كتاب المغازي للواقدي

غَزْوَةُ مُؤْتَةَ 1
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ2 الْأَزْدِيّ ثُمّ أَحَدَ ب َنِي لَهَبٍ، إلَى مَلِكِ بُصْرَى بِكِتَابٍ فَلَمّا نَزَلَ مُؤْتَةَ عَرَضَ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسّانِيّ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ الشّامَ . قَالَ لَعَلّك مِنْ رُسُلِ مُحَمّدٍ ؟ قَالَ نَعَمْ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَأُوثِقَ رِبَاطًا، ثُمّ قَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ صَبْرًا. وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه
ـــــــ
1 مؤتة: أدنى البلقاء، والبلقاء دون دمشق. [الطبقات، ج2، ص 92].
2 في الأصل: "الحارث بن عثمان الأزدي"؛ وما أثبتناه عن ح، وعن ابن سعد. [الطبقات، ج3، ص 92].

(2/755)


وسلم رَسُولٌ غَيْرَهُ فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ فَاشْتَدّ عَلَيْهِ وَنَدَبَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَقْتَلِ الْحَارِثِ وَمَنْ قَتَلَهُ فَأَسْرَعَ النّاسُ وَخَرَجُوا فَعَسْكَرُوا بِالْجَرْفِ، وَلَمْ يُبَيّنْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ جَلَسَ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ وَجَاءَ النّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ1 الْيَهُودِيّ، فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النّاسِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَمِيرُ النّاسِ فَإِنْ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَإِنْ أُصِيبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ رَجُلًا فَلْيَجْعَلُوهُ عَلَيْهِمْ". فَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ: أَبَا الْقَاسِمِ إنْ كُنْت نَبِيّا فَسَمّيْت2 مِنْ سَمّيْت قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أُصِيبُوا جَمِيعًا، إنّ الْأَنْبِيَاءَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا اسْتَعْمَلُوا 3 الرّجُلَ عَلَى الْقَوْمِ ثُمّ قَالُوا إنْ أُصِيبَ فُلَانٌ فَلَوْ سَمّى مِائَةً أُصِيبُوا جَمِيعًا. ثُمّ جَعَلَ الْيَهُودِيّ يَقُولُ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ اعْهَدْ فَلَا تَرْجِعْ إلَى مُحَمّدٍ أَبَدًا إنْ كَانَ نَبِيّا فَقَالَ زَيْدٌ: فَأَشْهَدُ أَنّهُ نَبِيّ صَادِقٌ بَارّ. فَلَمّا أَجَمَعُوا الْمَسِيرَ وَقَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ اللّوَاءَ وَدَفَعَهُ إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - لِوَاءٌ أَبْيَضُ - مَشَى النّاسُ إلَى أُمَرَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدّعُونَهُمْ وَيَدْعُونَ لَهُمْ وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُوَدّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَلَمّا سَارُوا مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ نَادَى الْمُسْلِمُونَ: دَفَعَ اللّهُ عَنْكُمْ وَرَدّكُمْ صَالِحِينَ غَانِمِينَ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ عند ذلك:
ـــــــ
1 في الأصل: "النعمان بن مهض"؛ وما أثبتناه من ابن كثير عن الواقدي . [البداية والنهاية، ج4، ص241].
2 في ح: "فسيصاب من سميت".
3 في ابن كثير عن الواقدي: "إذا سموا". [البداية والنهاية، ج4، ص 241].

(2/756)


لَكِنّنِي أَسْأَلُ الرّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ 1 فَرْعٍ تَقْذِفُ الزّبَدَا 2
وَهِيَ أَبْيَاتٌ أَنْشَدَنِيهَا شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَبِمَنْ مَعَكُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا" أَوْ قَالَ: "اُغْزُوا بِسْمِ اللّهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللّهِ لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا، وَإِذَا لَقِيت عَدُوّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى ثَلَاثٍ فَأَيّتُهُنّ مَا أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ اُدْعُهُمْ إلَى الدّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ ثُمّ اُدْعُهُمْ إلَى التّحَوّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَإِنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللّهِ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْقِسْمَةِ 3 شَيْءٌ إلّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللّهِ وَقَاتِلْهُمْ وَإِنْ أَنْتَ حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَسْتَنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللّهِ فَلَا تَسْتَنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، فَإِنّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا. وَإِنْ حَاصَرَتْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوك عَلَى أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمّةَ اللّهِ وَلَا ذِمّةَ رَسُولِهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمّتَك وَذِمّةَ أَبِيك وذمة
ـــــــ
1 ذات فرع: أي ذات سعة. [شرح أبي ذر، ص 354].
2 الزبد: رغوة الدم. [شرح أبي ذر، ص 344].
3 في ح "الغنيمة".

(2/757)


أَصْحَابِك، فَإِنّكُمْ إنْ تَخْفِرُوا ذِمّتَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ".
حَدّثَنِي أَبُو صَفْوَانَ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشَيّعًا لِأَهْلِ مُؤْتَةَحَتّى بَلَغَ ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ، فَوَقَفَ وَوَقَفُوا حَوْلَهُ فَقَالَ: "اُغْزُوا بِسْمِ اللّهِ. فَقَاتِلُوا عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ بِالشّامِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا رِجَالًا فِي الصّوَامِعِ 1 مُعْتَزِلِينَ لِلنّاسِ فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ وَسَتَجِدُونَ آخَرِينَ لِلشّيْطَانِ فِي رُءُوسِهِمْ مَفَاحِصَ2 فَاقْلَعُوهَا بِالسّيُوفِ وَلَا تَقْتُلْنَ امْرَأَةً وَلَا صَغِيرًا مُرْضِعًا وَلَا كَبِيرًا فَانِيًا، لَا تُغْرِقُنّ نَخْلًا وَلَا تَقْطَعْنَ شَجَرًا، وَلَا تَهْدِمُوا بَيْتًا".
حَدّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: لَمّا وَدّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَحْفَظْهُ عَنْك قَالَ: "إنّك قَادِمٌ غَدًا بَلَدًا، السّجُودُ بِهِ قَلِيلٌ فَأَكْثِرْ السّجُودَ". قَالَ عَبْدُ اللّهِ: زِدْنِي يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "اُذْكُرْ اللّهَ فَإِنّهُ عَوْنٌ لَك عَلَى مَا تَطْلُبُ". فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى إذَا مَضَى ذَاهِبًا رَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ وِتْرٌ يُحِبّ الْوِتْرَ قَالَ: "يَا ابْنَ رَوَاحَةَ مَا عَجَزْت فَلَا تَعْجِزَنّ إنْ أَسَأْت عَشْرًا أَنْ تُحْسِنَ وَاحِدَةً". فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: لَا أَسْأَلُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا. قَالَ:
ـــــــ
1 الصوامع: جمع صومعة، وهي بيت للنصارى . [القاموس المحيط، ج3، ص52].
2 في الأصل: "مفاخر"؛ وما أثبتناه عن ح. ومفاحص: جمع مفحص، والمفحص مفعل من الفحص، ومفحص القطاة موضعها الذي تجثم فيه وتبيض، أي أن الشيطان قد استوطن رءوسهم فجعلها له مفاحص كما تستوطن القطا مفاحصها. [النهاية، ج3، ص 185].

