كتاب المغازي للواقدي غَزْوَةُ
السويق
غَزْوَةُ السّوِيقِ فِي ذِي الْحِجّةِ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ
وَعِشْرِينَ شَهْرًا. خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي
الْحِجّةِ فَغَابَ خَمْسَةَ أَيّامٍ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّه عَنْ الزّهْرِيّ، وَإِسْحَاقُ
بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَا: لَمّا رَجَعَ
الْمُشْرِكُونَ إلَى مَكّةَ مِنْ بَدْرٍ حَرّمَ أَبُو سُفْيَانَ
الدّهْنَ حَتّى يَثْأَرَ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ بِمَنْ أُصِيبَ
مِنْ قَوْمِهِ. فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ - فِي حَدِيثِ
الزّهْرِيّ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ كَعْبٍ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا -
حَتّى سَلَكُوا النّجْدِيّةَ . فَجَاءُوا بَنِي النّضِير لَيْلًا،
فَطَرَقُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ لِيَسْتَخْبِرُوهُ مِنْ أَخْبَارِ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَأَبَى
أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ وَطَرَقُوا سَلّامَ بْنَ مِشْكَمٍ فَفَتَحَ
لَهُمْ فَقَرَاهُمْ وَسَقَى أَبَا سُفْيَانَ خَمْرًا، وَأَخْبَرَهُ
مِنْ أَخْبَارِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ. فَلَمّا كَانَ بِالسّحَرِ خَرَجَ فَمَرّ بِالْعُرَيْضِ1
فَيَجِدُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَ أَجِيرٍ لَهُ فِي حَرْثِهِ
فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَجِيرَهُ وَحَرّقَ بَيْتَيْنِ بِالْعُرَيْضِ
وَحَرّقَ حَرْثًا لَهُمْ وَرَأَى أَنّ يَمِينَهُ قَدْ حُلّتْ ثُمّ
ذَهَبَ هَارِبًا، وَخَافَ الطّلَبَ فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ فَخَرَجُوا فِي
أَثَرِهِ وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ يَتَخَفّفُونَ
فَيُلْقُونَ جُرُبَ السّوِيقِ2 - وَهِيَ عَامّةُ زَادِهِمْ - فَجَعَلَ
الْمُسْلِمُونَ يمرون
ـــــــ
1 العريض: واد بالمدينة. "وفاء الوفاء ج2، ص: 344".
2 السويق: قمح أو شعير يقلى ثم يطحن فيتزود به ملتوتا بماء أو سمن أو
عسل. _شرح على المواهب اللدنية ج1، ص: 553".
(1/181)
بِهَا
فَيَأْخُذُونَهَا، فَسُمّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزْوَةَ السّوِيقِ
لِهَذَا الشّأْنِ حَتّى انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ . فَقَالَ [أَبُو سُفْيَانَ]1،
فِي حَدِيثِ الزّهْرِيّ، هَذِهِ الْأَبْيَاتَ
سَقَانِي فَرَوّانِي كُمَيْتًا مُدَامَةً2 ... عَلَى ظَمَأٍ مِنّي
سَلَامُ بْنُ مِشْكَمِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو يَجُودُ وَدَارُهُ ... بِيَثْرِبَ مَأْوَى كُلّ
أَبْيَضَ خِضْرِمِ3
كَانَ الزّهْرِيّ يُكَنّيهِ أَبَا عَمْرٍو، وَالنّاسُ يُكَنّونَهُ
أَبَا الْحَكَمِ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ كَانَتْ فِي ذِي
الْحِجّةِ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
ـــــــ
1 الزيادة عن ب، ت، ث.
2 الكمكيت والمدامة من أسماء الخمر. "كتاب نظام الغريب ص: 59".
3 الخضرم: الجواد المعطاء. "القاموس المحيط ج4، ص: 108".
(1/182)
غَزْوَةُ
قَرَارَةَ الْكُدْرِ4
إلَى بَنِي سُلَيْم وَغَطَفَانَ لِلنّصْفِ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى
رَأْسِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا ; غَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ عَنْ
يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى قَرَارَةَ الْكُدْرِ ،
وَكَانَ الّذِي هَاجَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ بِهَا
جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ وَسُلَيْمٍ. فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الطّرِيقَ
حَتّى جَاءَ فَرَأَى آثَارَ النّعَمِ وَمَوَارِدَهَا، وَلَمْ يَجِدْ
فِي الْمَجَالِ أَحَدًا ; فَأَرْسَلَ فِي أَعْلَى الْوَادِي نَفَرًا
مِنْ أَصْحَابِهِ وَاسْتَقْبَلَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَطْنِ الوادي،
ـــــــ
4 ويقال قرقرة الكدر، وهي بناحية معدن بني سليم قريب من الأخضية وراء
سد معونة وبين المعدن وبين المدينة ثمانية برد. "الطبقات ج2، ص: 21".
