلي إذا يدي
ج / 2 ص -205-
ذكر فوائد تتعلق بخبر الفتح سوى ما تقدم:
الوتير ماء
لخزاعة، وهي في كلام العرب الورد الأبيض. والعنان السحاب وقوله قد كنتم
ولدا وكنا والدا يريد أن بني عبد مناف أمهم من خزاعة وكذلك قصي أمه
فاطمة بنت سعد الخزاعية. والولد الولد. وقوله: "ثمت أسلمنا" من السلم
لأنهم لم يكونوا آمنوا بعد. وفيه "هم قتلونا ركعا وسجدا" يدل على أن
فيهم من كان أسلم وصلى. قال السهيلي: وحاطب بن أبي بلتعة مولى عبيد
الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى واسم أبي بلتعة عمرو من ولده
زياد بن عبد الرحمن شبطون1. روى الموطأ عن مالك أندلسي ولي قضاء
طليطلة. قال السهيلي: وقد قيل: إنه كان في الكتاب الذي كتبه حاطب بن
أبي بلتعة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل
يسير كالسيل وأقسم بالله لو صار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز
له ما وعده. قيل: وفي الخبر دليل على قتل الجاسوس لتعليقه عليه السلام
المنع من قتله بشهوده بدرا. وحمشتهم الحرب يقال: حمشت الرجل إذا أغضبته
ويقال: حمست النار إذا أوقدتها ويقال: حمست بالسين. وأبو سفيان بن
الحارث كان رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضعتهما حليمة وكان آلف
الناس له قبل النبوة ثم كان أبعدهم عنه بعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زياد بن عبد الرحمن اللحمي شبطون -بفتح الشين والباء الموحدة وضم
الطاء- صاحب مالك وعليه تفقه يحيى بن يحيى قبل أن يرحل إلى مالك. وكان
زياد ناسكا ورعا أريد على القضاء فهرب. توفي سنة 173. كما في شذرات
الذهب.
ج / 2 ص -206-
أشار
إليه حسان بقوله:
ألا أبلغ أبا سفيان عني
مغلغلة فقد برح الخفاء
فإنه هو الذي كان يهجو
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه. والحميت الزق. والأحمس
الشديد والأحمس الذي لا خير عنده. ودخل عليه السلام مكة من ثنية كداء
-بفتح الكاف والمد- من أعلاها حيث وقف إبراهيم عليه السلام فدعا
لذريته:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} فاستجيب له تبركا بذلك. والصيلم الصلعاء الداهية. وخنيس بن خالد
كذا هو عند ابن إسحاق وقد قيد بالحاء المهملة المضمومة والباء الموحدة
مفتوحة والشين المعجمة. والنهيت صوت الصدر وأكثر ما يوصف به الأسد.
وابن خطل اسمه عبد الله وقيل: هلال وقيل: بل هلال أخوه وكان يقال لهما:
الخطلان من بني تيم بن غالب. وصلاته عليه السلام في بيت أم هانئ قال
السهيلي: هي صلاة الفتح تعرف بذلك وكان الأمراء إذا افتتحوا بلدا
يصلونها، وحكى عن الطبري قال: صلاها سعد بن أبي وقاص حين افتتح الدائن
ودخل إيوان كسرى ثمان ركعات لا يفصل بينها ولا تصلى بإمام ولا يجهر
فيها بالقراءة. وذات الأصابع والجواء منزلان بالشام. وعذراء قرية بقرب
دمشق معروفة. وبنو الحسحاس من بني أسد. والروامس الرياح. والسماء يعني
المطر. وشعثاء بنت سلام بن مشكم اليهودي. وخبر كان سبيئة محذوف تقديره
كان في فيها سبيئة نحو قوله: إن محلا وإن مرتحلا أي إن لنا محلا.
وألمنا أتينا بما يلام فاعله أي نصرف اللوم إلى الخمر ونعتذر بالسكر.
والمغث الضرب باليد واللحاء الملاحاة باللسان وشركما لخيركما الفداء
أنصف بيت قالته العرب وهو من
ج / 2 ص -207-
باب
قوله عليه السلام: "شر صفوف الرجال آخرها ", يريد نقصان حظهم عن حظ الصف الأول. قال سيبويه: ولا يجوز أن يريد
التفضيل في الشر. حكاه أبو القاسم السهيلي. قال ابن إسحاق وبلغني عن
الزهري أنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يلطمن الخيل
بالخمر تبسم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ونحكم بالقوافي أي نرد
من حكمة1 الدابة. وفى شعر أنس بن زنيم:
وأعطى لبرد الخال
الخال من برود اليمن وهو
من رفيع الثياب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحكمة اللجام. أو حديدة فيه.
