عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي ج / 2 ص -253-
غزوة تبوك في شهر رجب سنة تسع توجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لغزو الروم:
قال ابن
إسحاق: وكان ذلك في زمن عسرة من الناس وجدب من
البلاد وحين طابت الثمار فالناس يحبون المقام
في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال
من الزمان الذي هم عليه وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى
عنها وورى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك
لبعد الشقة وشدة الزمان فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد
بن قيس أحد بني سلمة:
"يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر"،
فقال يا رسول الله أتأذن لي ولا تفتني فوالله
لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء
مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا
أصبر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال:
"قد أذنت لك"، ففيه
نزلت:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر؛ فأنزل الله
فيهم:
{وَقَالُوا لا
تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ}.
الآية؛ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد
في سفره وأمر الناس بالجهاز وحض أهل الغنى على
النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من
أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان في ذلك نفقة
عظيمة لم ينفق أحد مثلها. وذكر ابن سعد قالوا:
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد
جمعت جموعا كثيرة بالشام وأن هرقل قد رزق
أصحابه لسنة وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة
وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وجاء
البكاءون وهم سبعة يستحملون رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال:
{لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلّا
يَجِدُوا
ج / 2 ص -254-
مَا يُنْفِقُونَ}
وهم: سالم بن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى المازني وعمرو بن عنمة1
وسلمة بن صخر والعرباض بن سارية. وفي بعض الروايات وعبد الله بن مغفل
ومعقل بن يسار. وعند ابن عائذ فيهم مهدي بن عبد الرحمن. وبعضهم يقول
البكاءون بنو مقرن السبعة وهم من مزينة. وابن إسحاق يعد فيهم عمرو بن
الحمام بن الجموح وقال: وبعض الناس يقول عبد الله بن عمرو المزني بدل
بن المغفل وهرمي بن عبد الله الواقفي وفيما ذكر ابن إسحاق أنه بلغه أن
ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى وابن المغفل وهما كذلك
فأعطاهما ناضحا2 له وزودهما شيئا من تمر. وجاء المعذرون من الأعراب
ليؤذن لهم فلم يعذرهم. قال ابن سعد: وهم اثنان وثمانون رجلا وكان عبد
الله بن أبي بن سلول قد عسكر على ثنية الوداع في حلفائه من اليهود
والمنافقين فكان يقال: ليس عسكره بأقل العسكرين. وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يستخلف على عسكره أبا بكر الصديق يصلي بالناس واستخلف
على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وقيل: سباع بن عرفطة. ذكره ابن
هشام والأول أثبت. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عبد
الله بن أبي ومن كان معه وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب
منهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وأبو خيثمة السالمي
وأبو ذر الغفاري. وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفا
من الناس والخيل عشرة آلاف فرس وأقام بها عشرين ليلة يصلي ركعتين ولحقه
بها أبو خيثمة السالمي وأبو ذر وهرقل يومئذ بحمص. وفيما ذكر ابن إسحاق
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أراد الخروج خلف علي بن أبي
طالب على أهله فأرجف به المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 علبة بضم العين. وعنمة بفتح العين والنون والميم.
2 أي جملا يستقي عليه.
ج / 2 ص -255-
وتخفيفا منه فأخذ على سلاحة ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو نازل بالجرف1 فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما
خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني فقال:
"كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا
ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". فرجع علي إلى المدينة. ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله
صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين في عريشين
لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيها ماء وهيأت
له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا
له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح2 والريح والحر وأبو
خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء ما هذا بالنصف ثم قال: والله
لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيآ
لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب
الجمحي في الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى إذا
دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف
عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على
الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كن أبا خيثمة"،
قالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أولى لك يا أبا خيثمة" ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم خيرا ودعا له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو موضع قريب من المدينة.
2 بكسر الضاد أي الشمس.