(1/182)
فَوَجَدَ
رِعَاءً فِيهِمْ غُلَامٌ يُقَال لَهُ يَسَارٌ فَسَأَلَهُمْ عَنْ
النّاسِ فَقَالَ يَسَارٌ لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ إنّمَا أُورَدُ1
لِخَمْسٍ وَهَذَا يَوْمٌ رِبْعِيّ; وَالنّاسُ قَدْ ارْتَبَعُوا إلَى
الْمِيَاهِ وَإِنّمَا نَحْنُ عُزّابٌ2 فِي النّعَمِ. فَانْصَرَفَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ظَفِرَ
بِنَعَمٍ فَانْحَدَرَ إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى إذَا صَلّى الصّبْحَ
فَإِذَا هُوَ بِيَسَارٍ فَرَآهُ يُصَلّي. فَأَمَرَ الْقَوْمَ أَنْ
يُقَسّمُوا غَنَائِمَهُمْ فَقَالَ الْقَوْمُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ
أَقْوَى لَنَا أَنْ نَسُوقَ النّعَمَ جَمِيعًا، فَإِنّ فِينَا مَنْ
يَضْعُفُ عَنْ حَظّهِ الّذِي يَصِيرُ إلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَسِمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللّهِ إنْ كَانَ أَنْمَا بِك3 الْعَبْدُ الّذِي رَأَيْته يُصَلّي،
فَنَحْنُ نُعْطِيكَهُ فِي سَهْمِك. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ طِبْتُمْ بِهِ نَفْسًا؟ قَالُوا:
نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَعْتَقَهُ وَارْتَحَلَ النّاسُ فَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَاقْتَسَمُوا
غَنَائِمَهُمْ فَأَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَبْعَةُ أَبْعِرَةٍ
وَكَانَ الْقَوْمُ مِائَتَيْنِ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِيّ، عَنْ حَفْصِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَمّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي أَرْوَى
الدّوْسِيّ قَالَ كُنْت فِي السّرِيّةِ وَكُنْت مِمّنْ يَسُوقُ
النّعَمَ فَلَمّا كُنّا بِصِرَار - عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ
الْمَدِينَةِ - خَمّسَ النّعَمَ وَكَانَ النّعَمُ خَمْسَمِائَةِ
بَعِيرٍ فَأَخْرَجَ خُمُسَهُ وَقَسّمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَهُمْ بَعِيرَانِ بَعِيرَانِ.
حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُوحٍ عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ قَالَ
اسْتَخْلَفَ رَسُولُ الله
ـــــــ
1 في ت: "ورد".
2 عزب الرجل بإبله إذا رعاها بعيدا من الدار التي حل بها الحي. "لسان
العرب ج1، ص: 597".
3 في الأصل: "يا رسول الله إنما بك" وما أثبتناه عن ب، ت، ث.
(1/183)
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ
يُجَمّعُ بِهِمْ وَيَخْطُبُ إلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ يَجْعَلُ
الْمِنْبَرَ عَنْ يَسَارِهِ1.
ـــــــ
1 في الأصل وب: "يجعل المدينة" وما أثبتناه عن ت، ث، وهو أقرب إلى
السياق.
(1/184)
قَتْلُ ابْنِ
الْأَشْرَفِ
وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فِي
رَبِيعٍ الْأَوّلِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
رُومَانَ، وَمَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ فَكَانَ الّذِي
اجْتَمَعُوا لَنَا عَلَيْهِ قَالُوا: إنّ ابْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ
شَاعِرًا وَكَانَ يَهْجُو النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ وَيُحَرّضُ عَلَيْهِمْ كُفّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ
الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ - مِنْهُمْ الْمُسْلِمُونَ
الّذِينَ تَجْمَعُهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ أَهْلُ
الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ وَمِنْهُمْ حُلَفَاءُ لِلْحَيّيْنِ جَمِيعًا
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. فَأَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلَاحَهُمْ
كُلّهُمْ وَمُوَادَعَتَهُمْ وَكَانَ الرّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا
وَأَبُوهُ مُشْرِكًا2. فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَمَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ
نَبِيّهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَفْوِ
عَنْهُمْ وَفِيهِمْ أُنْزِلَ {وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ
ـــــــ
2 في ث: "وبالعكس".
(1/184)
مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 1
وَفِيهِمْ أَنَزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ...} 2 الْآيَةَ.
فَلَمّا أَبَى ابْنُ الْأَشْرَفِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْ أَذَى النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ
بَلَغَ مِنْهُمْ فَلَمّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِالْبِشَارَةِ
مِنْ بَدْرٍ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ
فَرَأَى الْأَسْرَى مُقَرّنِينَ3 كُبّتْ وَذَلّ ثُمّ قَالَ لِقَوْمِهِ
وَيْلَكُمْ وَاَللّهِ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا
الْيَوْمَ هَؤُلَاءِ سَرَاةُ النّاسِ قَدْ قُتِلُوا وَأُسِرُوا، فَمَا
عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: عَدَاوَتُهُ مَا حَيِينَا.
