كتاب المغازي للواقدي

غَزْوَةُ بَنِي النّضِيرِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَهْلٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فِي رِجَالٍ مِمّنْ لَمْ أُسَمّهِمْ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَقَدْ جَمَعْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ حَتّى كَانَ بِقَنَاةٍ فَلَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَنَسَبَهُمَا فَانْتَسَبَا، فَقَابَلَهُمَا8 حَتّى إذَا نَامَا وَثَبَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا. ثم خرج حتى
ـــــــ
8 في ب: "فقايلهما".

(1/363)


وَرَدَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ فِي قَدْرِ حَلْبِ شَاةٍ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِئْسَ مَا صَنَعْت، قَدْ كَانَ لَهُمَا مِنّا أَمَانٌ وَعَهْدٌ " فَقَالَ مَا شَعَرْت، كُنْت أَرَاهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا، وَكَانَ قَوْمُهُمَا قَدْ نَالُوا مِنّا مَا نَالُوا مِنْ الْغَدْرِ بِنَا. وَجَاءَ بِسَلَبِهِمَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُزِلَ سَلَبُهُمَا حَتّى بُعِثَ بِهِ مَعَ دِيَتِهِمَا. وَذَلِكَ أَنّ عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِي، وَلَهُمَا مِنْك أَمَانٌ وَعَهْدٌ فَابْعَثْ بِدِيَتِهِمَا إلَيْنَا. فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُ فِي دِيَتِهِمَا، وَكَانَتْ بَنُو النّضِيرِ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَامِرٍ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ السّبْتِ فَصَلّى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمّ جَاءَ بَنِي النّضِيرِ فَيَجِدُهُمْ فِي نَادِيهِمْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَكَلّمَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِينُوهُ فِي دِيَةِ الْكِلَابِيّيْنِ اللّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ. فَقَالُوا: نَفْعَلُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا أَحْبَبْت. قَدْ أَنَى لَك أَنْ تَزُورَنَا وَأَنْ تَأْتِيَنَا، اجْلِسْ حَتّى نُطْعِمَك وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَنِدٌ إلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ ثُمّ خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَتَنَاجَوْا، فَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمّدٌ فِي نَفِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَبْلُغُونَ عَشْرَةً - وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَعَلِيّ، وَالزّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - فَاطْرَحُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً مِنْ فَوْقِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي هُوَ تَحْتَهُ فَاقْتُلُوهُ فَلَنْ تَجِدُوهُ أَخْلَى مِنْهُ السّاعَةَ فَإِنّهُ إنْ قُتِلَ تَفَرّقَ أَصْحَابُهُ فَلَحِقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ بِحَرَمِهِمْ وَبَقِيَ مَنْ هَاهُنَا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حُلَفَاؤُكُمْ فَمَا كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصْنَعُوا يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ فَمِنْ الْآنَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشٍ: أَنَا أَظْهَرُ على البيت

(1/364)


فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: يَا قَوْمِ أَطِيعُونِي هَذِهِ الْمَرّةَ وَخَالِفُونِي الدّهْرَ وَاَللّهِ إنْ فَعَلْتُمْ لَيُخْبَرَنّ بِأَنّا قَدْ غَدَرْنَا بِهِ وَإِنّ هَذَا نَقْضُ الْعَهْدِ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَلَا تَفْعَلُوا أَلَا فَوَاَللّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ الّذِي تُرِيدُونَ لَيَقُومَنّ بِهَذَا الدّينِ مِنْهُمْ قَائِمٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَسْتَأْصِلُ الْيَهُودَ وَيُظْهِرُ دِينَهُ وَقَدْ هَيّأَ1 الصّخْرَةَ لِيُرْسِلَهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْدُرَهَا، فَلَمّا أَشْرَفَ بِهَا جَاءَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا هَمّوا بِهِ فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا كَأَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً وَتَوَجّهَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ يَتَحَدّثُونَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّهُ قَامَ يَقْضِي حَاجَةً فَلَمّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَا مُقَامُنَا هَا هُنَا بِشَيْءٍ لَقَدْ وَجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرٍ. فَقَامُوا، فَقَالَ حُيَيّ: عَجّلَ أَبُو الْقَاسِمِ قَدْ كُنّا نُرِيدُ أَنْ نَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَنُغَدّيَهُ. وَنَدِمَتْ الْيَهُودُ عَلَى مَا صَنَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ كِنَانَةُ بْنُ صُوَيْرَاءَ2 هَلْ تَدْرُونَ لِمَ قَامَ مُحَمّدٌ؟ قَالُوا: لَا وَاَللّهِ مَا نَدْرِي وَمَا تَدْرِي أَنْتَ قَالَ بَلَى وَالتّوْرَاةِ، إنّي لَأَدْرِي، قَدْ أُخْبِرَ مُحَمّدٌ مَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْغَدْرِ فَلَا تَخْدَعُوا أَنَفْسَكُمْ وَاَللّهِ إنّهُ لَرَسُولُ اللّهِ وَمَا قَامَ إلّا أَنّهُ أُخْبِرَ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ. وَإِنّهُ لَآخِرُ الْأَنْبِيَاءِ كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي هَارُونَ فَجَعَلَهُ اللّهُ حَيْثُ شَاءَ. وَإِنّ كُتُبَنَا وَاَلّذِي دَرَسْنَا فِي التّوْرَاةِ الّتِي لَمْ تُغَيّرْ وَلَمْ تُبَدّلْ أَنّ مَوْلِدَهُ بِمَكّةَ وَدَارَ هِجْرَتِهِ يَثْرِبُ ، وَصِفَتُهُ بِعَيْنِهَا مَا تُخَالِفُ حَرْفًا مِمّا فِي كِتَابِنَا، وَمَا يَأْتِيكُمْ [بِهِ] أَوْلَى مِنْ مُحَارَبَتِهِ إيّاكُمْ وَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْكُمْ ظَاعِنِينَ يَتَضَاغَى3 صِبْيَانُكُمْ قَدْ تَرَكْتُمْ دُورَكُمْ خُلُوفًا
ـــــــ
1 أي وقد هيأ عمرو بن جحاش.
2 في الأصل: "صبورا". وفي ت: "صوير". وما أثبتناه من نسخة ب، ومن الطبري عن الواقدي. "تاريخ الرسل والملوك، ص: 1450".
3 التضاعي: الصياح. "النهاية ج3، ص: 21".

(1/365)


وَأَمْوَالَكُمْ وَإِنّمَا هِيَ شَرَفُكُمْ فَأَطِيعُونِي فِي خُصْلَتَيْنِ وَالثّالِثَةُ لَا خَيْرَ فِيهَا قَالُوا: مَا هُمَا؟ قَالَ تُسْلِمُونَ وَتَدْخُلُونَ مَعَ مُحَمّدٍ فَتَأْمَنُونَ عَلَى أَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ وَتَكُونُونَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ وَتَبْقَى بِأَيْدِيكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا تُخْرَجُونَ1 مِنْ دِيَارِكُمْ. قَالُوا: لَا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ وَعَهْدَ مُوسَى قَالَ فَإِنّهُ مُرْسَلٌ إلَيْكُمْ اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، فَقُولُوا نَعَمْ - فَإِنّهُ لَا يَسْتَحِلّ لَكُمْ دَمًا وَلَا مَالًا - وَتَبْقَى أَمْوَالُكُمْ إنْ شِئْتُمْ بِعْتُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ. قَالُوا: أَمّا هَذَا فَنَعَمْ. قَالَ أَمَا وَاَللّهِ إنّ الْأُخْرَى خَيْرُهُنّ لِي. قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا2 أَنّي أَفْضَحُكُمْ لَأَسْلَمْت. وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا تُعَيّرُ شَعْثَاءُ بِإِسْلَامِي أَبَدًا حَتّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكُمْ - وَابْنَتُهُ شَعْثَاءُ الّتِي كَانَ حَسّانٌ يَنْسِبُ3 بِهَا. فَقَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: قَدْ كُنْت لِمَا صَنَعْتُمْ كَارِهًا، وَهُوَ مُرْسِلٌ إلَيْنَا أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ دَارِي، فَلَا تُعَقّبْ يَا حُيَيّ كَلَامَهُ وَأَنْعِمْ لَهُ بِالْخُرُوجِ فَاخْرُجْ مِنْ بِلَادِهِ قَالَ أَفْعَلُ أَنَا أَخْرُجُ
فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ أَصْحَابُهُ فَلَقَوْا رَجُلًا خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُ هَلْ لَقِيت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ لَقِيته بِالْجِسْرِ دَاخِلًا. فَلَمّا انْتَهَى أَصْحَابُهُ إلَيْهِ وَجَدُوهُ قَدْ أَرْسَلَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ يَدْعُوهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ قُمْت وَلَمْ نَشْعُرْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَمّتْ الْيَهُودُ بِالْغَدْرِ بِي، فَأَخْبَرَنِي اللّهُ بِذَلِكَ فَقُمْت ". وَجَاءَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ اذْهَبْ إلَى يَهُودِ بَنِي النّضِيرِ فَقُلْ لَهُمْ إنّ رَسُولَ اللّهِ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِه ". فَلَمّا جَاءَهُمْ قَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ بِرِسَالَةٍ وَلَسْت أَذْكُرُهَا لَكُمْ حَتّى أُعَرّفَكُمْ شيئا تعرفونه.
ـــــــ
1 في كل النسخ: "ولا تخرجوا" والمثبت هو الصحيح.
2 في ت: "لولا أن".
3 في ب، ت: "يشبب".

