أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، ت: علي عمر

ج / 1 ص -124-        ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية:
حدثني أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن داود بن عبد الرحمن العطار قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم القارئ, عن أبي الطفيل قال: قلت: يا خال, حدثني عن بنيان الكعبة قبل أن بنتها قريش. قال: كانت برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق, وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى.
ثم إن سفينة للروم أقبلت حتى إذا كانت بالشعيبة وهي يومئذ ساحل مكة قبل جدة, فانكسرت فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها وروميا كان فيها يقال له: باقوم, نجارًا بناءً، فلما قدموا به مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا, فاجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من الضواحي, فبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينقلها معهم إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمد عورتك, فذلك أول ما نودي والله أعلم، فما رئيت له عورة بعدها.
فلما جمعوا الحجارة وهموا بنقضها، خرجت لهم حية سوداء الظهر بيضاء البطن لها رأس مثل رأس الجدي, تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند المقام وهو يومئذ في مكانه اليوم, ثم قالوا: ربنا أردنا عمارة بيتك, فرأوا طائرًا أسود ظهره، أبيض بطنه، أصفر الرجلين أخذها فجرها حتى أدخلها أجياد ثم هدموها وبنوها عشرين ذراعًا طولها.
قال أبو الطفيل: فاستقصرت قريش لقصر الخشب, فتركوا منها في الحجر ستة أذرع وشبرًا.
قال: حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال: جلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في الحجر وأرسل إلى رجل من بني زهرة قديم فسأله عن بنيان الكعبة فقال: إن قريشًا تقوت في بنائها فعجزوا واستقصروا, فبنوا وتركوا بعضها في الحجر فقال عمر: صدقت.
قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن الزهري قال: لما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحلم, أجمرت امرأة من قريش الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت, فوهى البيت للحريق الذي أصابه فتشاغلت قريش في هدم الكعبة فهابوا هدمها, فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم

 

ج / 1 ص -125-        الإساءة؟ قالوا: بل نريد الإصلاح قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، قالوا: من الذي يعلوها فيهدمها؟ قال الوليد بن المغيرة: أنا أعلوها فأهدمها, فارتقى الوليد على جدر البيت ومعه الفأس فقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم فلما رأت قريش ما هدم منها ولم يأتهم ما يخافون من العذاب هدموا معه, حتى إذا بنوا فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تلي رفعه؟ حتى كاد يشتجر بينهم فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك, فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه, فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية الثوب ثم ارتقى, وأمرهم أن يرفعوه إليه فرفعوه إليه, وكان هو الذي وضعه.
حدثني جدي, قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه قال: جلس رجال من قريش في المسجد الحرام فيهم: حويطب بن عبد العزى ومخرمة بن نوفل, فتذاكروا بنيان قريش الكعبة وما هاجهم على ذلك, وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك, قالوا: كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدر, وكان بابها بالأرض ولم يكن لها سقف وإنما تدلى الكسوة على الجدر من خارج وتربط من أعلى الجدر من بطنها.
وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جب يكون فيه ما يهدى إلى الكعبة من مال, وحلية كهيئة الخزانة, وكان يكون على ذلك الجب حية تحرسه بعثها الله منذ زمن جرهم, وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا مالها وحليتها مرة بعد مرة, فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة وما فيها خمسمائة سنة, فلم تزل كذلك حتى بنت قريش الكعبة وكان قرنا الكبش الذي ذبحه إبراهيم خليل الرحمن معلقين في بطنها بالجدر تلقاء من دخلها، يخلقان ويطيبان إذا طيب البيت, فكان فيها معاليق من حلية كانت تهدى إلى الكعبة فكانت على ذلك من أمرها.

 

ج / 1 ص -126-        ثم إن امرأة ذهبت تجمر الكعبة فطارت من مجمرتها شرارة فأحرقت كسوتها, وكانت الكسوة عليها ركامًا بعضها فوق بعض, فلما أحرقت الكعبة توهنت جدرانها من كل جانب وتصدعت, وكانت الخرف1 والأربعة مظلة والسيول متواترة، ولمكة سيول عوارم, فجاء سيل عظيم على تلك الحال فدخل الكعبة وصدع جدرانها وأخافهم, ففزعت من ذلك قريش فزعًا شديدًا وهابوا هدمها, وخشوا إن مسوها أن ينزل عليهم العذاب.
قال: فبينا هم على ذلك ينتظرون ويتشاورون إذ أقبلت سفينة للروم حتى إذا كانت بالشعيبة -وهي يومئذ ساحل مكة قبل جدة- انكسرت فسمعت بها قريش فركبوا إليها, فاشتروا خشبها وأذنوا لأهلها أن يدخلوا مكة فيبيعوا ما معهم من متاعهم على أن لا يعشروهم2، قال: وكانوا يعشرون من دخلها من تجار الروم كما كانت الروم تعشر من دخل منهم بلادها، فكان في السفينة رومي نجار بناء يسمى باقوم.
فلما قدموا بالخشب مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا, فأجمعوا لذلك وتعاونوا عليه وترافدوا في النفقة, وربعوا قبائل قريش أرباعًا ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها, فطار قدح بني عبد  مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي, وقدح بني عبد الدار وبني أسد بن عبد العزى وبني عدي بن كعب على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي, وطار قدح بني سهم وبني جمح وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي, وطار قدح بني تميم وبني مخزوم وقبائل من قريش ضموا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد، فنقلوا الحجارة ورسول الله يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي ينقل معهم الحجارة على رقبته, فبينا هو ينقلها إذ انكشفت نمرة كانت عليه فنودي: يا محمد عورتك, وذلك أول ما نودي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخرف: جمع خريف، والأربعة: جمع ربيع.
2 عشر المال: أخذ عشره مكسًا.

 

ج / 1 ص -127-        والله أعلم, فما رئيت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عورة بعد ذلك, ولُبِجَ1 برسول الله من الفزع حين نودي، فأخذه العباس بن عبد المطلب فضمه إليه وقال: لو جعلت بعض نمرتك على  عاتقك تقيك الحجارة، قال: "ما أصابني هذا إلا من التعري" فشد رسول الله -صلى الله عليه  وسلم- إزاره وجعل ينقل معهم.
وكانوا ينقلون بأنفسهم تبررًا وتبركًا بالكعبة. فلما اجتمع لهم ما يريدون من الحجارة والخشب وما يحتاجون إليه عدوا على هدمها, فخرجت الحية التي كانت في بطنها تحرسها سوداء الظهر، بيضاء البطن، رأسها مثل رأس الجدي، تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند مقام إبراهيم -وهو يومئذ بمكانه الذي هو فيه اليوم, فقال لهم الوليد بن المغيرة: يا قوم, ألستم تريدون بهدمها الإصلاح؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، ولكن لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من طيب أموالكم, ولا تدخلوا فيه مالًا من ربا، ولا مالًا من ميسر، ولا مهر بغي، وجنبوه الخبيث من أموالكم؛ فإن الله لا يقبل إلا طيبًا ففعلوا.
ثم وقفوا عند المقام فقاموا يدعون ربهم ويقولون: اللهم إن كان لك في هدمها رضًا فأتمه, واشغل عنا هذا الثعبان, فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ظهره أسود، وبطنه أبيض، ورجلاه صفراوان والحية على جدر البيت فاغرة فاها, فأخذ برأسها ثم طار بها حتى أدخلها أجياد الصغير فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله سبحانه وتعالى قد رضي عملكم, وقبل نفقتكم فاهدموه.
فهابت قريش هدمه وقالوا: من يبدأ فيهدمه؟ فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمه، أنا شيخ كبير فإن أصابني أمر كان قد دنا أجلي وإن كان غير ذلك لم يرزأني. فعلا البيت وفي يده عتلة يهدم بها فتزعزع من تحت رجله حجر فقال: اللهم لم ترع؟ إنما أردنا الإصلاح وجعل يهدمه حجرًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لبج به: صرع وسقط من قيام.

 

ج / 1 ص -128-        حجرًا بالعتلة, فهدم يومه ذلك فقالت قريش: إنا نخاف أن ينزل به العذاب إذا أمسى.
فلما أمسى لم تر بأسًا, فأصبح الوليد بن المغيرة غاديًا على عمله فهدمت قريش معه حتى بلغوا الأساس الأول الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت, فأبصروا حجارة كأنها الإبل الخلف لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلًا، يحرك الحجر منها فترتج جوانبها، قد تشبك بعضها ببعض فأدخل الوليد بن المغيرة عتلته بين الحجرين فانفلقت منه فلقة عظيمة فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم, فنزت من يده حتى عادت في مكانها وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم, ورجفت مكة بأسرها؛ فلما رأوا ذلك أمسكوا عن أن ينظروا ما تحت ذلك, فلما جمعوا ما أخرجوا من النفقة قلت النفقة عن أن تبلغ لهم عمارة البيت كله, فتشاوروا في ذلك فأجمع رأيهم على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون عليه من بناء البيت ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار يطوف الناس من ورائه, ففعلوا ذلك وبنوا في بطن الكعبة أساسًا يبنون عليه من شق الحجر وتركوا من ورائه من فناء البيت في الحجر ستة أذرع وشبرًا, فبنوا على ذلك فلما وضعوا أيديهم في بنائها قالوا: ارفعوا بابها من الأرض واكبسوها حتى لا تدخلها السيول, ولا ترقى إلا بسلم, ولا يدخلها إلا من أردتم, إن كرهتم أحدًا دفعتموه1.
ففعلوا ذلك وبنوها بساف2 من حجارة، وساف من خشب بين الحجارة حتى انتهوا إلى موضع الركن فاختلفوا في وضعه, وكثر الكلام فيه وتنافسوا في ذلك فقال بنو عبد مناف وزهرة: هو في الشق الذي وقع لنا, وقالت تيم ومخزوم: هو في الشق الذي وقع لنا, وقالت سائر القبائل: لم يكن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 1/ 156.
2 الساف: المدماك، أو السطر والصف.

 

ج / 1 ص -129-        الركن مما استهمنا عليه1.
فقال أبو أمية بن المغيرة: يا قوم, إنما أردنا البر ولم نرد الشر, فلا تحاسدوا ولا تنافسوا, فإنكم إذا اختلفتم تشتَّتت أموركم، وطمع فيكم غيركم ولكن حكموا بينكم أول من يطلع عليكم من هذا الفج، قالوا: رضينا وسلمنا، فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذا الأمين قد رضينا به، فحكّموه، فبسط رداءه ثم وضع فيه الركن فدعا من كل ربع رجلًا, فأخذوا بأطراف الثوب فكان من بني عبد مناف عتبة بن ربيعة, وكان في الربع الثاني أبو زمعة بن الأسود وكان أسن القوم، وفي الربع الثالث العاصي بن وائل، وفي الربع الرابع أبو حذيفة بن المغيرة, فرفع القوم الركن وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- على الجدر ثم وضعه بيده, فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي -صلى الله عليه وسلم- حجرًا ليشد به الركن فقال العباس بن عبد المطلب: لا, [ونحاه] وناول العباس النبي -صلى الله عليه وسلم- حجرًا فشد به الركن, فغضب النجدي حيث نحي فقال النجدي: وا عجباه لقوم أهل شرف وعقول وسن وأموال عمدوا إلى أصغرهم سنا، وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحوزتهم كأنهم خدم له!! أما والله ليفوتنهم سبقًا, وليقسمن عليهم حظوظًا وجدودًا, ويقال: إنه إبليس2.
فبنوا حتى رفعوا أربعة أذرع وشبرًا ثم كبسوها, ووضعوا بابها مرتفعًا على هذا الذرع ورفعوها بمدماك خشب ومدماك حجارة حتى بلغوا السقف.
فقال لهم باقوم الرومي: أتحبون أن تجعلوا سقفها مكبسًا أو مسطحًا؟ فقالوا: بل ابن بيت ربنا  مسطحًا. قال: فبنوه مسطحًا وجعلوا فيه ست دعائم في صفين, في كل صف ثلاث دعائم من الشق الشامي الذي يلي الحجر إلى الشق اليماني, وجعلوا ارتفاعها من خارجها من الأرض إلى أعلاها ثمانية عشر ذراعًا, وكانت قبل ذلك تسعة أذرع فزادت قريش في ارتفاعها في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 1/ 157.
2 إتحاف الورى 1/ 157, 158 وما بين حاصرتين منه.