ج / 2 ص -256-
بخير،
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر فقال:
"لا تشربوا من مائها شيئا ولا يتوضأ منه للصبرة، وما كان من عجين
عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منها شيئا، ولا يخرجن أحد منكم
الليلة إلا ومعه صاحب له"، ففعل الناس
إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره
فأما الذي خرج لحاجته فإنه خنق على مذهبه. وأما الذي ذهب في طلب بعيره
فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء فأخبر بذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه" ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشفي، وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيء
فإن طيئا أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. قال
ابن إسحاق: بلغني عن الزهري أنه قال لما من رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال:
"لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما
أصابهم". قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله
سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء ثم إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سار حتى كان ببعض الطريق ضلت ناقته فقال زيد
بن اللصيت1 وكان منافقا: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء
وهو لا يدري أين ناقته فقال عليه السلام:
"إن رجلا يقول: -وذكر مقالته-
وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في
الوادي في شعب كذا وكذا قد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني
بها فذهبوا فجاءوه بها ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل
يتخلف عنه الرجل فيقولون تخلف فلان فنقول: دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه
الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم لله منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم اللام وفتح الصاد، وروى "اللصيب" بالموحدة.
ج / 2 ص -257-
وتلوم1
أبو ذر على بعيره. فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج
يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ونزل رسول الله صلى الله
عليه وسلم في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن
هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كن أبا
ذر"، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده". قال ابن إسحاق: فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمد بن كعب
القرظي عن عبد الله بن مسعود قال: لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة
وأصابه بها قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما أن اغسلاني
وكفناني ثم ضماني على قارحة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو
ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا
ذلك به وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق عمار2 فلم يرعهم
إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها وقام إليها الغلام
فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على
دفنه، قال: فاستهل عبد الله يبكي ويقول صدق رسول الله صلى الله عليه
وسلم تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه ثم
حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مسيره إلى تبوك وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت
أخو بني عمرو بن عوف. ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشن2
بن حمير يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: انتظر.
2 أي: معتمرين.
3 في ضبط اسمه خلاف.
ج / 2 ص -258-
تبوك
فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا
والله لكأنكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشن
بن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل منا مائة جلدة وأنا
ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر:
"أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا: فإن أنكروا فقل: بلى
قلتم كذا وكذا"،
فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت: إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله
فيهم:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ} وقال
مخشن بن حمير: والله يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفى
عنه في هذه الآية فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتله شهيدا لا يعلم
بمكانه فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. وذكر ابن عائذ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نزل تبوك في زمان قل ماؤها فيه فاغترف رسول الله
صلى الله عليه وسلم غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت
عينها حتى امتلأت فهي كذلك حتى الساعة. ولما انتهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب إيلة فصالح رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأعطاه الجزية وأتاه أهل جرباء وأدرح فأعطوه الجزية
وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا وهو عندهم وكتب ليحنة
بالمصالحة:
"بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليحنة بن رؤبة وأهل إيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر
لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل
البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيبة لمن
أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من
بر أو بحر".
ج / 2 ص -259-
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة:
قال ابن
إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى
أكيدر دومة وهو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا عليها وكان
نصرانيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد إنك ستجده يصيد البقر
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة وهو
على سطح له ومعه امرأته فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر فقالت له
امرأته هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا
أحد فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له
يقال له: حسان فركب وخرجوا معه بمطاردهم1 فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه وقد كان عليه قباء من
ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل قدومه عليه. وفيه قال عليه السلام: "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا". ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له
دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته. وقال ابن سعد بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا في أربعمائة وعشرين فارسا سرية إلى
أكيدر في رجب سنة تسع بدومة الجندل وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة.
وذكر نحو ما تقدم وقال وأجار خالد أكيدر من القتل حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع مطرد كمنبر رمح قصير يطعن به الوحش.
ج / 2 ص -260-
يأتي
به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل ففعل
وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح فعزل
للنبي صلى الله عليه وسلم صفيا خالصا ثم قسم الغنيمة فأخرجا الخمس وكان
للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قسم ما بقي في أصحابه فصار لكل واحد منهم
خمس فرائض.
وذكر ابن عائذ في هذا الخبر أن أكيدر قال عن البقر والله ما رأيتها قط
جاءتنا إلا البارحة ولقد كنت أضمر لها اليومين والثلاثة ولكن قدر الله.