قَالَ وَمَا أَنْتُمْ وَقَدْ وَطِئَ قَوْمَهُ وَأَصَابَهُمْ؟ وَلَكِنّي
أَخْرُجُ إلَى قُرَيْشٍ فَأَحُضّهُمْ وَأَبْكِي قَتْلَاهُمْ
فَلَعَلّهُمْ يَنْتَدِبُونَ فَأَخْرُجَ مَعَهُمْ. فَخَرَجَ حَتّى
قَدِمَ مَكّةَ وَوَضَعَ رَحْلَهُ عِنْدَ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ
ضُبَيْرَةَ السّهْمِيّ وَتَحْتَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي
الْعِيصِ، فَجَعَلَ يَرْثِي قُرَيْشًا ويقول:
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ
تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ4
قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِ ... لَا تَبْعَدُوا إنّ
الْمُلُوكَ تُصَرّعُ
وَيَقُولُ أَقْوَامٌ أُذَلّ بِسُخْطِهِمْ5 ... إنّ ابْنَ أَشْرَفَ ظَلّ
كَعْبًا يَجْزَعُ
صَدَقُوا فَلَيْتَ الْأَرْضَ سَاعَةَ قُتّلُوا ... ظَلّتْ تَسِيخُ
بِأَهْلِهَا6 وَتُصَدّعُ
كَمْ قَدْ أُصِيبَ بِهَا مِنَ ابْيَضَ مَاجِدٍ ... ذِي بَهْجَةٍ
يَأْوِي إلَيْهِ الضّيّعُ7
ـــــــ
1 سورة 4 آل عمران 186
2 سورة 2 البقرة 109
3 قرن الشيء بالشيء: شده إليه. وقرنت الأسارى بالحبال شدد للكثرة.
"لسان العرب ج13، ص: 335".
4 في ح: "يستهل ويدمع".
5 في ح: "بعزهم".
6 ساخت الأرض بهم: انخسفت. "القاموس المحيط ج1، ص: 262".
7 الضيع: جمع الضائع وهو الجائع. "لسان العرب ج8، ص: 232".
(1/185)
طَلْقِ
الْيَدَيْنِ إذَا الْكَوَاكِبُ أَخْلَفَتْ1 ... حَمّالِ أَثْقَالٍ
يَسُودُ وَيَرْبَعُ2
نُبّئْت أَنّ بَنِي الْمُغِيرَةِ كُلّهُمْ ... خَشَعُوا لِقَتْلِ أَبِي
الْحَكِيمِ وَجُدّعُوا3
وَابْنَا رَبِيعَةَ عِنْدَهُ وَمُنَبّهٌ ... هَلْ نَالَ مِثْلَ
الْمُهْلَكِينَ التّبّعُ
فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ، يَقُولُ:
أَبَكَى لِكَعْبٍ4 ثُمّ عُلّ بِعَبْرَةٍ ... مِنْهُ وَعَاشَ مُجَدّعًا
لَا يَسْمَعُ
وَلَقَدْ رَأَيْت بِبَطْنِ بَدْرٍ مِنْهُمُ ... قَتْلَى تَسُحّ لَهَا
الْعُيُونُ وَتَدْمَعُ
فَابْكِي فَقَدْ أَبْكَيْتِ عَبْدًا رَاضِعًا ... شِبْهَ الْكُلَيْبِ
لِلْكُلَيْبَةِ يَتْبَعُ
وَلَقَدْ شَفَى الرّحْمَنُ مِنْهُمْ سَيّدًا ... وَأَحَانَ5 قَوْمًا
قَاتَلُوهُ وَصُرّعُوا
وَنَجَا وَأَفْلَتْ مِنْهُمْ مَنْ قَلْبُهُ ... شَغَفٌ6 يَظَلّ
لِخَوْفِهِ يَتَصَدّعُ
وَنَجَا وَأَفْلَتْ مِنْهُمْ مُتَسَرّعًا ... فَلّ فَلِيلٌ هَارِبٌ
يَتَهَزّعُ
وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسّانَ
فَأَخْبَرَهُ بِنُزُولِ كَعْبٍ عَلَى مَنْ نَزَلَ فَقَالَ حَسّانُ:
أَلَا أَبْلِغُوا7 عَنّي أَسِيدًا رِسَالَةً ... فَخَالُك عَبْدٌ
بِالسّرَابِ مُجَرّبُ
ـــــــ
1 أخلفت الكواكب: أخلت فلم يكن فيها مطر. "القاموس المحيط ج3، ص: 138".
2 يربع: يأخذ الربع وكان رئيس القوم في الجاهلية يأخذ الربع مما كانوا
يغنمون. "شرح أبي ذر ص: 212".
3 في الأصل: "وجزعوا" وما أثبتناه عن سائر الننسخ وعن ابن إسحاق.
"مالسيرة النبوية ج3، ص: 56". وجدعوا: قطعت آنافهم وأراد هنا ذهاب
عزهم. "شرح أبي ذر ص: 212".