 

ج / 1 ص -130-        السماء تسعة أذرع أخر, وبنوها من أعلاها إلى أسفلها بمدماك من حجارة, ومدماك من خشب وكان الخشب خمسة عشر مدماكًا, والحجارة ستة عشر مدماكًا1.
وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر, وجعلوا درجة من خشب في بطنها في الركن الشامي يصعد منها إلى ظهرها، وزوقوا سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء، وصور الشجر، وصور الملائكة.
فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخا يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى ابن مريم وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين.
فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بماء زمزم, ثم أمر بثوب وأمر بطمس تلك الصور، فطمست.
قال: ووضع كفيه على صورة عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام وقال:
"امحوا جميع الصور إلا ما تحت يدي" فرفع يديه عن عيسى ابن مريم وأمه ونظر إلى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله, جعلوه يستقسم بالأزلام, ما لإبراهيم وللأزلام".
وجعلوا لها بابًا واحدًا فكان يغلق ويفتح، وكانوا قد أخرجوا ما كان في البيت من حلية ومال وقرني الكبش, وجعلوه عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي, وأخرجوا هبل وكان على الجب الذي فيه نصبه عمرو بن لحي هنالك ونصب عند المقام حتى فرغوا من بناء البيت, فردوا ذلك المال في الجب وعلقوا فيه الحلية وقرني الكبش, وردوا الجب في مكانه فيما يلي الشق الشامي ونصبوا هبل على الجب كما كان قبل ذلك وجعلوا له سلمًا يصعد عليه إلى بطنها, وكسوها حين فرغوا من بنائها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 1/ 159.

 

ج / 1 ص -131-        حبرات يمانية1.
حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه, عن حويطب بن عبد العزى قال: كانت في الكعبة حلق أمثال لجم البهم, يدخل الخائف فيها يده فلا يريبه أحد, فجاء خائف ليدخل يده فاجتبذه رجل فشلت يده, فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل.
وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال: نعم, أدركت فيه تمثال مريم مزوقًا, في حجرها عيسى ابنها قاعدًا مزوقًا. قال: وكانت في البيت أعمدة ست سوارٍ, وصفها كما نقطت في هذا التربيع:


قال: وكان تمثال عيسى ابن مريم ومريم -عليهما السلام- في العمود الذي يلي الباب. قال ابن جريج: فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال: في الحريق في عصر ابن الزبير, وقلت: أعلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان؟ قال: لا أدري, وإني لأظنه قد كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له سليمان: أفرأيت تماثيل صور كانت في البيت، من طمسها؟ قال: لا أدري, غير أني أدركت من تلك الصور اثنتين درسهما وأراهما والطمس عليهما. قال ابن جريج: ثم عاودت عطاء بعد حين فخط لي ست سوارٍ كما خططت ثم قال: تمثال عيسى وأمه -عليهما السلام- في الوسطى من اللاتي تلين الباب الذي يلينا إذا دخلنا.
قال ابن جريج: الذي خط هذا التربيع ونقط هذا النقط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 1/ 159, 160.

 

ج / 1 ص -132-        حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن عمرو بن دينار قال: أدركت في بطن الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى ابن مريم وأمه.
وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن قال: أخبرني بعض الحجبة, عن مسافع بن شيبة بن عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"يا شيبة, امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي" قال: فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه.
حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن عمرو بن دينار أنه سمع أبا الشعثاء يقول: إنما يكره ما فيه الروح، قال عمرو: أن يصنع التمثال على ما فيه الروح, فأما الشجر وما ليس فيه روح فلا.
حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن سليمان بن موسى, عن جابر بن عبد الله قال: زجر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصور, وأمر عمر بن الخطاب زمن الفتح أن يدخل البيت فيمحو ما فيه من صورة, ولم يدخله حتى محي.
حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن عبيد عن الحسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل الكعبة حتى أمر عمر بن الخطاب أن يطمس على كل صورة فيها.
حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, قال: حدثنا يزيد بن عياض بن جعدبة, عن ابن شهاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة وغيرها, فرأى صورة إبراهيم  فقال:
"قاتلهم الله, جعلوه شيخًا يستقسم بالأزلام" ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال: "امحوا ما فيها من الصور, إلا صورة مريم".
أخبرني محمد بن يحيى, عن الثقة عنده, عن ابن إسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم, أن قريشًا كانت قد جعلت في الكعبة

 

ج / 1 ص -133-        صورًا فيها عيسى ابن مريم ومريم -عليهما السلام. قال ابن شهاب: قالت أسماء بنت شقر: إن امرأة من غسان حجت في حاج العرب, فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت: بأبي وأمي إنك لعربية، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمحوا تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم.
حدثني محمد بن يحيى عن الثقة عنده, عن ابن إسحاق, عن محمد بن جعفر بن الزبير, عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور, عن صفية بنت شيبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة يوم الفتح أقبل حتى أتى البيت فطاف به سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده, فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة, ففتحت له فدخلها, فوجد فيها حمامة من عيدان فطرحها.
حدثني محمد بن يحيى بن أبي عمر قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي, عن أيوب, عن عكرمة قال: لما كان يوم الفتح دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيت, فإذا فيه صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام, وأحسبه قال: والكبش أو رأس الكبش, فأمرهم أن يمحوها قال: فما دخل حتى محيت قال: فلما دخل رأى الأزلام قد صورت في يد إبراهيم فقال:
"قاتلهم الله, لقد أبى أنهما لم يستقسما بالأزلام".
حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي قالا: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن خيثم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلامًا حيث هدمت الكعبة فكان ينقل الحجارة, فوضع على ظهره إزاره يتقي به فلبج به, فأخذه العباس فضمه إليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إني نهيت أن أتعرى".
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: اسم الذي بنى الكعبة باقوم وكان روميا, كان في سفينة أصابتها ريح فحجبتها -يقول: حبستها- فخرجت إليها قريش بجدة فأخذوا السفينة وخشبها, وقالوا: ابنه لنا بنيان الشام.

 

ج / 1 ص -134-        حدثني جدي محمد بن يحيى, عن سفيان, عن عمرو بن دينار قال: لما أرادوا أن يبنوا الكعبة خرجت حية فحالت بينهم وبين بنائهم, وكانت تشرف على الجدار قال: فقالوا: إن أراد الله أن نتممه فسيكفيكموها ثم قال عمرو: فسمعت ابن عمير يقول: فجاء طير أبيض فأخذ بأنيابها, فذهب بها نحو الحجون.
وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني هشام بن سليمان المخزومي, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير, عن الوليد, عن عطاء بن حباب أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك بن مروان: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها، قال الحارث: أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن قومك استقصروا في بناء البيت, ولولا حداثة عهد قومك بالكفر أعدت فيه ما تركوه منه, فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلم لأريك ما تركوا منه"، فأراها قريبًا من سبعة أذرع. وزاد الوليد في الحديث: "وجعلت لها بابين موضوعين بالأرض بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا. قال: "تعززًا لئلا يدخلها أحد إلا من أرادوا، فكانوا إذا كرهوا أن يدخلها الرجل يدعونه يرتقي, حتى إذا كاد أن يدخل يدفعونه فيسقط". قال عبد الملك: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فنكت بعصاه ساعة ثم  قال: إني وددت أني تركته وما يحمل.
حدثني جدي قال: حدثني مالك بن أنس, عن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"ألم تري أن قومك حين بنوا البيت استقصروا عن قواعد إبراهيم؟" قالت: فقلت: يا رسول الله, ألا تردها على قواعده؟ قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت" قال عبد الله بن

 

ج / 1 ص -135-        عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أراه ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر, إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم.
أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم عن المثنى بن الصباح قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: كان طول الكعبة في السماء تسعة أذرع, فاستقصروا طولها وكرهوا أن يكون بغير سقف، وأرادوا الزيادة فيها فبنوها وزادوا في طولها تسعة أذرع، وتركوا في الحجر من عرضها ستة أذرع وعظم ذراع قصرت بهم النفقة.
أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, حدثني ابن أبي سبرة, عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر قال: كان باب الكعبة على عهد إبراهيم وجرهم بالأرض حتى بنتها قريش، قال أبو حذيفة بن المغيرة: يا معشر قريش, ارفعوا باب الكعبة حتى لا يدخل عليكم إلا بسلم, فإنه لا يدخل عليكم إلا من أردتم، فإن جاء أحد ممن تكرهون رميتم به فيسقط فكان نكالًا لمن رآه, ففعلت قريش ذلك وردموا الردم الأعلى وصرفوا السيل عن الكعبة, وكسوها الوصائل.
وحدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن محمد بن أبي حميد, عن مودود مولى عمر بن علي, عن عمر بن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"أنا وضعت الركن بيدي يوم اختلفت قريش في وضعه".
حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي قال: حدثني خالد بن القاسم, عن ابن أبي تجراة عن أمه قالت: أنا أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع الركن بيده فقلت: لمن الثوب الذي وضع فيه الحجر؟ قالت: للوليد بن المغيرة, ويقال: حمل الحجر في كساء طاروني كان للنبي -صلى الله عليه وسلم.
وحدثني محمد بن يحيى عن الواقدي, عن ابن أبي سبرة, عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث, عن هشام, عن سعيد بن المسيب قال: الذي أخذ الحجر الذي انفلق من غمز العتلة من أساس الكعبة فنزا من

 

ج / 1 ص -136-        يده فرجع مكانه, أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن هشام بن عمارة, عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم قال: الذي أخذ الحجر فنزا من يده, عامر بن نوفل بن عبد مناف, قال الواقدي: وقد ثبت أنه أبو وهب بن عمرو بن عائذ.
حدثني محمد بن يحيى عن الواقدي, عن الوليد بن كثير, عن يعقوب بن عتبة قال: اجتمع عند معاوية بن أبي سفيان وهو خليفة نفر من قريش, منهم: جعدة بن هبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن زمعة بن الأسود, فتذاكروا أحاديث العرب فقال معاوية: من الرجل الذي نزا الحجر من يده حين حفر أساس البيت, حتى عاد مكانه؟ قالوا: من أعلم من أمير المؤمنين بهذا، قال: علي ذلك، ليس كل العلم وعيناه ولا حفظناه, لقد علمنا أمورًا  فنسيناها، قالوا جميعًا: هو أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، قال معاوية: كذلك  كنت أسمع من أبي وكان حاضرًا في ذلك اليوم، قال: فمن قال حين اختلفت قريش في بنيان مقدم البيت: يا معشر قريش لا تنافسوا ولا تباغضوا فيطمع فيكم غيركم, ولكن جَزِّئوا البيت أربعة أجزاء ثم ربعوا القبائل فلتكن أرباعًا؟ قالوا: إنه أبو أمية بن المغيرة قال: هكذا كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن القائل حين اختلفت قريش في وضع الركن: حكموا بينكم أول من يطلع من هذا الباب؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة قال: نعم، قال: فمن النفر الذين رفعوا الثوب حين وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: جدك عتبة بن ربيعة أحدهم، قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن كان من الربع الثاني؟ قالوا: أبو زمعة بن الأسود بن المطلب قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول، قال: فمن كان في الربع الثالث؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة، قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول،  قال: فمن كان في الربع الرابع؟ قالوا: أبو قيس بن عدي

 

ج / 1 ص -137-        السهمي، قال: هذه واحدة قد أخذتها عليكم, العاصي بن وائل، قال: فمن قال: يا معشر قريش, لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا طيبًا من كسبكم؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة قال: هذه أخرى قد أخذتها عليكم, القائل هذا والمتكلم به أبو أحيحة سعيد بن العاصي قال: فأسكت القوم.
حدثني سعيد بن محمد رجل من قريش قال: حدثني عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن أبيه, عن جده, عن عمر بن علي بن أبي طالب, عن علي بن أبي طالب قال: لما احترقت الكعبة في الجاهلية هدمتها قريش لتبنيها, فكشف عن ركن من أركانها من الأساس, فإذا حجر فيه مكتوب: أنا يعفر بن عبد قرا, أقرأ على ربي السلام من رأس ثلاثة آلاف سنة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 1/ 154.