(2/758)


أَبُو عَبْدِ اللّهِ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يَقُولُ: كُنْت فِي حِجْرِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَلَمْ أَرَ وَالِيَ يَتِيمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْهُ خَرَجْت مَعَهُ فِي وَجْهِهِ إلَى مُؤْتَةَ ، وَصَبّ بِي وَصَبَبْت بِهِ 1 فَكَانَ يُرْدِفُنِي خَلْفَ رَحْلِهِ فَقَالَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بَيْنَ شُعْبَتَيْ 2 الرّحْلِ وَهُوَ يَتَمَثّلُ أَبْيَاتَ شِعْرٍ:
إذَا بَلّغْتِنِي وَحَمَلْت رَحْلِي ... مَسَافَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ 3
فَزَادُك أَنْعُمٌ وَخَلَاك ذَمّ 4 ... وَلَا أَرْجِعْ 5 إلَى أَهْلِي وَرَائِي
وَآبَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي 6 ... بِأَرْضِ الشّامِ مُشْتَهَى الثّوَاءِ 7
هُنَالِكَ لَا أُبَالِي طَلْعَ نَخْلٍ ... وَلَا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رِوَاءِ 8
فَلَمّا سَمِعْت هَذِهِ الْأَبْيَاتَ بَكَيْت، فَخَفَقَنِي بِيَدِهِ 9 وَقَالَ: مَا يَضُرّك يَا لُكَعُ أَنْ يَرْزُقَنِي اللّهُ الشّهَادَةَ فَأَسْتَرِيحَ مِنْ الدّنْيَا وَنَصَبِهَا وَهُمُومِهَا وَأَحْزَانِهَا وَأَحْدَاثِهَا. وَيَرْجِعُ بَيْنَ شُعْبَتَيْ الرّحْلِ ثُمّ نَزَلَ نَزْلَةً مِنْ اللّيْلِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَعَاقَبَهُمَا دُعَاءً طَوِيلًا ثُمّ قَالَ لِي: يَا غُلَامُ فَقُلْت: لَبّيْكَ قَالَ: هِيَ إنْ شَاءَ اللّهُ الشّهَادَةُ.
وَمَضَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَسَمِعَ الْعَدُوّ بِمَسِيرِهِمْ عَلَيْهِمْ قبل أن
ـــــــ
1 في الأصل: "وصيب وسببت به"؛ وما أثبتناه عن ح.
2 شعبتا الرحل: أي طرفاه. [القاموس المحيط، ج1، ص88].
3 في ح: "الحشاء". والحساء: جمع حسى، وهو ماء يغور في الرمل وإذا بحث عنه وجد. [شرح أبي ذر، ص 355].
4 في ح: "فشأنك فانعمى وخلال ذم".
5 هو مجزوم على الدعاء، دعا على نفسه أن يستشهد ولا يرجع إلى أهله. [شرح أبي ذر، ص 355].
6 في ح: "وخلفوني".
7 ثوى بالمكان ثواء إذا أطال الإقامة به أو نزل فيه. [للقاموس المحيط، ج4، ص 310].
8 في ح: "رداء".
9 في ح: "بالمدرة".

(2/759)


يَنْتَهُوا إلَى مَقْتَلِ الْحَارِثِ بْن عُمَيْرٍ فَلَمّا فَصَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ سَمِعَ الْعَدُوّ بِمَسِيرِهِمْ فَجَمَعُوا الْجَمُوعَ. وَقَامَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بِالنّاسِ وَقَدّمَ الطّلَائِعَ أَمَامَهُ وَقَدْ نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ وَادِيَ الْقُرَى وَأَقَامُوا أَيّامًا، وَبَعَثَ أَخَاهُ سَدُوسَ وَقُتِلَ سَدُوسُ وَخَافَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو فَتَحَصّنَ وَبَعَثَ أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ وَبْرُ بْنُ عَمْرٍو. فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى نَزَلُوا أَرْضَ مَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَبَلَغَ النّاسُ أَنّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ فِي بَهْرَاءَ وَوَائِلٍ وَبَكْرٍ وَلَخْمٍ وَجُذَامَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيّ يُقَالُ لَهُ مَالِكٌ. فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا لَيْلَتَيْنِ لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا: نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَإِمّا يَرُدّنَا وَإِمّا يَزِيدُنَا رِجَالًا. فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ جَاءَهُمْ ابْنُ رَوَاحَةَ فَشَجّعَهُمْ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ مَا كُنّا نُقَاتِلُ النّاسَ بِكَثْرَةِ عَدَدٍ وَلَا بِكَثْرَةِ سِلَاحٍ، وَلَا بِكَثْرَةِ خُيُولٍ إلّا بِهَذَا الدّينِ الّذِي أَكْرَمْنَا اللّهُ بِهِ. انْطَلِقُوا 1 وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْمَ بَدْرٍمَا مَعَنَا إلّا فَرَسَانِ وَيَوْمَ أُحُدٍفَرَسٌ وَاحِدٌ وَإِنّمَا هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إمّا ظُهُورٌ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَوَعَدَنَا نَبِيّنَا، وَلَيْسَ لِوَعْدِهِ خُلْفٌ وَإِمّا الشّهَادَةُ فَنَلْحَقُ بِالْإِخْوَانِ نُرَافِقُهُمْ فِي الْجِنَانِ فَشَجّعَ النّاسَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ.
فَحَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ قَالَ: شَهِدْت مُؤْتَةَ، فَلَمّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ رَأَيْنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ مِنْ الْعَدَدِ وَالسّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالدّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَالذّهَبِ فَبَرِقَ بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ: يَا أَبَا هَرِيرَةَ مَا لَك ؟ كَأَنّك تَرَى جَمُوعًا كَثِيرَةً. قُلْت: نَعَمْ قَالَ: تَشْهَدُنَا بِبَدْرٍ؟ إنّا لَمْ نُنْصَرْ بِالْكَثْرَةِ!
ـــــــ
1 في ح: "انطلقوا فقاتلوا".

