عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي ج / 2 ص -165-
غزوة مؤتة وهي بأدنى البلقاء من أرض الشام في
جمادى الأولى سنة ثمان:
وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب بكتابه
إلى الشام إلى ملك الروم وقيل: إلى ملك بصرى،
فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطا
ثم قدمه فضرب عنقه صبرا ولم يقتل لرسول الله
صلى الله عليه وسلم رسول غيره فاشتد ذلك عليه
حين بلغه الخبر عنه. قال ابن إسحاق: حدثني
محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه
إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان وأمر
عليهم زيد بن حارثة وقال:
"إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس وإن أصيب جعفر فعبد الله بن
رواحة على الناس",
فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف
فلما حضرهم خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم. فلما ودع
عبد الله بن رواحة بكى فقيل: ما يبكيك فقال:
أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم
ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ
آية من كتاب الله يذكر فيها النار:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا}، فلست
أدري كيف لي بالصدر بعد الورود، فقال
المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا
صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي
أرشده الله من غاز وقد رشدا
ج / 2 ص -166-
ثم
مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من
أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام والقين
وبهراء وبلي مائة ألف منهم عليهم رجل من بلي يقال له: مالك بن رافلة.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا:
نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا فأما أن
يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له قال: فشجع الناس عبد الله
بن رواحة وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون
الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة وما نقاتلهم إلا بهذا
الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور
وإما شهادة. قال ابن إسحاق: ثم مضى الناس فحدثني عبد الله بن أبي بكر
أنه حدث عن زيد بن أرقم قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة فخرج في
سفره ذلك مرد في على حقيبة1 رحله فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو
ينشد ويقول:
إذا أدنيتني وحملت رحلي
مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم
ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادرونا
بأرض الشام مشتهى الثواء
في أبيات فلما سمعتهن
بكيت فخفقني بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله شهادة وترجع
بين شعبتي الرحل. قال: ثم قال عبد الله بن رواحة في سفره ذلك وهو
يرتجز:
يا زيد زيد اليعملات2 الذبل
تطاول الليل هديت فانزل
ثم مضى الناس حتى إذا
كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحقيبة ما يوضع فيه الزاد.
2 جمع يعملة وهي الناقة النجيبة.
ج / 2 ص -167-
بقرية
من قرى البلقاء يقال لها: مشارف ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية
يقال لها: مؤتة فالتقى الناس عندها فتعبأ لهم المسلمون فجعلوا على
ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له: قطبة بن قتادة وعلى ميسرتهم رجل من
الأنصار يقال له: عباية بن مالك ويقال: عبادة. ثم التقي الناس فاقتتلوا
فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في
رماح القوم ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس
له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل فكان جعفر أول من عرقب فرسا في
سبيل الله فقاتل. وروي أنه أخذ اللواء بيمينه فقاتل به حتى قطعت يمينه
فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره فاحتضن الراية وقاتل حتى قتل رحمه الله
وسنه ثلاث وثلاثون أو أربع وثلاثون سنة. ثم أخذها عبد الله بن رواحة
وتقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل
فلما نزل أتاه ابن عم له يعرفه من لحم، فقال: شد بها صلبك فإنك قد لقيت
أيامك هذه ما لقيت فأخذه من يده فانتهش منه نهشة ثم سمع الحطمة في
ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم
فقاتل حتى قتل. ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال: يا
قوم اصطلحوا على رجل منكم فقالوا: أنت قال ما أنا بفاعل فاصطلح الناس
على خالد بن الوليد فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم ثم انحاز
وانحيز عنه حتى انصرف بالناس. وقد حكى ابن سعد وغيره أن الهزيمة كانت
على المسلمين وحكي أيضا أن الهزيمة كانت على الروم. وكذا في صحيح
البخاري والمختار من ذلك ما ذكره ابن إسحاق من انحياز كل فئة عن الأخرى
من غير هزيمة وقد وقع ذلك في شعر لقيس بن المسحر اليعمري كذلك. وأطلع
الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك من يومه فأخبر به عليه السلام
أصحابه رضي الله عنهم بالمدينة قبل ورود الخبر بأيام، وقال:
"لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من
ج / 2 ص -168-
ذهب فرأيت
في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل
لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى". قال
أبو عمر: وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن جدعان عن ابن المسيب
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل لي جعفر
وزيد وابن رواحة في خيمة من در كل واحد منهم على سريره فرأيت زيدا وابن
رواحة في أعناقهما صدود ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود"، قال:
"فسألت -أو: قيل لي- إنهما حين غشيهما الموت أعرضا أو كأنهما صدا
بوجوههما". وأما جعفر فإنه لم يفعل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
جعفر:
"إن الله أبدله
بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء".