باب ما جاء في فتح الكعبة, ومتى كانوا يفتحونها؟ ودخولهم إياها، وأول من خلع النعل والخف عند دخولها:
حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن يزيد, عن سعيد بن عمرو الهذلي عن أبيه قال: رأيت قريشًا يفتحون البيت في الجاهلية يوم الاثنين والخميس, وكان حجابه يجلسون عند بابه فيرتقي الرجل إذا كانوا لا يريدون دخوله فيدفع ويطرح, وربما عطب, وكانوا لا يدخلون الكعبة بحذاء, يعظمون ذلك ويضعون نعالهم تحت الدرجة.
أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: لما فرغت قريش من بناء الكعبة كان أول من خلع الخف والنعل فلم يدخلها بهما, الوليد بن المغيرة؛ إعظامًا لها فجرى ذلك سنة.

 

ج / 1 ص -138-        حدثني محمد بن يحيى, حدثنا عبد العزيز بن عمران, عن عبد الله بن أبي سليمان, عن أبيه أن فاختة بنة زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى -وهي أم حكيم بن حزام- دخلت الكعبة وهي حامل فأدركها المخاض فيها, فولدت حكيمًا في الكعبة فحملت في نطع, وأخذ ما تحت مثبرها1 فغسل عند حوض زمزم, وأخذت ثيابها التي ولدت فيها فجعلت لقى -واللقى2 أنه لم يكن يطوف أحد بالبيت إلا عريانًا- إلا الحمس, فإنهم كانوا يطوفون بالبيت وعليهم الثياب, وكان من طاف من غير الحمس في ثيابه فإذا طاف الرجل أو المرأة وفرغ من طوافه جاء بثيابه التي طاف فيها, فطرحها حول البيت فلا يمسها أحد ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام, ومن الشمس والرياح والمطر, وقال ورقة بن نوفل يذكر اللقى:

كفى حزنًا كري عليها كأنها                 لَقًى بين أيدي الطائفين حريم3

يقول: لا يمس.
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن إسحاق الهمداني, عن زيد بن يثيع قال: سألنا عليا -عليه السلام: بأي شيء بعثك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في حجته سنة تسع؟ قال: بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم بعد عامهم هذا، ومن كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فأربعة أشهر.
قال أبو محمد: ووجدت في كتاب قديم فيما سمع من أبي الوليد, ومن كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده إلى مدته, ومن لم يكن له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده أربعة أشهر.
حدثنا جدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبر -بفتح الميم: مسقط الولد.
2 اللقى: الشيء الملقى المطرح, ويقال: المنسى.
3 سيرة ابن هشام 1/ 203.

 

ج / 1 ص -139-        الزهري أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس: قريش وأحلافها -والأحمسي: المشدد في دينه في بعض كلام العرب- فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي قال: فإن لم يجد من يعيره من الحمس ثوبًا, فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا, وإن طاف في ثيابه ألقاها إذا قضى طوافه يحرمها فيجعلها عندها؛ فلذلك قال تبارك وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
حدثني جدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن ابن طاوس عن أبيه قال: السملة1 من الزينة.
حدثني جدي, عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود, عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع طاوسًا يقول: يا بني آدم, لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة فتبلوا حتى يأتي،
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يقول: لم يأمرهم بالحرير ولا بالديباج, ولكنه كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد فيجدها, ثم إن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه, في ذلك نزلت: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا جرير، عن منصور, عن مجاهد في قوله تعالى:
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة. قال  ابن جريج: لما أن أهلك الله تعالى من أهلك من أبرهة الحبشي صاحب الفيل, وسلط عليه الطير  الأبابيل عظمت جميع العرب قريشًا وأهل مكة, وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم, فازدادوا في تعظيم الحرم والمشاعر الحرام والشهر الحرام ووقروها, ورأوا أن دينهم خير الأديان وأحبها إلى الله تعالى، وقالت قريش وأهل مكة:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في أ، ب. وفي الأصل: "الشملة". والسمل: الخلق من الثياب، والشملة: الكساء والمئزر يتشح به.

 

ج / 1 ص -140-        نحن أهل الله وبنو إبراهيم خليل الله وولاة البيت الحرام وسكان حرمه وقطانه, فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا, ولا تعرف العرب لأحد مثل ما تعرف لنا, فابتدعوا عند ذلك أحداثًا في دينهم أداروها بينهم فقالوا: لا تعظمون شيئًا من الحل كما تعظمون الحرم, فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم, وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم, فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها, وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويقرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها إلا أنهم قالوا: نحن الحمس أهل الحرم, فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره.
ثم جعلوا لمن ولدوا من سائر العرب من سكان الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم, يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، وكانت خزاعة وكنانة قد دخلوا معهم في ذلك.
ثم ابتدعوا في ذلك أمورًا لم تكن، حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا1 الأقط ولا يسلئوا السمن وهم حرم, ولا يدخلوا بيتًا من شعر, ولا يستظلوا -إن استظلوا- إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا, ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم, إذا كانوا حجاجًا أو عمارًا، ولا يأكلوا في الحرم إلا من طعام أهل الحرم إما قرى وإما شراء، وكانوا مما سنوا به أنه إذا حج الصرورة من غير الحمس2.
والحمس: أهل مكة قريش وكنانة وخزاعة ومن دان بدينهم ممن ولدوا من حلفائهم وإن كان من ساكني الحل, والأحمسي: المشدد في دينه، فإذا حج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في سيرة ابن هشام. وفي الأصول: "يأقطوا" والأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي.
2 سيرة ابن هشام 1/ 202، إتحاف الورى 1/ 64.

 

ج / 1 ص -141-        الصرورة1 من غير الحمس -رجلًا كان أو امرأة- لا يطوف بالبيت إلا عريانًا الصرورة أول ما يطوف إلا أن يطوف في ثوب أحمسي إما إعارة وإما إجارة، يقف أحدهم بباب المسجد فيقول: من يعير مصونا؟2 من يعير ثوبًا؟ فإن أعاره أحمسي ثوبًا أو أكراه طاف به، وإن لم يعره ألقى ثيابه بباب المسجد من خارج ثم دخل الطواف وهو عريان، يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعًا استلم الركن، ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس فيأخذها فيلبسها, ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عريانًا3.
ولم يكن يطوف بالبيت عريان إلا الصرورة من غير الحمس، فأما الحمس فكانت تطوف في ثيابها, فإن تكرم متكرم من رجل أو امرأة من غير الحمس ولم يجد ثياب أحمسي يطوف فيها ومعه فضل ثياب يلبسها غير ثيابه التي عليه، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، فإذا فرغ من طوافه نزع ثيابه ثم جعلها لقًى يطرحها بين إساف ونائلة، فلا يمسها أحد ولا ينتفع بها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح والمطر، وقال الشاعر يذكر ذلك اللقى:

كفى حزنًا كري عليه كأنه                  لقًى بين أيدي الطائفين حريم4

يقول: لا يمس, فصار هذا كله سنة فيهم، وذلك من صنع إبليس وتزيينه لهم ما يلبس عليهم من تغيير الحنيفية دين إبراهيم، فجاءت امرأة يومًا وكان لها جمال وهيئة، فطلبت ثيابًا عارية فلم تجد من يعيرها، فلم تجد بدا من أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصرورة: من لم يسبق له الحج.
2 في الأصل: "مضمونًا" والمثبت من بقية الأصول، ومثله في إتحاف الورى.
3 إتحاف الورى 1/ 66.
4 إتحاف الورى 1/ 67.

 

ج / 1 ص -142-        تطوف عريانة فنزعت ثيابها بباب المسجد, ثم دخلت المسجد عريانة فوضعت يديها على فرجها وجعلت تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله                               وما بدا منه فلا أحله

قال: فجعل فتيان مكة ينظرون إليها وكان لها حديث طويل، وقد تزوجت في قريش1.
قال: وجاءت امرأة أيضًا تطوف عريانة وكان لها جمال، فرآها رجل فأعجبته، فدخل الطواف وطاف في جنبها لأن يمسها, فأدنى عضده من عضدها، فالتزقت عضده بعضدها, فخرجا من المسجد من ناحية بني سهم هاربين على وجوههما, فزعين لما أصابهما من العقوبة، فلقيهما شيخ من قريش -خارجًا من المسجد- فسألهما عن شأنهما، فأخبراه بقضيتهما، فأفتاهما أن يعودا، فرجعا إلى المكان الذي أصابهما فيه ما أصابهما، فيدعوان ويخلصان ألا يعودا، فرجعا إلى مكانهما فدعوا الله سبحانه وأخلصا إليه ألا يعودا, فافترقت أعضادهما, فذهب كل واحد منهما في ناحية2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيرة ابن هشام 1/ 202، إتحاف الورى 1/ 68.
2 إتحاف الورى 1/ 69.

حج أهل الجاهلية, وإنساء الشهور ومواسمهم, وما جاء في ذلك:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن إسحاق عن الكلبي, عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس قال: كانت العرب على دينين، حلة وحمس، فالحمس: قريش وكل من ولدت من العرب وكنانة وخزاعة والأوس والخزرج

 

ج / 1 ص -143-        وجشم وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة وأزد شنوءة وجذم وزبيد وبنو ذكوان من بني سليم وعمرو اللات وثقيف وغطفان والغوث وعدوان وعلاف وقضاعة، وكانت قريش إذا أنكحوا عربيا امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت له فهو أحمسي على دينهم، وزوج الأدرم تيم بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابنته مجدا ابنه تيم بن ربيعة بن عامر1 بن صعصعة على أن ولده منها أحمسي على سنة قريش, وفيها يقول لبيد بن ربيعة بن جعفر الكلابي:

سقى قومي بني مجد وأسقى                      نميرًا والقبائل من هلال2

وذكروا أن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان تزوج سلمى بنت ضبيعة بن علي بن  يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، فولدت له هوازن، فمرض مرضًا شديدًا، فنذرت سلمى لئن برأ لتحمسنه، فلما برئ حمسته، فلم تكن نساؤهم ينسجن ولا يغزلن الشعر ولا يسلأن السمن إذا  أحرموا.
قال: وكانت الحمس إذا أحرموا ألا يأتقطوا الأقط، ولا يأكلوا السمن ولا يسلئوه، ولا يمخضوا اللبن، ولا يأكلوا الزبد، ولا يلبسوا الوبر، ولا الشعر، ولا يستظلوا به ما داموا حرمًا، ولا يغزلوا الوبر، ولا الشعر ولا ينسجوه، وإنما يستظلون بالأدم ولا يأكلون شيئًا من نبات الحرم.
وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يخفرون فيها الذمة ولا يظلمون فيها، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم، وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل. وفي أ: "ابنته مجدا ابنة تيم ربيعة بن عامز" وفي ب: "ابنه مجدًا ابنة تيم بن ربيعة". وفي المحبر ص178: "مجد بنت تيم بن غالب بن فهر" ومثله في كتاب النسب لأبي عبيد القاسم بن سلام ص259. وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص486، والعمدة لابن رشيق 2/ 911.
2 المحبر ص178، اللسان "مجد".