(2/760)


حَدّثَنِي بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ عَنْ ابْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ وَابْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ أَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْحَدِيثِ قَالَ: لَمّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَكَانَ الْأُمَرَاءُ يَوْمئِذٍ يُقَاتِلُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ أَخَذَ اللّوَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَ النّاسَ مَعَهُ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَقُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. قَالَ ابْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ أَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَ يَوْمئِذٍ قَالَ: لَا، مَا قُتِلَ1 إلّا طَعْنًا بِالرّمْحِ. ثُمّ أَخَذَهُ جَعْفَرٌ فَنَزَلَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَرْقَبَهَا2 ، ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الرّومِ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ فَوَقَعَ أَحَدُ نِصْفَيْهِ فِي كَرْمٍ فَوُجِدَ فِي نِصْفِهِ ثَلَاثُونَ أَوْ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ جُرْحًا.
حَدّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وُجِدَ مِمّا قُتِلَ مِنْ بَدَنِ جَعْفَرٍ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ ضَرْبَةً بِسَيْفٍ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ. حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: وُجِدَ فِي بَدَنِ جَعْفَرٍ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ جُرْحًا، وَوُجِدَ بِهِ طَعْنَةٌ قَدْ أَنْفَذَتْهُ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْجَبّارِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَدِيثِ قالا: لَمّا الْتَقَى النّاسُ بِمُؤْتَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَكَشَفَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشّامِ ، فَهُوَ يَنْظُرُ إلَى مُعْتَرَكِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَخَذَ الرّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَجَاءَهُ الشّيْطَانُ فَحَبّبَ
ـــــــ
1 في الأصل: "ماقيل إلا طعن بالرمح".
2 عرقبها: قطع عرقوبها، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها. [الصحاح، ص 180].

(2/761)


إلَيْهِ الْحَيَاةَ وَكَرّهَ إلَيْهِ الْمَوْتَ وَحَبّبَ إلَيْهِ الدّنْيَا". فَقَالَ: "الْآنَ حِينَ اُسْتُحْكِمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُحَبّبُ إلَيّ الدّنْيَا فَمَضَى قِدْمًا حَتّى اُسْتُشْهِدَ" فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لَهُ فَقَدْ دَخَلَ الْجَنّةَ وَهُوَ يَسْعَى ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَجَاءَهُ الشّيْطَانُ فَمَنّاهُ الْحَيَاةَ وَكَرّهَ إلَيْهِ الْمَوْتَ وَمَنّاهُ الدّنْيَا فَقَالَ الْآنَ حِينَ اُسْتُحْكِمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُمَنّينِي الدّنْيَا ثُمّ مَضَى قِدْمًا حَتّى اُسْتُشْهِدَ" فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ ثُمّ قَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ فَإِنّهُ شَهِيدٌ دَخَلَ الْجَنّةَ فَهُوَ يَطِيرُ فِي الْجَنّةِ بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ حَيْثُ يُشَاءُ مِنْ الْجَنّةِ. ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ بَعْدَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَاسْتُشْهِدَ وَدَخَلَ الْجَنّةَ مُعْتَرِضًا". فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْصَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَصَابَهُ الْجِرَاحُ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا اعْتِرَاضُهُ ؟ قَالَ: "لَمّا أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ نَكَلَ فَعَاتَبَ نَفْسَهُ فَشَجُعَ فَاسْتُشْهِدَ فَدَخَلَ الْجَنّةَ". فَسُرّيَ عَنْ قَوْمِهِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْت جَعْفَرًا مَلِكًا يَطِيرُ فِي الْجَنّةِ تَدْمَى قَادِمَتَاهُ وَرَأَيْت زَيْدًا دُونَ ذَلِكَ فَقُلْت: مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ زَيْدًا دُونَ جَعْفَرٍ. فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَالَ: إنّ زَيْدًا لَيْسَ بِدُونِ جَعْفَرٍ وَلَكِنّا فَضّلْنَا جَعْفَرًا لِقَرَابَتِهِ مِنْك" حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "خَيْرُ الْفَرَسَانِ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ الرّجّالَةِ سَلَمَةُ بن الأكوع".
حَدّثَنِي نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَجُلًا مِنْ

(2/762)


بَنِي مُرّةَ كَانَ فِي الْجَيْشِ قِيلَ لَهُ: إنّ النّاسَ يَقُولُونَ إنّ خَالِدًا انْهَزَمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: لَا وَاَللّهِ مَا كَانَ ذَلِكَ لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ نَظَرْت إلَى اللّوَاءِ قَدْ سَقَطَ وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فَنَظَرْت إلَى اللّوَاءِ فِي يَدِ خَالِدٍ مُنْهَزِمًا، وَاتّبَعْنَاهُ فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَسْوَأَ هَزِيمَةٍ رَأَيْتهَا قَطّ فِي كُلّ وَجْهٍ. ثُمّ إنّ الْمُسْلِمِينَ تَرَاجَعُوا، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ فَأَخَذَ اللّوَاءَ وَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْأَنْصَارِ فَجَعَلَ النّاسُ يَثُوبُونَ إلَيْهِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَهُوَ يَقُولُ إلَيّ أَيّهَا النّاسُ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ. قَالَ: فَنَظَرَ ثَابِتٌ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: خُذْ اللّوَاءَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ فَقَالَ: لَا آخُذُهُ أَنْتَ أَحَقّ بِهِ أَنْتَ رَجُلٌ لَك سِنّ، وَقَدْ شَهِدْت بَدْرًا. قَالَ ثَابِتٌ: خُذْهُ أَيّهَا الرّجُلُ فَوَاَللّهِ مَا أَخَذْته إلّا لَك فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَحَمَلَهُ سَاعَةً وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ فَثَبَتَ حَتّى تَكَرْكَرَ1 الْمُشْرِكُونَ وَحَمَلَ بِأَصْحَابِهِ فَفَضّ جَمْعًا مِنْ جَمْعِهِمْ ثُمّ دَهَمَهُ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَانْحَاشَ الْمُسْلِمُونَ فَانْكَشَفُوا رَاجِعِينَ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدّثَنِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي حَضَرُوا يَوْمئِذٍ قَالُوا: لَمّا أَخَذَ اللّوَاءَ انْكَشَفَ بِالنّاسِ فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ وَقُتِلَ الْمُسْلِمُونَ وَاتّبَعَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَجَعَلَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَصِيحُ يَا قَوْمِ يُقْتَلُ الرّجُلُ مُقْبِلًا أَحْسَنُ أَنْ يُقْتَلَ مُدْبِرًا يَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ فَمَا يَثُوبُ إلَيْهِ أَحَدٌ، هِيَ الْهَزِيمَةُ وَيَتْبَعُونَ صَاحِبَ الرّايَةِ مُنْهَزِمًا.
ـــــــ
1 تكركر الرجل في أمره. أي تردد. [الصحاح، ص 805].

