كتاب المغازي للواقدي

ذكر سَرِيّةِ قَتْلِ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ كَانَتْ تَحْتَ يَزِيدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حِصْنٍ الْخَطْمِيّ وَكَانَتْ تُؤْذِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعِيبُ الْإِسْلَامَ وَتُحَرّضُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ شِعْرًا:
فَبِاسْتِ بَنِي مَالِكٍ والنّبِيتِ2 ... وَعَوْفٍ وَبِاسْتِ بَنِي الْخَزْرَجِ
أَطَعْتُمْ أَتَاوِيّ3 مِنْ غَيْرِكُمْ ... فَلَا مِنْ مُرَادٍ وَلَا مُذْحِجِ4
تَرَجّوْنَهُ بَعْدَ قَتْلِ الرّءُوسِ ... كَمَا يُرْتَجَى مَرَقُ الْمُنْضَجِ
قَالَ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ بْنِ خَرَشَةَ بْنِ أُمَيّةَ الْخَطْمِيّ5 حِينَ بَلَغَهُ قولها
ـــــــ
2 في ت: "والبيت".
3 الأتاوي: الغريب. "شرح أبي ذر ص: 458".
4 مراد ومذحج: قبيلتان من قبائل اليمن. "شرح أبي ذر ص: 458".
5 في ت: "عدي بن حارثة"

(1/172)


وَتَحْرِيضُهَا: اللّهُمّ إنّ لَك عَلَيّ نَذْرًا لَئِنْ رَدَدْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ لَأَقْتُلَنّهَا - وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِبَدْرٍ - فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ جَاءَهَا عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ فِي جَوْفِ اللّيْلِ حَتّى دَخَلَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا، وَحَوْلَهَا نَفَرٌ مِنْ وَلَدِهَا نِيَامٌ مِنْهُمْ مَنْ تُرْضِعُهُ فِي صَدْرِهَا ; فَجَسّهَا بِيَدِهِ فَوَجَدَ الصّبِيّ تُرْضِعُهُ فَنَحّاهُ عَنْهَا، ثُمّ وَضَعَ سَيْفَهُ عَلَى صَدْرِهَا حَتّى أَنْفَذَهُ مِنْ ظَهْرِهَا، ثُمّ خَرَجَ حَتّى صَلّى الصّبْحَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ. فَلَمّا انْصَرَفَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى عُمَيْرٍ فَقَالَ أَقَتَلْت بِنْتَ مَرْوَانَ؟ قَالَ نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ. وَخَشِيَ عُمَيْرٌ أَنْ يَكُونَ افْتَاتَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا، فَقَالَ هَلْ عَلَيّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ1 فَإِنّ أَوّلَ مَا سَمِعْت هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عُمَيْرٌ فَالْتَفَتَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ إذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا إلَى رَجُلٍ نَصَرَ اللّهَ وَرَسُولَهُ بِالْغَيْبِ فَانْظُرُوا إلَى عُمَيْرِ بْنِ عَدِيّ . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْأَعْمَى الّذِي تَشَدّدَ2 فِي طَاعَةِ اللّهِ. فَقَالَ لَا تَقُلْ الْأَعْمَى، وَلَكِنّهُ الْبَصِيرُ فَلَمّا رَجَعَ عُمَيْرٌ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ بَنِيهَا فِي جَمَاعَةٍ يَدْفِنُونَهَا، فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ حِينَ رَأَوْهُ مُقْبِلًا مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَقَالُوا: يَا عُمَيْرُ أَنْتَ قَتَلْتهَا؟ فَقَالَ نَعَمْ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمّ لَا تُنْظِرُونِ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُمْ بِأَجْمَعِكُمْ مَا قَالَتْ لَضَرَبْتُكُمْ بِسَيْفِي هَذَا حَتّى أَمُوتَ أَوْ أَقْتُلَكُمْ فَيَوْمَئِذٍ ظهر الإسلام
ـــــــ
1 لا ينتطح فيها عنزان: معناه أن شأن قتلها هينو، ولا يكون فيه طلب ثأر ولا اختلاف. "شرح أبي ذر ص: 458".
2 هكذا في الأصل وفي سائر النسخ: "تشرى".