 

ج / 1 ص -144-        وأول الإسلام، فإن كان من أهل المدر -يعني أهل البيوت والقرى- نقب نقبًا في ظهر بيته، فمنه يدخل ومنه يخرج، ولا يدخل من بابه، وكانت الحمس تقول: لا تعظموا شيئًا من الحل, ولا تجاوزوا الحرم في الحج فلا يهاب الناس حرمكم, ويروا ما تعظمون من الحل كالحرم فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة بمفضى المأزمين يقفون به عشية عرفة, ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة, ويفيضون منه إلى المزدلفة، فإذا عممت الشمس رءوس الجبال، دفعوا وكانوا يقولون: نحن أهل الحرم لا نخرج من الحرم ونحن الحمس، فتحمست قريش ومن ولدت فتحمست معهم هذه القبائل، فسميت الحمس.
وإنما سميت الحمس حمسًا للتشديد في دينهم، فالأحمسي في لغتهم المشدد في دينه، وكانت الحمس من دينهم إذا أحرموا أن لا يدخلوا بيتًا من البيوت ولا يستظلوا تحت سقف بيت، ينقب أحدهم نقبًا في ظهر بيته، فمنه يدخل إلى حجرته ومنه يخرج ولا يدخل من بابه، ولا يجوز تحت أسكفة1 بابه ولا عارضته، فإذا أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم، تسوروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطوح, ثم ينزلون في حجرتهم ويحرمون أن يمروا تحت عتبة الباب.
وكانوا كذلك حتى بعث الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فأحرم عام الحديبية، فدخل بيته  وكان معه رجل من الأنصار فوقف الأنصاري بالباب فقال له:
"ألا تدخل؟" فقال الأنصاري: إني أحمسي يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أحمسي, ديني ودينك سواء"، فدخل الأنصاري مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رآه دخل من بابه، فأنزل الله عز  وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأسكفة: عتبة الباب.

 

ج / 1 ص -145-        وكانت الحلة تطوف بالبيت أول ما يطوف الرجل والمرأة في أول حجة يحجها عراة، وكان بنو عامر بن صعصعة وعك ممن يفعل ذلك، فكانوا إذا طافت المرأة منهم عريانة، تضع إحدى يديها على قبلها والأخرى على دبرها ثم تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله                             وما بدا منه فلا أحله1

قال ابن عباس: فكانت قبائل من العرب من بني عامر وغيرهم يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل، فإذا بلغ أحدهم إلى باب المسجد قال للحمس: من يعير مصونا؟ من يعير معوزًا؟ فإن أعاره أحمسي ثوبه طاف به وإلا ألقى ثيابه بباب المسجد ثم دخل للطواف، فطاف بالبيت سبعًا عريانًا، وكانوا يقولون: لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، ثم يرجع إلى ثيابه فيجدها لم تحرك، وكان بعض نسائهم تتخذ سيورًا فتعلقها في حقوتها وتستتر بها، وهو يوم تقول فيه قول العامرية:

اليوم يبدو بعضه أو كله                              فما بدا منه فلا أحله

إلا أن يتكرم منهم متكرم فيطوف في ثيابه، فإن طاف فيها لم يحل له أن يلبسها أبدًا ولا ينتفع بها ويطرحها لقًى, واللقى: هذه الثياب التي يطوفون فيها, يرمون بها باب المسجد, فلا يمسها أحد من خلق الله حتى تبليها الشمس والأمطار والرياح ووطء الأقدام, وفيه يقول ورقة بن نوفل الأسدي:

كفى حزنًا كري عليه كأنه                   لقًى بين أيدي الطائفين حريم

قال الكلبي: فكان أول من أنسأ الشهور من مضر، مالك بن كنانة، وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي وهو يومئذ في كندة، وكانت النساءة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف المقاول, فنسأ ثعلبة بن مالك ثم نسأ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيرة ابن هشام 1/ 202.

 

ج / 1 ص -146-        بعده الحارث بن مالك بن كنانة وهو القلمس، ثم نسأ بعده سرير بن القلمس، ثم كانت النساءة في بني ثعلبة حتى جاء الإسلام.
وكان آخر من نسأ منهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن عبد بن فقيم، وهو الذي جاء في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الركن الأسود، فلما رأى الناس يزدحمون عليه قال: أيها الناس أنا له جار, فأخروا عنه فخفقه عمر بالدرة ثم قال: أيها الجلف الجافي, قد أذهب الله عزك بالإسلام.
فكل هؤلاء قد نسئوا في الجاهلية والذي ينسأ لهم إذا أرادوا أن لا يحلوا المحرم قام بفناء الكعبة يوم الصدر فقال: أيها الناس, لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم, فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاب لقول قلته, فهنالك يحرمون المحرم ذلك العام.
وكان أهل الجاهلية يسمون المحرم صفرا الأول، وصفر، صفرا الآخر، فيقولون: صفران وشهرا ربيع وجماديان ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة، فكان ينسأ الأنساء سنة ويترك سنة؛ ليحلوا الشهور المحرمة ويحرموا الشهور التي ليست بمحرمة.
وكان ذلك من فعل إبليس ألقاه على ألسنتهم فرأوه حسنًا، فإذا كانت السنة التي ينسأ فيها، يقوم فيخطب بفناء الكعبة ويجتمع الناس إليه يوم الصدر فيقول: يا أيها الناس, إني قد أنسأت العام صفرا الأول -يعني المحرم- فيطرحونه من الشهور ولا يعتدون به، ويبتدئون العدة فيقولون لصفر وشهر ربيع الأول صفرين, ويقولون لشهر ربيع الآخر ولجمادى الأولى شهري ربيع، ويقولون لجمادى الآخرة ولرجب جماديين، ويقولون لشعبان رجبا، ولشهر رمضان شعبان، ويقولون لشوال شهر رمضان، ولذي القعدة شوالا، ولذي الحجة ذا القعدة، ولصفر الأول وهو المحرم، الشهر الذي أنسأه ذا الحجة، فيحجون تلك السنة في المحرم، ويبطل من هذه السنة شهرا ينسؤه.

 

ج / 1 ص -147-        ثم يخطبهم في السنة الثانية في وجه الكعبة أيضًا فيقول: أيها الناس, لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاب لقول قلته، اللهم إني قد أحللت دماء المحلين طيئ وخثعم في الأشهر الحرم، وإنما أحل دماءهم؛ لأنهم كانوا يعدون على الناس في الأشهر الحرم من بين العرب فيعرونهم, يطلبون بثأرهم ولا يقفون عن حرمات الأشهر الحرم كما يفعل غيرهم من العرب.
فكان سائر العرب من الحلة والحمس، لا يعدون في الأشهر الحرم على أحد ولو لقي أحدهم قاتل أبيه أو أخيه، ولا يستاقون مالا، إعظاما للشهور الحرم، إلا خثعما وطيئا فإنهم كانوا يعدون في الأشهر الحرم، فهنالك يحرمون من تلك السنة المحرم وهو صفر الأول ثم يعدون الشهور على عدتهم التي عدوها في العام الأول, فيحجون في كل شهر حجتين، ثم ينسأ في السنة الثانية، فينسأ صفر الأول في عدتهم هذه وهو صفر الآخر في العدة الثانية حتى تكون حجتهم في صفر أيضًا حجتين، وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الذي ابتدءوا منه الإنساء، يحجون في الشهور كلها في كل شهر حجتين.
فلما جاء الله بالإسلام، أنزل في كتابه:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] فأنزل الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
فلما كان عام فتح مكة سنة ثمانٍ, استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد بن أبي  العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة ومضى إلى حنين فغزا هوازن، فلما فرغ منها مضى إلى  الطائف ثم رجع عن الطائف إلى الجعرانة فقسم بها غنائم حنين في ذي القعدة، ثم دخل مكة ليلًا  معتمرًا، فطاف البيت وبين الصفا والمروة من ليلته ومضى إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فأنشأ  الخروج

 

ج / 1 ص -148-        منها راجعًا إلى المدينة، فهبط من الجعرانة في بطن سرف, حتى لقي طريق المدينة من سرف.
ولم يؤذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج تلك السنة، وذلك أن الحج وقع تلك السنة في ذي القعدة، ولم يبلغنا أنه استعمل عتابًا على الحج تلك السنة، سنة ثمان، ولا أمره فيه بشيء، فلما جاء الحج، حج المسلمون والمشركون فدفعوا معًا فكان المسلمون في ناحية يدفع بهم عتاب بن أسيد  ويقف بهم المواقف؛ لأنه أمير البلد، وكان المشركون ممن كان لهم عهد ومن لم يكن لهم عهد في ناحية يدفع بهم أبو سيارة العدواني على أتان عوراء رسنها ليف.
قال: فلما كان سنة تسع، وقع الحج في ذي الحجة، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى مكة, واستعمله على الحج وعلمه المناسك وأمره بالوقوف على عرفة وعلى جمع، ثم نزلت سورة براءة خلاف أبي بكر, فبعث بها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع علي -عليه السلام- وأمره إذا خطب أبو بكر وفرغ من خطبته قام علي، فقرأ على الناس سورة براءة ونبذ إلى المشركين عهدهم، وقال: "لا يجتمعن مسلم ومشرك على هذا الموقف بعد عامهم هذا" وكان أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- الذي يخطب على الناس ويصلي بهم ويدفع بهم في الموقف.
فلما كان سنة عشر، أذن الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الحج، فحج رسول الله حجة الوداع -وهي حجة التمام- فوقف بعرفة فقال:
"يأيها الناس, إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, فلا شهر ينسأ ولا عدة تخطأ، وإن الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة" قال: "وكانت الإفاضة في الجاهلية إلى صوفة, وصوفة رجل يقال له: أخزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأسد, وكان أخزم قد تصدق بابن له على الكعبة يخدمها، فجعل إليه حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الخزاعي الإفاضة بالناس على الموقف وحبشية يومئذ يلي حجابة الكعبة

 

ج / 1 ص -149-        وأمر مكة يصطف الناس على الموقف فيقول حبشية: أجيزي صوفة فيقول الصوفي: أجيزوا أيها الناس فيجوزون".
يقال: إن امرأة من جرهم تزوجها أخزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأسد وكانت عاقرًا, فنذرت إن ولدت غلامًا أن تصدق به على الكعبة عبدًا لها يخدمها ويقوم عليها، فولدت من أخزم الغوث، فتصدقت به عليها، فكان يخدمها في الدهر الأول مع أخواله من جرهم, فولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة وقالت أمه حين أتمت نذرها وخدم الغوث بن أخزم الكعبة:

إني جعلت رب من بنيه1                    ربيطة بمكة العليه

فباركن لي بها أليه                            واجعله لي من صالح البريه2

فولي الغوث بن أخزم الإجازة من عرفة وولده من بعده في زمن جرهم وخزاعة حتى انقرضوا، ثم  صارت الإفاضة في عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر في زمن قريش في عهد قصي،  وكانت من بني عدوان في آل زيد بن عدوان يتوارثونه، حتى كان الذي قام عليه الإسلام سيارة العدواني وهو عمير الأعزل بن خالد بن سعيد بن الحارث بن زيد بن عدوان، وكان أيضًا من عدوان حاكم العرب عامر بن الظرب.
فإذا كان الحج في الشهر الذي يسمونه ذا الحجة، خرج الناس إلى مواسمهم فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة, فيقيمون به عشرين ليلة تقوم فيها أسواقهم بعكاظ والناس على مداعيهم وراياتهم منحازين في المنازل, تضبط كل قبيلة أشرفها وقادتها ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء  ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرًا، أسواقهم قائمة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في سيرة ابن هشام: "من بييه".
2 سيرة ابن هشام 1/ 119.