سرية خالد بن
الوليد:
قال ابن
سعد: ثم سرية خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان
سنة ثمان ليهدمها فخرج في ثلاثين فارسا من أصحابه حتى انتهوا إليها
فهدمها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال:
"هل رأيت شيئا"، قال: لا، قال:
"فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها"،
فرجع خالد وهو متغيظ فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة
الرأس فجعل السادن يصيح بها فضربها خالد فجز لها1 باثنتين ورجع إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:
"نعم تلك
العزى، وقد أيست أن تعبد ببلادكم أبدا"،
وكانت بنخلة وكانت لقريش وجميع بني كنانة وكانت أعظم أصنامهم وكان
سدنتها بنو شيبان من بني سليم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي قطعها، والجزلة: القطعة.
ج / 2 ص -208-
سرية عمرو بن العاص إلى سواع:
في شهر
رمضان سنة ثمان وهو صنم لهذيل؛ ليهدمه، قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده
السادن فقال: ما تريد؟ فقلت: أمرني رسول الله صلى الله على وسلم أن
أهدمه قال: لا تقدر على ذلك قلت: لم قال: تمنع قلت: حتى الآن أنت على
الباطل ويحك وهل يسمع أو يبصر قال فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي
فهدموا بيت خزانته فلم نجد فيه شيئا ثم قلت للسادن: كيف رأيت قال:
أسلمت لله.
ثم سرية سعد بن زيد الأشهل إلى مناة:
في شهر رمضان سنة ثمان وكانت بالمشلل للأوس والخزرج وغسان فخرج في
عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن فقال السادن: ما تريد؟ قال:
هدم مناة قال: أنت وذاك فأقبل سعد يمشي إليها وتخرج إليه امرأة عريانة
سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة دونك
بعض عصاتك ويضربها سعد بن زيد فيقتلها ويقبل إلى الصنم معه أصحابه
فهدموه ولم يجدوا في خزانتها وشيئا وانصرف راجعا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم لست بقين من شهر رمضان.
ج / 2 ص -209-
سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة:
وكانوا
بأسفل مكة على ليلة بناحية يلملم في شوال سنة ثمان وهو يوم الغميصاء،
وهي عند ابن إسحاق قبل سريته لهدم العزى. وسياق ما قال أذكره لابن سعد
قالوا: لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى ورسول الله صلى الله عليه
وسلم مقيم بمكة بعثه إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام ولم يبعثه مقاتلا
فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم فانتهى
إليهم قال: ما أنتم؟، قالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا
المساجد في ساحاتنا وأذنا فيها، قال: فما بال السلاح عليكم، قالوا: إن
بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح قال:
فضعوا السلاح قال: فوضعوه فقال لهم استأسروا فاستأسر القوم فأمر بعضهم
فكتف بعضا وفرقهم في أصحابه فلما كان في السحر نادى خالد من كان معه
أسير فليذافه، والمذافة الإجهاز عليه بالسيف. فأما بنو سليم فقتلوا من
كان في أيديهم. وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم فبلغ النبي صلى
الله عليه وسلم ما صنع خالد فقال:
"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" وبعث علي بن أبي طالب فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم ثم انصرف إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. وعند ابن إسحاق في هذا الخبر أن
خالدا قال لهم: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا فلما وضعوه أمر بهم
عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف، وقد كان بين خالد وعبد الرحمن بن
عوف كلام في ذلك فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في
ج / 2 ص -210-
الإسلام فقال إنما ثأرت بأبيك فقال عبد الرحمن: كذبت قد قتلت قاتل أبي
وإنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر فبلغ ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم فقال:
"مهلا يا خالد دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في
سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته". وكان بنو جذيمة قتلوا الفاكه بن المغيرة وعوف بن عبد عوف قبل ذلك
وقتل عبد الرحمن خالد بن هشام قاتل أبيه منهم. قال ابن إسحاق: وحدثني
يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس عن الزهري عن ابن أبي حدرد الأسلمي
قال: كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال لي فتى من بني جذيمة هو في
سني وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة1 ونسوة مجتمعات غير بعيد منه يا فتى
قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هذه النسوة حتى
أقضي إليهن حاجة ثم تردني بعد فتصنعوا بي ما بدا لكم؟ قال: قلت: والله
ليسير ما طلبت فأخذته برمته فقدته بها حتى وقفته عليهن فقال: اسلمي
حبيش على نفد العيش:
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم
بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم أك أهلا أن ينول عاشق
تكلف إدلاج السرى والودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا
أثيبي بود قبل إحدى الصفائق
أثيبي بود قبل أن يشحط النوى
وينأى الأمير بالحبيب المفارق
أخبرنا أبو عبد الله
محمد بن عبد المؤمن الصوري بقراءتي عليه بظاهر دمشق قلت له: أخبركم
الشيخان أبو الفخر أسعد بن سعيد بن روح وأم حبيبة عائشة بنت معمر بن
الفاخر في كتابهما إليك من أصبهان فأقر به قالا: أخبرتنا أم إبراهيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الراء من الحبل.