(2/763)


حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ مَصْعَبٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمّا أَخَذَ اللّوَاءُ ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ فَاصْطَلَحَ النّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ ثَابِتٌ: اصْطَلَحْتُمْ عَلَى خَالِدٍ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَانْكَشَفَ بِالنّاسِ.
حَدّثَنِي عَطّافُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ مَسَاءً بَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا، وَقَدْ جَعَلَ مُقَدّمَتَهُ سَاقَتَهُ وَسَاقَتَهُ مُقَدّمَتَهُ وَمَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَتَهُ وَمَيْسَرَتَهُ مَيْمَنَتَهُ فَأَنْكَرُوا مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ رَايَاتِهِمْ وَهَيّأَتْهُمْ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَهُمْ مَدَدٌ فَرُعِبُوا فَانْكَشَفُوا مُنْهَزِمِينَ فَقُتِلُوا مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا قَوْمٌ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا أَخَذَ خَالِدٌ الرّايَةَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْآنَ1 حَمِيَ الْوَطِيسُ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا ; أَنّ خَالِدًا انْهَزَمَ بِالنّاسِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ: بَلَغَتْ الدّمَاءُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَوْضِعَ الْأَشَاعِرِ2 مِنْ الْحَافِرِ3 . وَالْوَطِيسُ أَيْضًا ذَاكَ وَإِذَا حَمِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ الدّابّةِ كَانَ أَشَدّ لِعَدُوّهَا.
حَدّثَنِي دَاوُد بْنُ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْت ثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ يَقُولُ: انْكَشَفَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمئِذٍ حَتّى عُيّرُوا بِالْفِرَارِ وَتَشَاءَمَ النّاسُ بِهِ.
حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَسّانَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الوليد بالناس
ـــــــ
1 أي الآن اشتدت الحرب. [القاموس المحيط، ج2، ص 257]. وقال ابن الأثبر: الوطيس التنور، وقيل هو الضراب في الحرب، وقيل هو الوطء الذي يطس الناس، أي يدقهم. وقال الأصمعي: هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطؤها. [النهاية، ج4، ص 234].
2 أشارع الناقة: جوانب حيائها. [الصحاح، ص698].
3 الحافر هنا: الدابة. [النهاية، ج1، ص 239].

(2/764)


مُنْهَزِمًا، فَلَمّا سَمِعَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِجَيْشِ مُؤْتَةَ قَادِمِينَ تَلْقَوْهُمْ بِالْجَرْفِ فَجَعَلَ النّاسُ يَحْثُونَ فِي وُجُوهِهِمْ التّرَابَ وَيَقُولُونَ يَا فُرّارُ أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ؟ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسُوا بِفُرّارٍ وَلَكِنّهُمْ كُرّارٌ إنْ شَاءَ اللّهُ!"
حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ يَقُولُ: مَا لَقِيَ جَيْشٌ بُعِثُوا مَعَنَا مَا لَقِيَ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ; لَقِيَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالشّرّ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَنْصَرِفَ إلَى بَيْتِهِ وَأَهْلِهِ فَيَدُقّ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَيَأْبَوْنَ أَنْ يَفْتَحُوا لَهُ يَقُولُونَ: أَلَا تَقَدّمْت مَعَ أَصْحَابِك ؟ فَأَمّا مَنْ كَانَ كَبِيرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ اسْتِحْيَاءً حَتّى جَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، يَقُولُ: "أَنْتُمْ الْكُرّارُ فِي سَبِيلِ اللّهِ!"
حَدّثَنِي مُصْعِبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَدَخَلَتْ امْرَأَتُهُ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: مَا لِي لَا أَرَى سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ؟ آشْتَكَى شَيْئًا ؟ قَالَتْ امْرَأَتُهُ: لَا وَاَللّهِ وَلَكِنّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ إذَا خَرَجَ صَاحُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ " يَا فُرّارُ أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ؟ ". حَتّى قَعَدَ فِي الْبَيْتِ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمّ سَلَمَةَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ هُمْ الْكُرّارُ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلْيَخْرُجْ فَخَرَج".
حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ قَالَ: كُنّا نَخْرُجُ وَنَسْمَعُ مَا نَكْرَهُ مِنْ النّاسِ لَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ عَمّ لِي كَلَامٌ فَقَالَ: إلّا فِرَارَك يَوْمَ مُؤْتَةَ فَمَا دُرِيت أَيّ شَيْءٍ أَقُولُ لَهُ.

(2/765)


حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَبِي الرّجّالِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْم عَنْ أُمّ عِيسَى بْنِ الْحَزّارِ عَنْ أُمّ جَعْفَرٍ بِنْتِ مُحَمّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ جَدّتِهَا أَسَمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: أَصْبَحْت فِي الْيَوْمِ الّذِي أُصِيبَ فِيهِ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ هَيّأْت أَرْبَعِينَ مِنّا1 مِنْ أُدْمٍ2 وَعَجَنْت عَجِينِي، وَأَخَذْت بَنِيّ فَغَسَلْت وُجُوهَهُمْ وَدَهَنْتهمْ ؟ فَدَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا أَسَمَاءُ أَيْنَ بَنُو جَعْفَرٍ ؟" فَجِئْت بِهِمْ إلَيْهِ فَضَمّهُمْ وَشَمّهُمْ ثُمّ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَبَكَى، فَقُلْت: أَيْ رَسُولَ اللّهِ لَعَلّك بَلَغَك عَنْ جَعْفَرٍ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ قُتِلَ الْيَوْمَ". قَالَتْ: فَقُمْت أَصِيحُ وَاجْتَمَعَ إلَيّ النّسَاءُ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَا أَسَمَاءُ لَا تَقُولِي هُجْرًا3 وَلَا تَضْرِبِي صَدْرًا" قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى دَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ وَهِيَ تَقُولُ وَاعَمّاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ الْبَاكِيَةُ" ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ شُغِلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْيَوْمَ".
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْلَى، قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ أَنَا4 أحفظ حين دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّي فَنَعَى لَهَا أَبِي، فَأَنْظُرُ إلَيْهِ وَهُوَ يَمْسَحُ عَلَى رَأْسِي وَرَأْسِ أَخِي، وَعَيْنَاهُ
ـــــــ
1 المن: الذي يوزن به، وهو الرطل. [شرح أبي ذر، ص 356].
2 الأدم: ما يؤكل مع الخبز أي شيء كان. [النهاية، ج1، ص 21].
3 الهجر: الإفحاش في المنطق. [الصحاح، ص 851].
4 في الأصل: "إنما أحفظ". وما أثتناه عن ح.