قال أبو عمرو: وروينا عن ابن عمر أنه قال: وجدنا ما بين صدر جعفر
ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح.
وقد روى أربع وخمسون والأول أثبت. وقال موسى بن عقبة: قدم يعلى بن منية
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك؟"، قال: فأخبرني يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كله
ووصف له، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم
تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم".
ج / 2 ص -169-
تسمية من استشهد يوم مؤتة:
ذكر ابن
إسحاق منهم من بني هاشم جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة ومن بني عدي بن
كعب مسعود بن الأوس بن حارثة بن نضلة، ومن بني مالك بن حسل وهب بن سعد
بن أبي سرح، ومن الأنصار من بني الحارث بن الخزرج عبد الله بن رواحة
وعباد بن قيس، ومن بني غنم بن مالك بن النجار الحارث بن النعمان بن
إساف بن نضلة بن عبد بن عوف بن غنم، ومن بني مازن بن النجار سراقة بن
عمرو بن عطية بن خنساء. وزاد ابن هشام عن الزهري فيهم أبا كليب وجابرا
ابني عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول وهما لأب وأم. وفي بني مالك بن أفصى
عمرا وعامرا ابني سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن الحارث بن عباد بن
سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى.
ذكر فوائد تتعلق بهذه الأخبار:
مؤتة بضم الميم وبالهمز. ولهب بكسر اللام وسكون الهاء. وقوله في شعر
ابن رواحة:
ضربة ذات فرغ: بفتح الفاء وسكون الراء المهملة وبعدها غين معجمة قال
ابن سيدة: وطعنة فرغاء وذات فرغ واسعة يسيل دمها. ومعان بضم الميم وقال
الوقشي: الصواب فتحها. وفى الغريب المصنف المبآة المنزل. والمعان مثله.
والحساء جمع حسى وهو موضع رمل تحته صلابة فإذا قطرت السماء على ذلك
الرمل نزل الماء فمنعته
ج / 2 ص -170-
الصلابة أن يغيض ومنع الرمل السماء أن تنشفه فإذا بحث ذلك الرمل وجد
الماء، والحساء ههنا اسم منزلة معروفة. وقوله: "فشأنك فانعمى" استحسنه
المبرد وكان قد أنشد قبله قول الشماخ يمدح عرابة بن أوس:
إذا بلغتني وحملت رحلي
عرابة فاشرقي بدم الوتين
قال: وقد أحسن كل
الإحسان كأنه يقول: لست أحتاج أن أرحل إلى غيره قال: وقد عاب بعض
الرواة قوله: "فاشرقي بدم الوتين" قال: وكان ينبغي أن ينظر لها بعد
استغنائه عنها. وذكر قصة الأنصارية التي نجت على الناقة وقالت: إني
نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بئس ما
جزيتيها"؛ الحديث. قلت: وقد سلم بيت ابن رواحة من هذا. وقوله: ولا أرجع دعاء
وهو مجزوم بالدعاء ومعناه اللهم لا أرجع وهذا الدعاء ينجزم بما ينجزم
به الأمر والنهي. وقال الوقشي: الصواب مشتهى الثواء ولما وقع في الأصل
وجه. وقوله: يا زيد زيد اليعملات الذبل؛ قال ابن إسحاق: يقوله لزيد بن
أرقم وكان يتيمه. قال أبو عمر: قيل: بل قال ذلك في غزوة مؤتة لزيد بن
حارثة. وتخوم البلقاء في مختصر العين تخوم الأرض يعني بفتح التاء اسم
على مثال فعول وبعضهم يقول: تخوم بالضم كأنه جمع وهو فصل ما بين
الأرضين. وشاط: هلك، قال: وقد يشيط على أرماحنا البطل وقوله: وخاشى بهم
بالخاء المعجمة، قال ابن قتيبة: هو من الخشية كأنه خاف عليهم وقال ابن
هشام ويقال: فحاشى بهم.
