كتاب المغازي للواقدي غَزْوَةُ
بِئْرِ مَعُونَةَ
فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَأَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ
وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ
الْمُسَمّينَ وَقَدْ جَمَعْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: قَدِمَ
عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الْبَرَاءِ مَلَاعِبَ
الْأَسِنّةِ1 عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرَسَيْنِ وَرَاحِلَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَقَبْلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ فَعَرَضَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ
فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يُبْعِدْ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ إنّي أَرَى
أَمْرَك هَذَا أَمْرًا حَسَنًا شَرِيفًا ; وَقَوْمِي خَلْفِي، فَلَوْ
أَنّك بَعَثْت نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك مَعِي لَرَجَوْت أَنْ يُجِيبُوا
دَعْوَتَك وَيَتّبِعُوا أَمْرَك، فَإِنْ هُمْ اتّبَعُوك فَمَا أَعَزّ
أَمْرَك فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ . فَقَالَ عَامِرٌ لَا تَخَفْ
عَلَيْهِمْ أَنَا لَهُمْ جَارٍ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ
ـــــــ
1 سمي ملاعب الأسنة يوم سوبان وهو يوم كانت فيه وقيعة [بالتصغير] في
أيام العرب بين قيس وتميم، وقد فر عنه أخزه يومئذ فقال شاعر:
فررت وأسلمت ابن أمك عامرا ... يلاعب أطراف الوشيج المزعزع
الروض الأنف ج2، ص: 174".
(1/346)
نَجْدٍ.
وَكَانَ مِنْ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا شَبَبَةً1 يُسَمّونَ
الْقُرّاءَ كَانُوا إذَا أَمْسَوْا أَتَوْا نَاحِيَةً مِنْ
الْمَدِينَةِ فَتَدَارَسُوا وَصَلّوْا، حَتّى إذَا كَانَ وِجَاهَ
الصّبْحِ اسْتَعْذَبُوا مِنْ الْمَاءِ وَحَطِبُوا مِنْ الْحَطَبِ
فَجَاءُوا بِهِ إلَى حِجْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَانَ أَهْلُوهُمْ يَظُنّونَ أَنّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ
وَكَانَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ يَظُنّونَ أَنّهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ.
فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَخَرَجُوا فَأُصِيبُوا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتَلَتِهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: كَانُوا سَبْعِينَ وَيُقَالُ
إنّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ وَرَأَيْت الثّبْتَ عَلَى أَنّهُمْ
أَرْبَعُونَ. فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَهُمْ كِتَابًا، وَأَمّرَ عَلَى أَصْحَابِهِ الْمُنْذِرَ
بْنَ عَمْرٍو السّاعِدِيّ، فَخَرَجُوا حَتّى كَانُوا عَلَى بِئْرِ
مَعُونَةَ، وَهُوَ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ بَيْنَ
أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَكِلَا الْبَلَدَيْنِ يُعَدّ
مِنْهُ. فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ
عَنْ عُرْوَةَ قَالَ خَرَجَ الْمُنْذِرُ بِدَلِيلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ
يُقَالُ لَهُ الْمُطّلِبُ فَلَمّا نَزَلُوا عَلَيْهَا عَسْكَرُوا بِهَا
وَسَرّحُوا ظَهْرَهُمْ وَبَعَثُوا فِي سَرْحِهِمْ الْحَارِثَ بْنَ
الصّمّةِ وَعَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ. وَقَدّمُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ
بِكِتَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَلَمّا
انْتَهَى حَرَامٌ إلَيْهِمْ لَمْ يَقْرَءُوا الْكِتَابَ وَوَثَبَ
عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ عَلَى حَرَامٍ فَقَتَلَهُ وَاسْتَصْرَخَ
عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ فَأَبَوْا. وَقَدْ كَانَ عَامِرُ بْنُ
مَالِكٍ أَبُو بَرَاءٍ خَرَجَ قَبْلَ الْقَوْمِ إلَى نَاحِيَةِ نَجْدٍ
فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ قَدْ أَجَارَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ فَلَا
يَعْرِضُوا لَهُمْ فَقَالُوا: لَنْ يُخْفَرَ جِوَارُ أَبِي بَرَاءٍ.
وَأَبَتْ عَامِرٌ أَنْ تَنْفِرَ مَعَ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ، فَلَمّا
أَبَتْ عَلَيْهِ بَنُو عَامِرٍ اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ
سُلَيْمٍ - عُصَيّةَ وَرِعْلًا - فَنَفَرُوا مَعَهُ
ـــــــ
1 الشببة: الشبان، واحدهم شاب. "النهاية ج2، ص: 201".
(1/347)
وَرَأّسُوهُ
فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ: أَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا أَقْبَلُ
هَذَا وَحْدَهُ فَاتّبَعُوا إثْرَهُ حَتّى وَجَدُوا الْقَوْمَ قَدْ
اسْتَبْطَئُوا صَاحِبَهُمْ فَأَقْبَلُوا فِي إثْرِهِ فَلَقِيَهُمْ
الْقَوْمُ وَالْمُنْذِرُ مَعَهُمْ فَأَحَاطَتْ بَنُو عَامِرٍ
بِالْقَوْمِ وَكَاثَرُوهُمْ فَقَاتَلَ الْقَوْمُ حَتّى قُتِلَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَقِيَ
الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالُوا لَهُ إنْ شِئْت آمَنّاك. فَقَالَ
لَنْ أُعْطِيَ بِيَدِي وَلَنْ أَقْبَلَ لَكُمْ أَمَانّا حَتّى آتِيَ
مَقْتَلَ حَرَامٍ ثُمّ بَرِئَ مِنّي جِوَارُكُمْ. فَآمَنُوهُ حَتّى
أَتَى مَصْرَعَ حَرَامٍ ثُمّ بَرِئُوا إلَيْهِ مِنْ جِوَارِهِمْ ثُمّ
قَاتَلَهُمْ حَتّى قُتِلَ فَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْنَقَ لِيَمُوتَ "1. وَأَقْبَلَ
الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ وَعَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بِالسّرْحِ وَقَدْ
ارْتَابَا بِعُكُوفِ الطّيْرِ عَلَى مَنْزِلِهِمْ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ
مَنْزِلِهِمْ فَجَعَلَا يَقُولَانِ قُتِلَ وَاَللّهِ أَصْحَابُنَا ;
وَاَللّهِ مَا قَتَلَ أَصْحَابَنَا إلّا أَهْلُ نَجْدٍ فَأَوْفَى عَلَى
نَشَزٍ مِنْ الْأَرْضِ فَإِذَا أَصْحَابُهُمْ مَقْتُولُونَ وَإِذَا
الْخَيْلُ وَاقِفَةٌ فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ لعمرو بْنِ
أُمَيّةَ مَا تَرَى؟ قَالَ أَرَى أَنْ أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْبِرَهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ
الْحَارِثُ مَا كُنْت لِأَتَأَخّرَ عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ
الْمُنْذِرُ. فَأَقْبَلَا لِلْقَوْمِ2 فَقَاتَلَهُمْ الْحَارِثُ حَتّى
قَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ ثُمّ أَخَذُوهُ فَأَسَرُوهُ وَأَسَرُوا
عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ. وَقَالُوا لِلْحَارِثِ مَا تُحِبّ أَنْ
نَصْنَعَ بِك، فَإِنّا لَا نُحِبّ قَتْلَك؟ قَالَ أَبْلِغُونِي
مَصْرَعَ الْمُنْذِرِ وَحَرَامٍ ثُمّ بَرِئَتْ مِنّي ذِمّتُكُمْ.