ج / 2 ص -211-
فاطمة
بنت عبد الله ا لجوزدانية قالت أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة قال
أنا أبو القاسم الطبراني ثنا أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي ثنا
محمد بن حرب المروزي ثنا على بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد
النحوي1 عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث سرية
فغنموا وفيهم رجل فقال لهم إني لست منهم عشقت امرأة فلحقتها فدعوني
أنظر إليها ثم اصنعوا بي ما بدا لكم فإذا امرأة طويلة أدماء فقال لها
أسلمى حبيش قبل نفاد العيش:
أرأيت لو تبعتكم فلحقتكم
بحلية أو أدركتكم بالخوانق
أما كان حقا أن ينول عاشق
تكلف إدلاج السرى والودائق
قالت" نعم فديتك قال:
فقدموه، فضربوا عنقه، فجاءت المرأة، فوقعت عليه، فشهقت شهقة أو شهقتين
ثم ماتت فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أما كان فيكم رجل رحيم". الغميصاء ماء لبني جذيمة. والنفد والنفاد مصدر نفد الشيء إذا فني.
وحبيش مرخم من حبيشة وحلية والخوانق موضعان. والودائق جمع وديقة وهي
شدة الحر.
ج / 2 ص -213-
غزوة حنين وهي غزوة هوازن:
قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح
الله عليه من مكة جمع مالك بن عوف النصري فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف
كلها واجتمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم
يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء غابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا
كلاب ولم يشهدها منهم أحد له اسم وفى جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس
فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعا محربا1 وفي ثقيف
سيدان لهم، وفى الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك
ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك وأخوه أحمر بن الحارث. وجماع أمر
الناس إلى مالك بن عوف النصري فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. فلما نزل بأوطاس
اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة، فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟
قالوا: بأوطاس قال: نعم محل الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس ما لي أسمع
رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك
بن عوف النصري مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال: أين مالك قيل:
هذا مالك ودعى له فقال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم
كائن له ما بعده من الأيام ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء
الصغير ويعار الشاء قال: سقت مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بكسر الميم أي كثير الحروب.
ج / 2 ص -214-
الناس
أبناءهم ونساءهم وأموالهم قال: ولم قال أردت أن أجعل خلف كان رجل أهله
وماله ليقاتل عنهم قال: فانقض به ثم قال راعي ضأن والله وهل يرع
المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت
عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها
منهم أحد قال: غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنه كعب
وكلاب ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت كعب وكلاب فمن شهدها منكم؟ قالوا:
عمرو بن عامر وعوف بن عامر قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا
يضران يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل
شيئا ارفعهم إلى ممتنع1 بلادهم وعليا قومهم ثم ألق الصبا على متون
الخيل وإن كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت عليك ألقاك ذلك وقد أحرزت
أهلك قال: والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك. والله لتطيعنني يا
معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظاهري، وكره أن يكون
لدريد فيها ذكر أو رأى قالوا: أطعناك فقال دريد ابن الصمة: هذا لم
اليوم نشهده ولم يفتني:
ياليتني فيها جذع
أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع
كأنها شاة صدع
ثم قال: مالك للناس إذا
رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد، وبعث عيونا من
رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم قال: ويلكم ما شأنكم قالوا: رأينا رجالا
بيضا على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى فوالله مارده ذلك
عن وجهه أن مضى على ما يريد. ولما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم
بعث إليهم عبد الله بن حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم
حتى يعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في سيرة ابن هشام "متمنع".