(2/766)


تُهَرَاقَانِ الدّمُوعَ حَتّى تَقْطُرَ لِحْيَتُهُ. ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّ جَعْفَرًا قَدْ قَدِمَ إلَى أَحْسَنِ الثّوَابِ فَاخْلُفْهُ فِي ذُرّيّتِهِ بِأَحْسَنِ مَا خَلَفْت أَحَدًا مِنْ عِبَادِك فِي ذُرّيّتِهِ ثُمّ قَالَ: "يَا أَسَمَاءُ أَلَا أُبَشّرُك ؟" قَالَتْ: بَلَى، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي قَالَ: "فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ جَعَلَ لِجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنّةِ". قَالَتْ: بِأَبِي وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَعْلَمَ النّاسَ ذَلِكَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ بِيَدِي، يَمْسَحُ بِيَدِهِ رَأْسِي حَتّى رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَجْلَسَنِي أَمَامَهُ عَلَى الدّرَجَةِ السّفْلَى، وَالْحُزْنُ يُعْرَفُ عَلَيْهِ فَتَكَلّمَ فَقَالَ: "إنّ الْمَرْءَ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ وَابْنُ عَمّهِ أَلَا إنّ جَعْفَرًا قَدْ اُسْتُشْهِدَ وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنّةِ". ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَأَدْخَلَنِي، وَأَمَرَ بِطَعَامٍ فَصُنِعَ لِأَهْلِي، وَأَرْسَلَ إلَى أَخِي فَتَغَدّيْنَا عِنْدَهُ وَاَللّهِ غَدَاءٌ طَيّبًا مُبَارَكًا. عَمِدَتْ سَلْمَى خَادِمَتُهُ إلَى شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ ثُمّ نَسَفَتْهُ ثُمّ أَنْضَجَتْهُ وَأَدْمَتْهُ بِزَيْتٍ وَجَعَلَتْ عَلَيْهِ فُلْفُلًا. فَتَغَدّيْت أَنَا وَأَخِي مَعَهُ فَأَقَمْنَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فِي بَيْتِهِ نَدُورُ مَعَهُ كُلّمَا صَارَ فِي إحْدَى بُيُوتِ نِسَائِهِ ثُمّ رَجَعْنَا إلَى بَيْتِنَا، فَأَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُسَاوِمُ بِشَاةِ أَخٍ لِي، فَقَالَ "اللّهُمّ بَارِكْ فِي صَفْقَتِهِ". قَالَ عَبْدُ اللّهِ فَمَا بِعْت شَيْئًا وَلَا اشْتَرَيْت شَيْئًا إلّا بُورِكَ فِيهِ. حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ لَمّا قَدِمَ نَعْيُ جَعْفَرٍ عَرَفْنَا فِي رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُزْنَ. قَالَتْ: قَدِيمًا مَا ضَرّ النّاسَ التّكَلّفُ1. فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ النّسَاءَ قَدْ عَنَيْنَنَا بِمَا يَبْكِينَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَارْجِعْ إلَيْهِنّ فَأَسْكِتْهُنّ فَإِنْ أَبَيْنَ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنّ
ـــــــ
1 التكلف: كثرة السؤال والبحث عن الأشياء الغامضة التي لا يجب البحث عنها. [النهاية، ج4، ص 31].

(2/767)


التّرَابَ". فَقُلْت فِي نَفْسِي: أَبْعَدَك اللّهُ مَا تَرَكْت نَفْسَك، وَمَا أَنْتَ بِمُطِيعِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنَا أَطّلِعُ مِنْ صَيْرِ1 الْبَاب فَأَسْمَعُ هَذَا.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: أُصِيبَ بِهَا نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ أَمْتِعَةِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ مِمّا غَنِمُوا خَاتَمًا جَاءَ بِهِ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَتَلْت صَاحِبَهُ يَوْمئِذٍ فَنَفّلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيّاهُ.
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ: لَقِينَاهُمْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُضَاعَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَصَافّونَا فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الرّومِ يَسُلّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُغْرِي بِهِمْ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سِلَاحٌ مُذَهّبٌ وَلِجَامٌ مُذَهّبٌ فَجَعَلْت أَقُولُ فِي نَفْسِي: مِنْ هَذَا ؟ وَقَدْ رَافَقَنِي رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ2 حِمْيَرَ، فَكَانَ مَعَنَا فِي مَسِيرِنَا ذَلِكَ لَيْسَ مَعَهُ سَيْفٌ إذْ نَحَرَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ جَزُورًا فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ وَهَبَهُ لَهُ فَبَسَطَهُ فِي الشّمْسِ وَأَوْتَدَ عَلَى أَطْرَافِهِ أَوْتَادًا، فَلَمّا جَفّ اتّخَذَ مِنْهُ مَقْبِضًا وَجَعَلَهُ دَرَقَةً. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ الْمَدَدِيّ مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الرّومِيّ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَنْ لَهُ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَلَمّا مَرّ بِهِ خَرَجَ عَلَيْهِ فَعَرْقَبَ فَرَسُهُ فَقَعَدَ الْفَرَسُ عَلَى رِجْلَيْهِ وَخَرّ عَنْهُ الْعِلْجُ3 وَشَدّ عَلَيْهِ فَعَلَاهُ بِسَيْفِهِ فقتله.
ـــــــ
1 في الأصل: "صر الباب". والصير: شق الباب. [النهاية، ج3، ص 8].
2 الأمداد: جمع مدد، وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد. [النهاية، ج4، ص 84].
3 العلج: الرجل من كفار العجم. [الصحاح، ص 330].

(2/768)


حَدّثَنِي بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ1 عَنْ أَبِيهِ قَالَ حَضَرْت مُؤْتَةَ، فَبَارَزْت رَجُلًا يَوْمئِذٍ فَأَصَبْته، وَعَلَيْهِ يَوْمئِذٍ بَيْضَةٌ لَهُ فِيهَا يَاقُوتَةٌ فَلَمْ يَكُنْ هَمّي إلّا الْيَاقُوتَةُ فَأَخَذْتهَا، فَلَمّا انْكَشَفْنَا وَانْهَزَمْنَا رَجَعْت بِهَا الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْت بِهَا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفّلَنِيهَا فَبِعْتهَا زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَيْت بِهَا حَدِيقَةَ نَخْلٍ بِبَنِي خَطْمَةَ.
ـــــــ
1 في الأصل: "عمارة بن خزيمة". وقد صححناه في أماكن أخرى من هذا الكتاب.

(2/769)


ذِكْرُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِمُؤْتَةَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ

اُسْتُشْهِدَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْب: مَسْعُودُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَي، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حُسَيْلٍ: وَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَقُتِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي النّجّار مِنْ بَنِي مَازِنٍ سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ. وَمِنْ بَنِي النّجّارِ: الْحَارِثُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ يِسَافِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ. وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج: عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ قِيسٍ. ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْمَدِينَةِ .

(2/769)


غَزْوَةُ ذَاتِ السّلَاسِلِ1
حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ رُومَانَ وَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بن حزم وحدثني
ـــــــ
1 ذات السلاسل: وراء وادي القدس، وبينها وبين المدينة عشرة أيام. [الطبقات، ج2، ص 94].