قَالُوا: نَفْعَلُ. فَبَلَغُوا بِهِ ثُمّ أَرْسَلُوهُ فَقَاتَلَهُمْ
فَقَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ ثُمّ قُتِلَ فَمَا قَتَلُوهُ حَتّى
شَرَعُوا لَهُ الرّمَاحَ فَنَظَمُوهُ فِيهَا. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ
الطّفَيْلِ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ وَهُوَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ
وَلَمْ يُقَاتِلْ إنّهُ قَدْ كَانَتْ عَلَى أُمّي نَسَمَةٌ فَأَنْتَ
حُرّ عَنْهَا وجز ناصيته. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ
ـــــــ
1 أعنق ليموت: أي إن المنية أسرعت به وساقته إلى مصرعه. "النهاية ج3،
ص: 133".
2 في ب، ت: "فأقبلا فلقيا القوم".
(1/348)
الطّفَيْلِ
لِعَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ هَلْ تَعْرِفُ أَصْحَابَك؟ قَالَ قُلْت:
نَعَمْ. قَالَ فَطَافَ فِيهِمْ وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَنْسَابِهِمْ
فَقَالَ هَلْ تَفْقِدُ مِنْهُمْ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ أَفْقِدُ مَوْلًى
لِأَبِي بَكْرٍ يُقَالُ لَهُ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ. فَقَالَ كَيْفَ
كَانَ فِيكُمْ؟ قَالَ قُلْت: كَانَ مِنْ أَفْضَلِنَا وَمِنْ أَوّلِ
أَصْحَابِ نَبِيّنَا. قَالَ أَلَا أُخْبِرُك خَبَرَهُ؟ وَأَشَارَ إلَى
رَجُلٍ فَقَالَ هَذَا طَعَنَهُ بِرُمْحِهِ ثُمّ انْتَزَعَ رُمْحَهُ
فَذَهَبَ بِالرّجُلِ عُلُوّا فِي السّمَاءِ حَتّى وَاَللّهِ مَا
أَرَاهُ. قَالَ عَمْرٌو، فَقُلْت: ذَلِكَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ
وَكَانَ الّذِي قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلَابٍ يُقَالُ لَهُ
جَبّارُ بْنُ سَلْمَى، ذَكَرَ أَنّهُ لَمّا طَعَنَهُ قَالَ سَمِعْته
يَقُولُ "فُزْت وَاَللّهِ". قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي: مَا قَوْلُهُ
"فُزْت"؟ قَالَ فَأَتَيْت الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ
فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ وَسَأَلْته عَنْ قَوْلِهِ "فُزْت"، فَقَالَ
الْجَنّةَ.
قَالَ وَعَرَضَ عَلَيّ الْإِسْلَامَ. قَالَ فَأَسْلَمْت، وَدَعَانِي
إلَى الْإِسْلَامِ مَا رَأَيْت مِنْ مَقْتَلِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ
مِنْ رَفْعِهِ إلَى السّمَاءِ عُلُوّا. قَالَ وَكَتَبَ الضّحّاكُ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ
بِإِسْلَامِي وَمَا رَأَيْت مِنْ مَقْتَلِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنّ
الْمَلَائِكَةَ وَارَتْ جُثّتَهُ وَأَنْزَلَ عِلّيّينَ ".
فَلَمّا جَاءَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَبَرُ بِئْرِ مَعُونَةَ، جَاءَ مَعَهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ
مُصَابُهُمْ وَمُصَابُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، وَبَعَثَ
مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْت
لِهَذَا كَارِهًا " وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى قَتَلَتِهِمْ بَعْدَ الرّكْعَةِ مِنْ الصّبْحِ فِي
صُبْحِ تِلْكَ اللّيْلَةِ الّتِي جَاءَهُ الْخَبَرُ، فَلَمّا قَالَ: "
سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ اللّهُمّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك
عَلَى مُضَرًا ; اللّهُمّ عَلَيْك بِبَنِي لِحْيَانَ وَزِعْبٍ وَرِعْلٍ
وَذَكْوَانَ وَعُصَيّةَ، فَإِنّهُمْ عَصَوْا اللّهَ وَرَسُولَهُ
اللّهُمّ عَلَيْك
(1/349)
بِبَنِي
لِحْيَانَ وَعَضَلَ وَالْقَارّةَ; اللّهُمّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ ابْنِ هِشَامٍ، وَعَيّاشَ بْنَ أَبِي
رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غِفَارٌ غَفَرَ
اللّهُ لَهَا، وَأَسْلَمَ سَالَمَهَا اللّهُ " ثُمّ سَجَدَ فَقَالَ
ذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَيُقَالُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتّى نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ}1 الْآيَةُ. وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ يَا رَبّ2
سَبْعِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَكَانَ أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ قَتَلْت مِنْ الْأَنْصَارِ فِي مَوَاطِنَ
سَبْعِينَ سَبْعِينَ - يَوْمَأُحُدٍسَبْعُونَ وَيَوْمَ بِئْرِ
مَعُونَةَ سَبْعُونَ وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ وَيَوْمَ جِسْرِ
أَبِي عُبَيْدٍ سَبْعُونَ. وَلَمْ يَجِدْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى مَا وَجَدَ عَلَى قَتْلَى
بِئْرِ مَعُونَةَ. وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ أَنْزَلَ
اللّهُ فِيهِمْ قُرْآنًا قَرَأْنَاهُ حَتّى نُسِخَ "بَلّغُوا قَوْمَنَا
أَنّا لَقِينَا رَبّنَا فَرَضِيَ عَنّا وَرَضِينَا عَنْهُ".
قَالُوا : وَأَقْبَلَ أَبُو بَرَاءٍ سَائِرًا، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ
هِمّ3، فَبَعَثَ مِنْ الْعِيصِ ابْنَ أَخِيهِ لَبِيَدِ بْنِ رَبِيعَةَ
بِهَدِيّةٍ فَرَسٍ فَرَدّهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: "لَا أَقَبْلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ " فَقَالَ لَبِيدٌ
مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ أَحَدًا مِنْ مُضَرَ يَرُدّ هَدِيّةَ أَبِي
بَرَاءٍ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ
قَبِلْت هَدِيّةَ مُشْرِكٍ لَقَبِلْت هَدِيّةَ أَبِي بَرَاءٍ ". قَالَ
فَإِنّهُ قَدْ بَعَثَ يَسْتَشْفِيكَ مِنْ وَجَعٍ بِهِ - وَكَانَتْ بِهِ
الدّبَيْلَةُ. فَتَنَاوَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَبُوبَةً4 مِنْ الْأَرْضِ فَتَفَلَ فِيهَا، ثُمّ نَاوَلَهُ وَقَالَ: "
دُفْهَا بِمَاءٍ ثُمّ اسْقِهَا إيّاهُ ". فَفَعَلَ فَبَرِئَ. ويقال إنه
ـــــــ
1 سورة 3 آل عمران 128
2 في ت: "اللهم يا رب".