وذكر موسى بن عقبة اجتماع أكيدر ويحنة عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم فدعاهما إلى الإسلام فأبيا وأقرا بالجزية فقاضاهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم على قضية دومة وعلى تبوك وعلى إيلة وعلى تيماء وكتب
لهما كتابا.
رجع إلى خبر تبوك: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها ثم انصرف قافلا إلى المدينة وكان في
الطريق ماء يخرج من وشل1 ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال
له: وادي المشقق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من سبقنا
إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه"،
قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه فلما أتاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئا فقال:
"من سبقنا إلى هذا الماء؟"،
فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان وفلان فقال:
"أولم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه؟" ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم، ثم نزل، فوضع
يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه2 به ومسحه
بيده ودعا رسول الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوشل الماء القليل ووشل الماء وشلا أي قطر وقيل الوشل حجر أو جبل
يقطر منه الماء.
2 أي: رشه.
ج / 2 ص -261-
صلى
الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو به فانخرق من الماء كما يقول من
سمعه ما إن له حسا كحس الصواعق فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي"، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه. قال: وحدثني محمد بن إبراهيم بن
الحارث التيمي أن عبد الله بن مسعود كان يحدث قال: قمت من جوف الليل
وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فرأيت شعلة من نار
في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها فإذا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات وإذا هم
قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته وأبو بكر وعمر
يدليانه إليه وهو يقول:
"أدنيا إلي أخاكما"، فدلياه إليه فلما هيأه لشقه قال:
"اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه" قال: يقول عبد الله بن مسعود يا ليتني كنت صاحب الحفرة. وقال صلى
الله عليه وسلم مرجعه من غزوة تبوك:
"إن بالمدينة لأقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم"، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: "نعم؛ حبسهم العذر".
ج / 2 ص -263-
أمر مسجد الضرار:
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل في أوان1 بلد بينه وبين
المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه وهو يتجهز إلى تبوك
فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة
المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال:
"إني على جناح سفر وحال شغل"
أو كما قال صلى الله عليه وسلم:
"ولو
قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه".
فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أخا بني العجلان فقال:
"انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه" فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم
فقال مالك بن الدخشم لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل إلى
أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه
أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه. ونزل فيه من القرآن:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا
بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}
إلى آخر القصه. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني
عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن
حاطب من بني أمية بن زيد ومعتب بن قشير وأبو حبيبة بن الأزعر من بني
ضبيعة بن زيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "بذي عوان" وفي أخرى "بذي أوان". عند القاضي عياض الصواب فيه
"ذو أروان".
ج / 2 ص -264-
وعباد
بن حنيف وجارية بن عامر وابناه مجمع وزيد ونبتل بن الحارث وبحزج وبحاد
بن عثمان من بني ضبيعة ووديعة بن ثابت من بني أمية رهط أبي لبابة بن
عبد المنذر. وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين وتخلف الثلاثة الذين
ذكرناهم كعب ومرارة وهلال فأما المنافقون فجعلوا يحلفون له ويعتذرون
فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعذرهم الله ولا رسوله.
وأما الثلاثة الآخرون فروينا من طريق البخاري قال حدثنا يحيى بن بكير
فثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن
مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك كان قائد كعب من بنيه حين عمي قال
سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن غزوة تبوك قال كعب لم أتخلف عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني كنت
تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها إنما رسول الله صلى الله
عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا
على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس
منها. كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت في تلك
الغزاة والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتها في تلك الغزاة
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى
كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد
واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا
أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ -يريد الديوان- قال كعب: فما رجل
يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفي له ما لم ينزل فيه وحي من الله. وغزا
رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال
وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي
أتجهز معهم فأرجع
ج / 2 ص -265-
ولم
أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد
بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض
من جهازي شيئا فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن
فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا فلم يزل
بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم
يقدر لي ذلك فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا1 عليه النفاق أو
رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى بلغ تبوكا فقال وهو جالس في القوم بتبوك:
"ما فعل كعب"، فقال رجل
من بني سلمة يا رسول الله حبسه برذاه ونظره في عطفيه، فقال معاذ بن
جبل: بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول
الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا
حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على
ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه بشيء أبدا فيه كذب
فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من
سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء
المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا
فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم
ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال:
"تعال"، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال:
"ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟"، فقلت: بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن
سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك
اليوم حديث كذب ترضى به علي ليوشكن الله أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ظنينا في دينه متهما بالنفاق.