(1/366)


قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِالتّوْرَاةِ الّتِي أَنَزَلَ اللّهُ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّي جِئْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَكُمْ التّوْرَاةُ، فَقُلْتُمْ لِي فِي مَجْلِسِكُمْ هَذَا: يَا ابْنَ مَسْلَمَةَ إنْ شِئْت أَنْ نُغَدّيَك غَدّيْنَاك، وَإِنْ شِئْت أَنّ نُهَوّدَك هَوّدْنَاك. فَقُلْت لَكُمْ غَدّونِي وَلَا تُهَوّدُونِي، فَإِنّي وَاَللّهِ لَا أَتَهَوّدُ أَبَدًا فَغَدّيْتُمُونِي فِي صَحْفَةٍ لَكُمْ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهَا كَأَنّهَا جَزْعَةٌ1 فَقُلْتُمْ لِي: مَا يَمْنَعُك مِنْ دِينِنَا إلّا أَنّهُ دِينُ يَهُودَ. كَأَنّك تُرِيدُ الْحَنِيفِيّةَ الّتِي سَمِعْت بِهَا، أَمَا إنّ أَبَا عَامِرٍ قَدْ سَخِطَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا، أَتَاكُمْ صَاحِبُهَا الضّحُوكُ الْقَتّالُ فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ ، يَرْكَبُ الْبَعِيرَ وَيَلْبَسُ الشّمْلَةَ وَيَجْتَزِئُ بِالْكِسْرَةِ سَيْفُهُ عَلَى عَاتِقِهِ لَيْسَتْ مَعَهُ آيَةٌ هُوَ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ كَأَنّهُ وَشِيجَتُكُمْ2 هَذِهِ وَاَللّهِ لَيَكُونَنّ بِقَرْيَتِكُمْ هَذِهِ سَلَبٌ وَقَتْلٌ وَمَثْلٌ قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ قَدْ قُلْنَاهُ لَك وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ. قَالَ قَدْ فَرَغْت، إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ يَقُولُ لَكُمْ قَدْ نَقَضْتُمْ الْعَهْدَ الّذِي جَعَلْت لَكُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْغَدْرِ بِي وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا كَانُوا ارْتَأَوْا مِنْ الرّأْيِ وَظُهُورِ عَمْرِو بْنِ جَحّاشٍ عَلَى الْبَيْتِ يَطْرَحُ الصّخْرَةَ فَأَسْكَتُوا فَلَمْ يَقُولُوا حَرْفًا. وَيَقُولُ اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، فَقَدْ أَجّلْتُكُمْ عَشْرًا فَمَنْ رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْت عُنُقَهُ قَالُوا: يَا مُحَمّدُ مَا كُنّا نَرَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا رَجُلٌ مِنْ الْأَوْسِ. قَالَ مُحَمّدٌ تَغَيّرَتْ الْقُلُوبُ. فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ أَيّامًا يَتَجَهّزُونَ وَأَرْسَلُوا إلَى ظَهْرٍ لَهُمْ بِذِي الْجَدْرِ3 تُجْلَبُ وَتَكَارَوْا مِنْ ناس من أشجع
ـــــــ
1 الجزعة: الخرزة. "القاموس المحيط ج3، ص: 13".
2 كلمة غامضة شكلها في الأصل: "وسيحيكم" وفي ب، ت: "وسيختكم". ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات، والوشيجة: الرحم المشتبكة "تاج العروس ج2، ص: 111". ولعل أراد بها جماعة اليهود المتواشجة أو أصلها. قال زهير بن أبي سلمى:
وهل ينبت الخطمي إلا وشيجة وتغرس إلا في منابتها النخل. "ديوانه ص: 115".
3 في ت: "بذي الحدر". وما أثبتناه من سائر النسخ، وهو مسرح على ستة أميال من المدينة بناحية قباء كما قال السمهودي. "وفاء الوفاء ج2، ص: 279".

(1/367)


[إبِلًا]1 وَأَخَذُوا2 فِي الْجَهَازِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ جَاءَهُمْ رَسُولُ ابْنِ أُبَيّ، أَتَاهُمْ سُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ فَقَالَا: يَقُولُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ: لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ مِنْ آخِرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَيْكُمْ وَتَمُدّكُمْ قُرَيْظَةُ فَإِنّهُمْ لَنْ يَخْذُلُوكُمْ وَيَمُدّكُمْ حُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ. وَأَرْسَلَ ابْنُ أُبَيّ إلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ يُكَلّمُهُ أَنْ يَمُدّ أَصْحَابَهُ فَقَالَ لَا يَنْقُضُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ رَجُلٌ وَاحِدٌ الْعَهْدَ. فَيَئِسَ ابْنُ أُبَيّ مِنْ قُرَيْظَةَ وَأَرَادَ أَنْ يُلْحِمَ الْأَمْرَ فِيمَا بَيْنَ بَنِي النّضِيرِ وَرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزَلْ يُرْسِلُ إلَى حُيَيّ حَتّى قَالَ حُيَيّ: أَنَا أُرْسِلُ إلَى مُحَمّدٍ أُعْلِمُهُ أَنّا لَا نَخْرُجُ مِنْ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَلْيَصْنَعْ مَا بَدَا لَهُ. وَطَمِعَ حُيَيّ فِيمَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ، وَقَالَ حُيَيّ: نَرْمِ3 حُصُونَنَا، ثُمّ نُدْخِلُ مَاشِيَتَنَا4، وَنُدْرِبُ5 أَزِقّتَنَا، وَنَنْقُلُ الْحِجَارَةَ إلَى حُصُونِنَا، وَعِنْدَنَا مِنْ الطّعَامِ مَا يَكْفِينَا سَنَةً وَمَاؤُنَا وَاتِنٌ6 فِي حُصُونِنَا لَا نَخَافُ قَطْعَهُ. فَتَرَى مُحَمّدًا يَحْصُرُنَا سَنَةً؟ لَا نَرَى هَذَا. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: مَنّتْك نَفْسُك وَاَللّهِ يَا حُيَيّ الْبَاطِلَ إنّي وَاَللّهِ لَوْلَا أَنْ يُسَفّهَ رَأْيُك أَوْ يُزْرَى بِك لَاعْتَزَلْتُك بِمَنْ أَطَاعَنِي مِنْ الْيَهُودِ ; فلا تَفْعَلْ يَا حُيَيّ، فَوَاَللّهِ إنّك لَتَعْلَمُ وَنَعْلَمُ مَعَك أَنّهُ لَرَسُولُ اللّهِ وَأَنّ صِفَتَهُ عِنْدَنَا، فَإِنْ لَمْ نَتّبِعْهُ وَحَسَدْنَاهُ حَيْثُ خَرَجَتْ النّبُوّةُ مِنْ بَنِي هَارُونَ فَتَعَالَ فَنَقْبَلَ مَا أَعْطَانَا مِنْ الأمن ونخرج
ـــــــ
1 الزيادة عن ابن سعد "الطبقات ج2، ص: 41".
2 في ب، ت: "وأغدوا".
3 رمه: أصلحه. "القاموس المحيط ج4، ص: 122".
4 في ت: "ما شئنا".
5 ندرب: ندخل الدرب. انظر "النهاية ج2، ص: 18".
6 وتن الماء إذا دام ولم ينقطع. "الصحاح ص: 2212".

(1/368)


مِنْ بِلَادِهِ فَقَدْ عَرَفْت أَنّك خَالَفَتْنِي فِي الْغَدْرِ بِهِ فَإِذَا كَانَ أَوَانُ الثّمَرِ جِئْنَا أَوْ جَاءَ مَنْ جَاءَ مِنّا إلَى ثَمَرِهِ فَبَاعَ أَوْ صَنَعَ مَا بَدَا لَهُ ثُمّ انْصَرَفَ إلَيْنَا.
فَكَأَنّا لَمْ نَخْرُجْ مِنْ بِلَادِنَا إذَا كَانَتْ أَمْوَالُنَا بِأَيْدِينَا ; إنّا إنّمَا شَرُفْنَا عَلَى قَوْمِنَا بِأَمْوَالِنَا وَفِعَالِنَا، فَإِذَا ذَهَبَتْ أَمْوَالُنَا مِنْ أَيْدِينَا كُنّا كَغَيْرِنَا مِنْ الْيَهُودِ فِي الذّلّةِ وَالْإِعْدَامِ. وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ سَارَ إلَيْنَا فَحَصَرَنَا فِي هَذِهِ الصّيَاصِي يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمّ عَرَضْنَا عَلَيْهِ مَا أَرْسَلَ بِهِ إلَيْنَا، لَمْ يَقْبَلْهُ وَأَبَى عَلَيْنَا. قَالَ حُيَيّ: إنّ مُحَمّدًا لَا يَحْصُرُنَا [إلّا]1 إنْ أَصَابَ مِنّا نُهْزَةً وَإِلّا انْصَرَفَ وَقَدْ وَعَدَنِي ابْنُ أُبَيّ مَا قَدْ رَأَيْت. فَقَالَ سَلّامٌ لَيْسَ قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ بِشَيْءٍ إنّمَا يُرِيدُ ابْنُ أُبَيّ أَنْ يُوَرّطَك فِي الْهَلَكَةِ حَتّى تُحَارِبَ مُحَمّدًا، ثُمّ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيَتْرُكُك. قَدْ أَرَادَ مِنْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ النّصْرَ فَأَبَى كَعْبٌ وَقَالَ لَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَنَا حَيّ. وَإِلّا فَإِنّ ابْنَ أُبَيّ قَدْ وَعَدَ حُلَفَاءَهُ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ مِثْلَ مَا وَعَدَك حَتّى حَارَبُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَصَرُوا أَنَفْسَهُمْ فِي صَيَاصِيِهِمْ وَانْتَظَرُوا نُصْرَةَ ابْنِ أُبَيّ، فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَسَارَ مُحَمّدٌ إلَيْهِمْ فَحَصَرَهُمْ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَابْنُ أُبَيّ لَا يَنْصُرُ حُلَفَاءَهُ وَمَنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ وَنَحْنُ لَمْ نَزَلْ نَضْرِبُهُ بِسُيُوفِنَا مَعَ الْأَوْسِ فِي حَرْبِهِمْ كُلّهَا، إلَى أَنْ تَقَطّعَتْ حَرْبُهُمْ فَقَدِمَ مُحَمّدٌ فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ. وَابْنُ أُبَيّ لَا يَهُودِيّ عَلَى دِينِ يَهُودَ وَلَا عَلَى دِينِ مُحَمّدٍ وَلَا هُوَ عَلَى دِين قَوْمِهِ فَكَيْفَ تَقْبَلُ مِنْهُ قَوْلًا قَالَهُ؟ قَالَ حُيَيّ: تَأْبَى نَفْسِي إلّا عَدَاوَةَ مُحَمّدٍ وَإِلّا قِتَالَهُ. قَالَ سَلّامٌ فَهُوَ وَاَللّهِ جَلَانَا مِنْ أَرْضِنَا، وَذَهَابُ أَمْوَالِنَا، وَذَهَابُ شَرَفِنَا، أَوْ سِبَاءُ ذَرَارِيّنَا مَعَ قَتْلِ مُقَاتِلِينَا. فَأَبَى حُيَيّ إلّا مُحَارَبَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ سَارُوكُ2 بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ - وَكَانَ ضَعِيفًا عندهم في عقله
ـــــــ
1 في كل النسخ: "إن أصاب" وما أثبتناه أقرب إلى السياق.
2 في ب: "ساذوك".