4 في كل النسخ: "بكت عين كعب" والمثبت من ابن إسحاق. "السيرة النبوية
ج3، ص: 56". وانظر الكلام عن وزن الأبيات السهيلي. "الروض الأنف ج2، ص:
123".
5 في الأصل: "وأخان". وما أثبتناه عن سائر النسخ, وأحان: أهلك.
"القاموس المحيط ج4، ص: 218".
6 في ب: "شعف". قال أبو ذر: ومن رواه بالعين فمعناه نحترق ملتهب، ومن
رواه بالغين المعجمة فمعناه بلغ الحزن إلى شغاف قلبه والشغاف حجاب
القلب. "شرح أبي ذر ص: 213".
7 في ب، ت، ث: "أبلغا".
(1/186)
لَعَمْرُك مَا
أَوْفَى أَسِيدٌ بِجَارِهِ1 ... وَلَا خَالِدٌ وَلَا الْمُفَاضَةُ2
زَيْنَبُ
وَعَتّابُ عَبْدٌ غَيْرُ مُوفٍ بِذِمّةٍ ... كَذُوبٌ شَئُونُ الرّأْسِ
قِرْدٌ مُدَرّبُ
فَلَمّا بَلَغَهَا3 هِجَاؤُهُ نَبَذَتْ رَحْلَهُ وَقَالَتْ مَا لَنَا
وَلِهَذَا الْيَهُودِيّ؟ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ بِنَا حَسّانُ؟
فَتَحَوّلَ فَكُلّمَا تَحَوّلَ عِنْدَ قَوْمٍ دَعَا رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسّانَ فَقَالَ ابْنُ الْأَشْرَفِ
نَزَلَ عَلَى فُلَانٍ . فَلَا يَزَالُ يَهْجُوهُمْ حَتّى نُبِذَ
رَحْلُهُ فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مَأْوًى قَدِمَ الْمَدِينَةَ . فَلَمّا
بَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدُومُ ابْنِ
الْأَشْرَفِ قَالَ: " اللّهُمّ اكْفِنِي ابْنَ الْأَشْرَفِ بِمَا شِئْت
فِي إعلانه الشر وقوله الأشعا ر". وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لِي بِابْنِ الْأَشْرَفِ فَقَدْ
آذَانِي "؟ فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا بِهِ يَا رَسُولَ
اللّهِ وَأَنَا أَقْتُلُهُ. قَالَ فَافْعَلْ فَمَكَثَ مُحَمّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ أَيّامًا لَا يَأْكُلُ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا مُحَمّدُ، تَرَكْت
الطّعَامَ وَالشّرَابَ "؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ قُلْت لَك قَوْلًا
فَلَا أَدْرِي أَفِي لَك بِهِ أَمْ لَا. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَيْك الْجَهْدُ ". وَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شَاوِرْ سَعْدَ بْنَ
مُعَاذ فِي أَمْرِهِ ". فَاجْتَمَعَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَة وَنَفَرٌ
مِنْ الْأَوْسِ مِنْهُمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ
سِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْس وَأَبُو عَبْسِ بْنُ
جَبْرٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ نَحْنُ نَقْتُلُهُ فَأْذَنْ
لَنَا فَلْنَقُلْ4 فَإِنّهُ لَا بُدّ لَنَا مِنْهُ. قَالَ قُولُوا
فَخَرَجَ أَبُو نَائِلَةَ إلَيْهِ فَلَمّا رَآهُ كَعْبٌ أَنْكَرَ
شَأْنَهُ وَكَادَ يُذْعَرُ وَخَافَ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ كمين
ـــــــ
1 في ت: "بجارة".
2 في الأصل: "المعاضة" وما أثبتناه عن سائر النسخ. والمفاضة من النساء
الضخمة البطن. "القاموس المحيط ج2، ص: 341".
3 الضمير يرجع إلى عاتكة بنت أسيد.
4 في الأصل: "فلنقتله" وفي ت: "فليقل" وما أثبتناه عن ب، ث.