 

ج / 1 ص -150-        فأقاموا به ثماني ليال أسواقهم قائمة، ثم يخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز.
وإنما سمي يوم التروية؛ لترويهم من الماء بذي المجاز، ينادي بعضهم بعضًا: ترووا من الماء؛ لأنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ، وكان يوم التروية آخر أسواقهم، وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ، ومجنة، وذي المجاز التجار ومن1 كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة، خرج من مكة يوم التروية، فيتروون من الماء فتنزل الحمس أطراف الحرم من نمرة يوم عرفة, وتنزل الحلة عرفة.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته التي دعا فيها بمكة قبل الهجرة لا يقف مع قريش والحمس في طرف الحرم، وكان يقف مع الناس بعرفة. قال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: أضللت بعيرًا يوم عرفة فخرجت أقصه وأتبعه بعرفة إذ أبصرت محمدًا بعرفة فقلت: هذا من الحمس ما يوقفه ههنا؟ فعجبت له، قال: وكانوا لا يتبايعون في يوم عرفة ولا أيام منى، فلما أن جاء الله بالإسلام أحل الله ذلك لهم, فأنزل الله تعالى في كتابه:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وفي قراءة أبي بن كعب في مواسم الحج -يعني: منى وعرفة وعكاظا ومجنة وذا المجاز- فهذه مواسم الحج، فإذا جاءوا عرفة أقاموا بها يوم عرفة فتقف الحلة على الموقف من عرفة عشية عرفة, وتقف الحمس على أنصاب الحرم من نمرة, فإذا دفع الناس من عرفة وأفاضوا أفاضت الحمس من أنصاب الحرم وأفاضت الحلة من عرفة حتى يلتقوا بمزدلفة جميعًا.
وكانوا يدفعون من عرفة إذا طفلت الشمس للغروب, وكانت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، فإذا كان هذا الوقت دفعت الحلة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "من".

 

ج / 1 ص -151-        من عرفة ودفعت معها الحمس من أنصاب الحرم حتى يأتوا جميعًا مزدلفة فيبيتوا بها حتى إذا كان في الغلس، وقفت الحلة والحمس على قزح، فلا يزالون عليه حتى إذا طلعت الشمس وصارت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم دفعوا من مزدلفة, وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير, أي: أشرق بالشمس حتى ندفع من المزدلفة, فأنزل الله في الحمس: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] -يعني: من عرفة- والناس الذين كانوا يدفعون منها أهل اليمن وربيعة وتميم.
فلما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس بعرفة فقال:
"إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم, ويدفعون من مزدلفة إذا طلعت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم, وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ونحل فطر الصائم، وندفع من مزدلفة غدًا -إن شاء الله- قبل طلوع الشمس, هدينا مخالف لهدي أهل الشرك الشرك والأوثان".
قال الكلبي: وكانت هذه الأسواق بعكاظ، ومجنة، وذي المجاز قائمة في الإسلام، حتى كان حديثًا من الدهر: فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية1 بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الإباضي2 في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن.
ثم تركت مجنة وذو المجاز بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة.
قال أبو الوليد: وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحرورية: طائفة من الخوارج تنسب إلى حروراء بقرب الكوفة؛ لأنه كان بها أول اجتماعهم وتحكيمهم من خالفوا عليا.
2 الإباضية: فرقة من الخوارج شاع أمرها في أواخر الدولة الأموية، تنسب إلى عبد الله بن إباض التميمي.

 

ج / 1 ص -152-        عمل الطائف على بريد منها, وهي سوق لقيس بن عيلان وثقيف وأرضها لنصر, ومجنة سوق بأسفل مكة على بريد منها وهي سوق لكنانة, وأرضها من أرض كنانة, وهي التي يقول فيها بلال:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة                 بفخ وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يومًا مياه مجنة                      وهل يبدون لي شامة وطفيل1

وشامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة، وذو المجاز: سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة, قريب من كبكب على فرسخ من عرفة, وحباشة: سوق الأزد وهي في ديار الأوصام من بارق من صدر قنونى وحلي من ناحية اليمن, وهي من مكة على ست ليالٍ وهي آخر سوق خربت من أسواق الجاهلية.
وكان والي مكة يستعمل عليها رجلًا يخرج معه بجند فيقيمون بها ثلاثة أيام من أول رجب متوالية،  حتى قتلت الأزد واليًا كان عليها من غني, بعثه داود بن عيسى بن موسى في سنة سبع وتسعين  ومائة، فأشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها فخربها, وتركت إلى اليوم.
وإنما ترك ذكر حباشة مع هذه الأسواق؛ لأنها لم تكن في مواسم الحج ولا في أشهره, وإنما كانت في رجب. قال: وكانوا يرون أن أفجر الفجور العمرة في أشهر الحج، تقول قريش وغيرها من العرب: لا تحضروا سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج, وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئًا من المحارم أو يعدو بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم.
وإنما سمي الفجار لما صنع فيه من الفجور، وسفك فيه من الدماء، فكانوا يأمنون في الأشهر الحرم  وفي الحرم وكانوا يقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الوبر، ودخل صفر, حلت العمرة لمن اعتمر -يعنون: إذا برأ دبر الإبل التي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيرة ابن هشام 2/ 589.

 

ج / 1 ص -153-        كانوا شهدوا الموسم وحجوا عليها وعفى وبرها, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" فاعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمره كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابل، وعمرته من الجعرانة كلها في ذي القعدة وأرسل عائشة -رضي الله عنها- مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ليلة الحصبة, فاعتمرت من التنعيم.
قال: وكان من سنتهم أن الرجل يحدث الحدث بقتل الرجل، أو يلطمه، أو يضربه فيربط لحا من لحا الحرم قلادة في رقبته ويقول: أنا صرورة1 فيقال: دعوا الصرورة بجهله وإن رمى بجعره في رجله فلا يعرض له أحد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:
"لا صرورة2 في الإسلام, وإن من أحدث حدثًا أُخذ بحدثه".
قال: فكان عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الخزاعي وهو الذي غير دين  الحنيفية دين إبراهيم -عليه السلام- كان فيهم شريفًا، سيدًا، مطاعًا, يطعم الطعام، ويحمل المغرم وكان ما قال لهم فهو دين متبع لا يعصى.
وكان إبليس يلقي على لسانه الشيء الذي يغير به الإسلام فيستحسنه فيعمل به فيعمله أهل  الجاهلية، وهو الذي جاء بهبل من أرض الجزيرة فجعله في الكعبة وجعل عنده سبعة قداح  يستقسمون بها, في كل قدح منها كتاب يعملون بما يخرج فيه، فإذا أراد الرجل أمرًا أو سفرًا أخرج منها قدحين, في أحدهما مكتوب: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ثم يضرب بهما ومعهما قدح غفل, فإن خرج الناهي جلس، وإن خرج الآمر مضى، وإن خرج الغفل أعاد الضرب حتى يخرج, أما الناهي وأما الآمر والباقي من القداح سبعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرف في الأصول إلى: "ضرورة" بالضاد المعجمة, والصرورة -بالصاد المهملة: من لم يتزوج, ومن لم يحج.
2 تحرف في الأصول أيضًا إلى الضرورة -بالضاد المعجمة- وصوابه لدى صاحب الكنز برقم  44430.

 

ج / 1 ص -154-        مكتوب عليها, منها قدح مكتوب عليه العقل، وقدح فيه نعم، وقدح فيه لا، وقدح فيه منكم، وقدح فيه من غيركم, وقدح فيه ملصق، وقدح فيه المائة, فإذا أرادوا أن يختنوا غلامًا، أو ينكحوا أيما، أو يدفنوا ميتًا ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ثم قالوا لغاضرة بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي, وكانت القداح إليه فقالوا: هذه مائة درهم وجزور, لقد أردنا كذا وكذا,  فاضرب لنا على فلان ابن فلان فإن كان كما قال أهله, خرج العقل أو نعم أو "منكم" فما خرج من ذلك انتهوا إليه في أنفسهم، وإن خرج "لا" ضرب على المائة, فإن خرج "منكم" كان منهم وسيطًا، وإن خرج "من غيركم" كان حليفًا، وإن خرج "ملصق" كان دعيا نفيا, فمكثوا زمانًا وهم يخلطون، وكان عمرو بن لحي غير تلبية إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بينما هو يسير على راحلته في بعض مواسم الحج وهو يلبي, إذ مثل له إبليس في صورة شيخ نجدي على بعير أصهب فسايره ساعة ثم لبى إبليس فقال: لبيك اللهم لبيك، فقال عمرو بن لحي مثل ذلك، فقال إبليس: لبيك لا شريك لك، فقال عمرو مثل ذلك فقال إبليس: إلا شريك هو لك فقال عمرو: وما هذا؟ قال إبليس لعنه الله: إن بعد هذا ما يصلحه إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك؛ فقال عمرو بن لحي: ما أرى بهذا بأسًا, فلباها فلبى الناس على ذلك وكانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا  شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك, فلم تزل تلك تلبيتهم حتى جاء الله بالإسلام ولبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلبية إبراهيم الصحيحة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك", فلباها المسلمون.

 

ج / 1 ص -155-        إكرام أهل الجاهلية الحاج:
حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق أن هاشم بن عبد مناف كان يقول لقريش إذا حضر الحج: يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل بيته خصكم الله بذلك وأكرمكم به, ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره, فأكرموا ضيافه وزوار بيته, يأتونكم شعثًا غبرًا من كل بلد، فكانت قريش ترافد على ذلك حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير رغبة في ذلك, فيقبل منهم لما يرجى لهم من منفعته.

إطعام أهل الجاهلية حاج البيت:
حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق أن قصي بن كلاب بن مرة قال لقريش: يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل الحرم، وإن الحاج ضيفان الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجًا تخرجه قريش في كل موسم من أموالهم، فيدفعونه إلى قصي، فيصنعه طعامًا للحاج أيام الموسم بمكة ومنى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه وهي الرفادة, حتى قام الإسلام وهو في الإسلام إلى يومك هذا، وهو الطعام الذي يصنعه السلطان بمكة ومنى للناس حتى ينقضي الحاج.