ج / 2 ص -171-
سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل وهي من وراء وادي القرى:
سميت بماء بأرض جذام يقال له: السلسل وقال السهيلي: ذات السلاسل بضم
السين الأولى وكسر السين الثانية ماء بأرض جذام بن سميت الغزاة. ثم
سرية عمرو إلى ذات السلاسل وبينها وبين المدينة عشرة أيام. وكانت في
جمادى الآخرة سنة ثمان قال ابن سعد: قالوا: بلغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف
المدينة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص وعقد له لواء
أبيض وجعل معه راية سوداء وبعثه في ثلثمائة من سراة المهاجرين والأنصار
ومعهم ثلاثون فرسا وأمره أن يستعين بمن مر به من بلى وعذرة وبلقين فسار
اللين وكمن النهار. فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا؛ فبعث
رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فبعث
إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين وعقد له لواء وبعث معه سراة
المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمرو أمر أن يلحق بعمرو أن يكونا
جميعا ولا يختلفا فلحق بعمرو فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو:
إنما قدمت علي مددا وأنا الأمير فأطاع له بذلك أبو عبيدة فكان عمرو
يصلي بالناس وسار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها1 حتى أتى إلى أقصى بلادهم
وبلاد عذرة وبلقين ولقي في آخر ذلك جمعا فحمل عليهم المسلمون فهربوا في
البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي قهرها واستولى عليها.
ج / 2 ص -172-
فأخبره
بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم. وذكر ابن إسحاق نزولهم على ماء
بجذام يقال له: السلسل قال: وبذلك سميت ذات السلاسل. أخبرنا عبد الرحيم
بن يوسف المزي بقراءة والدي عليه رحمهما الله قال: أنا أبو علي حنبل بن
عبد الله بن الفرج الرصافي قال: أنا الرئيس أبو القاسم هبة الله بن
محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني قال: أنا أبو علي الحسن بن علي
بن المذهب قال: ثنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال: أنا
عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن
عامر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش ذات السلاسل فاستعمل
أبا عبيدة على المهاجرين واستعمل عمرو بن العاص على الأعراب وقال لهما: "تطاوعا"،
قال: فكان يؤمرون أن يغيروا على بكر فانطلق عمرو وأغار على قضاعة لأن
بكرا أخواله، قال: فانطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد استعملك علينا وإن ابن فلان قد اتبع أمر
القوم فليس لك معه أمر فقال أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمرنا أن نتطاوع فأنا أطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عصاه
عمرو.
ج / 2 ص -173-
سرية الخبط:
ثم سرية الخبط أميرها أبو عبيدة بن الجراح وكانت في رجب سنة ثمان
قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في
ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار وفيهم عمر بن الخطاب إلى حي من
جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وبينها وبين المدينة خمس ليال
فأصابهم في الطريق جوع شديد فأكلوا الخبط1. وابتاع قيس جزرا ونحرها لهم
وألقى لهم البحر حوتا عظيما فأكلوا منه وانصرفوا ولم يلقوا كيدا. قرأت
على أبي الهيجاء غازي بن أبي الفضل الدمشقي أخبركم الشيخ أبو حفص عمر
بن محمد بن طبرزذ قراءة عليه وأنت تسمع فأقر به قال: أنا أبو القاسم
هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني قال: أنا أبو طالب
محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز قال: أنا أبو بكر محمد بن عبد
الله بن إبراهيم الشافعي فثنا إبراهيم بن إسحاق فثنا محمد بن سهل فثنا
ابن أبي مريم قال: أنا يحيى بن أيوب قال: حدثني جعفر بن ربيعة وعمرو بن
الحارث أن بكر بن سوادة حدثهما أن أبا حمزة الحميري حدثه سمع جابر بن
عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهم بعثا عليهم قيس بن سعد
بن عبادة فجهدوا فنحر لهم قيس تسع ركائب قال عمر في حديثه فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت. قال
إبراهيم: لم يكن قيس بن سعد أمير هذا الجيش إنما كان أبو عبيدة وقيس
معه كذا أخبرني محمد بن صالح عن محمد بن عمر، قال: وحدثني داود بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ورق السمر نوع من الشجر.