ج / 2 ص -215-
علمهم
ثم يأتيه بخبرهم فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد
أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع من مالك وأمر
هوازن ما هم عليه ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره
الخبر فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ذكر له
أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال:
"يا أبا أمية أعرنا سلاحك
هذا نلق فيه عدونا غدا"، فقال
صفوان: أغصبا يا محمد؟ قال:
"بل عارية وهي
مضمونة حتى نؤديها إليك"، قال:
ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح فزعموا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل ثم خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم معه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين
خرجوا معه ففتح الله بهم مكة فكانوا اثني عشر ألفا. واستعمل عتاب بن
أسيد على مكة أميرا ثم مضى يريد لقاء هوازن. قال ابن إسحاق وحدثني عاصم
بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال:
لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما
ننحدر فيه انحدارا قال: وفي عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى
الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا
فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد
والشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذات اليمين ثم قال:
"يا أيها الناس هلم إلي أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا محمد بن
عبد الله"،
قال: فلا شيء حملت الإبل بعضها على بعض فانطلق الناس إلا أنه قد بقي مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين وأهل بيته وفيمن لبث
معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس
وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة
بن زيد وأيمن بن أم أيمن وقتل يومئذ، قال: ورجل من هوازن على جمل له
أحمر بيده راية
ج / 2 ص -216-
فاته
الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه فبينما هو كذلك إذ أهوى إليه علي بن
أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه قال: فيأتي على من خلفه فيضرب عرقوبي
الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف
ساقه فانجعف1 عن رحله قال واجتلد الناس فوالله ما رجعت راجعة الناس من
هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فلما انهزم الناس يعني المسلمين ورأى من كان مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما
في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون
البحر وإن الأزلام لمعه في كنانته وصرخ جبلة بن الحنبل وصوبه ابن هشام
كلدة ألا بطل السحر اليوم فقال له صفوان أخوه لأمه وكان بعد مشركا:
اسكت فض الله فاك فوالله لئن يربني2 رجل من قريش أحب إلي من أن يربني
رجل من هوازن.
وروينا عن ابن سعد قال: أنا محمد بن عمر ثنا عمر بن عثمان المخزومي عن
عبد الملك بن عبيد قال محمد بن عمرو: حدثنا خالد بن إلياس عن منصور بن
عبد الرحمن الحجبي عن أبيه عن أمه3 وغيرها قالوا: كان شيبة بن عثمان
رجلا صالحا له فضل وكان يحدث عن إسلامه وما أراد الله به من الخير
ويقول: ما رأيت أعجب مما كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من
الضلالات. ثم يقول: لما كان عام الفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم مكة عنوة قلت: أسير مع قريش إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وقع.
2 أي: يسوسني.
3 لعل صوابه عن منصور بن عبد الرحمن عن أمه.
ج / 2 ص -217-
هوازن
بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فاثأر منه فأكون أنا الذي
قمت بثأر قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع
محمدا ما تبعته أبدا وكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي
إلا قوة فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته
وأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي حتى كدت أسوره فرفع لي
شواظ من نار كالبرق كاد يمحشني1 فوضعت يدي على بصري خوفا عليه والتفت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداني:
"يا شيب ادن" فدنوت فمسح
صدري ثم قال:
"اللهم أعذه من الشيطان" قال: فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي وأذهب
الله ما كان في ثم قال:
"ادن فقاتل"، فتقدمت
أمامه اضرب بسيفي الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو لقيت تلك
الساعة أبي لو كان حيا لأوقعت به السيف فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى
تراجع المسلمون وكروا كرة رجل واحد وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاستوى عليها فخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه ورجع إلى معسكره
فدخل خباءه فدخلت عليه ما دخل عليه غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به
فقال:
"يا شيب الذي
أراد الله بك خير مما أردت بنفسك"،
ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مما لم أكن أذكره لأحد قط قال: فقلت:
فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم قلت: استغفر لي فقال:
"غفر الله لك".