(1/187)
فَقَالَ أَبُو
نَائِلَةَ حَدَثَتْ لَنَا حَاجَةٌ إلَيْك. قَالَ وَهُوَ فِي نَادِي
قَوْمِهِ وَجَمَاعَتِهِمْ اُدْنُ إلَيّ فَخَبّرْنِي بِحَاجَتِك. وَهُوَ
مُتَغَيّرُ اللّوْنِ مَرْعُوبٌ - فَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ وَمُحَمّدُ
بْنُ مَسْلَمَةَ أَخَوَيْهِ مِنْ الرّضَاعَةِ - فَتَحَدّثَا سَاعَةً
وَتَنَاشَدَا الْأَشْعَارَ. وَانْبَسَطَ كَعْبٌ وَهُوَ يَقُولُ بَيْنَ
ذَلِكَ حَاجَتُك وَأَبُو نَائِلَةَ يُنَاشِدُهُ الشّعْرَ - وَكَانَ
أَبُو نَائِلَةَ يَقُولُ الشّعْرَ - فَقَالَ كَعْبٌ حَاجَتُك، لَعَلّك
أَنْ تُحِبّ أَنْ يَقُومَ مَنْ عِنْدَنَا؟ فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ
الْقَوْمُ قَامُوا. قَالَ أَبُو نَائِلَةَ إنّي كَرِهْت أَنْ يَسْمَعَ
الْقَوْمُ ذَرْوَ1 كَلَامِنَا، فَيَظُنّونَ كَانَ قُدُومُ هَذَا
الرّجُلِ عَلَيْنَا مِنْ الْبَلَاءِ وَحَارَبَتْنَا الْعَرَبُ
وَرَمَتْنَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَتَقَطّعَتْ السّبُلُ عَنّا حَتّى
جَهِدَتْ الْأَنْفُسُ وَضَاعَ الْعِيَالُ أَخَذَنَا بِالصّدَقَةِ وَلَا
نَجِدُ مَا نَأْكُلُ. فَقَالَ كَعْبٌ قَدْ وَاَللّهِ كُنْت أُحَدّثُك
بِهَذَا يَا ابْنَ سَلَامَةَ أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ وَمَعِي رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي عَلَى مِثْلِ
رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْت أَنْ آتِيَك بِهِمْ فَنَبْتَاعَ مِنْك
طَعَامًا أَوْ تَمْرًا وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ إلَيْنَا، وَنَرْهَنُك
مَا يَكُونُ لَك فِيهِ ثِقَةٌ. قَالَ كَعْبٌ أَمَا إنّ رِفَافِي
تَقْصِفُ تَمْرًا، مِنْ عَجْوَةٍ تَغِيبُ فِيهَا الضّرْسُ أَمَا
وَاَللّهِ مَا كُنْت أُحِبّ يَا أَبَا نَائِلَةَ أَنْ أَرَى هَذِهِ
الْخَصَاصَةَ مِنْك، وَإِنْ كُنْت مِنْ أَكْرَمِ النّاسِ عَلَيّ أَنْتَ
أَخِي، نَازَعْتُك الثّدْيَ قَالَ سِلْكَانُ اُكْتُمْ عَنّا مَا
حَدّثْتُك مِنْ ذِكْرِ مُحَمّدٍ. قَالَ كَعْبٌ لَا أَذْكُرُ مِنْهُ
حَرْفًا. ثُمّ قَالَ كَعْبٌ يَا أَبَا نَائِلَةَ اُصْدُقْنِي ذَاتَ
نَفْسِك ; مَا الّذِي تُرِيدُونَ فِي أَمْرِهِ؟ قَالَ خِذْلَانَهُ
وَالتّنَحّيَ عَنْهُ. قَالَ سَرَرْتنِي يَا أَبَا نَائِلَةَ فَمَاذَا
تَرْهَنُونَنِي، أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ؟ فَقَالَ لَقَدْ أَرَدْت
أَنْ تَفْضَحَنَا وَتُظْهِرَ أَمْرَنَا وَلَكِنّا نَرْهَنُك مِنْ
الْحَلْقَةِ مَا تَرْضَى بِهِ. قَالَ كَعْبٌ إنّ فِي الْحَلْقَةِ
لَوَفَاءً. وَإِنّمَا يَقُولُ ذَلِكَ سِلْكَانُ لِئَلّا يُنْكِرَهُمْ
إذَا جَاءُوا بالسلاح.
ـــــــ
1 ذرو القول: طرفه. "أساس البلاغة ص: 297".
(1/188)
فَخَرَجَ أَبُو
نَائِلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى مِيعَادٍ فَأَتَى أَصْحَابَهُ
فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوهُ إذَا أَمْسَى
لِمِيعَادِهِ. ثُمّ أَتَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِشَاءً فَأَخْبَرُوهُ فَمَشَى مَعَهُمْ حَتّى أَتَى
الْبَقِيعَ1 ثُمّ وَجّهَهُمْ ثُمّ قَالَ امْضُوا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ
وَعَوْنِهِ وَيُقَال: وَجّهَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَلّوْا الْعِشَاءَ وَفِي
لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ مِثْلِ النّهَارِ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
قَالَ فَمَضَوْا حَتّى أَتَوْا ابْنَ الْأَشْرَفِ فَلَمّا انْتَهَوْا
إلَى حِصْنِهِ هَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ وَكَانَ ابْنُ الْأَشْرَفِ
حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ فَوَثَبَ فَأَخَذَتْ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَةِ
مِلْحَفَتِهِ وَقَالَتْ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ إنّك رَجُلٌ مُحَارَبٌ وَلَا
يَنْزِلُ مِثْلُك فِي هَذِهِ السّاعَةِ. فَقَالَ مِيعَادٌ إنّمَا هُوَ
أَخِي أَبُو نَائِلَةَ وَاَللّهِ لَوْ وَجَدَنِي نَائِمًا مَا