ج / 2 ص -174-
قيس
وإبراهيم بن محمد الأنصاري وخارجة بن الحارث قالوا: بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم أبا عبيدة في سرية فيها المهاجرون والأنصار وهم
ثلاثمائة رجل إلى ساحل البحر إلى حي من جهينة فأصابهم جوع شديد، فقال
قيس بن سعد من يشتري مني تمرا بجزور1 يوفيني الجزور ههنا وأوفية التمر
بالمدينة فجعل عمر يقول: واعجباه لهذا الغلام لا مال له يدين في مال
غيره فوجد رجلا من جهينة فقال قيس: بعني جزورا أوفيكم وسقه من تمر
المدينة فقال الجهني: والله ما أعرفك فمن أنت قال: أنا ابن سعد بن
عبادة بن دليم. قال الجهني ما أعرفني بنسبك وذكر كلاما فابتاع منه خمس
جزائر كل جزور بوسق من تمر يشترط عليه البدوي من تمر آل دليم يقول قيس:
نعم قال: فأشهد لي فأشهد له نفرا من الأنصار ومعهم نفر من المهاجرين
قال قيس: أشهد من تحب وكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب فقال عمر: ما أشهد
هذا يدين ولا مال له وإنما المال لأبيه قال الجهني: والله ما كان سعد
ليخنى2 بابنه في وسقة من تمر وأرى وجها حسنا وفعلا شريفا فكان من عمر
وقيس كلام حتى أغلظ لقيس وأخذ الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة كل يوم
جزورا فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره فقال: تريد أن تخفر ذمتك ولا
مال لك. قال محمد فحدثني محمد بن يحيى بن سهل عن أبيه عن رافع بن خديج
قال: أقبل أبو عبيدة ومعه عمر فقال عزمت عليك أن لا تنحر أتريد أن تخفر
ذمتك قال قيس: يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس ويحمل
الكَل3 ويطعم في المجاعة لا يقضي عني سقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل
الله فكاد أبو عبيدة أن يلين له، وجعل عمر يقول: أعزم فعزم عليه وأبى
أن ينحر وبقيت جزوران فقدم بهما قيس المدينة ظهرا يتعاقبون عليهما وبلغ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ناقة.
2 أي يسلمه ويخفر ذمته، وهو من أخنى عليه الدهر.
3 الكل: اليتيم، والعيال.
ج / 2 ص -175-
سعدا ما أصاب القوم من المجاعة فقال: إن يك قيس كما أعرف فسينحر
للقوم فلما قدم قيس ولقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال:
نحرت. قال: أصبت قال: ثم ماذا؟ قال: ثم نحرت. قال أصبت. قال: ثم ماذا
قال: ثم نحرت قال: أصبت قال: ثم ماذا؟ قال: ثم نهيت قال: ومن نهاك؟
قال: أبو عبيدة أميري قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي وإنما المال
لأبيك فقلت أبي يقضي عن الأباعد ويحمل الكل ويطعم في المجاعة ولا يصنع
هذا بي قال: فلك أربع حوائط أدناها حائط تجد منه خمسين وسقا. قال: وقدم
البدوي مع قيس فأوفاه وسقه وحمله وكساه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم
فعل قيس فقال:
"إنه في قلب
جود".
خبر العنبر:
وروينا من طريق البخاري قال: حدثنا علي بن عبد الله فثنا سفيان قال:
الذي حفظناه من عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: بعثنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن
الجراح نرص عير قريش فأقمنا بالساحل نصف شهر فأصابنا جوع شديد حتى
أكلنا الخبط. فسمى ذلك الجيش جيش الخبط فألقى لنا البحر دابة يقال لها:
العنبر فأكلنا منها نصف شهر وادهنا من ودكه حتى ثابت1 إلينا أجسامنا
فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أعضائه فنصبه فعمد إلى أطول رجل معه قال سفيان
مرة ضلعا من أضلاعه فنصبه وأخذ رجلا وبعيرا فمر تحته قال جابر: وكان
رجل من القوم نحر ثلاث جزائر. وذكر تمام الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أقبلت علينا بعد أن أذهبها الجوع.
ج / 2 ص -176-
سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضرة وهي أرض محارب:
ثم سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى حضرة وهي أرض محارب بنجد في
شعبان سنة ثمان. قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة
ومعه خمسة عشر رجلا إلى غطفان وأمره أن يشن عليهم الغارة فسار الليل
وكمن النهار فهجم على حاضر منهم عظيم فأحاط به فصرخ رجل منهم ما حضره
وقاتل منهم رجال فقتلوا من أشراف لهم واستاقوا النعم فكانت الإبل مائتي
بعير والغنم ألفي شاة وسبوا سبيا كثيرا وجمعوا الغنائم فأخرجوا الخمس
فعزلوه فأصاب كل رجل اثني عشر بعيرا فعدل البعير بعشر من الغنم وصارت
في سهم أبي قتادة جارية وضيئة فاستوهبها منه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فوهبها له فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحية بن جزء
وغابوا في هذه السرية خمس عشرة ليلة. قرأت على أبي الهيجاء غازي ابن
أبي الفضل الدمشقي بقرافة سارية أخبركم أبو علي حنبل بن عبد الله
المكبر قال: أنا أبو القاسم بن الحصين قال: أنا أبو علي بن المذهب قال:
أنا أبو بكر بن مالك قال: أنا عبد الله قال: حدثني أبي فثنا سفيان عن
أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى
نجد فبلغت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعيرا بعيرا.