(1/369)


كَأَنّ بِهِ جِنّةٌ - يَا حُيَيّ، أَنْتَ رَجُلٌ مَشْئُومٌ تُهْلِكُ بَنِي النّضِيرِ فَغَضِبَ حُيَيّ وَقَالَ كُلّ بَنِي النّضِيرِ قَدْ كَلّمَنِي حَتّى هَذَا الْمَجْنُونُ. فَضَرَبَهُ إخْوَتُهُ وَقَالُوا لِحُيَيّ أَمْرُنَا لِأَمْرِك تَبَعٌ، لَنْ نُخَالِفَك.
فَأَرْسَلَ حُيَيّ أَخَاهُ جُدَيّ بْنَ أَخْطَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّا لَا نَبْرَحُ مِنْ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ ابْنَ أُبَيّ فَيُخْبِرَهُ بِرِسَالَتِهِ إلَى مُحَمّدٍ وَيَأْمُرَهُ بِتَعْجِيلِ مَا وَعَدَ مِنْ النّصْرِ. فَذَهَبَ جُدَيّ بْنُ أَخْطَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلّذِي أَرْسَلَهُ حُيَيّ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُ فَأَظْهَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّكْبِيرَ وَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ وَقَالَ حَارَبْت الْيَهُود وَخَرَجَ جُدَيّ حَتّى دَخَلَ عَلَى ابْنِ أُبَيّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ مَعَ نَفِيرٍ مِنْ حُلَفَائِهِ وَقَدْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي النّضِيرِ فَيَدْخُلُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ عَلَى عَبْدِ اللّهِ أَبِيهِ وَعَلَى النّفَرِ مَعَهُ وَعِنْدَهُ جُدَيّ بْنُ أَخْطَبَ فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَخَرَجَ يَعْدُو، فَقَالَ جُدَيّ: لَمّا رَأَيْت ابْنَ أُبَيّ جَالِسًا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ وَابْنُهُ عَلَيْهِ السّلَاحُ يَئِسْت مِنْ نَصْرِهِ فَخَرَجْت أَعْدُو إلَى حُيَيّ فَقَالَ مَا وَرَاءَك؟ قُلْت: الشّرّ سَاعَةَ أَخْبَرْت مُحَمّدًا بِمَا أَرْسَلْت بِهِ إلَيْهِ أَظْهَرَ التّكْبِيرَ وَقَالَ " حَارَبْت الْيَهُودَ ". فَقَالَ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مِنْهُ. قَالَ وَجِئْت ابْنَ أُبَيّ فَأَعْلَمْته، وَنَادَى مُنَادِي مُحَمّدٍ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي النّضِيرِ. قَالَ وَمَا رَدّ عَلَيْك ابْنُ أُبَيّ؟ فَقَالَ جُدَيّ: لَمْ أَرَ عِنْدَهُ خَيْرًا. قَالَ أَنَا أُرْسِلُ إلَى حُلَفَائِي فَيَدْخُلُونَ مَعَكُمْ. وَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَصَلّى الْعَصْرَ بِفَضَاءِ بَنِي النّضِيرِ فَلَمّا رَأَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ قَامُوا عَلَى جُدُرِ حُصُونِهِمْ مَعَهُمْ النّبْلُ وَالْحِجَارَةُ. وَاعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ فلم تعنهم

(1/370)


بِسِلَاحٍ وَلَا رِجَالٍ وَلَمْ يَقْرَبُوهُمْ. وَجَعَلُوا يَرْمُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ حَتّى أَظَلَمُوا، وَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْدَمُونَ1 مَنْ كَانَ تَخَلّفَ فِي حَاجَتِهِ حَتّى تَتَامّوا عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ الدّرْعُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ. وَقَدْ اسْتَعْمَلَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْعَسْكَرِ وَيُقَالُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يُحَاصِرُونَهُمْ. يُكَبّرُونَ حَتّى أَصْبَحُوا، ثُمّ أَذّنَ بِلَالٌ بِالْمَدِينَةِ. فَغَدَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ. فَصَلّى بِالنّاسِ بِفَضَاءِ بَنِي خَطْمَةَ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ ; وَحُمِلَتْ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبّةٌ مِنْ أَدَمٍ.
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ كَانَتْ الْقُبّةُ مِنْ غَرَبٍ2 عَلَيْهَا مُسُوحٌ3. أَرْسَلَ بِهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. فَأَمَرَ بِلَالًا فَضَرَبَهَا فِي مَوْضِعٍ الْمَسْجِدِ الصّغِيرِ الّذِي بِفَضَاءِ بَنِي خَطْمَةَ. وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُبّةَ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ عَزْوَك. وَكَانَ أَعْسَرَ رَامِيًا، فَرَمَى فَبَلَغَ نَبْلُهُ قُبّةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقُبّتِهِ فَحُوّلَتْ إلَى مَسْجِدِ الْفَضِيخِ4 وَتَبَاعَدَتْ مِنْ النّبْلِ.
وَأَمْسَوْا فَلَمْ يَقْرَبْهُمْ ابْنُ أُبَيّ وَلَا أَحَدٌ مِنْ حُلَفَائِهِ وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَيَئِسَتْ بَنُو النّضِيرِ مِنْ نَصْرِهِ وَجَعَلَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَكِنَانَةُ بْنُ صُوَيْرَاءَ يَقُولَانِ لِحُيَيّ أَيْنَ نَصْرُ بْنُ أُبَيّ كَمَا زَعَمْت؟ قَالَ حُيَيّ: فما أصنع؟ هي
ـــــــ
1 في ب: "يثوبون".
2 الغرب: ضرب من الشجر. "الصحاح ص: 194".
3 المسوح: جمع مسح، وهو الكساء من الشعر. "لسان العرب ج3، ص: 434".
4 قال السمهودي: ويعرف اليوم بمسجد الشمس، وهو شرقي مسجد قباء على شفير الوادي على نشز من الأرض مرضوم بحجارة سود، وهو مسجد صغير. "وغاء الوفاء ج2، ص: 32".

(1/371)


مَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَيْنَا. وَلَزِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدّرْعُ وَبَاتَ وَظَلّ مُحَاصِرَهُمْ فَلَمّا كَانَ لَيْلَةً مِنْ اللّيَالِي فُقِدَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ حَيْنَ قَرُبَ الْعِشَاءُ فَقَالَ النّاسُ مَا نَرَى عَلِيّا يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوهُ فَإِنّهُ فِي بَعْضِ شَأْنِكُمْ " فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِرَأْسِ عَزْوَك، فَطَرَحَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي كَمَنْت لِهَذَا الْخَبِيثِ فَرَأَيْت رَجُلًا شُجَاعًا، فَقُلْت: مَا أَجْرَأَهُ أَنْ يَخْرُجَ إذَا أَمْسَيْنَا يَطْلُبُ مِنّا غِرّةً. فَأَقْبَلَ مُصْلِتًا سَيْفَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَشَدَدْت عَلَيْهِ فَقَتَلْته، وَأَجْلَى أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَبْرَحُوا قَرِيبًا، فَإِنْ بَعَثْت مَعِي نَفَرًا رَجَوْت أَنْ أَظْفَرَ بِهِمْ. فَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْل أَنْ يَدْخُلُوا حِصْنَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ وَأَتَوْا بِرُءُوسِهِمْ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُءُوسِهِمْ فَطُرِحَتْ فِي بَعْضِ بِئَارِ بَنِي خَطْمَةَ.
وَكَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَحْمِلُ التّمْرَ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَقَامُوا فِي حِصْنِهِمْ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّخْلِ فَقُطِعَتْ وَحُرِقَتْ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى قَطْعِهَا رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيّ، وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ سَلّامٍ، فَكَانَ أَبُو لَيْلَى يَقْطَعُ الْعَجْوَةَ وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلّامٍ يَقْطَعُ اللّوْنَ1 فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو لَيْلَى: كَانَتْ الْعَجْوَةُ أَحْرَقَ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ قَدْ عَرَفْت أَنّ اللّهَ سَيُغْنِمُهُ أَمْوَالَهُمْ وَكَانَتْ الْعَجْوَةُ خَيْرَ أَمْوَالِهِمْ فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ رِضَاءً بِمَا صَنَعْنَا جَمِيعًا... {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} 2 أَلْوَانِ النّخْلِ لِلّذِي فَعَلَ ابْنُ سَلّامٍ {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} يَعْنِي الْعَجْوَةَ {فَبِإِذْنِ اللّهِ} وَقَطَعَ أَبُو لَيْلَى الْعَجْوَةَ {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} يَعْنِي بني النضير
ـــــــ
1 اللوم: نوع من النخل، وقيل: هو الدقل. وقيل النخل كله ما خلا البرنني والعجوة، ويسميه أهل المدينة الألوان، واحدته لينة، وأصله لونة فقلبت الواو ياء. "النهاية ج4، ص: 70".
2 سورة 59 الحشر 5.