3 الهم: الشيخ الفاني. "الصحاح ص: 2062".
4 في هامش نسخة ب: "الجبوبة المدرة".
(1/350)
بَعَثَ إلَيْهِ
بِعُكّةَ1 عِسْلًا فَلَمْ يَزَلْ يَلْعَقُهَا حَتّى بَرِئَ. فَكَانَ
أَبُو بَرَاءٍ يَوْمَئِذٍ سَائِرًا فِي قَوْمِهِ يُرِيدُ أَرْضَ
بَلِيّ، فَمَرّ بِالْعِيصِ فَبَعَثَ ابْنَهُ رَبِيعَةَ مَعَ لَبِيدٍ
يَحْمِلَانِ طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِرَبِيعَةَ: " مَا فَعَلَتْ ذِمّةُ أَبِيك "؟ قَالَ
رَبِيعَةُ: نَقَضَتْهَا ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ
". فَخَرَجَ ابْنُ أَبِي بَرَاءٍ فَخَبّرَ أَبَاهُ فَشَقّ عَلَيْهِ مَا
فَعَلَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ وَمَا صَنَعَ بِأَصْحَابِ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَرَكَةَ بِهِ مِنْ الْكِبَرِ
وَالضّعْفِ فَقَالَ أَخْفِرنِي ابْنَ أَخِي مِنْ بَيْنِ بَنِي عَامِرٍ.
وَسَارَ حَتّى كَانُوا عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَلِيّ يُقَالُ لَهُ
الْهَدْمُ2، فَيَرْكَبُ رَبِيعَةُ فَرَسًا لَهُ وَيَلْحَقُ عَامِرًا
وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ فَطَعَنَهُ بِالرّمْحِ فَأَخْطَأَ
مَقَاتِلَهُ. وَتَصَايَحَ النّاسُ فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ:
إنّهَا لَمْ تَضُرّنِي إنّهَا لَمْ تَضُرّنِي وَقَالَ قَضَيْت ذِمّةَ
أَبِي بَرَاءٍ. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ: قَدْ عَفَوْت عَنْ
عَمّي، هَذَا فِعْلَهُ
وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللّهُمّ اهْدِ
بَنِي عَامِرٍ وَاطْلُبْ خُفْرَتِي3 مِنْ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ ".
وَأَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ حَتّى قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ عَلَى رِجْلَيْهِ أَرْبَعًا ;
فَلَمّا كَانَ بِصُدُورِ قَنَاةٍ4 لَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي
كِلَابٍ، قَدْ كَانَا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَسَاهُمَا، وَلَهُمَا مِنْهُ أَمَانٌ.
وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ عَمْرٌو، فَقَايَلَهُمَا فَلَمّا نَامَا
وَثَبَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا لِلّذِي أَصَابَتْ بَنُو عَامِرٍ
مِنْ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ. ثُمّ قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــ
1 العكة: وعاء من جلود مستدير يختص بالسمن والعسل. "النهاية ج3، ص:
120".
2 الهدم وراء وادي القرى. "معجم البلدان ج8، ص: 449"
3 الخفرة: الذمة "النهاية ج1، ص: 341".
4 في الأصل: "مياه". وقناة: أحد أودية المدينة. "وفاء الوفاء ج2، ص:
363".
(1/351)
فَأَخْبَرَهُ
بِقَتْلِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَقَالَ: " أَنْتَ مِنْ
بَيْنِهِمْ " وَيُقَالُ إنّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ رَجَعَ مَعَ
عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " مَا بَعَثْتُك قَطّ إلّا رَجَعْت إلَيّ مِنْ بَيْنِ
أَصْحَابِك " وَيُقَالُ إنّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي
السّرِيّةِ إلّا أَنْصَارِيّ، وَهَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا. وَأَخْبَرَ
عَمْرُو النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقْتَلِ
الْعَامِرِيّيْنِ فَقَالَ بِئْسَ مَا صَنَعْت، قَتَلْت رَجُلَيْنِ
كَانَ لَهُمَا مِنّي أَمَانٌ وَجِوَارٌ لِأَدِيَنّهُمَا فَكَتَبَ
إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ وَبَعَثَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ
يُخْبِرُهُ إنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ
أَصْحَابِنَا وَلَهُمَا مِنْك أَمَانٌ وَجِوَارٌ. فَأَخْرَجَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُمَا، دِيَةَ
حُرّيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَبَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ.
حَدّثَنِي مُصْعَبٌ عَنْ أَبِي أَسْوَدَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ حَرَصَ
الْمُشْرِكُونَ بِعُرْوَةَ بْنِ الصّلْتِ أَنْ يُؤَمّنُوهُ فَأَبَى -
وَكَانَ ذَا خِلّةٍ بِعَامِرٍ - مَعَ أَنّ قَوْمَهُ بَنِي سُلَيْمٍ1
حَرَصُوا عَلَى ذَلِكَ فَأَبَى وَقَالَ لَا أَقَبْلُ لَكُمْ أَمَانًا
وَلَا أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْ مَصْرَعِ أَصْحَابِي. وَقَالُوا حَيْنَ
أُحِيطَ بِهِمْ اللّهُمّ إنّا لَا نَجِدُ مَنْ يُبَلّغُ رَسُولَك
السّلَامَ غَيْرَك، فَاقْرَأْ عَلَيْهِ السّلَامَ - فَأَخْبَرَهُ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ.
ـــــــ
1 في الأصل: "من بني سليم" وما أثبتناه عن سائر النسخ.
(1/352)
تَسْمِيَةُ
مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ قُرَيْش
مِنْ بَنِي تَيْمٍ: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ; وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ:
الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ حَلِيفٌ لَهُمْ وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نَافِعٌ
مِنْ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ ; وَمِنْ الْأَنْصَارِ: الْمُنْذِرُ بْنُ
عَمْرٍو، أَمِيرُ الْقَوْمِ وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ مُعَاذُ بْنُ
مَاعِصٍ وَمِنْ بَنِي النّجّارِ: حَرَامٌ وَسُلَيْمٌ2 ابْنَا مِلْحَانَ
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ: الْحَارِثُ
ـــــــ
2 في الأصل: "حرام وسليمان" وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد
البر. "الاستيعاب ص: 648".