(1/173)


فِي بَنِي خَطْمَةَ وَكَانَ مِنْهُمْ رِجَالٌ يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِمْ. فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَمْدَحُ عُمَيْرَ بْنَ عَدِيّ أَنْشَدَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ:
بَنِي وَائِلٍ وَبَنِي وَاقِف ... وَخَطْمَةَ دُونَ بَنِي الْخَزْرَج
مَتَى مَا دَعَتْ أُخْتُكُمْ وَيْحَهَا ... بِعَوْلَتِهَا وَالْمَنَايَا تَجِي
فَهَزّتْ فَتًى مَاجِدًا عِرْقُهُ ... كَرِيمَ الْمَدَاخِلِ وَالْمَخْرَجِ
فَضَرّجَهَا1 مِنْ نَجِيعِ الدّمَاءِ2 ... قُبَيْلَ الصّبَاحِ وَلَمْ يَحْرَجِ
فَأَوْرَدَك اللّهُ بَرْدَ الْجِنَا ... نِ جَذْلَانَ فِي نِعْمَةِ الْمَوْلِجِ
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ قَتْلُ عَصْمَاءَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مَرْجِعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا.
ـــــــ
1 ضرجها: لطخها. "شرح أبي ذر ص: 458".
2 النجيع من الدم: ما كان إلى السواد، أو دم الجوف. "القاموس المحيط ج3، ص: 87".

(1/174)


سَرِيّةُ قَتْلِ أَبِي عَفَكٍ
حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ3 وَحَدّثَنَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَشْيَاخِهِ قَالَا: إنّ شَيْخًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَفَكٍ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ بَلَغَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ حِينَ4 قَدِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، كَانَ يُحَرّضُ عَلَى عَدَاوَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَدْرٍ رَجَعَ وَقَدْ ظَفّرَهُ اللّهُ بِمَا ظَفّرَهُ
ـــــــ
3 في ت: "عمارة بن غزمة".
4 في الأصل: "حتى". والتصحيح عن سائر النسخ.

(1/174)


فَحَسَدَهُ وَبَغَى فَقَالَ
قَدْ عِشْت حِينًا وَمَا إنْ أَرَى ... مِنْ النّاسِ دَارًا وَلَا مَجْمَعَا
أَجَمّ1 عُقُولًا وَآتَى إلَى ... مُنِيبٍ2 سِرَاعًا إذَا مَا دَعَا
فَسَلّبَهُمْ أَمْرَهُمْ رَاكِبٌ ... حَرَامًا حَلَالًا لِشَتّى مَعَا
فَلَوْ كَانَ بِالْمُلْكِ صَدّقْتُمُ ... وَبِالنّصْرِ تَابَعْتُمُ تُبّعَا
فَقَالَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْبَكّائِينَ مِنْ بَنِي النّجّارِ عَلَيّ نَذْرٌ أَنْ أَقْتُلَ أَبَا عَفَكٍ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ. فَأَمْهَلَ فَطَلَبَ لَهُ غِرّةً، حَتّى كَانَتْ لَيْلَةٌ صَائِفَةٌ فَنَامَ أَبُو عَفَكٍ بِالْفِنَاءِ فِي الصّيْفِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَأَقْبَلَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَوَضَعَ السّيْفَ عَلَى كَبِدِهِ حَتّى خَشّ فِي الْفِرَاشِ وَصَاحَ عَدُوّ اللّهِ فَثَابَ إلَيْهِ أُنَاسٌ مِمّنْ هُمْ عَلَى قَوْلِهِ فَأَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ وَقَبَرُوهُ.
وَقَالُوا: مَنْ قَتَلَهُ؟ وَاَللّهِ لَوْ نَعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ لَقَتَلْنَاهُ بِهِ فَقَالَتْ النّهْدِيّةُ فِي ذَلِكَ وَكَانَتْ مُسْلِمَةً هَذِهِ الْأَبْيَاتَ
تُكَذّبُ3 دِينَ اللّهِ وَالْمَرْءَ أَحْمَدَا ... لَعَمْرُ الّذِي أَمْنَاكَ4 إذْ بِئْسَ مَا يُمْنَى
حَبَاك حَنِيفٌ آخِرَ اللّيْلِ طَعْنَةً ... أَبَا عَفَكٍ خُذْهَا عَلَى كِبَرِالسّنّ
فَإِنّي وَإِنْ أَعْلَمْ بِقَاتِلِك الّذِي ... أَبَاتَك حِلْسَ اللّيْلِ مِنْ إنْسٍ اوْ جِنّي
فَحَدّثَنِي مَعْنُ بْنُ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ رُقَيْشٍ قَالَ قُتِلَ أَبُو عَفَكٍ فِي شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا.
ـــــــ
1 أجم عقولا: أكثر عقولا. "الصحاح ص: 1889".
2 في ت: "مثبت".
3 في ب، ت: "يكذب".
4 في الأصل ، ث: "لعمري والذي أمناك" وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن إسحاق. "السيرة النبوية ج4، ص: 285". وأمناك: أنساك. "شرح أبي ذر ص: 458".