(1/372)


رِضَاءً مِنْ اللّهِ بِمَا صَنَعَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا. فَلَمّا قُطِعَتْ الْعَجْوَةُ شَقّ النّسَاءُ الْجُيُوبَ وَضَرَبْنَ الْخُدُودَ وَدَعَوْنَ بِالْوَيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا لَهُنّ "؟ فَقِيلَ يَجْزَعْنَ عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ. فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إ ن مِثْلَ الْعَجْوَةِ جُزِعَ عَلَيْهِ ". ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْعَجْوَةُ وَالْعَتِيقُ - الْفَحْلُ الّذِي يُؤَبّرُ بِهِ النّخْلُ - مِنْ الْجَنّةِ، وَالْعَجْوَةُ شِفَاءٌ مِنْ السّمّ ". فَلَمّا صِحْنَ صَاحَ بِهِنّ أَبُو رَافِعٍ سَلّامٌ إنْ قُطِعَتْ الْعَجْوَةُ هَاهُنَا، فَإِنّ لَنَا بِخَيْبَرٍ عَجْوَةً. قَالَتْ عَجُوزٌ مِنْهُنّ خَيْبَرٌ، يُصْنَعُ بِهَا مِثْلُ هَذَا فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ فَضّ اللّهُ فَاك إنّ حُلَفَائِي بِخَيْبَرٍ لَعَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ فَتَبَسّمَ. وَجَزِعُوا عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ فَجَعَلَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ يَقُولُ يَا حُيَيّ، الْعَذْقُ خَيْرٌ مِنْ الْعَجْوَةِ يُغْرَسُ فَلَا يُطْعِمُ ثَلَاثِينَ سَنَةً يُقْطَعُ فَأَرْسَلَ حُيَيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُحَمّدُ إنّك كُنْت تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ لِمَ تَقْطَعُ النّخْلَ؟ نَحْنُ نُعْطِيك الّذِي سَأَلْت، وَنَخْرُجُ مِنْ بِلَادِك. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ وَلَكِنْ اُخْرُجُوا مِنْهَا وَلَكُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةُ ". فَقَالَ سَلّامٌ اقْبَلْ وَيْحَك، قَبْلَ أَنْ تَقْبَلَ شَرّا مِنْ هَذَا فَقَالَ حُيَيّ: مَا يَكُونُ شَرّا مِنْ هَذَا؟ قَالَ سَلّامٌ يَسْبِي الذّرّيّةَ وَيَقْتُلُ الْمُقَاتِلَةَ مَعَ الْأَمْوَالِ فَالْأَمْوَالُ الْيَوْمَ أَهْوَنُ عَلَيْنَا إذَا لَحَمْنَا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسّبَاءِ. فَأَبَى حُيَيّ أَنْ يَقْبَلَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ يَامِينُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ وَإِنّك1 لَتَعْلَمُ أَنّهُ لَرَسُولُ اللّهِ فَمَا تَنْتَظِرُ أَنْ نُسْلِمَ فَنَأْمَنَ عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا؟ فَنَزَلَا مِنْ اللّيْلِ فَأَسْلَمَا فأحرزا دماءهما وأموالهما.
ـــــــ
1 في ب: "والله إنك".

(1/373)


ثُمّ نَزَلَتْ الْيَهُودُ عَلَى أَنّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةُ فَلَمّا أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ يَامِينَ أَلَمْ تَرَ إلَى ابْنِ عَمّك عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ وَمَا هَمّ بِهِ مِنْ قَتْلِي؟ وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ كَانَتْ الرّوَاعُ بِنْتُ عُمَيْرٍ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ. فَقَالَ ابْنُ يَامِينَ أَنَا أَكْفِيكَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ.
فَجَعَلَ لِرَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جِحَاشٍ، وَيُقَالُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ. فَاغْتَالَهُ فَقَتَلَهُ ثُمّ جَاءَ ابْنُ يَامِينَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ فَسُرّ بِذَلِكَ.
وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَجَلَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَوَلِيَ إخْرَاجَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. فَقَالُوا: إنّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النّاسِ إلَى آجَالٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَجّلُوا وَضَعُوا " فَكَانَ لِأَبِي رَافِعٍ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ عَلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ دِينَارٍ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَخْذِ رَأْسِ مَالِهِ ثَمَانِينَ دِينَارًا، وَأَبْطَلَ مَا فَضَلَ. وَكَانُوا فِي حِصَارِهِمْ يُخَرّبُونَ بُيُوتَهُمْ مِمّا يَلِيهِمْ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرّبُونَ مَا يَلِيهِمْ وَيُحَرّقُونَ حَتّى وَقَعَ الصّلْحُ فَتَحَمّلُوا، فَجَعَلُوا يَحْمِلُونَ الْخَشَبَ وَنُجُفَ1 الْأَبْوَابِ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ: " لَوْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَشُدّ الرّحْلَ لِخَالِك بَحْرِيّ بْنِ عَمْرٍو وَأُجْلِيهِ مِنْهَا " وَحَمَلُوا النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ فَخَرَجُوا عَلَى بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ عَلَى الْجَبَلِيّةِ ثُمّ عَلَى الْجِسْرِ حَتّى مَرّوا بِالْمُصَلّى، ثُمّ شَقّوا سُوقَ الْمَدِينَةِ، وَالنّسَاءُ فِي الْهَوَادِجِ عَلَيْهِنّ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ وَقُطُفُ الْخَزّ الْخُضْرُ وَالْحُمْرُ وَقَدْ صَفّ لَهُمْ النّاسُ فَجَعَلُوا يَمُرّونَ قِطَارًا2 فِي أَثَرِ قِطَارٍ فَحُمِلُوا عَلَى سِتّمِائَةِ بَعِيرٍ يَقُولُ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ـــــــ
1 نجف: جمع نجاف وهو زالعتبة. "شرح أبي ذر ص: 286".
2 القطار: أن تشد الإبل على نسق. واحدا بعد واحد. "النهاية ج3، ص: 263".

(1/374)


" هَؤُلَاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ " وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ يَرَاهُمْ وَسَرَاةُ الرّجَالِ عَلَى الرّحَالِ: أَمَا وَاَللّهِ إنّ لَقَدْ كَانَ عِنْدَكُمْ لَنَائِلٌ لِلْمُجْتَدِي وَقِرًى حَاضِرٌ لِلضّيْفِ وَسَقْيًا لِلْمُدَامِ وَحِلْمٌ عَلَى مَنْ سَفِهَ عَلَيْكُمْ وَنَجْدَةٌ إذَا اُسْتُنْجِدْتُمْ. فَقَالَ الضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ وَاصَبَاحَاه، نَفْسِي فَدَاؤُكُمْ مَاذَا تَحَمّلْتُمْ بِهِ مِنْ السّؤْدُدِ وَالْبَهَاءِ وَالنّجْدَةِ وَالسّخَاءِ؟ قَالَ يَقُولُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ: فِدًى لِهَذِهِ الْوُجُوهِ الّتِي كَأَنّهَا الْمَصَابِيحُ ظَاعِنِينَ مِنْ يَثْرِبَ . مَنْ لِلْمُجْتَدِي الْمَلْهُوفِ؟ وَمَنْ لِلطّارِقِ السّغْبَانِ؟ وَمَنْ يَسْقِي الْعُقَارَ؟ وَمَنْ يُطْعِمُ الشّحْمَ فَوْقَ اللّحْمِ؟ مَا لَنَا بِيَثْرِبَ بَعْدَكُمْ مُقَامٌ. يَقُولُ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ1 وَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَهُ. نَعَمْ فَالْحَقْهُمْ حَتّى تَدْخُلَ مَعَهُمْ النّارَ.
قَالَ نُعَيْمٌ مَا هَذَا جَزَاؤُهُمْ مِنْكُمْ لَقَدْ اسْتَنْصَرْتُمُوهُمْ فَنَصَرُوكُمْ عَلَى الْخَزْرَجِ، وَلَقَدْ اسْتَنْصَرْتُمْ2 سَائِرَ الْعَرَبِ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْكُمْ. قَالَ أَبُو عَبْسٍ قَطَعَ الْإِسْلَامُ الْعُهُودَ. قَالَ وَمَرّوا يَضْرِبُونَ بِالدّفُوفِ وَيُزَمّرُونَ بِالْمَزَامِيرِ وَعَلَى النّسَاءِ الْمُعَصْفَرَاتُ وَحُلِيّ الذّهَبِ مُظْهِرِينَ ذَلِكَ تَجَلّدًا. قَالَ يَقُولُ جُبَارُ بْنُ صَخْرٍ: مَا رَأَيْت زُهَاءَهُمْ3 لِقَوْمٍ زَالُوا مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ. وَنَادَى أَبُو رَافِعٍ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَرَفَعَ مَسْكَ الْجَمَلِ وَقَالَ هَذَا مِمّا نَعُدّهُ لِخَفْضِ الْأَرْضِ وَرَفْعِهَا، فَإِنْ يَكُنْ النّخْلُ قَدْ تَرَكْنَاهَا فَإِنّا نَقْدَمُ عَلَى نَخْلٍ بِخَيْبَرٍ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ رَبِيحِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ لَقَدْ مَرّ يَوْمئِذٍ نساء من نسائهم
ـــــــ
1 في الأصل: "بن حير" والتصحيح من ب، ومن ابن سعد. "الطبقات ج3، ص: 23".
2 في ب: "لقد استنصرتم فنصروكم سائر العرب".
3 في هاممش نسخة ب: "زهاءهم قدرهم وعدتهم".