قال ابن إسحاق وحدثني الزهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد
المطلب قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته وقد
شجرتها2 بها قال: وكنت امرأ جسيما شديد الصوت قال ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس:
"إلى أين أيها
الناس"، قال: فلم أر الناس يلوون على شيء فقال: "يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا معشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي يحرقني.
2 أي: ضربتها بلجامها أكفها.
ج / 2 ص -218-
الأنصار
السمرة"، فأجابوا: لبيك لبيك قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على
ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره
ويخلي سبيله ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا فكانت الدعوى
أول ما كانت: ياللأنصار ثم خلصت أخيرا: ياللخزرج؛ وكانوا صُبرا عند
الحرب، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مجتلد
القوم وهم يجتلدون فقال:
"الآن حمي الوطيس". وزاد غيره:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
وفى صحيح مسلم: ثم أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بها وجوه الكفار ثم قال:
"انهزموا ورب محمد"، ثم قال: فما هو إلا أن رماهم فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم
مدبرا. ومن رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم
قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل بها وجوههم فقال:
"شاهت الوجوه"، فما خلق
الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين.
قال ابن إسحاق: وحدثني إسحاق بن يسار أنه حدث عن جبير بن مطعم قال: لقد
رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد1 الأسود أقبل من
السماء حتى سقط بيننا وبين القوم فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ
الوادي لم أشك أنها الملائكة ولم يكن إلا هزيمة القوم. قال ابن إسحاق:
ولما انهزمت هوازن استحر2 القتل من ثقيف في بني مالك فقتل منهم سبعون
رجلا. ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم
بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة، وبعث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البجاد: كساء غليظ.
2 أي: اشتد.
ج / 2 ص -219-
رسول
الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عمر الأشعري
فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه القتال فرمى بسهم فقتل فأخذ
الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن عمه فقاتلهم ففتح الله عليه وهزمهم
الله فيزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر فقتله. وقال ابن
سعد قتل أبو عامر منهم تسعة مبارزة ثم برز العاشر معلما بعمامة صفراء
فضرب أبا عامر فقتله، واستخلف أبو عامر أبا موسى الأشعري فقاتلهم حتى
فتح الله عليه وقتل أبي عامر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم
اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمتي في الجنة ودعا لأبي موسى أيضا،
وقتل من المسلمين أيمن بن عبيد هو ابن أم أيمن وسراقة بن الحارث ورقيم
بن ثعلبة بن زيد بن لوذان وعند ابن إسحاق يزيد بن زمعة بن الأسود بن
المطلب بن أسد جمع به فرس يقال له الجماح1 فقتل. واستحر القتل في بني
نصر بن معاوية ثم في بني رئاب فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"اللهم اجبر
مصيبتهم". ووقف مالك بن عوف على ثنية من الثنايا حتى مضى ضعفاء أصحابه وتتام
آخرهم ثم هرب فتحصن في قصر يليه ويقال: دخل حصن ثقيف. وأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالسبي والغنائم تجمع فجمع ذلك كله وحذروه إلى
الجعرانة فوقف بها إلى أن انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الطائف وهم في حظائر لهم يستظلون بها من الشمس. وكان السبي ستة آلاف
رأس والإبل أربعة وعشرون ألفا والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة
آلاف أوقية فضة فاستأنى2 رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبي أن يقدم
عليه وفدهم وبدأ بالأموال فقسمها وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى
أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل قال: ابنى يزيد قال:
أعطوه أربعين أوقية ومائة من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله "الجناح" كما ذكره جماعة.
2 أي: انتظر وتربص يقال: أنيت وتأنيت واستأنيت.