(1/175)


غَزْوَةُ قَيْنُقَاعَ
غَزْوَةُ قَيْنُقَاعَ يَوْمَ السّبْتِ لِلنّصْفِ مِنْ شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا، حَاصَرَهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ الْحَارِتِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ ابْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ قَالَ لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَادَعَتْهُ يَهُودُ كُلّهَا، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كِتَابًا. وَأَلْحَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ قَوْمٍ بِحُلَفَائِهِمْ وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانًا، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا، فَكَانَ فِيمَا شَرَطَ أَلّا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ عَدُوّا. فَلَمّا أَصَابَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَ بَدْرٍ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ ، بَغَتْ يَهُودُ وَقَطَعَتْ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَهْدِ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ فَجَمَعَهُمْ ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا، فَوَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ قَبْلَ أَنْ يُوقِعَ اللّهُ بِكُمْ مِثْلَ وَقْعَةِ قُرَيْشٍ . فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ لَا يَغُرّنّكَ مَنْ لَقِيت، إنّك قَهَرْت قَوْمًا أَغْمَارًا1. وَإِنّا وَاَللّهِ أَصْحَابُ الْحَرْبِ وَلَئِنْ قَاتَلْتنَا لَتَعْلَمَنّ أَنّك لَمْ تُقَاتِلْ مِثْلَنَا. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إظْهَارِ الْعَدَاوَةِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ جَاءَتْ امْرَأَةٌ نَزِيعَةٌ2 مِنْ الْعَرَبِ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَتْ عِنْدَ صَائِغٍ فِي حُلِيّ لَهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ قَيْنُقَاعَ فَجَلَسَ مِنْ وَرَائِهَا وَلَا تَشْعُرُ فَخَلّ3 دِرْعَهَا إلَى ظَهْرِهَا بِشَوْكَةٍ فَلَمّا قَامَتْ الْمَرْأَةُ بَدَتْ عَوْرَتُهَا فَضَحِكُوا منها. فقام إليه
ـــــــ
1 الأغمار: جمطع غمر بالضم وزالتسكين وهو الجاهل. "النهاية ج3، ص: 170".
2 في الأصل: "ربعة" وما أثبتناه عن سائر النسخ. والنزيعة: المرأة التي تزوج في غير عشيرتها فتننقل. "القاموس المحيط ج3، ص: 88".
3 في ت: "فحل". وخل: جمع بين طرفي الشيء. "النهاية ج1، ص: 318".

(1/176)


رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاتّبَعَهُ فَقَتَلَهُ فَاجْتَمَعَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَتَحَايَشُوا فَقَتَلُوا الرّجُلَ وَنَبَذُوا الْعَهْدَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَارَبُوا، وَتَحَصّنُوا فِي حِصْنِهِمْ. فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ فَكَانُوا أَوّلَ مَنْ سَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْلَى يَهُودَ قَيْنُقَاعَ وَكَانُوا أَوّلَ يَهُودَ حَارَبَتْ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَإِمّا تَخَافَنّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ الْخَائِنِينَ}1 فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: فَحَصَرَهُمْ فِي حِصْنِهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً أَشَدّ الْحِصَارِ حَتّى قَذَفَ اللّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ. قَالُوا: أَفَنَنْزِلُ وَنَنْطَلِقُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا، إلّا عَلَى حُكْمِي " فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِمْ فَرُبِطُوا. قَالَ فَكَانُوا يُكَتّفُونَ كِتَافًا. قَالُوا: وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كِتَافِهِمْ الْمُنْذِرَ بْنَ قُدَامَةَ السّالِمِيّ2. قَالَ فَمَرّ بِهِمْ ابْنُ أُبَيّ وَقَالَ حُلّوهُمْ فَقَالَ الْمُنْذِرُ أَتَحُلّونَ قَوْمًا رَبَطَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاَللّهِ لَا يَحُلّهُمْ رَجُلٌ إلّا ضَرَبْت عُنُقَهُ. فَوَثَبَ ابْنُ أُبَيّ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَنْبِ دِرْعِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَلْفِهِ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَحْسِنْ فِي مَوَالِيّ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضْبَانَ مُتَغَيّرَ الْوَجْهِ، فَقَالَ: " وَيْلَك، أَرْسِلْنِي " فَقَالَ لَا أُرْسِلُك حَتّى تُحْسِنَ فِي مَوَالِيّ أَرْبَعُ مِائَةِ دَارِعٍ وَثَلَثُمِائَةِ حَاسِرٍ مَنَعُونِي يَوْمَ الْحَدَائِقِ وَيَوْمَ بُعَاثٍ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ تريد أن تحصدهم
ـــــــ
1 سورة 8 الأنفال 58
2 هكذا في كل النسخ. وفي ابن سعد: "السلمي". وكذا في البلاذري أيضا. "الطبقات ج2، ص: 19". "أنساب الأشراف ج1، ص: 309".