(2/769)


عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْهُ طَائِفَةٌ وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ فَجَمَعْت مَا حَدّثُونِي، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّيْنَ قَدْ حَدّثَنِي أَيْضًا، قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ جَمْعًا مِنْ بَلِيّ وَقُضَاعَةَ قَدْ تَجَمّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوَا إلَى أَطْرَافِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ وَجَعَلَ مَعَهُ رَايَةً سَوْدَاءَ وَبَعَثَهُ فِي سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - فِي ثَلَاثِمِائَةِ - عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمِنْ مَرّ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ، وَهِيَ بِلَادُ بَلِيّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْن، وَذَلِكَ أَنّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ ذَا رَحِمٍ بِهِمْ. كَانَتْ أُمّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ بَلَوِيّةً فَأَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلّفُهُمْ بِعَمْرٍو. فَسَارَ وَكَانَ يَكْمُنُ النّهَارَ وَيَسِيرُ اللّيْلَ وَكَانَتْ مَعَهُ ثَلَاثُونَ فَرَسًا، فَلَمّا دَنَا مِنْ الْقَوْمِ بَلَغَهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ عِشَاءً وَهُمْ شَاتُونَ فَجَمَعَ أَصْحَابُهُ الْحَطْبَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصْطَلُوا - وَهِيَ أَرْضٌ بَارِدَةٌ - فَمَنَعَهُمْ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتّى كَلّمَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ فَغَالَظَهُ فَقَالَ عَمْرٌو: أُمِرْت أَنْ تَسْمَعَ لِي وَتُطِيعَ قَالَ فَافْعَلْ!
وَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا وَيَسْتَمِدّهُ بِالرّجَالِ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ مَعَهُ سَرَاةَ الْمُهَاجِرِينَ - أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - وَالْأَنْصَارَ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْحَقَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي مِائَتَيْنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا وَلَا يَخْتَلِفَا. فَسَارُوا حتى لحقوا

(2/770)


بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمّ النّاسَ وَيَتَقَدّمَ عَمْرًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إنّمَا قَدِمْت عَلَيّ مَدَدًا لِي، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَؤُمّنِي، وَأَنَا الْأَمِيرُ وَإِنّمَا أَرْسَلَك النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيّ مَدَدًا. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: كَلّا، بَلْ أَنْتَ أَمِيرُ أَصْحَابِك وَهُوَ أَمِيرُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ عَمْرٌو: لَا، بَلْ أَنْتُمْ مَدَدٌ لَنَا فَلَمّا رَأَى أَبُو عُبَيْدَةَ الِاخْتِلَافَ - وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ لَيّنَ الشّيمَةِ - قَالَ لِتَطْمَئِنّ يَا عَمْرُو، وَتَعْلَمَنّ أَنّ آخِرَ مَا عَهِدَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ: "إذَا قَدِمْت عَلَى صَاحِبِك فَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا" وَإِنّك وَاَللّهِ إنْ عَصَيْتنِي لَأُطِيعَنّكَ فَأَطَاعَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلّي بِالنّاسِ. فَآبَ إلَى عَمْرٍو جَمَعَ - فَصَارُوا خَمْسَمِائَةِ - فَسَارَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى وَطِئَ بِلَادَ بَلِيّ وَدَوّخَهَا1 ، وَكُلّمَا انْتَهَى إلَى مَوْضِعٍ بَلَغَهُ أَنّهُ كَانَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ جَمَعَ فَلَمّا سَمِعُوا بِهِ تَفَرّقُوا، حَتّى انْتَهَى إلَى أَقْصَى بِلَادِ بَلِيّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْن، وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ فَقَاتَلُوا سَاعَةً وَتَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَرُمِيَ يَوْمئِذٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ2 بِسَهْمٍ فَأُصِيبَ ذِرَاعُهُ. وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا، وَأَعْجَزُوا هَرَبًا فِي الْبِلَادِ وَتَفَرّقُوا، وَدَوّخَ عَمْرٌو مَا هُنَاكَ وَأَقَامَ أَيّامًا لَا يَسْمَعُ لَهُمْ بِجَمْعٍ وَلَا بِمَكَانٍ صَارُوا فِيهِ وَكَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَ الْخَيْلِ فَيَأْتُونَ بِالشّاءِ وَالنّعَمِ وَكَانُوا يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ غَنَائِمُ تُقْسَمُ إلّا مَا ذُكِرَ لَهُ.
وَكَانَ رَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ الطّائِيّ يَقُولُ كُنْت فِيمَنْ نَفَرَ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَكُنْت رَجُلًا أُغِيرُ فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى أَمْوَالِ النّاسِ فكنت
ـــــــ
1 دوخ البلاد: قهرها واستولى على أهلها. [الصحاح، ص 421].
2 في الأصل: "عمار بن ربيعة". وما أثبتناه من ابن الأثير. [أسد الغابة ، ج3، ص 80].

(2/771)


أَجْمَعُ الْمَاءَ فِي الْبَيْضِ - بَيْضِ النّعَامِ - فَأَجْعَلُهُ فِي أَمَاكِنَ أَعْرِفُهَا، فَإِذَا مَرَرْت بِهَا وَقَدْ ظَمِئْت اسْتَخْرَجْتهَا فَشَرِبْت مِنْهَا. فَلَمّا نَفَرْت فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ قُلْت: وَاَللّهِ لَأَخْتَارَنّ لِنَفْسِي صَاحِبًا يَنْفَعُنِي اللّهُ بِهِ. فَاخْتَرْت أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ فَصَحِبْته، وَكَانَتْ لَهُ عَبَاءَةٌ فَدَكِيّةٌ1 فَإِذَا رَكِبَ خَلّهَا2 عَلَيْهِ بِخِلَالٍ وَإِذَا نَزَلْنَا بَسَطَهَا. فَلَمّا قَفَلْنَا قُلْت: يَا أَبَا بَكْرٍ، رَحِمَك اللّهُ عَلّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللّهُ بِهِ. قَالَ قَدْ كُنْت فَاعِلًا وَلَوْ لَمْ تَسْأَلْنِي، لَا تُشْرِكْ بِاَللّهِ وَأَقِمْ الصّلَاةَ وَآتِ الزّكَاةَ وَصُمْ رَمَضَانَ وَحُجّ الْبَيْتَ وَاعْتَمِرْ وَلَا تَتَأَمّرْ3 عَلَى اثْنَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ قُلْت: أَمّا مَا أَمَرْتنِي بِهِ مِنْ الصّلَاةِ وَالصّوْمِ وَالْحَجّ فَأَنَا فَاعِلُهُ وَأَمّا الْإِمَارَةُ فَإِنّي رَأَيْت النّاسَ لَا يُصِيبُونَ هَذَا الشّرَفَ وَهَذَا الْغِنَى وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ النّاسِ إلّا بِهَا. قَالَ: إنّك اسْتَنْصَحْتنِي فَجَهَدْت لَك نَفْسِي ; إنّ النّاسَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا فَأَجَارَهُمْ4 اللّهُ مِنْ الظّلْمِ وَهُمْ عُوّادُ اللّهِ وَجِيرَانُ اللّهِ وَفِي أَمَانَتِهِ فَمَنْ أَخْفَرَ فَإِنّمَا يُخْفِرُ اللّهُ فِي جِيرَانِهِ وَإِنّ شَاةَ أَحَدِكُمْ أَوْ بَعِيرَهُ لِيَذْهَبَ فَيَظِلّ نَاتِئًا5 عَضَلَهُ غَضَبًا لِجَارِهِ وَاَللّهُ مِنْ وَرَاءِ جَارِهِ. قَالَ فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جِئْته فَقُلْت: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَمْ تَنْهَنِي أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى اثْنَيْنِ ؟ قَالَ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ قَالَ فَمَا لَك تَأَمّرْت عَلَى أُمّةِ مُحَمّدٍ ؟ قَالَ: اخْتَلَفَ الناس وخشيت
ـــــــ
1 لعلها منسوبة إلى فدك، وهي قرية قريب من خيبر بينها وبين المدينة ست ليال. [وفاء الوفا، ج2، ص 355].
2 خلها عليه: أي جمع بين طرفيها بخلال من عود أو حديد. [النهاية، ج1، ص318].
3 تأمر عليهم: تسلط. [الصحاح، ص 582].
4 في الأصل: "فأرجاهم".
5 الناتئ: المرتفع المنتفخ. والعضل: جمع عضلة، وهي القطعة من اللحم الشديدة. [شرح أبي ذر، ص 454].