(1/375)


فِي تِلْكَ الْهَوَادِجِ قَدْ سَفَرْنَ عَنْ الْوُجُوهِ لَعَلَيّ لَمْ أَرَ مِثْلَ جَمَالِهِنّ لِنِسَاءٍ قَطّ.
لَقَدْ رَأَيْت الشّقْرَاءَ بِنْتَ كِنَانَةَ يَوْمَئِذٍ كَأَنّهَا لُؤْلُؤَةُ غَوّاصٍ وَالرّوَاعَ بِنْتَ عُمَيْرٍ مِثْلَ الشّمْسِ الْبَازِغَةِ فِي أَيْدِيهِنّ أَسْوِرَةُ الذّهَبِ وَالدّرّ فِي رِقَابِهِنّ.
وَلَقِيَ الْمُنَافِقُونَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ خَرَجُوا حُزْنًا شَدِيدًا، لَقَدْ لَقِيت زَيْدَ بْنَ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ وَهُوَ مَعَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ، وَهُوَ يُنَاجِيهِ فِي بَنِي غَنْمٍ وَهُوَ يَقُولُ تَوَحّشْت بِيَثْرِبَ لِفَقْدِ بَنِي النّضِيرِ وَلَكِنّهُمْ يَخْرُجُونَ إلَى عِزّ وَثَرْوَةٍ مِنْ حُلَفَائِهِمْ وَإِلَى حُصُونٍ مَنِيعَةٍ شَامِخَةٍ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ لَيْسَتْ كَمَا هَاهُنَا. قَالَ فَاسْتَمَعْت عَلَيْهِمَا سَاعَةً وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاشّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ.
قَالُوا : وَمَرّتْ فِي الظّعُنِ يَوْمَئِذٍ سَلْمَى صَاحِبَةُ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ الْعَبْسِيّ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَسَبَاهَا عُرْوَةُ مِنْ قَوْمِهَا فَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا وَنَزَلَتْ مِنْهُ مَنْزِلًا ; فَقَالَتْ لَهُ وَجَعَلَ وَلَدَهُ يُعَيّرُونَ بِأُمّهِمْ " يَا بَنِي الْأَخِيذَةِ "، فَقَالَتْ أَلَا تَرَى وَلَدَك يُعَيّرُونَ؟ قَالَ فَمَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ تَرُدّنِي إلَى قَوْمِي حَتّى يَكُونُوا هُمْ الّذِينَ يُزَوّجُونَك. قَالَ نَعَمْ. فَأَرْسَلَتْ إلَى قَوْمِهَا أَن الْقُوهُ بِالْخَمْرِ ثُمّ اُتْرُكُوهُ حَتّى يَشْرَبَ وَيَثْمَلَ فَإِنّهُ إذَا ثَمِلَ لَمْ يُسْأَلْ شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ. فَلَقُوهُ وَنَزَلَ فِي بَنِي النّضِيرِ فَسَقَوْهُ الْخَمْرَ فَلَمّا سَكِرَ سَأَلُوهُ سَلْمَى فَرَدّهَا عَلَيْهِمْ ثُمّ أَنْكَحُوهُ بَعْدُ. وَيُقَالُ إنّمَا جَاءَ بِهَا إلَى بَنِي النّضِيرِ وَكَانَ صُعْلُوكًا يُغِيرُ. فَسَقَوْهُ الْخَمْرَ فَلَمّا انْتَشَى مَنَعُوهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ إلّا هِيَ فَرَهَنَهَا فَلَمْ يَزَلْ يَشْرَبُ حَتّى غَلِقَتْ فَلَمّا صَحَا قَالَ لَهَا: انْطَلِقِي. قَالُوا: لَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ قَدْ أَغْلَقْتهَا. فَبِهَذَا صَارَتْ عِنْدَ بَنِي النّضِيرِ. قَالَ عُرْوَةُ بن الورد:
سَقَوْنِي الْخَمْرَ ثُمّ تَكَنّفُونِي ... عُدَاةُ اللّهِ مِنْ كَذِبٍ وَزُورِ

(1/376)


وَقَالُوا لَسْت بَعْدَ فِدَاءِ سَلْمَى ... بِمُغْنٍ1 مَا لَدَيْك وَلَا فَقِيرِ
فَلَا وَاَللّهِ لَوْ كَالْيَوْمِ أَمْرِي ... وَمَنْ لِي بِالتّدَبّرِ فِي الْأُمُورِ2
إذًا لَعَصَيْتهمْ فِي أَمْرِ سَلْمَى3 ... وَلَوْ رَكِبُوا عِضَاهَ الْمُسْتَعْوِرِ4
أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ.
حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ وَقَبَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَقَبَضَ الْحَلْقَةَ فَوَجَدَ مِنْ الْحَلْقَةِ خَمْسِينَ دِرْعًا، وَخَمْسِينَ بَيْضَةً وَثَلَاثَمِائَةِ سَيْفٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا. وَيُقَالُ غَيّبُوا بَعْضَ سِلَاحِهِمْ وَخَرَجُوا بِهِ. وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الّذِي وَلِيَ قَبْضَ الْأَمْوَالِ وَالْحَلْقَةَ وَكَشْفَهُمْ عَنْهَا. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا تُخَمّسُ مَا أَصَبْت مِنْ بَنِي النّضِيرِ كَمَا خَمّسْت مَا أَصَبْت مِنْ بَدْرٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَجْعَلُ شَيْئًا جَعَلَهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِي دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}5 الْآيَةُ كَهَيْئَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ السهمان للمسلمين . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ صَفَايَا، فَكَانَتْ بَنُو
ـــــــ
1 في الأصل: "بمفن" والتصحيح من ب، وهكذا في ديوان عروة "ص: 48". وفي الكامل للمبرد. "ج2، ص: 40".
2 والمعنى كما قال ابن السكيت في شرحه: لو كنت يومئذ مثل اليوم لملكت أمري. "ديوان عروة بن الورد ص: 48".
3 في ب: "إذا لعصيتهم من حب سلمى".
4 في الأصل: "المستغور" بالغين المعجمة والتصحيح من ب، ويوجد على هامش ب: "المستعور جبل بناحية قلهى". ويروى أيضا "عضاه اليستعور" كما قال ابن السكيت واليستعور موضع قبل حرة المدينة. "ديوان عروة بن الورد ص: 48".
5 سورة 59 الحشر 7.

(1/377)


النّضِيرِ حَبْسًا1 لِنَوَائِبِهِ وَكَانَتْ فَدَكُ لِابْنِ السّبِيلِ وَكَانَتْ خَيْبَرُ قَدْ جَزّأَهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجُزْءَانِ لِلْمُهَاجِرِينَ وَجُزْءٌ كَانَ يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ فَإِنّ فَضْلَ رَدّهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُمَرَ الْحَارِثِيّ، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ قَالَ إنّمَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ بَنِي النّضِيرِ كَانَتْ لَهُ خَالِصَةً فَأَعْطَى مَنْ أَعْطَى مِنْهَا وَحَبَسَ مَا حَبَسَ. وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النّخْلِ زَرْعًا كَثِيرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ لَهُ مِنْهَا قُوتُ أَهْلِهِ سَنَةً مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ لِأَزْوَاجِهِ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ2 وَالسّلَاحِ وَإِنّهُ كَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ ذَلِكَ السّلَاحُ الّذِي اُشْتُرِيَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى أَمْوَالِ بَنِي النّضِيرِ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرُبّمَا جَاءَ رَسُول اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَاكُورَةِ مِنْهَا، وَكَانَتْ صَدَقَاتُهُ مِنْهَا وَمِنْ أَمْوَالِ مُخَيْرِيقٍ. وَهِيَ سَبْعَةُ حَوَائِطَ - الْمِيثَبُ وَالصّافِيَةُ وَالدّلّالُ وَحُسْنَى، وَبُرْقَةُ وَالْأَعْوَافُ وَمَشْرَبَةُ أُمّ إبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ أُمّ إبْرَاهِيمَ تَكُون هُنَاكَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهَا هُنَاكَ.
وَقَالُوا : إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا تَحَوّلَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى الْمَدِينَةِ تَحَوّلَ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَنَافَسَتْ فِيهِمْ الْأَنْصَارُ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَيْهِمْ حَتّى اقْتَرَعُوا فِيهِمْ بِالسّهْمَانِ فَمَا نَزَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ إلّا بِقُرْعَةِ سَهْمٍ.
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أُمّ العلاء
ـــــــ
1 حبسا: أي وقفا. "شرح على المواهب اللدنية ج2، ص: 102".
2 الكراع: جماعة الخيل. "شرح على المواهب اللدنية ج2، ص: 102".

(1/378)


قَالَتْ: صَارَ1 لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي الْقُرْعَةِ وَكَانَ فِي مَنْزِلِنَا حَتّى تُوُفّيَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمّا غَنِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النّضِيرِ دَعَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فَقَالَ اُدْعُ لِي قَوْمَك قَالَ ثَابِتٌ الْخَزْرَجَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَنْصَارَ كُلّهَا " فَدَعَا لَهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَمَا صَنَعُوا بِالْمُهَاجِرِينَ وَإِنْزَالَهُمْ إيّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَثَرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمّ قَالَ: " إنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْت بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيّ مِنْ بَنِي النّضِيرِ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ السّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتهمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ ". فَتَكَلّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللّهِ بَلْ تَقْسِمُهُ لِلْمُهَاجِرِينَ2 وَيَكُونُونَ فِي دُورِنَا كَمَا كَانُوا. وَنَادَتْ الْأَنْصَارُ: رَضِينَا وَسَلّمْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ " فَقَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ ذَلِكَ الْفَيْءِ شَيْئًا، إلّا رَجُلَيْنِ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ - سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَأَبَا دُجَانَةَ. وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَهُمْ. قَالُوا: وَكَانَ مِمّنْ أَعْطَى مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِئْرَ حِجْرٍ وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِئْرَ جَرْمٍ وَأَعْطَى عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ سُؤَالَةَ - وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ مَالُ سُلَيْمٍ. وَأَعْطَى صُهَيْبَ بْنَ
ـــــــ
1 في ب: "طار لنا".
2 في الزرقاني، يروي عن الواقدي: "تقسم بين المهاجرين" "شرح على المواهب اللدنية ج2، ص: 103".