ج / 2 ص -266-
يسخطك
علي ولئن حدثتك حديث صدق مجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله
ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أما هذا فقد صدق"، فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني
فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا
تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون
قد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك فوالله
ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم: هل لقي هذا
أحد قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت:
من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا
لي رجلين صالحين شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من
تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي
التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في
بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد
الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي:
هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر
فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال
علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي
وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت: يا أبا قتادة
أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت
له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت
الجدار، قال: فبينا أنا أمشي
ج / 2 ص -267-
بسوق
المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة
يقول: من يدلني على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني دفع
إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك
ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأته:
وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون
ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أطلقها
أم ماذا؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت
لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال
كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا
رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه
قال:
"لا ولكن
لا يقربك" قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من
أمره ما كان إلى يومه هذا فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت:
والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت
بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن كلامنا. فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا
على ظهر بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي قد ذكر الله تعالى
ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل
سلح بأعلى صوته1 يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج.
وآذن رسول الله صلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة زيادة "يقول".
ج / 2 ص -268-
الله
عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشرونا
وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا. وسعى ساع من أسلم فأوفى على
ذروة الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني
نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت
ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني
الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك. قال
كعب: حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله
الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما
قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يبرق وجهه من السرور:
"أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال: "لا بل من عند الله" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه
قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن
من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك". قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر فقلت: يا رسول الله إن الله إنما
نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت فوالله ما
أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله
فيما بقيت وأنزل الله تعالى على رسوله عليه السلام:
{لَقَدْ
تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله:
{وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
فوالله ما أنعم
ج / 2 ص -269-
الله
علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى
الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله
تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله تبارك
وتعالى:
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} إلى قوله:
{فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قال كعب وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله
تعالى:
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا
وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في حاشية الأصل: بلغ مقابلة لله الحمد.
ج / 2 ص -271-
أمر وفد ثقيف وإسلامها في شهر رمضان سنة تسع:
قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في
رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف وكان من حديثهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه
قبل أن يقبل إلى المدينة فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتحدث قومه إنهم قاتلوك وعرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة للامتناع الذي كان منهم فقال
عروة يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم -قال ابن هشام: من
أبصارهم- وكان فيهم كذلك محببا مطاعا فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء
أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى
الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله فيزعم
بنو مالك أنه قتله رجل منهم يقال له: أوس بن عوف أخو بني سالم بن مالك،
ويزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب بن مالك يقال له: وهب بن
جابر فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها وشهادة
ساقها الله إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم فادفنوني معهم فدفنوه معهم
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: "إن مثله في قومه لكمثل صاحب
ج / 2 ص -272-
يس في
قومه"، ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا
أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا وأجمعوا
أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كما أرسلوا عروة
فكلموا عبد ياليل بن عمرو بن عمير وكان سن عروة بن مسعود، وعرضوا عليه
ذلك فأبى أن يفعل وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال: لست
فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف
وثلاثة من بني مالك فيكونون ستة فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن
وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب ومن بني مالك عثمان بن
أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان أخا بني يسار وأوس بن عوف أخا بني سالم
ونمير بن خرشة بن ربيعة أخا بني الحارث فخرج بهم فلما دنوا من المدينة
ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة فاشتد ليبشر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بقدومهم عليه فلقيه أبو بكر فقال له: أقسمت عليك لا تسبقني
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه ففعل فدخل أبو
بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه. ثم خرج
المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولما قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد كما يزعمون،
فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم وكان خالد الذي كتبه وكانوا لا
يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه
خالدا حتى أسلموا، وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى رسول الله ذلك
عليهم فما برحوا يسألونه سنة وسنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا
بعد قدومهم فأبى عليهم أن يدعها
ج / 2 ص -273-
شيئا
مسمى وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم
ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام
فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب
والمغيرة بن شعبة فيهدماها وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم
من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"أما كسر
أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة
فيه"، فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم أمر
عليهم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنا وذلك أنه كان أحرصهم على
التفقه في الإسلام وتعلم القرآن فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى
بلادهم راجعين وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن
حرب والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا
الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان فأبى ذلك أبو سفيان عليه. وقال:
ادخل أنت على قومك وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم فلما دخل المغيرة
بن شعبة علاها ليضربها بالمعول وقام قومه دونه بنو معتب خشية أن يرمى
أو يصاب كما أصيب عروة وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها. ويقول أبو
سفيان والمغيرة يضربها بالفأس وأهالك وأهالك فلما هدمها المغيرة وأخذ
مالها وحليها أرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع ومالها من الذهب والفضة
والجذع وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وأن لا
يجامعاهم على شيء أبدا فأسلما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"توليا من
شئتما"، فقالا: نتولى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وخالكما أبا سفيان بن حرب"، فقالا: وخالنا أبا سفيان فلما أسلم أهل الطائف ووجه أبا سفيان
والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو مليح
ج / 2 ص -274-
ابن
عروة أن يقضي عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"نعم"،
فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه وعروة والأسود
أخوان لأب وأم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الأسود مات مشركا
فقال قارب يا رسول الله لكن تصل مسلما ذا قرابة يعني نفسه وإنما الدين
علي وإنما أنا أطلب به فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن
يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية فقضي وكان كتاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم الذي كتبه لهم:
"بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين إن عضا
وج1
وصيده لا يعضد من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وينزع ثيابه فإن تعدى
ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وأن هذا أمر النبي
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"،
وكتب خالد بن سعيد بن العاص بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعداه
أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح الواو وتشديد الجيم اسم الطائف.
ج / 2 ص -275-
حج أبي بكر بالناس في سنة تسع:
قال ابن سعد: قالوا: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر
الصديق على الحج فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة وبعث معه رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة قلدها وأشعرها بيده عليها ناجية بن
جندب الأسلمي وساق أبو بكر خمس بدنات فلما كان بالعرج -وابن عائذ يقول:
بضجنان- لقيه علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
القصواء فقال له أبو بكر: استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الحج؟ قال: لا ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس وأنبذ إلى كل ذي عهد
عهده فمضى أبو بكر فحج بالناس وقرأ علي بن أبي طالب براءة يوم النحر
عند الجمرة ونبذ إلى كل ذي عهد عهده وقال: لا يحج بعد العام مشرك ولا
يطوف بالبيت عريان، ثم رجعا قافلين إلى المدينة. وفيما ذكر ابن عائذ أن
المشركين كانوا يحجون مع المسلمين ويعارضهم المشركون بإعلاء أصواتهم
ليغلطوهم بذلك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ويطوف رجال
منهم عراة ليس على رجل منهم ثوب بالليل يعظمون بذلك الحرمة ويقول بعضهم
أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس عليّ شيء من الدنيا خالطه الظلم فكره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج ذلك العام وأمر الله ببراءة وذكر
تمام الخبر. وفيه فلما كان يوم النحر يوم الحج الأكبر أذن ببراءة من
عهد كل مشرك لم يسلم
ج / 2 ص -276-
أن لا
يدخل المسجد الحرام بعد ذلك العام وبين لهم مدة الله التي ضرب على لسان
نبيه أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا فقالوا: بل الآن لا نبتغي تلك
المدة نبرأ منك ومن ابن عمك إلا من الضرب والطعن فحج الناس عامهم ذلك
فلما رجعوا أرغب الله المشركين فدخلوا في الإسلام طوعا وكرها. وكان
العهد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عاما وخاصا
فالعام أن لا يصد أحد عن البيت جاءه ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم
فانتقض ذلك بسورة براءة والخاص بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين
قبائل من العرب إلى آجال مسماة ولذلك قال:
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ
يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} الآية؛ ذكر معناه ابن إسحاق وذكر تمام الآية من سورة براءة
وتفسيرها. |