ج / 2 ص -220-
الإبل
قال: ابنى معاوية قال: أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل، وأعطى حكيم
بن حزام مائة من الإبل ثم سأله مائة أخرى فأعطاه وأعطى النضير بن
الحارث بن كلدة مائة من الإبل وأعطى أسيد بن جارية الثقفي مائة من
الإبل وأعطى العلاء بن جارية الثقفي خمسين بعيرا وأعطى مخرمة بن نوفل
خمسين بعيرا وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل وأعطى سعيد بن يربوع
خمسين من الإبل وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل وأعطى قيس بن عدي
مائة من الإبل وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل وأعطى سهيل بن عمر
ومائة من الإبل وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة من الإبل وأعطى هشام بن
عمرو العامري خمسين من الإبل وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من
الإبل وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل وأعطى مالك بن عوف مائة من
الإبل وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل فقال في ذلك شعرا فأعطاه
مائة من الإبل ويقال: خمسين. وإعطاء ذلك كله من الخمس وهو أثبت
الأقاويل عندنا، ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم ثم فضها على
الناس فكانت سهمانهم لكل رجل أربعا من الإبل أو أربعين شاة فإن كان
فارسا أخذ اثني عشر بعيرا أو عشرين ومائة شاة وإن كان معه أكثر من فرس
واحد لم يسهم له.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي
سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من
تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد
هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم:
لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فدخل عليه سعد بن عبادة
فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم
لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت
ج / 2 ص -221-
قسمت
في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من
الأنصار منها شيء قال:
"فأين أنت من ذلك يا سعد" فقال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي قال:
"فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة" قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما
اجتمعوا له أتى سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
"يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ألم
آتكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين
قلوبكم"، قالوا:
بلى، الله ورسوله أمنُّ وأفضل ثم قال: "ألا
تجيبونني يا معشر الأنصار"، قالوا:
بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل، قال:
"أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك
ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك أوجدتم يا معشر الأنصار
في أنفسكم في لعاعة1
من الدنيا
تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر
الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟
فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس
شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء
الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى
الله عليه وسلم قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتفرقوا وقدمت الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الرضاعة فقالت: يا رسول الله إني أختك قال:
"وما علامة ذلك؟"،
قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك قال: فعرف رسول الله صلى الله
عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيَّرها وقال:
"إن أحببت فعندي محبة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك وترجعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قليل. وفي نسخة لغاغة.
ج / 2 ص -222-
إلى قومك
فعلت"، قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي ففعل فزعمت بنو سعد أنه أعطاها
غلاما له يقال له: مكحول وجارية فزوجت إحداهما الآخر فلم يزل فيهم من
نسلهما بقية. وقال أبو عمر فأسلمت فأعطاها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء. وسماها حذافة وقال: الشيماء لقب.
ج / 2 ص -223-
قدوم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم:
وقدم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا
ورأسهم زهير بن صرد وفيهم أبو يرقان هم رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الرضاعة فسألوه أن يمن عليهم بالسبي فقال:
"أبناؤكم
ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم"،
قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقال:
"أما مالي ولبني عبد المطلب فهو لكم وسأسأل لكم الناس"، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: الأقرع بن حابس أما أنا وبنو تميم فلا وقال عيينة بن
حصن أما أنا وبنو فزارة فلا وقال العباس بن مرداس أما أنا وبنو سليم
فلا فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال العباس بن مرداس: وهنتموني وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد كنت استأنأت سبيهم وقد خيرتهم فلم
يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه أن
يرده فسبيل ذلك، ومن أبى فليرد عليهم، وليكن ذلك فرضا علينا ست فرائض
من أول ما يفيء الله علينا"، قالوا: رضينا وسلمنا فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ولم يتخلف منهم
أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يديه منهم ثم ردها
بعد ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كسى السبي قبطية قبطية.
أخبرنا أبو عبد الله بن أبي الفتح المقدسي سماعا بالزعيزعية بمرج دمشق
قال: أنا أبو الفخر أسعد بن سعيد بن روح الصالحاني وأم حبيبة عائشة بنت
الحافظ أبي أحمد معمر بن الفاخر الأصبهانيان إجازة منهما قالا: أخبرتنا
أم إبراهيم فاطمة
ج / 2 ص -224-
بنت
عبد الله بن أحمد بن القاسم بن عقيل الجوزدانية قال الأول: سماعا وقالت
الثانية: حضورا قالت: أنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة قال: أنا
أبو القاسم الطبراني ثنا عبيد الله بن رماحس1 القيسي برمادة الرملة سنة
أربع وسبعين ومائتين ثنا أبو عمرو زياد بن طارق وكان قد أتت عليه مائة
وعشرون سنة قال: سمعت أبا جزول زهير بن صرد الجشمي يقول لما أسرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يوم هوازن وذهب يفرق السبي والشاء
أتيته فأنشأت أقول هذا الشعر:
أمنن علينا رسول الله في كرم
فإنك المرء نرجوه وننتظر
أمنن على بيضة قد عاقها قدر
مشتت شملها في دهرها غير
أبقت لنا الدهر هتافا على حزن
على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها
يا أرجح الناس حلما حين يختبر
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك تملأها من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته
واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعماء إذ كفرت
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه
من أمهاتك إن العفو مشتهر
يا خير من مرجت كمت الجياد به
عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
إنا نؤمل عفوا منك تلبسه
هذي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاعف عفا الله عما أنت راهبه
يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر
قال: فلما سمع النبي صلى
الله عليه وسلم هذا الشعر قال:
"ما كان لي
ولبني عبد المطلب فهو لكم"، وقالت
قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله
ولرسوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الراء وكسر الحاء المهملة.