(2/772)


عَلَيْهِمْ الْهَلَاكَ وَدَعَوْا إلَيّ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ بُدّا.
قَالَ: وَكَانَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ رَفِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا مَعَهُمَا فِي رَحْلِهِمَا، فَخَرَجَ عَوْفٌ يَوْمًا فِي الْعَسْكَرِ فَمَرّ بِقَوْمٍ بِأَيْدِيهِمْ جَزُورٌ قَدْ عَجَزُوا عَنْ عَمَلِهَا، فَكَانَ عَوْفٌ عَالِمًا بِالْجُزُرِ فَقَالَ أَتُعْطُونَنِي عَلَيْهَا وَأَقْسِمُهَا بَيْنَكُمْ ؟ قَالُوا: نَعَمْ نُعْطِيك عَشِيرًا مِنْهَا. فَنَحَرَهَا ثُمّ جَزّأَهَا بَيْنَهُمْ وَأَعْطَوْهُ مِنْهَا جُزْءًا فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ أَصْحَابَهُ فَطَبَخُوهُ وَأَكَلُوا مِنْهُ. فَلَمّا فَرَغُوا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا اللّحْمُ ؟ فَأَخْبَرَهُمَا فَقَالَا: وَاَللّهِ مَا أَحْسَنْت حِينَ أَطْعَمْتنَا هَذَا. ثُمّ قَامَا يَتَقَيّآنِ فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَعَلَ ذَلِكَ الْجَيْشُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: لِعَوْفٍ تَعَجّلْت أَجْرَك ثُمّ أَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ قَفَلْنَا احْتَلَمَ فِي لَيْلَة بَارِدَةٍ كَأَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ الْبَرْدِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ ؟ قَدْ وَاَللّهِ احْتَلَمْت، وَإِنْ اغْتَسَلْت مُتّ! فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضّأَ وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَتَيَمّمَ ثُمّ قَامَ فَصَلّى بِهِمْ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَعَثَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ بَرِيدًا. قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: فَقَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السّحَرِ وَهُوَ يُصَلّي فِي بَيْتِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ ؟" قُلْت: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "صَاحِبُ الْجَزُورِ ؟" قُلْت: نَعَمْ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، ثُمّ قَالَ: "أَخْبِرْنِي" فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ فِي مَسِيرِنَا وَمَا كَانَ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُطَاوَعَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُ اللّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ" ثُمّ أَخْبَرْته أَنّ عَمْرًا صَلّى بِنَا وَهُوَ

(2/773)


جُنُبٌ وَمَعَهُ مَاءٌ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ غَسَلَ فَرْجَهُ بِمَاءٍ وَتَيَمّمَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَلَمّا قَدِمَ عَمْرٌو عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اغْتَسَلْت لَمُتّ لَمْ أَجِد قَطّ بَرْدًا مِثْلَهُ وَقَدْ قَالَ اللّهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} 1 فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أنه قال شيئا.
ـــــــ
1 سورة 4 النساء 29.

(2/774)


سَرِيّةُ الْخَبَطِ أَمِيرُهَا أَبُو عبيدة
...
سرية الخبط1 أميرها أبو عُبَيْدَةَ
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي دَاوُد بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدٍ الْأَنْصَارِيّ مِنْ وَلَدِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَبَعْضُهُمْ قَدْ زَادَ فِي الْحَدِيثِ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِي سَرِيّةٍ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ إلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى حَيّ مِنْ جُهَيْنَةَ ; فَأَصَابَهُمْ جَوْعٌ شَدِيدٌ فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالزّادِ فَجَمَعَ حَتّى إذَا كَانُوا لَيَقْتَسِمُونَ التّمْرَةَ فَقِيلَ لِجَابِرٍ فَمَا يُغْنِي ثُلُثُ تَمْرَةٍ ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدُوا فَقْدَهَا. قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ حَمُولَةٌ2 إنّمَا كَانُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَبَاعِرَ يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا زَادَهُمْ. فَأَكَلُوا الْخَبَطَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ ذُو مَشْرَةٍ3 حَتّى إنّ شِدْقَ أَحَدِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مِشْفَر الْبَعِيرِ الْعَضّة، فَمَكَثْنَا عَلَى ذلك حتى قال
ـــــــ
1 الخبط: ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن ويخلط بدقيق أو غيره ويوخف بالماء. [القاموس المحيط، ج2، ص356].
2 الحمولة: ما يحتمل عليه الناس من الدواب. [النهاية، ج1، ص 261].
3 المشرة: شبه خوصة تخرج في العضاه وفي كثير من الشجر، أو أغصان الخضر الرطبة قبل أن تتلون بلون. [القاموس المحيط، ج2، ص 133].

(2/774)