(1/379)


سِنَانَ الضّرّاطَةَ وَأَعْطَى الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْبُوَيْلَةَ. وَكَانَ مَالُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَأَبِي دُجَانَةَ مَعْرُوفًا، يُقَالُ لَهُ مَالُ ابْنِ خَرَشَةَ وَوَسّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النّاسِ مِنْهَا.

(1/380)


ذِكْرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بَنِي النّضِير
{سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} 1 قَالَ كُلّ شَيْءٍ سَبّحَ لَهُ وَتَسْبِيحُ الْجُدُرِ النّقْضُ2. حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ حُيَيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ. {هُوَ الّذِي أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوّلِ الْحَشْرِ} 3 يَعْنِي بَنِي النّضِير حَيْنَ أَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الشّامِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوّلَ الْحَشْرِ فِي الدّنْيَا إلَى الشّامِ ; {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِلْمُؤْمِنَيْنِ مَا ظَنَنْتُمْ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ عِزّ وَمَنَعَةٌ {وَظَنّوا أَنّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ} حَيْنَ تَحَصّنُوا ; {فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} حَالَ ظُهُورِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَاؤُهُمْ {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ} لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ رَعَبُوا وَأَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ وَكَانَ الرّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ لَهُ وَجَبَانٌ4 {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ كَانُوا لَمّا حُصِرُوا وَالْمُسْلِمُونَ يَحْفِرُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ وَهُمْ يَنْقُبُونَ مِمّا يَلِيهِمْ فَيَأْخُذُونَ الْخَشَبَ وَالنّجُفَ ; {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} قَالَ يَعْنِي يَا أَهْلَ
ـــــــ
1 سورة 59 الحشر 1.
2 في ب: "النقيض".
3 سورة 59 الحشر 2.
4 وجب القلب وجبانا، خفق واضطرب. "لسان العرب ج2، ص: 294".

(1/380)


الْعُقُولِ. {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ}1 يَقُولُ فِي أُمّ الْكِتَابِ أَنْ يَجْلُوا. {ذَلِكَ بِأَنّهُمْ شَاقّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ} 2 يَقُولُ عَصَوْا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَخَالَفُوهُ. {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} 3.. الْآيَةُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى قَطْعِ نَخْلِهِمْ أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيّ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ سَلّامٍ، فَكَانَ أَبُو لَيْلَى يَقْطَعُ الْعَجْوَةَ وَكَانَ ابْنُ سَلّامٍ يَقْطَعُ اللّوْنَ فَقَالَ لَهُمْ بَنُو النّضِيرِ: أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مَا يَحِلّ لَكُمْ عَقْرُ النّخْلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْطَعُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَقْطَعُ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} أَلْوَانِ النّخْلِ سِوَى الْعَجْوَةِ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا قَالَ الْعَجْوَةُ {فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} يَقُولُ يَغِيظُهُمْ مَا قُطِعَ مِنْ النّخْلِ. {مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ} 4 قَوْلُهُ {فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ} وَاحِدٌ {وَلِذِي الْقُرْبَى} قَرَابَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ} فَسَهْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمْسُ الْخُمْسِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي بَنِي هَاشِمٍ مِنْ الْخُمْسِ وَيُزَوّجُ أَيَامَاهُمْ
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَدْ دَعَاهُمْ إلَى أَنْ يُزَوّجَ أَيَامَاهُمْ وَيَخْدُمَ عَائِلَهُمْ وَيَقْضِيَ عَنْ غَارِمَهُمْ فَأَبَوْا إلّا أَنْ يُسَلّمَهُ كُلّهُ وَأَبَى عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيّا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ فِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ. وَقَوْلُهُ {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} يَقُولُ لَا يُسْتَنّ بها
ـــــــ
1 سورة 59 الحشر 3.
2 سوزرة 59 الحشر 4.
3 سورة 59 الحشر 5.
4 سورة 59 الحشر 7.

(1/381)


مِنْ بَعْدُ فَتُعْطَى الْأَغْنِيَاءَ {وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} يَقُولُ مَا جَاءَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نَزَلَ مِنْ الْوَحْيِ. {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا}1 يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ الّذِينَ هَاجَرُوا إلَى الْمَدِينَةِ قبل بدر. {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} 2 يَعْنِي الْأَنْصَارَ، يَقُولُ هُمْ أَهْلُ الدّارِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ; {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَدًا مِمّا أَعْطَى غَيْرَهُمْ يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ حَيْنَ أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ، فَهَذِهِ الْأَثَرَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حَيْنَ قَالُوا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطِهِمْ وَلَا تُعْطِنَا وَهُمْ مُحْتَاجُونَ {وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ} قَالَ ظُلْمَ النّاسِ.
{وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 3 يَعْنِي الّذِينَ أَسْلَمُوا فَحَقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} 4 قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ حَيْنَ أَرْسَلَ سُوَيْدًا وَدَاعِسًا5 إلَى بَنِي النّضِيرِ: أَقِيمُوا وَلَا تَخْرُجُوا فَإِنّ مَعِي مِنْ قَوْمِي وَغَيْرِهِمْ أَلْفَيْنِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ فَيَمُوتُونَ عَنْ آخِرِهِمْ دُونَكُمْ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ} يَعْنِي ابْنَ أُبَيّ وَأَصْحَابَهُ. {لَئِنْ أُخْرِجُوا} 6 حَيْنَ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إنْسَانٌ وَاحِدٌ مَعَهُمْ وَقُوتِلُوا فَلَمْ يدخل
ـــــــ
1 سورة 59 الحشر 8.
2 سورة 59 الحشر 10.
3 سورة 59 الحشر 11
4 سورة 59 الحشر 11
5 في الأصل: "داعيا". والتصحيح من سائر النسخ.
6 سورة 59 الحشر 12.

(1/382)


الْحُصُنَ مِنْهُمْ إنْسَانٌ {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلّنّ الْأَدْبَارَ} يَعْنِي يَنْهَزِمُونَ مِنْ الرّعْبِ. {لَأَنْتُمْ أَشَدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ} 1 يَعْنِي ابْنَ أُبَيّ وَالْمُنَافِقِينَ الّذِينَ مَعَهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا ; {ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا} 2 يَعْنِي بَنِي النّضِير وَالْمُنَافِقِينَ {إِلّا فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ} يَقُولُ فِي حُصُونِهِمْ {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَبَنِي النّضِيرِ .{ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} يَقُولُ دِينُ بَنِي النّضِيرِ مُخَالِفٌ دِينَ الْمُنَافِقِينَ [وَهُمْ] جَمِيعًا. فِي عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ مُجْتَمِعُونَ. {كَمَثَلِ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} 3 قَالَ يَعْنِي قَيْنُقَاعَ حَيْنَ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ} 4 قَالَ هَذَا مَثَلٌ لِابْنِ أُبَيّ وَأَصْحَابِهِ الّذِينَ جَاءُوا بَنِي النّضِيرَ فَقَالُوا: أَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ فَنَحْنُ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ إنْ قُوتِلْتُمْ وَنَخْرُجُ إنْ أُخْرِجْتُمْ كَذِبًا وَبَاطِلًا، مَنّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ} 5 يَقُولُ مَا عَمِلَتْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. {وَلَا تَكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} 6 يَقُولُ أَعَرَضُوا عَنْ ذِكْرِ اللّهِ تَعَالَى فَأَضَلّهُمْ اللّهُ تَعَالَى أَنْ يَعْمَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا. وَقَالَ {الْقُدّوسُ} 7 الظاهر و{الْمُهَيْمِنُ} الشّهِيدُ.
ـــــــ
1 سورة 59 الحشر 13.
2 سورة 59 الحشر 14.
3 سورة 59 الحشر 15.
4 سورة 59 الحشر 16.
5 سورة 59 الحشر 18.
6 سورة 59 الحشر 19.
7 سورة 59 الحشر 23.

(1/383)


غَزْوَةُ بَدْرِ الْمَوْعِد
وَكَانَتْ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ شهرا، وَغَابَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا سِتّ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ رَوَاحَةَ.
حَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيّ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ لَمْ أُسَمّ قَالُوا: لَمّا أَرَادَ أَبُو سُفْيَان أَنْ يَنْصَرِفَ يَوْمَ أُحُدٍ نَادَى: مَوْعِدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ رَأْسَ الْحَوْلِ، نَلْتَقِي فِيهِ فَنَقْتَتِلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: " قُلْ نَعَمْ إنْ شَاءَ اللّهُ ".
وَيُقَالُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ مَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. فَافْتَرَقَ النّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ فَخَبّرُوا مَنْ قِبَلَهُمْ بِالْمَوْعِدِ وَتَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ وَأَجْلَبُوا1، وَكَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ الْأَيّامِ لِأَنّهُمْ رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ وَالدّوْلَةُ لَهُمْ طَمِعُوا فِي بَدْرٍ الْمَوْعِدِ أَيْضًا بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الظّفَرِ. وَكَانَ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ مَجْمَعًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعَرَبُ، وَسُوقًا تَقُومُ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ إلَى ثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ فَإِذَا مَضَتْ ثَمَانِي لَيَالٍ مِنْهُ تَفَرّقَ النّاسُ إلَى بِلَادِهِمْ. فَلَمّا دَنَا الْمَوْعِدُ كَرِهَ أَبُو سُفْيَانَ الْخُرُوجَ إلى رسول
ـــــــ
1 أجلبوا: تجمعوا وتألبوا. "النهاية ج1، ص: 169".