ج / 2 ص -225-
قال
الطبراني: لا يروى عن زهير بن صرد بهذا التمام إلا بهذا الإسناد تفرد
به عبيد الله بن رماحس. ومما قيل من الشعر في يوم حنين قول العباس بن
مرداس السلمي:
عفى مجدل من أهله فمتالع
فمطلي أريك قد خلا فالمصانع
ديار لنا يا جمل إذ جل عيشنا
رخى وصرف الدهر1 للحي جامع
حبيبة ألوت بها غربة النوى
لبين فهل ماض من العيش راجع
فإن تتبع الكفار غير ملومة
فإني وزير للنبي وتابع
دعانا إليه خير وقد علمتهم
خزيمة والمرار منهم وواسع
فجئنا بألف من سليم عليهم
لبوس لهم من نسج داود رائع
نبايعه بالأخشبين وإنما
يد الله بين الأخشيين نبايع
فجسنا مع المهدي مكة عنوة
بأسيافنا والنقع كاب وساطع
علانية والخيل يغشى متونها
حميم وآن من دم الجوف ناقع
ويوم حنين حين سارت هوازن
إلينا وضاقت بالنفوس الأضالع
صبرنا مع الضحاك لا يستفزنا
قراع الأعادي منهم والوقائع
أمام رسول الله يخفق فوقنا
لواء كخذروف السحابة لامع
عشية ضحاك بن سفيان معتص
بسيف رسول الله والموت كانع2
نذود أخانا عن أخينا ولو نرى
مصالا لكنا الأقربين نتابع
ولكن دين الله دين محمد
رضينا به فيه الهدى والشرائع
أقام به بعد الضلالة أمرنا
وليس لأمر حمه الله دافع
وقوله:
ما بال عينك فيها عائر سهر
مثل الحماطة أغضى فوقها الشفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "الدار".
2 في الاستيعاب "واقع". وسيأتي تفسيره الغريب.
ج / 2 ص -226-
عين تأويها من شجوها أرق
فالماء يعمرها طورا وينحدر
كأنهم نظم در عند ناظمه
تقطع السلك منه فهو منتبر1
يا بعد منزل من ترجو مودته
ومن أتى دونه الصمان والحفر
دع ما تقدم من عهد الشباب فقد
ولى الشباب وزار الشيب والذعر
واذكر بلاء سليم في مواطنها
وفى سليم لأهل الفخر مفتخر
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا
دين الرسول وأمر الناس مشتجر
لا يغرسون فسيل النخل وسطهم
ولا تجاوز في مشتاهم البقر
إلا سوامح كالعقيان مقربة
في دارة حولها الأخطار والعكر
يدعى خفاف وعوف في جوانبها
وحي ذكوان لا ميل ولا صجر
الضاربون جنود الشرك ضاحية
ببطن مكة والأرواح تبتدر
حتى رفعنا وقتلاهم كأنهم
نخل بظاهرة البطحاء منقعر
ونحن يوم حنين كان مشهدنا
للدين عزا وعند الله مدخر
إذ نركب الموت مخضرا بطائنه
والخيل ينجاب عنها ساطع كدر
تحت اللوامع والضحاك يقدمنا
كما مشى الليث في غاباته الخدر
في مأزق من مكر الحرب كلكلها2
يكاد يأفل منه الشمس والقمر
وقد صبرنا بأوطاس أسنتنا
لله ننصر من شئنا وننتصر
حتى تأوب أقوام منازلهم
لولا المليك ولولا نحن ما صدروا
فما ترى معشرا قلوا ولا كثروا
إلا وأصبح منا فيهم أثر
قال: وتركت من شعر
العباس ما يبدو فضله ويستحسن مثله إيثارا للاختصار والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "منتثر".