ج / 2 ص -177-
سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى بطن إضم وهي في أول شهر رمضان سنة
ثمان:
قالوا: لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو أهل مكة بعث أبا
قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم وهي فيما بين ذي خشب وذي
المروة وبينها وبين المدينة ثلاثة برد ليظن ظان أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم توجه إلى تلك الناحبة ولأن تذهب بذلك الأخبار. وكان في
السرية محلم بن جثامة الليثي فمر عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم بتحية
الإسلام فأمسك عنه القوم وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله وسلبه متاعه
وبعيره ووطب1 لبن كان معه فلما لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم نزل
فيهم القرآن:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ
لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ
اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} إلى آخر الآية. فمضوا فلم يلقوا جمعا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي
خشب فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة فأخذوا
على يين2 حتى لقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالشقيا وهي عند ابن إسحاق
منسوبة لابن أبي حدرد. وذكر ابن إسحاق في خبر محلم بن جثامة بعد ذلك
يوم حنين أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم صلى الظهر بحنين ثم عمد إلى
ظل شجرة فجلس تحتها فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان في
عامر بن الأضبط، عيينة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وعاء.
2 اسم لعين هناك.
ج / 2 ص -178-
يطلب
بدمه وهو يومئذ سيد غطفان، والأقرع يدفع عن محلم لمكانه من خندف
فتداولا الخصومة ثم قبلوا الدية ثم قالوا: أين صاحبكم هذا يستغفر له
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل آدم ضرب طويل هو محلم فرفع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال:
"اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة" ثلاثا فقام يتقلى دمعه بفضل ردائه. الحديث. وفى حديث عن الحسن ما
مكث إلا سبعا حتى مات فلفظته1 الأرض مرات فعمدوا به إلى صدين2 فسطحوه
بينهما ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أخرجته.
2 أي: جبلين.
ج / 2 ص -179-
سرية ابن أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة:
قال ابن أبي حدرد فيما حكاه ابن إسحاق: تزوجت امرأة من قومي فجئت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي فقال: وكم أصدقت قلت: مائتي
درهم فقال: سبحان الله لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم
والله ما عندي ما أعينك به قال: فلبثت أياما وأقبل رجل من بني جشم بن
معاوية يقال له: رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في بطن عظيم من بني جشم
حتى ينزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان ذا اسم في جشم وشرف فدعاني رسول الله صلى الله
عليه وسلم ورجلين معي من المسلمين فقال: اخرجوا إلى هذا الرجل حتى
تأتوا منه بخبر وعلم قال: وقدم لنا شارفا عجفاء1 فحمل عليها أحدنا
فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت
وما كادت ثم قال: تبلغوا عليها واعتقبوها قال: فخرجنا ومعنا سلاحنا من
النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر عشيشية2 مع غروب الشمس
كمنت في ناحية وأمرت صاحبي فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم وقلت
لهما إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في ناحية العسكر فكبرا وشدا معي
فوالله إنا لكذلك ننتظر غرة القوم أو أن نصيب منهم شيئا وقد غشينا
الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وكان لهم راع سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم
حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ناقة مسنة مهزولة.
2 تصغير عشية.
ج / 2 ص -180-
تخوفوا
عليه فقام صاحبهم ذلك وأخذ سيفه فجعله في عنقه ثم قال والله لأتبعن أثر
راعينا هذا ولقد أصابه شر فقال نفر ممن معه والله لا تذهب أنت نحن
نكفيك قال: والله لا يذهب إلا أن قالوا فنحن معك قال: والله لا يتبعني
أحد منكم وخرج حتى مربى فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده فوالله
ما تكلم ووثبت إليه فاحتززت رأسه وشددت في ناحية العكسر وكبرت وشد
صاحباي وكبرا فوالله ما كان إلا النجاء ممن فيه عندك عندك بكل ما قدروا
عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم واستقنا إبلا عظيما
وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه
أحمله معي فأعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة
عشر بعيرا في صداقي فجمعت إلى أهلي. |