أَيْقَظَنِي. ثُمّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْمِلْحَفَةَ وَهُوَ يَقُولُ لَوْ
دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ أَجَابَ. ثُمّ نَزَلَ إلَيْهِمْ
فَحَيّاهُمْ ثُمّ جَلَسُوا فَتَحَدّثُوا سَاعَةً حَتّى انْبَسَطَ
إلَيْهِمْ ثُمّ قَالُوا لَهُ يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ هَلْ لَك أَنْ
تَتَمَشّى إلَى شَرْجِ الْعَجُوزِ2 فَنَتَحَدّثَ فِيهِ بَقِيّةَ
لَيْلَتِنَا؟ قَالَ فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ حَتّى وَجّهُوا قِبَلَ
الشّرْجِ فَأَدْخَلَ أَبُو نَائِلَةَ يَدَهُ فِي رَأْسِ كَعْبٍ ثُمّ
قَالَ وَيْحَك، مَا أَطْيَبَ عِطْرِك هَذَا يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ
وَإِنّمَا كَانَ كَعْبٌ يَدّهِنُ بِالْمِسْكِ الْفَتِيتِ بِالْمَاءِ
وَالْعَنْبَرِ حَتّى يَتَلَبّدَ فِي صُدْغَيْهِ وَكَانَ جَعْدًا
جَمِيلًا. ثُمّ مَشَى سَاعَةً فَعَادَ بِمِثْلِهَا حَتّى اطْمَأَنّ
إلَيْهِ وَسُلْسِلَتْ يَدَاهُ فِي شَعْرِهِ وَأَخَذَ بِقُرُونِ
رَأْسِهِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ اُقْتُلُوا عَدُوّ اللّهِ فَضَرَبُوهُ
بِأَسْيَافِهِمْ فَالْتَفّتْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، وَرَدّ
بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَصِقَ بِأَبِي نَائِلَةَ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ فذكرت مغولا3
ـــــــ
1 أي بقيع الغرقد، وهو مقبرة المدينة. "وفاء الوفاء ج2 ص: 265".
2 شرج العجوز: موضع قرب المدينة كما ذكر السمهودي. "وفاء الوفاء ص:
328".
3 المغول: حديدة دقيقة لها حد ماض. "شرح على المواهب اللدنية ج2، ص:
15".
(1/189)
مَعِي كَانَ
فِي سَيْفِي فَانْتَزَعْته فَوَضَعْته فِي سُرّتِهِ ثُمّ تَحَامَلْت
عَلَيْهِ فَقَطَطْته حَتّى انْتَهَى إلَى عَانَتِهِ فَصَاحَ عَدُوّ
اللّهِ صَيْحَةً مَا بَقِيَ أُطْمٌ مِنْ آطَامِ يَهُودَ إلّا قَدْ
أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ. فَقَالَ ابْنُ سُنَيْنَةَ يَهُودِيّ مِنْ
يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ إنّي
لَأَجِدُ رِيحَ دَمٍ بِيَثْرِبَ مَسْفُوحٍ. وَقَدْ كَانَ أَصَابَ
بَعْضُ الْقَوْمِ الْحَارِثَ بْنَ أَوْسٍ بِسَيْفِهِ وَهُمْ
يَضْرِبُونَ كَعْبًا، فَكَلَمَهُ فِي رِجْلِهِ. فَلَمّا فَرَغُوا
احْتَزّوا رَأْسَهُ ثُمّ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ ثُمّ خَرَجُوا يَشْتَدّونَ
وَهُمْ يَخَافُونَ مِنْ يَهُودَ الْأَرْصَادَ حَتّى أَخَذُوا عَلَى
بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ ثُمّ عَلَى قُرَيْظَةَ وَإِنّ نِيرَانَهُمْ
فِي الْآطَامِ لَعَالِيَةٌ ثُمّ عَلَى بُعَاثٍ1 حَتّى إذَا كَانَ
بِحَرّةِ الْعُرَيْضِ نَزَفَ الْحَارِثُ الدّمَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ
فَنَادَاهُمْ أَقْرِئُوا رَسُولَ اللّهِ مِنّي السّلَامَ فَعَطَفُوا
عَلَيْهِ فَاحْتَمَلُوهُ حَتّى أَتَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا بَلَغُوا بَقِيعَ الْغَرْقَد كَبّرُوا.
وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ
اللّيْلَةَ يُصَلّي، فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَهُمْ بِالْبَقِيعِ كَبّرَ وَعَرَفَ أَنْ
قَدْ قَتَلُوهُ. ثُمّ انْتَهَوْا يَعْدُونَ حَتّى وَجَدُوا رَسُولَ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَفْلَحَتْ الْوُجُوهُ فَقَالُوا: وَوَجْهُك يَا
رَسُولَ اللّهِ وَرَمَوْا بِرَأْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللّهَ
عَلَى قَتْلِهِ. ثُمّ أَتَوْا بِصَاحِبِهِمْ الْحَارِثِ فَتَفَلَ فِي
جُرْحِهِ فَلَمْ يُؤْذِهِ فَقَالَ فِي ذَلِك عباد بن بشر:
صَرَخْت بِهِ فَلَمْ يَجْفِلْ2 لِصَوْتِي ... وَأَوْفَى3 طَالِعًا مِنْ
فَوْقِ قَصْرِ
فَعُدْت فَقَالَ مَنْ هَذَا الْمُنَادِي ... فَقُلْت أَخُوك عَبّادُ
بْنُ بِشْرِ
ـــــــ
1 قال السمهودي: بعاث من ضواحي المدينة، ويقال حصن، ويقال مزرعة عند
بني قريظة على ميلين من المدينة، ويقال موضع عند أعلى القرورا. "وفاء
الوفاء ج2 ص: 262".