2 الكلكل في أصل معناه: الصدر.
ج / 2 ص -227-
ذكر فوائد تتعلق بغزوة حنين وما اتصل بها:
حنين بن
قانية بن مهلايل هو الذي ينسب إليه الموضع. وهي غزوة حنين وهوازن
وأوطاس سميت بأوطاس باسم الموضع الذي كانت فيه الوقعة أخيرا حيث اجتمع
فلالهم وتوجه إليهم أبو عامر الأشعري كما سبق. والوطيس التنور وفي هذه
الغزوة قال عليه السلام:
"الآن حمي الوطيس"، حين استعرت الحرب وهي من الكلم التي لم يسبق إليها صلى الله عليه
وسلم وكذلك قوله عليه السلام في غير هذه الوقعة:
"يا خيل الله اركبي"، وقوله:
"فانقض به"، أي صوت
بلسانه في فيه من النقيض وهو الصوت. وقوله:
"راعي ضأن" يجهله
بذلك. وفرار من كان معه عليه السلام يوم حنين قد أعقبه رجوعهم إليه
سرعة وقاتلهم معه حتى كان الفتح ففي ذلك نزلت:
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئًا} إلى قوله:
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
كما قال فيمن تولى يوم أحد:
{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}
وإن اختلف الحال في الواقعتين. ويوم حنين قال عليه السلام:
"من قتل قتيلا فله سلبه"، فصار حكما مستمرا. وقتل أبو طلحة يومئذ عشرين وأخذ أسلابهم. وفي
هذه المسألة خلاف بين العلماء ليس هذا موضع ذكره. وفي خبر جبير بن مطعم
عن رؤيته الملائكة رأيت مثل البجاد من النمل -والبجاد السكساء- وقد قال
غيره يومئذ رأيت رجالا بيضا على خيل بلق فكانت الملائكة. والبغلة التي
كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ هي المسماة فضة التي أهداها
له فروة بن نفاثة. والمجدل القصر وهو في هذا البيت اسم علم لمكان.
ومطلاء يمدو يقصر وهي أرض تعقل الرجل
ج / 2 ص -228-
عن
المشي. وحذروف السحاب أراد به البرق الذي في السحاب. وكانع حاضر نازل.
والضحاك بن سفيان كانت بيده راية سليم يوم حنين. قال البرقي ليس هو
الضحاك بن سفيان الكلابي إنما هو الضحاك بن سفيان السلمي. وفي رواية
غير البكائي عن إبن إسحاق رفع نسبه إلى بهتة بن سليم لم يذكر أبو عمر
السلمي.
وقوله: نذود أخانا... البيت؛ يريد أنه من سليم وسليم من قيس كما أن
هوازن من قيس كلاهما ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس. ومعناه نقاتل
إخوتنا ونذودهم عن إخوتنا من سليم، ولو ترى في حكم الدين مصالا مفعلا
من الصولة لكنا مع الأقربين يريد هوازن. والحماطة من ورق الشجر ما فيه
خشونة. والعايز كالشيء ينخس في العين لأنه يعورها. والسهر الرجل لأنه
لما لم يفتر عنه فكأنه سهر ولم ينم. والصمان والحقر موضعان. وقوله لا
يغرسون فسيل النخل يعني أهل المدينة يعير هم بذلك. والمقربة الخيل التي
قربت مرابطها. والأخطار جمع خطر وهو القطيع الضخم من الإبل. والعسكر ما
فوق خمسمائة من الإبل. ضاحية كل شيء نواحيه البارزة. والظاهرة من الأرض
ما غلظ منها.
ج / 2 ص -229-
سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين في شوال سنة ثمان:
قال ابن سعد: قالوا: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى
الطائف بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة الدوسي
يهدمه وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف فخرج سريعا إلى قومه فهدم
ذا الكفين وجعل يحش النار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حششت النار في فؤادكا
قال: وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا فوافوا النبي صلى الله عليه
وسلم بالطائف بعد مقدمه بأربعة، أيام وقدم بدابة ومنجنيق وقال:
"يا معشر الأزد من يحمل رايتكم؟"،
فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية قالوا: النعمان بن الرازية
اللهيي، قال: "أصبتم". |