(1/177)


فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ؟ يَا مُحَمّدُ إنّي امْرُؤٌ أَخْشَى الدّوَائِرَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَلّوهُمْ لَعَنَهُمْ اللّهُ وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ " فَلَمّا تَكَلّمَ ابْنُ أُبَيّ فِيهِمْ تَرَكَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَتْلِ وَأَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُجْلَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ ; فَجَاءَ ابْنُ أُبَيّ بِحُلَفَائِهِ مَعَهُ وَقَدْ أَخَذُوا بِالْخُرُوجِ يُرِيدُ أَنْ يُكَلّمَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرّهُمْ فِي دِيَارِهِمْ فَيَجِدُ عَلَى بَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمَ بْنَ سَاعِدَةَ فَذَهَبَ لِيَدْخُلَ فَرَدّهُ عُوَيْمٌ وَقَالَ لَا تَدْخُلْ حَتّى يُؤْذِنَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك. فَدَفَعَهُ ابْنُ أُبَيّ، فَغَلُظَ عَلَيْهِ عُوَيْمٌ حَتّى جَحَشَ وَجْهَ ابْنِ أُبَيّ الْجِدَارُ فَسَالَ الدّمُ فَتَصَايَحَ حَلْفَاؤُهُ مِنْ يَهُودَ فَقَالُوا: أَبَا الْحُبَابِ لَا نُقِيمُ أَبَدًا بِدَارٍ أَصَابَ وَجْهَك فِيهَا هَذَا، لَا نَقْدِرُ أَنْ نُغَيّرَهُ. فَجَعَلَ ابْنُ أُبَيّ يَصِيحُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَمْسَحُ الدّمَ عَنْ وَجْهِهِ يَقُولُ وَيْحَكُمْ قِرّوا فَجَعَلُوا يَتَصَايَحُونَ لَا نُقِيمُ أَبَدًا بِدَارٍ أَصَابَ وَجْهَك [فِيهَا] هَذَا، لَا نَسْتَطِيعُ لَهُ غَيْرًا وَلَقَدْ كَانُوا أَشْجَعَ يَهُودَ وَقَدْ كَانَ ابْنُ أُبَيّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَصّنُوا، وَزَعَمَ أَنّهُ سَيَدْخُلُ مَعَهُمْ فَخَذَلَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ وَلَزِمُوا حِصْنَهُمْ فَمَا رَمَوْا بِسَهْمٍ وَلَا قَاتَلُوا حَتّى نَزَلُوا عَلَى صُلْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكْمِهِ وَأَمْوَالُهُمْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا نَزَلُوا وَفَتَحُوا حِصْنَهُمْ كَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ هُوَ الّذِي أَجْلَاهُمْ وَقَبَضَ أَمْوَالَهُمْ. وَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سِلَاحِهِمْ ثَلَاثَ قِسِيّ قَوْسٌ تُدْعَى الْكَتُومَ كُسِرَتْ بِأُحُدٍ، وَقَوْسٌ تُدْعَى الرّوْحَاءَ، وَقَوْسٌ تُدْعَى الْبَيْضَاءَ ; وَأَخَذَ دِرْعَيْنِ مِنْ سِلَاحِهِمْ دِرْعًا يُقَالُ لَهَا الصّغْدِيّةُ وَأُخْرَى فِضّةُ وَثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ سَيْفٌ قَلَعِيّ1، وَسَيْفٌ يُقَالُ له بتار2
ـــــــ
1 قال الجوهري: القلعة بالتحريك موضع بالبادية والقلعي سيف منسوب إليه. "الصحاح ص: 1271".
2 في ت: "بيار".

