غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم

النَّوْع الثَّانِي

مَا اخْتصَّ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُحرمَات وَذَلِكَ تكرمة لَهُ فَإِن أجر ترك الْمحرم أَكثر من أجر ترك الْمَكْرُوه وَفعل الْمَنْدُوب إِذْ الْمحرم فِي المنهيات كالواجب فِي المأمورات وَهِي أَيْضا قِسْمَانِ
الأول الْمُحرمَات فِي غير النِّكَاح

وَفِيه مسَائِل
الأولى الزَّكَاة فَإِنَّهَا حرَام عَلَيْهِ وشاركه فِي ذَلِك ذَوُو الْقُرْبَى بِسَبَبِهِ أَيْضا فالخاصية عَائِدَة إِلَيْهِ فَإِنَّهَا أوساخ النَّاس كَمَا أخرجه مُسلم ومنصبه منزه عَن ذَلِك وَهِي أَيْضا تُعْطى على سَبِيل الترحم المنبئ عَن ذل الْآخِذ
فأبدلوا عَنْهَا بِالْغَنِيمَةِ الْمَأْخُوذَة بطرِيق الْعِزّ والشرف المنبئ عَن عز الْآخِذ وذل الْمَأْخُوذ مِنْهُ

(1/125)


قد اخْتلف عُلَمَاء السّلف أَن الْأَنْبِيَاء تشاركه فِي ذَلِك أم يخْتَص بِهِ دونهم فَقَالَ بِالْأولِ الْحسن الْبَصْرِيّ وَبِالثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة
وَأما صَدَقَة التَّطَوُّع فَفِي تحريهما عَلَيْهِ وعَلى آله أَرْبَعَة أَقْوَال أَحدهَا نعم
وَثَانِيها لَا وَإِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يمْنَع عَنْهَا ترفعا
وأصحها تحرم عَلَيْهِ دونهم
وَرَابِعهَا يحرم عَلَيْهِم الْخَاصَّة دون الْعَامَّة أَي كالمساجد ومياه الْآبَار
وَأبْدى الْمَاوَرْدِيّ وَجها اخْتَارَهُ إِن مَا كَانَ مِنْهَا أَمْوَالًا مُتَقَومَة كَانَت مُحرمَة عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون مَا كَانَ مِنْهَا غير مُتَقَوّم فَتخرج صلواته فِي الْمَسَاجِد وشربه مَاء زَمْزَم وبئر رومة
وَحكى الرَّافِعِيّ هُنَا الْخلاف من وَجْهَيْن فَقَالَ وَمن الْمُحرمَات

(1/126)


الصَّدَقَة فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ على مَا سبق فِي قسم الصَّدقَات وَتبع فِي حِكَايَة الْخلاف كَذَلِك الإِمَام هُنَا والطبري صَاحب الْعدة
وَكَذَا حَكَاهُ الْعجلِيّ فِي شرح الْوَسِيط والجرجاني فِي الشافي
لَكِن الَّذِي سبق من كَلَام الرَّافِعِيّ فِي قسم الصَّدقَات أَن الْخلاف قَولَانِ وَهُوَ الصَّوَاب الْمَذْكُور فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ هُنَا وَفِي الرَّوْضَة أَيْضا
فقد قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي كتاب الْوَقْف إنَّهُمَا منصوصان فِي الْأُم
(فرع) حكى ابْن الصّلاح عَن أمالي أبي الْفرج السَّرخسِيّ أَن فِي صرف الْكَفَّارَة وَالنّذر إِلَى الْهَاشِمِي قَوْلَيْنِ وَالظَّاهِر جريانهما فِي المطلبي أَيْضا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ

(1/127)


الثَّانِيَة كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَأْكُل البصل والثوم والكراث وَمَا لَهُ رَائِحَة كريهة من الْبُقُول
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جَابر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِقدر فِيهِ خضروات من الْبُقُول فَوجدَ لَهَا ريحًا فَسَأَلَ فَأخْبر من الْبُقُول فَقَالَ قربوها إِلَى بعض أَصْحَابه فَلَمَّا رَآهُ كره أكلهَا فَقَالَ (كل فَإِنِّي أُنَاجِي من لَا تناجي)
وَهل كَانَ ذَلِك حَرَامًا عَلَيْهِ فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا وَبِه جزم الْمَاوَرْدِيّ نعم كَيْلا يتَأَذَّى بِهِ الْملك
وأشبههما لَا وَإِنَّمَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمْتَنع مِنْهُ ترفعا
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي أَيُّوب أحرام هُوَ قَالَ (لَا