2 في ت: "يحفل" وجفل: أسرع. "الصحاح ص: 1657".
3 في الأصل: "ووافى" وما أثبتناه عن سائر النسخ وعن البلاذري. "أنساب
الأشراف ج1، ص: 374".
(1/190)
فَقَالَ
مُحَمّدٌ أَسْرِعْ إلَيْنَا ... فَقَدْ جِئْنَا لِتَشْكُرَنَا1
وَتَقْرِي
وَتَرْفِدَنَا فَقَدْ جِئْنَا سِغَابًا ... بِنِصْفِ الْوَسْقِ2 مِنْ
حَبّ وَتَمْرٍ
وَهَذِي دِرْعُنَا رَهْنًا فَخُذْهَا ... لِشَهْرٍ إنْ وَفّى أَوْ
نِصْفِ شَهْرِ
فَقَالَ مَعَاشِرٌ سَغِبُوا وَجَاعُوا ... لَقَدْ عَدِمُوا الْغِنَى
مِنْ غَيْرِ فَقْرِ
وَأَقْبَلَ نَحْوَنَا يَهْوِي سَرِيعًا ... وَقَالَ لَنَا لَقَدْ
جِئْتُمْ لِأَمْرِ
وَفِي أَيْمَانِنَا بِيضٌ حِدَادٌ ... مُجَرّبَةٌ بِهَا الْكُفّارُ
نَفْرِي
فَعَانَقَهُ ابْنُ مَسْلَمَةَ الْمُرَادِي3 ... بِهِ الْكَفّانِ
كَاللّيْثِ الْهِزَبْرِ
وَشَدّ بِسَيْفِهِ صَلْتًا عَلَيْهِ ... فَقَطّرَهُ أَبُو عَبْسِ بْنُ
جَبْرِ
وَصَلْت وَصَاحِبَايَ فَكَانَ لَمّا ... قَتَلْنَاهُ الْخَبِيثَ
كَذِبْحِ عِتْرِ4
وَمَرّ بِرَأْسِهِ نَفَرٌ كِرَامٌ ... هُمُ نَاهُوك مِنْ صِدْقٍ وَبِرّ
وَكَانَ اللّهُ سَادِسَنَا فَأُبْنَا ... بِأَفْضَلِ نِعْمَةٍ وَأَعَزّ
نَصْرِ
قَالَ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ أَنَا رَأَيْت قَائِلَ هَذَا الشّعْرِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ لَوْلَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ
لَظَنَنْت أَنّهَا ثَبْتٌ.
قَالُوا : فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ اللّيْلَةِ الّتِي قُتِلَ فِيهَا ابْنُ الْأَشْرَفِ
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ الْيَهُودِ فَاقْتُلُوهُ . فَخَافَتْ
الْيَهُودُ فَلَمْ يَطْلُعْ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ وَلَمْ
يَنْطِقُوا، وَخَافُوا أَنْ يُبَيّتُوا كَمَا بُيّتَ ابْنُ
الْأَشْرَفِ.
وَكَانَ ابْنُ سُنَيْنَةَ مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ، وَكَانَ
حَلِيفًا لحويصة بن مسعود
ـــــــ
1 على هاممش ت: "تشكرنا: تمنحنا الشكر العطية".
2 الوسق: ستون صاعا أو حمل بعير. "القاموس المحيط ج3، ص: 289".
3 رادى الرجل عن قومه إذا ناضل عنهم. "أساس البلاغة ص: 335".
4 العتر: العتيرة، وهي شاة كانوا يذبحونها في رجب لآلهتهم "الصحاح ص:
736".
(1/191)
قَدْ أَسْلَمَ
; فَعَدَا مُحَيّصَةُ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ
حُوَيّصَةُ يَضْرِبُ مُحَيّصَةَ وَكَانَ أَسَنّ مِنْهُ يَقُولُ أَيْ
عَدُوّ اللّهِ أَقَتَلْته؟ أَمَا وَاَللّهِ لَرُبّ شَحْمٍ فِي بَطْنِك
مِنْ مَالِهِ فَقَالَ مُحَيّصَةُ وَاَللّهِ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِك
الّذِي أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتُك. قَالَ وَاَللّهِ لَوْ
أَمَرَك مُحَمّدٌ أَنْ تَقْتُلَنِي لَقَتَلْتنِي؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ
حُوَيّصَةُ وَاَللّهِ إنّ دِينًا يَبْلُغُ هَذَا لَدِينٌ مُعْجِبٌ.