(1/178)


وَسَيْفٌ آخَرُ وَثَلَاثَةَ أَرْمَاحٍ. قَالَ وَوَجَدُوا فِي حُصُونِهِمْ سِلَاحًا كَثِيرًا وَآلَةً لِلصّيَاغَةِ وَكَانُوا صَاغَةً.
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَوَهَبَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعًا مِنْ دُرُوعِهِمْ وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ دِرْعًا لَهُ مَذْكُورَةً يُقَالُ لَهَا السّحْلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَرَضُونَ وَلَا قِرَابٌ - [يَعْنِي مَزَارِعَ]1. وَخَمّسَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ مِنْهُمْ وَقَسّمَ مَا بَقِيَ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ أَنْ يُجْلِيَهُمْ فَجَعَلَتْ قَيْنُقَاعُ تَقُولُ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مِنْ بَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ - وَنَحْنُ مَوَالِيك - فَعَلْت هَذَا بِنَا؟ قَالَ لَهُمْ عُبَادَةُ لَمّا حَارَبْتُمْ جِئْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِنْهُمْ وَمِنْ حِلْفِهِمْ. وَكَانَ ابْنُ أُبَيّ وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْحِلْفِ. فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ: تَبَرّأْت مِنْ حِلْفِ مَوَالِيك؟ مَا هَذِهِ بِيَدِهِمْ عِنْدَك2 فَذَكّرَهُ مَوَاطِنَ قَدْ أَبْلَوْا فِيهَا، فَقَالَ عُبَادَةُ أَبَا الْحُبَابِ تَغَيّرَتْ الْقُلُوبُ وَمَحَا الْإِسْلَامُ الْعُهُودَ أَمَا وَاَللّهِ إنّك لَمُعْصِمٌ بِأَمْرٍ سَتَرَى غِبّهُ غَدًا فَقَالَتْ قَيْنُقَاعُ يَا مُحَمّدُ إنّ لَنَا دَيْنًا فِي النّاسِ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَجّلُوا وَضَعُوا " وَأَخَذَهُمْ عُبَادَةُ بِالرّحِيلِ وَالْإِجْلَاءِ وَطَلَبُوا التّنَفّسَ فَقَالَ لَهُمْ وَلَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَكُمْ ثَلَاثٌ لَا أَزِيدُكُمْ عَلَيْهَا هَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كُنْت أَنَا مَا نَفّسْتُكُمْ. فَلَمّا مَضَتْ ثَلَاثٌ خَرَجَ فِي آثَارِهِمْ حَتّى سَلَكُوا إلَى الشّامِ ، وَهُوَ يَقُولُ الشّرَفَ الْأَبْعَدَ الْأَقْصَى، فَأَقْصَى وَبَلَغَ خَلْفَ ذُبَابٍ، ثم
ـــــــ
1 الزيادة عن ب، ت.
2 في ب: "ما هذه بيد فيهم عنك" وفي ت: "ما هذه بيد عندك" وما أثبتناه هو قراءة ب.

(1/179)


رَجَعَ وَلَحِقُوا بِأَذْرِعَاتٍ1. وَقَدْ سَمِعْنَا فِي إجْلَائِهِمْ حَيْثُ نَقَضُوا الْعَهْدَ غَيْرَ حَدِيثِ ابْنِ كَعْبٍ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ حَسَدُوا فَأَظْهَرُوا الْغِشّ فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ {وَإِمّا تَخَافَنّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ الْخَائِنِينَ }2 قَالَ فَلَمّا فَرَغَ جِبْرِيلُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنَا أَخَافُهُمْ . فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ وَلِرَسُولِ اللّهِ أَمْوَالُهُمْ وَلَهُمْ الذّرّيّةُ وَالنّسَاءُ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ إنّي لَبِالفَلْجَتَيْنِ3 مُقْبِلٌ مِنْ الشّامِ، إذْ لَقِيت بَنِي قَيْنُقَاعَ يَحْمِلُونَ الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ قَدْ حَمَلُوهُمْ عَلَى الْإِبِلِ وَهُمْ يَمْشُونَ فَسَأَلْتهمْ فَقَالُوا: أَجْلَانَا مُحَمّدٌ وَأَخَذَ أَمْوَالَنَا. قُلْت: فَأَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: الشّامَ. قَالَ سَبْرَةُ فَلَمّا نَزَلُوا بِوَادِي الْقُرَى أَقَامُوا شَهْرًا، وَحَمَلْت يَهُودُ وَادِي الْقُرَى مَنْ كَانَ رَاجِلًا مِنْهُمْ وَقَوّوْهُمْ وَسَارُوا إلَى أَذْرِعَاتٍ فَكَانُوا بِهَا، فَمَا كَانَ أَقَلّ بَقَاءَهُمْ.
حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ عَلَى الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ بَدْرَالْقِتَالِ وَبَنِي قَيْنُقَاع وَغَزْوَةَ السّوِيقِ.
ـــــــ
1 أّرعات: بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان. "معجم البلدان ج1، ص: 162".
2 سورة 8 الأنفال 58
3 الفلجة: من أدوية العقيق كما ذكر السمهودي. "وفاء الوفاء ج2، ص: 356".

(1/180)