(1/128)


وَلَكِنِّي أكرهه من أجل رِيحه)
قَالَ فَإِنِّي أكره مَا كرهت
قَالَ وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤْتى - يَعْنِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل بِالْوَحْي -
وَهَذَا صَرِيح فِي نفي التَّحْرِيم وَإِثْبَات الْكَرَاهَة
وَفِي مُسْند أَحْمد وَسنَن أبي دَاوُد بِسَنَد صَالح من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلت عَن أكل البصل فَقَالَت آخر طَعَام أكله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ بصل
وَلما ذكر ابْن الصّلاح حَدِيث أبي أَيُّوب قَالَ إِنَّه يبطل وَجه التَّحْرِيم اعْترض عَلَيْهِ صَاحب الْمطلب وَقَالَ فِيهِ نظر من جِهَة أَن حَدِيث أبي أَيُّوب كَانَ فِي ابْتِدَاء الْهِجْرَة وَالنَّهْي عَن أكل الثوم كَانَ عَام خَيْبَر كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه
قلت لَكِن فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي قصَّة خَيْبَر أَيْضا لكنه لما نهى عَن أكل الشَّجَرَة الخبيثة قَالَ النَّاس حرمت حرمت
فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (يَا أَيهَا النَّاس إِنَّه لَيْسَ بِي تَحْرِيم مَا أحل الله لي وَلكم وَلكنهَا شَجَرَة أكره رِيحهَا)

(1/129)


الثَّالِثَة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ لَا يَأْكُل مُتكئا
فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث أبي جُحَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لرجل عِنْده (أَنا لَا آكل وَأَنا متكئ)
وَفِي شعب الْإِيمَان للبيهقي عَن يحيى بن أبي كثير أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد وأجلس كَمَا يجلس العَبْد فَإِنَّمَا أَنا عبد
وأسنده فِي دلائله وسننه من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَلَفظه (بل أكون عبدا نَبيا)
قَالَ فَمَا أكل بعد تِلْكَ الْكَلِمَة طَعَاما مُتكئا حَتَّى لَقِي الله
وَله طرق أوضحتها فِي تخريجي لأحاديث الرَّافِعِيّ فَرَاجعهَا مِنْهُ
وَهل كَانَ ذَلِك حَرَامًا عَلَيْهِ أَو مَكْرُوها كَمَا فِي حق الْأمة فِيهِ وَجْهَان
أشبههَا - كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ - الثَّانِي
وَجزم بِالْأولِ صَاحب التَّلْخِيص أَي لما فِيهِ من الْكبر وَالْعجب وَعلل الأول بِأَنَّهُ لم يثبت فِيهِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيم
وَاجْتنَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّيْء واختياره غَيره لَا يدل على كَونه محرما عِنْده

(1/130)


إِذا تقرر ذَلِك
فَمَا المُرَاد بالمتكئ فِيهِ خلاف
قَالَ الْخطابِيّ المُرَاد بِهِ هُنَا الْجَالِس الْمُعْتَمد على وطاء تَحْتَهُ وَأقرهُ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه
وَأنْكرهُ عَلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ وَقَالَ المُرَاد بِهِ المائل على جنب
وَأما صَاحب الشِّفَاء ففسره بِمَا قَالَه الْخطابِيّ ثمَّ قَالَ وَلَيْسَ هُوَ الْميل على شقّ عِنْد الْمُحَقِّقين وَكَذَا قَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه الْمُسْتَوْفى فِي أَسمَاء الْمُصْطَفى إِن الاتكاء فِي اللُّغَة هُوَ التَّمَكُّن فِي الْأكل

(1/131)