 

ج / 1 ص -156-        ما جاء في حريق الكعبة, وما أصابها من الرمي من أبي قبيس بالمنجنيق:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد وإبراهيم بن محمد الشافعي، عن مسلم بن خالد, عن ابن خيثم, عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص المسجد الحرام، والكعبة محرقة، حين أدبر جيش الحصين بن نمير، والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف ومعه ناس غير قليل فبكى حتى إني لأنظر إلى دموعه تحدر كحلًا في عينيه من إثمد، كأنه رءوس الذباب على وجنتيه، فقال: يأيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم، ومحرقو بيت ربكم لقلتم: ما من أحد أكذب من أبي هريرة، أنحن نقتل ابن نبينا ونحرق بيت ربنا؟ فقد والله فعلتم، لقد قتلتم ابن نبيكم، وحرقتم بيت الله، فانتظروا النقمة، فوالذي نفس عبد الله بن عمرو بيده، ليلبسنكم الله شيعًا وليذيقن بعضكم بأس بعض، يقولها ثلاثًا، ثم رفع صوته في المسجد، فما في المسجد أحد إلا وهو يفهم ما يقول، فإن لم يكن يفهم فإنه يسمع رجع صوته، فقال: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ فوالذي نفس عبد الله بن عمرو بيده، لو قد ألبسكم الله شيعًا وأذاق بعضكم بأس بعض؛ لبطن الأرض خير لمن عليها، لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر.
حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن حسن بن محمد بن علي بن الحنفية، قال: أول ما تكلم في القدر حين احترقت الكعبة، فقال رجل: طارت شررة فاحترقت ثياب الكعبة، وكان ذلك من قدر الله، وقال الآخر: ما قدر الله هذا.
حدثنا مهدي بن أبي المهدي, عن عبد الملك الذماري، قال: أخبرنا سفيان

 

ج / 1 ص -157-        الثوري, عن سلمة بن كهيل, عن عليم الكندي، قال: قال سلمان الفارسي: لتحرقن هذه الكعبة على يدي رجل من أهل الزبير.
أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن جعفر الزهري قال: سألت أبا عون: متى كان احتراق الكعبة؟ قال: يوم السبت لليال خلون من شهر ربيع الأول، قبل أن يأتينا نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين،  قلت: وما كان سبب احتراقها؟ قال: جاءنا موت يزيد، توفي لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، والحصين بن نمير يومئذ عندنا، وكان احتراقها بعد الصاعقة التي أصابت أهل الشام بعشرين ليلة، قال أبو عون: ما كان احتراقها  إلا منا، وذلك أن رجلًا منا -وهو مسلم بن أبي خليفة المذحجي- كان هو وأصحابه يوقدون في خصاص لهم حول البيت، فأخذ نارًا في زج رمحه في النفط، وكان يوم ريح، فطارت منها شررة فاحترقت الكعبة حتى صارت إلى الخشب، فقلنا لهم: هذا عملكم, رميتم بيت الله عز وجل بالنفط والنار! فأنكروا ذلك.
قال: حدثني محمد بن يحيى قال: قال الواقدي: حدثني رباح بن مسلم, عن أبيه قال: كانوا يوقدون في الخصاص، فأقبلت شررة هبت بها الريح، فاحترقت ثياب الكعبة واحترق الخشب.
حدثني محمد بن يحيى قال: قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن يزيد, عن عروة بن أذينة قال: قدمت مكة مع أبي يوم احترقت الكعبة، فرأيت الخشب قد خلصت إليه النار، ورأيتها مجردة من الحريق ورأيت الركن قد اسودّ فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير، فقالوا: هذا احترقت الكعبة في سببه؛ أخذ نارًا في رأس رمح له، فطارت به الريح فضربت أستار الكعبة  فيما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود.

 

ج / 1 ص -158-        حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن سعيد بن عبد العزيز, عن رجل من قومه قال: نصبنا المنجنيق على أبي قبيس فاعتقبه1 الرجال، وقد ألجأنا القوم إلى المسجد، فبنوا خصاصًا حول البيت في المسجد ورفافًا من خشب تكنهم من حجارة المنجنيق، فكنت أراهم إذا أمطرنا عليهم الحجارة يكتنون2 تحت تلك الرفاف، قال: فوهن الرمي بحجارة المنجنيق الكعبة, فهي تنقض.
حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن رباح بن مسلم عن أبيه قال: رأيت الحجارة تصك وجه الكعبة من أبي قبيس حتى تخرقها، فلقد رأيتها كأنها جيوب النساء، وترتج من أعلاها إلى أسفلها، ولقد رأيت الحجر يمر، فيهوي الآخر على إثره، فيسلك طريقه، حتى بعث الله عليهم صاعقة بعد  العصر، فاحترق المنجنيق واحترق تحته ثمانية عشر رجلًا من أهل الشام، فجعلنا نقول: قد أظلهم العذاب، فكنا أيامًا في راحة حتى عملوا منجنيقًا آخر, فنصبوه على أبي قبيس3.
حدثني محمد بن إسماعيل بن أبي عصيدة... قال: حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم الليثي, عن مولى لابن المرتفع, عن ابن المرتفع، قال: كنا مع ابن الزبير في الحجر، فأول حجر من المنجنيق وقع في  الكعبة، فسمعنا لها أنينًا كأنين المريض, آه آه4.
حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج، قال: أخبرتني عجوز من أهل مكة كانت مع عبد الله بن الزبير بمكة، فقلت لها: أخبريني عن احتراق الكعبة كيف كان؟ قالت: كان المسجد فيه خيام كثيرة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "واعتنقه".
2 كذا في الأصل أ. ومثله في إتحاف الورى 2/ 61. وفي ب: "يكنون".
3 إتحاف الورى 2/ 61.
4 إتحاف الورى 2/ 61.

 

ج / 1 ص -159-        فطارت النار من خيمة منها فاحترقت الخيام، والتهب المسجد حتى تعلقت النار بالبيت فاحترق، قال عثمان: وبلغني أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير، أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح والمسجد يومئذ خياما وفساطيط، فمشى الحريق حتى أخذ في البيت، فظن الفريقان كلاهما أنهم هالكون، فضعف بناء الكعبة، حتى إن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته.

باب ما جاء في بناء ابن الزبير الكعبة, وما زاد فيها من الأذرع التي كانت في الحجر من الكعبة, وما نقص منها الحجاج:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد, عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، قال: سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها، قالوا: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية، وتخلف وخشي منهم؛ لحق بمكة ليمتنع بالحرم، وجمع مواليه، وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ويشتمه ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس عنه، ويجتمع الناس إليه فيقوم فيهم بين الأيام فيذكر مساوئ بني أمية فيطنب في ذلك، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولًا، فأرسل إليه رجلًا من أهل الشام، في خيل من خيل الشام، فعظم على ابن الزبير الفتنة وقال: لأن يستحل الحرم بسببك، فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه، وقد لج في أمرك وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولًا، وقد عملت لك غلا من فضة، وتلبس فوقه الثياب، وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه؛ فقال: دعوني أيامًا حتى أنظر في أمري، فشاور أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فأبت عليه أن يذهب مغلولًا وقالت: يا بني, عش كريمًا ومت كريمًا، ولا تمكن بني

 

ج / 1 ص -160-        أمية من نفسك فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا، فأبى عليه أن يذهب إليه في غل، وامتنع في مواليه ومن تألف إليه من أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم: الزبيرية.
فبينما يزيد على بعثة الجيوش إليه، إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله, ومن كان معه بالمدينة من بني أمية, وإخراجهم إياهم منها إلا من كان من ولد عثمان بن عفان.
فجهز إليهم مسلم بن عقبة المري، في أهل الشام وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة، وكان مسلم مريضًا، في بطنه الماء الأصفر، فقال له يزيد: إن حدث بك الموت، فولِّ الحصين بن نمير الكندي على جيشك. فسار حتى قدم المدينة فقاتله أهل المدينة فظفر بهم ودخلها، وقتل من قتل منهم، وأسرف في القتل، فسمي بذلك مسرفًا، وأنهب1 المدينة ثلاثًا.
ثم سار إلى مكة، فلما كان ببعض الطريق حضرته الوفاة، فدعا الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار، لولا أني أكره أن أتزود عند الموت معصية أمير المؤمنين ما وليتك، انظر إذا قدمت مكة فاحذر أن تمكن قريشًا من أذنك فتبول فيها، لا تكن إلا الوقاف، ثم الثقاف2، ثم الانصراف.
فتوفي مسلم المسرف، ومضى الحصين بن نمير إلى مكة، فقاتل ابن الزبير بها أيامًا، وجمع ابن الزبير أصحابه، فتحصن بهم في المسجد الحرام وحول الكعبة، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد خيامًا ورفافًا يكتنّون فيها من حجارة المنجنيق, ويستظلون فيها3 من الشمس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أنهب الشيء: جعله نهبًا يُغار عليه.
2 أي: المجالد بالسلاح.
3 كذا في الأصل ب. وفي أ: "بها".

 

ج / 1 ص -161-        وكان الحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أبي قبيس وعلى الأحمر -وهما أخشبا مكة- فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة، حتى تخرقت كسوتها عليها، فصارت كأنها جيوب النساء، فوهن الرمي بالمنجنيق الكعبة، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير يوقد نارًا في بعض تلك الخيام، مما يلي الصفا بين الركن الأسود والركن اليماني، والمسجد يومئذ ضيق صغير، فطارت شررة في الخيمة فاحترقت، وكانت في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش مدماكا من ساج، ومدماكا من حجارة من أسفلها إلى أعلاها، وعليها الكسوة، فطارت الرياح بلهب تلك النار فاحترقت كسوة الكعبة واحترق الساج الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بسبعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، وكان توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين؛ وكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر.
فلما احترقت الكعبة؛ واحترق الركن الأسود فتصدع، كان ابن الزبير بعد ربطه بالفضة، فضعفت جدرات1 الكعبة، حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، وتقع الحمام عليها، فتتناثر حجارتها وهي مجردة متوهنة من كل جانب، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعًا، والحصين بن نمير مقيم،  محاصر ابن الزبير.
فأرسل ابن الزبير رجالًا من أهل مكة من قريش وغيرهم، فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، ورجال  من بني أمية إلى الحصين، فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة، وقالوا: إن ذلك كان منكم  رميتموها بالنفط فأنكروا ذلك وقالوا: قد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر ماذا يجتمع عليه رأي صاحبك -يعنون معاوية بن يزيد- وهل يجمع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "جدارات".

 

ج / 1 ص -162-        الناس عليه؟ فلم يزالوا حتى لان لهم، وقال له عبد الله بن خالد بن أسيد: أراك تتهمني في يزيد, ولم يزالوا به حتى رجع إلى الشام.
فلما أدبر جيش الحصين بن نمير، وكان خروجه من مكة لخمس ليالٍ خلون من ربيع الآخر سنة أربع وستين، دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم وشاورهم في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها، وأبى أكثر الناس هدمها، وكان أشدهم عليه إباء عبد الله بن عباس، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس في حرمتها، ولكن ارقعها، فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع  بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله سبحانه، وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى إن  الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته؛ وكان ممن أشار عليه بهدمها جابر بن عبد الله -وكان جاء  معتمرًا- وعبيد بن عمير، وعبد الله بن صفوان بن أمية.
فأقام أيامًا يشاور وينظر ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يردها على ما قال  رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على قواعد إبراهيم" وعلى ما وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها، فأراد أن يبنيها بالورس ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى له،  فقيل له: إن الورس يرفَتُّ1 ويذهب، ولكن ابنها بالقَصَّة2، فسأل عن القصة فأخبر أن قصة صنعاء هي أجود القصة، فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار يشترى له بها قصة ويكترى عليها، وأمر بتنجيح ذلك.
ثم سأل رجالًا من أهل العلم من أهل مكة: من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروه بمقلعها، فنقل له من الحجارة قدر ما يحتاج إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يرفتّ أي: ينكسر ويتحطم ويصير رفاتا, والرفات: الحطام, والفتات من كل ما تكسر واندقّ.
2 القَصَّة -بالفتح: الجص، لغة حجازية.