(1/384)


اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ يُحِبّ أَنْ يُقِيمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يُوَافِقُونَ الْمَوْعِدَ. فَكَانَ كُلّ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مَكّةَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ أَظْهَرَ لَهُ إنّا نُرِيدُ أَنْ نَغْزُوَ مُحَمّدًا فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ. فَيَقْدَمُ الْقَادِمُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمْ عَلَى تَجَهّزٍ فَيَقُولُ تَرَكْت أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جَمَعَ الْجُمُوعَ وَسَارَ فِي الْعَرَبِ لِيَسِيرَ إلَيْكُمْ لِمَوْعِدِكُمْ. فَيَكْرَهُ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَيَهِيبُهُمْ ذَلِكَ.
وَيَقْدَمُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ مَكّةَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ يَا نُعَيْم إنّي وَعَدْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ نَلْتَقِيَ نَحْنُ وَهُوَ بِبَدْرٍ الصّفْرَاءِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ. فَقَالَ نُعَيْمٌ: مَا أَقْدَمَنِي إلّا مَا رَأَيْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يَصْنَعُونَ مِنْ إعْدَادِ السّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَقَدْ تَجَلّبَ إلَيْهِ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ مِنْ بَلِيّ وَجُهَيْنَةَ وَغَيْرِهِمْ فَتَرَكْت الْمَدِينَةَ أَمْسَ وَهِيَ كَالرّمّانَةِ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَحَقّا مَا تَقُولُ؟ قَالَ إي وَاَللّهِ. فَجَزَوْا نُعَيْمًا خَيْرًا وَوَصَلُوهُ وَأَعَانُوهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَسْمَعُك تَذْكُرُ مَا تَذْكُرُ مَا قَدْ أَعَدّوا؟ وَهَذَا عَامُ جَدْبٍ - قَالَ نُعَيْمٌ الْأَرْضُ مِثْلُ ظَهْرِ التّرْسِ لَيْسَ فِيهَا لِبَعِيرٍ شَيْءٌ - وَإِنّمَا يُصْلِحُنَا عَامُ خِصْبٍ غَيْدَاقٍ1 تَرْعَى فِيهِ الظّهْرُ وَالْخَيْلُ وَنَشْرَبُ اللّبَنَ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ وَلَا أَخْرُجُ فَيَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، وَيَكُونُ الْخُلْفُ مِنْ قِبَلِهِمْ أَحَبّ إلَيّ. وَنَجْعَلُ لَك عِشْرِينَ فَرِيضَةً عَشْرًا جِذَاعًا2 وَعَشْرًا حِقَاقًا3، وَتُوضَعُ لَك عَلَى يدي
ـــــــ
1 غيداق: واسع مخصب. "لسان العرب ج12، ص: 156".
2 الجذاع: جمع الجذع، وهو من الإبل ما دخل في الستة الخاممسة. ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية. "النهاية ج1، ص: 150".
3 الحقاق: جمع الحقة وهو من الإبل ما دخل في السنة الرابعة إلى آخرها وسمي بذلك لأنه استحق الركوب. "النهاية ج1، ص: 244".

(1/385)


سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَيَضْمَنُهَا لَك. قَالَ نُعَيْمٌ رَضِيت. وَكَانَ سُهَيْلٌ صَدِيقًا لِنُعَيْمٍ فَجَاءَ سُهَيْلًا فَقَالَ يَا أَبَا يَزِيدَ تَضْمَنُ لِي عِشْرِينَ فَرِيضَةً عَلَى أَنْ أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَأَخْذُلَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ؟ قَالَ نَعَمْ. [قَالَ]: فَإِنّي خَارِجٌ. فَخَرَجَ عَلَى بَعِيرٍ حَمَلُوهُ عَلَيْهِ وَأَسْرَعَ السّيْرَ فَقَدِمَ وَقَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ مُعْتَمِرًا، فَوَجَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهّزُونَ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَيْنَ يَا نُعَيْمُ؟ قَالَ خَرَجْت مُعْتَمِرًا إلَى مَكّةَ.
فَقَالُوا: لَك عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ؟ قَالَ نَعَمْ تَرَكْت أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جَمَعَ الْجُمُوعَ وَأَجْلَبَ مَعَهُ الْعَرَبَ، فَهُوَ جَاءَ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فَأَقِيمُوا وَلَا تَخْرُجُوا فَإِنّهُمْ قَدْ أَتَوْكُمْ فِي دَارِكُمْ وَقَرَارِكُمْ فَلَنْ يَفْلِتَ مِنْكُمْ إلّا الشّرِيدُ وَقُتِلَتْ سَرَاتُكُمْ وَأَصَابَ مُحَمّدًا فِي نَفْسِهِ1 مَا أَصَابَهُ مِنْ الْجِرَاحِ. فَتُرِيدُونَ أَنْ تَخْرُجُوا إلَيْهِمْ فَتَلْقَوْهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ؟ بِئْسَ الرّأْيُ رَأَيْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ - وَهُوَ مَوْسِمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ النّاسُ - وَاَللّهِ مَا أَرَى أَنْ يَفْلِتَ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَجَعَلَ يَطُوفُ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى رَعَبَهُمْ وَكَرّهَ إلَيْهِمْ الْخُرُوجَ حَتّى نَطَقُوا بِتَصْدِيقِ قَوْلِ نُعَيْمٍ أَوْ مَنْ2 نَطَقَ مِنْهُمْ. وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَقَالُوا: مُحَمّدٌ لَا يَفْلِتُ3 مِنْ هَذَا الْجَمْعِ وَاحْتَمَلَ الشّيْطَانُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ النّاسِ لِخَوْفِ الْمُسْلِمِينَ حَتّى بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عِنْدَهُ حَتّى خَافَ رَسُولُ اللّهِ أَلّا يَخْرُجَ مَعَهُ أَحَدٌ. فَجَاءَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَمِعَا مَا سَمِعَا فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ وَمُعِزّ نَبِيّهُ وَقَدْ وَعَدْنَا الْقَوْمَ مَوْعِدًا وَنَحْنُ لَا نحب أن
ـــــــ
1 في ب: "وأصاب محمدا ما أصابه في نفسه من الجراح".
2 في ب: "أو نطق عنهم".
3 في ب: "وما محمد يفلت".

(1/386)


نَتَخَلّفَ عَنْ الْقَوْمِ فَيَرَوْنَ أَنّ هَذَا جُبْنٌ مِنّا عَنْهُمْ فَسِرْ لِمَوْعِدِهِمْ فَوَاَللّهِ إنّ فِي ذَلِكَ لَخِيرَةٌ فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ثُمّ قَالَ: " وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرُجَن وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ " قَالَ فَلَمّا تَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلّمَ بِمَا بَصّرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ الْمُسْلِمِينَ وَأَذْهَبَ مَا كَانَ رَعَبَهُمْ الشّيْطَانُ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ بِتِجَارَاتٍ لَهُمْ إلَى بَدْرٍ.
فَحُدّثْت عَنْ يَزِيدَ عَنْ خَصِيفَةَ قَالَ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَحِمَهُ اللّهُ يَقُولُ لَقَدْ رَأَيْتنَا وَقَدْ قُذِفَ الرّعْبُ فِي قُلُوبِنَا، فَمَا أَرَى أَحَدًا لَهُ نِيّةٌ فِي الْخُرُوجِ حَتّى أَنْهَجَ اللّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بَصَائِرَهُمْ وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ تَخْوِيفَ الشّيْطَانِ. فَخَرَجُوا فَلَقَدْ خَرَجْت بِبِضَاعَةٍ إلَى مَوْسِمِ بَدْرٍ، فَرَبِحْت لِلدّينَارِ دِينَارًا، فَرَجَعْنَا بِخَيْرٍ وَفَضْلٍ مِنْ رَبّنَا. فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ وَنَفَقَاتٍ. فَانْتَهَوْا إلَى بَدْرٍ لَيْلَةَ هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ وَقَامَ السّوقُ صَبِيحَةَ الْهِلَالِ فَأَقَامُوا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ وَالسّوقُ قَائِمَةٌ.
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَانَتْ الْخَيْلُ عَشْرَةَ أَفْرَاسٍ فَرَسٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَسٌ لِأَبِي بَكْرٍ، وَفَرَسٌ لِعُمَرَ، وَفَرَسٌ لِأَبِي قَتَادَةَ، وَفَرَسٌ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ، وَفَرَسٌ لِلْحُبَابِ، وَفَرَسٌ لِلزّبَيْرِ، وَفَرَسٌ لِعَبّادِ بْنِ بِشْرٍ.
فَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ الْمِقْدَادُ: شَهِدْت بَدْرَ الْمَوْعِدَ عَلَى فَرَسِي سُبْحَةً أَرْكَبُ ظَهْرَهَا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. ثُمّ إنّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ بَعَثْنَا نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ لِأَنْ يَخْذُلَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ عَنْ الْخُرُوجِ وَهُوَ جَاهِدٌ وَلَكِنْ نَخْرُجُ نَحْنُ فَنَسِيرُ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمّ نَرْجِعُ فَإِنْ كَانَ مُحَمّدٌ لَمْ يَخْرُجْ بَلَغَهُ أَنّا خَرَجْنَا فَرَجَعْنَا لِأَنّهُ لَمْ يَخْرُجْ فَيَكُونُ هَذَا لَنَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ أَظْهَرَنَا أَنّ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَلَا يُصْلِحُنَا