قَائِلُهُمْ: لَوْ لَقِينَا عَدُوّا مَا كَانَ بِنَا حَرَكَةٌ إلَيْهِ لِمَا بِالنّاسِ مِنْ الْجَهْدِ. فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: مَنْ يَشْتَرِي مِنّي تَمْرًا بِجُزُرٍ يُوَفّينِي الْجُزُرَ هَاهُنَا وَأُوَفّيهِ التّمْرَ بِالْمَدِينَةِ ؟ فَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاعَجَبَاهُ لِهَذَا الْغُلَامِ لَا مَالَ لَهُ يُدَانُ فِي مَالِ غَيْرِهِ! فَوَجَدَ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: بِعْنِي جُزُرًا وَأُوَفّيك سِقَةً1 مِنْ تَمْرِ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ الْجُهَنِيّ وَاَللّهِ مَا أَعْرِفُك، وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ2. قَالَ الْجُهَنِيّ: مَا أَعَرَفْتنِي بِنَسَبِك أَمّا إنّ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ خُلّةً سَيّدُ أَهْلِ يَثْرِبَ. فَابْتَاعَ مِنْهُمْ خَمْسَ جُزُرٍ كُلّ جَزُورٍ بِوَسْقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ يَشْرِطُ عَلَيْهِ الْبَدَوِيّ، تَمْرٍ ذَخِيرَةٍ مُصَلّبَةٍ3 مِنْ تَمْرِ آلِ دُلَيْمٍ. قَالَ: يَقُولُ قَيْسٌ: نَعَمْ. فَقَالَ الْجُهَنِيّ: فَأَشْهِدْ لِي. فَأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ قَيْسٌ: أَشْهِدْ مَنْ تُحِبّ. فَكَانَ فِيمَنْ أَشْهَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَشْهَدُ هَذَا يُدَانُ وَلَا مَالَ لَهُ إنّمَا الْمَالُ لِأَبِيهِ. قَالَ الْجُهَنِيّ: وَاَللّهِ مَا كَانَ سَعْدٌ لِيَخُنّي4 بِابْنِهِ فِي سِقَةٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا وَفَعَالًا شَرِيفًا. فَكَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَبَيْنَ قَيْسٍ كَلَامٌ حَتّى أَغْلَظَ لَهُ قَيْسٌ الْكَلَامَ وَأَخَذَ قَيْسٌ الْجُزُرَ فَنَحَرَهَا لَهُمْ فِي مَوَاطِنَ ثَلَاثَةٍ كُلّ يَوْمِ جَزُورًا، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الرّابِعُ نَهَاهُ أَمِيرُهُ وَقَالَ تُرِيدُ أَنْ تُخْفِرَ5 ذِمّتَك وَلَا مَالَ لَك ؟
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ الله عنهم فقال:
ـــــــ
1 السقة: جمع وسق وهو الحمل،وقدره الشرع بستين صاعاً. ويروى أيضاً بالشين المعجمة. [النهاية، ج2، ص 169].
2 في الأصل: "دوليم"؛ وما أثبتناه عن ابن سعد. [الطبقات، ج8، ص 330].
3 صلب: أي يبس. [القاموس المحيط، ج1، ص 93].
4 أي يسلمه ويخفر ذمته، هو من أخنى عليه. [النهاية، ج2، ص 4].
5 في الأصل: "أن تخرب"؛ وما أثبتناه عن السيرة الجلبية. [ج2، ص 315].

(2/775)


عَزَمْت عَلَيْك أَلّا تَنْحَرَ. أَتُرِيدُ أَنْ تُخْفِرَ ذِمّتَك وَلَا مَالَ لَك ؟ فَقَالَ قَيْسٌ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَتَرَى أَبَا ثَابِتٍ وَهُوَ يَقْضِي دَيْنَ النّاسِ وَيَحْمِلُ الْكُلّ وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ لَا يَقْضِي سِقَةَ تَمْرٍ لِقَوْمٍ مُجَاهَدِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَكَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَلِينَ لَهُ وَيَتْرُكُهُ حَتّى جَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ اعْزِمْ عَلَيْهِ فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ. فَبَقِيت جَزُورَانِ مَعَهُ حَتّى وَجَدَ الْقَوْمُ الْحُوتَ فَقَدِمَ بِهِمَا قَيْسٌ الْمَدِينَةَ ظُهْرًا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَبَلَغَ سَعْدٌ مَا كَانَ أَصَابَ الْقَوْمُ مِنْ الْمَجَاعَةِ فَقَالَ إنْ يَكُنْ قَيْسٌ كَمَا أَعْرِفُهُ فَسَوْفَ يَنْحَرُ لِلْقَوْمِ. فَلَمّا قَدِمَ قَيْسٌ لَقِيَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: مَا صَنَعْت فِي مَجَاعَةِ الْقَوْمِ حَيْثُ أَصَابَهُمْ ؟ قَالَ: نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت، انْحَرْ قَالَ: ثُمّ مَاذَا ؟ قَالَ: نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت قَالَ: ثُمّ مَاذَا ؟ قَالَ: ثُمّ نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت، انْحَرْ قَالَ: ثُمّ مَاذَا قَالَ: نَهَيْت. قَالَ: وَمَنْ نَهَاك ؟ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ أَمِيرِي. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنّهُ لَا مَالَ لِي وَإِنّمَا الْمَالُ لِأَبِيك، فَقُلْت: أَبِي يَقْضِي عَنْ الْأَبَاعِدِ وَيَحْمِلُ الْكُلّ1 وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ وَلَا يَصْنَعُ هَذَا بِي قَالَ: فَلَك أَرْبَعُ حَوَائِطَ2. قَالَ: وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا. قَالَ: وَأَتَى بِالْكِتَابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَشَهِدَ فِيهِ وَأَتَى عُمَرُ فَأَبَى أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ - وَأَدْنَى حَائِطٍ مِنْهَا يَجُذّ خَمْسِينَ وَسْقًا. وَقَدِمَ الْبَدَوِيّ مَعَ قَيْسٍ فَأَوْفَاهُ سِقَتَهُ وَحَمّلَهُ وَكَسَاهُ فَبَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُ قَيْسٍ فَقَالَ: "إنّهُ فِي بَيْتِ جُودٍ".
حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بن عبد الله،
ـــــــ
1 في الأصل: "ويحمل في الكل".
2 الحوائط: البساتين [السيرة الحلبية، ج2، ص 316].

(2/776)


فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا مِثْلَ الظّرِبِ1 فَأَكَلَ الْجَيْشُ مِنْهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَ ثُمّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرَحَلَتْ ثُمّ مَرّ تَحْتَهَا فَلَمْ يُصِبْهَا.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَجْلِسُ فِي وَقْبِ2 عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الرّاكِبُ لَيَمُرّ بَيْنَ ضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحِجَازِيّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شُجَاعٍ قَالَ: لَمّا قَدِمَ الْأَعْرَابِيّ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ وَاَللّهِ مَا مِثْلُ ابْنِك صَنَعْت وَلَا تَرَكْت بِغَيْرِ مَالٍ فَابْنُك سَيّدٌ مِنْ سَادَةِ قَوْمِهِ نَهَانِي الْأَمِيرُ أَنْ أَبِيعَهُ. قُلْت: لِمَ ؟ قَالَ: لَا مَالَ لَهُ فَلَمّا انْتَسَبَ إلَيْك عَرَفْته فَتَقَدّمْت لِمَا عَرَفْت أَنّك تَسْمُو عَلَى مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَجَسِيمِهَا، وَأَنّك غَيْرُ مُذِمّ بِمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ لَدَيْك. قَالَ: فَأَعْطَى ابْنَهُ يَوْمئِذٍ أَمْوَالًا عِظَامًا.
ـــــــ
1 الظرب: الجبل الصغير. [النهاية، ج3، ص 54].
2 كلمة غامضة في الأصل؛ وما أثبتناه عن السيرة الحلبية. [ج2، ص 315]. ووقب العين: نقرتها. [الصحاح، ص 234].

(2/777)