الرَّابِعَة الْخط وَالشعر قَالَ تَعَالَى {وَلَا تخطه بيمينك} الْآيَة
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الْآيَة
وهما حرامان عَلَيْهِ
قَالَ الرَّافِعِيّ وَإِنَّمَا يتَّجه القَوْل بتحريمهما مِمَّن يَقُول إِنَّه كَانَ يحسنهما
وَقد اخْتلف فِيهِ فَقيل كَانَ يحسنهما وَيمْتَنع مِنْهُمَا وَالأَصَح أَنه كَانَ لَا يحسنهما
قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَلَا يمْتَنع تحريمهما وَإِن لم يحسنهما وَيكون المُرَاد تَحْرِيم التَّوَصُّل إِلَيْهِمَا وَتمسك الْقَائِل بِأَنَّهُ كَانَ يحسن الْكِتَابَة بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كتب هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الله وَيُجَاب بِأَنَّهُ أَمر بهَا وَوَقع فِي أَطْرَاف ابي مَسْعُود الدِّمَشْقِي أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَخذ الْكتاب وَلَيْسَ يحسن أَن يكْتب فَكتب مَكَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّدًا وَكتب هَذَا مَا قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّد
وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي

(1/132)


كتاب التَّنْوِير بعد أَن عزاها إِلَيْهِ وَهِي زِيَادَة مُنكرَة لَيست فِي الصَّحِيحَيْنِ
قَالَ وَذكر عمر بن شبة فِي كتاب الْكتاب لَهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كتب يَوْم الْحُدَيْبِيَة بِيَدِهِ ومحى فِي قَوْله إِلَى أَنه قصد الْكتاب عَالما بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت وَلم يُعلمهُ قبله وَأَن ذَلِك من معجزاته أَن يعلم الْكِتَابَة فِي وقته لِأَن ذَلِك خرق للْعَادَة
وَقَالَ بِهَذَا القَوْل بعض الْمُحدثين مِنْهُم أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ وَأَبُو الْفَتْح النَّيْسَابُورِي وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ وصنف فِي ذَلِك كتابا

(1/133)


وَقيل إِنَّه كتب فِي ذَلِك الْيَوْم غير عَالم بِالْكِتَابَةِ وَلَا مُمَيّز لحروفها لكنه أَخذ الْقَلَم بِيَدِهِ فَخط بِهِ مَا لم يميزه هُوَ فَإِذا هُوَ كتاب ظَاهر بَين على حسب المُرَاد
قَالَ وَذهب إِلَى ذَلِك القَاضِي أَبُو جَعْفَر السمناني الأصولي
قَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد كَانَ من أوكد معجزاته أَن يكْتب من غير تعلم
قَالَ ابْن دحْيَة وَهَذَا كُله لَيْسَ بِشَيْء
وَقد رد على القَاضِي أبي الْوَلِيد وَخَطأَهُ فِي جُزْء كَبِير ابْن مفوز الْعَالم ثمَّ حكى حِكَايَة عَظِيمَة فِي ذَلِك رُؤْيا
قلت وَحَدِيث مجَالد حَدثنِي عون بن عبد الله عَن أَبِيه قَالَ (مَا مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى كتب وَقَرَأَ)
وهاه الْبَيْهَقِيّ أَنه حَدِيث مُنْقَطع وَفِي رُوَاته جمَاعَة من الضُّعَفَاء والمجهولين

(1/134)


قلت وَقد وَقع مثله فِي قَوْله تَعَالَى {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا} الْآيَة
وَمَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرجز كَقَوْلِه
(هَل أَنْت إِلَّا أصْبع دميت ... )
قَالَ الْأَخْفَش إِنَّه لَيْسَ بِشعر وَقيل إِنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يَقْصِدهُ وَإِنَّمَا وَقع مرجزا وَلَا يُسمى شعرًا وَلَا قَائِله شَاعِرًا

(1/135)


قَالَ الْحَرْبِيّ وَلم يبلغنِي أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أنْشد بَيْتا كَامِلا على رويه بل الصَّدْر كَقَوْل لبيد
(أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل ... )
أَو الْعَجز كَقَوْل طرفَة
(ويأتيك بالأخبار من لم تزَود ... )
فَإِن أنْشد بَيْتا كَامِلا غَيره قَالَ يَوْمًا
(أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبيد ... بَين الْأَقْرَع والعيينة)
فَقيل لَهُ إِنَّمَا هُوَ بَين العيينة والأقرع
قَالَ (إِنَّمَا هُوَ بَين الْأَقْرَع والعيينة) فَقَالَ أَبُو بكر أشهد أَنَّك رَسُول الله ثمَّ قَرَأَ {وَمَا علمناه الشّعْر} الْآيَة
وَلَا فرق فِي الْخط بَين الْعَرَبِيّ وَغَيره وَألْحق الْمَاوَرْدِيّ بقول الشّعْر