 

ج / 1 ص -163-        فلما اجتمعت الحجارة وأراد هدمها خرج أهل مكة منها إلى منى، فأقاموا بها ثلاثًا فرقًا من أن ينزل عليهم عذاب لهدمها، فأمر ابن الزبير بهدمها، فما اجترأ أحد على ذلك، فلما رأى ذلك، علاها هو بنفسه فأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا فصعدوا يهدمونها، وأرقى ابن الزبير فوقها عبيدًا من الحبش يهدمونها؛ رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي، الذي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" قال: وقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: كأني به أصيلع، أفيدع, قائم عليها, يهدمها بمسحاته.
قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة، جئت أنظر، هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو؟  فلم أرها فهدموها وأعانهم الناس، فما ترجّلت الشمس حتى ألصقها كلها بالأرض من جوانبها  جميعًا1.
وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة, حتى فرغ منها، وأرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلوا إليها، ففعل ذلك ابن الزبير، وقال ابن الزبير: أشهد لسمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن قومك استقصروا في بناء البيت، وعجزت بهم النفقة، فتركوا في الحجر منها أذرعًا، ولولا حداثة قومك بالكفر، لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض، بابًا شرقيا يدخل منه الناس، وبابًا غربيا يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا، قال: "تعززًا ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن  يدخلها، يدعونه أن يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك هدمها، فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 70.

 

ج / 1 ص -164-        منها" فأراها قريبًا من سبعة أذرع1.
فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض، كشف عن أساس إبراهيم فوجدوه داخلًا في الحجر نحوًا من ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل أخذ بعضها بعضًا، كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، يحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلًا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، قال: فأدخل رجل من القوم -كان أيدًا- يقال له: عبد الله بن مطيع العدوي، عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت، فتزعزعت الأركان جميعًا، ويقال: إن مكة كلها رجفت رجفة شديدة حين زعزع الأساس، وخاف الناس خوفًا شديدًا، حتى ندم كل من كان أشار على ابن الزبير بهدمها، وأعظموا ذلك إعظامًا شديدًا وأسقط في أيديهم، فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع حدات الباب، باب الكعبة على مدماك على الشاذروان اللاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريبًا من الركن اليماني2.
وكان البناة يبنون من وراء الستر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن، وكان ابن الزبير حين هدم البيت، جعل الركن في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة، وعمد إلى ما كان في الكعبة من حلية فوضعها في خزانة الكعبة، في دار شيبة بن عثمان، فلما بلغ البناء موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه، فنقر في حجرين: حجر من المدماك الذي تحته، وحجر من المدماك الذي فوقه، بقدر الركن وطوبق بينهما، فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عباد بن عبد الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 70, 71.
2 إتحاف الورى 2/ 71, 72.

 

ج / 1 ص -165-        ابن الزبير، وجبير بن شيبة بن عثمان، أن يجعلوا الركن في ثوب، وقال لهم ابن الزبير: إذا دخلت في الصلاة، صلاة الظهر، فاحملوه واجعلوه في موضعه، فأنا أطوِّل الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى  أخفف صلاتي -وكان ذلك في حر شديد- فلما أقيمت الصلاة، كبر ابن الزبير وصلى بهم ركعة،  خرج عباد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن شيبة بن عثمان -ودار الندوة يومئذ قريبة من الكعبة- فخرقا به الصفوف حتى أدخلاه في الستر الذي دون البناء، فكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه عليه جبير بن شيبة، فلما أقروه في موضعه وطوبق عليه الحجران كبروا، فخفف ابن الزبير صلاته1.
وتسامع الناس بذلك، وغضبت فيه رجال من قريش، حين لم يحضرهم ابن الزبير، وقالوا: والله لقد رفع في الجاهلية حين بنته قريش، فحكموا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد، فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعله في ردائه، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل  قبيلة من قريش رجلًا, فأخذوا بأركان الثوب ثم وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في  موضعه2.
وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة، إلا تلك الشظية من أعلاه -موضعها بين في أعلى  الركن- وطول الركن ذراعان، قد أخذ عرض جدار الكعبة، ومؤخر الركن داخله في الجدر، مضرس على ثلاثة رءوس.
قال ابن جريج: فسمعت من يصف لون مؤخره الذي في الجدر، قال بعضهم: هو مورد، وقال  بعضهم: هو أبيض3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 72, 73.
2 إتحاف الورى 2/ 74.
3 إتحاف الورى 2/ 74.

 

ج / 1 ص -166-        قالوا: وكانت الكعبة يوم هدمها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعًا في السماء، فلما أن بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعًا، قصرت بحال الزيادة التي زاد من الحجر فيها، واستسمج ذلك إذ صارت عريضة لا طول لها، فقال: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولًا في السماء، فأنا أزيد تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعًا في السماء، وهي سبعة وعشرون مدماكًا، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم، وكانت قريش في الجاهلية جعلت فيها ست دعائم، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى من رخام بها يقال له: البلق، فجعله في الروازن التي في سقفها للضوء، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعًا واحدًا، فجعل لها1 ابن الزبير مصراعين طولهما أحد عشر ذراعًا من الأرض إلى منتهى أعلاهما اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب معرجة, يصعد فيها إلى ظهرها.
فلما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة، خَلَّقها من داخلها وخارجها من أعلاها إلى أسفلها، وكساها القُبَاطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، فمن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله2.
وخرج ماشيًا وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم؛ شكرًا لله سبحانه، ولم يُرَ يوم كان  أكثر عتيقًا ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعًا، وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ب: "له".
2 إتحاف الورى 2/ 75.

 

ج / 1 ص -167-        الشامي والغربي؛ لأن البيت لم يكن تامًّا، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف به الطائف استلم الأركان جميعًا، ويدخل البيت من هذا الباب ويخرج من الباب الغربي، وأبوابه لاصقة بالأرض، حتى قتل ابن الزبير رحمه الله1.
ودخل الحجاج مكة، فكتب إلى عبد الملك بن مروان، أن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه، وأحدث فيه بابًا آخر، فكتب إليه يستأذنه في رد البيت على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب إليه عبد الملك بن مروان أن سد بابها الغربي الذي كان فتح ابن الزبير، واهدم ما كان زاد فيها من الحجر، واكبسها به على ما كانت عليه، فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبرًا، مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها، وسد الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها لم يحرك منها شيئًا2.
فكل شيء فيها اليوم بناء ابن الزبير، إلا الجدر الذي في الحجر، فإنه بناء الحجاج وسد الباب الذي في ظهرها، وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليها اليوم هما أيضًا من عمل الحجاج.
فلما فرغ الحجاج من هذا كله، وفد بعد ذلك الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة، فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن قومك استقصروا في بناء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجامع اللطيف ص87.
2 الجامع اللطيف ص87, 88، إخبار الكرام 146.

 

ج / 1 ص -168-        البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر، أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبًا من سبعة أذرع، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض: بابا شرقيا يدخل الناس منه، وبابا غربيا يخرج الناس منه" قال عبد الملك بن مروان: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا سمعت هذا منها، قال: فجعل ينكت منكسا بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت والله أني تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك.
قال ابن جريج: وكان باب الكعبة الذي عمله ابن الزبير، طوله في السماء أحد عشر ذراعًا، فلما  كان الحجاج نقض من الباب أربعة أذرع وشبرًا، عمل لها هذين البابين وطولهما ستة أذرع وشبر،  فلما كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القسري بستة وثلاثين ألف دينار، فضرب منها على بابي الكعبة صفائح الذهب، وعلى ميزاب الكعبة، وعلى الأساطين التي في بطنها، وعلى الأركان في جوفها.
قال أبو الوليد: قال جدي: فكل ما كان على الميزاب وعلى الأركان في جوفها من الذهب، فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من ذهب البيت في الإسلام، فأما ما كان على الباب من عمل الوليد بن عبد الملك من الذهب، فإنه رق وتفرق.
فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين محمد بن الرشيد في خلافته، فأرسل إلى سالم بن الجراح عامل كان له  على صوافي مكة، بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقلع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار، فضرب عليه الصفائح التي هي عليه اليوم والمسامير وحلقتي باب الكعبة وعلى الفياريز والعتب, وذلك كله من عمل أمير المؤمنين محمد بن هارون الرشيد، ولم يقلع في ذلك بابي

 

ج / 1 ص -169-        الكعبة، ولكن ضربت عليهما الصفائح والمسامير وهما على حالهما.
قال أبو الوليد: أخبرني المثنى بن جبير الصواف أنهم حين فرقوا ذهب باب الكعبة، وجدوا فيه ثمانية وعشرين ألف مثقال، فزادوا عليها خمسة عشر ألف دينار، وأن الذي على الباب من الذهب ثلاثة وثلاثون ألف دينار، وقالوا أيضًا: إنه لما قلع الذهب عن الباب ألبس الباب ثوبًا أصفر.
قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها مؤزرًا به جدراتها، وفرشها بالرخام وأرسل به من الشام، وجعل الجزعة التي تلقى من دخل الكعبة، من بين يدي من قام يتوخى مصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضعها، وجعل عليها طوقًا من ذهب. فجميع ما في الكعبة من الرخام فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من فرشها بالرخام وأزر به جدراتها، وهو أول من زخرف المساجد.
وحدثني جدي قال: لما جرد حسين بن حسن الطالبي الكعبة في سنة مائتين في الفتنة، لم يبق عليها شيئًا مما كان عليها من الكسوة، فجئت فاستدرت بجوانبها وعددت مداميكها فوجدتها سبعة وعشرين مدماكًا، ورأيت موضع الصلة التي بنى الحجاج مما يلي الحجر، أثر لحم البناء فيها، بين بناء ابن الزبير القديم وبين بناء الحجاج بن يوسف، شبه الصدع، وهو منه كالمتبري بأقل من الأصبع من أعلاها بين، ذلك لمن رآه، ورأيت موضع الباب الذي سده الحجاج في ظهر الكعبة على الحجر الأخضر الذي في الشاذروان، تبين حداته من أعلاه إلى أسفله، ورأيت السد الذي في الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم من العتبة إلى الأرض، وحجارة سد الباب الذي في ظهرها, وما بني من هذا الباب الشرقي ألطف من حجارة مداميك جدران الكعبة بكثير، وكل ذلك بالمنقوش.
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت

 

ج / 1 ص -170-        عبد الرحمن بن سعد1 بن زرارة عن عائشة أم المؤمنين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لها: "يا عائشة, لولا حداثة قومك بالكفر لرددت في الكعبة ما نقصوا منها، ولجعلت لها بابًا آخر".
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس, عن عكرمة, عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة:
"إذا فتح الله لي إن شاء الله، رددت الكعبة على ما كانت عليه على عهد إبراهيم، فأدخلت من الحجر فيها، وجعلت لها بابًا بالأرض، وجعلت لها بابًا آخر، فإن قريشًا إنما جعلوا الدرجة؛ لأن لا يدخل الناس إلا بإذن".
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن داود بن سابور, عن مجاهد، قال: لما عزم ابن الزبير على هدم الكعبة، خرجنا إلى منى ننتظر العذاب ثلاثًا، وأمر ابن الزبير الناس أن يهدموا، فلم يجترئ أحد على هدمها، فلما رآهم لا يقدمون عليها، أخذ هو بنفسه المعول ثم ارتقى فوقها فهدم، فلما رأى الناس أنه لم يصبه شيء اجترءوا على هدمها، قال: فهدموا وأدخل عامة الحجر فيها، فلما ظهر الحجاج رد الذي كان ابن الزبير أدخل من الحجر، فقال عبد الملك بن مروان: وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك, يعني ابن الزبير.
وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن الزبير هدم الكعبة وأراهم أساسًا داخلًا في الحجر أخذ بعضه بعضًا، كلما حرك منه شيء تحرك كله، فبنى عليه الكعبة.
حدثني مهدي بن أبي المهدي, عن عيسى بن يونس, عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، قال: حدثني يزيد مولى ابن الزبير قال: شهدت ابن الزبير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرف في الأصول إلى: "أسعد", وصوابه من تقريب التهذيب ص667.