(1/352)
بْنُ الصّمّةِ
وَسَهْلُ بْنُ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَالطّفَيْلُ بْنُ
سَعْدٍ وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ: أَنَسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
بْنِ أَنَسٍ وَأَبُو شَيْخٍ أُبَيّ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ
وَمِنْ بَنِي دِينَارِ بْنِ النّجّارِ: عَطِيّةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو،
وَارْتُثّ مِنْ الْقَتْلَى كَعْبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ - قُتِلَ
يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عُرْوَةُ بْنُ
الصّلْتِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ; وَمِنْ النّبِيتِ
مَالِكُ بْنُ ثَابِتٍ وَسُفْيَانُ بْنُ ثَابِتٍ. فَجَمِيعُ مَنْ
اُسْتُشْهِدَ مِمّنْ يُحْفَظُ اسْمُهُ سِتّةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَرْثِي نَافِعَ بْنَ بُدَيْلٍ
سَمِعْت أَصْحَابَنَا يَنْشُدُونَهَا:
رَحِمَ اللّهُ نَافِعَ بْنَ بُدَيْلٍ ... رَحْمَةَ الْمُبْتَغِي
ثَوَابَ الْجِهَادِ
صَارِمٌ صَادِقُ اللّقَاءِ إذَا مَا ... أَكْثَرَ النّاسُ قَالَ قَوْلَ
السّدَادِ
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ عَبّاسٍ السّلَمِيّ، وَكَانَ خَالَ طُعَيْمَةَ
بْنِ عَدِيّ، وَكَانَ طُعَيْمَةُ يُكْنَى أَبَا الرّيّانِ خَرَجَ
يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ يُحَرّضُ قَوْمَهُ يَطْلُبُ بِدَمِ ابْنِ
أَخِيهِ حَتّى قَتَلَ نَافِعَ بْنَ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَقَالَ:
تَرَكْت ابْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ ثَاوِيًا ... بِمُعْتَرَكٍ
تَسْفِي عَلَيْهِ الْأَعَاصِرُ
ذَكَرْت أَبَا الرّيّانِ لَمّا عَرَفْته ... وَأَيْقَنْت أَنّي يَوْمَ
ذَلِكَ ثَائِرُ1
سَمِعْت أَصْحَابَنَا يَثْبُتُونَهَا. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ
يَرْثِي الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو:
صَلّى الْإِلَهُ عَلَى ابْنِ عَمْرٍو إنّه ... صَدْقُ اللّقَاءِ
وَصَدْقُ ذَلِكَ أَوْفَقُ
قَالُوا لَهُ أَمْرَيْنِ فَاخْتَرْ فِيهِمَا ... فَاخْتَارَ فِي
الرّأْيِ الّذِي هُوَ أَرْفَقُ
أَ نْشَدَنِي ابْنُ جَعْفَرٍ قَصِيدَةَ حَسّانٍ "سَحّا غَيْرَ
نَزْرٍ"2.
ـــــــ
1 ثانئر: بمعنى آخذ الثأر.
2 انظر ابن إسحاق. "السيرة النبوية ج3، ص: 198".
(1/353)
غَزْوَةُ
الرّجِيعِ
فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يعقوب عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ
قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَ الرّجِيعِ عُيُونًا إلَى مَكّةَ لِيُخْبِرُوهُ خَبَرَ
قُرَيْشٍ، فَسَلَكُوا عَلَى النّجْدِيّةِ حَتّى كَانُوا بِالرّجِيعِ
فَاعْتَرَضَتْ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ
وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ فِي رِجَالٍ
مِمّنْ لَمْ أُسَمّ1 وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِبَعْضِ الْحَدِيثِ
وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَقَدْ جَمَعْت
الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: لَمّا قُتِلَ سُفْيَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ مَشَتْ بَنُو لِحْيَانَ إلَى عَضَلٍ
وَالْقَارّةِ، فَجَعَلُوا لَهُمْ فَرَائِضَ عَلَى أَنْ يَقْدَمُوا
عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُكَلّمُوهُ
فَيُخْرِجَ إلَيْهِمْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْعُونَهُمْ إلَى
الْإِسْلَامِ. فَنَقْتُلَ مَنْ قَتَلَ صَاحِبَنَا وَنَخْرُجَ
بِسَائِرِهِمْ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ فَنُصِيبَ بِهِمْ ثَمَنًا ;
فَإِنّهُمْ لَيْسُوا لِشَيْءٍ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُؤْتَوْا
بِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ يُمَثّلُونَ بِهِ وَيَقْتُلُونَهُ
بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ. فَقَدِمَ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ
عَضَلٍ وَالْقَارّةِ - وَهُمَا حَيّانِ إلَى خُزَيْمَةَ2 - مُقِرّيْنِ
بِالْإِسْلَامِ فَقَالُوا لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إنّ فِينَا إسْلَامًا فَاشِيًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا
مِنْ أَصْحَابِك يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ وَيُفَقّهُونَنَا فِي
الْإِسْلَامِ.
ـــــــ
1 في ت: "لم يسم".
2 قال ابن هشام: عضل والقارة من الهون بن خزيمة بن مدركة. "السيرة
النبوية ج3، ص: 178".
(1/354)
فَبَعَثَ
مَعَهُمْ سَبْعَةَ نَفَرٍ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ،
وَخَالِدُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ طَارِقٍ
البَلَوِيّ حَلِيفٌ فِي بَنِي ظَفَرٍ، وَأَخَاهُ لِأُمّهِ مُعَتّبُ
بْنُ عُبَيْدٍ، حَلِيفٌ فِي بَنِي ظَفَرٍ وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ بْنِ
بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَزَيْدُ بْنُ الدّثِنّة مِنْ بَنِي
بَيَاضَةَ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. وَيُقَالُ
كَانُوا عَشْرَةً وَأَمِيرُهُمْ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ ;
وَيُقَالُ أَمِيرُهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ.
فَخَرَجُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِمَاءٍ لهُذَيْل - يُقَالُ لَهُ
الرّجِيعُ قَرِيبٌ مِنْ الْهَدّةِ1 - خَرَجَ النّفَرُ فَاسْتَصْرَخُوا
عَلَيْهِمْ أَصْحَابَهُمْ الّذِينَ بَعَثَهُمْ اللّحْيَانِيّونَ فَلَمْ
يُرَعْ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا
بِالْقَوْمِ مِائَةُ رَامٍ وَفِي أَيْدِيهمْ السّيُوفُ. فَاخْتَرَطَ
أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْيَافَهُمْ
ثُمّ قَامُوا، فَقَالَ الْعَدُوّ: مَا نُرِيدُ قِتَالَكُمْ وَمَا
نُرِيدُ إلّا أَنْ نُصِيبَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ ثَمَنًا،
وَلَكُمْ عَهْدُ اللّهِ وَمِيثَاقُهُ لَا نَقْتُلُكُمْ. فَأَمّا
خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ، وَزَيْدُ بْنُ الدّثِنّة، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ
طَارِقٍ، فَاسْتَأْسَرُوا. وَقَالَ خُبَيْبٌ إنّ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ
يَدًا. وَأَمّا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَرْثَدٌ وَخَالِدُ بْنُ أَبِي
الْبُكَيْرِ وَمُعَتّبُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا
جِوَارَهُمْ وَلَا أَمَانَهُمْ. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ إنّي
نَذَرْت أَلّا أَقْبَلَ جِوَارَ مُشْرِكٍ أَبَدًا. فَجَعَلَ عَاصِمٌ
يُقَاتِلُهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:
مَا عِلّتِي وَأَنَا جَلْدٌ نَابِلُ ... النّبْلُ وَالْقَوْسُ لَهَا
بَلَابِلُ2
تَزِلّ عَنْ صَفْحَتِهَا الْمَعَابِلُ ... الْمَوْتُ حَقّ وَالْحَيَاةُ
بَاطِلُ
وَكُلّ مَا حَمّ الْإِلَهُ نَازِلُ ... بِالْمَرْءِ وَالْمَرْءُ
إلَيْهِ آئِلُ
إنْ لَمْ أُقَاتِلْكُمْ فَأُمّي هَابِلُ3
ـــــــ
1 يروى بتخفيف الدال وتشديدها. قال ابن سراج: أراد الهدأة فنقل الحركة
فهو مخفف على هذا. "شرح أبي ذر ص: 276".
2 بلابل: جمع بلبلة وبلبال، وهو شدة الهم. "القاموس المحيط ج3، ص:
337".
3 هابل: أي فاقد، يقال هبلته أمه إذا فقدته. "شرح أبي ذر ص: 276".
(1/355)
قال الواقدي
مَا رَأَيْت مِنْ أَصْحَابِنَا أَحَدًا يَدْفَعُهُ. قَالَ فَرَمَاهُمْ
بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ ثُمّ طَاعَنَهُمْ بِالرّمْحِ حَتّى
كُسِرَ رُمْحُهُ وَبَقِيَ السّيْفُ فَقَالَ اللّهُمّ حَمَيْت دِينَك
أَوّلَ نَهَارِي فَاحْمِ لِي لَحْمِي آخِرَهُ وَكَانُوا يُجَرّدُونَ
كُلّ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ فَكُسِرَ غِمْدُ سَيْفِهِ
ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ وَقَدْ جَرَحَ رَجُلَيْنِ وَقَتَلَ
وَاحِدًا. فَقَالَ عَاصِمٌ وَهُوَ يُقَاتِل:
أَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ وَمِثْلِي رَامَى ... وَرِثْت مَجْدًا
مَعْشَرًا كِرَامًا
أَصَبْت مَرْثَدًا وَخَالِدًا قِيَامًا1
ثُمّ شَرَعُوا فِيهِ الْأَسِنّةَ حَتّى قَتَلُوهُ. وَكَانَتْ سُلَافَةُ
بِنْتُ سَعْدِ بْنِ الشّهِيدِ. قَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَبَنُوهَا
أَرْبَعَةٌ قَدْ كَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ الْحَارِثُ
وَمُسَافِعًا ; فَنَذَرَتْ لَئِنْ أَمْكَنَهَا اللّهُ مِنْهُ أَنْ
تَشْرَبَ فِي قِحْفِ2 رَأْسِهِ الْخَمْرَ وَجَعَلَتْ لِمَنْ جَاءَ
بِرَأْسِ عَاصِمٍ مِائَةَ نَاقَةٍ قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكَ الْعَرَبُ
وَعَلِمَتْهُ بَنُو لِحْيَانَ فَأَرَادُوا أَنْ يَحْتَزّوا رَأْسَ
عَاصِمٍ لِيَذْهَبُوا بِهِ إلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ لِيَأْخُذُوا
مِنْهَا مِائَةَ نَاقَةٍ. فَبَعَثَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ
الدّبْرَ فَحَمَتْهُ فَلَمْ يَدْنُ إلَيْهِ أَحَدٌ إلّا لَدَغَتْ
وَجْهَهُ وَجَاءَ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِهِ.
فَقَالُوا: دَعُوهُ إلَى اللّيْلِ فَإِنّهُ إذَا جَاءَ اللّيْلُ ذَهَبَ
عَنْهُ الدّبْرُ. فَلَمّا جَاءَ اللّيْلُ بَعَثَ اللّهُ عَلَيْهِ
سَيْلًا - وَكُنّا مَا نَرَى فِي السّمَاءِ سَحَابًا فِي وَجْهٍ مِنْ
الْوُجُوهِ - فَاحْتَمَلَهُ فَذَهَبَ بِهِ فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَذْكُرُ
عَاصِمًا - وَكَانَ عَاصِمٌ نَذَرَ أَلّا يَمَسّ مُشْرِكًا وَلَا
يَمَسّهُ مُشْرِكٌ تَنَجّسًا بِهِ. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَيَحْفَظُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنَعَهُ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ أَنْ
ـــــــ
1 في الأصل: "وجلده قياما" وفي ت: "أصيب مرثد وخالد قياما". وما
أثبتناه هو قراءة ب.
2 القحف: العظم الذي فوق الدماغ. "الصحاح ص: 1413".
(1/356)
يَمَسّوهُ
بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ فِي حَيَاتِهِ.
وَقَاتَلَ مُعَتّبُ بْنُ عُبَيْدٍ حَتّى جُرِحَ فِيهِمْ ثُمّ خَلَصُوا
إلَيْهِ فَقَتَلُوهُ. وَخَرَجُوا بِخُبَيْبٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ
طَارِقٍ، وَزَيْدِ بْنِ الدّثِنّة حَتّى إذَا كَانُوا بِمَرّ
الظّهْرَانِ، وَهُمْ مُوثَقُونَ بِأَوْتَارِ قِسِيّهِمْ قَالَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ طَارِقٍ: هَذَا أَوّلُ الْغَدْرِ وَاَللّهِ لَا
أُصَاحِبُكُمْ إنّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةٌ - يَعْنِي الْقَتْلَى.