(1/136)


رِوَايَته وبالكتابة الْقِرَاءَة أَي فِي الْكتاب لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب} الْآيَة
وَعبارَة الْقُضَاعِي فِي عُيُون المعارف إِن من خَصَائِصه أَنه لم يكن لَهُ أَن يَقُول شعرًا وَلَا أَن يتعلمه
(فَائِدَة) جَمِيع كتابات الْأُمَم اثْنَا عشرَة كِتَابَة الْعَرَبيَّة والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية
ذهب مِنْهَا خمس فَلَا تعرف الْيَوْم الحميرية واليونانية

(1/137)


والقبطية والبربرية والأندلسية وَثَلَاث بقيت فِي بلادها وَلَا تعرف فِي بِلَاد الْإِسْلَام الرومية والهندية والصينية
وَبقيت أَربع تسْتَعْمل فِي بِلَاد الْإِسْلَام العبرانية والفارسية والسريانية والعربية
كَذَا قيل وَلَا يَخْلُو بعضه من نزاع
وَاخْتلف فِي أول من خطّ بِالْعَرَبِيَّةِ
قيل إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَالصَّحِيح مرامر بن مرّة من أهل الأنبار
وَقيل إِنَّه من بني مرّة وَمن الأنبار
ثمَّ انتشرت كِتَابَة الْعَرَبيَّة فِي النَّاس
الْخَامِسَة كَانَ يحرم عَلَيْهِ إِذا لبس لأمته أَن يَنْزِعهَا حَتَّى يلقى

(1/138)


الْعَدو وَيُقَاتل
فَفِي سنَن الْبَيْهَقِيّ مُرْسلا (لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ إِذا أَخذ لأمة الْحَرْب وَأذن فِي النَّاس بِالْخرُوجِ إِلَى الْعَدو أَن يرجع حَتَّى يُقَاتل)
ثمَّ قَالَ وَقد كتبناه مَوْصُولا بِإِسْنَاد حسن فَذكره من رِوَايَة ابْن عَبَّاس
وَأخرج الإِمَام أَحْمد من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر
وَذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي بَاب الْمُشَاورَة بِغَيْر إِسْنَاد
وَقَوله فِي الحَدِيث (لأمته) بِالْهَمْزَةِ
كَمَا قَيده صَاحب الْمَشَارِق وَغَيره
وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه (نِهَايَة السول فِي خَصَائِص الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَذَا سمعته وأرويه

(1/139)


قَالَ ابْن فَارس اللأمة مَهْمُوزَة الدرْع
قَالَ كَذَا قيدتها بِالْهَمْز فِي كتاب فقه اللُّغَة إِلَّا أَنه جعله الدرْع التَّامَّة وَكَذَا قيدته أَيْضا فِي كِفَايَة المتحفظ للأجدابي بِالْهَمْز وَجَمعهَا لأم لأم كتمرة وتمر وَيجمع أَيْضا على لؤم بِوَزْن نفر على غير قِيَاس كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِي كَأَنَّهُ جمع لؤمة بِضَم اللَّام واستلأم الرجل لبس اللأمة
ثمَّ مَا جزمنا بِهِ من تَحْرِيم النزع عَلَيْهِ حَتَّى يُقَاتل هُوَ الْمَشْهُور وَعَن رِوَايَة الشَّيْخ أبي عَليّ أَن ذَلِك كَانَ مَكْرُوها لَا محرما قَالَ الإِمَام وَهَذَا بعيد غير موثوق
قَالَ الْبَغَوِيّ وَقد قيل بِنَاء عَلَيْهِ إِنَّه كَانَ لَا يَبْتَدِئ تَطَوّعا إِلَّا لزمَه إِتْمَامه
السَّادِسَة كَانَ يحرم عَلَيْهِ مد الْعين إِلَى مَا متع بِهِ النَّاس لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} الْآيَة
نَقله الرَّافِعِيّ عَن صَاحب

(1/140)


الإفصاح وَرِوَايَة فِي التَّلْخِيص مَجْزُومًا وَلذَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة
السَّابِعَة كَانَ يحرم عَلَيْهِ خَائِنَة الْأَعْين لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما كَانَ يَوْم فتح مَكَّة آمن النَّاس إِلَّا سِتَّة مِنْهُم عبد الله بن أبي سرح فَاخْتَبَأَ عِنْد عُثْمَان