(1/387)


إلّا عَامُ عُشْبٍ. قَالُوا: نَعَمْ مَا رَأَيْت. فَخَرَجَ فِي قُرَيْشٍ، وَهُمْ أَلْفَانِ وَمَعَهُمْ خَمْسُونَ فَرَسًا، حَتّى انْتَهَوْا إلَى مَجَنّةَ1 ثُمّ قَالَ ارْجِعُوا، لَا يُصْلِحُنَا إلّا عَامُ خِصْبٍ غَيْدَاقٍ نَرْعَى فِيهِ الشّجَرَ وَنَشْرَبُ فِيهِ اللّبَنَ وَإِنّ عَامَكُمْ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَإِنّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا. فَسَمّى أَهْلُ مَكّةَ ذَلِكَ الْجَيْشَ جَيْشَ السّوِيقِ، يَقُولُونَ خَرَجُوا يَشْرَبُونَ السّوِيقَ.
وَكَانَ يَحْمِلُ لِوَاءَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْظَمَ يَوْمَئِذٍ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ يُقَالُ لَهُ مَخْشِيّ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الّذِي حَالَفَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمِهِ فِي غَزْوَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُولَى إلَى وَدّانَ فَقَالَ - وَالنّاسُ مُجْتَمِعُونَ فِي سُوقِهِمْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ - فَقَالَ يَا مُحَمّدُ لَقَدْ أُخْبِرْنَا أَنّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَمَا أَعْلَمُكُمْ إلّا أَهْلَ الْمَوْسِمِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْفَعَ ذَلِكَ إلَى عَدُوّهِ مِنْ قُرَيْش: " مَا أَخْرَجَنَا إلّا مَوْعِدُ أَبِي سُفْيَانَ وَقِتَالُ عَدُوّنَا، وَإِنْ شِئْت2 مَعَ ذَلِكَ نَبَذْنَا إلَيْك وَإِلَى قَوْمِك الْعَهْدَ ثُمّ جَالَدْنَاكُمْ قَبْلَ أَنْ نَبْرَحَ مِنْ مَنْزِلِنَا هَذَا ". فَقَالَ الضّمْرِيّ: بَلْ نَكُفّ أَيْدِيَنَا عَنْكُمْ وَنَتَمَسّكُ بِحِلْفِك. وَسَمِعَ بِذَلِكَ مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ فَانْطَلَقَ سَرِيعًا. وَكَانَ مُقِيمًا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ وَقَدْ رَأَى أَهْلَ الْمَوْسِمِ وَرَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ كَلَامَ مَخْشِيّ، فَانْطَلَقَ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ بِخَبَرِ مَوْسِمِ بَدْرٍ.
فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِكَثْرَةِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ وَأَنّهُمْ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ وَمَا سَمِعَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضّمْرِيّ، وَقَالَ وَافَى مُحَمّدٌ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ
ـــــــ
1 مجنة: موضع على أميال يسيرة من مكة بناحية مر الظهران. "معجم البلدان ج7، ص: 389".
2 في ب: "وإن شئت نبذنا".

(1/388)


أَصْحَابِهِ وَأَقَامُوا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ حَتّى تَصَدّعَ أَهْلُ الْمَوْسِمِ. فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ لِأَبِي سُفْيَانَ: قَدْ وَاَللّهِ نَهَيْتُك يَوْمَئِذٍ أَنْ تَعِدَ الْقَوْمَ وَقَدْ اجْتَرَءُوا عَلَيْنَا وَرَأَوْا أَنْ قَدْ أَخْلَفْنَاهُمْ وَإِنّمَا خَلّفَنَا الضّعْفُ عَنْهُمْ. فَأَخَذُوا فِي الْكَيْدِ وَالنّفَقَةِ فِي قِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَجْلَبُوا مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ الْعِظَامَ وَضَرَبُوا الْبَعْثَ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ، فَلَمْ يُتْرَكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلّا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَلّ أَوْ كَثُرَ. فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَقَلّ مِنْ أُوقِيّةٍ لِغَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. وَقَالَ مَعْبَدٌ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت أَنْ قُلْت شِعْرًا:
تَهْوَى عَلَى دِينِ1 أَبِيهَا الْأَتْلَدِ2 ... إذْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ3 مَوْعِدِ
وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الْغَدِ ... إذْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمّدِ
وَعَجْوَةٍ مَوْضُوعَةٍ كالعَنْجَدِ4
وَيَزْعُمُونَ أَنّ حُمّامًا5 قَالَهَا.
وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ {الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 6 الْآيَةَ يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - قَالَ الْوَاقِدِيّ: أَنْشَدَنِيهَا مَشْيَخَةُ آلِ كَعْبٍ وَأَصْحَابُنَا جَمِيعًا:
وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْرًا فَلَمْ نَجِدْ ... لِمَوْعِدِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا
فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتنَا فَلَقِيتنَا ... رَجَعْت ذَمِيمًا وَافْتَقَدْت الْمَوَالِيَا7
ـــــــ
1 تهوى: أي تسرع. والدين هنا الدأب والعادة. "شرح أبي ذر ص: 296".
2 الأتلد: الأقدم. "الصحاح ص: 447".
3 القديد: قرية جامعة بين مكة وزالمدينة كثيرة المياة. "وفاء الوفاء ج2، ص: 360".
4 العنجد: حب الزبيب ويقال هو الزبيب الأسود. "شرح أبي ذر ص: 295".
5 لعله يريد حمام بن حصين المري.
6 سورة 3 آل عمران 173.
7 افتقدت: معناه هنا فقدت. والموالي: القرابة. "شرح أبي ذر ص: 296".

(1/389)


تَرَكْنَا بِهَا أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنِهِ ... وَعَمْرًا أَبَا جَهْلٍ تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا
عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللّهِ أُفّ لِدِينِكُمْ ... وَأَمْرُكُمْ السّيّئُ1 الّذِي كَانَ غَاوِيَا
وَإِنّي وَإِنْ عَنّفْتُمُونِي2 لَقَائِلٌ ... فِدًى لِرَسُولِ اللّهِ أَهْلِي وَمَا لِيَا
أَطَعْنَا فَلَمْ نَعْدِلْ سِوَاهُ بِغَيْرِهِ ... شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ هَادِيَا
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ - ثَبَتَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ وَابْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُمَا:
أَقَمْنَا عَلَى الرّسّ النّزُوعِ3 ثَمَانِيَا ... بِأَرْعَنَ4 جَرّارٍ عَرِيضِ الْمَبَارِكِ
بِكُلّ كُمَيْتٍ جَوْزُهُ5 نِصْفُ خَلْقِهِ ... وَأُدْمٍ6 طُوّالٍ مُشْرِفَاتِ الْحَوَارِكِ7
تَرَى الْعَرْفَجَ8 الْعَامِيّ تُبْدَى أُصُولَهُ ... مَنَاسِمُ9 أَخْفَافِ الْمَطِيّ الرّوَاتِك10
إذَا هَبَطَتْ خَوْرَاتٍ11 مِنْ رَمْلِ عَالِجٍ12 ... فَقُولَا لَهَا لَيْسَ الطّرِيقُ هُنَالِكِ
ذَرُوا فَلَجَاتِ13 الشّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا ... ضراب كأفواه المخاهض الْأَوَارِكِ14
ـــــــ
1 في ب: "الشيء".
2 عنفتموني: أي لمتوني. "شرح أبي ذر ص: 296".
3 الرس النزوع: البئر الذي يخرج ماؤها بالأيدي. "شرح أبي ذر ص: 296".
4 الأرعن: الجيش والكثير الذي له أتباع وفضول، "شرح أبي ذر ص: 296".
5 جوزه: يعنمي وسطه. وأراد به هنا بطنه. "شرح أبي ذر ص: 297".
6 أدم: جمع أدماء والأدمة في الإبل: البياض الشديد. "الصحاح ص: 1859".
7 الحجوارك: جكمع حارك، وهو أعلى الككتفين. "شرح أبن ذر ص: 297".
8 العرفج: شجر معروف صغير سريع الاشتعال بالنار. وهو من نبات الصيف. "النهاية ج3، ص: 86".
9 مناسم: جمع منسم وهو طرف خف البعير "شرح أبي ذر ص: 297".
10 الرواتك: المسرعة، والرتك ضرب من المشي فيه إسراع، "شرح أبي ذر ص: 297".
11 هكذا في الأصل، وفي ب: "حوران" وكذا في ديوان حسان أيضا. "ص 19". وخورات: جمع خوزر، وهو المنخفض من الأرض، "القاموس المحيط ج2، ص: 25".
12 عالج: موضع في ديار كلب ويقال لبني بحتر من طيء. وقال أبو زياد الكلابي: رمل عالج يصل إلى الدهناء. والدهناء فيما بين اليمامة ووالبصرة. "معجم ما استعجم ص: 664".
13 فلجات: جمع فلج، وهو الماء الجاري، "الروض الأنف ج2، ص: 186".
14 المخاض: الحوامل من الإبل. والأوارك: التي ترعى الأراك، وهو شجر. "شرح أبي ذر ص: 296".

(1/390)


بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبّهِمْ ... وَأَنْصَارِ حَقّ أُيّدُوا بِمَلَائِكِ
فَإِنْ نَلْقَ فِي تَطْوَافِنَا وَالْتِمَاسِنَا ... فُرَاتَ بْنَ حَيّانٍ يَكُنْ رَهْنَ هَالِكِ
وَإِنْ نَلْقَ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ بَعْدَهُ ... نَزِدْ فِي سَوَادِ وَجْهِهِ لَوْنَ حَالِكِ1
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ2. هَكَذَا كَانَ.
ـــــــ
1 الحالك: الشديد السواد. "شرح أبي ذر ص: 297".

(1/391)