 

ج / 1 ص -171-        احتفر في الحجر، فأصاب أساس البيت حجارة حمر كأنها الخلايق، تحرك الحجر فيهتز له البيت، فأصاب في الحجر من البيت ستة أذرع وشبرًا، وأصاب فيه موضع قبر، فقال ابن الزبير: هذا قبر إسماعيل، فجمع قريشًا ثم قال لهم: اشهدوا, ثم بنى.
حدثني محمد بن واضح, عن سليم بن مسلم, عن عمر بن قيس, عن سعيد بن مينا -وكان على سوق مكة لابن الزبير- قال: لما أراد ابن الزبير بناء الكعبة عالج الأساس، فإذا وضع الباني العتلة في حجر ارتجت جوانب البيت، فأمسك عنه.
حدثني إبراهيم بن محمد الشافعي, عن سفيان بن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن الزبير حين هدم الكعبة، أراهم أساسًا آخذًا بعضه ببعض، كلما حرك منه شيء تحرك كله، قال: فرأيت فضل البيت في الحجر، قال سفيان: فذكر نحوًا من ستة أذرع.
حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن سليمان بن مينا, عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إذا رأيت قريشًا هدموا البيت ثم بنوه فزوقوه، فإن استطعت أن تموت فمت.
حدثني جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي، عن يسار بن عبد الرحمن، قال: شهدت ابن الزبير حين فرغ من بناء البيت كساه القباطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، قال: فما رأيت يومًا كان أكثر عتيقًا ولا أكثر بدنة مذبوحة من يومئذٍ.
أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن موسى بن يعقوب, عن عمه، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى وضعه بالأرض، وبناها من أسها وأدخل الحجر عنده، وكان قد احترق، واحترق الخشب والحجارة، وانصدع الركن بثلاث فرق، فرأيته منكسرًا، حتى شده ابن الزبير بالفضة، ثم أدخل الحجر في البيت، ونصب الخشب حول البيت، ثم سترها، وبنوا من وراء

 

ج / 1 ص -172-        الستر، حتى بلغ الركن الأسود فوضعه وشده بالفضة، ثم رد البيت على بنائه، وزاد في طولها فجعلها سبعة وعشرين ذراعًا، وخلق جوفها، ولطخ جدرها بالمسك حين فرغ منها، وجعل لها بابين موضوعين بالأرض: بابًا في وجهها، وبابًا بإزائه من خلفها، يدخل من هذا الذي في وجهها ويخرج من الآخر، واعتمر حين فرغ من الكعبة، ماشيًا مع رجال من قريش وغيرهم، منهم عبد الله بن  صفوان وعبيد بن عمير.
حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن موسى بن يعقوب عن عمه, عن الحارث بن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: ارتحل الحصين بن نمير من مكة لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، وأمر ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، وبالمسجد فكنس مما فيه من الحجارة والدماء، فإذا الكعبة متوهنة ترتج من أعلاها إلى أسفلها، فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق، وإذا الركن قد اسود واحترق وتفلق من الحريق، فرأيته ثلاث فرق، فشاور ابن  الزبير الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله، وعبيد بن عمير بهدمها، وأبى ذلك عليه ابن عباس، وقال: أنا أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى، فيتهاون الناس بحرمتها، فلا أحب ذلك.
أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن شرحبيل عن أبي عون, عن أبيه قال: رأيت الحجر قد انفلق واسود من الحريق، فأنظر إلى جوفه أبيض كأنه الفضة، وقد كان شاور المسور بن مخرمة بن نوفل  قبل أن يموت بهدمها وبنائها، فأشار عليه بذلك.
حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن محمد عن أبيه, عن جده، أنه سمع عبد الله بن عمر يسأل نائل بن قيس الجذامي عن الأساس، فقال نائل: اتبعنا الأساس في الحجر فوجدنا أساس البيت واصلًا بالحجر، كأنه أصابعي هذه، وشبك بين أصابعه، فسمعت ابن عمر يكبر

 

ج / 1 ص -173-        ويحمد الله -عز وجل- على ذلك.
أخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن محمد بن عمرو, عن أبي الزبير، قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط يقول: دعانا ابن الزبير خمسين رجلًا من قريش، فنظرنا إلى الأساس، فإذا هو واصل بالحجر مشبك كأصابع يدي هاتين، وشبك بين أصابعه، فقال ابن الزبير: اشهدوا ثم بنى. قال عبد الرحمن بن سابط: فجلست مع ابن عباس فأخبرته، فقال ابن عباس: ما زلنا نعلم أن من البيت في الحجر.
حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن موسى, عن عكرمة بن خالد المخزومي، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى سواه بالأرض، وحفر أساسه وأدخل الحجر فيه، وكان الناس يطوفون من وراء الستر ويصلون إلى موضعه، وجعل الركن في تابوت في سرقة من حرير، فأما ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب، فإنه جعله عند الحجبة في خزانة الكعبة حتى أعاد بناءها،  قال عكرمة: فرأيت الحجر الأسود، فإذا هو ذراع أو يزيد.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن شرحبيل بن أبي عون, عن أبيه، قال: لما هدم عبد الله بن الزبير البيت، ندم كل من كان أشار عليه وأعظموا ذلك.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن سليمان بن داود بن الحصين, عن أبيه, عن عكرمة عن ابن عباس أنه أبى على ابن الزبير هدمها، وقال: أخاف أن يأتي بعدك من يهدمها، ثم يأتي بعد ذلك آخر، فإذا هي تهدم أبدًا وتبنى، فسكت عبد الله بن الزبير، ولم يقرب ابن عباس مكة حتى فرغ منها.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن موسى, عن عكرمة بن خالد، قال: لما بنى ابن الزبير الكعبة انتهى به إلى الأساس

 

ج / 1 ص -174-        الأول، وأدخل الحجر فيها، فلما انتهى إلى موضع الركن الأسود، جاء به ابن الزبير وولده حتى رفعوه ووضعوه بأيديهم في ساعة خالية، تحروا بها غفلة الناس نصف النهار في يوم صائف.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن عبد العزيز بن المطلب, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر، قال: ابن الزبير وضعه وولده نصف النهار في حر شديد، فرأيت قريشًا غضبوا في ذلك.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج عن خلاد بن عطاء, عن أبيه -وكان يعمل في البيت محتسبًا- قال: وكان الركن في تابوت مقفل عليه، فلما كان وقت وضعه وقد نقر له حجران طوبق بينهما، ثم أدخل فيه، فلما فرغ من ذلك خرج ابن الزبير في يوم صائف نصف النهار، فأشار إلى جبير بن شيبة الحجبي، فأدخلاه في موضعه وبنى عليه، قال عطاء أبو خلاد: وأنا حاضر ذلك.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي, عن مسافع الحجبي، قال: لما بنى ابن الزبير البيت حتى بلغ موضع الركن تواعد الحجبة، قال مسافع: وأنا فيهم، فلما دخل ابن الزبير في الصلاة, حسبت الظهر، خرج الحجبة بالركن من الصفوف وأنا فيهم، فرفعناه فجاء حمزة بن عبد الله بن الزبير وأخذ بطرف الثوب فرفع معنا، وأخبرني مسافع أن الركن أخذ عرض الضفير، ضفير البيت.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج وعبد الله بن عمر بن حفص, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي عن أمه، قالت: كان الحجر الأسود قبل الحريق مثل لون المقام، فلما احترق اسودّ، قال: فلما احترقت الكعبة تصدع بثلاث فرق، فشده ابن الزبير بالفضة.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن علي بن زيد عن أبيه، عن جده، قال: رأيت ابن الزبير  هدمها كلها، فلما بنى وفرغ، خلق جوفها

 

ج / 1 ص -175-        بالعنبر والمسك ولطخ جدرها من خارج بالمسك وسترها بالديباج، وأدخل الحجر فيها ورد الركن الأسود في موضعه، وكان قد انكسر بثلاث فرق من الحريق الذي أصاب الكعبة، وكان الركن عند ابن الزبير في بيته في صندوق عليه قفل، فلما بلغ البناء موضع الركن، جاء ابن الزبير حتى وضعه هو بنفسه وشده بالفضة، فهو مشدود بالفضة واعتمر من خيمة جمانة ماشيًا، فرأى الناس أن قد أحسن ابن الزبير ولبى، حتى نظر إلى البيت.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: وفد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة, على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة -رضي الله عنها- ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن قومك استقصروا في بنيان الكعبة، ولولا حداثة قومك بالشرك أعدت فيها ما تركوا منها، فإن بدا لقومك أن يبنوها، فهلمي لأريك ما تركوا من البيت" فأراها قريبًا من سبعة أذرع.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن عطاف بن خالد المخزومي, عن أبيه, عن قبيصة بن ذؤيب، قال: سمعته يقول: لقد كان عبد الملك بن مروان ندم حين هدم البيت, ورده على بنيانه الأول، قال: ليتني كنت حملت ابن الزبير وما تحمل.
حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن شعيب مولى لقريش، عن المسور بن رفاعة, عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما حج سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، طاف بالبيت وأنا إلى جنبه، قال: كيف كان بناء الكعبة حين بناها ابن الزبير؟ فأشار له عمر بن عبد العزيز وهو إلى جنبه، من الشق الآخر إلى ما كان ابن الزبير فعل، وأنه جعل لها بابين، وأدخل الحجر في البيت، فقال سليمان: ليت أن أمير المؤمنين -يعني عبد الملك-

 

ج / 1 ص -176-        كان ولى ابن الزبير ما تولى من ذلك، فقال له عمر بن عبد العزيز: أما إني قد سمعته يقول: ليت أني تركت ابن الزبير وما تحمل، قال سليمان: أنت سمعته يقول ذلك؟ قال: نعم, ثم التفت إلى محمد بن كعب فقال: كم طولها؟ قال: سبعة وعشرون ذراعًا، قال: وعلى ذلك كانت؟ قال: لا، قال: فكم كانت؟ قال: كانت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر ذراعًا، قال: فمن زاد فيها؟ قال: ابن الزبير، قال سليمان: لولا أنه أمر، كان أمير المؤمنين فعله، لأحببت أن أردها على ما بناها ابن الزبير، ثم قال: علي بحجاب البيت، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي، فجعل سليمان ينظر إلى ما فيها من الحلي، فقال لابن كعب: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة، ثم أقره الولاة بعده: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية -رضي الله تعالى عنهم- قال: صدقت.