(1/141)


رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس إِلَى الْبيعَة جَاءَ بِهِ حَتَّى أوقفهُ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا نَبِي الله بَايع عبد الله فَرفع رَأسه فَنظر إِلَيْهِ ثَلَاثًا كل ذَلِك يَأْبَى فَبَايعهُ بعد ذَلِك ثمَّ أقبل إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ (أما كَانَ فِيكُم رجل رشيد يقوم إِلَى هَذَا حِين رَآنِي كَفَفْت عَن مبايعته فيقتله)
فَقَالُوا يَا رَسُول الله مَا نَدْرِي مَا فِي نَفسك أَلا أَوْمَأت إِلَيْنَا بِعَيْنِك قَالَ (إِنَّه لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ أَن يكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين)
// رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ // من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص
وَقَالَ الْحَاكِم حَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم

(1/142)


وَاخْتلف فِي المُرَاد بخائنة الْأَعْين كَمَا قَالَ ابْن الصّلاح فِي مشكله فَقيل هِيَ الْإِيمَاء بِالْعينِ وَقيل مسارقة النّظر وَعبارَة الرَّافِعِيّ هِيَ الْإِيمَاء إِلَى مُبَاح من ضرب أَو قتل على خلاف مَا يظْهر ويشعر بِهِ الْحَال
وَإِنَّمَا قيل لَهَا خَائِنَة الْأَعْين تَشْبِيها بالخيانة من حَيْثُ إِنَّه يخفى خلاف مَا يظْهر وَلَا يحرم ذَلِك على غَيره إِلَّا فِي مَحْظُور
وَاسْتدلَّ بِهِ صَاحب التَّلْخِيص على أَنه لم يكن لَهُ أَن يخدع فِي الْحَرْب
وَخَالفهُ الْمُعظم كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ مُعَللا بِأَنَّهُ اشْتهر أَنه كَانَ إِذا أَرَادَ سفرا ورى بِغَيْرِهِ وَهُوَ فِي الصَّحِيح من حَدِيث كَعْب بن مَالك
وَصَحَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (الْحَرْب خدعة) وَهُوَ بِفَتْح الْخَاء لُغَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالْفرق أَن الرَّمْز يزري برامزه بِخِلَاف الْإِبْهَام فِي الْأُمُور الْعِظَام
الثَّامِنَة اخْتلف أَصْحَابنَا هَل كَانَ يحرم عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي على من عَلَيْهِ دين على وَجْهَيْن
وَفِي جَوَازه مَعَ وجود الضَّامِن على طَرِيقين حَكَاهُمَا

(1/143)


أَبُو الْعَبَّاس فِي الجرجانيات فِيمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَنهُ
قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة بعد أَن حكى الْخلاف فِي الثَّانِيَة وَجْهَيْن على خلاف من كَونه طَرِيقين
وَالصَّوَاب الْجَزْم بِجَوَازِهِ مَعَ الضَّامِن ثمَّ نسخ التَّحْرِيم
فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي على من عَلَيْهِ دين وَلَا ضَامِن لَهُ ويوفيه من عِنْده
وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مصرحة بذلك

(1/144)


التَّاسِعَة كَانَ يحرم عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يمن ليستكثر وَمَعْنَاهُ أَن يُعْطي شَيْئا ليَأْخُذ أَكثر مِنْهُ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تمنن تستكثر}
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ ذَلِك خَاص بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا نَقله الرَّافِعِيّ

(1/145)


الْقسم الثَّانِي

الْمُحرمَات الْمُتَعَلّقَة بِالنِّكَاحِ

وَفِيه مسَائِل
الأولى إمْسَاك من كرحت كرهت نِكَاحه ورغبت عَنهُ وَاسْتشْهدَ لَهُ بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن ابْنة الجون لما دخلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودنا مِنْهَا فَقَالَت أعوذ بِاللَّه مِنْك فَقَالَ (لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك)
وَفِي رِوَايَة ابْن سعد علمهَا نساؤه ذَلِك
وَلَكِن إسنادها ضَعِيف

(1/146)


وَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم أَن الْمعلم لَهَا ذَلِك إِمَّا عَائِشَة وَإِمَّا حَفْصَة وَقد أوضحت طرق هَذَا الحَدِيث أحسن إِيضَاح فِي تخريجي لأحاديث الرَّافِعِيّ
وَذكرت فِي اسْم هَذِه المستعيذة سَبْعَة أَقْوَال فاستفد ذَلِك مِنْهُ
فَإِنَّهُ لَا يُوجد لَك ذَلِك فِي غَيره
وَفهم مِمَّا ذَكرْنَاهُ أَنه حرم عَلَيْهِ نِكَاح نِكَاح كل امْرَأَة كرهت صحبته وجدير أَن يكون الْأَمر كَذَلِك لما فِيهِ من الْإِيذَاء وَيشْهد لذَلِك إِيجَاب التَّخْيِير الْمُتَقَدّم
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ إِنَّمَا كَانَ يفارقها تكرما
وَهُوَ غَرِيب كَمَا فِي الرَّافِعِيّ
الثَّانِيَة نِكَاح الْحرَّة الْكِتَابِيَّة حرَام عَلَيْهِ
قَالَ الله تَعَالَى {وأزواجه أمهاتهم} الْآيَة
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سَأَلت رَبِّي عز وَجل أَن لَا أزوج أحدا من أمتى وَلَا أَتزوّج إِلَّا كَانَ معي فِي الْجنَّة فَأَعْطَانِي)
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من

(1/147)


حَدِيث ابْن أبي أوفى وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد
وَفِي الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حُذَيْفَة أَنه قَالَ لامْرَأَته إِن سرك أَن تَكُونِي زَوْجَتي فِي الْجنَّة فَلَا تزوجين بعدِي فَإِن الْمَرْأَة فِي الْجنَّة لآخر أزواجها فِي الدُّنْيَا فَلذَلِك حرم على أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينكحن بعده لِأَنَّهُنَّ أَزوَاجه فِي الْجنَّة
وَلما تكلم القَاضِي حُسَيْن فِي فضل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا على فضل فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ إِن فَاطِمَة قَالَت لَهَا أَنا أفضل مِنْك لِأَنِّي بضعَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أما فِي أُمُور الدُّنْيَا فَالْأَمْر كَمَا تَقُولِينَ لَكِن الْفَخر فِي الْآخِرَة فَأَنا أكون مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دَرَجَته فِي الْجنَّة وَأَنت تكونين مَعَ عَليّ فِي دَرَجَته فِي الْجنَّة فانظري الْفضل بَين الدرجتين فَبَكَتْ فَاطِمَة حِين عجزت عَن الْجَواب فَقَامَتْ عَائِشَة وَقبلت رَأسهَا وَقَالَت لَيْتَني شَعْرَة فِي رَأسك
اذا تقرر ذَلِك فالجنة حرَام على الْكَافرين وَلِأَنَّهَا تكره صحبته وَلِأَنَّهُ أشرف من أَن يضع مَاءَهُ فِي رحم كَافِرَة
وَعبارَة القَاضِي حُسَيْن إِنَّه لَا يجوز لَهُ أَن يفرغ مَاءَهُ فِي رَحمهَا وَلِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي إِبَاحَة النِّسَاء الْهِجْرَة فَقَالَ (اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك)
فَإِذا حظر عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام غير المهاجرة فَأولى أَن يحرم عَلَيْهِ من لم تسلم وَلم تهَاجر

(1/148)


وَخَالف أَبُو إِسْحَاق من أَصْحَابنَا فَقَالَ لَا يحرم عَلَيْهِ نِكَاحهَا كَمَا فِي حق الْأمة وَحكمه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي النِّكَاح أوسع من حكم أمته وَهِي حَلَال لَهُم فَلهُ أولى
وَهَذَا الْقَائِل يَقُول لَو نكحت كِتَابِيَّة لهديت إِلَى الْإِسْلَام كَرَامَة لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
وَفِي الْحَاوِي أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام استمتع بأمته رَيْحَانَة بنت عَمْرو الْيَهُودِيَّة بِملك الْيَمين - وَهِي من سبي بني قُرَيْظَة - بعد أَن عرض عَلَيْهَا الْإِسْلَام فَأَبت ثمَّ أسلمت بعد ذَلِك وَهَذَا دَلِيل للقائل بِجَوَاز التَّسَرِّي بالأمة الْكِتَابِيَّة كَمَا سَيَأْتِي
وعَلى هَذَا الْوَجْه فَهَل عَلَيْهِ تخييرها بَين أَن تسلم فيمسكها أَو تقيم على دينهَا فيفارقها فِيهِ وَجْهَان حَكَاهُمَا