فَعَالَجُوهُ فَأَبَى، وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ رِبَاطِهِ ثُمّ أَخَذَ
سَيْفَهُ فَانْحَازُوا عَنْهُ فَجَعَلَ يَشُدّ فِيهِمْ وَيَنْفَرِجُونَ
عَنْهُ فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى قَتَلُوهُ - فَقَبْرُهُ بِمَرّ
الظّهْرَانِ. وَخَرَجُوا بِخُبَيْبِ بْنِ عُدّيّ وَزَيْدِ بْنِ
الدّثِنّة حَتّى قَدِمُوا بِهِمَا مَكّةَ، فَأَمّا خُبَيْبٌ
فَابْتَاعَهُ حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إهَابٍ بِثَمَانِينَ مِثْقَالِ
ذَهَبٍ. وَيُقَالُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ فَرِيضَةً1 وَيُقَالُ
اشْتَرَتْهُ ابْنَةُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ بِمِائَةٍ
مِنْ الْإِبِلِ. وَكَانَ حُجَيْرُ إنّمَا اشْتَرَاهُ لِابْنِ أَخِيهِ
عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ قُتِلَ
يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَمّا زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة، فَاشْتَرَاهُ صَفْوَانُ
بْنُ أُمَيّةَ بِخَمْسِينَ فَرِيضَةً فَقَتَلَهُ بِأَبِيهِ وَيُقَالُ
إنّهُ شَرِكَ فِيهِ أُنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ ; فَدَخَلَ بِهِمَا فِي
شَهْرٍ حَرَامٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَحُبِسَ حُجَيْرُ خُبَيْبَ بْنَ
عَدِيّ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ. يُقَالُ لَهَا مَاوِيّةُ مَوْلَاةٌ
لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَحَبَسَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ زَيْدَ بْنَ
الدّثِنّة عِنْدَ نَاسٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، وَيُقَالُ عِنْدَ نِسْطَاسٍ
غُلَامِهِ. وَكَانَتْ مَاوِيّةُ قَدْ أَسْلَمَتْ بَعْدُ فَحَسُنَ
إسْلَامُهَا، وَكَانَتْ تَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَأَيْت أَحَدًا خَيْرًا
مِنْ خُبَيْبٍ. وَاَللّهِ لَقَدْ اطّلَعْت عَلَيْهِ مِنْ صِيرِ2
الْبَابِ وَإِنّهُ لَفِي الْحَدِيدِ مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ حَبّةَ
عِنَبٍ تُؤْكَلُ وَإِنّ فِي يَدِهِ لَقِطْفَ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ
الرّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ وَمَا هُوَ إلّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللّهُ.
وَكَانَ خُبَيْبٌ يَتَهَجّدُ بِالْقُرْآنِ
ـــــــ
1 الفريضة: البعير المأخوذ في الزككاة، سمي فريضة لأنه فرض واجب على رب
المال، ثم اتسع فيه حتى سمي البعير فريضة في غير الزكاة. "النهاية ج3،
ص: 194".
2 الصير: شق الباب. "النهاية ج3، ص: 8".
(1/357)
وَكَانَ
يَسْمَعُهُ النّسَاءُ فَيَبْكِينَ وَيُرَقّقْنَ عَلَيْهِ. قَالَتْ
فَقُلْت لَهُ يَا خُبَيْبُ هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ لَا، إلّا
أَنْ تَسْقِيَنِي الْعَذْبَ وَلَا تُطْعِمِينِي مَا ذُبِحَ عَلَى
النّصُبِ. وَتُخْبِرِينِي إذَا أَرَادُوا قَتْلِي. قَالَتْ فَلَمّا
انْسَلَخَتْ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ
أَتَيْته فَأَخْبَرْته، فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْته اكْتَرَثَ لِذَلِكَ
وَقَالَ ابْعَثِي لِي بِحَدِيدَةٍ أَسْتَصْلِحْ بِهَا. قَالَتْ
فَبَعَثْت إلَيْهِ مُوسَى مَعَ ابْنَيْ أَبِي حُسَيْنٍ فَلَمّا وَلّى
الْغُلَامُ قُلْت: أَدْرَكَ وَاَللّهِ الرّجُلُ ثَأْرَهُ أَيّ شَيْءٍ
صَنَعْت؟ بَعَثْت هَذَا الْغُلَامَ بِهَذِهِ الْحَدِيدَةِ فَيَقْتُلُهُ
وَيَقُولُ "رَجُلٌ بِرَجُلٍ".
فَلَمّا أَتَاهُ ابْنِي بِالْحَدِيدَةِ تَنَاوَلَهَا مِنْهُ ثُمّ قَالَ
مُمَازِحًا لَهُ وَأَبِيك إنّك لَجَرِيءٌ أَمَا خَشِيَتْ أُمّك غَدِرِي
حَيْنَ بَعَثْت مَعَك بِحَدِيدَةٍ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ قَتْلِي؟
قَالَتْ مَاوِيّةُ وَأَنَا أَسْمَعُ ذَلِكَ فَقُلْت: يَا خُبَيْبُ
إنّمَا أَمّنْتُك بِأَمَانِ اللّهِ وَأَعْطَيْتُك بِإِلَهِك، وَلَمْ
أُعْطِك لِتَقْتُلَ ابْنِي. فَقَالَ خُبَيْبٌ مَا كُنْت لِأَقْتُلَهُ
وَمَا نَسْتَحِلّ فِي دِينِنَا الْغَدْرَ. ثُمّ أَخْبَرَتْهُ أَنّهُمْ
مُخْرِجُوهُ فَقَاتَلُوهُ بِالْغَدَاةِ. قَالَ فَأَخْرَجُوهُ
بِالْحَدِيدِ حَتّى انْتَهَوْا بِهِ إلَى التّنْعِيمِ1، وَخَرَجَ
مَعَهُ النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
مَكّةَ ; فَلَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ، إمّا مَوْتُورٌ فَهُوَ يُرِيدُ
أَنْ يَتَشَافَى بِالنّظَرِ مِنْ وِتْرِهِ وَإِمّا غَيْرُ مَوْتُورٍ
فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. فَلَمّا انْتَهَوْا بِهِ
إلَى التّنْعِيمِ، وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة، فَأَمَرُوا
بِخَشَبَةٍ طَوِيلَةٍ فَحَفَرَ لَهَا، فَلَمّا انْتَهَوْا بِخُبَيْبٍ
إلَى خَشَبَتِهِ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكِيّ فَأُصَلّيَ
رَكْعَتَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمّهُمَا
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَوّلَ فِيهِمَا.
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
أَوّلُ مَنْ سَنّ الرّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ خبيب.
ـــــــ
1 التنعيم: هو عند طرف حرم مكة ظمن جهة المدينة عللا ثلاثة أميال، وقيل
أربعة من مكة "شرح على الموزاهب اللدنية ج2، ص: "83".
(1/358)
قَالُوا : ثُمّ
قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا أَنْ تَرَوْا أَنّي جَزِعْت مِنْ
الْمَوْتِ لَاسْتَكْثَرْت مِنْ الصّلَاةِ. ثُمّ قَالَ اللّهُمّ
أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا1، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ
أَحَدًا.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: لَقَدْ حَضَرْت دَعْوَتَهُ
وَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَإِنّ أَبَا سُفْيَانَ لَيُضْجِعَنِي إلَى
الْأَرْضِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ وَلَقَدْ جَبَذَنِي
يَوْمَئِذٍ أَبُو سُفْيَانَ جَبْذَةً فَسَقَطْت عَلَى عَجْبِ ذَنَبِي
فَلَمْ أَزَلْ أَشْتَكِي السّقْطَةَ زَمَانًا.
وَقَالَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَدْخَلْت
إصْبَعِي فِي أُذُنِي وَعَدَوْت هَرَبًا فَرَقًا أَنْ أَسْمَعَ
دُعَاءَهُ.
وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَتَوَارَى
بِالشّجَرِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ
عَمْرٍو قَالَ سَمِعْت جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ يَقُولُ لَقَدْ
رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ أَتَسَتّرُ بِالرّجَالِ فَرَقًا مِنْ أَنْ
أُشْرِفَ لِدَعْوَتِهِ.
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ بَرْصَاءَ وَاَللّهِ مَا ظَنَنْت أَنْ
تُغَادِرَ دَعْوَةُ خُبَيْبٍ مِنْهُمْ أَحَدًا.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ2 الْجُمَحِيّ
عَلَى حِمْصَ، وَكَانَتْ تُصِيبُهُ غَشْيَةٌ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْ
أَصْحَابِهِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَسَأَلَهُ فِي
قَدْمَةٍ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ حَمْصَ فَقَالَ يَا سعيد
ـــــــ
1 قال ابن الأثير: يروى بكسر الباء جمع بدة وهي الحصة والنصيب، أي
اقتلهم حصصا مقسمة لكل واحد حصته ونصيبه. ويروى بالفتح، أي زمتفرقين في
القتل واحدا بعد واحد، من التبديد. "النهاية ج1، ص: 65".
2 في الأصل: "حديم" وفي ب: "جذيم" وما أثبتناه عن ت، وعن ابن سعد.
"الطبقات ج7، ص: 125".
(1/359)
ما الّذِي
يُصِيبُك؟ أَبِك جُنّةٌ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنّي كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ خُبَيْبًا حَيْنَ
قُتِلَ وَسُمِعَتْ دَعْوَتُهُ فَوَاَللّهِ مَا خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي
وَأَنَا فِي مَجْلِسٍ إلّا غُشِيَ عَلَيّ. قَالَ فَزَادَتْهُ عِنْدَ
عُمَرَ خَيْرًا.
وَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
رُمّانَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ نَوْفَلِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، قَالَ حَضَرْت يَوْمَئِذٍ دَعْوَةَ خُبَيْبٍ
فَمَا كُنْت أَرَى أَنّ أَحَدًا مِمّنْ حَضَرَ يَنْفَلِت مِنْ
دَعْوَتِهِ وَلَقَدْ كُنْت قَائِمًا فَأَخْلَدْت إلَى الْأَرْضِ
فَرَقًا مِنْ دَعْوَتِهِ وَلَقَدْ مَكَثَتْ قُرَيْشٌ شَهْرًا أَوْ
أَكْثَرَ وَمَا لَهَا حَدِيثٌ فِي أَنْدِيَتِهَا إلّا دَعْوَةَ
خُبَيْبٍ.
قَالُوا : فَلَمّا صَلّى الرّكْعَتَيْنِ حَمَلُوهُ إلَى الْخَشَبَةِ
ثُمّ وَجّهُوهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا، ثُمّ
قَالُوا: ارْجِعْ عَنْ الْإِسْلَامِ نُخْلِ سَبِيلَك قَالَ لَا
وَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنّي رَجَعْت عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَنّ لِي مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا قَالُوا: فَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا فِي مَكَانِك
وَأَنْتَ جَالِسٌ فِي بَيْتِك؟ قَالَ وَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنْ
يُشَاكَ مُحَمّدٌ بِشَوْكَةٍ وَأَنَا جَالِسٌ فِي بَيْتِي. فَجَعَلُوا
يَقُولُونَ ارْجِعْ يَا خُبَيْبُ قَالَ لَا أَرْجِعُ أَبَدًا قَالُوا:
أَمَا وَاَللّاتِي وَالْعُزّى، لَئِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَقْتُلَنّكَ
فَقَالَ إنّ قَتْلِي فِي اللّهِ لَقَلِيلٌ فَلَمّا أَبَى عَلَيْهِمْ
وَقَدْ جَعَلُوا وَجْهَهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ قَالَ أَمّا صَرْفُكُمْ
وَجْهِي عَنْ الْقِبْلَةِ فَإِنّ اللّهَ يَقُولُ: {فَأَيْنَمَا
تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ} 1 ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي لَا أَرَى
إلّا وَجْهَ عَدُوّ اللّهُمّ إنّهُ لَيْسَ هَاهُنَا أَحَدٌ يُبَلّغُ
رَسُولَك السّلَامَ عَنّي، فَبَلّغْهُ أَنْتَ عَنّي السّلَامَ
فَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زيد، عن أبيه أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ
فَأَخَذَتْهُ غَمْيَةٌ2 كَمَا كَانَ يَأْخُذُهُ إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
ـــــــ
1 سورة 2 البقرة 115.
2 الغمية: الغشية. "القاموس المحيط ج4، 371".
(1/360)
الْوَحْيُ.
قَالَ ثُمّ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: " وَعَلَيْهِ السّلَامُ وَرَحْمَةُ
اللّهِ " ; ثُمّ قَالَ: " هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ
السّلَامَ " قَالَ ثُمّ دَعَوْا أَبْنَاءً مِنْ أَبْنَاءِ مَنْ قُتِلَ
بِبَدْرٍ فَوَجَدُوهُمْ أَرْبَعِينَ غُلَامًا، فَأَعْطَوْا كُلّ
غُلَامٍ رُمْحًا، ثُمّ قَالُوا: هَذَا الّذِي قَتَلَ آبَاءَكُمْ.
فَطَعَنُوهُ بِرِمَاحِهِمْ طَعْنًا خَفِيفًا، فَاضْطَرَبَ عَلَى
الْخَشَبَةِ فَانْقَلَبَ فَصَارَ وَجْهُهُ إلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ وَجْهِي نَحْوَ قِبْلَتِهِ الّتِي
رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَلِنَبِيّهِ وَلِلْمُؤْمِنَيْنِ وَكَانَ الّذِينَ
أَجَلَبُوا عَلَى قَتْلِ خُبَيْبٍ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ،
وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسٍ، وَالْأَخْنَسُ بْنُ
شَرِيقٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الْأَوْقَصِ
السّلَمِيّ. وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ مِمّنْ
حَضَرَ وَكَانَ يَقُولُ وَاَللّهِ مَا أَنَا قَتَلْت خُبَيْبًا إنْ
كُنْت يَوْمَئِذٍ لَغُلَامًا صَغِيرًا. وَلَكِنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي
عَبْدِ الدّار يُقَالُ لَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ مِنْ عَوْفِ بْنِ
السّبّاقِ أَخَذَ بِيَدِي فَوَضَعَهَا عَلَى الْحَرْبَةِ ثُمّ أَمْسَكَ
بِيَدِي ثُمّ جَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ حَتّى قَتَلَهُ فَلَمّا
طَعَنَهُ بِالْحَرْبَةِ أَفْلَتْ فَصَاحُوا: يَا أَبَا سِرْوَعَةَ
بِئْسَ مَا طَعَنَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ فَطَعَنَهُ أَبُو سِرْوَعَةَ
حَتّى أَخَرَجَهَا مِنْ ظَهْرِهِ فَمَكَثَ سَاعَةً يُوَحّدُ اللّهَ
وَيَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ.
يَقُولُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ: لَوْ تَرَكَ ذِكْرَ مُحَمّدٍ عَلَى
حَالٍ لَتَرَكَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مَا رَأَيْنَا قَطّ وَالِدًا
يَجِدُ بِوَلَدِهِ مَا يَجِدُ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ بِمُحَمّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالُوا : وَكَانَ زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة عِنْدَ آلِ صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيّةَ مَحْبُوسًا فِي حَدِيدٍ وَكَانَ يَتَهَجّدُ بِاللّيْلِ
وَيَصُومُ النّهَارَ وَلَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِمّا أُتِيَ بِهِ مِنْ
الذّبَائِحِ. فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى صَفْوَانَ وَكَانُوا قَدْ أَحْسَنُوا
إسَارَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ صَفْوَانُ فَمَا الّذِي تَأْكُلُ مِنْ
الطّعَامِ؟ قَالَ لَسْت آكُلُ مِمّا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللّهِ وَلَكِنّي
أَشْرَبُ اللّبَنَ. وَكَانَ يَصُومُ فَأَمَرَ لَهُ صَفْوَانُ بِعُسّ
مِنْ لَبَنٍ
(1/361)
عِنْدَ
فِطْرِهِ فَيَشْرَبُ مِنْهُ حَتّى يَكُونَ مِثْلَهَا مِنْ
الْقَابِلَةِ. فَلَمّا خَرَجَ بِهِ وَبِخُبَيْبٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ
الْتَقَيَا، وَمَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ1 مِنْ النّاسِ
فَالْتَزَمَ كُلّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَأَوْصَى كُلّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالصّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُ ثُمّ افْتَرَقَا.
وَكَانَ الّذِي وَلِيَ قَتْلَ زَيْدٍ نِسْطَاسٌ غُلَامُ صَفْوَانَ.
خَرَجَ بِهِ إلَى التّنْعِيمِ فَرَفَعُوا لَهُ جَذَعًا2، فَقَالَ
أُصَلّي رَكْعَتَيْنِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ حَمَلُوهُ عَلَى
الْخَشَبَةِ ثُمّ جَعَلُوا يَقُولُونَ لِزَيْدٍ ارْجِعْ عَنْ دِينِك
الْمُحْدَثِ وَاتّبِعْ دِينَنَا، وَنُرْسِلَك قَالَ لَا وَاَللّهِ لَا
أُفَارِقُ دِينِي أَبَدًا قَالُوا: أَيَسُرّك أَنّ مُحَمّدًا فِي
أَيْدِينَا مَكَانَك وَأَنْتَ فِي بَيْتِك؟ قَالَ مَا يَسُرّنِي أَنّ
مُحَمّدًا أُشِيكَ بِشَوْكَةٍ وَأَنّي فِي بَيْتِي قَالَ يَقُولُ أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا، مَا رَأَيْنَا أَصْحَابَ رَجُلٍ قَطّ
أَشَدّ لَهُ حُبّا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بِمُحَمّدٍ. وَقَالَ
حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ ; صَحِيحَةٌ سَمِعْتهَا مِنْ يُونُسَ بْنِ
مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ:
فَلَيْتَ خُبَيْبًا لَمْ تَخُنْهُ أَمَانَةٌ ... وَلَيْتَ خُبَيْبًا
كَانَ بِالْقَوْمِ عَالِمًا
شَرَاهُ3 زُهَيْرُ بْنُ الْأَغَرّ وَجَامِعٌ4 ... وَكَانَا قَدِيمًا
يَرْكَبَانِ الْمَحَارِمَا
أَجَرْتُمْ فَلَمّا أَنْ أَجَرْتُمْ غَدَرْتُمْ ... وَكُنْتُمْ
بِأَكْنَافِ الرّجِيعِ اللّهَازِمَا5
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ، ثَبْتٌ قديمة6
ـــــــ
1 في الأصل: "قيام" والتصحيح عن ساتئر النسخ. والفئام: الجماعة من
الناس. "الصحاح ص: 2000".
2 في ب: "جدعا"
3 شرى هنا بمعنى باع. وهو من الأضداد. "شرح أبي ذر ص: 281".
4 قال ابن هشام: زهير بن الأغر وجامع، الهذليان اللذان باعا خبيبا.
"السيرة النبوية ج3، ص: 188".
5 اللهازم: يعني به الضعفاء الفقراء، وأصل اللهزمتين مضيغتان تكونان في
الحنك واحدتها لهزمة، والجمع لهازم، فشبههم بها لحقارتها. "شرح أبي ذر
ص: 281".
6 في الأصل: "بيت قديمه" وما أثبتناه عن سائر النسخ.
(1/362)
لَوْ كَانَ فِي
الدّارِ قَرْمٌ1 ذُو مُحَافَظَةٍ ... حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاضٍ
خَالُهُ أَنَسُ2
إذَنْ حَلَلْت خُبَيْبًا مَنْزِلًا فُسُحًا3 ... وَلَمْ يُشَدّ عَلَيْك
الْكَبْلُ4 وَالْحَرَسُ
وَلَمْ تَقُدْك إلَى التّنْعِيمِ زِعْنِفَةٌ5 ... مِنْ الْمَعَاشِرِ
مِمّنْ قَدْ نَفَتْ عُدَس6
فَاصْبِرْ خُبَيْبُ فَإِنّ الْقَتْلَ مَكْرَمَةٌ ... إلَى جِنَانِ
نَعِيمٍ تَرْجِعُ النّفْسُ
دَلّوك7 غَدْرًا وَهُمْ فِيهَا أُولُو خُلُفٍ ... وَأَنْتَ ضَيْفٌ
لَهُمْ فِي الدّارِ مُحْتَبَسُ
ـــــــ
1 القرم: السيد، وأصله الفحل من الإبل. "شرح أبي ذر ص: 280".
2 قال ابن هشام: أنس الأصم السلمي، خال مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد
مناف. "السيرة النبوية ج3، ص: 188".
3 فسح: واسع. "الصحاح ص: 391".
4 في الأصل: "الكتل" وما أثبتناه عن سائر النسخ، والكبل: القيد الضخم،
"النهاية ج4، ص: 6".
5 الزعنفة: الذين ينتمون إلى القبائل ويكونون أتباعا لهم، وأصل الزعنفة
الأطراف والأكارع التي تكون في الجلج. "شرح أبي ذر ص: 280".
6 قال ابن هشام: يعني حجير بن أبي إهاب ويقال الأعشى بن زرارة بن
النباش الأسدي وكان حليفا لبني نوفل بن عبد مناف. "السيرة النبوية ج3
ص: 188".
7 دلوك: أي غروك ومنه قوزله تعالى: {فدلاهما بغرور}. "شرح أبي ذر ص:
280".
(1/363)
|