فَأَسْلَمَ حُوَيّصَةُ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ مُحَيّصَةُ -وَهِيَ ثَبْتٌ
لَمْ أَرَ أَحَدًا يَدْفَعُهَا – يَقُولُ:
يَلُومُ ابْنُ أُمّي لَوْ أُمِرْت بِقَتْلِهِ ... لَطَبّقْت ذِفْرَاهُ1
بِأَبْيَضَ قَاضِبِ
حُسَامٍ كَلَوْنِ الْمِلْحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ ... مَتَى مَا
تُصَوّبُهُ فَلَيْسَ بِكَاذِبِ
وَمَا سَرّنِي أَنّي قَتَلْتُك طَائِعًا ... وَلَوْ أَنّ لِي مَا
بَيْنَ بُصْرَى2 وَمَأْرِبِ
فَفَزِعَتْ الْيَهُودُ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءُوا
إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحُوا
فَقَالُوا: قَدْ طُرِقَ صَاحِبُنَا اللّيْلَةَ وَهُوَ سَيّدٌ مِنْ
سَادَاتِنَا قُتِلَ غِيلَةً بِلَا جُرْمٍ وَلَا حَدَثٍ عَلِمْنَاهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّهُ لَوْ
قَرّ كَمَا قَرّ غَيْرُهُ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ مَا
اُغْتِيلَ وَلَكِنّهُ نَالَ مِنّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشّعْرِ
وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إلّا كَانَ لَهُ السّيْفُ3 .
وَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا يَنْتَهُونَ إلَى مَا فِيهِ
فَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا تَحْتَ الْعِذْقِ فِي دَارِ
رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. فَحَذِرَتْ الْيَهُودُ وَخَافَتْ وَذَلّتْ
مِنْ يَوْمِ قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ.
فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ.: قَالَ
مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُ ابْنُ
يَامِينَ النّضْرِيّ: كَيْفَ كَانَ قَتْلُ ابن الأشرف؟
ـــــــ
1 لطبقت: معناه لقطعت. والذفرى: عظم ناتئ خلف الأّذن. "شرح أبي ذر ص:
216".
2 في الأصل: "رضوى". وما أثبتناه عن سائر النسخ وعن ابن إسحاق. "السيرة
النبوية ج3، ص: 63".
3 في ب، ت: "إلا كان السيف"
(1/192)
قَالَ ابْنُ
يَامِينَ كَانَ غَدْرًا. وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَالِسٌ شَيْخٌ
كَبِيرٌ فَقَالَ يَا مَرْوَانُ أَيَغْدِرُ1 رَسُولُ اللّهِ عِنْدَك؟
وَاَللّهِ مَا قَتَلْنَاهُ إلّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللّهِ لَا يُؤْوِينِي وَإِيّاكَ
سَقْفُ بَيْتٍ إلّا الْمَسْجِدَ. وَأَمّا أَنْتَ يَا ابْنَ يَامِينَ -
فَلِلّهِ عَلَيّ إنْ أَفْلَتّ وَقَدَرْت2 عَلَيْك وَفِي يَدِي سَيْفٌ
إلّا ضَرَبْت بِهِ رَأْسَك فَكَانَ ابْنُ يَامِينَ لَا يَنْزِلُ فِي
بَنِي قُرَيْظَة حَتّى يَبْعَثَ لَهُ رَسُولًا يَنْظُرُ مُحَمّدَ بْنَ
مَسْلَمَةَ فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ضِيَاعِهِ نَزَلَ فَقَضَى
حَاجَتَهُ ثُمّ صَدَرَ وَإِلّا لَمْ يَنْزِلْ. فَبَيْنَا مُحَمّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ فِي جِنَازَةٍ وَابْنُ يَامِينَ بِالْبَقِيعِ ، فَرَأَى
نَعْشًا عَلَيْهِ جَرَائِدُ رَطْبَةٌ لِامْرَأَةٍ جَاءَ فَحَلّهُ.
فَقَامَ النّاسُ فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ مَا تَصْنَعُ؟
نَحْنُ نَكْفِيك فَقَامَ إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُهُ بِهَا
جَرِيدَةً جَرِيدَةً حَتّى كَسَرَ تِلْكَ الْجَرَائِدَ عَلَى وَجْهِهِ
وَرَأْسِهِ حَتّى لَمْ يَتْرُكْ فِيهِ مَصَحّا، ثُمّ أَرْسَلَهُ وَلَا
طَبَاخَ3 بِهِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَوْ قَدَرْت عَلَى السّيْفِ
لَضَرَبْتُك بِهِ.
ـــــــ
1 في ب: "أتغدر".
2 في ب، ت: "ولا قدرت".
3 في الأصل: "ولا طياح" وما أثبتناه عن سائر النسخ. والطباخ: القوة.
"القاموس المحيط ج1، ص: 264".
(1/193)
|