(1/149)


الْمَاوَرْدِيّ
أَحدهمَا نعم لتَكون من زَوْجَاته فِي الْآخِرَة
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ لما عرض على رَيْحَانَة الْإِسْلَام فَأَبت لم يزلها عَن ملكه وَأقَام على الِاسْتِمْتَاع
الثَّالِثَة فِي تسريه بالأمة الْكِتَابِيَّة الْخلاف الْمَذْكُور قبله لَكِن الْأَظْهر هُنَا الْحل كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي الْكَبِير وَبِه أجَاب الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَمَا ذَكرْنَاهُ عَن الْمَاوَرْدِيّ فِي رَيْحَانَة يقويه
الرَّابِعَة اخْتلف أَصْحَابنَا فِي تَحْرِيم الْأمة الْمسلمَة على وَجْهَيْن

(1/150)


أَحدهمَا عَن ابْن أبي هُرَيْرَة لَا تحرم عَلَيْهِ كَمَا فِي حق أمته وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أوسع نِكَاحا من أمته
وأصحهما يحرم لِأَن جَوَازه مَشْرُوط بخوف الْعَنَت وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَعْصُوم وبفقدان طول الْحرَّة ونكاحه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام غير مفتقر إِلَى الْمهْر ابْتِدَاء وانتهاء
وَلِأَن من نكح أمة كَانَ وَلَده رَقِيقا ومنصبه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام منزه عَن عَن ذَلِك
وَبِهَذَا قطع جمَاعَة وَادّعى الْمَاوَرْدِيّ أَنه لَا خلاف فِيهِ
قَالَ الرَّافِعِيّ لَكِن من جوز ذَلِك قَالَ خوف الْعَنَت إِنَّمَا يشْتَرط فِي حق الْأمة وَفِي اشْتِرَاط فقدان الطول تردد
عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد وَغَيره على وَجه الْجَوَاز قَالَ الإِمَام فَإِن شرطناه لم تجز الزِّيَادَة على أمة وَاحِدَة وَإِلَّا جَازَت
الْخَامِسَة إِذا قُلْنَا بِنِكَاح الْأمة فَأَتَت بِولد لم يكن رَقِيقا على الصَّحِيح وَإِن قُلْنَا بجريان الرّقّ على الْعَرَب على قَول وَفِي لُزُوم قيمَة هَذَا الْوَلَد لسَيِّدهَا وَجْهَان

(1/151)


قَالَ أَبُو عَاصِم الْعَبَّادِيّ نعم رِعَايَة لحقه وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن لَا بِخِلَاف ولد الْمَغْرُور لِأَن هُنَاكَ فَاتَ الرّقّ بظنه
وَهنا الرّقّ مُتَعَذر
قَالَ صَاحب الْمطلب وَفِيه نظر مَعَ القَوْل بانعقاده حرا

(1/152)


قَالَ الرَّافِعِيّ ويوافق مَا ذكره القَاضِي وَمَا حَكَاهُ الإِمَام أَنه لَو قدر نِكَاح غرور فِي حَقه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم تلْزمهُ قيمَة الْوَلِيد لِأَنَّهُ - مَعَ الْعلم بِالْحَال - لَا ينْعَقد رَقِيقا كَمَا فِي حق غَيره
قَالَ الإِمَام وَهَذَا هذيان لَا يحل اعْتِقَاده
وطرد الحناطي الْوَجْهَيْنِ فِي أَنه هَل يحل لَهُ نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة
قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة وَالْمذهب التَّحْرِيم يَعْنِي الْقطع بِهِ
قَالَ صَاحب الْمطلب وَفِي إِمْكَان تصور نِكَاح الْغرُور وَوَطْء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ نظر إِذا قُلْنَا إِن وَطْء الشُّبْهَة حرَام مَعَ كَونه لَا إِثْم فِيهِ فَيجوز أَن يصان جَانِبه الْعلي عَن ذَلِك وَيجوز أَن يُقَال الْإِثْم مَفْقُود بِالْإِجْمَاع وَعند الله يصير كَفعل الشَّيْء على النسْيَان وَنَحْوه
قلت والإمساك عَن الْخَوْض فِي هَذَا أسلم وَلَو حذفته لَكَانَ أولى لَكِن تتبعت الْأَصْحَاب فِيهِ

(1/153)